المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالحلم والعلاقات الاجتماعية
التوضيح
في هذه المحاضرة التي ألقاها سماحة آية الله الحاج السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني في الليلة الخامسة عشرة من شهر ربيع الثاني العام 1438 هـ، واصل سماحته شرح الفقرات المرتبطة بالحلم من حديث عنوان البصري؛ وذلك في ضمن النقاط التالية: حقيقة الأعمال تتمثّل في الباعث والهدف الكامن وراءها جهل الإنسان بالله تعالى سبب وقوعه في المعصية هويّة الإنسان الربطيّة توحيديّة وقصّة النبيّ يونس عليه السلام قدرة النفس الهائلة على صنع الأفكار وإشغال الإنسان عبور الإنسان متوقّف على عدم النظر إلى نفسه باستقلاليّة
هو العليم
سبب وقوع الإنسان في المعصية
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢٣۰
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
يقول الإمام الصادق عليه السلام في حديثه لعنوان البصري: "وَأَمَّا اللَوَاتِي فِي الْحِلْمِ: فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْرًا فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً؛ وَمَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ لَهُ: إنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا تَقُولُ فَأَسْأَلُ اللَهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي، وَإنْ كُنْتَ كَاذِبًا فِيمَا تَقُولُ فَاللَهَ أَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ؛ وَمَنْ وَعَدَكَ بِالخَنَى فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ والرَّعَاءِ".
يقول الإمام الصادق عليه السلام: ينبغي على سالك سبيل الله أن يلتزم بهذه الأمور المتعلّقة بالحلم، ويمكن لنا أن نقول: إنّ هذه النصائح والتوصيات المتعلّقة بالحلم هي أهمّ وصايا الإمام الصادق عليه السلام هنا، وأكثرها تأثيرًا في عبور النفس من عوالم الحيوانيّة والبهيميّة، والحركة إلى عالم الوحدة والإطلاق.
حقيقة الأعمال تتمثّل في الباعث والهدف الكامن وراءها
وقد تحدّثنا في الجلسات السابقة بشأن هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها الإمام عليه السلام في هذا المجال، وذكرنا بأنّها ترجع في الحقيقة إلى أمرٍ واحدٍ؛ ألا وهو أنّ حقيقة المطلب وواقعيّة القضية لا ترجع إلى نفس الكلام المذكور فيها، بل الذي يحدّد حقيقتها هو ذلك الداعي والهدف المختفي خلف الكلام؛ أي أنّ الإمام عليه السلام يريد أن يقول لنا هنا: لا تهتمّ كثيرًا بنفس الكلام الذي يصلك، ولا تكترث بأنّ فلانًا من الناس ماذا قال عنك، بل عليك أن تنظر إلى الداعي والدافع، إذ هذا هو المهم، والأمر كذلك واقعًا.
ونحن في عرفنا ومعاملاتنا العادية نتعامل بهذه الطريقة أيضًا، فمثلاً لو جاء طفل عمره أربع أو خمس سنوات، ثمّ بدأ يعمل حركاتٍ بهلوانيّة وطفوليّة، فلن يتعجّب أحدٌ منه، وسنقول: إنّه طفلٌ، ومن الطبيعي أن تصدر منه هذه الحركات، بل سنفرح بأنّه سالم البدن وقادرٌ على أداء هذه الحركات؛ ولكن لو جاء رجل عمره عشرون سنةٍ وقام بمثل تلك الحركات في مجلس الرجال، فإنّنا سنقول: لقد جُنّ الرجل، وذلك أنّ الإنسان لا يفعل مثل هذه الحركات إلاّ إن كان مجنونًا، هذا في الوقت الذي نمتدح هذا الفعل ونشجّع عليه لو صدر من الطفل الصغير.
أو مثلاً لو قال شخصٌ كلامًا عنك أثناء نومه، فإنّك لن تعتني بكلامه، وستضحك وتمضي في حال سبيلك، ولكن لو استيقظ نفس هذا الشخص، وقال لك نفس تلك الجملة وهو في حال اليقظة، فإنّك ستنزعج كثيرًا من كلامه، بل قد يبلغ بك الأمر أن تردّ عليه.
لماذا تفعل ذلك؟ وما هو سرّ هذا الاختلاف في ردّة فعلك؟ سبب ذلك أنّه في الحالة الأولى لم يكن هناك أي دافع وراء الكلام، إذ إنّ الكلام قد صدر من شخصٍ نائم، وكذلك لو صدر الكلام من شخص مختلّ، فإنّك لن تعتني بكلامه أيضًا، وستقول: دعك منه! وتمضي في حال سبيلك. وأمّا عندما يصدر الكلام من شخص ذي عقلٍ وشعورٍ، [فإنّ الأمر سيختلف].
والحقيقة أنّ مولانا قد بيّن هذا المطلب في مجال العرفان، ووسّعه وبسطه وارتقى به، وأعطاه سعةً كبيرة، فهو يقول تعبيرًا عن ضمير الخلائق ونفوسهم في خطابهم مع الله عزّ وجل:
ای خداوند وشهنشاه وامیر | *** | من نکردم جهل من کرد آن مگیر۱ |
[يقول: يا ربّي ومليكي وأميري، إنّني لم أفعل هذه الخطايا، بل جهلي هو الفاعل؛ فلا تحاسبني وتعاقبني عليها]
جهل الإنسان بالله تعالى سبب وقوعه في المعصية
يبيّن مولانا هنا لسان حال الإنسان بالنسبة للأخطاء والذنوب التي صدرت منه، وما أجمل بيانه! فالإنسان قد يرتكب عملاً خاطئًا أو يقول كلامًا خاطئًا، أو يصدر منه ذلك بسبب الغضب والانفعال، فيقول مولانا هنا: يا ربّ، صدر منّي هذا؛ لأنّني كنت جاهلاً بك وبمعرفتك، فهذا الكلام الخاطئ الذي قلته، وتلك الأفعال الخاطئة التي صدرت مني، إنّما صدرت بسبب جهلي، فلو ارتفع جهلي، لما فعلت ذلك، ولكنّني جاهل، وبسبب جهلي قلت هذا الكلام الذي لا يليق، ولأنّني جاهلٌ بمقامك الربوبي نهضت لمقابلتك ومواجهتك والحرب معك، ولأنّني لم أكن أعرف ما هو مقامك جئت واتخذت موقفًا معاديًا لك، ولولا ذلك لما فعلتُ أيًّا من هذه الأمور الخاطئة.
فالنبيّ صلى الله عليه وآله في غزوة أحد، ورغم كل تلك الآلام والمشقّات التي واجهها ... حيث كان الكفار والمشركون يضربونه بالسيف، إذ لم يكن هناك مزاح، فنحن الآن جالسون هنا لا نشعر بشيء، بينما كان النبيّ في معركة أحد قد ضُرب بالسيف وطُعن بالرمح ورُمي بالحجارة، ولا تزال آثار المعركة إلى الآن في ذلك الجبل، وكانت همّة المشركين منصبّة على القضاء على محور التوحيد؛ عبر السيف والرمح وسائر الأسلحة.. مع تلك الحالة كان النبي يقول: "اللهم اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون".٢ عجيب جدًا!
وهذا عينه كلام مولانا؛ فالسيف عندما كان يهوي على النبيّ، كان جهل ذلك المشرك هو الذي يهوي به عليه، لا نفس المشرك بهويّته الذاتيّة؛ لأنّ تلك الهويّة هويّة ربطيّة، وهو إنسان وعبد لله، غاية الأمر أنّ الشرك أتى ومنعه. الشرك والإثنينيّة والمعصية أتت إليه وصار يرى النبي عدوًّا له، فالنبيّ الذي هو أفضل الناس والذي يقول لك: أريد أن أنقذك من الشرك! أريد أن أرفع من أمام عينيك تلك النظرة الإثنينيّة، وأوصلك إلى الوحدة؛ كي تراه واحدًا، وتذهب إليه بشكل مباشر، لا من خلال الصنم والخشب والحجر وأمثال ذلك؛ فإنّها إذا ألقيت في النار تصير رمادًا وتنتهي.. نعم، أريد أن أجعلكم تتّصلون بذاك المقام! لكنّ تلك العادات المترسّخة والثابتة في نفوس هؤلاء المشركين، وتلك الأفكار والقضايا المتمكّنة من نفوسهم وقلوبهم والتي صارت جزءًا منهم ومن حقيقتهم، وعملوا بها لسنين متمادية، حتّى أنهم لم يعودوا يرون أيّة قيمة أو اعتبار لغير ذلك تتعارض مع الأفكار والتعاليم والكلمات التوحيديّة التي أتى بها رسول الله؛ ولذا، تراهم يقفون في مواجهتها. ومن جهة أخرى، نرى أنّ البعض ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حيث عملوا على بثّ التهم والشائعات وأمثال ذلك، وحرّضوا هؤلاء على النبيّ، فنهض الناس وحملوا السيوف والرماح في وجه رسول الله للقضاء عليه.
في معركة الأحزاب، عندما قتل أمير المؤمنين عليه السلام عمرو بن عبد ودّ، كان يلبس خاتمًا غالي الثمن، ولكنّ أمير المؤمنين لم ينزعه منه، والحال أنّ ذلك من حقّه؛ باعتبار أنّ كلّ من يقتل كافرًا يكون له سلَبُه؛ وهو أَخْذ كلّ ما يكون عليه۱. وبعدما رأته اخته، ورأت أنّ خاتمه لا يزال في يده، قالت: لن أبكيه ولن أحزن عليه؛ لأنّ قاتله كفؤ كريم، حيث لم ينزع منه خاتمه، فقاتله ليس رجلاً عاديًا.٢ هل التفتّم؟ يعني أنّ تلك الكافرة تدرك حقيقة المسألة! صحيح أنّه كافر، لكنّه يدرك حقيقته الربطيّة، ويدرك الحقّ من الباطل، ولو بهذا المقدار، فتراه يتقدّم بمقدار فهمه وسعته الوجوديّة؛ ولذا، لم يأت النبيّ ويطرح دين الإسلام على سلمان وأبي ذرّ والمقداد ، بل بعض هؤلاء كان مؤمناً.. نعم، بعضهم كأبي ذرّ كان مشركًا، لكنّ بعضهم كسلمان كان مؤمنًا، حيث كان على دين النبي عيسى.. ولذا، قام النبي بإعلان الإسلام بين الكفّار والمشركين، أليس كذلك؟! نفس هؤلاء المشركين والكفّار؛ من هنا، نعلم بأنّ هذه العلاقة لم تنقطع بعد.. يقول مولانا:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله | *** | لكنت أبكي عليه آخر الأبد |
لكنّ قاتله من لا يُعاب به | *** | من كان يدعى قديمًا بيضة البلد |
*** | من نكردم جهل من كرد |
[أنا لم أفعل بل جهلي الذي فعل]
هويّة الإنسان الربطيّة توحيديّة وقصّة النبيّ يونس عليه السلام
جهلي هو الذي كان شركًا وكفرًا، جهلي هو الذي جعل بيني وبين الله فاصلاً، أمّا أنا، فلم أجعل هذا الفاصل. رسول الله يريد أن يجعل هذا الجهل جانبًا، ويعيد حقيقة التوحيد والفطرة والإيمان إلى طريقها الأوّل الذي ينبغي أن تكون فيه؛ من هنا، نعلم أنّ هويّة كلّ إنسان هي هويّة توحيديّة وهويّة إلهيّة؛ والحال أنّ أولئك كانوا كافرين، فما بالك بالمسلمين! فمن كان مسلمًا ـ وإن كانت أعمالهم وتصرّفاتهم غير صحيحة ـ فهل يمكن أن نقول بأنّهم سيّئون؟ هل يمكننا أن نقول بأنّهم جميعًا من أهل جهنّم؟ كلا.. نعم، يمكن أن تكون الحياة والعادات والتقاليد والأمور مختلفة بعض الشيء.
هذه هي نظرة أهل المعرفة للأشخاص، وهذه نظرتهم للحقائق المنطوية في نفوس الأشخاص، وهذه هي النظرة التي جعلت النبيّ يدعو لقومه: اللهمّ اهد قومي... فلم يدعُ عليهم، أو يطلب من الله التغلّب عليهم وقتلهم وإبادتهم.. بل قال إلهي! هؤلاء الذين أتوا لمحاربة التوحيد، وهؤلاء الذين جاؤوا لمواجهة التوحيد.. اهدهم! اجعل مشيئتك وتقديرك في هدايتهم، لا في إبادتهم ودمارهم وهلاكهم.. نعم، أولئك الذين أتوا للحرب، فهم أقدموا على قتل أنفسهم.
ولذا، كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول في حرب الجمل، بل حتّى في حرب صفّين وغيرها: لا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبرًا؛ يعني أنّ النظرة نظرة توحيديّة، فهو يريد أن يهديهم، لا أن يقضي عليهم، فلم يكن يسعى لقتل جميع الناس في صفّين. نعم، لا مناص عن قتال أولئك الذين أتوا للقتال، لكنّ حقيقة أمير المؤمنين وباطنه هو أن يهتدي هؤلاء، وأن يصلوا إلى الطريق القويم، ويخرجوا من حالة الجهل المانعة لهم من قبول الولاية والتوحيد، والتي جعلتهم في فضاء الشرك والبهيميّة والأنانيّة والتوهّمات التي ألقاهم بها معاوية، فيدخلوا في الأجواء التي جعلها لهم أمير المؤمنين عليه السلام وهيّأها لهم؛ ولذا، يقول الإمام: لا تتبعوا أولئك الذين فرّوا في حرب الجمل ودخلوا البصرة وكانوا في جيش الزبير وعائشة..! فهؤلاء أتوا لقتالنا والآن فرّوا، فدعوهم وشأنهم! فلماذا تدخلون بيوتهم وتخلعوا أبواب منازلهم؟ وحينما ترون شخصًا كان قد شارك في الحرب بالأمس تأخذونه وتقتلونه؟ يا عزيزي، لقد شارك في الحرب بالأمس وانتهى الأمر! فما شأنك به الآن؟! هل التفتم؟
[تقول] ذاك الرجل شارك أمس في حرب الجمل وقد رأيته الآن، اقبضوا عليه وضعوه في السجن، أو أعدموه. أمير المؤمنين يقول: شارك في الحرب وخرج منها سالمًا، فلا علاقة لكم به الآن، دعوه وشأنه فليس له عمل بكم.
فلأجل هذا صار النبيّ يونس موردًا للتربية والمخاطبة من قِبَل الله وجرى معه ما جرى، الذي حصل مع يونس.. طبعًا أدع الكلام في هذه المسألة إلى جلسة أخرى ، ونتناول الآثار التي ترجع إلى الإنسان.. فالنبيّ يونس لم يكن قد وصل في تلك القضيّة إلى نقطة التكامل الروحي والنفسي وسعة الوجود التي تجعله يقول: أنا لم أفعل بل جهلي الذي فعل. النبيّ يونس كان يظنّ بأنّ هويّته هي التي تقوم بهذه الأعمال، لا تلك الجهة. وما جرى له من مسائل وابتلاع الحوت له ودخوله في الظلمات؛ {فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمين}؛۱ كلّ ذلك كان بسبب أنّه لم يكن قد وصل بعدُ إلى التكامل الذي ذكره مولانا في المصراع الثاني من شعره. فجميع هؤلاء هم عباد الله، فإن كانوا جاهلين، عليك أن تتحمّلهم!
فالإمام الصادق عليه السلام يُحدّثنا عمّا ينبغي أن يقوم به السالك على مستوى الحلم. حسنًا، فالنبيّ يونس كان عليه أن يتحمّل ويحلم في هذه القضيّة، وبعد أن حصل له ذلك، تبيّنت له المسألة، حيث اتّضحت له الحقيقة الربطيّة لجميع الأشخاص بالنسبة إلى الله، واتّضحت له جهة الجهل التي تمنع من ارتباط العبد بالله ارتباطًا مباشرًا بعيدًا عن المظاهر الدنيويّة والأنانيّات وما يوجب توغّل الإنسان في عالم الكثرة، والتي يحصل للإنسان الارتباط من دونها.
وعندما اتّضحت له تلك المسألة، قيل له: حسنًا! الآن صار الوقت مناسبًا، فتعال لترى أولئك الأفراد ولتطلّع على قومك.. تعال لترى ما الذي حصل هنا.
فما إن دخل حتّى تعجّب! فهم ما زالوا أحياء!! لأنّه كان يتوقّع أنّ يأتي العذاب ويمحوهم جميعًا، ولا يبقى منهم فردٌ، لكنّه لمّا أتى، وجدهم أحياء، بل إنّهم خرجوا لاستقباله، ويا للفرحة! هذا هو النبيّ يونس، وخلاصة القول أنّهم عانقوه واستقبلوه [أحسن استقبال]، وهو يسألهم: ما الذي حصل؟ لقد أصبح جميعهم من المؤمنين.
ماذا حصل بذلك الجهل؟ ذهب جانبًا، ففي تلك المدّة [مدّة ذهاب النبيّ يونس].. تعرفون القصّة وما حصل فيها، حيث أتى ذلك العالم، وتعرفون ماذا فعل مع قوم يونس، والقصّة لها تفاصيلها، وهي مضمون رواية من الروايات أيضًا، وجميعهم تاب، فقد زال ستار الجهل، وظهرت تلك الحقيقة الربطيّة التي لديهم، فصاروا مؤمنين بإله يونس ومطيعين لأوامر النبيّ يونس عليه السلام.
حسنًا، إنّ الله ليس لديه حقد على أحد.
إنّ الله عزّ وجلّ، لا يقول: أنت إلى الأمس كنت كافرًا، فلن أقبل إيمانك اليوم! إنّ الله ليس لديه حقد، ولا أمثال ذلك، إنّ الله يرغب في أن يأتي شخصٌ إليه، فلو أنّ أحدهم أتى وقال: إلهي لقد أخطأت وقد تبت. [فهل سيقول له:] إنّما تُبت بلا داعي، ولن أقبل توبتك، ولا أقبل منك بكلمة؟!
في قصّة "فرعون"، [فإنّ قول الله عزّ وجلّ:] {آلْآنَ وقَدْ عَصَيْت}؛۱ لم يكن بسبب أنّه تاب، بل لأنّه لو أرجعه الله إلى الدنيا، لعاد لفرعنته؛ لذا أجابه الله بهذا الجواب، وإلّا لو أنّ فرعون في ذلك الآن الذي كان في وسط دوّامة النيل، تاب توبةً حقيقيّةً وواقعيّةً، لأنجاه الله، ولو كان فعله عن صدق وحقيقة، لكان الله أنجاه في الحال؛ ففرعون لا يختلف عن بقيّة الناس، غاية الأمر أنّ اسمه فرعون، والآخرين اسمهم زيد وعمر وتقي ونقي، وجميعهم يلقون معاملة واحدة.
هو إلى الأمس كان يضع تاجًا من ذهب على رأسه، ويجلس على العرش، وأمّا الآن وهو وسط النيل، لا فائدة من التاج، ولم يعد هناك فائدة من العرش والأمر والنهي أو من خَدَمه، بل هو هناك مع نفسه، هو هناك مع إلهه، هو هناك مع هذا النهر، مع هذا النيل، وأمّا جميع سلطاته فقد ذهبت، خذوهم وقيّدوهم! [كلّ تلك الأوامر ذهبت] ، وهذه المسائل كلّها عبرة لنا! كلّها واحدة بواحدة عبرةٌ بالنسبة لنا، وسوف تحصل لنا بأجمعنا، حيث سنلمس بأرواحنا واقعيّة الحاجة وواقعيّة الفقر والفاقة: هذا من خلال البحر، وذاك من خلال المرض.. كلّ واحد من خلال طريقة من الطرق؛ ولذا، على الإنسان دائمًا أن يستحضر هذه المسألة دائمًا، ويقلّبها في ذهنه، ويتأمّل فيها.
فالمسائل التي حدثت مع الأنبياء هي عبارة عن مصاديق، ولكنّها تقع بالنسبة لنا نحن أيضًا، فنفس هذه القضايا تنطبق علينا نحن أيضًا.
[مثلاً:] أنا الآن أتكلّم هنا، وأنا أعتقد بصحّة الكلام الذي أقوله.. هذا، بحسب ما يُخيّل إليّ! فماذا أتوقّع من الأصدقاء والرفقاء الذين شرّفوا بالمجيء إلى هنا لسماع هذا الكلام، ومن الأفراد غير الحاضرين هنا، والذين يسمعون الكلام ويشاهدوننا؟ إنّ توقّعي هو أن يقبل الآخرون بما أعتقد به أيضًا، وإلّا فأنا غير مجبورٍ أن آتي إلى هنا، وأجلس وأتحدّث [من دون فائدة]!! وإلاّ لو كان الأمر كذلك، لكنّا قلنا كلامًا آخر.
قدرة النفس الهائلة على صنع الأفكار وإشغال الإنسان
حسنًا، لو أنّني ذهبت إلى مكان آخر، وسمعت مثلاً بعض الأشخاص غير الحاضرين يقولون: ما هذه الكلمات الذي يقولها هذا السيّد؟! إنّها ناشئة بأجمعها من أوهامه وخيالاته، وما هي إلاّ أمور أنشأها من عنده، وخلطها ببعضها، فأضاع فيها أوقات الناس.. عندها، ماذا ستكون ردّة الفعل التي ستحصل في باطني وفي نفسي تجاه هذا التصرّف؟ إن كنتُ أرى أنّ هذه الكلمات منتسبة إليّ، فينبغي أن أُحدث زوبعة، وأن أقول لهؤلاء: هل كنتم مجبورين على الحضور والاستماع؟! اجلسوا في بيوتكم! وأقول: ما كان ينبغي أن آتي، ولا أن أتعب نفسي لنصف ساعة أو ساعة كاملة أو ٤۰ دقيقة، وكلام من هذا القبيل، ما كان ينبغي أن أعطي محاضرة من الأوّل! وغير ذلك من الأمور التي تحدّثت عنها في الجلسة السابقة، حيث إنّ النفس تبدأ بخلق الأفكار، فتخلق وتخلق؛ فهي في النهاية عبارة عن مصنع، وهي تُعطي نتاجًا كثيرًا لا نهاية له! إنّ المصانع العاديّة كمصنع السيارات مثلاً، عندما تفقد المواد الخامّ تتوقّف عن العمل، وأمّا مصنع النفس، فلا تنتهي موادّه أبدًا؛ يعني لو أنّكم تتركون هذه النفس تعمل [أي تقلّب تلك الحادثة] فسوف تستمرّ بالتصنيع والخلق وإعطاء النتائج، ولو جعلت الساعتين خمس ساعات، فسوف تستمرّ بالإنتاج، إذا أردتم جرّبوا ذلك، لا! لا تجرّبوا أبدًا!
لا تجرّبوا هذا النوع من الامتحانات أبدًا، فلو جلستم إلى الصبح، فسوف تستمرّ النفس في الإنتاج، وقد تصل بكم إلى مواطن خطرة، فهي لا تتوقّف: أقوم بهذا الفعل، وأقوم بذلك الفعل، وأُنزل ذلك البلاء، أقول كذا، وأرسل تلك الرسالة، وأُجري هذا الاتصال، وهكذا...، وتبقى هكذا إلى الصبح، ومن الصبح إلى ليلة اليوم الثاني، وهكذا تستمرّ بالإنتاج؛ لأنّ موادّها الخامّ لا تنتهي، فالمصانع العادية ـ أيًّا كانت ـ لها حدّ تتوقف عنده، أمّا هذا المصنع، فقد أعطاه الله تعالى من القدرة، بحيث لا ينقطع عن العمل.
يا عزيزي، متى ستتوقّف إذن؟! ومتى سينال فكرك السكون والراحة؟! ومتى ستسكن نفسك؟! ومتى تتوقف لمدّة دقيقة وتخاطب إلهك، وتتكلّم مع ربّك؟! متى؟!
إنّ النبيّ يونس رجع، فرأى أنّه: واعجباه! تغيّر النظام، وكلّ شيء تغيّر، وهناك فهم أنّ الأمر لم يكن مرتبطًا به.
لكن، لو أننّي رأيت الآن أنّ هذا الكلام مصدره مكان آخر، وما أنا إلّا وسيلة وآلة وواسطة في نقل هذه الأفكار، عندها، لن أشعر بوجود أيّة مشكلة [فيما لو لم يُقبل كلامي]، وحتّى إذا قُبِل كلامي، فليكن ذلك! فإذا قُبل، فإنّني سوف أفرح، لكن، لماذا سأفرح؟ لأنّني أرى أنّ هذا الأمر من قِبَله هو [أي من قبل الله]، وهذا الفرح لا يعود إلى نفسي، وهذا النوع من الفرح جيّدٌ، بل جيّدٌ جدًا. ألم يكن النبيّ يفرح حينما يهدي شخصًا من الأشخاص؟! هل كان ينزعج؟! [ألم يقل:] يا علي لئن يهد الله على يدك نسمة خيرٌ لك ممّا طلعت عليه الشمس؟!۱ يعني: لو أنّ الله هدى رجلاً واحدًا فقط على يديك، فهذا الأمر أفضل لك ممّا لو أعطوك كلّ الدنيا، لماذا؟ لأنّه عليك أن تترك كلّ الدنيا وأن تذهب لوحدك، ليس معك إلّا كفنك؛ وهذا هو الوجه الداني للمسألة، وأمّا وجهها الأعلى، فهو: أنّك وصلت فردًا من الأفراد بالله، فما قيمة الدنيا والذهب أمام ذلك؟ فهذه كلّها لا روح لديها، ولا نفس لها، وأمّا هذا الشخص فقد أحييته، ومنحت الحياة لهذه النفس، وأوصلتها إلى التوحيد، وأوصلتها إلى التجرّد، أليس كذلك؟
ولذا، عندما يفرح النبيّ بهداية شخص، فإنّه يفرح من أعماق قلبه، وهذا هو معنى {بِالْمُؤْمِنينَ رَؤُفٌ رَحيم}،٢ وهذا الفرح يعود إليه [أي إلى الله]؛ فهو يفرح لأنّ ذلك الشخص توجّه إلى الله، وحصل له اتّصال به تعالى، ولأنّ هذه المطالب التي أتت من قِبَله تعالى أوجبت له تغييرًا وتبدّلاً، وهزّت نفسه؛ ولذا يحصل للنبيّ ابتهاج، ولو أنّ ذلك الشخص لم يحصل له أيّ تغيّر، فلن يُسبّب ذلك [للنبيّ] أيّة مشكلة؛ لأنّ المفروض أنّه لم يكن سوى واسطة، وقد أدّى ما عليه ومضى وانتهى الأمر، وحتى من الناحية النفسيّة، فإنّ هذه المسألة لها تأثير أكبر من الشقّ الأول[الذي هو الفرح من هداية شخصٍ ما]، وسوف نوضّح ذلك لاحقًا.
عبور الإنسان متوقّف على عدم النظر إلى نفسه باستقلاليّة
حسنًا، هذا فيما إذا لم نكن نرى أنّ الأمر منّا، وكذلك في كلّ عمل وفي كلّ خطوة يخطوها أحد من الناس؛ بأن يتحدّث أحد، أو يقوم بأمر معيّن، أو يُؤدّي عملاً له علاقة بالأمور المالية مثلاً، أو يعمل عملاً في مجال آخر.. ففي جميع الموارد ينبغي أن تكون النيّة والهدف والقصد مرتبطة بذاك الاتّجاه فقط، وينبغي أن يكون التوجّه لتلك الناحية.. عندها يستطيع الإنسان العبور، ويمكنه تجاوز الجسور!
فالطبيب الذي يصف الدواء، لا ينبغي أن يرى أنّ ذلك منه؛ [بل يقول:] أنا أعطيت الوصفة والله هو الشافي، لماذا؟ لأنّه قد يصف الدواء لشخص آخر دون أن يُشفى! فلو كان هو الشافي لكان سيؤثّر فيه أيضًا. والشخص الذي يقوم بفعل خير ينبغي أن يرى أنّه منه تعالى. وأعلى من ذلك هو أن يرى أنّ نفس عمله هذا هو منه.. نفس هذا العمل، فإذا كان الأمر كذلك، صار كلّ شيء على وفق المراد والمقصود.
لذا، كان العظماء دائمًا يتحدّثون في كلامهم حول هذا الأمر، وكانوا يسوقون المطالب في حديثهم وكلماتهم بهذا الاتّجاه، ويريدون من تلامذتهم أن يصلوا من الأعمال التي يقومون بها والمشقّات التي يتحمّلونها إلى عين هذه النتيجة، وألاّ يتوقّفوا في ذاك المكان الذي وصلوا إليه، ومتى يحصل التوقّف؟ حينما يقول: أنا الذي فعلت، وأنا الذي قمت بهذا العمل.. الحمد لله لقد كان العمل الذي قمت به مقبولاً عند الناس، وكان الكتاب الذي كتبته والكلام الذي تحدّثت به مورد اهتمام الناس،.. لقد توقف! نعم، كان العمل الذي أتيتَ به حسن، لكنّك توقّفت أنت! كان ينبغي عليك ألاّ تتوقّف، وكان يجب عليك أن تعبر، لكنّك توقّفت هنا.
وهنا، عندما ننظر في كلمات الأولياء الإلهيّين، نرى أنّهم لم يكونوا يرون شيئًا من أنفسهم، فحينما كنت أشارك في جلسات المرحوم السيّد الحدّاد، كنت أرى في تمام كلامه والمطالب التي كان يذكرها.. الآن عندما أتذكّرها وأستحضر تلك المطالب وأفكّر فيها ـ ومهما فكّرنا فيها يبقى قليلاً ـ أرى أنّه كان واضحًا من وجناته وكلماته أنّه لم يكن يرى ما يتكلّم به منه، ولو بمقدار رأس إبرة؛ يعني: حينما كنّا نراه يتكلّم، وكأنّه كان ـ بلا تشبيه والعياذ بالله ـ عبارة عن آلة تتكلّم، فالآلة لا ترى لنفسها أيّ استقلال، وإن كان هذا التشبيه غير صحيح، لكنّه يقرّب المطلب؛ فحينما تتحدّث الآلة، وتقبل أنت بكلامها، هل تجدها تفرح وتضحك؟! كلاّ، بل تبقى مثل الحائط والخشب. عندما كان يتحدّث [المرحوم السيّدالحدّاد] لم نكن نرى في وجهه وفي محيّاه أنّه يعتبر نفسه هو الذي يقول هذه المطالب! أبدًا، لم يكن كذلك، بل كان لا يفرق الأمر عنده، سواءً تحدّث به أم لم يتحدّث؛ هذا، مع أنّ كلامه قد يكون في أعلى مرتبة...
كثيرًا من الأحيان عندما كان يتحدّث، كنت أرى أنّ الوقت ينقضي؛ ولذا، كنت أحتفظ بكلامه في ذاكرتي، حتى أفكّر فيه لاحقًا؛ أي أنّني لم أكن في ذلك الوقت ألتفت إلى مراده، ولكننّي كنت أرى أنّه: إذا فكرّت في المعاني في ذلك الحين، سوف يضيع عليّ المطلب اللاحق، فكنت أحفظها، لأفكّر فيها لاحقًا، وأطرحها على المرحوم العلاّمة ليوضّحها لي ضمن السعة التي كانت لدينا. يعني أنّنا في ذلك الوقت لم نكن نفهم؛ باعتبار أنّ المطلب كان عاليًا جدًا.. لكن عندما كنّا ننظر إليه، كان يبدو كأنّه فتح كتابًا، ويقرأ منه، ثمّ يغلقه حينما ينتهي منه، فلم يكن ينسب الأمر إلى نفسه؛ [ولم يكن يقول] أنا الذي أقول هذا، أنا أبيّن ذلك.. والمرحوم العلاّمة كان يبيّن لنا المسائل لاحقًا. ونفس هذا الأمر كنا نراه أيضًا من المرحوم العلاّمة، غاية الأمر أنّ المرحوم العلاّمة كانت لديه أبعاد أكثر جامعيّة وعرفيّة تجتذب المخاطب؛ لأنّه كان عالمًا، وكان علمه يساعده على طرح المطالب أكثر. لكن حقيقة المطلب هو هذا، فكلّ ما كان يطرحه من أمور كان ينسبها إليه تعالى.
ففي بعض الأحيان، كنت أعجب من كلامه، فأقول له: «لم نسمع بهذا الكلام أبدًا»، فكان يضحك ويقول: «كلّ شيء أتى من هناك، فما الذي نملك نحن؟!» وكان يقول ذلك بصدق، وكنّا نرى أنّه كان صادقًا ويقول حقًّا.
أمّا نحن، فلسنا كذلك؛ إذ عندما نتحدّث بأمر حسن، نتصّنع ونقول: ماذا نحن؟! وعندما يقال لنا: حقًّا أنت لست شيئًا! نجيبه: ماذا؟ أنا لست شيئًا! لقد تكلّمتُ بشيء، فأتيت أنت وعلّقت عليه! فهل ينبغي أن تعلّق على كلّ كلام أقوله؟!!! نعم، كلّ ذلك يجول في قلبنا، وهذا هو الذي ينبغي علينا أن نقضي عليه؛ فذلك الصدأ ينبغي أن يُجلى، وتلك الخلل والفُرج التي تمنع من صفاء الماهية الربطيّة للإنسان مائة بالمائة، وخلوصها التامّ، وتلك الجهات من الكثرة، والاعتبارات، والنفسانيّات.. ينبغي أن تذهب جميعها الواحدة تلو الأخرى.
فعلى الإنسان أن يطلب من الله أن يصحّح كل شيء فيه، والله يفعل ذلك، لكن علينا أن نطلب حقيقةً، لا أن نمزح!
أحيانًا، قد يحصل الإنسان على حالة يقول الله له: تفضّل على بركة الله، أريد أن أصلحك، لكنّه لا يقبل، بل يقول له: لا، أريد أن أبقى هنا! يحصل ذلك أحيانًا! يقول له الله: أريدك أن تعبر! لكن بما أنّه اعتاد على هذا العالم وعلى هذه الأجواء، وتذوّقت نفسُه اللّذة الكاذبة للحضور في هذه الفضاءات، فإنّه لا يرغب بالتخلّي عنها.
لكنّ الأستاذ يأتي ويقول: أنا أجعلك تعبر! ألا تريد العبور؟
لا أريد أن أعبر، بل أريد أن أبقى هنا!
يا عزيزي! أنت الذي أتيت وطلبت البرنامج، وقلت: بماذا تأمر؟ وعندما وصلت إلى هنا، وأردت العبور، بدأت بالممانعة، وتريد التهرّب بنحو من الأنحاء! لماذا ذلك؟ لأنّ تلك اللذّة النفسانيّة التي حصلت عليها في تلك الأجواء، وذاك التعلّق، وتلك العقدة التي حصلت للنفس في أجواء الأوهام والخيالات أحدثت لنا لذّة كاذبة من الصعب التخلّص منها؛ والحال أنّنا نعلم جيّدًا ـ طبعًا العلم له مراتب ـ بأنّ العبور من هذه المسألة يستتبع العديد من البركات بالنسبة إلينا، لكنّنا مع ذلك نقف! ولذا، علينا أن نلجأ إلى الله، ونطلب منه المساعدة في أن يخلّصنا من هذه المواقف، وأن يجعلنا نعبر من الأجواء النفسانيّة والأنانيّة التي تمنعنا من الوصول إلى حقيقة التوحيد.. إن شاء الله.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد