المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالورد و الذكر
التوضيح
بعد أن تبيّن في بعض المحاضرات السابقة دور الذكر الإجماليّ في الحياة المعنويّة للسالك، تفصّل هذه المحاضرة علّة هذا الدور، حيث تشرح تركّب الإنسان من بعدين مادّي ومعنويّ، وكون الذكر هو الغذاء المعنويّ له والذي يحتاجه كالغذاء الماديّ، وتثبت ضرورته لتلطيف النفس وتجريدها وانكشاف حقائق أسماء الحقّ وصفاته لها، مشيرة إلى الارتباط بين المزاجين المادّي والروحيّ في كلام ابن سينا، وإلى أثر اليقظة بين الطلوعين في تحقيق الاعتدال فيهما والاستعداد النفسيّ والذهنيّ لفهم الحقائق. ثمّ بيّنت أنّ الأذكار تختلف باختلاف المراتب الوجوديّة للسالك (من مرتبة المادّة إلى المثال إلى الملكوت...) وكذلك باختلاف الأوقات والحالات، فدعاء الصباح يختلف عن دعاء الافتتاح وأبي حمزة وهكذا... وأكّدت في الختام على ضرورة قيام الليل لتحصيل الكمال.
هو العليم
تفصيل أثر الذكر في الحياة المعنويّة للسالك
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱٤
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
خلاصة المحاضرة السابقة
کان البحث فی الجلسة السابقة حول كيفيّة التوفيق بين الأوراد والأذكار والانشغالات اليوميّة للإنسان في عمليّة التكامل المعنويّ والتربويّ لدى السالك. وتقدّم أنّ الأمر الذي يمكن أن يكون حقًّا وجامعًا لجميع مظاهر الله الجماليّة والجلاليّة هو الأكثر انطباقًا على مشيئة الله في نظام التكوين. ورغم إمكان أن تكون كيفيّة الأعمال السلوكيّة في بعض المراحل بنحو تجعل السالك يمتنع عن المشاركة في المسائل الاجتماعيّة۱، حيث قضى الرسول الأكرم وكثير من الأنبياء والأولياء برهة من أعمارهم في الانعزال وعدم الارتباط مع الناس، ولكن أن يكون السلوك عبارة عن ترك جميع الأمور التي يرتبط بها الإنسان ويتّصل في الحياة الدنيا، فإنّ مسيرًا كهذا لا يمكن أن يكون حقًّا بتمام معنى الكلمة.
ورغم أنّه لم يصرَّح في كلام الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ بهذه المسألة، ولكن يمكن أن يستفاد أنّ الإمام ينبّه على المسألة ويقول: "إنّ لي أورادًا في آناء الليل والنهار" وهذه الآناء والساعات مغايرة للأوقات التي أقضيها في الأمور الأخرى.
أثر الذكر في الحياة المعنويّة للسالك
والأمر الذي لا بدّ من الالتفات إليه هنا أن ما هو أثر الذكر في السلوك والتكامل المعنويّ والتربويّ لنفس السالك؟ وتبعًا لذلك ما قيمة كلام الذين ينكرون لزوم الذكر والمراقبة مع قولهم بطيّ المدارج والمراتب؟
تركّب الإنسان من مادّة وروح وخضوعه لقوانينهما
لا شكّ أنّ الإنسان موجود مركّب من المادّة والروح، وبعبارة أصحّ: له نفس ناطقة ذات قالب مادّي، وما يشكّل حقيقته ليس هذا البدن. وهو في علاقته مع قوانين التكوين والنظام الأحسن للكون ليس منفصلاً عن سائر الموجودات.
حاجة المادّة إلى الغذاء
فالمادّيات في هذا العالم تحتاج لاستمرار الحياة والتكامل والنموّ إلى التغذية، لأنّ النظام الحاكم على هذا العالم يقتضي مثلاً إذا كان هناك شجرة تنمو وتتكامل في الدنيا فإنّها تحتاج إلى ضوء وماء وأوكسيجين وتراب وموادّ غذائيّة، ولو انعدمت هذه الأمور ليبست الشجرة وماتت وتحوّلت إلى تراب. ورغم أنّ كافّة الحيوانات والنباتات وفق الخصوصيّة والطبيعة التي لها تختلف فيما بينها في كيفيّة دخول هذه الموادّ وخروجها،٢ لكنّها لو منعت من الماء مدّة لماتت جميعًا. والإنسان أيضًا ليس بمستثنى من هذه القاعدة، وهو بحاجة في حياته الظاهريّة إلى موادّ أيضًا تؤمّن حياته في هذه الدنيا، ولو تغيّرت كلّ واحدة من قواعد التغذية عند الإنسان لشوهدت فيه الأمراض وسائر العوارض.٣
حاجة الروح إلى الغذاء
فكما أنّ الإنسان يحتاج إلى التغذية المادّية لجسمه، فإنّه يحتاج إلى تغذية للروح أيضًا لكي يحصل الترقّي والتكامل. والإنسان العاطل عن العمل لا يمكن أبدًا أن يتكامل روحيًّا، لا يمكن لمن قضى عمره كلّه في الرياضة البدنيّة وأمثالها أن يغدو عالمًا ومكتشفًا.
إنّ الروح والنفس الإنسانيّة تحتاج إلى الغذاء والممارسة لكي تصل إلى مرتبة الكمال سواء بالنسبة إلى العلوم الظاهريّة أو العلوم الباطنيّة، ولو ظهرت له موانع في هذا المجال فإنّه سيكون فاشلاً في وصوله إلى ذلك الهدف.
الارتباط بين المزاجين المادّي والروحي في كلام ابن سينا
يقول ابن سينا في كلام له جدًّا منطقيّ وحكيم:
"ما لم ينتف من الإنسان الميل إلى العلم وطلبه فمزاجه معتدل وبعيد عن الإفراط والتفريط."
فكلّما شعرت بأنّك لست طالبًا للعلم، أو أنّك متكاسل عن تعلّم العلوم، فاعلم أنّك مريض المزاج. فمن الممكن أن لا يعاني الإنسان من ناحية ماديّة ومن حيث الشكل والهيئة من أيّ مرض أو نقص، وكافّة معادلات الصحّة والسلامة في بدنه مستوية، ولكن حيث إنّه من الناحية الروحيّة والمعنويّة لا يجد ميلاً إلى العلم والوصول إلى الكمال، فهو مريض.
دور اليقظة بين الطلوعين في اعتدال المزاج الروحي للإنسان
والكلام هو في أنّ لليقظة بين الطلوعين تأثير كبير على القوى الذهنيّة والفكريّة للإنسان، وهي تغيّر طريقة التفكير وفهم الإنسان للحقائق، ولذلك جاء في الروايات أنّ رزق الإنسان يقسّم بين الطلوعين.۱ و٢ وقد روي أنّ ابن سينا جاء إلى حلقة التدريس يومًا فرأى أنّ تلامذته يسألون أسئلة تختلف عمّا كانوا يطرحونه في الأيّام السابقة، فقال لهم: كيف أمضيتم ليلتكم؟
قالوا: لقد كانت لدينا في أحد البيوت جلسة وقضينا وقتنا بالمزاح والضحك وتبادل أطراف الحديث ثمّ نمنا.
فقال: هذا هو السبب! وأنا ألمس تأثير عدم صلاة الليل في أسئلتکم! ثمّ أخذ يبكي وقال: أتأسّف على نفسي كيف صرفت وقتي لأمثالكم وأنتم لا تبالون بالوصول إلى كمالكم فتستيقظون قبل أذان الصبح بنصف ساعة وتبقون مستيقظين بين الطلوعين.
لقد التفت ابن سينا إلى هذا الأمر من كلامهم، وهو الذي كانت التغييرات العامّة في أواخر عمره مشهودة في كلماته، ولكنّ الإنسان الخبير المجرّب يدرك من وجوه الناس ما إن كانوا أحيوا الليل وقضوا ما بين الطلوعين بالعبادة أم لا، تمامًا كما يكون واضحًا على ملامح وجه الإنسان أنّه لم يأكل منذ يومين.
وهذا لأنّا شئنا أم أبينا محكومون لقوانين عالم التكوين في الاستفادة من الغذاء المادّي والمعنويّ، ولا يمكن أن نخرج من تحته، فمثلاً لو أنّ إنسانًا أدخل سكّينًا حادًّا في بطنه فإنّها ستدخل، ولا فرق بين من سيكون المُدخِلُ لها.
دور المراقبة في تحصيل الكمال الروحيّ ( مثال طلب العلم)
فكما أنّ نظام هذا العالم يقتضي أن تدخل السكّين وهذا المبدأ من أبده البديهيّات ولا شكّ فيه أبدًا، فإنّ النظام التربويّ للإنسان هو بنحو يقتضي أن يطوى بالمراقبة، ولو أنّ إنسانًا لم يكن ذا مراقبة فلن يحصل على أيّة فائدة.
فمن يحصّل العلوم لا بدّ أن يكون له وقت فارغ للمطالعة، ولا يمكن أن يدعو الضيوف إلى منزله بعد ذلك، لأنّه سيعجز عن التحصيل وسيرسب في الامتحان، فكلّ من سار في هذا الدرب وصل، وكلّ من قعد خسر، وبقي صفر اليدين من الحقائق.
عندما كنّا ندرس في قم، كان هناك أفراد يقضون كلّ أوقاتهم في الأمور السياسيّة وشراء الجرائد، وأحاديث دائمة وجلسات وتعطيل للدروس ومظاهرات وأمثال هذه الأمور. ولكن حيث كنت متنحّيًا بشكل كامل ولم يكن يجرؤ أيّ طالب أن يأتي إلى غرفتي، ولم تكن لي معارضة أو موافقة تامّة لهم، لم يكونوا على علاقة معي.
إنّ الدرس والتركيز في الدروس لا يتلاءم مع دعوة والضيوف والتنزّه والسياحة وذلك جزء من موانع تحصيل العلم أمام طلاّب الحوزات والجامعات، فقد كنت أرى أنّ هذه الساعة الواحدة من الفراغ التي تمضي باستقبال الضيوف والحديث معهم تذهب ولا ترجع.
كان أحدهم ينقل للوالد قصّة عن المرحوم البروجردي وكنت أصغي إليه، فكان يقول:
جاء يوم أحد الخطباء المعروفين في طهران إلى قم لزيارة السيّد البروجردي، ويبدو أنّه حلّ ضيفًا في غرفة آية الله المطهّري رحمة الله عليهما. فيأتي ذلك الرجل إلى منزل السيّد البروجردي فيقول السيّد لخادمه: "قل له إنّي لا مجال لديّ للقاء به الآن ".
وبعد إنهاء الدرس يمضي المرحوم السيّد البروجردي إلى غرفة المرحوم الشيخ مطهّري للّقاء بهذا الخطيب، وعندما يدخلون يلتفتون إلى أنّه رجع إلى طهران، فيقول للشيخ مطهّري: أبلغه سلامي وقل له: إن كان لديك محاضرة مهمّة جدًّا في ظرف خاص يفرض عليك أن تحضّر لها في وقت قصير، فيأتيك ضيف، فهل تترك التحضير للمحاضرة وتنشغل بالحديث معه أم تعتذر وتعطي الأولويّة للأمر الأهمّ؟! وأنا كيف عليّ أن أتحمّل المسؤوليّة أمام هذا العدد من الفضلاء والطلاب الذين جاؤوا إلى الدرس؟!
فينقل المرحوم المطهّري الكلام للخطيب فيقول: "لست فقط لم أنزعج من رفضه لاستقبالي، بل سررت كثيرًا."
لقد كان المرحوم البروجرديّ رجلاً واقعيًّا تقيًّا وعالمًا. فقد كنت يومًا في منزل أحد علماء طهران المعروفين فأحضر لي بعض كتاباته لأطالعها، فوجدت فيها مسألة أثارت إعجابي وسررت بها، حيث ينقل عن المرحوم السيّد البروجردي رضوان الله عليه جوابًا على استفتاء يقول فيه:
هذه المسألة تحتاج إلى مزيد من التأمّل وتتّضح بالرجوع إلى أهل الخبرة والبصيرة في العرف، وتضييع وقت الفقيه بهذا النوع من الاستفتاءات ليس صحيحًا.
فالمرحوم السيّد البروجردي بكلامه هذا يريد أن يقول: أنا إنسان لوقته أهميّة ولست من الذين يجمعون الناس من حولهم، ولا أنشر الرسالة وأثير الضوضاء من حولي بألف خدعة، أنا إنسان أشعر أنّي إذا أردت أن أكون في خدمة الدين والإسلام، فلا بدّ أن أتحفّظ على وقتي، وحيث إنّك رجل عالم فليس من الصحيح أن تضيّع وقتي بهذه المسائل. فهذا الكلام يكشف عن واقعيّته وعدم كونه من أهل الدنيا، فأين لنا من بعده بأمثاله؟!
دور الذكر والعبادة في تحصيل الكمال: تلطيف النفس وإيصالها إلى حقائق الأسماء والصفات
أجل، إنّ السالك الذي ابتعد في مقام الإثبات۱ عن حضرة الحقّ تعالى، ونأى عن حقيقته المجرّدة وصفائه الأول الخالص، لا بدّ لكي يبلغ المدارج العالية أن يقوم بأعمال تمنع من التوغّل في الدنيا، عليه لكي يصل إلى تلك الحقائق المجرّدة ولكي يوصل استعداداته وقواه النفسيّة الكامنة، أن يشتغل بالعبادات والمسائل المعنويّة، وأن يبتعد عن المعاصي ومشاغل العوامّ، فلا طريق سوى ذلك.
فلو اشتغل الإنسان أربعين يومًا بالذكر والعبادة والمراقبة فإنّه يفسد كافّة آثار هذه الأربعين ويذهب بها بتهمة واحدة لرفيقه وبغيبة لمؤمن، فهذا هو الطريق والمسير. لا انسجام بين هذين الأمرين؛ لأنّ الله تعالى جعل قانون الوصول إليه منافيًا لارتكاب المحرّمات والأمور المانعة، وهو لا يتجاوز هذا القانون.
إنّ من الأمور الضروريّة للوصول إلى مقام الكمال واستجماع الظهورات المختلفة للصفات والأسماء الجماليّة والجلاليّة للحقّ، الاشتغال بالأوراد والأذكار التي تؤدّي إلى تلطيف النفس وتجرّدها وبالنتيجة إلى انكشاف حقائق من أسماء الحقّ وصفاته، ولا مفرّ عن ذلك ولا مهرب.
اختلاف الأذكار باختلاف مراتب الإنسان الوجوديّة
إنّ لعالم الوجود مراتب ومراحل مختلفة: فهناك عالم المادّة وعالم البرزخ والمثال، وعالم الملكوت وعالم الجبروت وعالم اللاهوت. وهذه المراتب تبدأ من مرتبة المادّة وتنتهي إلى مراتب الأسماء الكليّة ومرتبة ذات الحقّ. وحتمًا لا بدّ للسالك لكي يصل إلى هذه المراتب أن يقوم في كلّ مرحلة بأعمال متناسبة مع دقّة ولطافة ظهورات العوالم العليا. وهذه الأعمال لا بدّ أن تلاحظ في كلّ مرتبة من المراتب، ولا يمكن أن تكون على نسق واحد. لأنّ الإنسان خاضع لقانون يقتضي في كلّ مرتبة ظهورًا وبروزًا، تمامًا كما تتكلّمون مع الأطفال بطريقة، ومع الكبار بطريقة أخرى.
لماذا يجب أن تكون صلاة الصبح ركعتين وصلاة الظهر والعصر أربع ركعات وصلاة المغرب ثلاث ركعات؟ هل جعل الله هذه العبادات للناس على أساس ميوله ورغباته كالميول والرغبات التي عندنا نحن؟!
إنّ طبيعة وجود الإنسان في طيّه لمدارج الكمال وفي علاقته مع الأحداث التي حوله تقتضي أن تكون له عبادات مختلفة على مرّ الليل والنهار فتكون صلاة الصبح ركعتين وصلاة الظهر أربع ركعات؛ فإنّ طلوع الفجر يترك على القوى الروحيّة والجسديّة للإنسان تأثيرًا معيّنًا يقتضي القيام بالعبادة بهذه الطريقة الخاصّة، وذلك التأثير ليس موجودًا في صلاة الظهر، بل لها تأثيرها الخاصّ بها.
ومن المشهود بشكل واضح أنّ حالة الإنسان في وقت ما بين الطلوعين يختلف عن حاله وقت الغروب، فبين الطلوعين عندما تطلع الشمس يصيبه حال انبساط، وعند غروب الشمس حيث تلملم الشمس أشعّتها يصيبه حال غمّ وانقباض. في حين أنّ حقيقة الوقتين واحدة وكلّ منهما مظهر من مظاهر الله {وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ}.۱ والإرادة التي يمكن أن تتحقّق عند الإنسان في أحد هذين الحالين مختلفة تمامًا عن الأخرى.
وعند الظهر تظهر لدى الإنسان حالة خاصّة لا وجود لها عند الصباح والغروب، لذلك فإنّ الدعاء أقرب إلى الإجابة عند الظهر منه في سائر الأوقات، وقد كان الأعاظم أيضًا يهتمّون لصلاة الظهر أكثر من سائر الصلوات. .٢ و ٣ وكافّة هذه الاختلافات هي بسبب كيفيّة العلاقة بين النظام الوجوديّ للإنسان والنظام الحاكم على ما حوله، وإلا كان ينبغي أن لا تختلف تلك الحالات.
إنّ كافّة موجودات هذا العالم متفاعلة فيما بينها، فالكواكب والأجرام السماويّة لها تأثيرات عجيبة جدًّا على خصوصيّات عالم المادّة، وأصحاب الطلاسم والعلوم الغريبة لهم كلام في ذلك، وترتكز علومهم إلى العلاقات بين الأجرام السماويّة. فأن يكون لذِكر معيّن عند الاقتران أو التقابل بين كوكبين آثار مختلفة، فذلك بسبب كيفيّة العلاقة بين النفوس الملكوتيّة لهذه الكواكب وبين القضايا التي تقع في هذه الكرة الأرضيّة، وهذا التفاعل يسبّب كيفيّة خاصّة من أعمال الإنسان، ولذلك فإنّ التأثير الذي للعبادة والذكر بين الطلوعين هو خاصّ بذلك الوقت.
والأدعية التي وصلت عن الأئمة المعصومين عليهم السلام قد بيّنت على أساس الحالات والمراتب المختلفة للإنسان في الظروف المختلفة، ولا يمكن لأحد أن يقوم بقراءة كتاب للأدعية من أوله لآخره. فلكلٍّ من أدعية الافتتاح وأبي حمزة وكميل والصباح أثره الخاصّ الذي لا يمتلكه الدعاء الآخر.۱ والأثر الذي في المناجاة الشعبانيّة ليس موجودًا في أدعية شهر رجب، فهذا الدعاء لشهر رجب وذاك لشهر شعبان، وربّما كانت قراءة بعض الأدعية في بعض الحالات غير جيّدة للإنسان.
كان أحد العلماء يمثّل للعمل الصالح والعمل الحسن وأنّه يمكن أن يكون بينهما اختلاف بهذا المثال:
"في يوم من الأيّام دُعينا إلى مجلس عزاء لأحد العظماء في أعلى المدينة، وبدلاً من أن يتحدّث الخطيب عن الآخرة وعدم التعلّق بالدنيا ومسائل القبر والحساب والكتاب وهذا النوع من المطالب ممّا له أثر في التنبيه والتذكّر، كان يتحدّث عن أنواع الكلاب ويقول: لدينا أنواع من الكلاب: كلب الماشية والكلب البرّي وكلب الحراسة وكلب الصيد، وذبيحة كلب الصيد حلال في الإسلام."
وعندما نزل عن المنبر قلت له: سيدي العزيز! إنّ كلامك حسن وجيّد ولكنّه ليس كلامًا صالحًا ولا صلاحيّة له. فصحيح أنّ لدينا أنواعًا عديدة من الكلاب، ولكنّ هذا الكلام لا ينفع لمجلس الفاتحة؛ فالذين افتقدوا واحدًا من أسرتهم لم يأتوا إلى هذا المجلس ليسمعوا كلامًا عن الكلاب.
إنّ كلّ واحد من الأدعية التي وردت عن الأئمة عليهم السلام لأجل تكامل الإنسان، يحتاج إلى مرتبة خاصّة، فلو قرأتم عند غروب الشمس دعاء الصباح المختصّ بالصباح فإنّه لا ينسجم أصلاً. ولو قرأتم دعاء السمات الذي ورد لعصر يوم الجمعة يوم صبح الجمعة فلن يكون له ذلك الأثر. ودعاء الافتتاح وارد لليالي شهر رمضان المبارك، لا للصبح إلى الظهر، فهذا الدعاء هو لوقت يكون فيه الإنسان لم يقم بمبطل من السَّحر إلى الغروب، وقد ترك الصوم فيه أثره، وتكون بعد الافطار قد ظهرت للصائم آثار خاصة.
فلو كان المطلوب أن يقرأ الإنسان الأدعية من أول مفاتيح الجنان إلى آخره فإنّه كمن يجعل في قِدر واحد الأرزّ والخلّ والسكّر والحمّص ولم يتمكّن أحد بعد ذلك أن يتناول منها شيئًا. فإن قيل: إنّ كافّة هذه الأدعية واردة عن المعصوم، فلا بدّ أن يقال: المعصوم أيضًا لم يكن يقرأ الدعاء بهذا النحو، فالإمام عليه السلام كان يقرأ كلّ دعاء في وقت بما يتناسب وحالَه.
يمكن لذكرٍ أن يكون مفيدًا للإنسان في حال معيّن، ولكنّه بعينه ليس له تلك الفائدة في حال آخر، بل يمحو أثر الحال السابق. وذلك لأنّه كما أنّ النظام المزاجيّ للإنسان محكوم بقوانين لا بدّ من مراعاتها لتحقيق الصحّة و السلامة، فكذلك نظام التكامل الروحيّ والترقّي النفسيّ للإنسان محكوم بقوانين لا بدّ من اتّباعها في تحقيق فعليّة تلك القوى، وإلاّ فلن يحصل تكامل للنفس.
الحثّ على صلاة الليل
ولذلك فإنّ الأعاظم يرون الاشتغال بالأوراد والأذكار من أهمّ مسائل السیر والسلوک لأجل تکامل السالک وترقّيه. وما يقوله المرحوم القاضي للعلامة الطباطبائي رضوان الله عليهما من أنّك: «يا بني! إن كنت تريد الدنيا فعليك بصلاة الليل؛ و إن كنت تريد الآخرة فعليك بصلاة الليل!»۱ فهو لأنّ الوصول إلى الكمال غير ممكن بغير عمل. ومن قول المرحوم القاضي: وَ العجبُ ممَّنْ يَرومُ مرْتبةً مِنَ الكَمالِ وَ هُوَ لا يَقُومُ الليال!٢ يُعلم أنّ صلاة الليل لها تأثير جازم في ذلك.
فمن أراد أن يخطو في هذا الطريق فليتفضّل بسم الله! فأهل البصيرة والذين طووا هذا الطريق ويبيّنون الحقائق عن مشاهدة يقولون: على السالك أن يصلّي صلاة الليل ويشتغل بالأدعية ويبتعد عن المحرّمات ويأتي بالواجبات والمستحبّات، وإلا فإنّ النفس لا يمكن أن تصل إلى الفعليّة ويمكن أن تبقى مائة سنة في الطريق بغير فائدة.
كس ندانست كه منزلگه معشوق كجاست | *** | آنقدَر هست كه بانگ جرسى مي آيد٣ |
يقول: لا أحد يعلم أين منزل المعشوق *** ولكنّا نسمع صوت جرس
فنحن نعلم أنّ هناك صوت جرس فلنتحرّ هذا الصوت، وإن شاء الله سنصل إلى منزل المحبوب، فالذين ذهبوا ووصلوا قالوا إنّ هناك أمرًا ما، فلتطمئنّوا فهذا أرفع من اليقين، غاية الأمر أنّنا غارقون في الغفلات والتعلّقات فنحمل ذلك على الهزل والمزاح، ولكنّه مسلّم.
نسأل الله أن يجعل مائدتنا أغنى وأغنى وأن يجعل أيدينا ملأى أكثر فأكثر وأن يجعل جميع أفعالنا وسرّنا وسويداءنا كما جعل للأعاظم.
اللهمّ صَلّ على محمّدٍ و آل محمّد