المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء أبي حمزة
التوضيح
في هذه المحاضرة التي عقدها سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة لشرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ، سعى بدايةً إلى بيان أنواع التأديب الإلهيّ، ثمّ تطرّق إلى تعريف الأدب وبيان حقيقته وعرض نماذج عنه، وبيّن كيف أنّ الإنسان لا يقدر على تحمّل العقاب الإلهيّ؛ مشيرًا إلى دور التأديب بِنَوعيه في تربيته؛ ثمّ ذكر أنّ الإنسان يفتقر لله تعالى في شؤونه الدنيويّة والأخرويّة معًا؛ وفي ضمن ذلك، تحدّث عن حقيقة المكر الإلهيّ، ليختم كلامه بالحديث عن علّة حاجة الإنسان للتأديب الإلهيّ.
هو العليم
أهمّية الأدب في السير والسلوك وتَبِعات عدم الالتزام به
شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الأولي
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين
كان أبو حمزة من أصحاب الإمامين السجّاد والباقر عليهما السلام؛۱ وبحسب رواية المرحوم الشيخ الطوسيّ في كتاب مصباح المتهجّد، فإنّ السبب في اشتهار هذا الدعاء باسم أبي حمزة الثماليّ أنّه هو الراوي لهذا الدعاء عن الإمام السجّاد عليه السلام؛ إذ هو الذي روى أنّه عليه السلام كان يُصلّي في ليالي شهر رمضان المبارك معظم الليل؛ وحينما يفرغ من الصلاة، كان يقرأ هذا الدعاء.٢
أنواع التأديب الإلهيّ
وهنا، سنسعى في كلّ ليلة ـ بمشيئة الله وتوفيقه ـ إلى شرح بعض من فقرات هذا الدعاء:
«إلهي، لَا تُؤَدِّبْنِي بِعُقُوبَتِكَ، ولَا تَمْكُرْ بِي فِي حِيلَتِكَ؛ مِنْ أَيْنَ لِيَ الْخَيْرُ يا ربِّ، ولَا يُوجَدُ إِلَّا مِنْ عِنْدِكَ؟! ومِنْ أَيْنَ لِيَ النَّجَاةُ، ولَا تُسْتَطَاعُ إِلَّا بِكَ؟! لَا الَّذِي أَحْسَنَ، اسْتَغْنَى عَنْ عَوْنِكَ وَرَحمتِكَ؛ ولَا الَّذِي أَسَاءَ واجترَأَ عَلَيكَ ولَم يُرضِكَ، خَرَجَ عَنْ قُدْرَتِكَ».
«إلهي، لَا تُؤَدِّبْنِي بِعُقُوبَتِكَ»؛ أي: يا إلهي، لا تقُم بتأديبي من خلال العقوبة، ولا تجعل هذه العقوبة أُسلوبًا لتأديبي!
«ولَا تَمْكُرْ بِي فِي حِيلَتِكَ»؛ أي: لا تمكر بي ولا تخدعني بما لديك من خبرة ومن دقّة النظر في أموري.
ويستفاد من ذلك أنّه من الممكن أن يُؤدّب الله العليّ الأعلى الإنسانَ عن طريق العقوبة؛ كما يمكنه الاحتيال في أمر الإنسان، والمكر به في هذه الحيلة.
وحينئذ، يجب علينا أن نرى ما هو المراد من المكر؟ وما هي العقوبة الإلهيّة التي يؤدّب الإنسان بها؟
«إلهي لا تؤدّبني بعقوبتك»؛ فهو لم يقلْ: لا تؤدّبني مطلقًا، بل قال: لا تؤدّبني بعقوبتك! فيتبيّن أنّ لله أسلوبين في التأديب: أحدهما بالعقوبة، والآخر بلا عقوبة؛ ولذلك، يدعو الإمامُ اللهَ أن يؤدّبه من دون عقوبة.
وهذه الجملة عجيبة جدًّا، وهي ذات مغزى عظيم! وذلك من أيّة ناحية؟ من ناحية أنّه هل يمكن لله أن يؤدّب الإنسان من خلال العقوبة؟!
فالعقوبة تعني العقاب والتقريع والتأديب.
والأدب مفاده الدخول في الصراط المستقيم، واعتدال عمل الإنسان، والوعي والتيقّظ؛ وذلك بخلاف الذين لا يتمتّعون بالأدب . أجل، يبقى أنّ لكلّ مورد أدبًا خاصًّا يقتضيه ـ فإنّهم لا يكونون على الصراط المستقيم، أو أنّهم يقعون في طرف الإفراط أو طرف التفريط، أو يكون لديهم تسرّع أو بطء في حركتهم، أو أنّهم لا يراعون آداب المكان والمجلس الذي يكونون فيه، أو يكونون غافلين عن شأن المولى وجاهلين به وغير ملتفتين إليه؛ وبالتالي، فإنّهم أفراد غير مطّلعين على شروط العبوديّة وحقّ المولويّة. وأمّا الإنسان المؤدّب، فهو الذي لديه معرفة بهذه الحيثيّات، واطّلاع عليها؛ ولا يخفى أنّه لا بدّ للعبد من الاتّصاف في صراط العبوديّة بالأدب؛ إذ لا يُسمح لعديم الأدب بالولوج إلى الحرم الإلهيّ.٣
از خـــــدا جـــــوییم توفیـــــق ادب | *** | بــی ادب محــروم مانــد از لطــف رب |
بــی ادب تنهــا نــه خــود را داشــت بــد | *** | بلکــــه آتــــش در همــــه آفــــاق زد |
هرچــه بــر تــو آیــد از ظلمــات وغــم | *** | آن ز بیبــاکی وگســتاخی اســت هــم |
هــر کــه بیبــاکی کنــد در راه دوســت | *** | رهــزن مــردان شــد ونــامرد اوســت |
از ادب پـر نـور گشـته اسـت ایـن فلـک | *** | وز ادب معصــوم وپــاک آمــد مَلــک |
وفي هذه الحالة، عندما ينظر الله العليُّ الأعلى إلى عباده بنظر الرحمة، يكون من شأنه ـ بكلّ تأكيد ـ تأديب الذين يودّ إدخالهم إلى حرمه، فيفتح لهم طريقًا للوصول إلى النشأة الأخرى ببركة صفته الرحيميّة، ويُشرع لهم بابًا لمناجاته؛ وذلك لكي تُشيَّد ـ بعدما صار هؤلاء العباد مؤدّبين ـ العلاقةُ بينهم وبين مولاهم على أساس العبوديّة والربوبيّة؛ فيضحى العبد حائزًا على الأهليّة للوقوف على صراط مناجاة الله تعالى، فيتمكّن من مبادلته أطراف الحديث؛ وهذا لا يكون إلا من حظّ العبد المؤدّب؛ وأمّا بالنسبة للذين يفتقرون إلى الأدب، فإنّهم بعيدون عن رحمة الله، وخارجون عن محلّ بحثنا.
تعريف الأدب وبيان حقيقته وعرض نماذج عنه
ويتبيّن أنّ الأدب أمرٌ مهمّ جدّا، بحيث نجد الإمام السجّاد عليه السلام يقول: «لا بدّ وأن تؤدّبني، لكن لا تؤدّبني بعقوبتك»؛ وبالتالي، فإنّ الأدب ضروريّ، وعدم الأدب أمرٌ سيّئ للغاية، بل هو أسوء شيء في طريق السير والسلوك؛ إذ ما إن يخرج العبد عن صراط الأدب، حتّى يلمع برق الغيرة والعزّة [الإلهيّة]؛ فيسقط هذا العبد عن مقاماته وادّعاءاته بشكل كامل.۱
فالأدب يعني الاستقامة في المقام، بحيث لا يُكثر الإنسان من الكلام ولا ينقص، ولا يصف مولاه وإلهه بصفات لا يرتئيها ولا يتحمّلها، وإنّما يصفه تعالى بما هو معتقِد به، لا أكثر؛ فمع أنّ صفات الله هي أكثر من ذلك؛ لكن، عليه ألاّ يصفه بها.
فلا تقل: إلهي، نفسي لك الفداء؛ لأنّه سيقول حينئذ: هيّا، تعال، وافدِ نفسك لي!! فمن هو الشخص المستعدّ للفداء؟! فأنت الذي قلت بنفسك: نفسي لك الفداء!؛ أجل، لا يهمّ أن يقول الإنسان لرفيقه: نفسي لك الفداء؛ إذ لن يقول له هذا الرفيق أبدًا: هيّا افعل!؛ ولو تقرّر أن يكون عالَم الدنيا كبقيّة العوالم الأخرى، بحيث تكون كلّ كلمة خاضعة فيه لحساب خاصّ، وتكون هذه الكلمات مستندة إلى الحقيقة، وموضوعة في موضعها الخاصّ، لانكشف أنّ بين هؤلاء الذين يقولون لبعضهم: نفسي لك الفداء، ما بين المشرق والمغرب، وأنّهم بعيدون عن بعضهم.
إلهي، أنت كذا وكذا؛ فعذّبنا، ولكن أعطنا ما نريد! ألقِ بنا في جهنّم، ولكن لا تُبعدنا عن رحمة لقائك وزيارتك! فلو أنزلت بنا أيّ نوع من العذاب والشقاء، لرضينا بذلك؛ لكن، أوصلنا إلى مقام الفناء، وابلغ بنا مقام الوصال، وأنلنا جمال ذاتك!
ففي هذه الحالة، سيقول الله تعالى: ماذا تقول؟! هل تُريد أن أُعذّبك بأيّ عذابٍ شئتُ؟ وأُنزل عليك أيّ نوع من البلاء؟ حسنًا، استعدّ! فلا مجاملة في الأمر.
كان المرحوم السيّد جمال الدين الكلپايكاني رحمة الله عليه من علماء النجف ومرجعًا للتقليد، وكان صاحب أخلاق، ومن أهل العلم، ومتّصفًا بالأدب؛ كما كان رجلاً سالكًا، ومن أهل المراقبة، فقال لي يومًا:
كنتُ أذهب، وأُمسك بحلقات [باب] أمير المؤمنين عليه السلام، وأهزّها، وأقول: أنزلْ عليّ أيّ بلاء تريده، وأحلل بي أيّة شدّة تشاؤها؛ ولكن، أعطني تلك الحاجة التي أطلبها.
فكنتُ أذهبُ في الشتاء البارد قبل أذان الصبح بساعة أو ساعتين، وأقف خلف باب الصحن، وأمسح نفسي بهذا الباب، إلى أن يُفتح بعد مضيّ ساعة؛ فأكون أوّل من دخل الصحن؛ فأدخل، وأشرع في السؤال من أمير المؤمنين، وأنا أبكي وأقول: ابتلني بأيّ نوع من الفقر والشقاء، وبأيّ شيء آخر؛ لكن، امنحني ما أريده!
حسنًا، لقد كان يقول ذلك حقًّا، ولم يكن كاذبًا؛ بل كان يدعو بهذا الدعاء طبقًا للحال الذي يعيشه في الواقع؛ وكان في حال يقول فيه: أعطني ما أريد مقابل أن تصبّ عليّ جميع المصائب والآلام المتصوّرة؛ كأن ينهال مثلاً فوق رأسي جبل! أو يُقطّع بدني إربًا إربًا! أو يستولي عليّ الفقر، أو أفقد عائلتي وعشيرتي بأجمعهما؛ وباختصار، احلل بي كلّ بلاء حلّ بالنبيّ أيّوب، وكلّ مصيبة نزلت على حضرة يعقوب أو بعض الأنبياء؛ لكن، هبني حاجتي التي أريدها.
وكان يقول:
بدأتْ مقدّمات هذا الأمر تظهر شيئًا فشيئًا؛ فجاءت مقدّمة مختصرة من ناحية الفقر؛ إذ ابُتلينا بشحّ في الأموال، فلم يأتنا شيءٌ من المال، واستمرّ الأمر بهذا النحو، واستمرّ، واستمرّ؛ وذلك حينما كنّا في النجف من أجل تحصيل العلم؛ فلم يصلنا شيء من المال لعدّة شهور، وكنّا نقترض ما بوسعنا، فاقترضنا حتّى امتلأت دفاتر البقّالين، فخجلنا منهم، ولم يبق لدينا مكان آخر [نقترض منه]؛ كما لم ندفع أيضًا أجرة المنزل لعدّة أشهر متوالية، فما كان من صاحب المنزل إلاّ أن ألقى بأثاثنا خارج المنزل! فأخذنا الأثاث إلى مسجد الكوفة، ووضعناه في غرفة منه، وصرنا نعيش أنا والعيال هناك، حيث كانت مسافته تبعد عن النجف ما يزيد على فرسخ واحد؛ فكنت آتي في الصباح إلى النجف من أجل الدراسة، وأقوم بأبحاثي هناك، ثمّ أرجع مرّة أخرى إلى مسجد الكوفة، والذي كان محلاًّ لإقامتنا! (ولا يخفى أنّ المرحوم السيّد جمال كان قويّ المزاج جدًّا).
لكن، بدأت زوجتي تتظلّم، وتقول: «أيّة حياة هذه!! وأيّ إسلام هذا؟! وأيّ دين هذا؟! وأيّ مذهب هذا؟! هل أمرك الله بهذا؟! انهض، وتحرّك، وافعل شيئًا!».
فقلت لها: حسنًا، قومي لنذهب إلى حضرة أمير المؤمنين عليه السلام، وبثّي إليه ما تريدينه من حزنك وهمّك!
وكان الصيف حارًّا، فخرجتُ معها من مسجد الكوفة إلى النجف، وجلستُ أنا في جانبٍ من الصحن على بلاط الأرض الساخن، وذهبت هي إلى داخل الحرم، كي تشكو أمرها لأمير المؤمنين عليه السلام؛ وحينما رجعتْ إلى مستودع الأحذية، اكتشفت أنّ حذاءها سُرق! فجاءت تمشي على الأرض حافية القدمين ومجرّدةً من حذائها، وقالت: هذا ما نلتُه من أمير المؤمنين أيضًا! لقد انقطعت بنا السبل؛ فماذا علينا أن نفعل؟!.
هذا، مع أنّ ذلك لم يكن شيئًا ذا بال، بل مجرّد حبس يسيرٍ للرزق! فالله يريد أن يُفهمَ الإنسان أنّه: ما هذا الذي تتفوّه به؟! أ تريد منّي أن أُنزل بك كلّ أنواع البلاء؟! أيّ كلام هذا؟! فتجد الإنسان يقرأ في دعاء كميل:
«فَهَبْنِي [يَا إِلَهِي وسَيِّدِي وَمَولايَ وَرَبِّي] صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ؟! وهَبْنِي صَبَرْتُ عَلَى حَرِّ نَارِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى كَرَامَتِك»؟!۱
إلهي، افرض أنّه حينما تُنزل عليّ عقابك، وتلقيني في جهنّم، فإنّني سأصبر، وأصبر؛ لكن، كيف يُمكنني أن أتصوّر نفسي بعيدًا عنك؟! افرض أنّك رميتني في النار، وابتليتني بعقوباتك وحرّ نارك، فصبرتُ؛ لكن، كيف يُمكنني الصبر عن النظرة الرحيمة التي تنظر بها إليّ؟! فإن لم تنظر بها إليّ، فما عساني أن أفعل؟!.
فهذا دعاء كان يدعو به مولانا أمير المؤمنين؛ فنأتي نحن، ونقول أيضًا: يا الله، الجنّة هي للأطفال، ولا يليق بنا نحن أن نسألك هذه الجنّة ولا الحور العين ولا الشجر وأمثال ذلك؛ بل يجب أن نسألك الكمال؛ وكذلك الشأن بالنسبة للخوف من النار؛ فهو يخصّ الأفراد الذين توجد بينهم وبين خالقهم بينونة وانفصال، وأمّا نحن، فإنّنا الصفوة المختارة من العالم، وقد تجاوزنا هذه المراحل وعبرناها، ونريد اللقاء بالله والوصول إليه و...!! وأمّا عذاب جهنّم، فلا يعنينا.
أ فلا ترون ما يقوله أمير المؤمنين في دعاء كميل؟! فتجدنا نستعرض فقرتين أو ثلاث فقرات من هذا الدعاء، ونُفسّرها، ونطويها، ثمّ نُغلق هذا الملفّ، وانتهى الأمر!! فنظنّ أنّ المسألة قد انحلّت بمجرّد الكلام! وحينئذٍ، سيقول الله تعالى: تفضّل على بركة الله! تعالَ لنُسائلك عن الكلام الذي تحدّثت به! تعال لنختبرك في هذه الدروس التي أنهيتها، ونرى كم هي الدرجة التي حصلت عليها!
قال السيّد جمال:
لقد تسلّط الفقر علينا، وتسلّط، وتسلّط، وتسلّط، إلى حدّ أنّني صرتُ أذهب إلى تلك الحلقات في باب حرم أمير المؤمنين، وأحرّكها، وأقول: يا أمير المؤمنين! لقد أخطأتُ في كلّ ما قلتُه! وأنا أسحب كلامي الآن! فنحن لا نملك أيّة طاقة ولا قدرة! أبدًا، أبدًا! لقد أخطأت!۱
حينما يقول الإنسان: لقد أخطأتُ، يُقال له آنذاك: جيّد جدًّا، بما أنّك اعترفت بخطئك، فتعال لنجلس سويّة، ونتحرّك معًا!
عدم قدرة الإنسان على تحمّل العقاب الإلهيّ
فنحن عبيدٌ، والعبد لا طاقة له على أيّ شيء بتاتًا؛ فلا طاقة له على تحمّل ولو غرس رأس إبرة في جسده.
فإذا رأيتم ابن الفارض يقول:
عَذِّب بِمَا شِئتَ غَيرَ البُعدِ | *** | ...٢ |
فإنّ ذلك القول يخصّه هو، وليس لنا نحن أن نتفوّه بهكذا كلام؛ فهو يتحدّث بهذه العبارة طبقًا لحالٍ يعيشه واقعًا، بحيث لو عُذّب في هذا الحال بكلّ أنواع العذاب ـ غير البُعد ـ لرضي بذلك؛ مع أنّ المراد من رضاه هنا أنّ جهة العبوديّة قد بلغت مرحلة الفناء؛ وحينئذٍ، لو قطّعوه إربًا إربًا، لما أحسّ بذلك أبدًا! ففي هذه الحالة فقط، إن نطق الإنسان بمثل ذلك الكلام، فإنّ كلامه سيكون صحيحًا.
وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة لما قاله أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّه كلام صحيح، وهو لم يتحدّث بكلام خاطئ، بل ذكر تلك العبارة حينما كان يعيش تلك الحالة الخاصّة؛ وهذا الذي يُقال له: الكلام المنطبق مع مقتضى الحال؛ فما لم يكن الإنسان يمتلك ذاك الحال، فلا ينبغي عليه التفوّه بمثل ذلك الكلام؛ وإلاّ، لو قال: أنزل بي ما تريده من العذاب!، لأتاه الجواب: حسنًا، تفضّل!.
عَذِّب بِمَا شِئتَ غَيرَ البُعدِ عَنكَ، تَجِد | *** | أَوفَى مُحبٍّ بِمَا يُرضيكَ مُبتَهِجٍ |
ذات يوم، ذهبتُ عند المرحوم السيّد جمال، ـ حيث كنتُ أزوره مرّة أو مرّتين في الأسبوع؛ فكان يعظني لمدّة ساعة، وكان لديه إصرار شديد على لزوم ترك المعصية، وكان يقول: إنّ السير والسلوك بكامله متوقّف على ترك المعصية ـ ؛ وكان الجوّ حارًّا جدًّا، وهو مستلقٍ في غرفته الواقعة في الطابق العلويّ، وقد صُبّت عليه جميع أنواع الابتلاءات والمصائب؛ أو بالأحرى أنّه كانَ يُعاني من مرضين أساسيّين: أحدهما مرض البروستات، حيث ثقبوا له ثقبًا، وأدخلوا فيه أنبوبًا بلاستيكيًّا يخرج البول منه، ويتجمّع في وعاء تحت السرير الذي ينام فيه؛ والثاني هو مرض القلب. وكان قد تجاوز التسعين سنة من العمر، وكاهله مثقل كثيرًا بالديون، بحيث لم يعُد بوسعه الاقتراض من الأماكن التي كان يقترض منها؛ كما رهن بيته بأربعمائة دينار من أجل معالجة أحد أولاده في المستشفى بسبب مرض أصابه؛ وكان يُعاني أيضًا من بعض المشاكل الأخرى، وتشاجرت زوجته معه؛ لأنّها كانت تريد الذهاب في الصيف إلى إيران، و إلى زيارة الإمام الرضا عليه السلام.
فمع كلّ هذه الأوضاع التي كان يعيشها هذا الرجل، ورغم معاناته من قلّة ذات اليد، وحرارة الجوّ الشديدة، مضافًا إلى بعض المصائب الأخرى، إلاّ أنّني حينما دخلتُ غرفته، وجدته يبكي، وهو يقرأ الصحيفة السجاديّة ـ حيث كان يقرأها كثيرًا ـ ؛ وما إن رآني، حتّى قال لي: تعالَ، اجلس هنا، اجلس هنا!؛ ثمّ ضحك، وقال: يا سيّد محمّد حسين، هل تدري أم لا؟، فقلت: ماذا يا سيّدي؟، قال: رغم كلّ ما تراه حلّ بي، إلاّ أنّني سعيد ومسرور! فمن ليس لديه عرفان، ليس له دنيا ولا آخرة!؛ وقد تحدّث بمثل هذا الكلام؛ لأنّه كان يعرف أنّني مطّلع على مصائبه وابتلاءاته؛ فقال: أنا سعيد، إنّ من ليس له عرفان، لا دنيا له ولا آخرة.۱
حسنًا، بعد أن يتنبّه الإنسان، ويتمّ إيقاظُه، ويصل به الأمر إلى درجة أنّهم يوقعونه في المصائب والابتلاءات، فإنّه لا يعُد يرى هذه الابتلاءات صادرة من عند غير الله، وإنّما يرى أنّه تعالى هو الذي أنزلَ عليه هذه المصائب بداعي الرحمة.
دور التأديب بِنَوعيه في تربية الإنسان
وحاصل القول أنّ الابتلاءات النازلة على السالك لغرض تأديبه على نحوين:
النحو الأوّل: الأدب المتكّيء على العقاب، يعني: حينما يُراد من الإنسان أن يقف مُعتدلاً، فإنّه يُضرب على قفاه؛ إذ متى ما ضُرب على قفاه، وقف بشكل معتدل؛ فإن غفل ثانية، وسرّحَ نظره هنا وهناك، ضُرب على قفاه مرّة أخرى، فيقف معتدلاً من جديد؛ ثمّ إن عاد، وغفل، وطفق ينظر إلى هنا وهناك، فإنّه سيحتاج إلى ضربة أخرى.
فتجد الإنسانَ يُرخي الحبلَ للحصان أو الحمار، و يضع له شيئًا من التبن والشعير، لكنّ هذا الحمار يرفع نظره، ويُلقي به في مراعي الآخرين، ويقفز وسط الأعشاب؛ فيُضرب بالسوط، ويُمنع من الذهاب، ويقال له: ارجع!! وفي المرّة الثانية، ما إن يعود لأكل التبن والبرسيم الموضوع أمامه، حتّى يغفل من جديد، فيلقي بنفسه في مراعي الناس، ويسحقها، فيضربوه بالسوط ثانيةً؛ وهذا الذي يُقال له: التأديب بالعقوبة؛ أي تنبيه الإنسان بواسطة السوط.
فقد يُهيمن الغرورُ على الإنسان، بحيث تجده يقول: أنا! أنا كذا! وأنا كذا وكذا، وأنا الذي [قارعتُ] رستم وأفراسياب۱معًا، وأنا الذي فعلتُ كذا، و... .
لقد كان هؤلاء جميعًا بهذا النحو، وكانوا كذا وكذا؛ لكن، ما دخلك أنت بذلك؟! وما علاقتنا نحن بهذا الأمور في هذا العالم؟!
فتارةً، لا يكون الإنسان ـ في الأساس ـ من سلاّك الطريق؛ ففي هذه الحالة، سيُعرض عنه، ويُرخى له العنان؛ فيذهب هذا الفرس للتمسّح بتلك الأعشاب، ثمّ يقع في بئر محفور هناك، وتتحطّم عظامه؛ وهذا لا علاقة لنا به!! وأمّا الذي ينظر إليه الله بنظر الرحمة، ويكون مهتمًّا بتأديبه، فإنّه متى ما أصيب بالغرور، فإنّه تعالى يُعاقبه، ويسعى لإيقاظه، قائلاً: قف مكانك، واعلم من تكون أنت!! واعرف بأنّك عبد، ولا تقلْ: أنا ونحن! دعْ ذلك جانبًا! ولا تنسب شيئًا إلى نفسك! ولا تتظاهر بالأنانيّة!؛ وحينئذٍ، ماذا سيفعل هذا الإنسان؟ هل سيتظاهر بالأنانيّة وحبّ الذات؟! [كلاّ!]، وإلاّ، فإنّ ذاك الذي كان يتظاهر بالأنانيّة، ويأنف عن الحديث مع بعض العظماء، ليستشيرهم في شؤونه، سيحلّ به بلاء، فيضطرّه للإتيان عند من هو أدنى منه بعشر درجات، ويُناشده بأن يتدخّل ويصلح له أمره، ويقول له: لا حول لي ولا قوّة!
فبهذا النحو، يُعمل على تغيير الإنسان؛ فيُبتلى بأمرٍ، بحيث يحتاج إلى مائة ألف تومان من المال، فيكون هناك شخص لو قال له: أريد منك مائة ألف تومان، لأعطاه هذا المبلغ على الفور لكي يقضي حاجته؛ غير أنّه لا يكون مستعدًّا لكي يطلب منه ذلك، بسبب حبّ الذات الكبير الذي يُعاني منه! وهنا، تبدأ الأمور تتنسّق بطريقة معيّنة، بحيث يضحى ذلك الإنسان محتاجًا لفِلس وقِرش واحد؛ وحينئذٍ، يأتي هذا الشخص، ويلجأ للمناشدة، ويقول: يا سيّدي، أعطني فلسًا من المال، وإلاّ لهلكت!
وخلاصة الأمر أنّهم يعملون على إضعاف هذا الاستكبار وتلك الأنانيّة؛ فنجد إنسانًا سليمًا ومغرورًا بما يتمتّع به من الصحّة؛ وإذا به يُبتلى بمرضٍ لا يسمح له بالنوم ولا التفكير، سواء في الليل أو النهار، بحيث يرى قبره محفورًا أمامه! و يُصاب ذلك المغرور بالمنزل الذي يملكه ببلاء يحلّ به؛ نظير جار سيّء؛ فيكون حاله حال الذي غُرس في قلبه وكبده سكّينٌ على الدوام.
وهذا الذي يُقال له: التأديب بالعقوبة؛ أي: التفتْ! وكِلْ أمركَ إلينا! وأمّا إذا أردت أن تحمل أثقالك بنفسك، وتتحمّل أنت هذه الأمور، فافعل ذلك؛ غير أنّ ذلك تلزم منه هذه التبعات؛ وهذا نوع من التأديب.
والنحو الثاني من التأديب هو التأديب غير المقترن بالعقوبة أو التوبيخ، بحيث ما إن يمِل الإنسان برأسه إلى هذه الجهة أو تلك، حتّى يهتف به صوتٌ لطيف من الأعلى: عزيزي، لماذا أزحتَ وجهك إلى تلك الناحية؟!؛ فينتبه الإنسان بسبب ذلك؛ حسنًا، هناك فرقٌ كبير بين كلمة "عزيزي" هذه، وبين ذلك التوبيخ! فيرفع الإنسان رأسه مرّتين ويقول: أستغفر الله، لقد عصينا إلى الحدّ الذي استوجب أن يقول الله لنا: يا عزيزي، لماذا اقترفتَ هذا الفعل؟!؛ ثمّ إنّ الإنسان يغفل مرّة أخرى، فيأتيه ذلك النداء ثانيةً. ففي ليالي شهر رمضان، تُنادي الملائكة حتّى الصباح:
تعالوا أيّها العصاة! فباب الرحمة مفتوح، ونحن نقبل التوبة، ونغفر الذنوب، ونستجيب الدعاء؛ فلا تجنحوا إلى الشهوات، ولا تكونوا من الغافلين، وأقبلوا علينا!۱
وكذلك في ليالي الجمعة، حيث تنزل الملائكة من السماء، وتعرج إليها باستمرار، منذ بداية الليل حتّى طلوع الفجر، وهي تُنادي:
هل من مستغفر؟! هل من داعٍ؟۱ فنحن نستجيب دعاءه، ونقبل دعوته، ولا نردّها، فتعالوا أيّها العصاة!
وهذا أيضًا تأديب، إلاّ أنّه ليس تأديبًا بالعقوبة، بل هو تأديب باللطف والرفق؛ وهو أمر مناسب جدًّا! أي أنّ العبد لا يقوى على أن يُؤدّبه الله تعالى بواسطة العقوبة؛ وإلاّ، فمن الذي يستطيع القول: إلهي أدّبني بالعقوبة؟!
كان المرحوم الحاجّ السيّد جمال الدين سالكًا لسنين متمادية، وكان صلبًا في هذا المجال، وقد تحمّل العديد من المشقّات في هذا الطريق؛ وبعد ذلك، ذهب إلى أمير المؤمنين وقال له: أعطني ما أريد، وافعل بي ما تريد! ؛ وفي هذه الحالة، ومن أجل إصلاح الإنسان، فإنّهم يأخذون «بُرغيًّا»، ويُثبّتونه عن طريق مفتاح الربط، بل ولا يحتاجون في ذلك إلى مفتاح إنكليزي، أو مفتاح قابل للتعديل، أو زرديّة تثبيت، بل يُثبّتون ذلك البرغيّ بواسطة رأس مغرفة الطعام الكبيرة!! فينتهي الأمر، وينهار ذلك الغرور والاستكبار وما شابه ذلك، ويختلط لعاب الإنسان بمخاط أنفه من شدّة التعب والنصب!! فتنهار قوى الإنسان واستعداداته، ويُصبح ضعيفًا!
وأمّا إن كان التأديب بغير العقوبة، فإنّهم سيأخذون بيد الإنسان بلطف، ويجرّونه بهدوء، ويمشون به من دون أن يشعر بذلك بتاتًا.
وكم كان الإمام السجّاد عليه السلام عارفًا بهذه المسألة! بحيث كانت هذه الخصائص الدقيقة في مقام السلوك واضحةً أمامه كوضوح الشمس، وإلاّ، هل بإمكان أيّ أحد كيفما كان أن يُنشئ مثل هذا الدعاء؟!
إنّ من معجزات القرآن هو طرحه هذا النوع من الأدب، والذي كان يتحلّى به النبيّ مقابل الله تعالى، وكان يعلّمنا إيّاه؛٢ كما أنّ الأذكار التي يقول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيها: «لا إله إلاّ الله، سبحان الله» مختصّة به فقط، بحيث لا يتسنّى لغير خاتم النبيّين أن يفتح الطريق بهذا النحو، وينهج هذا المسير، ويلهج بمثل هذه الأذكار! ومن لم يكن مثل الإمام السجّاد لا يمكنه أن يقول: «إلهي لا تُؤَدِّبني بِعُقُوبَتِكَ!».
افتقار الإنسان لله تعالى في شؤونه الدنيويّة والأخرويّة
[علينا أن نقول:] أنا عبد، أنا عاجز، ولا أملك شيئًا! أ فتريدُ أن تُؤدّبني بالعقوبة؟! من أين لي القدرة على ذلك؟! لا أن نقول: خذ طفلي واقتله إن أحببتَ، أو اهدم المنزل على رأسي، أو ابتلني بكلّ الابتلاءات التي أحللتها على رأس النبيّ أيّوب، أو امتحنّي كما امتحنت النبيّ يعقوب بفراق ابنه يوسف؛ كلاّ، كلاّ، كلاّ، كلاّ! بل [علينا أن نطلب] ما هو أدنى من هذه العقوبات، وأدنى، وأدنى؛ إذ لو تأتي بعوضة صغيرة، وتُريد أن تمزح معنا في ليلة ما، فإنّ هذه الليلة ستتحوّل إلى جهنّم، بحيث لن ننام حتّى الصباح! ولو تقرّر أن تأتي بعوضة أو ذبابة واحدة، وتبدأ في إزعاج الإنسان، بحيث كلّما ضربها، تذهب وتعود ثانية، فإنّ هذا الإنسان سيُصاب بالعجز؛ إذ كيف سيتسنّى مطاردة هذه الذبابة، والإمساك بها، وقتلها؟! فما إن يسعَ لضربها، حتّى تفرّ؛ كما أنّ الإنسان لا يملك جناحين لكي يُطاردها؛ فيقبع هذا الإنسان كالذليل أمام ذبابة واحدة وبعوضة واحدة! بل أمام ما هو أصغر من ذلك ممّا لا يمكن أن نتصوّره؛ إذ لا نملك أيّ حول ولا قوّة، ولا قدرة لنا [على التحمّل]!٣
فالإمام بنفسه يقول: لا قدرة لي على التحمّل؛ وهذا هو الواقع! إلهي، نحن عبادك، ونحن محتاجون إليك، وكلّ شيء لدينا مملوكٌ لك أنت، وليس لدينا أيّ شيء حتّى نحتفظ به لأنفسنا، ثمّ نطلب منك ما ليس لدينا؛ وحتّى تكون أمورنا الدنيويّة بحمد الله جيّدة، ثمّ نطلب منك أمورنا الأخرويّة؛ وحتّى تكون حياتنا جيّدة، ثمّ نطلب منك المغفرة؛ أو يكون دكّاننا جيّد وتجارتنا حسنة، ولكن نطلب منك زيارة مكّة والمدينة؛ كلاّ، ليس لدينا شيء بتاتًا! وأمّا إن قال الإنسان: إلهي! الحمد لله أمور دنيانا جيّدة، ولكن مُنّ علينا بالآخرة!، فإنّ هذا سيعني أنّه ليس محتاجًا إليه في الأمور الدنيويّة؛ ولو قال ذلك بشكلٍ جادّ، لتبيّن بعد ذلك ما الذي سيحصل؛ أي أنّه سيكون كاذبًا في كلامه؛ إذ لو تأخّرت عنه قطرة واحدة من الماء، لَعَلا نحيبُه، وارتفع صوته.. كلّ ذلك لأجل قطرة ماء تأخّرت عن الوصول إليه.
أنّى للإنسان الادّعاءُ بأنّ الأمور الدنيويّة ليست مهمّة! ألسنا نحتاج إلى الماء؟! ألا نفتقر إلى الهواء؟! وإن كان التنفّس مجّانيًا بسبب انتشار الهواء في كلّ العالم، أليس ذلك أمرًا مهمًّا؟! فنحن محتاجون إلى الله في ضروريّات حياتنا، ومفتقرون إليه تعالى في هذا الهواء الذي نتنفّسه؛ وعلينا أن نعلم بأنّ الله هو الذي يمدّنا به، وأنّنا محتاجون إليه، بحيث إذا انسدّ مجرى الهواء، وتأخّر وصوله للإنسان لدقيقتين أو دقيقة واحدة أو بضع لحظات ـ كما لو أرادوا أن يخنقوه مثلاً ـ فكيف سيكون حالُه حينئذٍ؟!
رحمَ الله الحاجّ هادي الأبهريّ، حيث كان يقول:
كنت يومًا مسافرًا إلى قزوين، ولم تكن هناك سيّارة نقل، حيث حصل هذا الأمر قبل سنوات مديدة؛ فجلستُ في المقصورة الأماميّة لشاحنة نقل بضائع لكي آتي إلى قزوين، وكان يجلس بجانبي أحد أفراد الدرك والأمن؛ وحينما وصلنا إلى ملتقى الطرق المؤدّي إلى مدينة كرج، انقلبت الشاحنة، وسقطت في النهر، وقد كنّا في الأسفل، فانقطعت أنفاسنا؛ ولو لم يأتوا إلينا، وتأخّروا عن نجدتنا لعدّة لحظات، لمتنا هناك!
وكان يقول:
أنا لم أمتْ، لكنّني كنتُ أسمع نداء ذاك الدركيّ يصرخ إلى جانبي: أنا دركيّ! أنا دركيّ! تعالوا وأنقذوني!؛ فقلت في نفسي أيضًا: أجل، أنت دركيّ، ولكن لا ينفعك في هذا المأزق أن تكون دركيًّا!.
يقول الحاجّ الأبهريّ:
قد لا تكون لهذه النسمة من الهواء أيّة قيمة؛ لكن، حينما يقع الإنسان في مثل ذلك المأزق، فإنّه يُدرك آنذاك كم تمتلك من قيمة! أجل، نفس هذه النسمة! بحيث إذا هبّت، فإنّها تُحيي الميّت، وإذا لم تهبّ، فإنّ الإنسان سيموت.
وعليه، فإنّنا محتاجون إليه في نسمة هواء واحدة! هل التفتّم جيّدًا إلى معنى «إلهي لا تُؤدِّبني بِعُقوبَتِكَ»؟
حقيقة المكر الإلهيّ
«ولا تَمكُر بي في حِيلَتِكَ»؛
ويُراد من الحيلة: الحذاقة وحدّة النظر وقوّة الذهن؛ إذ حينما يُقال: إنّ الإنسان يحتال في عمله، فإنّ المعنى الأصليّ هنا هو أنّه يركّز نظره، ساعيًا لفهم لبّ المسألة عن طريق إعمال حدّة النظر والفِطنة.
إلهي! لا تمكر بي في حيلتك؛ أي لا تمكر بي بسبب ذلك النظر وتلك الحذاقة اللذين تتوفّر عليهما تجاهي، وبسبب حدّة البصر التي لديك بالنسبة لأموري!.
فـ (مَكَرَهُ) و(مَكَرَ به) لهما معنى واحد؛ و «لا تمكر بي» أي: لا تمكُرني، ولا تخدعني.
لكن، ما معنى الخدعة؟ أفهل يخدع الله تعالى هو أيضًا؟! كلاّ، فالخدعة التي يقوم بها الله هي بإرجاع الخدعة التي يقوم بها الإنسان إلى نفس هذا الإنسان؛ أي أنّ خداع الله يتمثّل في: أن يسعى الإنسان لخداعه تعالى، فلا يُنبّهه إلى خداعه هذا، بل يتركه؛ ولهذا، فإنّ خداع الإنسان لا يصل إلى الله، بل يرجع عليه هو، هو ويمسك بخناقه! لأنّ الإنسان غير خارج عن حكومة الله، وليس له أن يمتلك قدرةً أو علمًا أو خطّة يغلب بواسطتها الإرادة الإلهيّة، ويضطرّها للتراجع؛ كلاّ، فالأمر لا يجري بهذا النحو! إذ مهما سعى الإنسان للخداع، فإنّه يظلّ خاضعًا لحكومة الله تعالى؛ فخداع الله يعني: إنّني أريد أن أحتال عليك، وأتجاوز أمرك؛ وهذا ما لا يمكن تحقّقه أبدًا! وبالتالي، فإنّ هذه المسألة نابعة من قلّة فهم الإنسان وجهله، بحيث يُؤدّي هذا الجهل بذاته إلى وقوعه في المصائب؛ ومن هنا، فإنّ الذي يريد أن يخادع الله، إنّما يُخادع نفسه؛ إذ لا سبيل إلى خداعه تعالى!
وفي هذه الحالة، إذا نبّه اللهُ تعالى الإنسانَ إلى هذه الخدعة، فإنّ هذا الإنسان سيستغفر، ويتراجع، ويُغيّر أسلوبه، فلا يلجأ بعد ذلك للخداع؛ وأمّا إذا لم يُنبّهه إليها، وتركه لحاله، فإنّه سيكون قد خدعه؛ أي: ألقى عنانه بيده، ووكله إلى نفسه؛ وبذلك، سيرجع الخداع على الإنسان بنفسه.
لا تقدر الفأرة على الفرار من القطّة، بل إنّ هذه القطّة تلعب بها، بحيث تكون هي في هذه الجهة، والفأرة في الجهة الأخرى، فتجلس بهدوء وتُحدّق بنظرها إليها؛ وحتّى أنّها في بعض الأحيان تُغلق عينيها، لترى ما الذي سوف تفعله الفأرة؛ وبدورها، تسعى الفأرة ـ طبقًا لظنّها وخيالها ـ إلى استعمال الحيلة، وخداع القطّة، ومباغتتها، والهروب منها؛ فتظلّ ساكنة، ولا تقوم بأيّة حركة؛ وهكذا، إلى أنّ تلجأ فجأة لخداع القطّة، فتهرب منها؛ ظانّةً أنّها قد احتالت على هذه القطّة وخدعتها، وغير ملتفتة إلى أنّ القطّة قد أغلقت عينيها، لكنّها تنظر إليها بخفاء، وروحها بأجمعها متعلّقة بها، وقلبها يخفق عليها، وقد أخرجت جميع مخالبها وأظافرها، لكي تصطادها بقفزة واحدة. فما إن تلجأ هذه الفأرة إلى خداع القطّة، والهروب من بين يديها، والخروج من سيطرتها، والقيام بحركة واحدة، حتّى تقفز القطّة عليها، وتضربها على رأسها؛ لكنّها لا تقتلها، بل تعود ثانية وتجلس مكانها، وتقول لها: اسكتي! لا تتحرّكي! إلى أين تريدين الفرار؟!؛ فتتلاعب بها بهذا الشكل مرارًا وتكرارًا، وتتلاعب، وتتلاعب! حسنًا، تعالي، واستسلمي منذ البداية! لكنّها لا تستسلم، فتبقى في حالة كرّ وفرّ دائمين.
إلهي! لقد فهمنا أنّ كلّ شيء بيدك، فلماذا يتلاعب الإنسان مع الله؟! وإذا كنّا نشاهد أنّ جميع الأعمال تصدر من الله، لا من غيره، فلماذا نسعى باستمرار إلى امتحانه تعالى؟!
أنتم تتصوّرون أنّنا لا نمتحن الله؟! بل إنّنا نمتحنه تعالى باستمرار وفي كلّ يوم ألف مرّة، لكي نرى هل كانَ صادقًا معنا؟ فتجدنا نتوكّل عليه دائمًا، حتّى نرى هل يُثمر هذا التوكّل شيئًا! ونكل أمورنا إليه، ثمّ نرصد النتائج، لكي نرى هل جاءت صحيحة أم لا! فكلّ ذلك امتحان، لكنّ الله تعالى عظيم؛ وهو عظيم حقًّا! فيا له من إله عظيم، نمتحنه بأجمعنا، لكنّه عظيم إلى درجة أنّه لا يواجهنا بتاتًا، ولا يقول لنا: أ فهل تمتحني أيّها العبد؟! إنّني أنا الذي أمتحنك!!؛ فهو عظيم جدًّا!
تمامًا كالطفل الذي يتطاول على أبيه وأمّه، لكنّهما لا يعتنون بذلك، وإنّما يقولون له: نعتذر منك بخصوص المسألة الفلانيّة؛ فنحن الذين تجرّأنا عليك، ولم نكن مؤدّبين معك!.
فتجدنا نُخادع الله تعالى، ونرتكب بعض الأعمال خفيةً، ونقول: لا يهمّ؛ إذ لن يطّلع الباري عزّ وجلّ على ذلك إن شاء الله؛ ثمّ نقوم بهذا العمل، وذاك العمل، وذاك العمل، و...؛ لكنّ الله العليّ الأعلى حاذق في نظره، وهو عليم: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾،۱حيث إنّ جميع الأفعال بيده، وفي قبضته، وتحت مشيئته؛ فإذا نظر إلينا بنظر الرحمة، فإنّه سيُنبّهنا ولو بواسطة العقوبة، وسيعمل على تأديبنا؛ إذ لو أدّبنا بالعقوبة، لكان ذلك أفضل من أن لا يؤدّبنا بتاتًا، لينجرّ الأمر بالإنسان إلى مرحلة الاستدراج، حتّى يصل إلى أسفل سافلين.
هل تعرفون ماذا يعني الاستدراج؟ يعني أن يُلقى العنان بيد الإنسان، ويُترك لحال سبيله، فينحدر إلى الأسفل درجة درجةً، رويدًا رويدًا، بحيث لا يشعر من نفسه أنّه يتنزّل إلى الأسفل، بل يقول: حالي جيّد ولله الحمد، ومعنويّاتي جيّدة، ودنيايَ جيّدة، وآخرتي كذلك جيّدة؛ فمن يا تراه يكون أحسن حالاً منّي؟!؛ لكنّه لا يُدرك أيّ بلاء يحلّ به! فلو تمّ دفعه للأسفل فجأة، لاهتزّ لذلك [وتنبّه] قليلاً؛ لكنّه لا يُدفع فجأةً، وإنّما يُنزل للأسفل رويدًا رويدًا، بحيث لا يحسّ بنفسه بذلك؛ فالاستدراج هو أكبر عذاب! يعني: أن ينزل الإنسان إلى الأسفل تدريجيًّا من دون أن يشعر أو يلتفت.
فبما أنّ الله العليّ الأعلى ما زال ينظر بعين الرحمة إلى ذاك الإنسان الذي يُريد خداعه والاحتيال عليه، وتجاوز أمره، فإنّه تعالى ينبّهه؛ وأمّا إذا لم يشأ تنبيهه، فإنّ هذه الخدعة التي يخادع الإنسان بها الله سترجع على الإنسان نفسه؛ وهذا هي حقيقة المكر الإلهيّ:
﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾٢ فهؤلاء الناس، وهؤلاء الأعداء يمكرون، والله كذلك يمكر، إلاّ أنّ المكر الإلهيّ موضع للرحمة والإعجاب كثيرًا!.
فمكر الله ليس كمكرنا؛ أي أنّه يُرجع مكرنا علينا.
﴿يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾؛٣ فهؤلاء يريدون أن يخادعوا الله ويحتالوا عليهم، لكنّهم لا يعلمون أنّه تعالى هو الذي يخدعهم.
بمعنى أنّ الله تعالى يخدعهم عن طريق نفس الخدعة التي يريدون أن يخدعوه بها؛ فهم يريدون القيام بفعل لا يطّلع الله تعالى عليه، غير أنّهم لا يعلمون أنّ نفس هذا العمل الذي يرتكبونه عن جهل عبارةٌ عن خدعة يخدعون بها أنفسهم؛ لأنّ الفعل الذي يقوم به الإنسان عن جهل لا يخرج عن مرأى الله تعالى ومسمعه؛ بل إنّ هذا الإنسان هو الأعمى والأصمّ، وهو الذي يصدر منه العمل من جهة عماه وجهله.
فحينما يسعى طائر الحجل إلى إخفاء نفسه عن الصيّاد في فصل الشتاء، فإنّه يدخل رأسه تحت الثلج، كي لا يراه هذا الصيّاد، لكنّ هذا المسكين لا يعلم أنّه بإدخال رأسه في الثلج بغية التخفّي من الصيّاد يكون قد تسبّب في رؤية هذا الصيّاد له، بل إنّه يقوم بهذا الفعل في الأساس حتّى يرميه الصيّاد، ويصطاده! فيأتي ذلك الصيّاد ويأخذه بكلّ سهولة. فإن أردت أن تختبئ من الصيّاد، عليك أن تخفي بدنك تحت الثلج، وترفع حافّة عينيك خارجًا لتراقب هذا الصيّاد، لا أن تدخل رأسك في الثلج؛ لأنّك بهذا العمل ستكون قد أعميت نفسك، لا الصيّاد! وعليه، فإنّ طائر الحجل يسعى عن طريق ذلك الفعل إلى إنقاذ نفسه من الصيّاد، غير أنّه لا يقدر على ذلك، ولا يعلم أنّه قد أوقع نفسه في قبضة هذا الصيّاد بواسطة هذا الفعل بذاته.
وهذه هي حقيقة الخدعة التي يلجأ إليها الناس في مقابل الله تعالى، وهم لا يعلمون أنّ هذه الخدعة هي بنفسها خدعة يخدعون أنفسهم بها؛ أي أنّها خدعة يخدعهم الله بها، فيبتليهم تعالى بالأثر العكسيّ لخداعهم.۱
خطورة مكر الله تعالى بالإنسان
يقول الإمام عليه السلام: «إلهي! لا تمكر بي في حيلتك»، أي: بواسطة حدّة نظرك ودقّة اطّلاعك على أموري؛ وذلك يعني: رغم أنّني أسعى للمكر بك، إلاّ أنّني جاهل وعبد؛ فَدَعني، ولا تُرجع مكري عليّ، ولا تبتلني بالآثار العكسيّة لمكري؛ فإن فعلت ذلك، سأكون شقيًّا جدًّا؛ وأمّا إذا عفوت عنّي بعظمتك ورِفعتك، فإنّك ستُلفت نظري، وتتعامل معي على أنّني عبد جاهل، وتُؤدّبني، سواء بواسطة العقوبة أو بدونها؛ فهذا أفضل من أن تمكر بي؛ أي أن تلقي زمام أموري على عاتقي، ولا تنبّهني إلى خداعي، بل ترجعه عليّ؛ لأنّني في هذه الحالة سأقضي مدّة من الزمان في عالم من العمى وفقدان البصر، من دون أن أدري كيفيّة الخروج من هذه الورطة؛ فأظنّ أنّني أقوم بأعمال حسنة، وأنّني أمضي حياتي بنحو جيّد؛ في حين أنّني غير ملتفت إلى أين أذهب! فهذا هو المكر الذي يوقعه العليّ الأعلى بالإنسان.
فتارةً، يريد الإنسان أن يحتال على الله، فيقول له تعالى مباشرةً: لا تحتل يا فلان!، فيقول: حسنًا، سمعًا وطاعة، سمعًا وطاعة، أنا أعتذر، لن أعود إلى ذلك أبدًا!؛ وتارة أخرى، يلجأ هذا الإنسان إلى خداع الله، فيتظاهر تعالى بعدم الاطّلاع والعلم، فيقول الإنسان: هل كان هذا هو رأيك حقًّا؟!، فيجيبه: نعم، نعم! حسنًا، شكرًا جزيلاً، لقد تفضّلت علينا كثيرًا؛ فهو يريد أن يستعمل الحيلة، لكن من خلال إظهار المحبّة وإبداء الخدمة! فيقوم الله تعالى بدوره بإرجاعها إليه بمظهر الخدمة والمحبّة؛ فينزل عليه البلاء بهذا الشكل.
وأمّا إذا نبّهه بأن: يا فلان، إنّ عملك هذا مجانب للصواب، ففي هذا الموضع منه يوجد خطأ، وفي ذلك الموضع يوجد رياء، وفي هذا المحلّ توجد سُمعة، وفي ذلك المحلّ يوجد استكبار، وفي هذا المكان توجد شائبة من الازدواجيّة والنفاق؛ ففي هذه الحالة، سيتنبّه هذا الشخص. وأمّا إذا لم يلتفت الله تعالى إلى الإنسان، فإنّ هذا الإنسان لن يتنبّه، بل سيتمادى في ذلك العمل، ويتمادى، و...، ويسعى باستمرار إلى تكديس العلم والقدرة والثروة والحياة والعزّة وبقيّة الأمور؛ ليصير كلّ ذلك وسيلة لكسب جهنّم، ويبقى هو غير ملتفت إلى أنّه سائرٌ نحو جهنّم؛ فهذا هو المكر في الحيلة.
علّة حاجة الإنسان للتأديب الإلهيّ
«مِن أَينَ لِيَ الخَيرُ يَا رَبِّ وَلا يُوجَدُ إلّا مِن عِندِكَ»؟ إلهي! ربّي! أينَ هو الخير كي أذهب وأحصل عليه؟! إذ لا يُمكن العثور عليه إلاّ عندك.
«وَمِن أَينَ لِيَ النجَاةُ وَلا تُستَطَاعُ إلاّ بِكَ»؟؛أين يقع النجاح والفلاح؟ فلا يكون في متناولي أبدًا، ولا يقع تحت استطاعتي وقدرتي بتاتًا، إلاّ بواسطتك أنت.
هذا كلام رفيع جدًّا؛ إذ لو كان الخير من عندك، وكان موجودًا لدى غيرك أيضًا، لأمكننا أن نخدعك، ونذهب عند هذا الغير، ونكتسب منه هذه الخيرات؛ ولو كانت السعادة والفلاح عندك وعند غيرك أيضًا، لما كنّا محتاجين إلى تأديبك بغير العقوبة، ولا مفتقرين لأن نسألك بألاّ تُرجع علينا حيلتنا ومكرنا، وبألاّ تمكر بنا في حيلتك، بل لَاحْتَلنا عليك، وذهبنا للحصول على تلك النجاة والسعادة وذاك الخير من عند غيرك؛ ولكنّ الحقيقة هي أنّ كلّ خيرٍ في أيّ مكان كان هو من عندك، وكلّ نجاة وفلاح مفترضة ومتصوّرة هي لك.
وحينما يكون الأمر أنّه «وَلا يُمكِنُ الفِرارُ مِن حُكومَتِكَ»،۱ فمن أين لي أن أحصل على الخير يا إلهي؟! فأنت ربّي، ولا يمكنني أن أطلب الخير [من غيرك]؛ إذ لا يوجد الخير ولا يُمكن العثور عليه في أيّ مكان إلّا عندك؛ ولا نجاة ولا فلاح لي، اللهمّ إلّا إذا مكّنتني أنت منهما؛ أي أنّ هذه النجاة وهذا الفلاح إنّما يأتيان من ناحية قدرتك.
«لا الذي أَحسَنَ استَغنى عَن عَونِكَ وَرَحمَتِكَ»؛
فلا الذي يعمل الصالحات يمتلك القدرة، ولا الذي يلجأ للإحسان، يستغني عن رحمتك وعونك، (بحيث يكون هو الذي يقوم بالأعمال الحسنة بحوله وقوّته، ومن دون مساعدتك ورحمتك، وبشكل مستقلّ!).
«وَلاَ الذي أَسَاءَ واجتَرَأَ عَلَيكَ وَلَم يُرضِكَ خَرَجَ عَن قُدرَتِكَ»؛
كما أنّ الذي يقوم بالسيّئات والأعمال القبيحة، ويتظاهر بالشجاعة، ويُريد التغلّب عليك، ويتجرّأ عليك، ويتخطّى دائرة العبوديّة، ولا يرضيك، غير خارج عن قدرتك وسلطانك؛ أي أنّه يقوم بهذه الأعمال في ظلّ قدرتك.
فإن كان بوسع الإنسان الخروج عن قدرة الله وسيطرته، وارتكاب الأعمال السيّئة، فهنيئًا له! إذ مهما قام به من عمل، فلن يكون حينئذ واقعًا تحت حكومته تعالى وسلطانه، ولن يتمكّن الله من الوصول إلى تلك المنطقة التي يرتكب فيها المعصية؛ لكنّ الأمر ليس بهذا النحو؛ إذ مهما كان المكان الذي يقترف فيه الإنسان السيّئات، ويتجرّأ فيه على الله، فإنّه يكون خاضعًا لمـُلك الله تعالى وقدرته.٢
ولهذا، إذا قام العبد المسكين بفعل الخير، فليس له أن ينسبه إلى نفسه؛ لأنّه محتاج إلى عون الله ورحمته أيضًا؛ إذ ليس له استقلال وجوديّ، حتّى يفيض الرحمة من نفسه، بل إنّ الله هو الذي يُفيض هذه الرحمة، فتسطع على ذلك الوجود، لكي يتمكّن من فعل الخير؛ وكذلك لو عمد الإنسان إلى فعل السوء، فإنّه لا يكون في فعله هذا معتمدًا على حوله وقوّته، وإنّما يكون خاضعًا لحكومة الله أيضًا.
«يا ربّ! يا ربّ! يا ربّ! يا ربّ! يا ربّ»!
يقول الإمام: يا ربّ، ويُكرّر ذلك حتّى ينقطع نفسه.
فكم مرّة يستطيع الإنسان أن يقول: «يا ربّ!» في نَفَس واحد؟ فحينما يصل الإنسان إلى هذا الموضع، عليه أن يقول: يا ربّ! يا ربّ! يا ربّ! يا ربّ!
والمراد هنا من «يا ربّ»: أنت الموجود لا غير، وأنت ربّي في إحسانك إليّ، وأنت ربّي في عونك لي، وأنت ربّي في رحمتك لي، وأنت ربّي حينما أتجرّأ عليك وأسيئ إليك، وأنت ربّي حينما أسعى للمكر بك، معتقدًا أنّني قادر على تجاوز أمرك، في حين أنّ المسألة ليست بهذا النحو؛ فأنت ربّي؛ ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾؛۱ أي أنّ الله تعالى يفعل كلّ ما يُريده؛ فأنت ربّي، وأنا أقرّ بذلك وأعترف، وأنت إلهي، ربّي، ربّي، ربّي، ربّي، وأنت وحدك المتكفّل بكلّ شؤوني!
«بِكَ عَرَفتُكَ، وأَنتَ دَلَلتَني عَلَيكَ وَدَعَوتَني إِلَيكَ، وَلَولا أَنتَ لَم أَدرِ مَا أَنتَ»؛
إلهي! أنا عرفتك بك؛ فأنا أعرف من أنت، وأنت الذي دللتني عليك، وأنا لم أعرفك بغيرك بحيث يكون هذا الغير حجابًا وفاصلاً بيني وبينك، بل عرفتك بك أنت، وأنت من أخذت بيدي، وعرّفتني عليك، وأنت الذي دعوتني إليك، ولو لم تكن أنتَ، لما عرفتك؛ فقد أدركتُ أنّه ليس هناك شيءٌ غيرك.
ولندع الحديث عن هذه الفقرة إلى مساء غد إن شاء الله، لنوضّح كيف يُعرّف سبحانه وتعالى الإنسانَ على نفسه، ولنبيّن أنّه ما دامت معرفة الإنسان بالله لم تحصل بدون واسطة، فلن يُعدّ الأمر منتهيًا! لأنّه في هذه الحالة سيعتقد الإنسان دائمًا بوجود حجاب وواسطة بينه وبين الله؛ هذا، مع أنّ المراد هنا من الواسطة: الواسطة المستقلّة!
وأمّا إذا عرف الإنسان الله بالله، وتعرّف على الشمس بنفس الشمس، لا بواسطة النور والظلمة، فسيتسنّى له حينئذ أن يعترف حقًّا بأنّه غير خارج أبدًا عن حكم الله وحكومته، وبأنّ جميع أعماله وتصرّفاته واقعة تحت نظره تعالى، وأنّه مُلزم بالتوسّل به تعالى في كافّة أفعاله؛ «وَلِكُلِّ طَاعَةٍ وَمَعصِيَةٍ لا حَولَ وَلا قُوَّةَ إلاّ بِالله العَلِيِّ العَظِيمِ».٢
اللهمّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ