المؤلّف آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسم الاخلاق والحکمة والعرفان
المجموعة أسرار الملكوت
التوضيح
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
لي مع الله وقتٌ لا يسعني ملكٌ مقرّب ولا نبيٌّ مرسل.
بحار الأنوار، ج ۷٩، ص ٢٤٣.
[ديباجة]
بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب الذي بين يديكم هو الجزء الثاني من كتاب أسرار الملكوت، و هو الكتاب الذي ألّفه سماحة آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ دامت بركاته لشرح حديث عنوان البصري، وتعرّض من خلال ذلك لمجموعة من المواضيع الأساسية والحيويّة من المعارف الدينيّة و مباني الإسلام والتشيّع.
ومن هنا، فقد بادرت لجنة ترجمة وتحقيق «دورة علوم ومباني الإسلام والتشيّع» بتعريب هذا الكتاب وتقديمه للقارئ العربي لتعمّ الفائدة منه.
وهنا نودّ أن نلفت عناية القارئ الكريم إلى بعض الملاحظات والتنبيهات حول عمل اللجنة في هذه الرسالة:
أوّلًا: إنّ أصل هذه الرسالة هو باللغة الفارسيّة، وقد قامت اللجنة بتعريبها.
ثانيًا: إنّ بعض العناوين الموجودة داخل الكتاب خصوصا في المجلس العاشر، وكذلك أغلب العناوين الموجودة في فهرس المواضيع التفصيلي هي من وضع اللجنة، وليست من قبل المؤلّف المحترم. و لكنّ العناوين الأساسية التي في بداية المجالس و كذا أغلب العناوين الرئيسية التي تظهر في المتن هي من سماحته.
ثالثًا: إن جميع التخريجات و الإرجاعات إلى مصادر التحقيق هي من إعداد لجنة الترجمة والتحقيق بقسميها الفارسي والعربي.
رابعًا: عمدت اللجنة إلى إضافة بعض التوضيحات في الهامش في بعض المواطن التي تساعد القارئ الكريم على فهم المراد من النصّ، وهذه التوضيحات هي من قبل اللجنة وليست من قبل المؤلّف المحترم، وقد أشرنا إليها بالرمز (م).
خامسًا: الطريقة التي اعتمدتها اللجنة في ترجمة النصوص المنقولة عن كتب العلّامة الطهراني رضوان الله عليه هو نقل النصّ المقابل من النسخة العربيّة للكتاب دون إعادة الترجمة، اللهمّ إلّا في بعض الموارد التي رأينا أنّ الترجمة العربيّة للنصّ المنقول غير وافيةٍ، فقمنا بترجمة الأصل الفارسي للمقطع المنقول رعايةً للدقّة.
وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.
لجنة ترجمة وتحقيق
«دورة علوم ومباني الإسلام والتشيّع»
المجلس التاسع: الاشتغال بالعلوم الظاهرية المتعارفة غير كافٍ لتحصيل مراتب اليقين و الكمال
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربِّ العالمين
وصلّى الله على محمّد وآلِهِ الطاهِرِين
ولعنةُ الله على أعدائِهِم أجمعين
يقول عنوان البصري:
«كنتُ أختلفُ إلى مالك بن أنس سنينَ، فلمّا قدم جعفر الصادق عليه السلام المدينة، اختلفتُ إليه وأحببت أن آخذ عنه كما أخذتُ عن مالك.
فقال لي يومًا: إني رجلٌ مطلوبٌ (وقد جعلَت الحكومة عليّ العيونَ والجواسيس؛ ولذا لا أقدر على إقامة علاقة مع أيّ شخص بحرّية)، ومع ذلك لي أوراد في كلّ ساعةٍ من آناء الليل والنهار، فلا تشغلني عن وِردي وخذ عن مالك واختلف إليه كما كنت تختلف إليه»
في هذه العبارة نقاط دقيقة مهمّة يجدر التوقّف عندها والتدقيق بها، سواء في كلام عنوان أو فيما تفضّل به الإمام الصادق عليه السلام، وأهمّ هذه النقاط:
العلم الظاهري لا يروي الظمأ و لا يسدّ الخلل في نفس الإنسان
كان عنوان يأخذ العلم عن مالك بن أنس سنين متمادية، لكنّ ذلك لم يكن ليُقنعه أو يُشبعه أبدًا، ولم تكن تلك الروايات الكثيرة التي كان يرويها له مالك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتروي ظمأه، كما أنّ الفراغ الذي كان يشعر به عنوان البصريّ في وجوده، والنقصان الذي كان يحسّ به في ضميره كانا يقضّان مضجعه
ويحثّانه على الرجوع إلى الأعلم والأكثر بصيرة والأعرف في جميع المسائل والقضايا، وهذه النقطة تحوز على أهميّةٍ عاليةٍ؛ وذلك لأنّ الروايات التي كان مالك يرويها طوال تلك الفترة، كانت جميعًا منقولةً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، أو على الأقلّ كان القسم الأكبر منها منقولًا عن الرسول؛ فلماذا إذن كان ينتاب عنوانَ الإحساسُ بالحاجة إلى الإمام عليه السلام؟ ولمَ كان يشعر بعدم الاكتفاء بالعلوم التي كان يتلقّاها مِن مالك؟
السبب في ذلك واضح؛ لأنّ العلوم التي كان عنوان يسعى إليها تختلف عن العلوم التي كانت شائعةً ومتعارفةً في ذلك الزمان، فهدف العلوم المتداولة والغاية منها هو اكتناز بعض المسائل وحفظ مجموعةٍ من المواضيع، وتخزينها في مكان خاصّ، فمثلًا إذا أراد شخصٌ أن يسعى للحصول على البلاغة وحفظ دقائق المسائل الأدبيّة وأن يتوسّع بها، يمكنه الوصول إلى مراده من خلال مطالعة قواعد اللغة، وقراءة الأشعار البليغة والاهتمام بالمقالات المعروفة والدرس لسنين طويلة، وكذلك من يدخل في اختصاص من الاختصاصات الطبيّة، فعليه أن يصرف سنواتٍ من عمره في التعلّم والتجربة، حتّى يصل إلى مرحلة الاستغناء، ويصير من أهل التخصّص والنظر في هذا المجال، وكذا الحال في تعلّم العلوم المعروفة والمتداولة؛ من الفقه والأصول والتفسير وما شابهها، إذ لا بدّ أن يبذل طالبها سنين من عمره في التعلّم والبحث حتّى يصير من أهل النظر فيها، ويرى نفسه مستغنيًا عن اقتناص آراء الآخرين والاعتماد على مبانيهم، رغم أنّه قد يكون مخطئًا ومشتبهًا في تصوّره هذا، واعتقاده أنّه قد وصل إلى هذا المقام ناشئ من جهله المركّب.
ولكنّ الذي كان عنوان البصري يبحث عنه كان شيئًا آخر؛ لقد كان يبحث عن العلم الذي يمكنه أن يروي عطش روحه، وينظّم فكرَه التائه، ويشفي ضميره المضطرب المشتّت بمراهم المعرفة والبصيرة، ويربط روحه المنهكة بمنبع العلم، فيبعث فيها الحياة بسقيها من الماء المعين وعين الحياة، وهذا الأمر ما كان ليتحقّق من
خلال هذا النوع من العلاقات والمحادثات والمجالس، بل هو يتطلّب وسائلَ وأدواتٍ وراء الدرس والتدريس الظاهريّ واكتساب العلوم المدوّنة والمتعارفة؛ فقد يحفظ شخصٌ مقدارًا كبيرًا من هذه العلوم، ويمكنه أن يردّدها ويعيدها دون اشتباه كشريط المسجّل تمامًا، بل قد تكون عنده المهارة اللازمة لشرح المواضيع وتوضيحها، لكنّه مع ذلك يكون عاجزًا عن أن يداوي وجعًا في الإنسان، أو أن يبعث الحياة في روحه والنشاط في ضميره وسرّه، أو أن يبدّل الآلام الباطنيّة التي تكتنفه إلى حالةٍ من الصحّة والكمال؛ وسرّ ذلك أنّ الكلام إنّما يكون مؤثّرًا إذا كانت نفس المتكلّم قد وصلت إلى إدراك حقيقة هذا الكلام الذي يتكلّم به ومحتواه، لا أن تكون مجرّد كلمات صادرة من المعلومات المحصّلة بالقراءة والحفظ، بل يكون حصولها له من باب الشهود وإدراك الحقيقة الواقعيّة، وببيانٍ آخر: عندما يكون نفس المتكلّم متعيّنًا بتعيّن ذاك الكلام ومصداقًا خارجيّاً له.
الاختلاف الجوهري بين العالم العارف و علماء الظاهر
حينئذٍ ستختلف هذه العبارة التي يصدرها هذا الإنسان عن سائر العبارات المشابهة لها، فكيفيّة هذه العبارات وبيانها تختلف عن كلمات الآخرين وعباراتهم؛ وذلك أنّ مثل هذا الشخص يراعي الموارد والحالات المختلفة فيذكر الكلام المناسب لكلّ مورد؛ لأنّه محيطٌ بحقيقة الموضوع، ولديه إشرافٌ كاملٌ على ظروفه الخاصّة، فلا يطلق حكماً واحدًا على الجميع كما لا يتحدّث عن فكرةٍ واحدةٍ في كلّ مكان، بل تجده يبيّن الأفكار والمواضيع المناسبة لخصوص الشخص المخَاطب مراعيًا ظروفه وحالاته الخاصّة به، وكثيرًا ما يتحاشى طرح نفس الموضوع على سائر الأشخاص؛ لأن الظروف لا تتحمّل تلقّي مثل هذا الكلام.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في الخطبة ۱۰٤، عند بيان خصائص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«اختاره من شجرة الأنبياء ومشكاة الضياء وذُؤابَة العلياء وسُرّة البطحاء ومصابيح الظلمة وينابيع الحِكمة، طبيبٌ دوّارٌ بطبّه قد أحكم
مراهمه وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه؛ من قلوب عُمي وآذان صُمّ وألسنة بُكم، متّبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة»۱.
أجل، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك؛ يشخّص المرض بأفضل الطرق الممكنة، فيصف الدواء الوحيد المناسب له، وكذلك كان سائر المعصومين عليهم السلام، والأولياء الإلهيّون العظام، حيث كانوا يطّلعون -بواسطة نور الولاية، وعبر الإشراف على ضمائر النفوس وأسرار القلوب وخفايا الصدور- على أمراض النفوس ونقائصها وزلّاتها؛ ولذا كان بوسعهم أن يصفوا الدواء الشافي للأمراض الروحيّة، ويضعوا لكل موردٍ بخصوصه طريقًا ومسارًا خاصًّا به، ولا يمكن لغير هؤلاء أن يطّلع على هذه الأمور أبدًا، حتّى ولو كان علّامة دهره في العلوم الظاهريّة، وكان لديه إشرافٌ كاملٌ وتسلّطٌ واسعٌ على العلوم العاديّة.
أذكر أنّه في أواخر سلطة الشاه الپهلوي، وفي الفترة الساخنة من أحداث الثورة والأعمال الجهاديّة للشعب الإيراني، في إحدى الليالي عُدْنا نحن والمرحوم الوالد -أعلى الله تعالى مقامه- من مسجد القائم إلى المنزل سيرًا على الأقدام، وفي الطريق مررنا بدكّان يبيع الصحف، فوقع نظره على صورةٍ لأحد الأشخاص الموجودين في الخارج والمقرّبين جدًا من المرحوم آية الله الخميني رحمة الله عليه، وكان هذا الشخص يعتبر من القلائل المعتمدين عنده والموثوقين لديه، فتوقّف وسألني عن صاحب هذه الصورة التي وضعت في الصحف؛ فقلت له: هذا فلان٢، وهو يُعدّ من المقرّبين من آية الله السيّد الخمينيّ، فنظر نظرةً عميقةً جدًا للصورة ثمّ نظر إليّ وقال:
«في القريب العاجل سوف تُبتلى إيران بسبب هذا الشخص بمصائب لا تنجبر أبدًا!»
رجوع الكثير من العلماء إلى أستاذٍ مربٍّ لتزكية نفوسهم
هل يمكن إدراك هذه المطالب وأمثالها من خلال العلوم الظاهريّة والمعارف المتعارفة عند الناس؟! لهذا السبب نشاهد أنّ الكثير من العلماء والعظماء من أهل العلم والمعرفة بعد إتمامهم فترة الدراسة والتدريس ووصولهم إلى المراتب العالية في الفقه والاجتهاد وحصولهم على سائر العلوم والفنون .. نشاهد أنّهم يجدون نفوسَهم ظمأى لماء المعرفة، ويرون أرواحهم تائهةً وحائرةً في ميادين التحقيق والطلب، ويدركون أنّ ما حصلوا عليه في هذه المدّة المتمادية من البحث والتحقيق لم يغنهم عن التربية والتعليم والتزكية عند أستاذ خبير بالمصالح والمفاسد ومطّلع على الأسرار والخبايا، فيشرعون بعدها بالبحث عن منبع ماء الحياة -كالعطشان الواله- فيرحلون من مدينة إلى أخرى ومن مكانٍ إلى آخر طلبًا له.
يقول المرحوم آية الله السيّد الوالد -قدّس الله رمسه- في مقدّمة كتابه القيّم «رسالة لب اللباب» حول هذا الموضوع:
«ومن هنا يتّضح أنّه من أجل إكمال النفس وطيّ مدارج ومعارج الكمال الإنساني لا يصحّ الاقتصار على العلوم الإلهيّة الذهنية والفكرية -كتعلّم الفلسفة وتعليمها- بوجهٍ من الوجوه.
فترتيب القياس والبرهان على أساس المنطق الصحيح والمقدّمات السليمة يُعطي الذهن نتيجةً مقنعةً، ولكنّه لا يُشبع الروحَ والقلب، ولا يروي النفس من عطش الوصول إلى الحقائق وشهود دقائق السير.
فالفلسفة والحكمة وإن كانت تتمتّع بالأصالة والمتانة، وتقوم على إثبات أشرف العلوم الذهنيّة والفكريّة -ألا وهو التوحيد- على أساس البرهان، وتسدّ طرق الشكوك والشبهات، وبذلك أمرَ القرآن الكريم وجاءت به الروايات الواردة عن الراسخين في العلم والحافظين للوحي وللنبوّة، حيث حثّت على التعقّل والتفكّر وترتيب القياس والبرهان والمقدّمات الاستدلاليّة، إلا أنّ الاكتفاء بالتوحيد الفلسفي والبرهاني في مدرسة
الاستدلال دون انقياد القلب ووجدان الضمير وشهود الباطن هو أمرٌ ناقص.
فتجويع القلب والباطن من الأغذية الروحيّة والمعنوية لعالم الغيب والأنوار الملكوتيّة؛ الجمالية والجلاليّة، والاكتفاء بالسير في بواطن الكتب والمكتبات والمذاهب، والاقتصار على الدرس والتدريس حتّى وإن بلغ أعلى درجاته، لكنّه ليس إلّا إشباعًا لعضوٍ من الأعضاء وتجويعًا لعضوٍ أعلى وأرفع.
فالدين القويم والصراط المستقيم يُراعي كلا الجانبين، ويُكمّل القوى والقابليّات الكامنة في الإنسان في الحالين.
فهو -من جانبٍ- يحثّ ويُرَغِّبُ بالتعقّل والتفكّر، ومن جانب آخر يأمر بالإخلاص وتطهير القلب من صدأ الرواسب الشهوانيّة، وتهدئة القلب وطمأنة الخاطر وتسكينه؛ فبعد أحد عشر قَسَماً عظيماً وجليلًا يقول تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها﴾۱»٢.
وجاء في الدعاء المنسوب لأمير المؤمنين عليه السلام:
«اللهم نوّر ظاهري بطاعتك، وباطني بمحبّتك، وقلبي بمعرفتك، وروحي بمشاهدتك، وسرّي باستقلال اتصال حضرتك، يا ذا الجلال والإكرام»٣
(يطلب الإمام من الله تعالى في هذه العبارة من الدعاء أن يمنحه النور الحقيقيّ من خلال المعرفة القلبيّة الواقعيّة ومن خلال المشاهدة الروحيّة، والأفضل من ذلك والأهمّ هو طلب اتّصال سرّه بذات الله الأحديّة، واندكاكه فيها؛ فأين هذه المراتب من الاكتفاء بالعلوم الظاهرية الأعمّ من العقليّة والنقليّة؟!).
رجوع الشهيد المطهّري إلي العلّامة الطهراني نموذجًا
وكنموذجٍ بارزٍ لهذه الحاجة وهذا الإدراك والمعرفة الحقيقيّة، يذكر المرحومُ الوالد في مقدّمة «رسالة لبّ اللباب»، المرحومَ آية الله الشيخ مرتضى المطهّري رضوان الله عليه، فيقول:
«وهذا صديقي المكرّم وسيّدي المعزّز الأشفق الأخ المرحوم آية الله الشيخ مرتضى المطهّريّ رضوان الله عليه الذي تمتدّ معرفتي به إلى أكثر من خمس وثلاثين سنة قد اكتشف بعد سنوات من البحث والدرس والتدريس والكتابة والخطابة والموعظة والتحقيق والتدقيق في الأمور الفلسفيّة بذهنه الوقّاد ونفسه النفّادة أنَّ الإنسان لا يمكنه أن يُحصِّل اطمئنان الخاطر وتهدئة السرّ دون الاتّصال بالباطن والارتباط بالله المنّان وإرواء القلب من منبع الفيوضات الربّانيّة، وبدونه لا يمكنه أبدًا أن يدخل حرم الله المطهّر أو يطوف حوله ويصل إلى كعبة المقصود.
فتقدّم إلى هذا الميدان كالشمعة المحترقة الذائبة، والفراشة الهائمة حول السِراج، كمؤمنٍ رساليٍّ عاشقٍ ولهان قد فُني في البحر اللامتناهي لذات المعبود وصفاته وأسمائه، فاتّسع وجوده بسعة وجود الله تعالى.
فقِيام الليالي الحالكة والبكاء والمناجاة في خلوة الأسحار، والتوغّل في الذكر والفكر والممارسة في دراسة القرآن والابتعاد عن أهل الدنيا والاتّصال بأهل الله وأوليائه، كلّ هذا كان مشهودًا في سيره وسلوكه رحمة الله عليه رحمةً واسعةً. ﴿لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ﴾۱ ، ﴿نَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾٢ و٣
والنقطة الدقيقة البالغة الأهميّة هنا، والتي يجب الالتفات إليها، هي: أنّ المرحوم الوالد رضوان الله عليه يذكر هذه العبارة بحقّ شخصيّةٍ كانت معروفةً لدى الجميع
بمراتب الإخلاص وصفاء الباطن، ومشهورةً بالاشتغال بالأمور العِلميّة والمعرفيّة، والوعظ والخطابة والإرشاد والتحقيق والتدريس، والمداومة على صلاة الليل منذ فترة شبابه، لكنّ الذي جعل الشهيد المطهري رضوان الله عليه في أواخر عمره متمايزًا عن الآخرين، والذي أضفى عليه شخصيّةً جديدةً -بحيث صار تميّزه هذا واضحًا عند جميع من يعرفه، حتّى ظهر ذلك أيضًا من خلال خطبه وبرز باختلاف كيفيّة محاضراته في الأدوار المختلفة من حياته- هو ارتباطه بالمرحوم آية الله الوالد السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني أعلى الله درجته، وأخذه الدستورات السلوكيّة منه، واتّباع ممشاه ومرامه والسير وفق برامجه من الاشتغال بالأذكار والأوراد وسائر الأمور الشخصيّة والاجتماعية، وقد أشير إلى هذه الحقيقة أيضًا في بعض الكتب التي طبعت مؤخّرًا وتناولت شخصيّته.
لقد كان المرحوم المطهرّي رضوان الله عليه عالماً خطيبًا فقيهًا، وكان يُشار إليه بالبنان في مجال التحقيق والتدقيق في المسائل الإسلاميّة في أبعادها المختلفة، وفي بيان مواطن ضعف الآراء وقوّتها، كما كان دقيقًا في عرض عقائد الآخرين وآرائهم، وقد تتلمذ الكاتب على يديه ودرس عنده قسمًا من كتاب «الأسفار» لصدر المتألّهين، وقد استفدتُ كثيرًا من تحقيقاته العِلميّة والفلسفيّة خصوصًا في دروس الفلسفة، و واقعًا يجب أن أقول: إنّ لسماحته فضلًا كبيرًا على الحقير في هذا المجال، فجزاه الله عن الإسلام وعنّا خير جزاء المعلّمين.
ولكن -ورغم كل هذه الأوصاف الكريمة- لنا أن نسأل: ما هو العامل الذي أوجب عليه أن يُسلِّم زمام أموره الشخصيّة ونشاطاته العلميّة والاجتماعيّة واضعًا إيّاها في يد العارف الربّاني والفقيه الصمداني ومربّي النفوس المرحوم آية الله السيّد الوالد قدّس الله نفسه الزكيّة، بحيث يحصل له هذا التحوّل العظيم في أخلاقه وروحيّته وطريقة تفكيره؟! أليس السبب في هذا هو إحساسه بالعطش والنقص الوجوديّ تجاه المراتب العينيّة والشهوديّة لمدركاته ومعلوماته الذهنيّة؟ فلو كانت
سعة معلوماته ومدركاته قد أشعرته بالغنى والاستقلال والاستقامة في شؤونه الخاصّة، هل كان ليتتلمذ على يد أستاذٍ سلوكيٍّ ومربٍّ أخلاقي كالمرحوم الوالد جاعلًا نفسه تحت تصرفه بوصفه تلميذًا يتربّى على يديه ويتعلّم منه ويستعين به؟! وهل كان لِيسعى إلى إرواء نفسه وروحه من نبع ماء الحياة ذاك؟ وبعبارةٍ أخرى: لماذا لم يكنْ الأمر بالعكس؛ بأن يذهب المرحوم الوالد رضوان الله عليه ويكون في خدمته، ويتربّى على يديه، ويأخذ منه دستوراته وبرامجه السلوكيّة بعنوان أنّه تلميذٌ لأستاذٍ سلوكيٍّ؟
ها هنا نفهم تلك المسألة المهمّة والحيويّة: وهي أنّ مجرّد الاطّلاع على العلوم الحوزويّة المتعارفة واكتساب المعلومات والمحفوظات، من دون الوصول إلى نبع اليقين، و بدون تجلّي الأنوار الإلهيّة الباهرة، وتبدّلِ الآراء النفسانيّة وتحوّلِ النفس الأمّارة إلى نفسٍ مطمئنةٍ، والاستقاء مباشرةً من النفس الملكوتيّة لصاحب مقام الولاية الكبرى عليه السلام؛ سيكون أمرًا لا يُسمن ولا يغني من جوع.
نعم، يجب الانتباه إلى أنّ رجوع العالم إلى مربّي النفوس ومهذّب الأخلاق ليس من باب نقصه وجهالته ووجود عيبٍ فيه، بل هذه المسألة هي عين الكمال والرشد والذكاء واللطف الإلهي الذي منّ الله به عليه، كما أنّ رجوع المرحوم آية الله الوالد قدّس الله نفسه ولجوئه إلى أساتذته الأخلاقيّين كان من هذا الباب أيضًا، وهنيئًا للشخص الذي يخطو بقدمٍ راسخةٍ وإيمانٍ عميقٍ ويضع قدمه في هذا الطريق، دون الالتفات إلى كلام الخلق الحيارى ونقضهم وإبرامهم، ودون الاكتراث بما يستصوبه الجاهلون ويستحسنوه، وبعيدًا عن وساوس النّاس الخنّاسين، وغوغاء من لا خَبر لديه عن عالم القُدس .. هنيئاً لمن لا يلتفت إليهم بل يُوكل زمام أموره إلى وليٍّ كاملٍ ومرشدٍ واصلٍ فيحرّر نفسه من كلّ القيود و الأغلال، ويرجّح الفلاح الأخرويّ على الحطام الدنيويّ، ويفضّل الشُرب من منبع ماء الحياة على الأماني والأوهام الواهية، وسراب الاعتبارات الخاوية والتخيّلات الباطلة، ولا يتوجّه إلى الكلام الفارغ
والحديث الزائف الذي يصدر من أشخاصٍ بطّالين، بل يعمل على الاهتمام بنفسه ورفع نقائصه وعيوبه، ولا يكترث أبدًا لأيّ لومٍ أو تأنيبٍ من أحدٍ، ولا تأخذه الرهبة من كلامهم.
وهنا لا أرى استطرادًا أن أشير إلى بعض الأسباب التي لفتت نظر المرحوم المطهّري -رحمة الله عليه- وشدّت انتباهه إلى المسائل السلوكية، فكانت سببًا في تمايله إلى المرحوم الوالد رضوان الله عليه:
القضيّة الأولى ترجع إلى سنة ألفٍ وثلاثمائةٍ وثلاثةٍ وأربعين (۱٣٤٣) هجريّ شمسي، أي بعد سنةٍ من شروع حركة الثورة الإسلاميّة في إيران۱، ففي صيف ذاك العام تشرّفتُ بالذهاب مع المرحوم الوالد رحمة الله عليه -وكنت طفلًا ذا ثمان سنوات تقريبًا- إلى مشهد المقدّسة للزيارة، وفي ليلة من الليالي دُعينا إلى منزل أحد علماء مشهد، للتداول في الحوادث التي وقعت بعد سنة اثنين وأربعين، والبحث في الطريق الذي ينبغي أن نسلكه بحيث يكون متناسبًا مع أحداث تلك الفترة وظروفها، وكان من جملة المدعوّين في تلك الجلسة المرحوم الشهيد المطهّري وشخصٌ آخر باسم محمّد تقي شريعتي، وفي تلك الجلسة التي طالت ثلاث ساعات، جرى بحثٌ بين المرحوم الوالد رضوان الله عليه وبين هذا الشخص المذكور حول كيفيّة نزول الوحي وحقيقة استقراره في قلب رسولالله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلاقة الآيات القرآنيّة بحقائق عالم الوجود، وكان ظاهرًا أنّ ذلك الشخص كان مخالفًا لكثيرٍ من المباني المُتقنة القويمة والحقّة للمرحوم الوالد، ولم يكن على استعدادٍ للقبول بها أبدًا، والحاصل أنّ المجلس انفضّ بعد ذلك بحالةٍ من التعب وضمن جوٍّ محموم وفضاءٍ معكّرٍ، ثمّ بعد الرجوع إلى المنزل، قال المرحوم الوالد رضوان الله عليه لأحد الأصدقاء: لم أرتحْ أبدًا لهذا الشخص!
وبعد مضي أشهرٍ على هذه الحادثة، ذهب المرحوم الوالد في أحد الأيام إلى مسجد «أرك» للمشاركة في مجلس عزاءٍ عن روح عالمٍ من علماء طهران، ومن باب الصدفة كان المرحوم المطهرّي رحمة الله عليه حاضرا في ذلك المجلس أيضًا، وبعد انتهاء المجلس جاء المرحوم المطهرّي إلى المرحوم الوالد فسلّم عليه و سأله عن أحواله ثمّ قال له: لقد جاء محمّد تقي شريعتي إلى طهران منذ أيّام، فإنْ لم يكن لديكم مانعٌ، فلنذهب للقائه. لكنّ المرحوم الوالد لم يقبل، فقال له المرحوم المطهرّي: فهل تأذن لي أن آتي بصحبته إلى منزلكم؟ فرفض المرحوم الوالد هذا الطلب أيضًا، وقال: ليس لديّ مجال لملاقاة هذا الشخص. فانزعج المرحوم المطهّري بعض الشيء من هذه المسألة وتكدّر صفوه، ومهما أصر على المرحوم الوالد محاولًا إقناعه، لم يكن ليصل إلى نتيجةٍ أو يُوفّق في ذلك، والحاصل أنّهما افترقا بعد أن يئس من إقناعه وذهب كلٌّ منهما بحال سبيله.
وبعد مضيّ اثني عشر عامًا على هذه القضيّة، التقى أحد معارف المرحوم الوالد رضوان الله عليه بالمرحوم المطهرّي ونقل عنه أنّه قال:
«منذ اثني عشر عاماً وأنا أفكّر في فعل السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني وتصرفه المحيّر، وكثيرًا ما كنت أرى أنّ رأيي في هذه المسألة أرجح من رأيه، ونظري أصوب من نظره، وكنت أُخطّئه في ذلك الموقف؛ حتّى اتضحت لي بعض القضايا وعرفت بعض الأمور من خلال وقوفي على حقائق هامّة، ومنذ ذلك الحين علمت أنّ الحقّ كان مع السيّد محمّد الحسين، وأنّه كان مطّلعًا على أسرار نفس هذا الشخص وواقفًا على خفايا ضميره قبل اطّلاعي على حقيقة الأمر باثني عشر عامًا، فالسيّد محمّد حسين كان قد وصل -منذ ذاك الزمان- إلى النتيجة التي وصلت أنا إليها مُؤخّرًا ولكن بعد مضي مدّةٍ طويلةٍ! وهذا إنْ دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّه كان ينظر في ذلك الوقت إلى هذه المسألة من أفقٍ مختلفٍ عن الأفق الذي كنّا نحن وأمثالنا ننظر من خلاله، وكان يتلقّى المسائل من وادٍ غير عاديّ ولا ظاهريّ، ذاك الوادي الذي لا علم لنا به ولا خبر».
أجل! هكذا تختلف الآراء وتتمايز الأنظار في القضايا والمسائل المختلفة، والتي غالبًا لا يستطيع الإنسان بواسطة النظر العادي والميزان الظاهري أن يصل إلى حقيقتها أو أن يفهم كُنهها، بل تتطلّب نظرًا وراء النظر الظاهري .. ذاك النظر الموجود في النفوس المنيرة والضمائر النورانيّة لأولياء الحقّ فقط .. أولئك الذين كُشفت عن بصائرهم حُجب الغيب والجهل.
أمّا القضيّة الثانية، فترجع إلى فترة نشاطه في حسينيّة الإرشاد:
في ذاك الزمان، كان يدعو شخصًا باسم الدكتور علي شريعتي إلى حسينيّة الإرشاد للتحدّث وإلقاء بعض الخطب، وكان لدى هذا الشخص مهارةٌ استثنائيّةٌ في فنّ الخطابة وتبيين المراد وإيصال الأفكار والسيطرة على أذهان المخاطبين، وكان يسحر المستمعين بكلامه الجذّاب إلى حدّ أن كلامه كان يظهر أنّه أقرب إلى السحر والتسخير منه إلى الخطابة والكلام المتعارف، وكأنّ المرحوم المطهري نفسه كان قد وقع تحت تأثير أسلوبه ذاك، فحتّى هذا العالم البصير النقّاد لم يكن في مأمنٍ من سهام تسخيره وبيانه الساحر، فكان رأيه فيه في بداية الأمر إيجابيّاً، ومُقارِنًا للمدح والثناء إن لم نقُلْ أنّ الأمر كان أبعد من ذلك.
ففي رسالة كتبها في سنة ۱٣٤٦ هجري شمسي إلى ذلك الشخص، يقول المرحوم المطهري:
«الأخ العزيز العالم علي شريعتي! إنّ قلبك يشهد على مدى حبي لك، وإنّ عندي أملًا كبيرًا في أن يكون لك في المستقبل دورٌ رائدٌ في تعريف جيل الشباب على الحقائق الإسلاميّة، كثّر الله من أمثالك ...»۱.
يمكن أن يظنّ البعض بأنّ تمجيد المرحوم المطهرّي لهذا الشخص ودعوته إيّاه كانت على أساس بعض المصالح التي اقتضتها ظروف ذلك الزمان والشروط
الحاكمة في ذلك الوقت؛ لكنّ هذا الظن ليس في محله؛ لأنّه أوّلًا: لهجةُ هذه الرسالة تحكي عن حقيقةٍ غير قابلةٍ للإنكار، وثانيًا: إنّ نفس الكاتب كان حاضرا وشاهدًا على بعض اللقاءات التي كان المرحوم المطهري يُجريها مع المرحوم الوالد رضوان الله عليه والتي كان يدافع فيها عن طريقة ذاك الشخص وأفكاره وعقائده، وإذا كان هذا الأمر مخفيّاً عن البعض فهو واضحٌ وجليٌّ تمامًا للكاتب.
وبعد قيام مؤسّسة حسينيّة الإرشاد بنشر كتاب «محمّد خاتم الأنبياء»، قال المرحوم الوالد رضوان الله عليه حينئذٍ لأحد علماء طهران وإمامِ أحد المساجد فيها: «يجب أن يُغيّر اسم حسينيّة الإرشاد إلى عُمَريّة الإضلال»!.
فقام ذاك العالم المحترم بإيصال هذا المطلب إلى مسامع المرحوم المطهرّي، فما كان من الأخير إلّا أن قام بالاتصال مباشرة بالمرحوم الوالد، وأخذ منه موعدًا للّقاء، وحصلت هذه الجلسة في إحدى ليالي الشتاء الباردة في منزل المرحوم الوالد رضوان الله عليه، وطالت من الساعة التاسعة مساءً حتّى الساعة الثانية عشرة.
في البداية قال المرحوم المطهري رحمة الله عليه: عندما سمعت هذا الكلام من جانبكم تألّم قلبي وتأثّرتُ كثيرًا؛ فأنا منذ بداية إقامتي للنشاطات في حسينيّة الإرشاد، قد سمعت الكثير من الانتقاد والاعتراض بل والطعن فيَّ، وحصل مثل ذلك حتّى في هذه الأيّام الأخيرة حيث ذهبت إلى مسجد «أرك» في طهران لحضور مجلس عزاءٍ هناك، وحينما دخلت المجلس قام الخطيب فورًا بتغيير كلامه ووجّه خطابه إليّ متّهماً إياي بالتسنّن ضمن عباراتٍ نابيةٍ وقبيحةٍ، ووصف المرحوم والدي (والد الشيخ المطهري) صريحًا بأنّه سنّيٌّ مخالفٌ و معاندٌ لأهل البيت عليهم السلام، حتّى علم جميع أهل ذلك المجلس أنّ كلام الخطيب كان موجّهًا إليَّ، وصاروا ينظرون إليَّ ويبحثون عن أثر كلامه في قسمات وجهي، ولكن -مع ذلك كلّه- لم تُؤثِّر هذه الأمور فيّ شيئًا وتجاوزت عنها؛ أمّا كلامكم هذا فقد أثّر فيّ كثيرًا وأقلقني بحيث سلب منّي
نومي وطعامي، فماذا رأيت من الأمور المخالفة لمدرسة أهل البيت وعقيدتهم في هذه المؤسّسة حتى تعبّر عنها بهذا التعبير؟!
فأشار العلّامة الطهراني إلى بعض الأمور التي جرت وبعض المسائل التي حصلت في حسينيّة الإرشاد، وذكر من جملة تلك الأمور المقالة التي أدرجها عليشريعتي في كتاب «محمّد خاتم الأنبياء»۱، والتي صرح فيها بأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد أيّد إمامة أبي بكر للصلاة جماعةً بالمسلمين، وأنّه أظهر رضاه باجتماعهم على الاقتداء به.
فشرع المرحوم المطهري بالدفاع عن محتوى المقالة المذكورة، وقال:
«هذا الأمر منقول عن كتاب «تاريخ الطبري»، وما الإشكال في النقل عن مصدر غير شيعي؟!»
فأجابه المرحوم الوالد رضوان الله عليه:
«كيف تتفوّه بهذا الكلام؟! فأنت تنشر هذا الكتاب باسم التشيّع وباسم حسينيّة الإرشاد، وتحت عنوان الترويج لمباني مدرسة التشيّع، وتقوم بنشره في جميع المدن وتوصِله لجميع القرّاء وترسله إلى كافّة المجامع العلميّة، فسوف يعتبر جميع المطالعين لهذا الكتاب أنّه متطابق مع مدرسة التشيّع، وسيعتقدون بأنّ مطالبه مستقاةٌ من مباني التشيّع الأصيلة، فكيف تقول: ما المشكلة في الأخذ من مصدر غير شيعي والاستفادة منه؟! هل أنت في بلد يسكنه أهل العامّة؟! أليس تبيين وتوضيح المباني الأصيلة للتشيّع بعهدتك أنت وأمثالك؟ وهل يمكن للإنسان أن يضع الحقّ تحت قدمه ويتنازل عن أصوله اليقينية ومسائله المتقنة تحت أيّ ذريعة وبأيّ سبب؟! فإذا نشرت هذا الكتاب الذي يحتوي على مطالب مخالفةٍ للواقع
ومخالفةٍ للحقّ من وسط مجتمع شيعيّ ونشرته وأوصلته إلى كلّ مكان، فماذا سيكون جوابك عندما تنحرف أذهان بعض الأشخاص الذين يطّلعون على مضامين هذا الكتاب، فيعتقدون خطأً بأمور باطلة و يؤمنون بها؟!».
عندها طأطأ رأسه، ثمّ رفعه بعد لحظات وقال: «نعم الحقّ معك، لقد كان نشر هذه الأمور خطأً فادحًا».
وبعد ذلك بدأ الحديث عن سائر أفكار ذاك الشخص وعقائده ومنهجه، وقال المرحوم الوالد رضوان الله عليه للمرحوم المطهّري صراحةً:
«إنّ هذا الشخص لا يعتقد بالوحيّ أصلًا، ولا بإرسال الرُسل وإنزال الكتب، ويَعتبر أن ظهور الأنبياء الإلهيّين هو مجرّد حركة ثوريّة عاديّة نشأت في ذاك الزمان الخاصّ بهم، تهدف إلى الوقوف في وجه حالات الظلم والجور، والحاصل أنّه يرى أنّ ظهور الأنبياء عبارة عن نهضةٍ اجتماعيّةٍ قامت من باطن مجتمعٍ مظلومٍ، وأيّدها أشخاصٌ كانوا يعانون من ظلم السلطة لطرد الحكّام والقضاء على ظلمهم، وجميع أفكاره قائمةٌ على أساس النظرة المادّية وعلى أصول علم الاجتماع. وأمّا ما يراه بعضهم من أنّه سنيّ المذهب فهو أمرٌ غير صحيحٍ البتّة، لأنّه غير معتقد أصلًا بأبي بكر وعمر كي يكون معتقدًا بآرائهما، بل إنّه لا يقبل بالوحي من أساسه وينكر الاتّصال بالغيب، ويرى نزول الملائكة وجبرائيل أمرًا فارغًا لا واقعية له، وبشكل عامّ فإنّ مثَلَه كمثل مؤسّسي مذهب البروتستانت مقابل مذهب الكاثوليك، فقد كان في صدد إنشاء مذهب بروتستانتي إسلامي بحيث يفرّغ الدين من محتواه المستقى من الوحي ويخرجه عن بعده الغيبي، ويجرّده عن حقائق عوالم الغيب، مقتصرا على الاهتمام بالظواهر الخادعة، والعقائد المختلَقة والمطابقة للأفكار الجوفاء
والمفاهيم الخالية التي تهدف إلى جذب العوامّ، و هو يُقدِّم الدين ويعرضه على أساس القوانين الدنيويّة والأنظمة الحديثة وبشكلٍ مطابقٍ لها؛ فلا شكّ أنّ خطر هذا الشخص أشدّ من خطر أهل السنّة وضلالهم بآلاف المرّات»
هنا، اعترف المرحوم المطهّري رحمة الله عليه بجميع هذه الأفكار وأقرّ بجميع الإشكالات، ومنذ تلك الليلة قرّر أن يواجه عقائد علي شريعتي ويعارض طريقته وممشاه، وتعهّد للمرحوم الوالد رضوان الله عليه أن يبدأ منذ الغد بمواجهة هذا التيّار بتمام قدراته، وللإنصاف فقد وفّى بعهده ولم يفوّت على نفسه منذ ذاك الوقت أيّ فرصةٍ في سبيل فضح المباني الفاسدة وبيان مواضع الانحراف والاعوجاج في أفكار هذا الرجل.
وقد ظهر هذا الاختلاف الفاحش والتبدّل الكبير في موقفه من عقائد هذا الرجل المنحرفة والذي بلغ مائة وثمانين درجةً، في رسالته التي كتبها للمرحوم آية الله الخميني، في سنة ألف وثلاثمائة وستة وخمسين (۱٣٥٦) هجري شمسي، وجاء فيها:
«... الرابعة: مسألة شريعتي ... لكنّني أرى في هذه الأوقات أنّ هناك فرقة ليس لها عقيدة صحيحة في الإسلام ولا ميل لها نحوه، بل لديها ميولٌ نحو الانحراف، وهي تسعى -من خلال ترتيباتٍ واسعةٍ- أن تصنع منه (أي شريعتي) صنماً، بحيث لا تجرؤ أيّ جهةٍ دينيّةٍ على إظهار رأيها في أفكاره ومقالاته ... عجبًا لهم! إنّهم يريدون أن يبنوا إسلامًا جديدًا مبنيّاً على خلاصة أفكار ماسينيون۱ -مستشار وزارة المستعمرات الفرنسي في شمال أفريقيا ورئيس المبشرين المسيحيين في مصر- و على الأفكار المادّية لغوريوش٢ اليهودي، و على أفكار جان بول سارتر٣ صاحب المذهب الوجودي،
المعروفة بأنها ضد الله، مضافًا إلى عقائد دوركهايم۱ في علم الاجتماع والتي تخالف الدين و التديّن!! إذا كان كذلك فعلى الإسلام السلام. قسماً بالله إذا اقتضت المصلحة يوماً مّا أن نتتّبع أفكار هذا الشخص وندرسها دراسة تفصيليّة، ونقايس أساسها بالأفكار الإسلاميّة الأصيلة، فسوف نجد أنها تتعارض مع الإسلام وأصوله في مئات الموارد، فضلًا عن أنّنا سنكتشف بأنها خاويةٌ لا ترتكز على أساس متين أصلًا ...»٢.
والحاصل، أنّ المرحوم المطهّري بعد تلك الليلة اتّخذ في علاقته مع المرحوم الوالد رضوان الله عليه مسارًا آخر، فقد فهم أنّ هناك أمورًا أخرى خفيّةً في شخصيّة المرحوم الوالد غير تلك التي كان قد شاهدها منه وسمعها، و أدرك أنّ عليه أن يبحث عن قضايا أخرى في شخصيّة هذا الرجل.
ومن المهمّ جدًا الإشارة إلى المسألة التالية، وهي أنّ المرحوم الوالد رضوان الله عليه قد بيّن بالتفصيل في كتاب «الروح المجرّد»٣، قصّة تشرف المرحوم الشهيد آية الله المطهّري بالحضور عند الحاج السيّد هاشم الحدّاد أعلى الله درجاته، حتّى أنّه نقل عن المرحوم المطهّري أنّه قال بعد لقائه بالسيّد الحدّاد: «إنّ هذا الرجل (أي: السيّد الحدّاد) يبعث الحياة والروح في الإنسان»، ولكن حتّى ذلك الوقت لم تكن العلاقة بين المرحوم المطهّري والمرحوم الوالد قد توطّدت بعد، ورغم وجود لقاءات بينهما من فترةٍ إلى أخرى، سواءً في منزله أو في المسجد أو في بعض الأماكن الأخرى، إلّا أنّ العلاقة لم تكن لتتعدّى هذه الحدود الطبيعيّة، والظاهر أنّ تلك الأرضيّة اللازمة لم تكن قد توفّرت بعدُ، والأجل لم يحن، والاستعداد اللازم لحصول التبدّل في الأفكار وشروق البارقة الإلهيّة في قلبه وانكشاف أفقٍ جديد في مدركاته ونظرته للعالم ... لم يكن قد تهيّأ.
ومنذ تلك الليلة صار لديه جلسة أسبوعيّة مع المرحوم الوالد في منزله، ولم يكن أحد على علمٍ بهذه المسألة سوى سائقه وبعض خواصّه المنتسبين إليه، وشيئًا فشيئًا ظهرت آثار هذه الجلسات وهذه العلاقة على كلماته وفي خطبه، ويذكر المقرّبون منه وكلّ الذين كانوا على علاقة به هذا التحوّل والتبدّل في خطابه، فقد أثّر جلوسه مع الأولياء الإلهيّين في مسار حياته وأدّى إلى تغييرها بشكل كلّي، كما تغيّرت علاقته بأصدقائه السابقين ومن كان يعاشرهم، حيث انجرّت الأمور إلى المعارضة والمواجهة حتّى وصلت إلى تركه لهم ورفض العلاقة معهم.
وكان هذا التبدّل تبدّلًا قهريًّا وتكوينيّاً في حياته، و هو تغيّر يذكره الكثير من الأشخاص ويرَون أنّ سبب هذا التغير كان ارتباطه بالمرحوم الوالد رضوان الله عليه، وهذا الأمر كان واضحًا وجليّاً في نفس شخصيّة المرحوم المطهري، ولقد كان التبدّل في حالاته الروحيّة والتفاوت الكبير في خطاباته عمّا كانت عليه في السابق والاختلاف في أخلاقه وملكاته بشكلٍ عامٍّ ظاهرًا بيّنًا بحيث كان مشهودًا للأشخاص الذين يتعاملون معه ويعاشرونه، وحتّى هو يصرح بهذا التحوّل والاختلاف من خلال ما كتبه في هذه الرسالة:
«مضافًا إلى ذلك، فإنّني أعيش في وضعٍ روحيٍّ مختلفٍ عن ذاك الذي كنت أعيشه من قبل، وأصبحت لديّ تجارب خاصّة لم تكن عندي سابقًا، وأمّا حالتي الروحيّة التي لا أرغب أن أبوح بها لأحدٍ، فهي أنّني أشعر برغبةٍ شديدةٍ في الحال الحاضر إلى التفرّغ لتربية روحي وإصلاح نفسي، وقد وضعت نفسي تحت تصرف بعض الأشخاص الذين أعتقد بهم لغرض التربية الروحيّة، ولهذا السبب ولتطبيق هكذا برنامج فأنا بأمسّ الحاجة إلى الهدوء والسكينة، ولا أرغب في المشاركة بأيّ أمرٍ يوجب الصَخب وتعكير الصفو دون أن يكون له أيّ فائدةٍ، ولا أعني بذلك المباحثة المنطقية فهذه لها اعتبار خاص»۱
لقد كان شوقه كبيرًا جدًا في علاقته بالمرحوم الوالد رضوان الله عليه وكان حريصًا على أخذ الدستورات منه، وكان يأخذ منه الإجازة حتّى في مسائله الاجتماعية وأموره التبليغيّة، وفي أحد الأيّام كُنت حاضرا عندما طلب من المرحوم الوالد إجازة للمشاركة في نشاطات «مسجد الجواد عليه السلام» والتصدّي لأموره، كما كان يضع رأي المرحوم الوالد نصب عينيه دائماً في جميع برامجه الأخرى، علماً أنّ ذلك كان في الوقت الذي كان فيه المرحوم المطهّري على علاقة مميّزة بالكثير من العلماء وأساتذة الحوزة ومراجع التقليد الذين كان يذكرهم بالعظمة وعلوّ المنزلة.
وأذكر جيّدًا عندما سافر رحمه الله إلى العتبات المشرفة في أواخر سلطة الشاه الپهلوي، حيث ذهبتُ مع المرحوم الوالد رضوان الله عليه لزيارته بعد عودته من السفر، وقد ذكر مفصّلًا مجريات سفره ولقائه بالعلماء الكبار وخصوصًا لقائه بآية الله السيّد الخميني رحمة الله عليه، ثمّ قال:
«لكنّ الشيء الذي بقي في خاطري من هذا السفر، والزاد الذي اكتسبته فيه هو لقائي بالحاج السيّد هاشم الحدّاد أعلى الله تعالى درجاته».
وكان يصف لقاءه به بشغفٍ كبيرٍ وشوقٍ عجيبٍ، وكأنّ هذه الزيارة تحصل الآن، وكأنّه لا يزال يتنعم بآثار ذلك اللقاء ويتلذّذ من فيض تلك النعم والفيوضات.
وهنا لا يلوم الحقير نفسه إذا أشار إلى بعض الحقائق والمسائل الضروريّة التي يجب على السالك أن يلتفت إليها في ارتباطه بموضوع التهذيب والتربية والسير إلى الله، مستمدًا العون في ذلك من الروح الطاهرة لهذا المرحوم الذي أقطع بأنه يؤيّد الكاتب من عالمه القدسي ويشجّعه على توضيح تلك المسائل وبيانها؛ وذلك لأنّي أعلم حقًا وأرى عيانًا أنّ نفس هذا المرحوم كان همّه طوال حياته منصبًّا على هداية الناس وإرشادهم وإصلاح النفوس ورفع مهالك الجهل والغواية؛ فمن الطبيعي أن يكون مادحًا ومؤيّدًا لهذا القلم الذي يتحرّك ضمن هذا المسار ويكتب للوصول إلى هذا الهدف، و أن يقدّم له يد العون بأنفاسه القدسيّة.
سرّ التوفيق للهداية علي يد الأستاذ الكامل هو التسليم التام له
لا شكّ أنّ سِرّ التوفيق في هداية الحكيم الإلهي ومربّي النفوس وإرشاده هو تسليم السالك وانقياده التامّ وتفويض إرادته واختياره إلى أستاذه الكامل، وأن يستبدل السالك إرادته واختياره ونيّته بإرادة أستاذه واختياره ونيّته، وتعدّ هذه المسألة من المسلّمات ومن الأصول التي لا شكّ فيها في موضوع التربية والإرشاد، فإذا أهمل السالك هذه النكتة المهمّة ولم يلتفت لها، فلا شك أنّه سيعجز عن متابعة طريقه، ولن يحصل على أيّ فائدةٍ من ارتباطه بالأستاذ الكامل، بل سوف يضيع عمره ويتسبّب في أذيّة أستاذه؛ وبناءً عليه، فبمقدار ما يضع الإنسان نفسه تحت تصرف الوليّ الكامل وتربية الأستاذ الواصل، فإنّه سيحصل بنفس ذلك المقدار على المواهب الإلهيّة والعنايات الربانيّة، و سوف تسمو نفسه وتتحقّق فعليّتها بالمقدار ذاته، وكلّما تساهل الإنسان بالاهتمام بهذه المسألة فسوف يُحرم من الفوز بهذه النعمة، وهذا ممّا لا مجال للشكّ والترديد فيه، علماً أنّنا سوف نتحدّث عن هذا الموضوع في القريب العاجل بشكلٍ وافٍ ونوضّح ذلك مفصّلًا إن شاء الله.
لقد قضى المرحوم الوالد رضوان الله عليه سبع سنواتٍ من التعلّم والتربية على يد العلّامة الطباطبائي قدّس الله رمسه بشكلٍ مباشرٍ، وسبع سنوات أخرى بشكلٍ غير مباشرٍ، كما استفاد من محضر غيره من علماء الأخلاق، لكنّه عندما التقى بالسيّد الحدّاد رضوان الله عليه قام بتسليم تمام وجوده إليه واضعًا نفسه بإرادته واختياره، ولم يترك لنفسه أيّ اختيارٍ في جميع أموره الشخصيّة والاجتماعيّة والتربويّة، وجميع الأشخاص الذين كانوا مطّلعين على علاقته بالمرحوم السيّد الحدّاد عن قرب كانوا يُقرّون بهذه الحقيقة المهمّة والأمر المصيري، وكانوا يعدّون سماحته في أقصى رتبةٍ من مراتب التسليم وآخر منزلةٍ من منازل التفويض.
عندما كنّا برفقة السيّد الوالد رضوان الله عليه فتشرفنا معه بالذهاب إلى العتبات العاليّة بعد عودتنا من حجّ بيت الله الحرام، ذهبنا يومًا إلى منزل السيّد الحدّاد، فقال له في حضورنا:
«لو كان هذا الكوب مملوءاً بالدمّ وأمرتني أن أشربه، لامتثلت الأمر دون أدنى تردّدٍ أو تأمّلٍ».
وبعد أن خرج الوالد من الغرفة، نظر إلينا المرحوم السيّد الحدّاد وقال:
«انظروا إلى هذا الرجل كم هو متواضع، وكم هو متخلٍّ عن نفسه في مقابل الحقّ، بحيث يقول: أنا مستعدّ للقيام بأيّ أمر تأمرني به دون استثناء، حتّى لو بلغت الطاعة إلى هذا الحدّ».
ومن الضروري أن نلتفت إلى هذه النكتة وهي: أنّ المرحوم الوالد رضوان الله عليه عندما طرح هذه المسألة على السيّد الحدّاد كان عمره قد تجاوز سنّ الخمسين، وكان بنظري -من جهة اطّلاعه على المباني العلميّة والفقهيّة- يعتبر أعلم علماء عصره، وبتعبير السيّد الحدّاد كان «سيّد الطائفتين» (أي سيّد العلوم الظاهرية والعلوم الباطنيّة والكشفيّة)، بل إنّ نفس المرحوم السيّد الحدّاد كان يقلّده في الأمور الفقهيّة، وإنّ هذه المسألة لهي من المسائل المهمّة التي يجب الالتفات إليها وأخذها بعين الاعتبار عند دراسة هذا الأمر.
لقد كان المرحوم الوالد يأخذ تكليفه من أستاذه في جميع أموره الشخصيّة والاجتماعيّة، وإن شاء الله سنُشير إلى بعض هذه الأمور لاحقًا، أجل هكذا كان ديدن العلّامة الطهراني، و بذلك وصل إلى ما وصل إليه!
وفي أحد الأيام قال المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه للحقير:
«اعلم يا فلان بأنّه لا يمكن أن تعثر على شخصٍ مثل والدك على الكرة الأرضيّة، وكلّ ما عندي فقد سلّمته لوالدك»
والحاصل أنّ المرحوم المطهرّي رحمة الله عليه كان ينظر إلى المرحوم الوالد رضوان الله عليه بعنوان أنّه مِرآة تعكس تجلّي السيّد الحدّاد قدّس سره، وذلك أنّ نفس المرحوم الوالد كان يقول كرارًا ومرارًا: «أنا صفر مقابل السيّد الحدّاد، وليس لدي
أيّ وجود من نفسي» وقال يومًا لأحد الأرحام: «إنّ كلّ ما أتفوّه به وما أقوله فهو كلام الحاج السيّد هاشم، ولست أطرح شيئًا من تلقاء نفسي».
وبما أنّ المرحوم المطهرّي كان يعتبر أنّ السيّد الحدّاد شخصٌ يختلف عن الأشخاص الآخرين -مهما بلغوا من العلوّ والرفعة- وأنّه ذو حقيقةٍ مختلفةٍ عن حقيقة المظاهر الأخرى، لذا فقد حاول الاستفادة -بمقدار ما وفّقه الله- من هذه المرآة التي تعكس وجود السيّد الحدّاد بتمامه؛ فنَهل من محضر المرحوم الوالد رضوان الله عليه، و من جهتّه فإنّ المرحوم الوالد لم يبدِ أيّ تذمّر أو ضيق صدر، ولم يُخف عليه شيئًا ممّا كان يحتاجه في مجالات تربية نفسه، وتنوير ذهنه، وتصحيح فكره، وارتقائه المعنويّ، وعبوره عن عقبات النفس والكثرات الدنيويّة، كما أنّه ما تركَ فرصةً في مجال تعريفه على الحقائق وإطلاعه على خصوصيّات بعض الشخصيات إلّا استغلّها، وبعبارةٍ مختصرةٍ: لمّا كان المرحوم الوالد رضوان الله عليه يشعر بأنّ عدم معرفة المرحوم الشهيد المطهري رحمة الله عليه لبعض الأمور والأحداث والشخصيّات معرفةً صحيحةً وواقعيّةً يُمكن أن تسبّب له بعض المشاكل والمصاعب في سيره وسلوكه، فيمنعه ذلك من الاستفادة من هذه الفرصة الإلهيّة الكبيرة -التي أنعم الله بها عليه والتي لا تحصل لأيّ إنسان- بالشكل المطلوب؛ قام بتوضيح منازل الطريق ولوازم عبور السالك وحركته توضيحًا لطيفًا وعمل على تبيينها له بشكلٍ ذكيٍّ وظريفٍ، كما عمل على بيان العقبات التي يصعب عبورها ومخاطر الطريق الموبقة، ونبّهه على دسائس قاطعي السبيل، ووساوس المتربّصين على الطريق الموصل للمطلوب وشبّاك إبليس، وحذّره من تغلّب الهوى والإحساس على قوى العقل وجنود الرحمان، وذلك في مقاطع زمنيّةٍ مختلفةٍ وبحسب ما تقضيه الظروف.
وقد أخذت علاقة المرحوم المطهرّي في أواخر حياته بالمرحوم الوالد رضوان الله عليه شكلًا آخر، خصوصًا بعد ظهور مجريات الثورة وأحداثها، وكأنّ دخوله في مسائل الثورة وتواصله مع أشخاص آخرين وصرفه الوقت في حلّ المشاكل
والأمور المختلفة والاشتغال غير المتعارف بمسائل الثورة ...، كلّ ذلك تسبّب في تضعيف الحال الذي كان عنده وتخفيفه بشكلٍ تدريجيٍّ، مما أدّى إلى انصراف ذاك التوجّه التامّ الذي كان عنده نحو الأستاذ إلى جهاتٍ أخرى، وانعطف ذاك التعلّق بأستاذه -الذي كان موجبًا للارتباط الوثيق بين ضمير السالك وأستاذه- إلى التعلّق بأمورٍ مغايرةٍ؛ فكانت الأفكار والميول تُصرف في اتّجاهٍ آخر وصارت استشارته لأستاذه وكسب إجازته أقلّ ممّا كانت عليه، فقد وضع أستاذه الإلهيّ جانبًا في أهمّ مسائل الحياة والموت المصيريّة، وفي الأمور الموجبة للسعادة والفلاح الأبديّ والصلاح الأخرويّ، وسيطرت عليه أحداث الثورة وأغرقته في شؤونها، وحينئذٍ لم يعدْ لدى الأستاذ ذاك الارتباط السابق به، فقام بتقليل لقاءاته به من مرّة في الأسبوع إلى مرّة في الأسبوعين، وتغيّرت كيفيّة كلامه معه عما كانت عليه في السابق. لقد كان المرحوم المطهرّي في أوّل أمره يأخذ إجازة أستاذه في مثل الحضور في مسجد الجواد، أمّا في آخر أمره فلم يعد يسأل أستاذه في مسائل أهمّ بكثير من تلك وأشدّ حساسيّة، بل كان يُخبر المرحوم الوالد فقط -بعنوان الإخبار و الاطّلاع لا أكثر- ببعض هذه الأمور ويطلعه عليها.
وفي أحد الأيّام قلت للمرحوم الوالد رضوان الله عليه: رأيت في المنام الليلة السابقة أنّنا كنّا جالسين في غرفةٍ، وكان المرحوم المطهّري جالسًا مقابلك، وكنتَ تتحدّث وتبيّن بعض الأمور التي لا أذكرها الآن، وكان المرحوم المطهّري مطأطئًا رأسه إلى الأرض، والحال أنّه لم يكن يقبل بالكلام الذي تذكره وتتحدّث به، لكنّه لم يتفوّه بكلمةٍ من باب الاحترام والأدب، بل بقي صامتًا مصغيًا لكلامك إلى أن انتهيت من بيانه.
فقال المرحوم السيّد الوالد رضوان الله عليه:
«نعم الأمر كذلك، فهو لم يسلّم من وجوده لنا إلّا بمقدار العُشر، و أعماله الآن ليست كالسابق، وحتّى سفره إلى فرنسا للقاء قائد الثورة هناك قام به
دون أن يسألني أو يستشيرني في ذلك، بل جاءني قبل سفره بقليل فقط وقال لي: إنّي عازم على السفر إلى فرنسا، فهل لديكم شيء أقوله للسيّد الخمينيّ؟ فذكرت له بعض المسائل:
الأولى: إنّه يتحدّث كثيرًا، وكثرة الحديث والتصريح تقلّل من أثر كلامه، وأرى من الأفضل أن يتحدّث في الأسبوع مرّة أو مرّتين لا أكثر.
والثانية: قُل له أن يجعل ميزان حركته وسكونه وعزمه على الأمور، وإقدامه على اتّخاذ المواقف في الأحداث الجارية على أساس تحصيل الرضا الإلهيّ فقط، لا على أساس ما يُرضى به الناس، ويجب أن يرى: أين هو رضا الله فيعمل به ولو لم يرضَ به الناس، وحتّى لو اعتبروا بأنّه أمرٌ متخلّفٌ و نابعٌ من التحجّر، أو قديم أو بعيد عن متطلّبات الدنيا ومجرياتها المعاصرة، وبعبارة أخرى: الواجب على الناس أن يجروا خلفك، لا أن تنظر أنت إلى مطلوبهم وتبحث عن ميولهم وما يتوافق معهم، فكثيرًا ما تكون رغبة الناس وميولهم على خلاف الرضا الإلهي والمصالح الأخروية۱، وقل له: إنّ هؤلاء الناس الذين يُقبلون عليك اليوم، من الممكن أن يدبروا عنك في يومٍ من الأيّام.
الثالثة: قل له: لماذا أضفت في رسائلك كتابة التاريخ الهجريّ الشمسيّ على الهجريّ القمريّ (حيث كان في السابق يكتب التاريخ الهجريّ القمريّ فقط)؟»
فقال المرحوم المطهّري:
«أنا كنت السبب في هذا الأمر، فقد اقترحت عليه أن يضيف التقويم الشمسيّ إلى القمريّ!»
يقول المرحوم الوالد رضوان الله عليه: عندها قلت له: «بأيّ دليلٍ شرعيّ اقترحت عليه ذلك؟!» فطأطأ المرحوم المطهّري رأسه، وبعد أن سكت فترةً طويلةً قال: «نعم الحقّ كما تقول، لقد اشتبهت في ذلك».
وعلى كلّ حال، فكما ذكرنا، لقد أدّى ميلُه وتعلّقه ذاك بأشخاصٍ آخرين إلى تبدّل حاله السابقة، وهذه المسألة كانت مشهودةً في عباراته وخطاباته، ولحن صوته بشكلٍ واضحٍ، و نتيجةً لذلك فإنّ اهتمام الأستاذ به كان عرضةً لتلك التغييرات والاضطرابات أيضًا، وههنا أسرارٌ ومعانٍ ذات مضامين عالية سوف نشير إليها لاحقًا إذا وفّقنا الله تعالى لذلك، وبشكلٍ مجملٍ نقول: إنّ أوّل نتيجةٍ لهذه التحوّلات والتغييرات هي عدم التوجّه الباطني والولائي وعدم الإشراف على الأعمال والتصرفات من قبل المرحوم العلّامة الطهراني رضوان الله عليه، ممّا ترك الباب مفتوحًا أمام الأيادي الشيطانيّة للقيام بالعمل الخائن والجبان باغتيال المرحوم الشهيد المطهري رحمة الله عليه، فرمته الأيادي المجرمة بسهام إبليس، وحرمته العصابات المنحرفة من نعمة الحياة، فرحمة الله عليه رحمة واسعة، اللهم أدخله في أعلى علّيين واخلف على عقبه في الغابرين واحشره مع أوليائك الصالحين، بمحمّد وآله الطاهرين.
وإذا كان هذا المرحوم لم يستطع أن يُوصل استعداداته في هذه الدنيا إلى مرحلة الفعليّة بالشكل المطلوب كما هو المتوقّع من شخصٍ مثله؛ يتمتع بهذا الإيمان والإخلاص والإنصاف ويمتلك هذه الحميّة الدينية، وذلك لكثرة انشغاله وتراكم أعماله واشتغاله بالكثرات؛ فنسأل الله تعالى أن يقدّر له التوفيق ليتمّ طريق تكامله في ذلك العالم، ببركة نفوس الأولياء وبالاستمداد من أئمّة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأن يمنّ الله عليه بجعل مكانه مع أوليائه المقرّبين ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾۱.
وهنا ألفت انتباه القرّاء الأعزّاء إلى مسألة وهي -كما أشرنا سابقًا- أنّ ذكر العلاقة التي كانت قائمة بين المرحوم الشهيد المطهّري رضوان الله عليه وبين السيّد الوالد قدس الله رمسه وما كان قد جرى بينهما إنّما هو لأجل تنوير الأفكار، وتبيين الطريق، وبيان مدى دقّته، والإشارة إلى الأهميّة القصوى التي تتّصف بها هذه المسألة وضرورة الالتزام بها فقط، ولا ينبغي التشكيك أبدًا في علوّ درجات هذا المرحوم أو التردّد في حسن سلوكه، والله يعلم كم من البركات والعوائد التي اكتسبها من خلال المحبّة والمودّة التي كان يكنّها للمرحوم الوالد رضوان الله عليه ومن خلال الالتزام معه، بحيث لم ينل من هذه البركات أحدٌ من رفقاء دربه، والأشخاص الذين هم مثله، بل ظلّوا محرومين منها وغافلين عنها بشكلٍ كلّيٍ. وهناك الكثير من الأشخاص المعروفين الذين كانوا في زمن المرحوم الوالد يميلون إليه ويحبّونه، ولكنّهم بعد مدّة من الزمن ونتيجةً لبعض الأحداث التي وقعت وبسبب غلبة النفس الأمّارة، لم يكتفوا بالوقوف جانبًا والابتعاد عن مسلكه وطريقه فقط، بل وقفوا في الجهة المقابلة وشرعوا بالافتراء والطعن به ومخاصمته بشدّةٍ، فبدّلوا توفيق مصاحبة هذا الرجل الإلهي ومرافقته إلى النقمة والخسران والهلاك!
اللهمّ اجعل عاقبة أمرنا خيرًا، ولا تجعلنا من زمرة من تقول فيهم: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾۱.
وهنا يعترف الكاتب بأنّه واقعًا لم يعرف قدر نعمة هذا الرجل العظيم، ولا أدرك أهمّية هذا المربّي الإلهيّ والأب النادر الوجود، وسوف تبقى الحسرة تلازمنا إلى آخر عمرنا على تضييع فرصة الاغتنام منه، وهدر الأوقات التي ضاعت دون الاستفادة منه.
المجلس العاشر: وجوب الرجوع الى الامام عليه السلام او الانسان الكامل والعارف الواصل بدليل العقل والشرع
بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيْم
الحَمْدُ للّه رَبِّ العَالَمِيْن
وَصَلَّى اللهُ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَاهِرِين
وَلَعْنَةُ الله عَلى أَعْدَائِهِم أَجْمَعِيْن
تقسيم البحث إلي ثبوتي و إثباتي
نعود الآن إلى أصل الموضوع وهو ضرورة الانقياد والإطاعة المحضة والتسليم التامّ للأستاذ العارف والواصل الكامل، وسنبحث هذا الموضوع من خلال تقسيمه إلى جهتين: الجهة الثبوتيّة والجهة الإثباتيّة، أو جهة وجوده وجهة معرفته.
فالقسم الأوّل يدور حول هذه المسألة: على من يُطلق لفظ الأستاذ الكامل والعارف الواصل؟ وما هي الشروط التي يجب أن تتوفّر في الشخص حتّى يكون قد تحقّق بحقيقة العرفان والتوحيد، وبالتالي يصحّ أن يطلق عليه عنوان «العارف بالله» ويصدق عليه ذلك؟ وكيف يتمّ تمييزه عن الآخرين مهما كانوا، وإلى أيّة فرقةٍ أو نحلةٍ انتسبوا، وإلى أيّ مرتبةٍ كماليّةٍ وصلوا؟ وكيف يمكن التفريق بينه وبين مدّعي مراتب التوحيد والولاية، بل بينه وبين الأشخاص البارزين من الصالحين والمتخلّقين بالأخلاق الحميدة، والمَلَكات الفاضلة؟ وما هي نقاط ضعف الآخرين في قبال نقاط القوّة التي يتمتّع بها؟ وكيف تختلف الحيثيّات الاستعداديّة لغير العارف في مقابل الحيثيّات الفعليّة لأهل التوحيد من العرفاء؟ وما هي طبيعة الفرق بين نقاط كماله
وقوّته في تربية النفوس وتزكيتها وتهذيبها، في مقابل الإلقاء في الأخطار والمهالك وإضاعة الفرص وإتلاف العمر والوقت، وتضييع الاستعدادات و ضياع الجهات الكماليّة الناتجة عن تولّي غيره لتربية الأفراد و إرشادهم؟۱
أدلّة وجوب الرجوع إلى الإمام أو العارف الكامل عقلًا و شرعًا:
الدليل الأوّل: لا يرضى الله بتكليفٍ إلّا التكليف الصادر منه، ولا بدعوةٍ إلّا إليه
يقول تعالى في الآية الشريفة:
﴿ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ، وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾٢.
والمعنى: «لم يُمنح أحدٌ من الناس الحقّ بأن يعطيه الله تعالى الكتاب والحكم (أي إدراك الحقّ والباطل والتمييز بينهما) والنبوّة، ثمّ يدعو الناس إلى نفسه ويجعلهم عبادًا له مقابل الله تعالى، ويُقدّم إطاعته والانقياد له على إطاعة الله والانقياد له، ويُرجّح مشيئته على المشيئة الإلهيّة. لكن الطريق الصحيح وسبيل الحقّ هو أنْ يكون هؤلاء الأشخاص ربّانيين، أيّ منتسبين إلى الربّ بحيث يكون الربّ هو الذي يملأ حقيقة وجودهم بالكامل، فليس لهم أيّ تعلّقٍ أو ميلٍ إلى ما سوى الربّ تعالى، بل لا يحصل في أنفسهم خطورٌ لسواه. وذلك لأنّهم يدرّسون الناس الكتاب الإلهي ويعلّمونهم قوانينه * كما لا يمكن أن يأمركم الله بأن تجعلوا الملائكة والأنبياء بعنوان أربابٍ يملكون مقام الأمر والنهي في مقابل الله؛ فهل يعقل أن يأمركم بالكفر بعد أن هداكم للإسلام؟!».
في هذه الآية الشريفة يبيّن الله تعالى أنّه لا يقبل أيّ تكليفٍ من أحدٍ سوى التكليف المنتسب إليه، ولا دعوةً إلى أحدٍ سوى الدعوة إليه، وأنّ غيرته وقهاريّته تأبيان إلّا أن يزيح كلّ غيرٍ أمامه، و أن يبطل كلّ حكمٍ مخالفٍ لإرادته ومشيئته، فهو إنّما يرضى بالحكم الذي لا تشوبه أدنى شائبةٍ من الكثرات، ولا دخل فيه للنفس والتعلّقات الشخصيّة، بمعنى أن لا تكون الدعوة ناشئةً من النفس، ولا يكون فيها أيّ انحرافٍ -مهما صغُر- عن جادّة الصواب وعن الصراط المستقيم خصوصًا في الأمور التي يمكن أن تتدخّل فيها المصالح الشخصيّة والمنافع النفسيّة، فتؤثّر على صدور الأحكام ووضع القوانين أو رفعها.
فإذا توفّر مثل هذا الشخص دون غيره، أمكن لنا الاعتماد عليه باعتبار أنّه شخص أمين وموثوق و جاز لنا اتّخاذه مصدرًا للأحكام والدعوة إلى سبيل الله، ومثل هذا الشخص هو من يمكن أن تفوّض إليه مهمّة تربية النفوس ويسلّمَ زمام الأمور؛ والسرّ في ذلك أنّه في غير هذه الصورة يمكن أن يحصل في مسألة الهداية والإرشاد وإجراء الأحكام والإلزام بالتكاليف خلطٌ بين الأحكام الواقعيّة والتكاليف الإلهيّة من جهةٍ، وبين تصرّف النفس الأمّارة وتدخّلها وإعمال الآراء الشخصيّة القائمة على أساس الأهواء الباطلة وعالم الكثرات والاعتباريّات ورعاية المصالح والمفاسد الدنيويّة من جهة أخرى، وليس من البعيد أن يؤدّي ذلك إلى غواية الأشخاص وضلالهم وهلاكهم، فبدلًا من سوْق الإنسان الذي يتبعه نحو عالم النور ورفع الحجب الظلمانيّة لعالم الشهوات والآراء الباطلة والتقرّب إلى حريم القدس الإلهي والتجرّد والغفران، قد يمسي هذا الشخص سببًا لوقوعه في مستنقع التخيّلات وعالم الصور والمجاز والوقوف في المراتب الدنيا لعالم النفس والركود في عالم الكثرات والأوهام، بل إنّ احتمال هذا الأمر قويّ جدًا وهو أمرٌ خطير حقًا؛ لأن الانقياد للأحكام الإلهيّة لا يوجب المفسدة والانحراف أبدًا، بل هو موجب دائماً للقرب من الحقّ والبعد عن الباطل، و إنّما الذي يوجب الانحراف هو الآراء الباطلة والأهواء الشخصيّة وطغيان
النفس الأمّارة، والشواهد على صحّة هذه المسألة وفيرةٌ على مدار التاريخ، و نحن سنشير إلى بعض الأمثلة لذلك لاحقًا إن شاء الله.
كذلك ورد في الآية الشريفة من سورة يونس، قول الله تعالى:
﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾۱.
والمعنى: «قل لهم أيّها النبي: يا أيّها الكافرون والمنحرفون! هل تعرفون أحدًا من ساداتكم وشركائكم يهدي إلى الحقّ فقط؟ قل لهم: الله تعالى وحده هو الذي يهدي إلى لحقّ، وإذا كان الأمر كذلك فهل الشخص الهادي إلى الحقّ أولى بالطاعة والانقياد له ومتابعته، أم الشخص الذي ما زال في مرتبة التربية والاستعانة والتكامل والذي لم يصل بعد إلى مرحلة اليقين والشهود والفعليّة ولم ينل البصيرة حتّى الآن؟! فلماذا تحكمون هكذا إذن؟!»
هذه الآية الشريفة عجيبةٌ جدًا؛ لأنّها:
أوّلًا: تعتبر أن الهداية منحصرةٌ بالله فقط ﴿قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾، وأمّا سائر الأشخاص من أمثال بني آدم فترى أنّهم يفتقدون هذه المرتبة من الكمال والرقي، والآية تعتبرهم ساقطين عن هذه الدرجة، فكلامهم وعملهم لا يوجب رشدًا ورقيّاً، واتّباعهم باطلٌ ولا قيمة له.
وثانيًا: لا تكون طاعة الأشخاص جائزةً وممضاةً إلّا إذا كان الشخص المطاع قد وصل إلى مرتبة الفعليّة التامّة وإلى الكمال المطلق بلحاظ جهاته الاستعداديّة وحيثيّاته الكماليّة، فخرج من دائرة تربيّة النفس الأمارة وتزكيتها ومجاهدتها ومراقبتها ومحاربتها، وتخلّى عن عالم الكثرات ووضع نفسه في حريم القرب، وحرم الأمن والأمان الإلهي، فصار وجوده متحقّقًا بوجود الحقّ تعالى ومتأثّرًا بآثاره، وعبر جميع الحُجُب الظلمانيّة
والنورانيّة بقدمٍ ثابتةٍ، وعزمٍ متينٍ، وهِمّةٍ عاليةٍ، ويقينٍ راسخ، فصار لذاته معيّةٌ -بل وحدةٌ- مع ذات الحضرة الأحديّة. وبعبارةٍ أخرى: أن يكون قد تجاوز عن نفسه وتجرّد عنها و اتّصل بالحقّ تعالى.
وذلك لأنّ هذه الآية الشريفة تحصر الهداية بالذات الأحديّة الأقدس من جهةٍ، وتوجب اتّباع الأشخاص الذين تخطّوا مرتبة الاهتداء -وهي مرحلة المتابعة والمجاهدة والمراقبة- ووصلوا إلى مرحلة الهداية من جهةٍ أخرى، فهذان الأمران معًا يُبرزان هذه الواقعيّة: وهي أنه ينبغي أن تكون مرتبة هؤلاء الأشخاص ودرجتهم أعلى وأوسع من مراتب الآخرين ودرجاتهم -في أيّ مرتبةٍ من مراتب الكمال كانوا- بأن تكون سنخيّة وجودهم وخصائصهم النفسانيّة مختلفةً عن خصائص الآخرين اختلافًا تامًّا، بحيث يصير كلامُهم كلامَ حضرة الحقّ تعالى، وأعمالُهم وتصرفاتهم أعمالَ الله وتصرفاته، وآثارُهم الوجوديّة مترشّحةً عن آثار أسماء الذات المقدّسة وصفاتها، وفي هذه الحالة فقط يمكن القول: إنّ هداية هؤلاء الأشخاص هي عين هداية الله، وأنّ أمرَهم ونهيهم عينُ أمر ذات الحقّ ونهيه دون أيّ اختلاف بينهما أو تباين، أو فقل: كأنّ الله تعالى قد تمثّل بصورة بشرٍ وأخذ يتكلّم معك ويأمرك وينهاك، ويرشدك، ويعرّفك خصوصيّات الطريق ودقائقه، ويبيّن لك العلل الموجبة للقرب ببيانٍ فصيحٍ وعباراتٍ واضحةٍ، منذرًا إيّاك من المهالك ومعدّدًا لك الأمور المبعّدة عن الوصول، ومحذّرًا إيّاك من المسائل الموجبة للوقوع في المهالك والورود في عالم الكثرات.
وفي هذه الآية تصريحٌ واضحٌ بأنّ كلامَ الشخص الذي لا يكون ضميره منشرحًا بنور البصيرة وحقيقة الإيمان هو كلامٌ مغايرٌ لكلام الله تعالى، وإن كان معتمدًا على الكلام الإلهي ومستندًا إليه؛ لأنّ هناك تفاوتًا فاحشًا وفرقًا كبيرًا بين هذا الشخص وبين ذاك الذي ينبعث كلامه من صدق الضمير، وصفاء الباطن، والبصيرة الإلهيّة، فالحقائق تتنزّل عليه من منبع الوحي، فيرتوي بها وتستقرّ في نفسه الصافية المبصرة و تتمكّن
فيها؛ فهذا يرى بينما ذاك يتخيّل، وهذا في حالة شهودٍ ولمسٍ للوقائع، بينما ذاك غارقٌ في مستنقع العبارات وعالم الألفاظ، هذا ينظر بعين اليقين وحقّ اليقين، بينما يعتمد ذاك على مسموعاته ومطالعاته ليملأ تفكيره بالاعتقاد بأمورٍ مبهمةٍ، هذا على اطّلاعٍ تامٍّ بحقائق عالم الوجود بكلّ ما للكلمة من معنى، بينما ذاك قد بنى أسّ وأساس حياته الدنيويّة والأخرويّة على أساس التوهمّات والظنيّات والمجهولات، هذا قد وصل إلى عالم التدبير والأمر فهو يقوم على أساس ذلك بتربية النفوس وترتيب الأمور من خلال أخذ رشحات الفيض مباشرةً من الذات المقدّسة للحقّ تعالى، بينما ذاك مصدر معلوماته هو مطالعة الكتب والمقالات والاستعانة بفكره البسيط وفكره المتشكّل من مجموعة من الإحساسات، والتوهمات، والتعقّلات الناقصة وغير الكافية، بالإضافة إلى بعض الإشاعات، فهو يريد -بواسطة هذه الأمور- أن يفتح للناس طريقًا نحو الهدف ويرشدهم في هذا الطريق، والله يعلم كم هي الأخطار والعواقب التي يُبتلى بها هذا الشخص، وكم هي التبعات التي تصيب الناس الحيارى التابعين له ولأوامره ونواهيه، وهو من سيتحمّل مسؤوليّة إضلال هؤلاء الناس، وهدر استعداداتهم وقواهم المعدّة الكماليّة وإضاعته لفرصة ترقّيهم، وعليه أن يعدّ جوابًا يوم القيامة عن كلّ هذه الأعمال والتصرّفات الخاطئة.
الدليل الثاني: خصائص عباد الله المخلصين تقتضي اتّباعهم و التسليم لهم
ومن جملة الآيات التي تدلّ على ثبوت ملكة الإيمان واليقين، ورسوخ حالة العصمة عن الخطأ والمداومة على الصواب الآيتان الشريفتان الثانية والثمانون والثالثة والثمانون من سورة «ص» المباركة، حيث قال تعالى: ﴿قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾.۱
يُقسم الشيطان في هذه الآية بأنّ إغواءه سيطال جميع بني آدم في جميع طبقاتهم ومن كلّ أصنافهم، ولا يوجد أيّ شخصٍ مستثنى من هذه القاعدة، إلّا العباد الذين
وصلوا في مسيرهم التكاملي وتقرّبهم إلى الله إلى مقام الخلوص؛ أيّ أن الخلوص قد أمسى ملكةً عندهم.
وتوضيح هذه المسألة: أنّ نفس الإنسان مهيّأةٌ لنفوذ الشيطان، وذلك بسبب تعلّقها بعالم الكثرات والأهواء، وأخذها بالآراء الباطلة والاعتباريّات، و هي تمتلك أرضيّةً مساعدةً لورود جنوده، وبما أنّ الشيطان يمتلك علماً وشعورًا بجميع خصوصيّات الإنسان وإدراكًا وإحاطةً بكلّ آثاره وشوائب وجوده، ولأنّ علمه بمدركات الإنسان وصفاته وملكاته ليس علماً اكتسابيًّا وتحصيليًّا ومقيّدًا ومحدودًا، بل علمه بالإنسان له جهة إحاطةٍ وإشرافٍ، وفيه بصيرةٌ ونفوذٌ؛ فإنّ الإنسان لا يستطيع -في أيّة مرحلةٍ من مراحل كماله وسيره وعلمه، وفي جميع مراتب اكتساب المعارف وتحصيل الحقّائق- أن يأمن شرّه ومكائده وطرق نفوذه وسبل مخادعته وإضلاله الذي قد ينتهي به إلى الخسران و الهلاك.
وبشكلٍّ عامٍّ فإن الشيطان قرينٌ للإنسان في كلّ مرحلةٍ من مراحله، في كلّ حركةٍ وسكون، في كلّ آنٍ ولحظةٍ، في كلّ قيامٍ وقعودٍ، وكلّ تكلّمٍ وتخيّلٍ ونيّةٍ، وهو ملازمٌ له كملازمة العشيق لعشيقه، ومصاحبٌ له كمثل الصديق العزيز، قد انهمك بمراقبة هذا الإنسان ورصد أعماله وكلامه، دون أن يتوانى أبدًا أو يغفل عن تنفيذ مهمّته على أحسن وجه، فهو كالحيوان الكامن لفريسته مستجمعًا قواه ومركزًا فكره وحواسّه على تحرّك فريسته لكي ينقضّ عليها عند أقرب فرصةٍ متاحةٍ؛ و هذه الفرصة هي عبارة عن تلك اللحظة التي تغفل فيها الفريسة وتفقد انتباهها لما يجري حولها، حينئذٍ ينقضّ عليها فيُسقطها ويلتهمها. والعجيب في المقام هو أنّ علم الشيطان وإدراكه وشعوره ليس مختصًا بالعلوم البشريّة ومدركاتها، بل هو راسخ في نفس الإنسان وذاته وصفاته وضميره، بحيث إنّه لا ينفصل عن الإنسان في أيّ مرحلةٍ من مراحله، ويعلن وجوده رسميّاً في كلّ مجلسٍ ومحفلٍ، حتّى إنّه يسبق الإنسان في المشاركة في هذا المحفل، ويهيّئ أسباب نفوذه ويثبّت وسائل إغوائه ويترك آثاره عليه، بل إنه يثبّت حضوره
بشكلٍّ مميّزٍ حتّى حينما يقوم الإنسان بعملٍ صحيحٍ وحتّى عند الإقدام على فعلٍ حقٍّ أو التكلّم بكلامٍ صدقٍ، لكنّ حضوره هذا يكون بشكلٍّ مخفيٍّ وغير علنيٍّ، بحيث لا يمكن تشخيص ذلك من قبل النّاس بسهولة، إلّا لبعض الأشخاص الخاصّين الذين شملهم اللطف الإلهي وأحاطت بهم العناية الربّانيّة، فعرّفتهم بوجود هذا الشيطان الخفيّ ونبّهتهم لحضور هذا الموجود المُغوِي، وسوف يأتي ذكر هذه الأمور لاحقًا إنشاء الله.
في هذه الآية الشريفة يُقسِم الشيطان أنّه سيُضلّ جميع عباد الله ويغويهم، لماذا؟ لأنّ تعلّق النفس الإنسانيّة بالكثرات قد فتح الطريق وهيّأه أمام نفوذ الشيطان إلى حريم قلب الإنسان وضميره، ومن هنا، إذا ما اجتمعت هاتان المقدّمتان وهما:
الأولى: وجود بعض الأمور التي تهيّئ الجوّ المناسب والأرضيّة الخصبة لنفوذ الشيطان وسيطرته على الإنسان، وهي: تعلّق النفس بالدنيا وزخارفها التي تشمل طلب الرئاسة، والمصالح الشخصيّة، وحبّ الذات واكتساب المنافع دون حدٍّ أو حصرٍ، والتعدّي على حريم الآخرين للوصول إلى الآمال الدنيويّة، وسلب حقوقهم لكي ينال آرائه الباطلة وأهواءه الفاسدة، واستعباد الناس وتسخيرهم في خدمة المنافع والميول الشخصيّة. ويمكن اختصار ذلك كلّه في جملة واحدة هي: تحميل رغبته ورأيه وهواه وهوسه وتغليبها على حقوق سائر الناس وإرادتهم وآرائهم ونظراتهم و ....
الثانية: الإشراف الكلّي للشيطان على الإنسان، وإحاطته الوجوديّة بصفاته واطّلاعه الواسع على ملكاته وجميع شراشر وجوده، ممّا يجعله أقدر على التدبير ومعرفة طرق إغواء الإنسان وإضلاله، ويمنحه القدرة على الدخول في حريم الإنسان، في أيّ مرتبةٍ ومرحلةٍ من مراتب وجوده ومراحل كماله. ولا يوجد أبدًا أحدٌ خارجٌ عن هذه القاعدة ومستثنى من هذا الحكم؛ سواءٌ في ذلك العالمُ والجاهلُ، والفقيهُ المجتهدُ والمقلّدُ العاميّ، والسالكُ وغيره، وسواءٌ كان رجلًا أم امرأةً، أو
كان كبيرًا أم شابًّا، كما لا يمكن لأيّ شخص أن يعتبر نفسه مغايرًا للآخرين من هذه الجهة ويعتبر نفسه محفوظًا ومصونًا من قدرة الشيطان وجنوده، أو يتصوّر أنّ يَد الشيطان قاصرةٌ عن الوصول إليه، فإنّ هذه الحالة وهذا التصوّر هو عين الجهل ونفس الضلال، وفي هذا الوضع سيكون نفوذ الشيطان في الحقّيقة مهيّئًا أكثر، ووُروده إلى حريم ذاك الشخص أسهل بكثيرٍ وأسرع، وأقلّ مؤنةً من غيره.
فإذا ما اجتمعت هاتان المقدّمتان، فإنّ الذي سينتج هو الحكم بالهلاك والخسران والبوار على جميع أبناء البشر في جميع طبقاتهم وعلى اختلاف درجاتهم.
ومن البديهيّ أنّه إذا فُقدت إحدى هاتين المقدمتين، فلن يعود هناك إغواءٌ وإضلال للشيطان بالنسبة للإنسان.
أمّا بالنسبة للجهة الثانية التي تعود إلى نفس الشيطان؛ وهي مسألة عِلمه الكلّي وإحاطته الوجوديّة بجميع خصوصيّات الإنسان وضميره وصفاته وملكاته النفسيّة، فيجب الاعتراف بأنّ هذه المسألة ناشئةٌ من قدرته الوجوديّة التي لن تُسلب منه، والله تعالى هو الذي منحه هذه القدرة، كما هو الحال في كلّ قدرةٍ في عالم الوجود، سواءً كانت ممنوحةً للصالحين أم لغير الصالحين أم لأيّ موجودٍ آخر، فقدرتهم هذه هي من الله تعالى، وبعبارةٍ أخرى: إنّ القدرة مختصّةٌ بذاته المقدّسة، وكذلك العلم والشعور والإدراك، فهي جميعها إفاضاتٌ من جانب حضرة الحقّ تعالى على جميع الموجودات، ومن جملة هذه الموجودات الشيطان وجنوده.
وبناءً على هذا، فيجب أن ندع توهّمنا جانبًا ونتخلّى عن خيالنا في إمكان أن يأتيَ يومٌ يفقد الشيطان فيه قدرته ووسائله ومعدّاته الوجوديّة التي يستخدمها في عمليّة إضلال الناس وإغوائهم، ليكون كالطائر المكسور الجناح القاعدِ جانبًا، فهو يُراقب أعمال الإنسان الصحيحة من بعيد، هيهات!
وأمّا بالنسبة للجهة الأولى، وهي وجود الأرضيّة المناسبة والظرف المواتي لدخول الشيطان ووروده إلى نفس الإنسان، فيجب القول: من حسن الحظّ أنّه يمكن
في هذا البُعد من المسألة أن تقصر يد الشيطان ويقلّ نفوذه على النفس من خلال إزالة الأرضيّة المناسبة لها. والسبيل إلى ذلك والوسيلة إليه هو إطاعة الأوامر الإلهيّة والانقياد التامّ للباري تعالى، ومراقبة الأعمال والتصرّفات والأفكار في أكمل مراتب المراقبة والانقياد. وفي هذه الصورة ستتلاشى الأجواء المناسبة لتعلّق النفس بالدنيا وبالكثرات شيئًا فشيئًا، وسوف يتضاءل ذاك الشغف وتقلّ جاذبيّة تلك الأمور وسحرها، وسوف ينقلب ذاك العطش والوله لنيل الأهواء الباطلة والجاذبيّات الأخّاذة للنفوس البشريّة إلى حالةٍ من عدم الاعتناء والانصراف عن هذه الأمور كلّياً والاشمئزاز منها والابتعاد عنها، وشيئًا فشيئًا ستصل النفس البشريّة من خلال حركتها نحو عالم القرب إلى مرتبةٍ تتخلّى معها حتّى عن التعلّق بذاتها، وعندها يندكّ وجود هذا الإنسان بوجود الحقّ، ولا تبقى له نفسٌ وذاتٌ مستقلّةٌ عن ذات حضرة الحقّ كي تكون محلًّا لحصول الميل نحو الكثرات والعوالم الموبقة المهلكة أو عدم حصوله.
وعندها -بعد أن يفقد الشيطان الأرضيّة المناسبة للغواية والإضلال- سيُقيم مأتماً على فقدانه القدرة على إضلال هذا العبد الصالح المطيع لله، وسيندب حظّه على هذه الخسارة الفادحة وعلى عدم التوفيق في القيام بمهمّته في إضلاله وإغوائه، وبالتالي سيرفع يده عنه ويكل أمره إلى الله؛ لأنه لم يعد لديه أملٌ في الدخول إلى حريم هذا الإنسان، فحريم هذا الإنسان غدا حريم الله وقلبه قلب الله وسرّه سرّ الله، والشيطان لا يستطيع أن يتعدّى أو يتطاول على حريم الله وسرّه وذاته بأن يضلّه ويغويه!
وهنا نفهم هذه المسألة المهمّة وهي كيفيّة تحديد المحلّ الصحيح للهداية والإرشاد، وكيف يسوق الله تعالى الإنسانَ نحو هذه التربية وهذا الإرشاد الخاص، وسيتبيّن لنا كيف أنّ هذا القانون مبنيّ على أُسس المنطق السليم وحكم العقل، وهو أنّه: يجب أن تكون الهداية من خلال شخصٍ بعيدٍ عن متناول الشيطان، منزّهٍ عن وسوسته وإغوائه بحيث لا يكون له أيّ تأثيرٍ أبدًا في أعمال هذا الشخص وتصرّفاته
وكلامه ونواياه. إنّ هذا الأمر طبيعيّ جدًا وبديهي؛ لأنّه لم يعد لهذا الشخص نفسٌ حتّى نتساءل هل أنّ كلامه ومطالبه صدرت عن هوى نفسه وهوسها أم لا.
وبناءً عليه، فجميع الأمور التي يُلقيها هذا الشخص بعنوان أنّها تكليفٌ ودستورٌ هي أمور منبعثةٌ من منبع الوحي وعالم الأمر ولا طريق أبدًا لأيّة شائبةٍ من شوائب الكثرات والتنزّل إليه، ولن تكون أوامره ونواهيه مختلطةً بالحيثيّتين الربانيّة والنفسانيّة، ومن المسلّم أنّ فعله في هذه الحالة سيكون عين الحقّ، وكلامه نفس الواقع والصدق، وفكره فكر إلهيّ بعيد عن التلوّن بألوان عالم الكثرات، هذا هو الشخص اللائق بالقيام بعمليّة الهداية ومساعدة الناس وإرشادهم وسوقهم نحو عالم القُدس، لا غيره.
ونظير هذه الآية، الآية الموجودة في سورة «الصافات»:
﴿وَ ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾۱.
في هذه الآية يبيّن الله تعالى حقيقة حال المخلَصين ببيانٍ ظريفٍ جدّا، ويبيّن كيفيّة أفعالهم وأوضاعهم ببيانٍ دقيقٍ.
لا شكّ في أنّ مسألة الجزاء والثواب مترتّبةٌ على عمل الإنسان في عالم الدنيا، و أنّ عمل الإنسان يجب أن يكون صادرًا على وجه الإخلاص ومصحوبًا بالمراقبة والمجاهدة، مع التجاوز عن الإحساسات والأهواء النفسانيّة، وقائماً على أساس القرب من الله؛ وإلّا فلن يكون موردًا لقبول حضرة الحقّ تعالى، وسوف يُرَدّ ذلك العمل إلى الإنسان نفسه، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ وفطريٌّ، فالإنسان يعطي مقابل كلّ فعلِ خيرٍ يصدر من أيّ شخص أجرًا ويثيبه عليه حتّى يشجّعه على فعله الحسن هذا، وكي لا يتصوّر أنّه لا أجر ولا ثواب على هذا الفعل.
وكذلك الأمر بالنسبة لأعمال الإنسان في يوم القيامة فإنّها تُوزن وتُقوَّم؛ فتُفرز تلك الأعمال التي صدرت على وجه الإخلاص وحسن النيّة وقام بها صاحبها لأجل
التقرّب إلى الله، فيعطيه الله الأجر والثواب على قيامه بهذا الفعل ويجزيه خيرًا بذلك، وأمّا تلك الأعمال التي صدرت منه تبعًا للخيال والهوى والاستكبار، وقامت على أساس الأنانيّة والفرديّة والجهالة، فسوف يُحاسب عليها ويُطالب بها ويُسأل عنها، فكلا الفريقين سيُحاسب ويُجازى على أعماله ﴿وَ ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾۱، فالحساب والجزاء سيكون على أساس نفس العمل الذي صدر منك في دار الدنيا، وكيفيّة هذا العمل هي التي ستُعيّن لك الأجر وتحدّد لك الثواب.
وبناءً على ذلك فأولئك الأشخاص الذين قد وصلوا من خلال المراقبة والمجاهدة في طريق الحقّ والانقياد الكامل للأوامر الإلهيّة وطلب درجات القرب إلى مراتب عالية، بحيث لم يعد لديهم شيء من الشوائب النفسانيّة وملكات النفس وصفاتها الرذيلة، والذين رفضوا جميع الحيثيّات وجهات عالم الكثرة والتعلّقات فرحلوا عن عالم الدنيا والتوجّه لها، ونصبوا خيامهم في حرم حضرة المعبود وحطّوا رحالهم في ساحته، فخرجت نفوسهم من عالم الجزئيّة وتعلّقت بالكلّية؛ فهؤلاء لم يعد لديهم نفس أصلًا حتّى يُقاس عملهم ويُوزن من خلالها، كما أن فعلهم في هذه الدنيا لم يعد فعل بشرٍ عاديٍّ وإنسانٍ طبيعيٍ. وبما أنّ هؤلاء قد صارت أنفسهم مندكّةً وفانيةً في ذات الله، فقد أصبحت جميع صفاتهم وملكاتهم صفاتٍ منبعثةً من عالم القدس وملكاتٍ مترشّحةً من أسماء وصفات حضرة الحقّ تعالى، وسيكون عملهم خارجًا عن دائرة الوزن والقياس، وهو منتسبٌ إلى ذات الله تعالى، وسرّ عدم تعلّق الأجر بأعمالهم أنّ الله لا يعطي أجرًا على الفعل الصادر من نفسه ولا يجازي عليه، بل الأجر والثواب إنما يتعلّقان بالأشخاص الذين يقومون بأعمالهم بشكلٍّ مستقلٍّ، وبعنوان أنّ لهم ذاتًا متشخّصةً ومتفرّدةً قد صدر منها العمل في مقام الطاعة والانقياد، لا بذاك الشخص الذي يكون فعله فعل الله وعمله عمل الله، وحركاته وسكناته كلّها عبارةً
عن نزول لمقام المشيئة الإلهيّة وإرادة الحقّ واختياره، دون أن يشاب ذلك بأيّ لون من ألوان الكثرة، ودون أن يختلط بأيّ شأنٍ من شؤون عالم الدنيا أو يرتهن بالميول والتمنّيات.
هؤلاء الأشخاص قد فرغوا من مقام المجاهدة والمراقبة والرياضات الشرعيّة والأعمال الخالصة والنيّات الصالحة في أعمالهم وأفعالهم، وتحقّقوا بحقيقة الإخلاص، وهي الخلوص، فصارت ذاتهم عين الخلوص والصفاء والطهارة، وصار سِرّهم مطهّرًا وأضحت نفوسهم عين الحقّيقة والواقعيّة والبهاء والنور، وصاروا مصداقًا للحديث القدسي الشريف:
«عبدي أطعني (واعبدني وحدي) حتّى أجعلكَ مثلي (أو مَثَلي)؛ أقولُ للشيء كُن فيَكون، وتقولُ للشيء كُن فيَكون»۱.
أو مصداقًا للحديث القدسي الشريف:
«لا يَزال (على نحو الاستمرار) يتقرّب عبدي إليّ بالنوافل (وبالأمور الموجبة لرضاي والقرب منّي) حتّى (يندكّ وجوده في وجودي ويفنى فيّ، وعندها سوف) أكونَ سمعَه الذي يسمعُ به وبصرَه الذي يُبصِرُ به ولسانَه الذي يَنطقُ بِه ...»٢.
إنّ الالتفات إلى هذه النكتة مهمٌّ جدًا ألا وهي: أنّ مسألة الانقياد والطاعة ليست منحصرة ومحدودة بالتكاليف الشرعيّة البسيطة والسهلة -كمسألة الطهارة والنجاسة وأقسام الشكّ في الصلاة- بل هي شاملةٌ لجميع شؤون الإنسان في كلّ مرتبةٍ وكلّ مرحلةٍ من مراحل الكمال والرقيّ؛ لأنّ هناك الكثير من المخاطر والمهالك التي يُبتلى بها الإنسان في حياته الدينيّة والتربويّة تفوق في أهميّتها وخطرها وتعقيدها تلك التكاليف العاديّة ومسائل الشرع الظاهريّة، و احتمال الانحراف وقابلية الاعوجاج والضياع فيها أكثر من تلك بكثير.
فالتردّد والاضطراب والضياع والحيرة التي يقع فيها الإنسان في المواقع الخطيرة والحسّاسة، والمواقع التي يكون فيها اختلافٌ في الرأي، وتفاوتٌ في اتّجاهات الأشخاص في مختلف الطبقات -وبالأخصّ عندما يكون الاختلاف واقعًا بين مدّعي العلم والدراية والمتولّين لزمام الأمور، والمسؤولين عن إراءة السبيل- هي أمورٌ لا يمكن التعامل معها بهذه السهولة، والتجاوز عنها كيفما كان؛ بأن يَنتخب الإنسان مِن بين الطرق التي أمامه طريقًا ببساطةٍ ودون علمٍ ولا يقينٍ ولا شهودٍ، كمن يرمي سهماً في الظلام ويتمنّى إصابة الهدف.
ومن جهةٍ أخرى، نرى أنّ الحالات المختلفة للنفوس البشريّة وكيفيّاتها وظهوراتها في مراحل الحياة المختلفة وحالات سيرها التكاملي تتطلّب بشكلٍ جدّيٍ مهارةً فائقةً، وخبرةً خاصّةً، وراء الاطّلاع على العلل والأسباب الظاهريّة والمعلومات
البسيطة المتعارفة للمسائل الشرعيّة والأحكام التكليفيّة؛ ومن هنا نجد أنّ العديد من المدّعين عاجزون هنا، و أنّ فكرهم بسيطٌ، ونظرهم قاصرٌ، وبصيرتهم في هذه الأمور لا تكاد تتجاوز الصفر؛ والسبب في ذلك أنّ مسائل النفس وحالاتها ليست مثل الأحكام والتكاليف الشرعيّة؛ فهي لا تشتمل على جهةٍ كليّةٍ وقانونٍ عامٍ حتّى يمكن لنا من خلال نظرةٍ واحدةٍ عامّةٍ وشموليّةٍ أن نذكر لها حكماً كليّاً وقاعدةً عامّةً في كتابٍ أو نكتبها في رسالةٍ أو مقالةٍ، ثمّ نوصي الناس كلّهم بالعمل بها؛ بل يوجد في هذا المجال لكلّ نفسٍ حكمها الخاصّ بها، و لها ملفّها الخاصّ بها، وكثيرًا ما يكون موضوعٌ واحدٌ ذا أحكام مختلفةٍ، باختلاف الأشخاص، ولا ارتباط لحكم أيٍّ منهم بحكم الآخر، وإلى هذا المعنى تشير العبارة المشهورة «الطُرق إلى الله بعدَد أنفاس الخلائق»۱.
وهنا، كلّما أحرز الإنسان تطوّرًا وتقدّمًا على صعيد القرب إلى الحقّ وتجرّد النفس والابتعاد عن التعلّقات وعالم الكثرة، صار تجاوز أخطار الطريق وموانع السير وموبقاته عليه أصعب، وغدت ظرائف ودقائق حيل إبليس أخفى، ومكره وحبائله أشدّ! وهذه
المسألة ليست من السهولة بحيث يمكن أن يتأتّى للعالم بالعلوم الظاهريّة والخبير بالمسائل والتكاليف الشرعيّة المتعارفة أن ينهض بأعبائها، بل إنّ الدخول في هذه الأمور يتطلّب بطلًا راسخًا حتّى يتمكن -من خلال ما يتمتّع به من بصيرةٍ نافذةٍ وإشرافٍ كلّيٍ وإحاطةٍ وسيطرةٍ على نفس الإنسان وآثارها وحالاتها وملكاتها- من تشخيص الصحيح من السقيم، وتحديد الطريق من المصيدة، وتمييز الصراط المستقيم عن الطريق المعوّج، فلا يصف للناس التيه والضلال بدلًا عن الطريق فيُوقعهم في الهلكات، فمن أين يمكن للفقيه المُتشرّع العالم بالأحكام والمسائل الشرعيّة أن يرشد الناس وينجّيهم من الحيرة والاضطراب الصادر مِن النفس التي حصلت لها بعض المنامات والمكاشفات، ووصلت إلى بعض الحالات البرزخيّة المعقّدة والملكوتيّة الصعبة؟! وكيف له أن يُنبّههم إلى كمائن الشيطان، ولوازم الطريق ومعدّاته ويبيّن لهم المهالك؟! فأنّى لذلك العالم الذي أفنى عمره بدراسة وتحقيق قسمٍ من العلوم الإلهيّة، وليس لديه إحاطة وعلم بسائر الأقسام الأخرى منها -فضلًا عن عدم اطّلاعه على الحركة إلى الله، ولا على مراحل السير والسلوك، وتخطّي عوالم الظلمة والنور، والوفود إلى حرم كبريائيّة الحقّ تعالى، والإشراف الكلّي والعلّي على جميع القضايا والأوضاع والأحوال السابقة والآتية- أنّى له أن يكون متعهّدًا ومسؤولًا عن هذه الأمور، مع أنّ أوّل ما يتطلّبه ذلك أن يمتلك الإحاطة بنفس المقلِّد، والشخص الذي أوْكَل زمام أمور دينه ودنياه إليه، ويطلب منه أن يوصله إلى أعلى مراتب الكمال والفعليّة؟!
وهنا تتّضح بجلاء هذه النقطة الدقيقة التي نقلها المرحوم الوالد رضوان الله عليه عن المرحوم السيّد الحدّاد قدّس الله نفسه عندما عزم -بناءً على أمره- أن يهاجر من النجف الأشرف ويعود إلى إيران، قال لأستاذه:
«إلى أين ترسلني يا سيّدي؟! فأنا الآن قد وصلتُ لتوّي إليك، وتذوّقت طعم صحبتك، وأدركت لذّة السكر في الشرب من الماء المعين وعين الحياة، فإلى أين أذهب؟!».
فقال له السيّد الحدّاد:
«يا سيّد محمّد الحسين! في أيّ نقطةٍ من نقاط العالم كنتَ، فأنا معك! إن كنتَ أنت في مشرق الأرض وأنا في مغربها، فلا تحزن ولا تخف ولا تقلق ولا تدع للشكّ والقلق طريقًا إليك، فأنا معك!».
ولقد أثبتا -رحمهما الله- هذا المدّعى عمليّاً بالنحو الأتمّ والأحسن والأكمل والأوفى، فرحمة الله عليهما رحمةً واسعةً.
في أحد الأيّام قال المرحوم الوالد -قدّس الله سرّه- للحقير كاتب هذه السطور:
«أينما تكن وفي أيّ مرتبةٍ كنتَ، فأنا مُطّلع على جميع زوايا وأسرار نفسك وخطوراتها».
وقد لمستُ منه هذا الأمر وشاهدته بالعيان كرارًا ومِرارًا؛ ففي إحدى المرّات صدر منّي عملٌ، وهذا العمل لم يكن فيه إشكالٌ من جهة الظاهر، لكنّه كان منافيًا لما تقتضيه المراقبة وصحّة العمل بالنحو الأحسن، وفي اليوم التالي بينما كنت مشغولًا بالمطالعة في غرفة مكتبته، خطرت هذه المسألة على ذهني فجأةً، عندها كان الوالد جالسًا خلف طاولته مشتغلًا بالكتابة والتأليف، فرفع رأسه وخاطبني قائلًا: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾۱.
لقد أفهمني من خلال هذه العبارة أنّه لا ينبغي لك أن تتصوّر في وقتٍ من الأوقات أنّك بعيدٌ عن أعيننا الحادّة والنافذة، أو أنّك مخفيٌّ عنها، فجميع أعمالك وتصرّفاتك واضحةٌ لنا وجليّة كالمرآة، شئت ذلك أم أبيت. ومشاهدة هذه المسألة منه لم تكن مقتصرةً على الكاتب، بل جميع أو أغلب الأشخاص الذين كانوا على علاقةٍ سلوكيّةٍ وتربويّةٍ بهذا الرجل يذكرون حكاياتٍ وموارد من هذا القبيل، بحيث لم يكن لدى أيّ شخصٍ منهم الجرأة في نقل خلاف هذا الأمر، وكانت هذه المسألة
واضحةً وبيّنةً إلى الحدّ الذي لم يبق فيها أيّ إنكارٍ أو شكٍّ أو تردّد بين تلامذته في ذلك، فالجميع يعترف ويُقرّ له بهذه الخصوصيّة سواءً في حياته أم بعد وفاته.
وهنا يُقرّ الكاتب ويعترف -باعتبار كونه ابنًا له- بأنّ كلّ ما سمعه عن خصوصيّات وآثار الإنسان الكامل، ولوازم وفعليّات العارف الحقّيقي بالله وبأمر الله، وجميع ما أدركه من خلال دراسته وتدريسه لمتون العرفان النظري وكتب الفلسفة الإلهيّة .. جميع ذلك ينطبق على هذا الرجل دون أدنى شكٍّ أو شبهةٍ، وقد صدّقنا ذلك بالتجربة، فأنا لست إنسانًا سريع التسليم؛ يدخل أيّ وادٍ من دون تحقيقٍ ويلج كلّ مكان مهما كانت بضاعته ومتاعه، نعم:
من آن نيم كه دهم نقد دل به هر شوخى | *** | درِ خزانه به مُهر تو ونشانهء توست۱ |
[يقول: أنا لست بالرجل اللا أبالي وغير العاقل الذي يُسلّم قلبه بأيّ كلامٍ وأيّ مزاحٍ، فمفتاح خزانة قلبي بيدك وعلامتها عندك].
عودةً إلى موضوعنا؛ بالإضافة إلى ما تقدّم، هناك آياتٌ أخرى شبيهةٌ بهذه الآية من قبيل الآية الشريفة من سورة الصافات: ﴿فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾٢.
أو كالآية الشريفة ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (هل كانوا أهل خير و صلاح أم كانوا مستوجبين للعقاب و المؤاخذة و مستحقين للقهر الإلهي؟) ، إلا عباد لله لمخلصين (فأولئك فرغوا من الإحضار إلى مقام العرض و الحساب و الكتاب، و لن يسألوا عن أعمالهم و تصرفاتاهم و لن يحاسبوا على أعمالهم الدنيوية) ﴾٣.
الدليل الثالث: المقربون شاخصُ الحقّ والأسوة لمن دونهم
ومن جملة الآيات التي تبيّن موقعيّة الكُمّل من الناس والأشخاص البارزين والمتميّزين عن سائر الناس؛ الآيات الواردة في سورة الواقعة:
﴿فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (إلى ساحة الأحدية) ، فَرَوْحٌ (أي حياة فرح و سرور لا نهاية لها) وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ ، وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (وهم الذين يعطون كتاب حسابهم بيمينهم) ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (والمستكبرين) ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ، وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾۱.
وتوضيح ذلك: أنّ أفراد بني آدم ينقسمون باعتبار تصرّفاتهم وكيّفيّة أعمالهم وميزان تسليمهم وانقيادهم للحق إلى ثلاثة أقسامٍ:
القسم الأوّل: الأشخاص الذين لم يُؤثّر فيهم كلام الأولياء الإلهيّين وإنذار الأنبياء العظام، ولم يستجيبوا لنداء الفطرة والوجدان في اتّباع البراهين العقليّة والأدلّة النقليّة، بل استكبروا عليها وواجهوها بالعناد، وأعْمَت زخارفُ الدنيا وجاذباتُ عالم الغرور عيونَهم وأسماعهم، وصدّتهم عن التوجّه إلى التكامل والعبور عن وادي الشهوات ورفض عالم التعلّقات والكثرات، وهكذا قضوا أيّامهم في أنواع التعدّيات والظلم، والانغماس في الشهوات، وأمضوا حياتهم في نيل المطامع الدنيويّة واللذّات الطبيعيّة الزائلة، معتقدين أنّ سعادتهم هي سعادة عالم الحسّ والطبع، وأنّ اللذّات منحصرةٌ في الاستمتاع الدنيوي و إرخاء العنان للهوى الحيوانيّ البهيميّ، ويتصوّرون أنّ الكمال هو في زيادة الطلب والإكثار من زخارف الدنيا، وكلّما وعظهم رُسُل الله وحذّرهم أنبياؤه وأولياؤه من سوء أعمالهم، ردّوا عليهم بالاستهزاء والسخرية، وزعموا أنّ هذه المسائل الواقعية والحقّائق التي دعاهم أنبياء الله إليها ليست إلّا أوهامًا وتخيّلاتٍ، وأنّها تليق بتفكير العوام البعيدين عن مجريات الثقافة والحضارة،
ووَقفوا أنفسهم على الحياة الماديّة وعلى الحياة الحيوانيّة والشهوانيّة فقط كما ورد في الآية الشريفة: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾۱، وابتعدوا بذلك عن رحمة الله وخرجوا من دائرة المرحومين والمغفور لهم، و بعنادهم واستكبارهم حبسوا أنفسهم في عالم المادّة وعالم الدنيا، وعليه فلن يجدوا لهم مكانًا عند الله في يوم القيامة، وسيكون مصيرهم إلى نار جهنّم.
وأمّا القسم الثاني: فهم الأشخاص الذين نظروا إلى كلام الأنبياء الإلهيّين نظر حقٍّ، وتعاملوا معه معاملة القبول والإذعان، وجعلوا نفوسهم منقادةً ومطيعةً لأوامرهم، و في مقام العمل وحفظ حدود الشريعة وثغورها، لم تزلّ أقدامهم عن جادّة الصدق والصراط المستقيم، وعملوا طِبقًا للأوامر والإرشادات الصادرة عن العلماء الكبار والمتطابقة مع موازين الشرع المبين ومبانيه، وأفنوا حياتهم بعزمٍ في سبيل تحصيل الرضا الإلهي والفوز بالنعم الأخرويّة ونيل الجنّة والحور والغلمان والوصول إلى ما وعدهم الله تعالى، والخلاصة أنّ عملهم كان على طبق الموازين الشرعيّة البعيدة عن الإجحاف، والتعدّي على النفس، وظلم الآخرين وتجاوز حقوقهم، وأدّوا ما عليهم من العبادات بالمقدار الذي يوجب رضا الله عنهم، فهؤلاء الأشخاص يُعرَفون ويسمّون ب «أصحاب اليمين»
وبما أنّ موازين الخلوص ومراتب الصفاء والتجاوز والانقياد مختلفة فيما بينها ومتفاوتة، كان لأصحاب اليمين مراتب مختلفة من حيث قربهم من الله، ولهم درجات مختلفة من حيث التعلّق بالدنيا وميلهم إليها، ورفضهم لأنواع الأنانيّات والحجب النورانية والظلمانيّة لعالم الكثرة، وتبعًا لذلك فإنّ لهم في ذلك العالم مراتب مختلفةً أيضًا ومنازل متفاوتةً في جنّة الله ونعيمه على أساس اختلاف مراتبهم ومنازلهم في هذه الدنيا، و لكلٍّ منهم مكانه الخاصّ الذي لا يمكن له أن يتجاوزه إلى المرتبة التي تليها،
بل منزلتهم ومرتبتهم في الجنّة إنما هي على مقدار سعتهم الوجوديّة التي اكتسبوها في هذه الدنيا ﴿وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾۱. ويمكن القول: إنّ هذا القسم يتشكلّ من قاطبة المؤمنين -و التي تشمل كلًّا من العامّي والعالم، والمقلّد والمُجتهد، والمحصّل والجاهل وغيرهم- وذلك لأنّ درجات البشر في يوم القيامة ليست قائمةً على أساس ما حصّله الشخص من معلومات، وإنما هي قائمة على أساس السعة الوجوديّة ومقدار البصيرة والنور، وذلك إنّما يُكتسب من خلال تحصيل الملكات الحسنة والصفات الحميدة والروحيّة التي يحصل عليها في هذه الدنيا، و لا فرق في ذلك بين أن يكون الشخص عامّياً أو عالماً.
وأمّا القسم الثالث: فهم الأشخاص الذين قاموا بوقف أنفسهم وجميع شؤونهم وجميع تعلّقاتهم بشكلّ حاسمٍ وقطعيٍّ على حضرة المحبوب، ووصلوا في الطاعة والانقياد إلى حدّ الهيام بالحقّ تعالى، والافتقار إليه، والوله به، بحيث لم يعودوا يرون لأنفسهم وجودًا أصلًا كي يجعلوا الله في مقابلهم فيعبدوه؛ فإنّ هؤلاء قد تجاوزوا مرتبة الفعل والإخلاص والثواب، ولم يعودوا يشاهدون مؤثّرًا سوى اللَه، كما أنّهم بطبيعتهم لا ينسبون أيّ أثرٍ لغير الله، فهم لا يرون لأنفسهم وجودًا أصلًا حتّى تستند أعمالهم وفعالهم إلى ذلك الوجود، بل يرون أنّ وجودهم هو وجود حضرة الحقّ وأثر فيضه تعالى، ولا يحسبون لذاتهم مقابل ذات الله حسابًا حتّى، لكي يعملوا على تطبيق هذه الذات على إرادة الله ومشيئته؛ يقول الله: افعل! فيفعلون، ويقول: لا تفعل! فلا يفعلون، يقول: مُت! فيموتون، احيَ! فيَحْيون، يقول: سأدخلك الجنّة فيدخلون، أو يقول: لن أدخلك الجنة فلا يدخلون، والحاصل أنّهم قد تجاوزوا دائرة الطاعة وذهبوا أبعد من ذلك، فأفنوا أنفسهم ودكّوها في ذات الله، كما قال المولى أمير المؤمنين عليّ عليه السلام:
«إنّ قومًا عبدوا الله رغبةً (في ثوابه وأجره ونعمه) فتلك عبادة التجّار، وإنّ قومًا عبدوا الله رهبةً (وخوفًا من نار جهنّم وعذابها) فتلك عبادة العبيد (الذين يقدّمون الطاعة لخوفهم من بطش ساداتهم)، وإنّ قومًا عبدوا الله شكرًا (وكانت عبادتهم فقط لأجل شكر رحمة الحقّ وعنايته ولكونه أهلًا للعبادة) فتلك عبادة الأحرار»۱.
وهذه العبارة نظير العبارة الأخرى الصادرة عنه عليه السلام، حيث يقول:
«إلهي مَا عَبدتُك خوفًا من نَارك ولا طمعًا إلى جنّتك، بل وَجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك (بعيدًا عن كلّ الاعتبارات الأخرى)»٢.
نعم، يرِد أصحاب هذا القسم إلى الله تعالى بعيدًا عن مقام الحساب ووزن الأعمال، وبما أنّ عملهم لم يصدر منهم ابتغاءً لأجرٍ أو ثوابٍ، فلن يستطيع الملائكة أن يقدّموا أيّ تقييم له أو أن يزنوه بميزان الحساب، كما لا يمكن لأيّ نعمةٍ أن تكافئهم وتجازيهم على أعمالهم تلك؛ لأنّهم كانوا أعلى شأناً من الثواب والأجر ولم يكونوا يحسبون أيّ حسابٍ لهذا الموضوع أبدًا، بل لم يكن عملهم صادرًا إلّا مِن أجل رضا الحقّ، دون الالتفات إلى أيّ أمرٍ آخر وراء ذلك، فنفس هؤلاء قد تجاوزت مقام الرغبة والإرادة والتمنّي، ولم يعد هدفهم هو الجنّة ونعيمها كي يجازيهم الله تعالى على أعمالهم الصالحة بذلك. هؤلاء هم المقرّبون؛ يعني الأفراد الذين صارت وجهتهم أعلى من الجنّة ومن نِعَم الجنّة وأعلى من خصوصيّات الجنان، وصاروا أرفع من مقام العرض والمحاسبة وتقييم الأعمال.
و يستفاد من مضمون هذه الآية أنّ الأولياء الإلهيّين هم أشخاصٌ قد تخطّت أفعالهم وأعمالهم مرحلة النفس ومرتبتها وصارت متّحدةً مع حقيقة التوحيد؛ وذلك لأنّ هؤلاء لم تعد أنفسهم مبتلاةً بآمال النفس ومتعلّقاتها وتمنّياتها وشوائبها كما يبتلى به غيرهم من الناس، وإن كانوا مؤمنين وصالحين. وبناءً على ذلك، فعمل هؤلاء هو عملُ الحقّ وتصرّفهم هو فِعل الحقّ، لأنّهم من خلال هذه النعمة الإلهيّة العظمى قد اندكّوا واقعًا وفنوا في وجود الحقّ، فالعمل الصادر عنهم -وتبعًا لفناء أنفسهم في وجود الحقّ- هو عملٌ منبعثٌ عن فعل حضرة الحقّ وإرادته تعالى.
والإنصاف أنّه يجب أن تُعتبر هذه الآية الشريفة من البراهين المبيّنة لنفس وليّ الله والمثبتة لذات العارف بالله، فهكذا يجب أن يكون وليّ الله لكي يتّخذه الإنسان أسوةً له في القول والعمل، وقدوةً يقتدي به، وشاخصًا للحقّ، ومميّزًا بين الحقّ والباطل؛ وذلك لأنّ الطاعة والانقياد وإن كان ينبغي أن تتحقّق على أساس إدراك الإنسان للهدف المقصود وميله نحوه ورغبته في الوصول إليه و فهمه لحقيقته، وهو أمرٌ يختلف من شخصٍ لآخر بحسب اختلاف مقدار معرفته ومستوى إدراكه، ومع
ذلك فإنّ نفس افتراض الإنسان وتصوّره لوجود مراتب متفاوتة في الإدراك والشعور، يقتضي أن يدرك وجود مرتبةٍ خاصّةٍ؛ بحيث يشعر هذا الفرد -بغض النظر عن المرتبة التكامليّة التي وصل إليها- بأنه محتاجٌ إلى المساعدة والإرشاد والتأسّي والإطاعة ليصل إلى تلك المرتبة القصوى، وتلك المرتبة هي مرتبة الصِدق المطلق والحقّ المطلق والواقع المطلق.
فجميع الأفراد بغضّ النظر عن مرتبتهم مشتركون في إدراك أصل هذه المرتبة القصوى وإن اختلفوا في كيفيّة فهمهم لها، والله تعالى إنّما يكلّف كلّ واحدٍ منهم على قدر فهمه وإدراكه؛ فملف حساب كلّ إنسانٍ مختصٌّ به، وسوف يُسأل ويحاسب هذا الإنسان طبقًا لميزان فهمه وشعوره وبمقدار إدراكه وسعته الوجوديّة، ولا علاقة له بالآخرين؛ في أيّ مرتبة من المعرفة كانوا فليكونوا، ولا يعتبر عملهم معيارًا لعمله وفعله. كما هو الحال بالنسبة لعمل الطفل، فإنّ عمله لا يعتبر ميزانًا لفعل الكبار أبدًا ولا يؤخذ معيارًا لعمل الراشدين، وهذه المسألة غايةٌ في الدقّة وحسّاسةٌ جدًا، وتستحق التأمّل بها وفهمها فهماً صحيحًا، ومهما تأمّل الإنسان في هذا الأمر فإنّ تأمّله فيه يظلّ قليلًا.
الدليل الرابع: تحقق ملاكات الشرع و حقيقة الأحكام بعينها في وجود الوليّ الكامل
ومن جملة الآيات الموجودة في القرآن والتي تُشير إلى أوصاف الأفراد الكاملين والذين تجاوزوا الهوى والنفس، الآياتُ من الثانية والثلاثين إلى الخامسة والثلاثين من سورة فاطر:
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ ، وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ، الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ﴾.
أي: (إنّا أورثنا كتابنا المتضمّن للقوانين والمحتوي على أحكام صلاح الإنسان والمجتمع وفسادهما، لأولئك الذين اصطفيناهم وانتخبناهم، وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
فبعض هؤلاء: عبارة عن مجموعة توغّلت في الجهالة وانغمرت في عالم الشهوات، فصاروا بذلك ظالمين لأنفسهم ومضيّعين لسعادتهم، وقضوا حياتهم الدنيويّة منشغلين في الكثرات وادّخار الأموال وجلب الشهوات والغفلة عن مصيرهم ومآلهم، فاستوجبوا بذلك الخسران والتعاسة والهلاك.
والقسم الثاني: هم أشخاص يمتلكون أخلاقًا حسنةً، وفِعالًا متعادلةً ناشئةً من التدقيق والمحاسبة لأنفسهم، ونظّموا أمورهم على أساس الصراط المستقيم، والطريق القويم، وعلى أساس المشي المقتصد المتزن المعتدل، المنظَّم على طبق الدستورات الإلهيّة والأحكام الشرعيّة المبينة.
وأمّا القسم الثالث: فهم الذين كانت لهم قدم السبق على الجميع، فهم يتسابقون لكلّ عملٍ على طريق الخير والصلاح بإذن الله، ولا يستطيع أحد أن يجاريهم في هذا المضمار، وليس لأحدٍ الطاقة على مماشاتهم في ذلك، ومهما حاول الإنسان أن يصل بأعماله الحسنة والمنطبقة على الموازين الإلهيّة ومباني القرب والخلوص إلى رتبتهم وقدرهم، لم يمكنه ذلك. لماذا؟ لأنّ هؤلاء قد تجاوزوا مقام العمل وجعلوا فعالهم وتصرّفاتهم فعل الله وتصرفه، فلم يعد عملهم منبعثًا من نفوسهم ومن شوائبهم النفسانيّة. هذا القسم من المؤمنين يدخلون جنان الخلد العالية، مزيّنين بلبس المجوهرات والذهب واللؤلؤ، ولباسهم فيها من حرير، وقالوا الحمد الله الذي أذهب عنّا الحزن إنّ ربنا لغفور شكور، الذي أسكننا دار البقاء والخلود بفضله وكرامته، حيث لا طريق للشعور بالعطش والمرارة ولا للشعور بالألم).
و من هنا، كيف يمكن لشخص ما يزال متعلّقًا بنفسه وذاته ومرتهنًا لشوائب وجوده ومحكومًا لإراداته وأمانيه -مهما بلغ في صلاحه- أن يقارن فعله بما يفعله هؤلاء أو أن يقوم بمنافستهم؟! فصلاته تختلف عن صلاة أولئك، فهو أثناء الصلاة يفترض أن الله
تعالى أمامه، ويتحدّث معه، ويبثّ إليه همومه وحاجاته، بينما أولئك لم يعودوا يرون الله أمامهم أصلًا، بل صار وجودهم مندكّاً وفانيًا في وجود الحقّ، فهنا لا يبقى للعبد والمخلوق وجودٌ في مقابل الله وأمام حضرة الحقّ تعالى ليقوم بعبادته، ولا تقابلَ بينهما حتّى يقصد التقرب إليه، فالإثنينيّة في هذه الحالة قد ارتفعت بينهما بشكلٍّ جذريٍّ، و قد مُحيت جميع آثار الوجود المقيّد وحدوده وثغوره بشكلٍّ كلّيٍ، فلم يبق أيّ أثرٍ من الوجود لهذا المصلّي في مقابل وجود حضرة الحقّ حتّى يعبده ويصلّي له، فهنا يبقى موجودٌ واحدٌ فقط وحقيقةٌ واحدةٌ وواقعٌ واحدٌ وذاتٌ واحدةٌ؛ وهي وجود ذات الله تعالى فقط، وعندها هو الذي يعبد وهو الذي يقف للصلاة وهو الذي يركع وهو الذي يسجد.
وهنا يوجد رواية عن صادق آل محمّد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يقول فيها: عندما وصلتُ أثناء قراءتي لسورة الحمد إلى الآية الشريفة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ بدأت أكرّرها إلى أن وصلت إلى حدّ رأيت أن نفس الذي أنزل هذه الآية هو الذي يقوم بقراءتها على لساني، عندها لم أتحمّل هذه الحالة فوقعت على الأرض۱.
نعم، تصير نفس المصلي في هذه الحالة مع ذات الحقّ تعالى واحدةً، وتصير حركاته وسكونه حركةً واحدةً وسكونًا واحدًا، وهي راجعةٌ إلى ذات القدس الإلهي. بخٍ بخٍ! ما هذه الصلاة، وما هذا الذكر والورد، و أيّ ركوعٍ هذا وأيّ سجودٍ! فمن هو الذي يطلب؟ ومن هو الذي يقرأ؟ ومن هو الذي يلهج لسانه بذكر سبحان ربي الأعلى وبحمده؟!
ههنا يتّضح معنى هذه الآية الشريفة ﴿سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾۱، وذلك لأنّ ذات الباري تعالى غير قابلةٍ للتوضيح والتوصيف؛ فالحمد والتسبيح البشري لا يمكنه أن يتجاوز حدود إدراكات البشر، وبما أنّه لا يمكن للمعلول مهما كانت سعته وظرفيّة استعداده أن يحيط بالعلّة ويشرف عليها، فكذلك لا يمكن للحمد والتسبيح الصادر من المخلوقات -مهما بلغت من مراتب الكمال الروحي وعلوّ النفس- أن تكون لائقةً بالمقام المنيع والعزيز لذات الحقّ؛ وبناءً على هذا، لمّا اعتبرت هذه الآية أن تسبيح عباد الله المخلصين مناسبٌ لمقام الله ولائقٌ بشأنه، علمنا من ذلك أنّ ذات الله هو الذي يسبّح نفسه ويمجّدها، وأنّ هذا التسبيح خارجٌ عن دائرة مدركات النفس البشريّة وملكاتها، وهو وإن كان صادرًا من لسان فردٍ بشريٍّ، لكن روحه وحقيقته وسرّه متّصل بذات الحقّ وهذا الحمد منبعثٌ من إرادة الله ومشيئته، وليس هناك أيّ مشيئةٍ أخرى أو تعلّقٍ إضافي في هذا الأمر غير الإرادة والمشيئة الإلهيّة.
توضّح هذه الآيات مقام الإنسان الكامل وشأنه بشكلٍّ جليٍّ، وتحدّد الضابطة التي على أساسها يعمل هذا الإنسان؛ فعمله لم يعد يصدر منه بناءً على موافقته للمصالح والمفاسد أو على أساس قصده وإرادته لأن يطبّق و ينفّذ ما فيه الخير والصّلاح، ولا يعود محتاجًا إلى التفكير في مصالحه وإعمال الرويّة لتصحيح عمله وتصرّفه كما هو المتعارف عند أهل الخير والصلاح، وليس محتاجًا إلى المراقبة والمجاهدة ليحصل على الإخلاص للّه في عمله، ولم يبق لديه قلقٌ من وسوسة الشيطان وإغواء النفس الأمّارة، فقد قطع أيادي الشيطان وجنوده كلّيًا ومنعها من التطاول على حريمه و حرمه، ووضع نفسه تحت سيطرة القوى العاقلة والملكوتيّة، وقد تحقّقت في ذاته جهات الفعليّة العقلانيّة والكمال الروحي، وظهرت وبرزت فيه حقائق عالم التشريع، وانقشعت أمامه مِلاكات الأحكام جميعًا بشكلٍّ واضحٍ، وبانت له علل الشرائع والقوانين بشكلٍّ جلّيٍ، وصارت حقيقة جميع الأحكام الإلهيّة ودستورات الشرع المبين متحقّقةً في وجوده بعينها وبحقيقتها التكوينيّة، فعندها، كيف يمكن أن يتصوّر وجود خطأ أو غلط أو هوى أو حمق أو بطلان أو ندم في أعماله وأفعاله وأقواله وإرشاداته وتوجيهاته؟!
وهنا نشاهد أن العديد من العلماء الكبار والفقهاء العظام يرجعون إلى أساتذتهم العرفانيّين وعلمائهم الربّانيين والسلوكيين في موارد الشكّ في الحكم أو التردّد في استنباط الأحكام الشرعيّة، فيستفسرون منهم ويستوضحونهم ويطلبون منهم رفع هذه الشبهة، وكان هؤلاء يبيّنون لهم بالفعل حقيقة المسألة وواقعها ولبّ ذلك الحكم وجوهره۱.
يقول الحقّير: لا أرى استطرادًا أن أنقل روايةً ذكرها صاحب كتاب ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث يروي بسنده عن أبيه عن محمّد العطار عن الأشعري عن محمّد بن حسان عن أبي عمران الأرمني عن عبد الله بن الحكم عن معاوية بن عمار عن عمرو بن مروان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:
«مَنْ وَلِيَ شَيْئاً مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ (وكان جاهلًا بالمصالح والمفاسد ولم يكن يملك العمق الكافي لتحديدها) فَضَيَّعَهُمْ (وأفسد هذا الأمر الذي تولّاه)، ضَيَّعَهُ الله عزّ وجلّ (و بدّل عمره من السعادة إلى الخسران والهلاك)»۱.
ليس هذا بالهزل! كيف يكِل الإنسان أمره إلى شخصٍ هو نفسه محتاج إلى من يرشده ويأخذ بيده ويهديه؟! وقد نقل لنا التاريخ مئات بل آلاف الشواهد الواضحة والجليّة على هذه القضية.
إنّ هداية الخلق وإرشادهم يجب أن تكون بيد شخصٍ ليس لديه أيّ تعلّق بنفسه وليس عنده أيّ خصوصيّةٍ أو صفةٍ أو شائبةٍ من صفات وخصوصيّات الأشخاص المتعلّقين بالكثرات بجميع أبعادها، والمتوجّهين إلى الدنيا، ولا يكفي فقط ترك التعلّق بالمأكولات والمشروبات واللذائذ الجنسيّة -خلافًا لما يظنّه الكثيرون اشتباهًا من أنّ هذه الأمور هي خصوصيّات الشخص المتعلّق بالدنيا- بل لا بدّ أن يكون بعيدًا أيضًا عن المسائل الباطنيّة للنفس الأمارة، والغرائز الشيطانيّة المخفيّة والمنطوية في نفس البشر، والتي هي أهم بكثير وأخفى وأشدّ خطرًا من تلك الأمور السابقة.
فعُمَر مثلًا كان يأكلّ الخبز والخلّ، وكان يتظاهر بذلك أمام عوام الناس الذين هم كالأنعام، وكان يُضلّهم بذلك، والحال أنه لم يكن مستعدًا أن يتخلّى ولو للحظةٍ واحدةٍ عن الخلافة، فيسلّمها لصاحبها الحقّيقي والأصلي الإمام أمير المؤمنين عليه السلام،
فاللّذة التي كان يشعر بها هذا الرجل الذي لا يعرف شيئًا عن الله والمنغمر في الشهوات والأهواء النفسيّة والوساوس الشيطانيّة، في تسلّطه على الناس وحكومته عليهم، كانت أشدّ وأعلى بكثير من لذّة الطعام اللذيذ والشراب الهنيء ومقاربة الحسناوات وسائر النعم الظاهريّة والدنيويّة الأخرى.
فلا يتصوّرنّ أحدٌ أنّه بمجرّد أن يَحرِمَ إنسانٌ نفسه من بعض النِعم الإلهيّة الظاهريّة، ويكتفي بالقليل منها، ويؤدّي بعض الأمور الأخرى التي تبدو صالحةً ووجيهةً في أعين الناس البسطاء والذين لا علم لهم بخصوصيّات النفس الأمّارة وحقائقها، ويبتعد عن الأمور التي يمكن أن تكون موضع شكٍّ وإبهامٍ لدى الكثير .. لا يتصورنّ أحدٌ بأنّ هذا الشخص يُمكنه أن يتعهّد تدبير أمور الحكومة وإرشاد الآخرين وأخذ زمام أمور الناس بيده، بل يجب أن يكون الإنسان المتصدّي لهذه الأمور قد حرّر نفسه من مستنقع النفس، ووصل وجوده بوجود الحقّ تعالى، وحوّل جميع صفاته وملكاته وغرائزه إلى صفات حضرة الحقّ بشكلٍّ جوهريٍّ، حتّى لا يعود في وجوده أيّ أثرٍ من الآثار السيئة المخفيّة والمتوارية في زوايا النفس الأمّارة، وأيّ شائبة من ملكات الرذيلة التي يعاني منها جميع أفراد البشر؛ هذه الآثار والملكات التي لا يمكن أن ترتفع أبدًا من خلال المطالعة والقراءة والدرس والتدريس في أيّة مرتبةٍ كان من مراتب العلوم والفقه، وسواءٌ في ذلك جميع أنواع العلوم والمعارف المتداولة في عالم الدنيا.
نعم، ذلك الشخص الذي هاجر من الجزئيّة إلى الكلّية، وانتقل من عالم النفس الدنيّ إلى عالم التجرّد العليّ، وارتفع من حضيض الكثرة إلى أوج الوحدة، هو الذي صار عنده قابلية الإرشاد والوعظ والتربية ومسؤوليّة تدبير وإدارة أمور المجتمع والشخص.
يقول المؤلّف: من المناسب هنا أن نشير إلى بيانات المرحوم الوالد قدّس الله نفسه في رسالته التي وجّهها إلى قائد الثورة الإسلاميّة في إيران آية الله الخميني رحمة الله عليه حول الدستور، حيث كتب في مقدّمة هذه الرسالة:
«تَعتبِرُ الفلسفةُ التوحيديّة الإسلاميّة المُتّخذة من القرآن الكريم والسنّة النبويّة أنّ روح الحكومة والولاية على الناس منحصرةً بالمبادئ الرفيعة
السامية، وترى أنّ الشخص المناسب لهذا المقام هو أعلم الموجودين وأجمعهم للشروط وأنزههم، وفي هذه الصورة، فإنّ أفراد الأمة بقيادة هذا القائد اللائق -الذي يجمع بين امتلاكه لقلبٍ منيرٍ ومطّلعٍ، وعقلٍ مفكّرٍ، وعزمٍ راسخٍ، وبين عبوره وتجاوزه عن نفسه واتصاله بالكلّيّة- سيستفيدون من أفضل المواهب الإلهيّة، ويوصلون جميع قواهم واستعداداتهم الذاتيّة إلى منصّة الظهور والفعليّة، وسيشعرون بكامل الحريّة والاستقلال، وسيستفيدون من جميع غرائزهم الطبيعيّة وملكاتهم الروحيّة بالحدّ الأكمل.
في ظلّ هذه الفلسفة، ينتشر الحُكم والقانون والقضاء ويتنزّل تدريجيّاً من الأعلى (أي من مقام التوحيد والطهارة الذي يمثِّل مقام وحدة وجامعيّة وليّ الأمر) إلى الأسفل ليشمل جميع طبقات الناس وأصنافهم.
﴿فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾۱، ﴿وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾٢.
أمّا في الفلسفات المادّيّة، أو في القوانين الغربيّة التي لا تتمتّع بشيءٍ من روح التوحيد الإسلامي، فإنّ مصدر قرارهم صادرٌ من الكثرة، أيّ من أفكار عامّة الناس وأوهامهم وإن كانوا في أدنى درجات الضعف، فإنهم يمنحون حقّ تعيين المصير وصنع القرار في الشؤون العامّة والسلطة لهؤلاء الناس اعتمادًا على ملاك الأكثريّة لا غير.
فتقوم الحكومة في هذه الفلسفات على أساس الانتخاب، ويقسّمون كيفيّتها على ضوء نظام الملكيّة الدستوريّة أو النظام الجمهوريّ أو بعض الأنظمة
الأخرى، ولذا فالنظام الجمهوريّ القائم على أساس الانتخاب لا يختلف عن النظام الملكيّ الدستوري، وهو وليد القوالب الغربيّة التي لا تنسجم مع روح الإسلام.
تستند حكومة ودولة الإسلام على نفسها، وتعتمد على أصل الحقّ الأصيل، ولا يمكن لأيٍّ من تلك القوالب تجسيد هذه الواقعيّة أو أن تحيط بها.
وعلينا في هذه المرحلة الحسّاسة والمصيريّة التي نمرُّ بأدقّ لحظاتها أن نكون أكثر حيطة لكي لا نبيع الأصول الإسلاميّة النفيسة من حيث لا نشعر -والعياذ بالله- إلى الميول والنزعات الغربيّة بسبب تشبّع الأدمغة بإلقاءات الغرب، وعدم الأنس بطريقة تشكيل الحكومة الإسلاميّة بشكلها الواقعيّ، وعلينا أن لا ندفن تلك الحقّيقة في مقبرة النسيان بسبب الاعتماد على إشراف ورقابة أنظمة التسلّط والاستبداد والتجبّر!
وقد أخطأ علماؤنا الأعاظم -سواءً مَن ناصر الاستبداد أم من أيّد النظام الدستوريّ- في غمار معمعات وصراعات الحركة الدستوريّة و المشروطة، ففئةٌ كانت ترى أنّ الناس المظلومين سيتحرّرون من نير الاستبداد وظلم الأمراء والحكّام الجائرين فساندوا النظام الدستوري، وارتأت الفئة الأخرى أنّ عنوان الاستبداد سيحفظ الناس وسط هالةٍ من الدين، وأنّه سيسدّ ثغرة الحرّيّات غير المشروعة وقبول الغرب، ولأنّهم حصروا الطريق في هاتين النظرتين، فقد حاربوا بعضهم البعض، ولم يقل أحدٌ إنّ النظام الدستوريّ غير صحيح وكذا الاستبداد، وأنّ الصحيح هو الإسلام لا غير، فحكومة الإسلام هي حكومة الإسلام، أيّ حكومة رسول الله، لا أقلّ من هذا ولا أكثر.
لذا شوهد في مدّة حياة النظام الدستوريّ الذي سُقيت شجرته بدماء المجاهدين الصادقين الزاكية والمخلصين لطريق العدل والحرّيّة أنّه قد صُبَّت كلّ ألوان الظلم، وأنّ النظام الدستوريّ لم يدع في تسلّطه على هذه الأمّة مجالًا تسبقه فيه واحدةٌ من الحكومات الاستبداديّة عبر التاريخ
البشريّ، ويا لشدّة تلك الظلامات المؤلمة التي لم تنفع معها أقوى المسكّنات تأثيرًا! وما أعظم ذلك الحرمان الذي لحق بأبسط حقوق الناس الأوّليّة باسم العدالة الاجتماعيّة والحرّيّة العامّة الخاوية من أيّ محتوى. هذا على الرغم من رعاية غاية الدقّة في تدوين ذلك الدستور تحسّبًا من الانحراف، ومع كثرة اهتمام مُؤسسيها و حرصهم على تطبيق قانون العدالة والحرّيّة. والعِلّة الوحيدة لكلّ هذا الحرمان تكمن في أنّ الحكومة قد انحرفت عن محورها الأصليّ، فقد سنّوا القانون تحت واجهة مجلس الشورى، وانحرفت السلطات الثلاث -التشريعيّة والقضائيّة والتنفيذيّة- عن مسارها، إنّ تجربة المشروطة هذه كافية لنا، ورسول الله يقول:"لَا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ"۱ -إلخ»٢.
والحاصل إنّ مرادنا من إيراد كلامه في هذه الرسالة هو قسمٌ واحدٌ منها فقط؛ وهو ما ذكره من تدخّل علماء الدين في الأمور السياسيّة وما حصل في أحداث الحركة الدستوريّة وقضيّة المشروطة، وأنّه كيف يمكن أن تقع الدولة بأيدي الأجانب رغم وجود المراتب العالية من العلم والفقاهة، وذلك لأنّهم لم يمتلكوا بصيرةً وإشرافًا على المسائل الخفيّة والأمور المبهمة في عالم السياسة، ولم يكونوا على علمٍ بكيد الكافرين ومكر الملحدين. فكم من دماءٍ أريقت في هذا السبيل بلا فائدة! وكم من رأس مالٍ أهدر في ذلك! وكم حرمةٍ من حرمات الدين والمتديّنين قد هتكت!
نعم، رغم أن غرضنا كان يكمن في هذه الفقرات فقط، ولكن بما أنّ الفهم الصحيح لها كان يستوجب بيان الفقرات السابقة، فقد قمنا بذكرها أيضًا.
لقد أشار المرحوم الوالد في هذه الفقرات التي تستحقّ واقعًا أن تسمّى بميثاق الحكومة الإسلاميّة، إلى الموضوع الذي كنّا قد بحثناه في السطور السابقة، وهو إيكال زمام الأمور إلى الفرد الكامل والبصير المبرّأ عن الخطأ والاشتباه، المنوّر بنور الإيمان،
المتحقّق بحقيقة الولاية؛ باعتبار أنّ هذا الشخص هو الوحيد الذي يمكنه أن يأخذ الأحكام والقوانين والدستورات من مبدأ الوحي ومنبع الأحكام ومحل تنزّل الشرائع، ويوصلها إلى منصّة الظهور في أجمل حللها وأتقنها، مُراعيًا في ذلك ظرف الزمان والمجتمع، ولا يستطيع أيّ شخصٍ آخر أن يقوم بهذه المهمّة مهما كان قد بلغ من مراتب العلم والكمال، بل يجب أن تكون هذه الأمور بتدبير وإدارة مثل هذا الشخص الذي بلغت استعداداته فعليّتها، فمثل هذا الشخص هو الذي سيقوم بإيصال جميع الناس -كلٌّ بحسب سعته وظرفيّته الوجوديّة- إلى الكمال والترقّي، وعلى مثل هذا الشخص يمكن أن يَعتمد الإنسان وبمثل هذا الشخص يمكن للإنسان أن يثق، لا بفردٍ آخر؛ لأنّ الذين كانوا في خضمّ أحداث هذه الواقعة (أحداث الحركة الدستوريّة) صاروا طُعمةً لهذا الخطب العظيم والخطأ الخطير والاشتباه غير القابل للإصلاح، وهم من رؤوس علماء البلاد وفحول الفقهاء العظام؛ كالمرحوم الآخوند ملّا محمّد كاظم الخراساني والشيخ عبد الله المازندراني والسيد محمّد كاظم اليزدي والميرزا محمّد حسين النائيني والشيخ فضل الله النوري، وغيرهم الكثير، وكان كلّ واحدٍ منهم يُعتبر مرجعًا لجمعٍ غفيرٍ من الناس، وملجأً لأشخاص مختلفين من طبقات المجتمع، ولكن في النهاية رأينا كيف تسلّلت الأيادي الخفيّة والأصابع السرّية لسياسة الأجانب حتّى لوّث مكر هؤلاء وخداعهم ساحة الفقهاء وجعلوهم أحجارًا يحرّكونها في لعبتهم، وعندما علم العلماء بحقيقة هذا الخداع والمكر، كانت الأمور قد خرجت من أيديهم ولم يكن لديهم أيّ حيلة، حيث كان الخصم غارقًا في سكرة الانتصار يضحك ضحك المنتشي على كلّ أرباب الفضل والدراية والفقه والفقاهة؛ فقد تمّ له الفتح والانتصار، وجعلهم في مهبّ رياح السخرية والاستهزاء. وعندما رآهم قد قاموا لمواجهته وأقدموا على منابذته، قام بقطع الطريق عليهم من أوّله، وعمل على إخماد الأصوات قبل ارتفاعها وقبل بلوغها الحلقوم، وتربّع هو على عرش السلطة والحكم.
نعم، هذه نتيجة عدم البصيرة في الأمور، والاقتصار على النظر إلى المسائل بنظرةٍ ظاهريّةٍ، وعدم التزوّد من المواهب الإلهيّة الخفيّة والاستفادة من ألطاف
حضرة الحقّ الخاصّة، وهذا مآل الاعتقاد بأنّه يمكن من خلال الاعتماد على العلوم الظاهريّة الشرعيّة وغير الشرعيّة التغلّبُ على مكائد ووساوس وحيل إبليس وجنوده، وأن يمهّد الطريق للسير نحو الكمال ويفتحها أمام المجتمع ويرفع الموانع والعقبات عنها، غافلًا عن أنّ الشيطان قد سبقه في تجربة جميع الطرق والاطّلاع عليها بشكلّ كافٍ ووافٍ، وأنّ الشيطان سيستفيد من كامل قدراته في حربه ضدّ عدوّه، ولن يستطيع أيّ شخصٍ أن يصمد أمامه ويتغلّب عليه إلّا أن يكون ذلك الشخص مشمولًا لتأييد الربّ تعالى، وأن يكون قلبه وسرّه وضميره متّصلًا بحقيقة الربوبيّة، كما ذكرنا ذلك سابقًا.
الدليل الخامس: يجب اتّباع الإنسان الكامل لأنّ طاعته هي اتباع العلم و اليقين
ومِن جملة الآيات التي تدلّ على شروط تحقّق الفرد الكامل وتدلّ على حقيقته، الآية الشريفة التي تقول:
﴿وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا﴾۱.
تحكم هذه الآية الشريفة بالإدانة والذمّ على كلّ حكمٍ أو عملٍ مخالفٍ لليقين والقطع، قائمٍ بدلًا من ذلك على أساس الظنّ والشكّ؛ لأنّ العمل الذي نشأ على أساس الظنّ والاحتمال هو عملٌ فاقدٌ للاعتبار -حتّى لدى العقلاء- إذا ما أريد وزنه والنظر إليه بما لديه من قيمة.
وبناءً عليه، فعلى الإنسان في كلّ فعلٍ وقولٍ يصدر منه؛ إمّا أن يعلم ويتيقّن بنفسه من صلاح كلّ عملٍ وقولٍ يصدر منه، وإمّا أن يقتدي ويسترشد بالشخص الذي قد أحرز هذه المرحلة، وفي غير هذه الحالة سوف يكون الإنسان عرضةً للنهي والذمّ الإلهيّ.
وكلمة «تَقْفُ» مشتقّةٌ من «قَفا، يقفو» بمعنى المتابعة والانقياد، أيّ عليك أن لا تتّبع أيّ أمرٍ أو فعلٍ ما دام صلاحه وفساده غير واضحٍ لك بشكلٍ كاملٍ، كوضوح الشمس في رابعة النهار، وما دمتَ لم تسمع الأمر بأُذُنِك ولم تشاهده بعَينِك ولم يُحط قلبُك عِلماً به وبأطرافه إحاطةً تامةً، فلا ترتّب عليه أيّ أثرٍ، واختر لنفسك في ذلك سبيلَ الاحتياط والتروّي، وأحجم عن الإقدام على الأمور التي ليس لديك علمٌ بجوانبها.
ولذا تتّضح جليّاً في هذه الآية الخصوصيّة البارزة والواضحة للإنسان الكامل، وهي الوصول إلى مرتبة اليقين والعلم الحقيقي والحصول على حقيقة الأشياء وواقعيّة الحوادث الخارجيّة والقضايا الاجتماعيّة، ففي هذه المرتبة، لو وقفتْ جميع الدنيا في وجهه واتخذ الناس في حقّه موقفًا مخالفًا، وقالوا فيه ما قالوا، فإنّه يبقى راسخًا على موقفه مقابل هؤلاء كالجبل الأشمّ، ولا يُعير أيّ اهتمام ولا يرى أيّة قيمةٍ لآراء هؤلاء الناس وأفكارهم، لأنّه يرى أنّ جميع هذه الأفكار هي وليدة القوى الواهمة والمتخيّلة لهؤلاء الناس والمنبعثة من العلل والمعلولات الظاهريّة القابلة للتغيّر والتبدّل، فمثَله كمثَل الذي يرى الشمس بعينيه السالمتين ويحسّ بنورها ويلمس حرارتها ببدنه، ثمّ يأتي بعض الأشخاص ويقولون له: نحن الآن في الليل، وكلّ ما تراه أنت منبعثٌ عن تخيّلاتك وأوهامك! فمن الطبيعي أن لا يعتني هذا الإنسان بكلام هؤلاء، ولا يرتّب أثرًا عليه، وذلك لأنّه يرى أنّ ما يخبرون به سرابٌ، ويرى نفسه متّصلًا بالمنبع السيّال لفيضان أنوار حضرة الحقّ تعالى.
ومن الممكن هنا أن يأتي شخصٌ ويشكلّ على ذلك فيقول: إنّ الشارع المقدّس كما ارتضى وأمضى ما يقتضيه العلم الحقّيقي والواقعي على أساس حكم العقل وقضاء الوجدان والفطرة، كذلك ارتضى مقتضى العلم التنزيلي والحكم التنجيزي -بعنوان كونه حجّةً ظاهريّةً- وأمضى العمل على أساسه، وقرّر أن يُثيب مَن يعمل على وفقه وأن يُعاقب مَن يخالفه، و من هنا صار الوصول إلى مرتبة العلم الظاهري والحجّة
الظاهريّة (التي هي الاجتهاد المصطلح والمتعارف عليه) موجبًا لتنجّز الحكم على نفس المجتهد، وبات تقليد الغير حرامًا عليه، وكذلك أمسى هذا الأمر موجبًا لرجوع العامّي إلى هذا المجتهد، وأوجب عليه أن يتّبع الأحكام والفتاوى التي يصدرها، وقد أوجب الشارع تقليد مثل هذا المجتهد على هذا العاميّ ووعد بالعقاب والعذاب على من تركه، حتّى لو كان هذا المجتهد مُخطئًا في رأيه ومجانبًا للصواب في اعتقاده.
وجواب هذا الإشكال ليس خفيّاً على أرباب البصيرة؛ لأنّه:
أوّلًا: إنّ أحكام الشرع ليست منحصرة في مسائل الطهارة والنجاسة وليست مقتصرة على أحكام الشكّ في الصلاة، فقد تعرّض الشارع الإسلامي المقدّس لبيان الأحكام المتعلّقة بكلّ فردٍ من المكلّفين -سواءٌ كانت أمورًا شخصيّةً أو أمورًا اجتماعيّةً- بدءً من جزئيّات المسائل وأصغرها، وانتهاءً بأهمّها وأخطرها وأعظمها شأنًا في حياته؛ حيث ابتدأ الشارع ببيان الأمور الأوّلية كمسائل الصلاة والصوم، انتهاءً إلى الأحكام والقوانين العباديّة والاجتماعيّة مثل الحجّ والزكاة والخمس والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر المعاملات وعلاقة الناس فيما بينهم والمعاشرات والقصاص والديّات وسائر الحقوق الأخرى والأمور المرتبطة بالحياة الاجتماعيّة والحياة الأخرويّة، فقد وضع لجميع هذه الأمور أحكامًا، والإنسان محاسبٌ ومسؤول عن حكم كلّ مسألةٍ مسألةٍ، فالمسائل اليوميّة التي نُبتلى بها ليست مقتصرة على الأمور العباديّة وحسب، ولا على الدعاء وقراءة القرآن فقط، حتّى يمكن للإنسان أن يتجاوزها بسهولةٍ وينجز أموره فارغَ البال ومطمئنّ الخاطر!
فرعاية المسائل الخطيرة والحياتيّة المهمّة للأمّة الإسلاميّة، والعمل على استقامة كيان الشريعة وحفظ الحدود والمصالح الاجتماعيّة للمسلمين، ليست مسألةً بسيطةً يمكن التجاوز عنها بسهولةٍ ومزاحٍ، أو المرور عليها دون اكتراث و تدقيق، فحفظ دماء المسلمين وأعراضهم ونفوسهم وأموالهم ليس أمرًا سهلًا يمكن للإنسان أن يجعلها في دائرة اختياره وضمن وظائفه في الدنيا وضمن سعته الوجوديّة والشخصيّة،
ثمّ يتخلّى يوم القيامة عن مسؤوليته ويخرجها عن عهدته، فالفرق كبير بين هذه المسألة وبين مسألة الشكّ في الصلاة ومسألة مفطرات الصوم وأحكام الدماء الثلاثة، فالفاصل بينهما كبيرٌ جدًا كالفاصل بين السماء والأرض.
إذن مَن هو الذي يمكنه أن يتحمّل مسؤولية هذا الأمر الخطير والمصيري، ثمّ يتخلّى عن ما يلازمها من أحداث ومجريات قد تصل إلى إزهاق النفوس وإراقة الدماء وإتلاف أموال المجتمع الإسلامي وهدر إمكاناته ورصيده وهتك أعراض المسلمين وشرفهم؟!
إنّ قضيّة الحركة الدستوريّة وما تبِعها من الأحداث المتعلّقة بها، مثالٌ مناسبٌ ومؤيّدٌ واضحٌ لا خلل فيه على صحّة دعوانا ومطلبنا، كما أنها تُعتبر نقطة تحوّلٍ في تاريخ الإسلام وعبرةً لمن اعتبر ودرسًا لأولي الألباب. والأمر الملفت للنظر قبل كلّ شيءٍ في هذه القصّة هو تدخّل طبقة العلماء والمعمّمين وخصوصًا مراجع الدرجة الأولى في وقتها؛ كالمرحوم الآخوند الخراساني والسيد محمّد كاظم اليزدي والشيخ فضل الله النوري وغيرهم. إنّ الذين لديهم اهتمام وإلمام بالكتب التي تعرّضت لتاريخ الحركة الدستوريّة وأخبارها يُدركون جيّدًا أنّ جميع هذه الأحداث -سواءً كانت موافقة لهذه الحركة أم كانت مخالفة لها- كانت تدور حول محور علماء الدين، وعلى رأسهم مراجع الدرجة الأولى في ذلك الوقت، فقد كان الناس في إيران وفي سائر البلاد في ذاك الوقت ينظرون إلى الأوامر والأحكام الصادرة عن المراجع في المسائل الاجتماعيّة، وفي الفتاوى على أنّها أحكام لا تَقبل الردّ أو التبديل، تمامًا كالوحي المنزل من قبل الله تعالى، وككلمات المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، وكثيرًا ما كانوا يريقون دماءهم من أجل الحفاظ على حريم الإسلام وإطاعة الأوامر الصادرة عن مراجعهم. والله تعالى وحده العالم كم من حروب جرت بين الطرفين! وكم من الدماء قد أهدرت، وكم من المحرّمات هُتكت، وكم من ماء وجهٍ أريق، وكم من الرجال استشهد؛ كالشيخ فضل الله النوري، وكم تجرّع آخرون من السمّ في تلك الحقّبة!
لقد كانت حركةً؛ حكمت فيها جماعةٌ بقيادة مرجع تقليدهم بوجوب مواجهة نظام التسلّط، وحكمت فيها جماعةٌ أخرى بحرمة مواجهة النظام والقيام بوجهه بأيّ نحوٍ كان، ومن خلال هذه الأحكام والأوامر والفتاوى اشتعلت نار الحرب والدمار، واشتغل الناس المطيعون لمراجعهم بالتصدّي لبعضهم البعض! إلى أن اتّضح في النهاية أن هناك أيادٍ خفيّةً تولّت هي زمام الأمور، وقامت تُحرّك هؤلاء الناس من وراء الستار حيث لم يكن أحد يعلم بذلك، فقد استطاع الاستعمار الإنكليزي المكّار المحتال بالتعاون مع الشيطان الروسي المُخادع -ومن خلال استغلال نفوذ رجال الدين وسلطتهم المعنويّة- أن يعتلي ظهور الناس الجاهلين في إيران للوصول إلى جميع أهدافه وميوله وأمانيه. لقد اعتبر هذا الجمع من الناس أنفسهم بأنهم المدافعون عن الإسلام والمحيون للشريعة الغرّاء ولسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما أنّ خصومهم المقابلين لهم كانوا يرون أنفسهم المحافظين على حريم الدين والتابعين لمدرسة سيّد المرسلين والمقيمين لأركان الشرع والشريعة والمميتون لأحكام البدع والضلالة، وكانت كلّ فرقةٍ من هؤلاء تشدّ الناس الحيارى نحوها وتأخذ بهم من جهةٍ إلى جهةٍ ومن مدينةٍ إلى أخرى؛ وبقي الأمر كذلك إلى أن ارتفع رأس مرجعٍ من مراجع التقليد فوق أعواد المشنقة، وقامت أيادي الاستعمار الملوّثة بتصفية علماء الدرجة الأولى في البلاد، ونقلتهم إلى الدار الأبديّة، عندها التفت الجميع إلى الخديعة التي انطوت عليهم، وأنهم كانوا في غفلة عن هذه الأمور.
لا نذهب بعيدًا، فقد نشبت في هذا الزمان، وبعد ظهور الثورة الإسلاميّة في إيران، حربٌ ضروسٌ مدمّرةٌ بين شعبي إيران والعراق الشيعيّين المسلمين، حيث أصدر بعض العلماء فتاوى بوجوب الدفاع والحفاظ على سيادة إيران بأيّ نحوٍ من الأنحاء، وحكم آخرون بخلاف ذلك، وقالوا بلزوم المصالحة وإيقاف الحرب وحرمة استمرارها، فهذان حكمان متقابلان وفتويان مختلفتان ومتناقضتان!! إنّ من الواضح والمسلّم به أنّ مسألة الحرب والقتل وإراقة الدماء تختلف وتتفاوت كثيرًا
عن الأحكام الأوّلية -كما ذكرنا- وأنّ الفرق بين التبعات والنتائج المترتّبة على هاتين المسألتين عظيمٌ جدًا!
وبناءً على هذا فمسائل الشرع ليست على مستوى واحد من الأهمّية، حتّى نأتي ونقول إنّ الحجّية الظاهريّة في الأخذ بالأحكام الظاهريّة سوف توجب تنجّز ذلك الحكم على المجتهد وعلى مقلّديه، وأن مجرّد تقليد مجتهدٍ ما في المسائل العاديّة والسطحيّة يوجب حجيّة فتواه في جميع المسائل؛ ولو كانت من قبيل المسائل التي ذكرناها. إنّ التوجّه إلى هذه النكتة مهمٌّ جدًا، لكن لم يتمّ التعرض إليها في الكتب المدوّنة في هذا المجال بما تستحقّه من الاهتمام و لم يلتفت لها كما ينبغي في مثل هذا الأمر الخطير.
و ثانيًا: أوَ هل التكاليف والأمور التي يبتلى بها الإنسان مختصّة ومنحصرة بخصوص هذه المسائل الشرعيّة الظاهريّة؟ كلّا! فالمشاكلّ الروحيّة والنفسيّة التي يبتلى بها الإنسان من خلال تعرّضه لبعض الأحداث التي يمرّ بها في حياته، والتجاذبات التي تصيبه من خلال طروّ بعض الأمور غير العاديّة والخارجة عن دائرة تفكير الناس وسعتهم العلميّة .. أكثر بكثير من التكاليف الظاهريّة والأحكام الشرعيّة المدوّنة في الرسائل العمليّة، فأنّى للفقيه والمجتهد العالم بالأحكام والمسائل الظاهريّة أن يتصدّى لتشخّيص الواردات النفسيّة، فيميّز فيها بين الحقّ والباطل ويحدّد هل ينبغي أن يُرتَّب عليها أثرٌ أم الأفضل تجاهلها؟! ومن أين يمكن للمجتهد أن يعرف أنّ هذه الرؤيا التي رآها شخصٌ ما أو المكاشفة التي حصلت له تتضمّن تكليفًا وحكماً إلزاميّاً، أو لا تتضمّن؟ و كيف يمكن له أن يشخّص أنّ هذه المكاشفة هي مكاشفة روحانيّة أم أنّها -لا سمح الله- مكاشفة شيطانيّة؟! ومن أين يمكنه الاطّلاع على الخصوصيّات النفسيّة للإنسان حتّى يُقدِّم له الحكم اللائق به والمناسب له! فمن الممكن أن يكون ذاك الإنسان في وضعيّةٍ روحيّةٍ تجعله غير مستعدٍّ لتلقي هذا الحكم والقبول به، فعندها سيكون إلقاء مثل هذا الحكم موجبًا
لتشويش خاطره، ومسبّبًا لحصول اضطرابٍ روحيٍّ لديه ممّا يُؤدّي -لا قدّر الله- إلى انحرافه عن الطريق السويّ؛ إذ هل يمكن أن يُلقى أيّ حكمٍ نتوصّل إليه على جميع المكلّفين بنحو كلّيٍ وفي درجةٍ واحدةٍ؟!
أذكر أنّه في أواخر حياة المرحوم الوالد رضوان الله عليه، كان أحد أعاظم المراجع الفعليّين -ولم تكن مرجعيّته في وقتها قد نضجت، ولم تتثبّت بعد- قد تشرّف بالذهاب إلى المشهد المقدّس للإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام، حيث كان يذهب عادةً في كلّ صيفٍ إلى مشهد للزيارة، وفي أحد الأيّام جاء إلى منزل المرحوم الوالد للقاء به، وفي أثناء كلامه معه طرح المرحوم الوالد قدّس الله نفسه مسألةً شرعيّةً وسأله عن رأيه فيها، وهي:
«إذا كان شخصٌ يغتسل غسل الجنابة بشكلٍ خاطئٍ نتيجةَ جهله وعدم فهمه لمسألة الغسل وشروطه لمدّة ثلاثين سنة، حيث كان يتصوّر وجوب غَسْلِ تمام البدن دفعةً واحدةً، بدلًا من تقديم الرأس والرقبة على الطرف الأيمن والأيسر، فما حكم صلاته التي صلّاها طوال هذه المدّة؟ وكيف يمكن أن يُفهَّم هذا العامي الحكم الصحيح في المسألة؟».
فقال ذاك العالم في جوابه:
«لا إشكال في ذلك، لأنّه لا يشترط الموالاة في الغسل، فاغتساله الأول كان بدلًا عن غسل الرأس، والاغتسال الثاني -الذي يمكن أن يأتي به بعد عدّة أيّام- يحتسب عن غسل الجانب الأيمن، وعند الاغتسال في المرّة الثالثة بعد أيّامٍ أيضًا، يحتسب هذا الغسل بدلًا عن غسل الجانب الأيسر، فيكون قد أتمّ الغسل بالاغتسال الثالث! وليس في صلواته إشكال!!».
وعندما سمعت هذه الفتوى لم أستطع أن أخفي تعجّبي واستغرابي منها، وتصوّرت أنّ هذا الجواب أقرب إلى التفنّن منه إلى حكمٍ دينيِّ أو جوابٍ شرعيٍّ؛ وذلك لأنه:
أوّلًا: الموالاة وإن كانت من شروط الوضوء لا من شروط الغسل، إلّا أنّ عدم اشتراط الموالاة في الغسل ليس بالمعنى الذي يُخرج صدق الاجتماع ووحدة الفعل المأتي عن حدّه العرفي، بحيث لا ينظر العرف إلى هذا العمل الشرعيّ بأنّه فعلٌ واحدٌ، وبعبارةٍ أخرى: إنّ تحقّق الغَسل بهذه الشروط والخصوصيّات موجبٌ لسلب لفظ «الغُسل» عنه، وعدم صحّة إطلاقه عليه، أيّ أنّ عدم اشتراط الموالاة إنّما هو في حدود بقاء الفعل على حقيقته العرفيّة، وعدم خروجه عنها؛ بمعنى أن تكون الفاصلة بين غسل الأعضاء لا تتعدّى الساعة أو أقل منها، لا أكثر.
وثانيًا: إنّ نيّة التقدّم والتأخّر في أجزاء الغسل من جملة شروط صحّة الفعل، فيجب على المغتسل في الغسل الترتيبي أن يرتّب نيّته في غسله الرأس والرقبة أوّلًا، ثمّ غسل الطرف الأيمن، ثمّ غسل الطرف الأيسر، وإلّا فيكون غسله باطلًا، يعني مثلًا إذا وقف شخصٌ تحت رشّاش الماء بحيث تمّ وصول الماء أوّلًا إلى رأسه ورقبته، ثمّ إلى جنبه الأيمن ثمّ إلى جنبه الأيسر دون أن ينوي الغسل في كلّ مرتبة، فغسله هذا باطلٌ، إذن كيف يمكن للشخص الذي لم تتحصّل منه هذه النيّة أن يتحقّق منه الترتيب؟
وثالثًا: الأعجب من كلّ ما تقدّم، هو أنّه بناءً على تصحيح هذا الغسل بضمّ سائر الأجزاء في الأوقات اللاحقة، فما هو مصير الصلوات التي يأتي بها في الأوقات الفاصلة بين هذه الأغسال؟ لا شك أنّه يجب الحكم على هذه الصلوات بالبطلان، وعندها تعود المسألة إلى حالتها الأولى!
والحاصل أن المرحوم الوالد رضوان الله عليه أراد من خلال هذا السؤال أن يُفهم هذا العالم: أنّك عمّا قريب ستُطرح مرجعيّتك، وسوف تصير مسؤولًا عن إصدار الفتاوى والأحكام للمقلِّدين والعوامّ، فإذا ابتُلي أحد مقلّديك بمثل هذه المسألة وأنت في هذه الحالة، هل يمكنك أن تفتي ببطلان جميع الصلوات التي صلّاها في هذه الحالة، أم أنّ هناك طريقًا آخر للتعامل مع هذه المسألة يتناسب مع ظرفيّة هذا
المكلّف وسعة اطّلاعه؟ من الطبيعي أنّ طرح فتاوى كلّية وعامّة في مثل هذه الموارد، التي تعدّ من الأمور البسيطة والابتدائيّة، في الرسائل العمليّة على منوالٍ واحدٍ سوف يُسبّب وجود عواقب وتبعاتٍ كبيرةً، فكيف الحال إذا وصلت الأمور إلى الأحكام الخطيرة والمهمّة والحسّاسة؟! ولكن مهما سعى المرحوم الوالد لإيصال هذا المطلب إلى ذاك العالم المحترم وإفهامه إيّاه، إلّا أنّ ذلك لم يتيسّر له.
إنّ ملاحظة الخصائص الروحيّة للمقلِّدين وكيفيّة تعامل الفقيه معهم وكيفيّة إلقاء الأحكام إليهم، من أهم وأصعب مراحل استنباط الأحكام وبيانها للمخاطبين، فإذا كان بيان حكمٍ تكليفيٍّ بسيطٍ يمتلك هذه الفروع والتشعّبات المختلفة، وكلّ فرع منها يتطلّب الإجابة عن حكمه الخاصّ به؛ فكيف الحال بالنسبة للإجابة على الأحكام النفسيّة والروحيّة ومعضلاتها، ومعالجة المشاكل الروحيّة والمسائل الغامضة التي يعجز الكثير حتّى عن إدراكها فضلًا عن حلّها ورفع الشكّ والتردّد عنها؟! فهل يكفي مراجعة أيّ شخصٍ في ذلك والرجوع إلى أيٍّ كان لحلّ هذه المسألة؟!
الدليل السادس: الإمام الباقر عليه السلام: لا بدّ من دليل في الطرق إلى الله تعالى
يقول الإمام الباقر عليه السلام مخاطبًا أبا حمزة الثمالي:
«يَا أبَا حمزةَ، يخرجُ أحدُكم فَراسِخَ، فَيطلبُ لِنفسهِ دَليلًا، وَأنتَ بِطرُقِ السَماءِ أجهلُ مِنكَ بِطرُقِ الأرْضِ، فَاطلب لِنَفسكَ دَليلًا»۱.
يُخاطب الإمام في هذه الرواية أبا حمزة قائلًا: إذا أراد أحدكم أن يسافر إلى مسافةٍ قليلةٍ لا تتجاوز بضعة فراسخ، فإنّه يلتمس دليلًا لبيان طريقه؛ فمن أين لك أن تشخّص طرق السماء وتميّز حجب عوالم الغيب، مع أنّك أجهل فيها بكثيرٍ مِنك بطرق
الأرض؟! وإذا كان الأمر كذلك فعليك أن تبحث عن دليلٍ ومرشدٍ تعتمد عليه وتثق به كي تسلّمه زمام أمورك في سفرك وسيرك نحو الحقّ تعالى.
فهل يقصد الإمام الباقر عليه السلام بكلامه هذا المسائل التكليفيّة من قبيل الصلاة والصوم فقط، أم أنّ هناك أمرًا آخر وراء هذه الأحكام؟
ما يظهر بوضوح من كلام الإمام هو الأمر بإيكال الأمور العقائديّة وتفويض الاختيار والإرادة الشخصيّة إلى فردٍ عليمٍ وخبيرٍ بالمسائل الحياتيّة والأمور المصيريّة، والتسليم الكامل له في الأمور الخطيرة والمحوريّة في حياته.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام عند كلامه عن خصوصيّات هؤلاء الأشخاص في نهج البلاغة:
«إن الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح للّه عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة وفي أزمان الفترات عبادٌ ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظةٍ في الأسماع والأبصار والأفئدة، يُذكِّرون بأيّام الله، ويخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة في الفلوات. من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه وبشروه بالنجاة، ومن أخذ يمينًا وشمالًا ذمّوا إليه الطريق وحذّروه من الهلكة، وكانوا كذلك مصابيحَ تلك الظلمات وأدلّة تلك الشبهات ...».۱
يُبيّن أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفقرات العجيبة خصوصيّات الإنسان الكامل والعارف بالله، ويشرح لوازم وجوده، و هذه الفقرات واقعًا جديرةٌ بأن يجلس الإنسان عدّة شهور ويتأمّل فيها ويتدبّر معانيها بدقّة، ولا يمرّ عليها مرور الكرام. فالإمام يقول في العبارات الأولى:
إنّ الله تعالى قد جعل ذكره عزّ وجلّ موجبًا لجلاء القلوب وصفائها؛ فمن لم يُجعل في قلبه ذكرُ الله، فإنّ قلبه سوف يصدأ ويمتلئ بالحقّد والكدورة ويطفح بالأنانيّة والكبر والرياء، ولن يبقى في هذا القلب نورٌ؛ وبالتالي سوف يدرك الأمور والحقّائق بشكلٍّ معوجٍّ، دون أن يقدر على إدراكها بتلك الشفافية والوضوح التي هي عليه. وقد جعل الله الذكر كذلك لكي يَسمعَ قلبك بعد عدم سماعه، ولترى عين بصيرة القلوب بعد عميها، وينقاد الإنسان بعد العناد والاستكبار والأنانيّة والاستعلاء.
يعتبر الإمام في هذه العبارات أنّه لا قيمة لأذن الإنسان وعينه ولقلوب جميع الناس، وأن تلك القلوب التي لم يستقرّ في سرّها و ضميرها التوجّهُ إلى الحقّ قلوبٌ ميّتةٌ لا شعور لها ولا إدراك لديها، وأنّ حقيقة القلب واعتباره منحصرٌ في ما يمتلكه من توجّهٍ والتفاتٍ إلى التوحيد، ومن المسلّم به أنّ مجرّد الذكر الظاهري وحمل المسبحة وقراءة الأوراد والأذكار، ليس كافيًا لتحصيل هذه المرحلة وهذه الدرجة، وكم مرّ عبر التاريخ أشخاصٌ مثل الخوارج حفظوا القرآن في صدورهم، وكانت أصواتهم تعلو دائماً بتلاوة كلام الله، وكانوا يستشهدون بالآيات القرآنية ويتمثّلون بها في حياتهم اليوميّة، لكنّ قلوبهم مع ذلك كانت سوداء مظلمةً كالليل المدلهمّ.
إنّ المقصود من كلام الإمام عليه السلام هو بيان انغمار قلوب هؤلاء الأشخاص وضمائرهم في حقيقة التوحيد والذات الأحديّة، حتّى صارت حقيقة ذكرهم للّه معجونةً متمازجةً مع روحهم، وأصبحت ذائبةً في وجودهم كذوبان السكر في الماء؛ إلى أن تشكّلت منهما حقيقةٌ واحدةٌ، لا أنّ المقصود هو الحديث عن أولئك الأشخاص العاديّين الذين يذكرون الله بما تمليه عليهم أفكارهم وتخيّلاتهم الماديّة، وبما تفرضه طرق لهوهم ولعبهم المتناسبة مع عالم الغرور وعالم الدنيا، ووصفهم بأنّ قلوبهم تنجلي بمثل هذا الذكر فيحصل لديهم الصفاء المطلوب، وترتفع عن أنظارهم حُجب الغيب، فيشرفون على حقائق عالم الوجود ويطّلعون على أسراره، هيهات أن يكون هذا مراده!
ثم يوضّح الإمام في الفقرات التالية صفات الإنسان العارف وملكاته بشكلٍ أكبر، فيقول: إنّ السنّة الإلهيّة تقتضي أن يكون في كلّ زمان وفي أوقات الفترات (والفترة هي المدّة والزمان الفاصل بين النبي السابق والنبي اللاحق، أو في الزمان الذي لا يكون الإمام المعصوم عليه السلام فيه مشهورًا وظاهرًا علنًا أمام الناس) عبادٌ مخلصون للّه ومنتخَبون من قبله، أكرمهم الله تعالى بالقرب والكرامة وأحاطهم بالعناية الخاصّة، وناجاهم في عالم فكرهم وقواهم العقلانيّة، وكلّمهم في صقع عقولهم ورتبة تمييزهم وتشخيصهم، وعندها ستصير أبصارهم وأسماعهم وقلوبهم مبصرة وواعية ومستنيرة، وذلك بسبب ارتباطهم بالنور الإلهي، وبواسطة «برهان من ربه»، ولانكشاف حقائق عالم الوجود لديهم، ثمّ إنّ هؤلاء الأشخاص يقومون -من خلال هذه الهداية الخاصّة التي وصلوا إليها والضمير المنير الذي يمتلكونه، هذا الضمير الذي صار محلًا لانعكاس أنوار جمال الحقّ وجلاله، وموضعًا لعلمه وقدرته وحياته- يقومون بهداية الناس وإرشادهم وينبّهونهم إلى مواقع نزول الجذبات الإلهيّة وأيّام حصول الجلوات، ويكشفون لهم أوقات استجلاب الفيوضات الإلهيّة وكسب أنوار عالم القدس، وذلك كما ورد في الآية الشريفة التي تتكلم عن النبي موسى عليه السلام:
﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ﴾ (أي ظلمات الجهالة و كدورات عالم النفس) ﴿إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ﴾ (على قدرتنا و إرادتنا في الناس، و تظهر هذه الآيات) ﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور﴾ (إذ الوصول إلى هذه المراتب يتطلب منهم أن يكونوا صبورين و شاكرين لنعماتنا)۱.
فهؤلاء الأشخاص هم الذين يحذّرون الناس ويخوّفونهم مقامَ عزّة الله وكبريائه (حيث إن للّه مقام العزّة والغنى وعدم الاحتياج إلى الغير، والحال أن جميع الأشخاص الآخرين من جميع الفرق والمجاميع الإنسانية، وفي جميع المراتب محتاجون إليه سواءً
في بلوغهم مراتب الكمال واستكمال حالاتهم الروحيّة، أم في نفس بقائهم واستمرار وجودهم، فهم متعلّقون بعناياته، وهذه حقيقة ثابتة لا تزلزل فيها، فالله سبحانه لا يمزح مع أحد، ولا يجامل أحدًا، فلو كفر الناس كلّهم به فلن يؤثّر ذلك على كبريائه أبدًا).
ومثل هؤلاء الأشخاص كمثل أدلّاء الطريق في الصحاري القفار، فهم يقومون بتشجيع من يريد أن يضع قدمه في الطريق الصحيح، ويحثّونه على ذلك، ويسهّلون عليه طريقه، ويُساعدونه على الاستمرار في هذا المسير ويقدّمون له العون، ويبشرونه بالنجاة والفلاح، ومن يُرِد منهم أن ينحرف عن جادّة الطريق ويذهب يمينًا ويسارًا، فإنّهم يذكّرونه بمخاطر هذا المسير الذي يريد خوضه، ويعدّدون له آفاته ويحذّرونه من عواقب هذا الانحراف ونتائجه، ويخوّفونه من الهلاك والخسران.
نعم، هؤلاء هم الحاملون لمصابيح الهداية في ظلمات النفس وفي مبهمات الحوادث المظلمة والمعوجّة والمشوّشة، والمرشدون في هذه الشبهات والمشاكل العويصة التي يعجز الفكر البشري الناقص أن يجد لها حلًا، أو يمّيز فيها بين الحقّ والباطل.
وهنا لا بدّ أن يعترف الحقّير بأنّني لا أقدر أن أفي بشرح هذه العبارات وتوضيحها بما يليق بها، لأنّني مع الالتفات إلى قصور المدركات التي أمتلكها، وضيق دائرة القدرة على التشخيص، وبسبب التوقّف والركود في عالم الكثرات، أشعر بأنّي لست قادرًا على فهم هذه المطالب فهماً صحيحًا، والوصول إلى واقعيّة هذه المعاني العالية والمضامين الراقية، وأنّ الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يوضّح هذه العبارات، هو الذي يكون كأمير المؤمنين عليه السلام في اتّصال قلبه بالحقّيقة وبجوهرة عالم الأمر، ويكون قد وصل إلى مرحلةٍ يأخذ ضميره الحقّائق من منبع العلم الأزلي بدون واسطةٍ، ويصير قلبه -من خلال اتّصاله بقلب الإمام وسرّه- موضعًا
لتجلّي ﴿وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾۱، أي أنّه باتّصاله بمنبع الوحي وسرّ عالم التشريع يكون كلامه فصلًا، ومنطقه حكماً، ورأيه صوابًا، وفكره صلاحًا مطلقًا، وعمله حقًا محضًا.
نعم هذه المهمّة إنّما يتحمّلها أشخاصٌ مثل المرحوم الوالد رضوان الله عليه فقط، ولا يليق بنا أن نضع أنفسنا في موضع أقدام هؤلاء العظماء، ونطرح بعض المسائل والعبارات التي لم تخرج من صدق الضمير وخلوص النفس، بل خرجت من خلال التدبّر القاصر والتحقيق الناقص، ومن خلال تصفّح بعض الأوراق ونقل بعض المسائل الممتزج صحيحها بسقيمها وحقائقها بمجازاتها واعتباريّاتها، فإنّ التصدّي لهذا الأمر موجبٌ لإراقة ماء وجهنا وإضلال الآخرين. لكن ماذا علينا أن نفعل؟ فكما ذكرنا من قبل إنّ المكان الذي كان يشغله هذا العالم الكبير خالٍ وفارغٍ، فصار لزامًا على أمثال الحقير أن يحمل القلم بيده. ولكن من ناحيةٍ ثانيةٍ، يجب القول: إنّه يمكن -إلى حدٍّ مّا- أن يُسدّ بعض هذا الفراغ وتُعوّض بعض هذه الخسارة الكبيرة -إن شاء الله- من خلال ذكر ما نُقل عن عظماء الطريق في شرح المباني والأفكار والعقائد، والاعتماد على ما شاهدناه وسمعناه منهم في هذا الصدد.
بناءً على هذا فالأمور التي يذكرها الكاتب في شرح هذه الفقرات، أو ما يكتبه في هذه الأوراق بشكلٍّ عامٍّ، هو عبارة عمّا سمعته أو شاهدته مباشرةً من الأولياء والأعاظم، أو أنّه حصيلة تجارب علميّة وتربويّة حصلتُ عليها من خلال مرافقتهم وخدمتهم، مقتصرًا على ذلك ومتحاشيًا -قدر الإمكان- من إبراز ذوقٍ شخصيٍّ، أو إظهار رأيٍ متفرّدٍ خاصٍّ بي في ذلك.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في بيان صفات أولياء الله والعارفين بالله: «عِبَادٌ ناجاهم في فكرهم»، فما هي حقيقة هذه المناجاة؟ وكيف يمكن أن يصل
الإنسان إلى مقام الأنس والقرب من الحقّ، بحيث يصير جديرًا بأن يناجيه الله تعالى في مقام الفكر، ويتكلّم معه في مقام العقل، ويبوح له بأسرارٍ من لوازم ذاته وأسمائه وصفاته، ويقترب باتصال ضمير هذا الشخص به إلى حدٍّ تصير فيه قواه العقليّة وتفكيره مسخّرةً له تعالى، ويحصل تبادلٌ لمعارف عالم التوحيد وأسراره من دون لفظٍ أو صورةٍ في ضمائر هؤلاء الأشخاص وسويداء قلوبهم وعقولهم؟! سبحان الله! إنّ هذا الكلام يُظهر حقيقة الاتصال الواقعي للإنسان بحريم القدس الإلهي، ويُبيّن معنى رفع الحجب الظلمانيّة والنورانيّة أمامه جميعًا، واندكاك كلّ شوائب وجوده في ذات الحقّ تعالى.
يجب الالتفات إلى أنّ إعمال القوّة العاقلة في الإنسان يحصل من خلال اتّصالها بالعقل الفعّال والأخذ من فيوضاته، وأنّ كيفيّة إفاضة العقل الفعّال على القوّة العاقلة للإنسان وكمّيتها ترتبط بمدى تعلّق القوّة العاقلة للإنسان بعالم الكثرات والموهومات والتخيّلات؛ فكلّما زاد تعلّق عقل الإنسان بعالم الدنيا وعالم الاعتبارات والكثرات الموهومة وعالم المجاز، فسوف تتنزّل حقيقة الإدراك لديه من مرحلة التجرّد والنورانيّة إلى مرحلة التخيّلات والموهومات والأفكار الفارغة عديمة الفائدة، والعكس صحيح أيضًا؛ فبمقدار ما يحرّر الإنسان نفسه بواسطة المراقبة والرياضات الشرعيّة والابتعاد عن الدنيا وزخارفها والابتعاد عن الكثرات، ستزيد استفاضته من العقل الفعّال. و لمّا كان العقل متعلّقًا بالنفس و الذات وبآثارها ولوازمها، وهذا التعلّق ناشئٌ عن حبّ النفس لذاتها ولآثارها الوجوديّة ومنها العقل، فبالتالي و انطلاقًا من ملاحظة هذه المسألة، فما دامت النفس لم تخرج من حبّ ذاتها ولم تتجاوز هذه المرحلة بعد، ولم ترفض جميع آثار تعلّقاتها وبقايا هذه التعلّقات بشكلٍّ نهائيٍّ، فلن يمكنها الاستفادة والاستفاضة التامّة الصافية الطاهرة من العقل الفعّال، وسوف تؤثّر دائماً شوائبُ النفس الوجوديّة وتعلُّقها بعالم الطبع على إعمال الإنسان لعقله، وسوف تمنعه من الوصول إلى مرتبة الحقّ والصدق والطهارة في الأحكام
والقضايا التي يصدرها، سواءً الشخصيّة منها أو الكلّية. وما دام في وجود الإنسان ذرّةٌ من آثار النفس وبقايا تعلّقات النفس، فلن تتجلّى في مرآة نفسه وضميره تلك الحقّيقة الصافية المطهّرة من الدنس، ولن يرتوي قلبه من ذاك الماء الصافي الزلال.
بناءً على هذا، يجب على العبد أن يتقدّم في مقام العبوديّة والانقياد والمجاهدة والمراقبة إلى الحدِّ الذي لا يبقى عنده أيّ انحرافٍ أو اعوجاجٍ؛ لا في مقام الفعل والعمل فقط ولا في مقام التصوّر والتخيّل، أو بعبارةٍ أخرى في مقام ظهور الصور المثاليّة والبرزخيّة فحسب؛ بل عليه أن يتقدّم أكثر للوصول إلى أعلى من هذه المرتبة، فيذهب بحقيقته الوجوديّة إلى أبعد من عالم المثال والملكوت حتّى يصل إلى ساحة الجبروت واللاهوت، وينحر نفسه قربانًا في حريم المحبوب حتّى لا يبقى في نفسه وضميره أيّة شائبةٍ من آثار ذاته وتعلّقاته تجعله مضطرًا عندما يريد أن يمتثل للأحكام والتكاليف أن يرفع هذه الشوائب و يقاومها؛ بل عليه أن يصل إلى حيث لا تبقى له نفسٌ ولا يظلّ هناك ذاتٌ متحقّقةٌ في الخارج غير ذات الحقّ تعالى، فكلّ ما يصدر فهو صادرٌ من ذات الحقّ، وكلّ ما يُدرَك فهو نفس الحقّيقة العلميّة المدركة لذات الحقّ، وأيّ فعلٍ يقوم به هو في الواقع فعل الحقّ الذي ظهر بهذا الشكل.
هذا العبد لم يعد يفكّر حتّى يرى أين الصلاح من الفساد فيقوم بانتخاب الأصلح، ولم يعد ينظر إلى سلسلة العلل الظاهريّة ليختبرها ويحلّلها فيحصل على نتيجة قياسٍ من مقدمات علميّةٍ وظاهريّةٍ واعتباريّةٍ ليتمكّن بواسطة ذلك من تمييز الحقّائق عن الأوهام والأباطيل، بل إنّ فكره قد أمسى عبارةً عن ظهور الإرادة العلميّة للحقّ بلا واسطة، وصار فعله ظهورًا بلا واسطةٍ لإرادة قدرة الحقّ، وكلامه ظهور لكلام وقول الحقّ كذلك. لقد تجاوز هذا الإنسان مرتبة البشريّة وصار ربّانيّاً، وخرج عن حيطة المدركات البشريّة فصار إلهيّاً، و إذا أردنا أن نصفه في مقام الثبوت بعبارة واضحة، يجب القول: إنّه عبارةٌ عن الإله المجسّم والمقيّد والمحدود في عالم الطبع والكثرة.
ونذكر هنا كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قاله في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال:
«لا تَسُبُّوا عَليّاً (ولا تعيبوه، فهو ليس مثلكم وأعماله ليست كأعمالكم وآرائكم) فإنّه ممسوسٌ في ذَاتِ الله (وفانٍ فيه)»۱.
لقد مُسّ عليّ في ذات الله وفني فيه؛ فلم يعد عليٌّ بشرًا حتّى يمكنكم أن تزنوا أعماله بموازين الحسن والقبح التي لديكم، أو تقيسوا أفعاله بواسطة آرائكم الناقصة الباطلة، ثمّ تحكموا عليها بالصحّة والبطلان، وذلك لأنّ فعله فعل اللَه، وعندها، كيف يمكن أن تقوّم وتقيس العقولُ الناقصةُ فعلَ الله تعالى؟ فإن فعل الله ليس قائماً على أساس المصلحة والمفسدة حتّى يقاس عليها فيوصف بالصحّة والسقم بناءً على انطباقه عليها أو عدم انطباقه، بل المصلحة تنشأ من فعله وتتحقّق في الخارج من خلاله.
أذكر أنّ واحدًا من أقدم الرفقاء السلوكيّين للمرحوم الوالد رضوان الله عليه، وهو المرحوم الحاجّ غلام حسين السبزواري رحمة الله عليه -الذي كان من أقدم تلامذة الأستاذ والمربي الأخلاقي العارف الكبير المرحوم آية الله العظمى الحاج الشيخ محمّد جواد الأنصاري الهمداني قدّس الله نفسه- كان ينقل للوالد المعظّم بعض الخصائص والصفات البارزة للمرحوم الأنصاري، ومن جملة ما قاله:
«إنّ من خصوصيّات المرحوم الأنصاري الواضحة جدًا، ولم أر طوال عمري أحدًا غيره يتمتّع بها، هو أنّه عندما كان يعطي رأيه في أيّ موضوعٍ، فإنّ المصلحة وإن لم تكن واضحة فيه من أوّل الأمر لجميع الناس، إلّا أنّه بعد مرور مدّةٍ يتّضح أنّ المصلحة كانت مطابقةً لرأيه ونظره».
وبعد سكوت المرحوم الوالد رضوان الله عليه فترةً تأييدًا لكلام المرحوم السبزواري قال:
«إلّا أنّ المسألة بالنسبة للحاجّ السيّد هاشم الحدّاد لها شكلٌ آخر يختلف كثيرًا عن المرحوم الأنصاري، فالمسألة عند السيّد الحدّاد كانت هكذا: كان نفس كلامه منشأً للمصلحة وهو الموجب والموجد لها، لا أنّ كلامه منطبق على المصلحة وتجري عليه معايير الصحّة والسقم، بل إنّ أصل الصلاح متولّد من فعله وكلامه وهو عينه، وهذا يختلف كثيرًا عمّا تذكره بالنسبة للمرحوم الأنصاري».
إنّ النقطة الدقيقة جدًا والحائزة على أهمّيةٍ كبرى في المقارنة بين هاتين الشخصيّتين العظيمتين وهذين الرجلين الإلهيّين تكمن في أنّ انكشاف الحقّائق وبيان حقيقة الأمور وحوادث عالم الوجود للمرحوم الأنصاري كانت تحصل على أساس إحضار الصور المثاليّة وانطباقها على نفس الأمر والواقع، و من ثمّ استخراج الأصلح والأرجح منها، وبعبارةٍ أخرى: إنّها تقوم على أساس إعمال القوّة العاقلة وجولانها في مظاهر الأسماء والصفات وتعيين الفرد الأحسن قياسًا لسائر الموارد الأخرى. أمّا بالنسبة للسيد الحدّاد فلا وجود أصلًا للمقايسة والتحقيق والتفحّص والتطبيق، بل الموجود عنده هو حقيقةٌ واحدةٌ تتجلّى في نفسه، وهذه الحقّيقة بعينها تتجلّى على لسانه أو تظهر في مقام العمل والفعل، فهنا لا يوجد تفكّر ولا تعقّل، ولا يوجد ترتيب قياساتٍ أو مقارنةٌ بين قضايا مختلفة، ولا معنى في هذه الحالة لرعاية الفرد الأحسن والأصلح. إذ هل الله تبارك وتعالى يفعل ذلك، وهل يقوم بوضع
الموارد أمامه ثمّ ينتخب الأفضل؟ كلّا! فاختيار حضرة الحقّ هو نفس إرادة «كُن» ونزولها إلى مرتبة التعيّن والخارج، فأين المصلحة وأي معنى للتفكير؟ وما هو الوجه في مراعاة الفرد الأصلح عند الله؟
﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (أي أن إرادة الله و مشيئته قائمة على أساس أنه عندما يتعلق اختياره بشيء خارجي من خلال نفس هذه الإرادة، فسوف يتحقق ذلك الشيء في الخارج) ، فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ (وتحت قدرته الأزلية) مَلَكُوتُ (أي حقيقة و باطن و علة) كُلِّ شَيْءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾۱.
ولازم هذه المرتبة هو أن يندكّ السالك تمامًا في ذات الحضرة الأحديّة، وهي التي يُعبّر عنها في لسان أهل المعرفة بال «فناء الذاتي» و «التجرّد التامّ»، وهنا سيكون فعل العبد فعل الله، وكلامه كلام الله وإرادته إرادة الله، فلن يبقى في هذه الحالة وجود للعبد كي يأتي بالأعمال الصحيحة، بل هناك حقيقةٌ واحدةٌ وهي الله؛ هي الله في مرتبة الفعل، والله في مرتبة القول والكلام، والله في مرتبة عالم الطبع، والله في جميع التصرّفات والأعمال التي يقوم بها العارف في هذه الحالة.
وهذا ابن الفارض المصري العارف العظيم الشأن وصاحب المرتبة العالية، يشرح -وبشكلٍّ وافٍ- موقعيّة العباد المخلَصين ومنزلتهم في هذه المرتبة وهذا المقام، وأنّه كيف يمكن للنفس الإنسانيّة من خلال مخالفة الهوى والأنانيّة أن تصير مطيعةً بحيث تصير كالمرآة الصافية الجليّة التي انجلى عن وجهها الصدأ، تنتقش في داخلها الصور بشكلٍ صافٍ و واضحٍ، فكذلك النفس إذا ما خرجت عن الأنانيّة والذات، تصير مرآة لظهور أسماء حضرة الحقّ وصفاته.
گناهى جز خودى نبود چو خود را | *** | رها كردى شود ذنب تو مغفور٢ |
[يقول: ليس لديك سوى ذنب واحد وهو نفسك، وعندما تتحرّر منها يغفر ذنبك].
يقول ابن الفارض:
۱. وكلّ مَقامٍ عَن سُلوكٍ قَطعتُه | *** | عُبوديّةً حَقّقتُها بعُبودةِ |
٢. وصرتُ بها صَبًّا فلمّا تركتُ ما | *** | أريد أرادَتني لها وأحبّتِ |
٣. فَصرتُ حبيبًا بَل مُحبًّا لنفْسه | *** | وليسَ كقَولٍ مَرَّ نفسي حبيبتي |
٤. خَرجتُ بها عَنّي إليها فلم أعُد | *** | إليّ ومثلي لا يقول برَجعَةِ |
٥. وأفردْتُ نَفْسي عَن خروجي تكرُّمًا | *** | فلَمْ أرضَها مِن بعد ذاكَ لِصُحبَتي |
٦. وغَيَّبتُ عَن إفرادِ نفْسي بحيثُ لا | *** | يُزاحِمُني إبداءُ وَصفٍ بحَضرتي |
۷. وها أنا ابدي في اتّحادي مَبدَئي | *** | وأُنهي انتِهآئي في تواضُع رِفعَتي |
۸. جَلَتْ في تَجلّيها الوجودَ لِناظِري | *** | ففي كلّ مَرئيٍّ أراها برؤيَةِ |
٩. وأشهدتُ غَيبي إذ بَدَت فوجدتُني | *** | هُنالك إيّاها بِجَلْوةِ خَلوتي |
۱۰. وطاحَ وُجودي في شهودي وبِنتُ عَن | *** | وجودِ شُهودي ماحياً غير مُثبتِ |
۱۱. وعانَقتُ ما شاهَدتُ في مَحْو شاهدي | *** | بِمَشهدِه للصَّحوِ مِن بعد سَكرَتي |
۱٢. فَفي الصَّحوِ بَعد المَحوِ لَم أكُ غيرَها | *** | وذاتي بذاتي إذْ تَحلَّتْ تَجلَّتِ |
۱٣. فوصْفي إذْ لم تدْعَ باثنَينِ وَصفُها | *** | وهيئَتُها إذْ واحدٌ نَحن هيئَتي |
۱٤. فإن دُعِيَتْ كنتُ المُجيبَ وإن أكن | *** | مُنادىً أجابَتْ مَن دَعاني ولَبَّتِ |
۱٥. وإنْ نَطقَتْ كُنتُ المُناجي كذاك إن | *** | قَصصْتُ حَديثًا إنّما هي قَصَّتِ |
۱٦. فقَد رُفِعَتْ تاءُ المخاطَب بينَنا وفي | *** | رَفْعِهَا عَن فُرقَةِ الفرقِ رِفْعَتي۱ |
[وتوضيح الأبيات بنحوٍ مختصرٍ كالتالي:
۱- لقد قطعتُ كلّ مقامٍ من مقامات السير والسلوك بسبب العبوديّة للحقّ تعالى، وحقّقت ذلك المقام بواسطة العبوديّة والإطاعة وأوصلته إلى مرحلة التثبيت والملكة فصار مستقرًا في وجودي.
٢- وقبل هذا كنتُ في مراحل السير والسلوك عاشقًا وهائماً بالمعشوق ومشتاقًا لوِصاله، وبعد أن تجاوزت هذه الحالة ووضعت إرادتي جانبًا ولم أعد أتصوّر لنفسي أيّ وجودٍ حتّى تنشأ منه إرادةٌ ومشيئةٌ، طلبني المعشوق للسير نحوه، وعندها كان هو الذي أرادني وهو الذي علّقني بشراك حبّه، وهو الذي انتخبني واختارني لنفسه.
٣- فصرت محبوبًا له بل صرت محبوبًا لنفسي -لأن نفسي التي في ذاتي قد صارت ذات المحبوب ونفسه، فلم يعد هناك اثنينيّة وتباين بيننا حتّى يحبّ أحدنا الآخر، بل الذي بقي ذاتٌ واحدةٌ وهي ذات المحبوب، فهو العاشق لنفسه وهو الطالب لنفسه وهو الذي يريد نفسه، وعليه فحبّي لنفسي هو بعينه حبّ المحبوب لذاته بدون اختلاف أو تفاوت- وهذه المرتبة تختلف عمّا ذكرناه سابقًا؛ من تجلّي الحقّ تعالى لعبده الذي بسببه صار عاشقًا لوجوده ولكلّ ما هو متحقّق في عالم الكون والوجود وطالبًا لوصاله (وذلك لأن آثار النفس والذات في ذاك التجلّي كانت لا تزال موجودة في كياني ووجودي، لذا فكنتُ أطلب محبوبي في دائرة الذات وضمن حدود النفس، لكن بما أنّي لم أعد أرى لنفسي وذاتي تحقّقًا في هذا التجلّي، فقد صرت أرى الطالب والمطلوب والعاشق والمعشوق متّحدان في ذاتٍ واحدةٍ فقط، ومتحقّقان في عينيّةٍ واحدةٍ وتحقّقٍ واحدٍ).
٤- لقد خرجتُ عن وجودي بفضل تجلّي المحبوب وعنايته الخاصّة بي، وطرحت لباس الأنا والاستقلال دفعةً واحدةً، وانجررت وراءه حتّى صارت جميع ذرّات تعيّني ووجودي متعيّنةً به وموجودةً بذاته، فلم يعد لي أثرٌ من تلك الهوية السابقة والوجود القبلي، فقد فنيتْ جميعها في ذات المحبوب وانمحت كلّها في نفسه، ولم أعد بعد هذا الانمحاء إلى ذاك التعيّن والتشخّص السابق، إذ كيف أعود، والحال أنّ مثلي لا يمكنه العودة إلى تلك المرتبة الدنيّة والمنزلة الساقطة المتولّدة من الأنانيّة والاستقلال في
مقابل المعشوق، بل لن أحاول أن أضع قدمي في هذا الطريق المشكل وهذه الموقعيّة، هيهات!
٥- لقد أخرجت نفسي عن مرتبة الشوق والطلب، وحرّرتها من كلّ تعلّقٍ وميلٍ وإرادةٍ، وتركت الطلب؛ حتّى طلب وصال المحبوب والشوق إلى رؤيته. وتركت كلّ هذا لأجل الكرامة والعزّة التي أردتها لنفسي، حيث نقلتها من مرتبة التعيّن إلى مرتبة اللا تعيّن واللا تشخّص، ورفعتها من مرحلة الإرادة والشوق إلى مرحلة عدم الإرادة وعدم الطلب. بل تجاوزت هذه المرحلة أيضًا، فقد رأيتُ أن نفس حالة عدم الإرادة وعدم الطلب هي مانع عن الفناء، وكذلك رأيتُ أن التكلّم معه ومجالسته مخالفٌ أيضًا للاندكاك والمحو في ذات المحبوب، لذا لم أكتف بسلب الإرادة والشوق من النفس فقط، بل قضيتُ على وجود النفس وأعدمت ظهورها وبروزها، حيث لم يعد لديّ نفس أصلًا كي أنتزع منها الطلب والإرادة.
٦- وصرت فانيًا وغائبًا في هذه الحالة، حتّى أنّي لم أعد أرى أثرًا لوجودي في عالم الكون، وكلّما بحثتُ عن شيءٍ من الاستقلال والتعيّن في وجودي لم أتمكّن من العثور عليه، بحيث إنّه لو أضيف وصفٌ أو نعتٌ إلى ذاتي فلن يؤثر ذلك على وجودي ولن يضيف إلى كياني شيئًا أبدًا، وهكذا فقد صرت في تلك المرتبة من الغيبة والخفاء، ووصلتُ إليها بشكلها الأتمّ والأكمل، ولن أخرج منها أبدًا۱.
۷- والآن شرعتُ في بداية الاتّحاد بيني وبين خالقي، وأرى أن مصير نفسي ومآلها في عين كونها متواضعةً ومنحطّةً في ساحة المحبوب والمعشوق إلّا أنها في مرتبةٍ عاليةٍ جدًا.
۸- لقد أوضح المحبوب معنى الوجود في نظري، وذلك عندما تجلّى بعالم التنزّلات والصور الماهوية للممكنات، وبما أن نظري لا يشاهد سوى المحبوب، فكلّما وقع ناظري على شيءٍ، شاهدتُ فيه جمال المحبوب.
٩- وعندما ظهر لي المعشوق وأسفر لي عن حقيقة ذاته، قمتُ أنا بإظهار تلك الحقّيقة الغيبيّة والمخفيّة التي هي عين ذات المعشوق، وأوصلتها إلى مرتبة الشهود والعيان. وفي هذه الأثناء عثرتُ على نفسي التي هي ذات المعشوق الظاهرة في هذا الشكل. وقد حصلتُ على هذا المقام، وتربّعت على منصّة الظهور بسبب ما قمت به من الخلوة والاعتزال عن الخلق.
۱۰- لقد انعدم ظهوري الخارجي بسبب تجلّي الشهود الباطني، وانفصلتُ عن كلّ شيءٍ؛ حتّى عن الوجود العلمي لهذا الشهود، (فقد كان التجلّي الباطني بنحوٍ سلب منّي حتّى إدراك هذا الحضور و الوجود)، وقضيتُ في هذه الحال على جميع تقيّداتي وأفنيت جميع مشخّصاتي، ولم أثبت لنفسي أيّ تعيّن في هذا المحو (فقد محوت بالتجلّي الظاهري والباطني كلا التعيّنين، ولم يعد إثبات أحد هذين التجليين موجبًا لمحو التجلّي الآخر وفنائه، بل حصل لي مقام الجمع بين هذين التجلّيين معًا).
۱۱- وما كنتُ قد شاهدته في حال محو ظاهري وتجلّي باطني بواسطة تجلّي المحبوب وظهوره، فقد عانقته بشدةٍ. ثمّ بعد انقضاء حالة السكر والفناء وحصولي على مرتبة البقاء، رأيت أن المعشوق متّحد مع حقيقة ذاتي وشهودي، فأنا في الحقّيقة كنت قد عانقت نفسي التي هي ذاك المعشوق، وعانقت المعشوق الذي هو ظاهرٌ ومشهودٌ فيَّ.
۱٢- ففي حال بقائي بعد الفناء لم يعد لنفسي وجود سوى وجوده، وقبل ذلك أيضًا لم أكن سواه، لكن هذا المعنى إنّما شاهدته بعد المحو الذي حصل بالتجلّي الباطني للمحبوب. وعندما تجلّى المعشوق، وضعتْ نفسي قَدَمَها في عرصة اللا مكان واللا انتهاء، فقد تحرّرت من الجزئية وارتبطت بالكليّة، وتخلّصت من محدوديّة الحدود والمقيّدات، وكانت قبل ذلك أسيرة محدوديّة التقييد والجزئيّة وحبيسة الحصر.
۱٣- وبما أن الاثنينيّة قد ارتفعت بيني وبين معشوقي وصارت ذاتي عين ذاته، فكلّ وصفٍ اتصفتُ به في هذا العالم، ففي واقع الأمر، الذي اتصف به هو المعشوق، وفي المقابل كلّ حُسنٍ وكمالٍ وجمالٍ وجلالٍ، وكلّ وصفٍ منطبقٍ على المحبوب وشاكلته ولائقٌ به، سوف يكون ذاك الوصف جديرًا بأن يُنسب إليّ. فقد صرت في
هذه المرحلة (أي البقاء بعد الفناء) مرآةً تعكس تمام صفات المحبوب وشؤون المعشوق.
۱٤- وعليه، فإذا دعاه شخص كنت أنا المجيب، وإذا ناداني أحد كان هو الذي يجيبه ويقول له: لبيك!
۱٥- وإذا تحدّث المحبوب فقد شرعت المناجاة والمسامرة بيني وبينه، وإذا نقلتُ خبرًا أو قصّة فهو الذي نقل الخبر كذلك.
۱٦- فقد ارتفعت في هذه المرتبة حالة الخطاب والمشافهة بيننا، وزالت تاء المخاطب ومحيت كليّاً، وخرجتُ من حدود عالم الناس الذين يرون أن المحبوب في عالم الخفاء والغيب، لا في الظهور والعيان، وارتقيتُ من عالم الاعتبارات الحقير إلى الأفق الأعلى للمحو في حريم ذات المحبوب والخلود عنده].
ثمّ يُخاطب ابن الفارض من يعتبر أنّ الوصول إلى هذه المرتبة وبلوغ هذه الدرجة أمرًا غريبًا، ويرى أنّها خارجة عن دائرة الإمكان، ويعرض له أمورًا بعنوان دليلٍ وشاهدٍ على هذه الدعوى التي يدّعيها، فيقول:
۱. فإنْ لَم يُجوِّز رؤيةَ اثنَينِ واحدًا | *** | حِجاكَ ولم يُثبِتْ لبُعدِ تَثبُّتِ |
٢. سَأجْلو إشاراتٍ عليكَ خَفيّةً | *** | بها كعِباراتٍ لَدَيْكَ جَليَّةِ |
٣. وأُعرِبُ عنها مُغرِبًا حيثُ لاتَ حي | *** | نَ لبسٍ بِتبْيانَيْ سَماعٍ ورؤيةِ |
٤. وأُثبِتُ بالبُرهانِ قَوليَ ضاربًا | *** | مِثالَ مُحِقٍّ والحقّيقةُ عُمدَتي |
٥. بمَتبوعَةٍ يُنبيكَ في الصرعِ غيرُها | *** | على فَمِها في مَسِّها حيثُ جُنَّتِ |
٦. ومِن لُغةٍ تَبدو بغَيرِ لِسانِها | *** | عليهِ بَراهينُ الأدلّة صَحّتِ |
۷. فلَو واحِدًا أمسيتَ أصبحتَ واجِدًا | *** | منازَلةً ما قُلتُه عَن حَقيقةِ |
۸. ولَكن علَى الشركِ الخَفيّ عَكفْتَ لَو | *** | عَرفتَ بنَفسٍ عَن هدى الحقّ ضَلّتِ |
٩. كَذا كُنتُ حيناً قبلَ أن يُكشَف الغِطا | *** | مِن اللَبس لا أنفكُّ عن ثَنويَّةِ |
۱۰. فلمّا جَلوتُ الغَينَ عنّي اجْتَلَيْتُني | *** | مُفيقًا ومِنّي العَينُ بالعينِ قَرَّتِ |
۱۱. فلا تَكُ مَفتوناً بِحُسنكَ مُعْجبًا | *** | بِنفسِك مَوقوفًا عَلى لَبسِ غِرّةِ |
۱٢. وفارقْ ضَلالَ الفرقِ فَالجمعُ مُنتجٌ | *** | هُدى فرقةٍ بالاتِّحادِ تَحدَّتِ |
۱٣. وصرحْ بإطلاقِ الجَمالِ ولا تَقُل | *** | بتَقييدِهِ مَيلًا لِزُخرُفِ زينةِ |
۱٤. فكلّ مَليحٍ حُسنُه مِن جمالِها | *** | مُعارٌ لَه بل حُسنُ كلّ مَليحةِ |
۱٥. بها قَيسُ لُبنى هامَ بل كلّ عاشقٍ | *** | كمَجنونِ لَيلى أو كُثَيِّرِ عَزَّةِ |
۱٦. فكلّ صَبا مِنهم إلى وَصفِ لَبْسِها | *** | بِصورةِ حُسنٍ لاحَ في حُسنِ صورةِ |
۱۷. وما ذاكَ إلّا أنْ بَدَتْ بمَظاهرٍ | *** | فظَنّوا سِواها وهي فيها تَجلَّتِ۱ |
[والمعنى:]
۱- فإذا لم يقدر عقلك على الوصول إلى حقيقة هذا المعنى، ولم يستطع أن يُدرك إمكانيّة أن تتّحد ذاتان مختلفتان في الظاهر؛ إحداهما في أعلى مرتبةٍ من العظمة والعزّة والقدرة والتجرّد والبساطة (التي هي مرحلة اللا حدّ واللا رسم)، والأخرى في مقام الإمكان والحدّ والقيد والمخلوقيّة، فكيف يمكن أن يحصل بينهما اتّحادٌ حقيقيٌّ ووحدةٌ عينيّةٌ -لا مجرّد الوحدة التخيّليّة والاعتباريّة- وترتفع بينهما الاثنينيّة والتباين؟ فإذا لم يقدر عقلك على فهم ذلك، وعجزتَ عن الوصول إلى هذا المعنى لعدم تأمّلك في هذا الموضوع من جوانبه جميعًا ...
٢- فسوف أوضّح لك بعض الإشارات التي كانت مخفيّةً عليك في هذا المجال، توضيحًا يجعلها عندك بمثابة العبارات الواضحة الجليّة لديك.
٣- وسأرفع الغطاء عن هذه الأمور المشكلة؛ حتّى لا تبقى لديك أيّة شبهة أو شكّ في ذلك، مستعينًا في توضيحها بالمنقولات والمشاهدات.
٤- وسأثبت كلامي بالدليل، وسأقيم أمثالًا وشواهد على دعواي، أمثلةٌ حقيقيّةٌ لا مجازَ ولا اعتبار فيها، إذ دَيدني اتّباع الحقيقة.
٥- خذ مثالًا على ذلك: فتاةً أصيبت بمرض الصرع وتلبّسها الجنّ، فخرج مِن فِيها بعض العبارات وأخبرت ببعض الأخبار، رغم عدم اطّلاعها على هذه المعلومات، ورغم أنّه ليس لديها سابقة بهذه العبارات (فواقع الحال أن تلك النفس المسخِّرة -أي الجنّ الحالّ بها أو أيّ شيءٍ آخر- هي التي تنطق وتتكلّم على لسانها، فهنا تكون هاتان الذاتان قد وجدتا في صورةٍ واحدةٍ وظهرتا في تعيّنٍ واحدٍ، وحصل اتّحادٌ بين هذه الفتاة الممسوسة وبين نفوس الجنّ أو الشياطين).
٦- وكذلك يدلّ على صحّة هذه الدعوى، ما قد تستعمله هذه الفتاة من لغات تختلف عن لغتها الأصليّة.
۷- فإن تخلّيت عن ذاتك وصفات نفسك وآثارها، ووضعت التباين الذي بينك وبين حبيبك جانبًا، ووصلت إلى الاتّحاد بذات المحبوب والوحدة معه، فسوف تجد أن ما أقوله لك إنما كان على وجه الحقيقة والواقع، (وأنّ هذا الإدراك إدراكٌ باطني وقلبي قد تنزّل عليك من طرف نفسي وقلبي، لا من جهة إدراك اللفظ أو فهم الكلام الموجود في فهمك وفكرك).
۸- لكن من أين لك أن تحصل على سرّ هذا المطلب، وأنت عاكفٌ على الشرك والاثنينيّة، معتلٍ مطيّة المجاز والاعتبارات؟! قد اعتمدتَ على ذاتك ونفسك حتّى ابتعدت عن الحقيقة وطريق الحقّ.
٩- طبعًا لقد كنت أنا مبتلىً كذلك بهذه العلّة وهذا المرض، قبل أن ينكشف لي الغطاء عن وجه الحقيقة وجمال المعشوق، فقد كنت أرى نفسي منفصلةً عن المعشوق، وكنت أعتقد أنّ الاثنينيّة والمغايرة بيننا حقّ.
۱۰- فبعد أن نقّيت قلبي من الغبار والصدأ، ورفعت حجاب الاثنينيّة بيني وبين المعشوق ووضعت الستار جانبًا، عندها عثرت على نفسي وخلعتُ عنها ثوب المرض وألبستها لباس الصحّة والسلامة، ووضعت الاثنينيّة جانبًا، فصرت متّحدًا مع الحبيب. فعندها تنوّر بصري، وفُتحت بصيرتي بسبب عين المحبوب وبصيرته، فقد حلّت رؤية المحبوب مكان رؤيتي السابقة، وأمسيت أنظر بعينه وأرى ببصيرته.
۱۱- فلا تكن أنت أيضًا ضحيّة إحساسك، ولا تفتتن بالظواهر الخادعة والأمور المبعّدة عن المحبوب، ولا تنخدع بنفسك وبمحاسنها، فإنّك في هذه الحالة سوف تحبس نفسك في وادي الجهل والمجاز وتحصرها في حالة الاغترار.
۱٢- وجنّب نفسك وانأَ بها عن الضياع والتفرّق، فإنّك باجتماعك بالمعشوق ومعيّتك له ستنفي عنك كلّ نوعٍ من أنواع التفرقة والانفصال، وكلّ من يسعى دائماً للوصول إلى هذه النقطة، ويجاهد في سبيل ذلك، فسوف يُرشد إلى المنزل المقصود، وعندها سوف تخلع وتنزع الفرقة والانفصال بينها وبين المحبوب.
۱٣- وأُعلنْ بوضوحٍ أنّ جمال المحبوب والمعشوق لا حدّ له ولا حصر، ولن يكون مقيّدًا ومحدودًا بأيّ قيدٍ وحدٍّ، وأنّ جميع ما في الكون من جمال وكمال هو من هذا المعشوق والمحبوب، وأنّ ليس لأحدٍ حظٌّ من الاستقلال بالجمال والكمال، وما لديه إنما هو إفاضة من جانب المحبوب فقط؛ فإنك إذا لم تعترف بهذه الحقّيقة وتقرّ بها، فقد أضعت جادّة الصدق وحِدْتَ عن طريق الحقّ، وشغلت قلبك بالزينة المجازية الاعتباريّة الفانية، وأضعت الجمال الحقّيقي والكمال المطلق.
۱٤- وبما أنّنا ذكرنا لك الحقّيقة وأوضحنا لك لبّ المسألة، فاعلم أنّ كلّ ما هو جميلٌ ومليحٌ في هذا العالم، سواء كان رجلًا أو امرأةً، فحسنه وبهاؤه مأخوذٌ من المحبوب الحقيقي ومستقى من الجمال المطلق.
۱٥- فمن خلال تجلّي ذات المحبوب وجماله، فُتن «قيسٌ» وجُنّ بجمال «لبنى»، بل الأمر كذلك في كلّ عاشقٍ؛ كال «مجنون» الذي تعلّق عشقه بحسن «ليلى»، أو مثل «كُثيّر» الذي هام وفُتن بـ «عزّة».
۱٦- فكلّ ما ظهر من العشّاق مِن انجذابٍ وعشقٍ، والذي كان يشدّ كلّ واحدٍ منهم إلى معشوقه، إنّما هو العشق لصفات المحبوب الحقّيقيّ، والانجذاب إلى تجلّيات المعشوق الحقّيقيّ التي ظهرت في إحدى صورها الظاهريّة، وبرزت في صور عالم الطبع بصورة الحسن والجمال، (ولكن ذلك العاشق يتصوّر أنّ جمال معشوقه قائمٌ بنفس ذاك المعشوق ومتدلٍّ منه، غافلًا عن أنّ جمال حبيبه إنّما هو ظهور للمعشوق الحقّيقيّ الذي انعكس من خلال هذه المرآة، وهو في الواقع يُحبّ ويعشق ذاك المعشوق الحقّيقي، لا هذه الصورة والمِرآة التي هي معشوقه الظاهري).
۱۷- وجميع ما أوضحته لك حتّى الآن ينحصر في أنّ المحبوب يُظهر نفسه ويُبيّنها في مظاهر عالم الكون وصوره، و هؤلاء الناس الجهلة يتصوّرون أنّ هذه الصور والمظاهر هي غير المحبوب الحقيقيّ، وأنّها مختلفةٌ عنه اختلافًا فاحشًا، والحال أنّ الحقيقة أنّها تجلٍّ لحضرة الحقّ تعالى].
يقول كاتب هذه السطور: للّه درّه قائلًا ومُفصحًا وشارحًا! جعله الله تعالى غريق بحار رحمته، فقد شرح وأوضح، ورسم حقيقة الوحدة وانجذاب السالك، وبيّن مسائل المحو والفناء والهوهويّة بشكلٍّ وافٍ وواضحٍ، بحيث لا يمكن أن يُؤدّى لهذه المسألة حقّها بأفضل ممّا ذكره، فهنيئًا له فقد فاز بقدم السبق، ونهل من إكسير الحياة وسرّ عالم الخلقة، واغترف من حقيقة التشريع والتربية والتزكية، ونال السعادة في كلا الدارين من خلال رفض الهوى والهوس وإلغاء الرغبة والتمنّي وإفناء النفس بجميع خصوصياتها وآثارها، ولم يختر لنفسه نصيبًا إلّا الفناء والانمحاء في ذات الحقّ، فاختار لنفسه المحبوب فقط، تاركًا غيره للآخرين.
وهو ما كان المرحوم الوالد رضوان الله عليه يذكره مِرارًا من خلال هذه العبارة التي كان يكررها كثيرًا أن: «دعوا الدنيا لأهل الدنيا».
والدنيا تعني جميع التعلّقات في أيّ لباسٍ كانت وتحت أيّ غطاءٍ، وضمن أيّ شأنٍ وفي أيّ موقعٍ؛ فما دام هناك تعلّقٌ بالنفس، وتمايلٌ نحو الرغبات الشخصيّة فالدنيا
موجودةٌ، وعندها يكون الإنسان بعيدًا عن الحقّ، و أمّا عندما يكتسب الإنسان الصبغة الإلهيّة، فلن تبقى عنده رغبةٌ ولا إرادةٌ شخصيّةٌ في حالاته المختلفة، وأوضاعه المتغيّرة. ويمكن لأيّ إنسانٍ أن يختبر نفسه في هذه المعركة، ويعرف أكثر من أيّ شخصٍ آخر أنّ أعماله ناشئةٌ من رغبته وميله واشتياقه لهذا العمل -وإن أضفى عليه شكلًا ولونًا إلهيّا- أم أنّها مجرّد امتثال للتكليف فقط، دون أن يكون فيها أيّ ميلٍ ذاتيٍّ ورغبةٍ شخصيّةٍ.
قال أحد الأصدقاء يومًا: كنتُ في أحد المجالس وجرى الكلام فيه عن مسألة تدخّل النفس في الأمور المعنويّة والروحانيّة، وعن وجود دوافعٍ دنيويّةٍ عند التصدّي للأمور الشرعيّة والإلهيّة، والتي تظهر بصورة القيام بالتكاليف وأداء الواجبات والمسؤوليّات الاجتماعيّة، فقام أحد أقرباء المتحدّث الذي كان من علماء طهران، والذي كان يريد أن يُثبت بكلامه هذا أنّ أساس أعمالنا وأفعالنا تعتمد على إخلاص النيّة، وأنها لأجل أداء التكليف فقط، فقال له ذاك الرجل: هل الصلاة التي صلّيتها على جنازة أبيك بوجود ذاك الجمع الغفير مِن المشيّعين في المسجد الفلاني كانت بقصد القربة؟ فسكت هذا العالم متأمّلًا ثمّ أجاب: كلا، لم يكن لديّ قصد القربة في تلك الصلاة، بل كنت أحبّ أن يوكلّ أمر الصلاة إليّ بحضور هذا الجمع الغفير، باعتبار أنّي الولد الأكبر للميّت، وعندما عُرض عليّ هذا الأمر قبلته بسرعةٍ.
إنّ هذا حالنا في مجرّد الصلاة على الميت، فما بالك إذا قسنا على ذلك بقيّة الموارد الأخرى؟! فكم من البلاء تُنزله هذه الدنيا على رؤوسنا، وكيف تُسيطر على جميع الاستعدادات والقابليّات التي لدينا وتصرفها في الأمور الاعتباريّة والمجازيّة، فنهدر بذلك حياتنا ونجعل رأسمالنا الذي وهبنا الله إياه هباءً منثورًا؛ ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا (وكان عملهم خاليا فارغا و لا قيمة له، و لم يترتب عليه أي نتيجة) وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾۱.
إنّ كلام هذا العارف الكبير في شرحه لأوصاف السالك الواصل يشبه تمامًا التفصيل الذي ذكره المولى أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول:
«عِبادٌ نَاجَاهُم في فِكْرِهِم وَكَلَّمَهُم في ذَاتِ عُقُولِهم»۱.
فحقيقة المناجاة تحصل عندما لا يبقى للعبد أيّة شائبةٍ مغايرةٍ للحقّ في وجوده، وعند تحقّق مفهوم الولاية بكنهها ولبّها وعينها في ذاته، وهذا الشيء هو الذي كشف هذا العارف الجليل النقاب عنه.
روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال:
«لي مَعَ اللهِ حالاتٌ لا يَسَعُها مَلكٌ مُقرَّبٌ وَلا نَبيٌّ مُرسَلٌ»٢.
ومن الواضح أنّ جميع الأنبياء والمرسلين على درجةٍ واحدةٍ في مسألة تلقّي الوحي وعلى منوالٍ واحدٍ في الارتباط بالحقّ تعالى، فإذا فسّرنا معنى الوحي، وقلنا: إنّ حقيقته عبارةٌ عن: إلقاء معنى من معاني الغيب على النبيّ -سواءٌ كان بصورة حكمٍ تشريعي أم بصورة انكشافِ واقعةٍ خارجيةٍ- فلن يبقى معنى لاختلاف الأنبياء في هذا الأمر، وذلك لأنّ جميع الأنبياء مشتركون في هذا الموضوع، وكلامهم المستقى
من الوحي صادقٌ وهو مقارنٌ للعصمة. والشريعة الإسلاميّة المقدّسة التي نزلت على قلب رسول الله وقام النبيّ بإبلاغها للناس وتوضيحها لهم، مثل سائر الشرائع السابقة من هذه الناحية، حيث لم يكن لأحد من الأنبياء أن يُلقي ولو كلمةً واحدةً من تلقاء نفسه أمام الناس، ولم يكن في دعوتهم أيّ دخالة للأهواء النفسيّة أو الرغبات الشخصيّة، بل إنّ الأحكام الشرعية والأوامر التي كان الأنبياء يُلقونها للناس عبارة عن نفس كلام الحقّ وعين إرادته ورغبته دون زيادة أو نقصان، إذن فلا بدّ أن تكون النقطة الدقيقة التي في هذه الرواية مغايرةً لمسألة الوحي وتنزّل الكتاب والشريعة والأحكام من قبل الله وملائكة الوحي، حتّى يعبر عنها رسول الله في العبارة السابقة بذلك التعبير.
وأمّا إذا وسّعنا دائرة الوحي قليلًا ولم نحكم عليه بأنه مجرّد مسائل ترتبط بالأحكام الظاهريّة الشرعيّة، وانكشاف الأحداث والظواهر الخارجيّة، بل قلنا: إنّه يشمل أيضًا إظهار المعاني والحقائق المستورة في عالم الوجود، ويتضمّن كيفيّة كشف الأسرار المتعلّقة بظهور وبروز عالم الأسماء والصفات الجماليّة والجلاليّة لحضرة الحقّ تعالى، وكذلك الأسرار المتعلّقة بتطوّرات عالم الوجود؛ في جميع أبعاده الظاهريّة والباطنيّة، والكشف الشهوديّ عن الذات المقدّسة للباري تعالى في مرتبة سرّ المؤمن وقلبه، عند ذلك نعرف كم هو الفارق بين الوحي بالمعنى الأوّل وبين هذه المرتبة من الوحي! بل إن الاختلاف بينهما كالاختلاف فيما بين السماء والأرض، والفارق بينهما مشاهدٌ بوضوحٍ: فهنا يوجد مرحلةٌ أعلى من الحدود الوجوديّة لجبرائيل الأمين وخارجةٌ عن مقدوره، لأنّ سعة جبرائيل وظرفيّة إدراكه في مرحلة الأسماء الإلهيّة منحصرةٌ في اسم العليم، والحال أن رسول الله ذهب إلى أبعد من هذه المرتبة، وحصل على الوحدة الذاتيّة باندكاكه في كُنه الذات، وذوبانه في حقيقة هوهويّة الحقّ، كما مضت الإشارة إليه فيما تقدّم من بيان تلك الأبيات عالية المضامين.
يقول سعدي في هذه المسألة:
۱. كليمى كه چرخ فلك طور اوست | *** | همه نورها پرتو نور اوست |
٢. شفيعٌ مُطاعٌ نبىٌّ كريم | *** | قسيمٌ جسيمٌ نسيمٌ وسيم |
٣. يتيمى كه ناكرده قرآن درست | *** | كتبخانه چند ملّت بشست |
٤. چو عزمش برآهيخت شمشير بيم | *** | بمعجز ميان قمر زد دو نيم |
٥. چو صيتش در افواه دنيا فتاد | *** | تزلزل در ايوان كسرى فتاد |
٦. به لا قامت لات بشكست خرد | *** | به إعزاز دين آب عُزّى ببرد |
۷. نه از لات و عزّى برآورد گرد | *** | كه تورات و انجيل منسوخ كرد |
۸. شبى برنشست از فلك برگذشت | *** | بتمكين و جاه از ملك درگذشت |
٩. چنان گرم در تيه قربت براند | *** | كه بر سدره جبريل ازو باز ماند |
۱۰. بدو گفت سالار بيت الحرام | *** | كه اى حامل وحى برتر خرام |
۱۱. چو در دوستى مخلصم يافتى | *** | عنانم ز صحبت چرا تافتى |
۱٢. بگفتا فراتر مجالم نماند | *** | بماندم كه نيروى بالم نماند |
۱٣. اگر يك سر موى برتر پرم | *** | فروغ تجلّى بسوزد پرم |
۱٤. نماند به عصيان كسى در گرو | *** | كه دارد چنين سيّدى پيشرو |
۱٥. چه نَعْت پسنديده گويم ترا | *** | عليك السّلام اى نبىّ الورى۱ |
٢-شفيعٌ مُطاعٌ نبىٌّ كريم | *** | قسيمٌ جسيمٌ نسيمٌ وسيم |
إنّ الوصول إلى جميع هذه الحالات والكمالات بسائر أطوارها ومراتبها ميسّرٌ للسالك فيما إذا خرج من مرتبة النفس، كما أشار إلى ذلك المولى أمير المؤمنين عليه السلام.
و من هنا، فإنّ هذه المرتبة إنّما تحصل بعد صمم الأذن عن سماع أمور الدنيا، وعمى عين القلب عن رؤية الأمور النفسانيّة و بعد انعدام العناد واستكبار النفس الأمّارة، وحينئذٍ يحصل لدى العارف هذا المقام الذي يُناجي فيه الله تعالى العبد في سرّه. وإلّا، فمن الممكن أن يحصل للعبد التكلّم والارتباط مع الله حتّى قبل هذه المرحلة، أيّ حتّى مع وجود النفس وعدم التجاوز عن مرحلة الأنا وذلك في عوالم البرزخ والمثال أو حتّى الملكوت؛ ويمكن للسالك أن يشاهد الحقّائق والصور البرزخيّة والمثاليّة لكن لا على نحو الملكة الدائمة بل على سبيل الحالات العابرة، مع أنّ هذا العبد لا يزال عرضةً للتبدّل والتغيير من خلال تجاذبات النفس الأمّارة، ومن هنا يبدأ الخطر؛ حيث يتخيّل الإنسان أنّ ما يراه ويسمعه وما يشعر به هو منتهى ما يمكن الوصول إليه وهو تمام الفعليّة المطلوبة، وأنّه في هذه المرحلة والبرهة قد وصل إلى مقصوده ومطلوبه، ويظنّ بأنّه ليس هناك أيّ كمالٍ آخر وراء ما حصل عليه، غافلًا عن أنّه في كثيرٍ من الأحيان تكون هذه المشاهدات والكرامات متضمنةً لوساوس النفس الأمّارة وميولها، بشكلٍّ مخفيٍّ ومعقّدٍ، بحيث لا يمكن لهذا الإنسان
أن يشخّص حقيقة الأمر. فبعض الناس يتصوّر أن المسألة تمّت، وأنّه قد وصل إلى منتهى الكمال المطلوب بمجرّد انكشاف أمرٍ، أو حدوث مسألةٍ غير عاديّةٍ، أو شفاء مريضٍ أو الإخبار عما في ضمير شخصٍ، أو الإخبار عن حادثةٍ خارجيّةٍ، مع أنّ هذه البروزات والظهورات والأمور الخارقة للعادة والكشف عن الحقّائق الخارجيّة كلّها متحقّقة في مرتبة النفس، وهي ممزوجةٌ مع الرغبات والأهواء الخفيّة والمموّهة التي يتعذّر تشخيصها، فما لم يُطهِّر الإنسان قلبه ويزل عن مرآة نفسه الصدأ وغبار الكثرة والتعلّقات، فسوف تكون الفاصلة بينه وبين حرم المحبوب كبيرةً جدًا، وقد قال:
«القَلبُ حَرَمُ اللهِ فَلَا تُدخِلْ في حَرَمِ اللهِ غَيْرَ اللهِ»۱.
يقول كاتب السطور: مِن المناسب هنا أن نُشير إلى بعض التعابير التي كان يقولها المرحوم الوالد رضوان الله عليه عن أستاذه السلوكي والعرفانيّ السيّد هاشم الحدّاد قدّس الله نفسه، وأن نُذكِّر من خلال هذه التعابير والكلمات بحقيقة كلام أمير المؤمنين عليه السلام، ومضامين أشعار العارف العظيم ابن الفارض المصري -رضوان الله عليه- وانطباقها على هذا الرجل الإلهيّ، وهذه العبارات والبيانات التي تُشير إلى مقام أستاذه كانت كثيرًا ما تَرِدُ في رسائله لِبعض خواصّ أصدقائه ورفقائه السلوكيّين. ومن الجيّد أن نشير إليها لكي يتّضح في مقام ثبوت الولي الكامل ومرتبة السالك الواصل، الذي نقل مقامه من دائرة الكثرة إلى ساحة الوحدة، ولكي يتجّسّم أمامنا طلوع نور التوحيد في جميع زوايا وجوده، وتتبيّنَ إلى حدٍّ ما تلك الخصوصيّاتُ الناتجة عن هذا التجلّي الأعظم (أي التجلّي الباطني لحضرة الحقّ تعالى) على قلب السالك وسرّه.
يقول العلّامة الطهراني رضوان الله عليه في رسالته إلى رفيق السلوك وشفيق الطريق المرحوم الحاجّ محمّد حسن البياتي رحمة الله عليه، التي كتبها له من كربلاء٢:
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون
سلام متواصلٌ، وتحيّاتٌ متواليةٌ وافرةٌ، وأدعيةٌ خالصةٌ نرسلها إلى ساحة المحبوب؛ الذي احتلّ الأفق المقدّس لعالم القلب مكانًا له، وتصرّف في الكون والمكان بولايته التامّة المنبسطة.
امروز شاه انجمن دلبران يكى است | *** | دلبر (گرچه جز او هيچ نيست) هميشه دل بر آن يكى است |
[يقول: إنّ ملك مجلس العشاق واحد، والقلب لا يميل إلى أيّ معشوق (مع أنّه لا يوجد أحد غيره) سوى ذاك الواحد].۱
لقد وصلتني رسالتك الشيّقة، وهي تحتوي حقًا على مطالب حقّة أجراها الله على لسانك وقلبك، وهذا ليس مبالغة مِنّي أو اغراق. بل يجب القول: إنّ هذا التمجيد والمدح هو في حدود دائرة فكرنا ولم يصل بعدُ إلى مقامه، وهذا الفكر في ظرف تعقّلنا نحن، دون أن يحيط ببحر فضله؛ فمن الخطأ أن نكيل البحر بالكأس، وليس صحيحًا أن ندفع العواصف العاتية بالغربال، وأن نحدّ الرياح بتقييدها بالمنديل.
وإنّ قميصًا خيط من نسج تسعة | *** | وعشرين حرفًا عن معاليه قاصر |
والحاصل، علينا أن نشكر الله ألف مرّةٍ، فإنّنا وإن لم نكن جديرين بأن نكون محطّ هذه العنايات -لأنه ليس في أيدينا الثمن، كما أنّ المثمن غير محدود- لكنّنا من زمرة القادمين إلى ساحته ومن زمرة المشتاقين إلى جماله، والوالهين بحريم مقامه.
امروز، شاه انجمن دلبران يكىست | *** | دلبر اگر هزار بُوَد، دل بر آن يكىست |
به هر طرف كه نگاه مى كنم تو در نظرى | *** | چرا كه بهر تو جز ديده جايگاهى نيست۱ |
[يقول: إلى أي طرفٍ نظرت فأنت في عيني، لأنّ مجلسك ومقعدك في إنسان عيني].
وفي رسالةٍ أخرى يرقى إلى أكثر من ذلك؛ ويوصل الأمر إلى أوجه ويذكر عباراتٍ عجيبةٍ عن أستاذه:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
اللهمَّ أنتَ السّلامُ ومنكَ السَّلامُ وإليكَ يَنتَهي السّلامُ
وله الحمدُ في الأولى والآخِرةِ، وهو الأوّلُ والآخرُ والظّاهرُ والباطنُ
وهو عَلى كلّ شَيءٍ قديرٌ
السّلام عليكم و رحمة الله و بركاتُه .. بعد إهداء التحيّات الوافرة والأدعية الخالصة بالصحّة والموفّقية، فقد وصلتُ إلى الكاظمين عليهما السلام ليلة الثلاثاء، وفي صباح يوم الثلاثاء وصلتُ إلى كربلاء المقدّسة، وتشرفتُ بالحضور عند حضرة العزيز .. إنسان العين وعين الإنسان: السيّد هاشم الحدّاد روحي فداه.
اللهم أفض صلة صلواتك وأوّل تسليماتك على أوّل التعيّنات المفاضة من العماء الربّاني، وآخر التنزّلات المضافة إلى النوع الإنساني، المهاجر من مكةَ «كان الله ولم يكن معه شيء ثاني».
لم يكن المقام مقام تقبيل اليد أو تقبيل الرجل بالأصالة أو بالنيابة، لأنّه كلّ شيءٍ ومع كلّ شيءٍ وقائمٌ بكلّ شيءٍ، ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ﴾، ﴿زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ﴾، فـ ﴿لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى﴾.
بوى گلم چنان مست كرد | *** | كه دامنم از دست برفت |
[يقول: لقد أسكرني عطر الورد [الحبيب]، حتّى فقدت وعيي].
وبعد أن استقرّ بي المقام، عرضت عليه أخباركم بالخصوص وأخبار سائر الرفقاء، فسرّ كثيرًا بذلك ودعا لكم بالخير، وقال: «يا سيد! إنّ الكثير من الرفقاء لديهم مشكلة في معنى التوحيد، لكنّ الأمر لدى الحاج بيات واضحٌ جدًا، وعند سفري إلى إيران كان موافقًا للمعنى، وقد منحه الله عنايةً خاصّةً وهو من جملة رفقاء الدرجة الأولى الذين نكون معهم في الليل والنهار وهو معنا دائماً». ثمّ قلتُ له: تفضّلوا بكلمة لأكتبها له، فقال: اكتب ﴿فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ﴾ -إلخ»۱.
الدليل السابع: ولاية العارف الكامل تجلٍّ لولاية الإمام، و ولاية الإمام تجلٍ لولاية الله
لقد بيّن رحمه الله في هذه الرسالة -التي كتبها لأحد خواصّ رفقائه السلوكيّين وصاحب سرّه- حقيقةَ مقام العارف الواصل وشخصيّة الفاني في ذات الحضرة الأحديّة، وكيفيّة العروج إلى مرتبة اللا حد واللا رسم والمرتبة المطلقة لحضرة الحقّ، ومن ثمّ طلوع سرّ الولاية التكوينيّة المطلقة وظهور مقام الإرادة والمشيئة اللامتناهية في نفس العارف، كما أوضح أيضًا كيفيّة اتحاد ونفوذ الولاية والإرادة التكوينيّة لحضرة الحقّ تعالى في جميع عوالم الوجود، وأنّها كما هي ثابتةٌ ومحقّقةٌ للمعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فإنّها ثابتةٌ للعرفاء أيضًا تحت ظلّ وولاية مقام الولاية الإلهيّة الكبرى الإمام الحجّة ابن الحسن العسكري أرواحنا لتراب مقدمه الفداء. وهذا المعنى هو حقيقة وحدة الولاية التي تظهر في مظاهر مختلفة بواسطة التجلّيات الباطنيّة للّه تعالى؛ بمعنى أنّه لدينا ولايةٌ واحدةٌ لا غير، مختصّةٌ بذات الله ولا يشاركه فيها أحدٌ من الناس -سواء كان من الناس العاديّين أو من الأولياء والأنبياء والمعصومين عليهم السلام- ولو بمقدارٍ بسيطٍ من المشاركة، وهي بعينها الولاية التي تتجلّى وتظهر في نفس المعصوم عليه السلام، وأيضًا هي ذاتها التي تظهر وتُفاض من نفس المعصوم على نفس ولي الله الذي طوى مراتب
العبوديّة بشكلها الأتمّ والأحسن وتَحقّق بحقيقة التوحيد الذاتي واقعًا؛ ولذا نرى أنّ الأوصاف التي يُطلقها الله تعالى في القرآن الكريم على المعصومين عليهم السلام في آية النور، تُطلق أيضًا على هذه المجموعة من أولياء الله، حيث يقول في هذه الآية الشريفة:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ (بل هي في و سط الصحراء تظلها السماء، و تكتسب في حال من الاعتدال من الشمس و الهواء و الأرض و تستفيد منها) يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ (أي إلى منزل قربه) مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* (وتلك المشكاة أو المؤمنون الذين اهتدوا بنور الله تعالى) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها (باستمرار) بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ، رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ (لما ذا؟ لأنهم) يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾۱.
يورد المرحوم الوالد رضوان الله عليه في كتاب «معرفة الله» في ذيل هذه الآية نقلًا عن «الميزان» الرواية التالية:
«أورد الصدوق في كتاب «التوحيد» عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام عندما سئل عن قول الله عز وجل: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ﴾
فقال: هو مثَلٌ ضَربَه الله لنَا؛ فالنبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم من دلالات الله وآياته التي يُهتدى بها إلى التوحيد ومصالح الدين وشرائع الإسلام والسنن والفرائض، ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم»٢
ونقل المسعودي في كتاب «إثبات الوصيّة» رواية عن أبي الحسن الإمام علي النقي عليه السلام:
رَوى الحِميَري قالَ: حَدَّثني أحمدُ بن أبي عبدِ الله البَرقي عن الفَتح بن يزيد الجُرجاني قالَ: ضمّني وأبا الحَسن الطَّريقُ لمّا قدم به مِن المدينة (في مسيره إلى سامرّاء، عندما أشخصه المتوكلّ العباسي إليها)، فسمعتُه في بعض الطّريق يقول: «مَن اتّقى الله (وربّى نفسه على التقوى) يُتّقى، (ويأمن من أذية شرار الناس) ومَن أطاع الله يُطاعُ». فلَم أزَلْ أئتلِفُ (وأتودّد إليه وأتقرّب عبر روابط الأنس) حتّى قربتُ مِنه (وأصبحت من جملة المقربين منه)، ودَنوتُ (منه يومًا) فسلَّمتُ عليه فردّ عليّ السّلام. فأوّل ما ابتَدأني أن قال لي: «يا فَتح! مَن أطاعَ الخالقَ فلَم يُبالِ بسَخَطِ المَخلوقين (ولا يدع طريقًا للخوف من غضب الناس إلى قلبه). يا فَتح! إنّ الله جلَّ جلالهُ لا يوصَفُ إلّا بما وصف به نفسه. فأنّى يوصَفُ الَّذي تعجز الحواسُّ أن تُدركه والأوهامُ أن تنالَه والخَطَراتُ أن تَحُدَّه (وتعرّفه) والأبصارُ عَن الإحاطة به. جلَّ عمّا يَصِفُه الواصِفونَ وتَعالى عمّا ينعتُه النّاعتون (فهذا الوصف والنعت الذي يذكرونه بحقّه أقل شأنًا وأدنى رتبةً من حقيقته تعالى)، نَأى في قُربه وقربَ في نأيِه، بَعيدٌ في قُربِه وقريبٌ في بُعده (أي أنه في عين قربه من الخلق هو بعيدٌ، وفي نفس بعده عنهم هو قريبٌ منهم ومعهم، فهو بحضوره مع الخلق بعيد عنهم وببعده عن الخلق حاضرٌ معهم وشاهدٌ). كيَّفَ الكيفَ (وأبدع كيفيّةً للأشياء) ولا يُقال كَيفٌ، وأيَّنَ الأينَ فلا يُقال أينٌ، إذْ هو مُنقطِع الكيفيّة والأينيّةِ (ومنزّه عن الكيف وأين)، الواحدُ الأحدُ (الذي لامثيل له) جَلّ جلالُه.
(وكذلك الحال بالنسبة إلى النبيّ، إذ) كيفَ يُوصَف محمّد صلّى الله عليه وآله وقد قرنَ الجليلُ اسمَه باسمِه وأشركَه في طاعتِه وأوجب لمن أطاعَهُ جزاءَ طاعتِه فقال: ﴿وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾۱. (أي إنّ
المنافقين لم يستوجبوا النقمة الإلهيّة والعذاب إلّا بعد أن أغناهم الله تعالى ورسوله من النِعم الإلهيّة، وصاروا أهلًا للعذاب والعقوبة بسبب كفرانهم هذه النعمة) وقالَ تباركَ اسمُه يَحكي قولَ مَن (خالفَ أوامر الله ورسوله و) تركَ طاعتَه (وطاعة رسوله): ﴿يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾۱. أم كيف يُوصفُ من قَرنَ الجليلُ طاعتَه بطاعةِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله حيثُ قال: أَطِيعُوا اللَّهَ ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾٢.قالَ: ﴿وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾٣، (لكان أفضل لهم).
يا فتحُ! كما لا يُوصفُ الجليلُ جَلَّ جلالُه ولا يوصَفُ الحجّة، فكذلك لا يوصَفُ المُؤمنُ المسلّمُ لأمرِنا (الذي يضع جميع وجوده في اختيارنا، والذي يقبل بحقيقة ولايتنا بشكلها الصحيح والأتمّ). فنبيُّنا صلّى الله عليه وآله أفضَلُ الأنبياءِ ووصيُّنا صلّى الله عليه وآله أفضَلُ الأوصياءِ. ثمّ قالَ بعد كَلامٍ: فاردُدِ الأمرَ إليهمْ وسلّمْ لَهُم ...- إلخ».٤
من خلال التأمّل بفقرات هذا الحديث الشريف يتّضح لنا كيف اعتبر الإمام الهادي عليه السلام أنّ علّة عدم توصيف ذات الحقّ تعالى هي عدم شعور البشر وإدراكهم لكُنْه الذات ولحقيقة وجود الباري، وكذلك الأمر في العجز عن وصف رسولالله والأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين يعود للسبب ذاته، لأنّه مع غضّ النظر عن الخصوصيّات الظاهريّة والقالب البشريّ الذي هو مشخَصٌ وواضحٌ لدى الجميع، فإنّ ما يحدّد حقيقة الإنسان وكيفيّة مراتب فعليّته، وسعة ظرفيّته الوجوديّة، إنّما هو تجرّده وقربه من ذات الحقّ تعالى، ولمّا كانت نفس المعصوم عليه السلام قد وصلت بجميع مراتب الاستعداد والقابلية إلى الفعليّة، ونالت مرتبة التجرّد والتجريد في أعلى
مراتبها، وهي لفظ وطرد جميع زوايا النفس ورفض بقايا تعيّناتها بشكلٍّ كليٍّ وتامٍّ، لذا فقد صار وجوده مندكّاً في وجود الحقّ وفانيًا في ذاته، وانتقل إلى حريم الإطلاق الإلهيّ والوجود المطلق والوجود البحت البسيط الذي لا حدّ له ولا رسم بسبب التخلّي عن جميع شوائب الوجود المجازي. وبناءً على هذا فكلّ ما هو مترتّبٌ على ذاك الوجود المطلق من خصوصيّات وكمالات، مترتّبٌ أيضًا على وجود المعصومين عليهم السلام.
وكذلك كلّ مؤمنٍ تأسّى بنهج المعصومين عليهم السلام واتبع مدرستهم، وانقاد الانقياد التامّ لصاحب مقام الولاية الإلهيّة الكبرى، وسلّم جميع أموره لهؤلاء المعصومين وأفنى نفسه في ولاية الإمام وأمحى جميع ذرّات وجوده في وجود الباري تعالى، فهو أيضًا مشمولٌ لهذه العناية الإلهيّة بحقّ المعصومين عليهم السلام، فيصير هذا المؤمن -بناءً على ما ذكره الإمام الهادي عليه السلام- غير قابلٍ للوصف ولا يمكن بيان حاله وشرح مقامه.
وكم هو مناسب ببحثنا أن نورد كلامًا للمرحوم الوالد أعلى الله مقامه، حيث يقول في وصف أستاذه المرحوم السيّد الحدّاد:
«ايشان قابل توصيف نيست. من چه گويم درباره كسيكه به وصف در نمىآيد؛ نه تنها لا يوصَف بود، بلكه لا يُدرك و لا يوصَف بود؛ نه آنكه يُدْرك و لا يوصَف بود»۱
[والمعنى: هو لم يكن قابلًا للوصف، فماذا أقول في من يستعصي على الوصف؟! ليس فقط يستعصي على الوصف، بل كان لا يُدرك ولا يُوصف. لا أنّه يُدرك ولا يوصف].
يقول الحقّير: أتذكّر في هذا المقام نقطةً دقيقة عن المرحوم آية الله الوالد قدّس الله نفسه عندما كان يتحدّث عن مسألة نفوذ وسيطرة الولاية ومقدار تأثيرها وإعمالها في تربية النفوس البشريّة وسوقها نحو مقصدها ومنزلها، فسُئل عن الإمامة وحدودها
وأنّها كيف تكون بالنسبة لسائر الأشخاص؟ وهل يمكن لأمير المؤمنين عليه السلام أن يوصل نفوس الناس -من خلال تربيتها ومساعدتها- إلى المرتبة والمنزلة التي هو فيها، أو أنه لا يستطيع ذلك؟ فأجاب:
«إنّ أميرَ المؤمنين عليه السلام إمامٌ بنحوٍ مطلقٍ، لا أنّه إمامٌ مقيّدٌ ومحدّدٌ بحدودٍ خاصّةٍ، فهو إمامٌ إلى ما لا نهاية، لا أنّه إمامٌ إلى درجةٍ ورتبةٍ مخصوصةٍ، وإذا لم يستطع أن يُوصل الإنسان إلى تلك المرتبة والمنزلة التي يتمتّع فيها بجميع المواهب الإلهيّة بشكلٍّ غير محدودٍ، وفي جميع المراتب والشؤون اللامتناهية للأسماء والصفات الإلهيّة، فلن يكون إمامًا لنا في تلك المرتبة، بل سوف تقتصر إمامته على المراتب السابقة فقط، وهذا يتنافى مع فرضيّة الإمامة اللامحدودة واللامحصورة، فعليّ عليه السلام إمامٌ حتّى الوصول إلى ذات الله وهو القائد حتّى الوصول إلى مرتبة التجرّد التامّ، وعليّ إمامٌ حتّى تلك المنزلة التي هو فيها؛ لأن إمامته إمامةٌ مطلقةٌ لا مقيّدةٌ، ولو كان عاجزًا عن أن يُوصِل الإنسان إلى تلك المرتبة من ظهور كافّة الأسماء والصفات الإلهيّة بمرآة المظهر، ولا يقدر على نقل ذات الإنسان من الوجود التعيّني والاستقلالي إلى الفناء والمحو التي هي عين الوجود الإطلاقي، فلن تكون ولايته ولايةً مطلقةً».
لا يعترضنّ أحدٌ ويدّعي أنّ عدم الوصول إلى مرتبة المعصومين عليهم السلام ليس بسبب الضعف والنقص في فاعليّة أصحاب الولاية المطلقة، بل إنّما هو ناشئ من قصور الاستعداد لدى الإنسان وعدم قابليّة البشر وقدرتهم على الوصول إلى تلك الذروة العالية، فإنّ الوصول إلى المراتب العالية مخصوصٌ بالذوات المقدّسة للمعصومين صلوات الله وسلامه عليهم فقط؛ لأنّه ليس هناك أيّ دليلٍ -لا عقليّ ولا نقليّ- يدل على صحة هذا المدّعى، فالله تعالى لم يجعل وجود المعصوم مغايرًا لحدود الوجود البشريّ والإنسانيّ، ولم يخلقه متمايزًا عنهم، فإن تلك الحقّيقة التي نشأت من
حقيقة ذات الباري تعالى باسم «الروح» وتعلّقت بجسم البشر المادّي الطبيعي وصارت مِصداقًا ل ﴿وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾۱، وتلبّست بخِلعة كرامةِ ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ﴾٢، هي بذاتها الحقيقة التي تتنزّل في صورة روح الأئمّة عليهم السلام ونفسِه على أجسامهم وقوالبهم، غاية الأمر أنّ الإمام عليه السلام -من خلال المراقبة والمجاهدة والإطاعة التامّة، والعبور من وادي الكثرة ورفض جميع التعيّنات غير الإلهيّة- يهيّئ لنفسه أسباب الوصول إلى الكمال المتوقّع والمترتّب على وجوده، فيصير بذلك المصداق الأتمّ للإنسان الكامل، بينما نصرف نحن الاستعدادات والقابليّات التي لدينا في إعمار الدنيا وإصلاح أمورها، والانغمار في الشهوات والانقياد للنفس الأمّارة، والتصدّي للرئاسات والكثرات، ومزاولة الأمور الباطلة وتحقيق الرغبات الشخصيّة، فنُضيّع بذلك رأسمالنا وإكسير الحياة فنجعله هباءً منثورًا تعصف به رياح البلايا والأحداث. لذا نرى الإمام يصل إلى مقصده بينما نحن نبقى في مكاننا، ويصير هو مظهرًا لجميع الأسماء والصفات الجماليّة والجلاليّة للّه تعالى بينما نبقى نحن نتخبّط في عالم البهيميّة والحيوانيّة والأنانيّة وطغيان النفس الأمّارة.
يتصوّر البعض أنّه هناك اختلافًا فيزيائيًا في أصل الخلق والإيجاد بين المعصومين عليهم السلام وبين سائر أفراد البشر؛ فمثلًا يتصوّرون أنّ كيفيّة خلقة أجسام هؤلاء وخلقة الجهاز الهضمي والمعدة والقلب والرئة والدماغ والعظام لديهم ينبغي أن تكون مختلفةً عما هو موجودٌ عند سائر الناس، وأنّه ينبغي أن يكونوا أجمل الناس وأقواهم، كما ينبغي أن يمتلكوا قدراتٍ ظاهريّةً غير موجودةٍ عند غيرهم، أو أن تكون قدرة الإمام على الرؤية أكثر بكثيرٍ منها عند الناس العاديّين أو أنّ سمعه أشدّ بحيث يمكنه أن يسمع الصوت من بُعد آلاف الفراسخ و ...، لكنّ جميع هذه المسائل تكشف عن الجهل وعدم العلم بمقام الإمام عليه السلام، فهؤلاء بسبب كونهم
موجودين في عالم الحسّ ومبتلين في الظاهر ومحبوسين في عالم الجزئيّة؛ يتصوّرون أنّ الإمام عليه السلام لابدّ أن يظهر بنفس رتبة نظرهم و في نفس الأفق الذي يرون من خلاله الأمور وطبقًا لتفكيرهم، ويتخيّلون أنّ الروايات الواردة فيهم تعني أنّهم يتمايزون من الجهة الخَلقية عن سائر الناس، كما هو كلام الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول:
«نزّلونا عن الربوبيّة (وأعطونا حكم المخلوقين) وقولوا فينا ما شئتم (و ما يصل إليه مستوى فكركم من الصفات والملكات والأمور غير العاديّة والمسائل العجيبة والغريبة)»۱.
غافلين عن أنّ هذه الروايات لا علاقة لها بادّعائهم أبدًا، وأنّها في مقام إثبات عبوديّة الأئمّة وكونهم مخلوقين ومملوكين في قبال المقام العزيز والمنيع لربّ العزّة ومالك الرقاب وملك الملوك، في مقامٍ تأبى غيرة الحقّ تعالى عن الإجازة لغيره في الحضور والورود إليه، وحتّى رسوله العزيز لو أراد أن يُظهر ولو ذرّة من الوجود الاستقلالي في ذاك المقام، لأصابته صاعقة الغيرة لتحرق أساس وجوده ملقيةً إيّاه في وادي الدمار والهلاك؛ لذا نرى هؤلاء العظماء يفتخرون بترنّمهم بهذا الذكر: «إلهي
كفى لي عزّاً أن أكون لك عبدًا، وكفى بي فخرًا أن تكون لي ربًا، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب»۱. ويطلبون دائماً من الله تعالى أن يغمرهم بحقيقة العبوديّة.
قام أحد التلامذة السلوكيّين للمرحوم الوالد -رضوان الله عليه- بالإتيان بأحد الأشخاص المعروفين والمشهورين بتوسّلاته وبإقامة مجالس العزاء والتوسّل بالأئمّة المعصومين عليهم السلام لزيارة المرحوم الوالد. وكان ذلك الشخص رجلًا كبيرًا عاميًّا جاهلًا، وكان يعتبر أنّ تمام الكمال والوصول إلى منتهى السعادة هو في إقامة مجالس التوسّل ومجالس العزاء وإحياء ليالي الجمعة بالدعاء والبكاء واللطم والإطعام وقراءة الأشعار، وكان يجمّع الأشخاص حوله ويشغلهم بسذاجةٍ بهذه الأمور، وكان كسائر الأشخاص الآخرين يعقد مجلس عزاءٍ فور طروّ أيّ بلاء من أجل رفع ذلك البلاء، فكان يتوسّل إلى ذاك الإمام لرفع هذه المشكلة والابتلاء، والحاصل أنّه كان يتخيّل أن شخصيّة الإمام عليه السلام وقدرته منحصرةٌ في رفع الابتلاء وحلّ المشاكل.
وفي أثناء كلامه قال هذا الرجل الجاهل للمرحوم الوالد:
«إنّ الإمام المعصوم عليه السلام لا يُحدِث أصلًا، كما أنّ بوله طاهرٌ، وكذلك بقيّة الأمور التي توجب الوضوء والغسل لسائر الناس ليست موجودةً فيه ولا تصدر منه، وإنّما كان وضوؤه وغسله لأجلنا فقط، وإلّا فهو لا يحتاج لهذه الأمور أصلًا».
فقال المرحوم الوالد:
«من أين جئت بمثل هذا الكلام الفارغ الباطل؟ من قال لك أنّ الإمام لا يُجنب وليس بحاجةٍ إلى غسلٍ، أو أنّه لا يُحدث ولا يحتاج إلى وضوء؟ فهل
الغسل والوضوء الذي كان يقوم به الإمام في بيته في جوف الليل، كان أيضًا لأجلنا ولكي يرينا فعله؟ نعوذ بالله من جهل العوامّ وعدم فهمهم!».
إنّ حقيقة الإمام عليه السلام أعلى من مدركاتنا وعقولنا الناقصة؛ لأنّ نفسه انتقلت من مرتبة الحسّ وإدراك الجزئيّات وصعدت إلى مرتبة التجرّد التامّ، ووصلت في ارتقائها إلى رتبة المُدركات الكلّية والعقلانيّة المحضة. بلى، إنّ الحقّيقة المتحقّقة في الوجود المبارك لأئمّة الهدى عليهم السلام هي أنّ نفس وجودهم والسعة التي يمتلكونها لقبول تجليّات الحقّ تعالى أكثرُ منها عند سائر الأفراد، ولهم حكم العلّة والسبب في نزول الفيض إلى عالم الكون، و نفوسهم المباركة مجرى مشيئة الحقّ وإرادته على سائر المخلوقات في عالم الوجود، ولا شكّ في هذه المسألة أبدًا والروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام تحكي صدق هذه الدعوى۱.
فإذا كان سلمان قد وصل إلى مقام السرّ والخلوة وصار «مِنّا أهل البيت»٢، فذلك قد كان بسبب مساعدة رسول الله، وإذا كان الشيعة وموالو الأئمّة قد وصلوا إلى مقام معيّن فإنّما كان ذلك بسبب مساعدة الأئمّة وتولّيهم، كما هو الحال بالنسبة إلى
العارف الجليل ابن الفارض المصري، حيث قال المرحوم القاضي رضوان الله عليه عنه:
«من المحال أن يصل شخص إلى المنزل المقصود والحرم الإلهي دون انكشاف حقيقة ولاية الأئمّة عليهم السلام له، و بدون مساعدتهم إياه في الوصول».
بل نفس هذا العارف الكبير يشير إلى هذه المسألة في أشعاره، حيث يقول:
ذهبَ العمر ضياعًا وانقضى | *** | باطلًا إذ لم أفزْ منكم بِشَيْ |
غير ما أوليتُ من عقدي وِلا | *** | عترة المبعوث حقًا من قُصَيْ۱ |
[يقول: لقد أضعتُ عمري بالبطالة والضياع، وما بقي لي منها إلّا ما عقدته في قلبي من ولاية أهل بيت النبيّ والتعلّق بهم، هذا هو الذي بقي لي وهذا هو الذي أنجاني فقط].
والحاصل أنّ الكلام هو في مقام وبيان منزلة الإنسان الكامل والعارف بالله، وقد ذكرنا كيف عرّف المرحوم الوالد -رضوان الله عليه- أستاذَه بهذه التعابير وكيف وصفه.
أذكر عندما كنتُ في سنّ الطفولة، أنّه بعد عودة المرحوم الوالد من السفر إلى العتبات والزيارة واللقاء بالسيد الحدّاد، أتى إلى منزلنا أحد أصدقائه القدماء لزيارته، فقام المرحوم الوالد رضوان الله عليه بالتحدّث عن أحداث السفر والقضايا التي جرت معه، ومن جملة كلامه معه ذكر له مسألةً عجيبةً وعلامات التغيّر باديةٌ على ملامحه، قال:
«عندما كنّا في هذا السفر بخدمة السيّد الحدّاد، في أحد الأيام رأيت منه شيئًا عجيبًا جدًا وغريبًا، وقد نقلت شيئًا قليلًا منه للحاج غلام حسين
السبزواري (وهو من أقدم التلامذة السلوكيّين للعارف الكامل والعالم العامل المرحوم آية الله الأنصاري الهمداني قدس الله سره، و قد انتقل إلى رحمة الله) فبقيَ مبهوتًا ومُتحيّرًا من هذا الكلام لمدّة أسبوع (لأنّه في الوقت الذي كان الوالد متشرفًا بزيارة العتبات كان المرحوم السبزواري هناك أيضًا) وكان يقول لنفسه: لقد بقينا كلّ هذه المدّة في خدمة الشيخ الأنصاري فما الذي حصل لنا؟ وكيف لم نصل إلى هذه المسائل؟! ولم نسمع بهذه الأمور ولم نواجهها؟! فقلت له: كلّا ليست المسألة كذلك، إذ لعلّ تلك الزحمات والمشاقّ التي تحمّلها المرحوم الأنصاري والتربية والإرشاد التي كان يقوم بها إنّما كانت مقدّمةً للوصول إلى محضر هذا الرجل و للتهيّؤ وتحصيل الاستعداد والقابليّة لإدراك محضر هذا الولي الإلهيّ، والآن أتاح الله لنا هذه النعمة ودعانا إلى هذه المائدة التي جعل فيها إنعامه وكرمه، فيجب أن تتجاوز حالة التأسّف والتحسّر على عدم نيلك المراتب المتوقّعة، وأن تعرف قدر هذا اللطف والفيض الإلهي، ويجب أن تكون شاكرًا على هذه الكرامة، وأن تستفيد الاستفادة القصوى من خلال الانقياد لأوامره والإطاعة التامة لدستوراته».
هل تعلم متى قال المرحوم الوالد هذا الكلام؟ لقد تشرف مدّة سبع سنوات بتحصيل العلوم الإلهيّة في قمّ، على يد الأستاذ العارف وعالم الدهر العلّامة الطباطبائي رضوان الله عليه، بالإضافة لتحصيله لعلوم ومعارف الشريعة من الفلسفة والتفسير والفقه والحديث، واشتغاله في هذه المدّة بتربية نفسه والمراقبة والعمل بالبرامج السلوكيّة والاشتغال بالأوراد والأذكار، وبعد هجرته إلى النجف استفاد أيضًا في تهذيبه لنفسه وتزكيتها لمدة سبع سنين من محضر العظماء أمثال المرحوم الشيخ عباس هاتف القوچاني وآية الله السيّد جمال الدين الموسوي الگلپايگاني والمرحوم آية الله الحاج الشيخ محمّد جواد الأنصاري الهمداني، ثمّ انتقل إلى حوزة تربية وتهذيب
العارف الكامل الحاج السيّد هاشم الموسوي الحدّاد رضوان الله عليه، وبقي ينهل من تعاليمه لمدّة اثني عشر سنة، بحيث لو حسبنا مجموع هذه المدّة لوصلت إلى أكثر من ستّة وعشرين سنة، ثمّ هذا بالنسبة إلى مثل هذا التلميذ العالم الذي كان مشهورًا ومعروفًا لدى القاصي والداني في دقّة فهمه وحدّة ذكائه وإحاطته بالعلوم العقليّة والنقليّة، يعني أنه بعد مدّة ستّة وعشرين سنة لم يكن بعد قد وصل إلى الإحاطة بشأن أستاذه المرحوم السيّد الحدّاد ومعرفة منزلته ومرتبته، والله يعلم في أيّ زمان انكشفت له حقيقة هذا الأستاذ العظيم. وهنا يتّضح جليّاً المراد بكلام الصدق ودعوى الحقّ التي ذكرها الإمام الهادي عليه السلام في بيان منزلة المؤمن الواقعي، ويُدرك الإنسان كذلك أنّ هذه المسائل ليست بعيدةً جدًا عن الواقع وليست مستغربةً أو مبالغاً فيها، بل إنّ الإمام عليه السلام قد بيّن بما ذكره من كلام حول منزلة المؤمن الواقعي عينَ الواقع وحقيقة الأمر.
كلّ هذا والحال أنّه قال:
«إنّي لم أنقل للمرحوم السبزواري كلّ ما كنت قد شاهدته من السيّد الحدّاد، بل كان ذلك شيئًا قليلًا من كثيرٍ كثيرٍ، ومع ذلك لم يكن لديه القدرة على تحمّل هذا المقدار القليل!».
لقد ذكر المرحوم الوالد في الجزء الأول من كتاب «معرفة الله» كلامًا حول كيفيّة فناء السالك في اسم «هو»، واندكاك ذاته في ذات الحضرة الأحديّة، ورفض جميع ذرات الوجود وشؤونه، حيث يقول:
«وخلاصة الكلام في هذا المقام أنّه ما دام في الإنسان ذرّة من الأنانية فلن يُسمح له بالعروج إلى منسك العدم والفناء المطلقين المتزامنين مع الوجود المطلق، فذلك مقام خاصّ بذات الله عزّ وجلّ ووجوده، والله سبحانه غيور، ولازم الغيرة نهر كلّ من استقرت في قراره ذرّة من بقايا شخصيته وأنانيّته.
تا بود يك ذرّه باقى از وجود | *** | كى شود صاف از كدر جام شهود |
[يقول: ما دام في الإنسان ذرة من الوجود، فهيهات أن يحصل على صافي كأس الشهود]
فالمسألة جدّ محيّرة، إذ يتحتّم هجر كلّ ما سوى الله تعالى للوصول إليه، فكلّ ما سوى الله حجاب وسراب، وما دام ذلك الحجاب باقيًا فلا سبيل إلى الحصول على المعرفة التامّة. وما اكتسب من المعرفة إن هي إلّا معرفة جزئيّة وناقصة، إنّ المعرفة الحاصلة من مشاهدة خلق الله تعالى من جبال وأحجار وصحار وقفار، والتعرّف على حيوانات البرّ والبحار وما إلى ذلك، إنّما هي معارف جزئيّة وليست كليّة، والمهم في هذه المسألة هو المعرفة الكليّة، ولا سبيل للوصول إليها إلّا باجتياز سبيلٍ خطيرٍ وعظيمٍ»۱.
نعم إنّ أهم خاصّية يتميّز بها العارف الكامل والسالك الواصل هي أن نفسه محكومةٌ بالفناء والاضمحلال نهائيّاً وصارت دياره معدومة وبائرة، وذلك حتّى يتمكّن من العثور على الطريق الموصل إلى الوجود المطلق، ويصير وجوده عين الوجود المطلق، من هنا يقول الإمام عليه السلام: إن هذا المؤمن مثل الله تعالى ليس قابلًا للوصف والتعريف، إذ متى يمكن للعقل الناقص والفهم البشري البسيط أن يطّلع على كُنه الوجود المطلق وحقيقته ويدركه بواسطة سعته المحدودة وظرفيته القاصرة! يقول المرحوم الحاج هادي السبزواري في بحث تعريف الوجود ومعرفته:
مفهومه من أعرف الأشياء | *** | وكُنهه في غاية الخفاء٢ |
[أي: إنّ المفهوم الظاهري للوجود المطلق يعرفه كلّ الناس، أمّا الوصول إلى حقيقته وكُنهه، فليس مستطاعًا للجميع].
ومن المناسب هنا التذكير بهذا الأمر المهمّ وهو أنّ وجود جميع الموجودات وجودٌ ظليٌّ وتنزليٌّ لوجود ذات الحقّ تعالى في مراتب التعيّنات، ولازم الوجود الظلي والتبعي والتنزلي هو فناء الذات وانمحائها في ذات ذي الظلّ ووجودِه وفي الأصيل والحقيقي، وهذا الفناء فناء تكويني حقيقي لا اعتباري وتنزيلي ومجازي، إلّا أنّه رغم ذلك كلّه، فإنّ انكشاف هذه المسألة وهذه الحقّيقة ليس متاحًا للجميع؛ والسبب في ذلك هو أنّ الوجود لمّا كان مساوقًا للتشخّص والعينيّة الخارجيّة والاستقلال الهوهويّ -سواءً كان وجودًا مجرّدًا أو طبيعيّا- و كان هذا التمايز العينيّ والخارجيّ متحقّقًا في جميع المراتب التشكيكيّة للوجود؛ فإنّ كلّ موجودٍ يرى نفسه وذاته منفصلةً عن سائر الذوات الأخرى، ويرى أنّ التعيّنات الأخرى قائمةً بذاتها، ويرى أنّ ذاته ونفسه هي محور آثاره وشؤوناته، وأنّ نفسه متفرّدة في الوجود والموجوديّة، غافلًا عن أنّ وجوده هذا هو وجود ظليّ وتبعيّ، وكلّ موجود بالوجود الظليّ فهو محكوم عليه بالإمكان الذاتي في ذاته وفي حقيقته وفي تكوّنه الخارجي، والوجود الوحيد المستثنى من هذه القاعدة والمحكوم عليه بالغنى الذاتي والضروري لذاته هو وجود الله سبحانه وتعالى لا غير!
وبناءً على هذا الأصل، فجميع الأشياء في وجودها متدليّة من وجود الله سبحانه وقائمة بذاته، و مع فرض عدم هذا التدلّي والقيام، فلا يبقى لها إلّا العدم والاضمحلال واللاوجود، وهذا هو معنى الفناء الذاتي للممكنات في ذات الحقّ تعالى فناءً تكوينيًّا حقيقةً وواقعًا. وهذا المعنى هو الذي بيّنه أعاظم العرفاء الإلهيّين الشامخين من أولياء الحقّ في كتبهم وفي كلماتهم وذكروه في عباراتهم المختلفة، مثل العبارات التي ذكرها العارف العظيم محيي الدين بن عربي في كتبه، وسردها مولانا شمس المغربي في ديوانه، وغيرهم أيضًا، خصوصًا تلك المباحث العالية التي جرت بين العارف الكبير والعالم بالله وبأمر الله آية الله العظمى المرحوم السيّد أحمد الكربلائي وبين سند الفلاسفة المرحوم الحاج الشيخ محمّد حسين الغروي الأصفهاني.
ففي هذه المباحث كان المرحوم السيّد أحمد الكربلائي -بناءً على مسلك العرفاء الإلهيين وشهودهم- في صدد إثبات الاندكاك الحقيقي والفناء الذاتي للأسماء الجزئيّة في الاسم الكلي، وبالتالي الفناء في ذات الحقّ تعالى، إلّا أنّ المرحوم الشيخ محمّد حسين -مع أنّه يُعتبر من أعاظم الحكماء والفلاسفة الإسلاميّين- بقي عاجزًا عن إدراك كلام ومقصود المرحوم السيّد أحمد وفهم الإشارات التي كان يذكرها، ولم يستطع أن يصل إلى حقيقة المطلب ومغزى كلام السيّد أحمد، وانتهت هذه المباحثات دون الوصول إلى نتيجة، لكن الظاهر أنّه في أواخر عمره -كما يبدو من بعض أشعاره في كتابه المنظوم «تحفة الحكيم»- اعترف بحقّانية هذه المدرسة، والتزم بمسألة الوحدة الحقيقيّة بين ذاتين في صورة رفع الاثنينيّة والأنانيّة من البين، ففي الصفحة ٤۰ من هذا الكتاب يُشير إلى كيفيّة معنى الاتحاد والهوهويّة والحقّيقة بقوله:
صيرورة الذاتين ذاتًا واحدةً | *** | خلفٌ محالٌ والعقولُ شاهدة |
وليس الاتصالُ بالمفارق | *** | من المُحال بل بمعنىً لائق |
كذلك الفناءُ في المبدأ لا | *** | يُعنى به المُحال عند العقلا |
إذ المحال وحدةُ الاثنين | *** | لا رفع إنّيته في البَين |
يقول:
۱- إنّ تبدّل ذاتين وشخصيّتين مستقلتين إلى ذاتٍ واحدةٍ وشخصيّةٍ واحدةٍ أمرٌ مستحيلٌ والأدلّة العقليّة تدلّ على ذلك.
٢- وأمّا اتّصال ذاتٍ وهويّةٍ عينيّةٍ خارجيّةٍ وانداكها في المجرّدات والمُفارِقات العقليّة والنوريّة فليس محالًا فيما إذا وضّحنا كيفيّة الاتصال بمعنىً مناسبٍ (وهو الاتّصال بمعنى محو شخصيّة أحد هذين الموجودَين وفنائه في شخصيّة الآخر، مثل اتصال الملح بالماء واتحاد الملح والسكر بالسائل، لا أن الاتصال بمعنى التقرّب والوصول المكاني والكمّي الذي يتحقّق مع المحافظة على شخصيّة كِلا الوجودين وهويّته وماهيّته، ولو كان هذا الاستقلال قليلًا، إذ في هذه الحالة لن يحصل اتحادٌ ووحدةٌ).
٣- وكذلك الأمر في فناء ذوات الأشياء المُمكنة والمخلوقة في ذات الحقّ تعالى، فإنّها بالكيفيّة التي ذكرناها وبيّناها بالمعنى الصحيح، لا يستشكلّ بها العقلاء.
٤- لأنّ المحال والممتنع هو حصول اتحادٍ وعينيّةٍ حقيقيّةٍ وخارجيّةٍ بين شيئين مختلفين مع المحافظة على الاثنينيّة بينهما والإبقاء على كونهما شخصيّتين مستقلتين، لكن إذا ارتفعت الشيئيّة والحدود الماهويّة المشخّصة بينهما، فلن يبقى حينئذٍ إلّا وجودهما وموجوديّتهما فقط، والوجود لا منافاة له مع صِرف الوجود وبسيط الحقّيقة والوجود بالصرافة، (و بهذه الكيفيّة تنحلّ مسألة الفناء الذاتي للموجودات في ذات حضرة الحقّ تعالى).
وحقيقة المسألة واقعًا، هي ما بيّنه في أشعاره.
في أحد الأيّام تشرّف المرحوم السيّد الحدّاد والمرحوم الوالد -قدّس الله سرّيهما- بالذهاب إلى سامرّاء لزيارة الحرم المطهر للعسكريّين عليهما السلام، وبعد إتمام أعمال الزيارة والصلاة والدعاء التفت المرحوم السيّد الحدّاد إلى المرحوم الوالد وقال:
«ما هذه المسألة غير القابلة للفهم التي أصابت الجميع حتّى باتوا يريدون أن يفصلوا الله عن خلقه، ويجعلوا كلًّا في حدودٍ خاصّةٍ وقيودٍ محدّدةٍ، ويحصرونه في حدود حرمه الخاصّ، ولا يسمحون له أن يبسط حضوره ووجوده لجميع الخلائق والموجودات، وأن يُغرق الجميع في بحر وجوده العِلّي والإشرافي ويجعلهم مستهلكين في ذاته؟! انظر إلى هذه التربة التي نسجد عليها، إذا نظرنا إلى هذا الحد والرسم فقد فصلناه عن الله تعالى ومنحناه عنوان التربة وجعلنا له هذه الخصوصيّات والمميّزات بعنوان كونها جوانب مشخّصة ومميّزة لهذا الشيء، فإذا سلبنا عنه هذا العنوان ورفعنا الحدود منه ونظرنا إلى أصل وجوده ومن أين حصل هذا الوجود وبأيّ وسيلةٍ صار موجودًا وما هو أصله، وباختصار: إذا غيّرنا نظرنا إليه، وعطفنا نظرنا عن جنبته الخَلْقيّة ونظرنا إلى جهته وجنبته الأمريّة، وهي جنبة إضافته ونسبته إلى المبدأ، فسوف يُعلم أنّ هذا الشيء ليس سوى
هو، لأنّه تعالى لا قيدَ له ونحن سلبنا القيد عن هذه التربة، إذن فقد صارت هذه التربة بدون قيد وبدون حدّ. وهذا هو معنى سريان حقيقة ونور الوجود في جميع عوالم الأسماء والصفات الجزئية».
يتّضح من المسائل الماضية أنّ مسألة فناء الذوات الممكنة في ذات الحقّ تعالى ومحو إنّيتها وماهويّتها في الوجود القاهر والغالب للّه تعالى هي مسألة طبيعيّة وتكوينيّة ولا ارتباط لها في إدراكنا أو عدم إدراكنا:
«كان الله ولم يكن معه شيء والآن كما كان»۱.
وَ لَمْ يَزَلْ سَيِّدِي بِالحَمْدِ مَعْرُوفاً | *** | وَ لَمْ يَزَلْ سَيِّدِي بِالجُودِ مَوْصُوفاً |
وأمّا المسألة المهمّة فتكمن في كيفيّة معرفة هذه المسألة كما هي، وإدراكها بشكلها الواقعيّ والاطّلاع على حقيقة الأمر فيها، وهذا الأمر لن يحصل إلّا من خلال الشهود وكشف الحجاب عن جمال حضرة الحقّ تعالى بواسطة تجلّيه وبفضلٍ وعنايةٍ من نفس الله تعالى، فإنّه بواسطة هذا التجلّي ينكشف نقاب الكثرة دفعةً واحدةً عن وجه النفس، ويحترق الوجود المجازي للسالك كليّاً ويضمحلّ بواسطة صاعقة الغيرة ونار الجذبات القاهرة الجلاليّة للّه تعالى.
۱. روى بنما و وجود خودم از ياد ببر | *** | خرمن سوختگان را همه گو باد ببر |
٢. ما چو داديم دل و ديده به طوفان بلا | *** | گو بيا سيل غم و خانه ز بنياد ببر |
٣. سينه گو شعله آتشكده فارس بكش | *** | ديده گو آب رخ دجله بغداد ببر |
٤. دولت پير مغان باد كه باقى سهل است | *** | ديگرى گو برو و نام من از ياد ببر |
٥. زلف چون عنبر خامَش كه ببويد هيهات | *** | اى دل خام، طمعِ اين سخن از ياد ببر |
٦. سعىْ نابرده در اين راه به جايى نرسى | *** | مزد اگر مىطلبى طاعت استاد ببر |
۷. روز مرگم نفسى وعده ديدار بده | *** | وانگهم تا به لحد فارغ و آزاد ببر |
۸. دوش مىگفت به مژگان درازت بكشم | *** | يا رب از خاطرش انديشه بيداد ببر |
٩. حافظ انديشه كن از نازكىِ خاطر يار | *** | رو از درگهش اين ناله و فرياد ببر۱ |
وبناءً عليه فليس هناك أيّ فرقٍ بين العارف وغير العارف من الجهة الثبوتيّة لفناء الأشياء في ذات الله تعالى، وبلحاظ الحيثيّة التكوينيّة لكلّ عالم الوجود سوى اللَه،
فليس لها وجود مقابل وجود حضرة الحقّ، ولا يكمن فيها أيّ ذرة من الاستقلال والإنّية، وهي دائماً في حالة فقرٍ محضٍ واحتياجٍ صرفٍ واتّكاءٍ دائمٍ، والحقّيقة الوحيدة والذات الفريدة التي يكون الوجود فيها مستقلًا وبشكلٍّ مطلقٍ هو ذات الحقّ تعالى فقط!
ولكن الكلام في مقام الإثبات وانكشاف هذا المطلب للإنسان، فبما أنّ الناس العاديّين -الأعمّ من الجاهل والعالم والفقيه والفيلسوف- يشعرون في ذاتهم أنّ وجودهم مستقلّ ولديهم إنيّة وهويّة مستقلّة، فإنّهم حتّى لو كانوا يطلقون ألفاظًا وعباراتٍ فصيحةً تبيّن الجهة الأولى والجنبة الثبوتيّة المشار إليها -إلّا أنّ ذلك كلّه لا يتعدّى كونها تخيّلات وتصوّرات، ولا طريق لهم إلى الانكشاف الحقّيقي والباطني الذي يجعل حقيقة المطلب ولبّه محسوسًا في داخلهم (كإحساس الإنسان بوجود نفسه وآثارها وشعوره بملكاته الخاصّة). فهؤلاء بمجرّد خطور بعض التصوّرات في أنفسهم دون تحقّق ملكة اليقين والشهود المستمرّ لديهم، يقبلونها ويشغلون أنفسهم بهذه العبارات ويزيّنون مجالسهم بها، فيتصوّر العوامّ الذين هم كالأنعام، بأنّ هؤلاء الأشخاص قد وصلوا إلى مرتبة الشهود، ووصلوا إلى مرتبة عين اليقين فهاموا به تعالى وولهوا، غافلين عن أنّ بين هؤلاء وبين هذه المرتبة كما بين الأرض والمجرّات!
وأما العارف الواقعي فهو يُدرك هذه المسألة في مقام الإثبات والانكشاف ويجدها بالشهود والإحساس ويلمسها لمس اليد في جميع ذرّات وجوده.
إذن فمسألة الفرق بين العارف وغير العارف إنّما هي في مقام الإثبات والمعرفة لا في مقام الثبوت والواقع، لأنّ العارف بعد وصوله إلى مرتبة الفناء والبقاء يحكي عن ما هو واقع وعن نفس الأمر والحقّائق التوحيديّة، وحقيقة التوحيد لا تتبدّل ولا تتغيّر سواءً وصل العارف إلى مرتبة الذات أم لم يصل، والذي يتغيّر هو كيفيّة حصول علمه وإدراكه، حيث إنّه من خلال التغيّر الأساسي، والتحوّل الجذري في وجوده ونفسه تنكشف له الحقّائق والوقائع، بينما يبقى الآخرون في حجابهم وظلمتهم.
لذا فإنّ جميع أعماله و أقواله ونواياه تتبدّل و تتغيّر لتصير أعمال الله وكلامه، وتتبدّل إرادته إلى الإرادة الإلهيّة؛ فيصير إنفاقه مختلفًا عن إنفاق الآخرين وحجّه متفاوتًا عن حجّ غيره، وصلاته تختلف اختلافًا ماهويّاً عن صلاة المحجوبين، كما أنّ حقيقة نور التوحيد ونورانيّة الفيض الإلهي تحيط بجميع شراشر وجوده؛ لذا لا يعود يقوم بأيّ عملٍ، بل الله هو الذي يعمل؛ لأن الاثنينيّة قد ارتفعت بينهما؛ فليس هو الذي يصلّي بل الله، وهكذا فالله هو الذي يحجّ وهو الذي يُنفق وهو الذي يجاهد وهو الذي يُبلّغ وهو الذي يحكم ويقضي.
من هنا يتّضح الفرق بين حكومة الإمام علي عليه السلام وبين حكومة غيره، أيّ أنّ المسألة خارجة كلّيًا عن تصوّرنا ومدركاتنا الجزئيّة، لا أنّنا نقايس أوّلًا بين عليٍّ وغيره ثمّ نرجّح عليًّا على غيره، فهذا ليس بالأمر المهم، إذ من المعلوم جيّدًا أنّ عليًّا مرجّحٌ على غيره حتّى من الناحية الظاهريّة ومقدّمٌ على الجميع في كافّة الأمور، فأيّ إنسانٍ -مع غضّ النظر عن انتمائه الديني والمذهبي ومن أيّ قومٍ كان- يشاهد أعمال عليّ عن كثب ويراجع كلامه، سيحكم فورًا أنّه مقدّم ومرجّح على غيره، بل على الخلق أجمعين.
بل المسألة المهمّة هي أنّ عليًّا قد تخلّى عن إنّيته وأصبح وجوده وجود الحقّ تعالى، فهو يتحدّث كالبشر العاديين، لكنّ كلامه ليس كلامُ بشرٍ، كما أنّه يعمل لكن عمله ليس كعمل شخصٍ عاديٍّ، وهو يحارب لكن لا كمحاربتنا وجهادنا، فهو في الحرب يفكّر في غير ما نفكّر به نحن، ولديه مقاصد غير ما نقصده نحن، فعندما يكون في حربٍ مع الكفار فإنّه ينظر إليهم -في نفس الوقت الذي يحاربهم فيه- كما ينظر إلى أصحابه الخاصّين ومواليه المخلصين. عند عليّ، لا معنى للحبّ والبغض الشخصيّ كي يقوم على أساس ذلك باختراع حوادث خاصّة، ويجعل الأمّة جميعها فداءً لأهوائه وميوله النفسانيّة وهوسه الشيطانيّ، حتّى لو كان لونها وظهور لونها إلهيًّا، وتحمل في الظاهر ظاهرًا إلهيّاً.
فالإمام علي عليه السلام خارجٌ عن دائرة مقاييس البشر وأفكارهم، إذ كيف لنا أن نقايسه بالآخرين، فإنّ هذه المقايسة تعتبر من أساسها بطلانًا محضًا ومجرّد عملٍ
فارغٍ وخيالًا باطلًا لا طائل منه. عليٌّ فردٌ ليس له ثانٍ، وسيبقى فردًا إلى يوم القيامة، وهذه الفرديّة ليست من عوارضه الخارجيّة بل هي من لوازمه الذاتيّة.
ففرديّته مثل فرديّة الحقّ تعالى، فالله سبحانه فرد بفردانيّة الأحديّة لا أنّه فرد بفردانيّة الواحديّة (بمعنى أنّه لا شريك له ولا مثل في الجنس)، بل إنّ حقيقته لا نوع لها أصلًا، وتشخّصه عين ماهيّته، ووجوده عين إنّيته. ولذا لا يمكن القول إنّ فعل الله أفضل من فعل البشر، أو أنّ إرادته أتقن وأمتن من إرادة البشر؛ لأنّ المقايسة يجب أن تكون بين شيئين فيهما جهات مشتركة، وتكون المقايسة منصبّةً على التفاضل في هذا الشيء المشترك، ولا تكون المفاضلة والمقايسة في جهات الاختلاف والافتراق بينهما.
فإذا قلنا أن العصير أفضل من الماء، فهذا يصح بملاحظة كون العصير فيه تلك الجهة من الاشتراك والاتفاق الموجودة في الماء وهي كونه ماءً مضافًا إلى وجود شيء آخر فيه وهو الحلاوة. وكذا إذا قلنا إن العالم الفلاني أعلم وأرجح من ذاك العالم الآخر، فذلك بسبب أن جهة المقارنة والتشابه -التي هي العِلم- موجودة في كلٍّ منهما إلّا أنّها في أحدهما أقوى وأشدّ منها في الآخر، أمّا قولنا: إنّ الماء أفضل من الحجر والخشب، فهذه المقارنة باطلة من أساسها، لأنّه لا يوجد أيّ وجه اشتراك بين هذين الشيئين إلّا في بعض موارد الاستعمال الاعتباريّة، وكذلك إذا قلنا: إنّ هذا الفقيه المجتهد أفضل من هذا الطفل الرضيع أو أفضل من هذا الطفل ذي الثلاث سنوات، فهذه المقايسة باطلة من أساسها، إذ ما العلاقة بين مدركات ومشاعر طفلٍ عمره سنتين أو ثلاثة وبين حكيمٍ وفيلسوفٍ إلهيٍّ وفقيهٍ صمدانيٍّ ومجتهدٍ ربانيٍّ!
وبناءً على ذلك، فبما أنّ المقايسة بين ذات الباري تعالى في جهات رجحانه وبين الذوات الأخرى باطلةٌ من أساسها، وتعتبر لغوًا وعبثًا، فكذلك المقايسة بين عليّ وسائر البشر -مهما كانت طبقتهم وصنفهم ومرتبتهم- مقايسةٌ باطلةٌ عبثيةٌ، لأنّ ذات عليٍّ قد تحوّلت إلى ذات الله، ولا يعني هذا أن عليًا صار الله والعياذ بالله، بل بمعنى أنّ
الله ظهر وتجلّى في هذه الذات وجعلها متمايزةً عن سائر الذوات، فهو لم يعد لديه حيثيّة بشريّة وجهة إنسانيّة كي يقاس بالآخرين؛ إذن فصلاة عليّ لم تعد صلاةً بشريةً، ونكاحه ليس كنكاح إنسان عادي، كما أنّ معاملاته ليست قائمةً على أساس المعاملات المتعارفة وليست خاضعة للمعايير العاديّة، وإنفاقه يختلف عن إنفاقنا، وكذلك الحال في جميع أعماله وأفعاله وتصرّفاته فهي خارجة عن دائرة الأعمال البشريّة.
أذكر أنّه عندما كنت طفلًا في زمن الشاه، كان المرحوم الوالد قدس الله نفسه يُقيم في منزله في طهران مجالسَ في ذكر آل محمّد صلوات الله وسلامه عليهم بمناسبة ولادات الأئمّة ووفيّاتهم في صباح هذه المناسبات. وفي يوم الثالث عشر من رجب وبعد انتهاء المجلس، سأله أحد الحاضرين عمّا ذكره الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بحق عليّ عليه السلام في يوم الخندق عندما قال:
«ضَرْبَةُ عَليٍّ يَومَ الخَندقِ أفضَلُ مِن عِبَادةِ الثَقلِين»۱
وأنّه هل قال النبيّ ذلك للسبب الذي يتناقله الجميع: «أنّه باعتبار أنّ جميع الكفر في ذلك الوقت كان قد وقف أمام جميع الإسلام، ولم يكن في ذاك اليوم أحدٌ من أصحاب رسول الله مستعدًا لمواجهة عمرو بن عبد ودّ -ذاك الشجاع الغريب والبطل العجيب- الذي كان قائدًا لجيش الكفر يومئذٍ، ولو لم يقم عليّ أمير المؤمنين عليه السلام في ذاك اليوم ولم يواجه عمرًا، لم يكن ليبقى من الإسلام أثر، بل كان الإسلام قد انمحى وانعدم من الوجود بشكلّ كلّي» هل السبب ذلك أم أنّ لكلام الرسول معنىً آخر؟
فقال له في معرض تأييد هذا المعنى:
«لا شكّ أنّ المسألة أعلى من هذا المعنى وأعمق من هذا الفهم وأدقّ من هذه النظرة، فهذه المسألة وإن كانت صحيحة أيضًا، وواقع الحال أنّه في ذلك اليوم لم يكن لدى أحدٍ الجرأة على منازلة هذا الرجل الذي وقف وحيدًا أمام ألف رجلٍ من المسلمين وطلب منهم المنازلة إلّا أنّهم انهزموا جميعًا أمامه، وقد كان مشركوا مكّة قد انتخبوه للقيام بهذه الحرب المصيريّة.
لكن الكلام في أنّ أمير المؤمنين عليه السلام في تلك اللحظة كان في وضعٍ، بحيث لم يكن عليٌ علياً .. لم يكن بشرًا ولم يكن إنسانًا، فقد كان موجودًا في هالة من الجذبات الإلهيّة، بحيث أنّ فكره وإرادته وعلمه واختياره كان فانياً في عمل واختيار وإرادة الحقّ تعالى؛ فرغم أنّه في الظاهر كان علي هو الذي يضرب بالسيف، لكن الواقع أن الله تعالى هو الذي يضرب، وعلي وإن كان يرجز ويقرأ الشعر لكن ذاك كان هو الناطق والمتحدّث؛ يظهر نفسه من لسان بشري، و من هنا يتبيّن أنّه ليس فقط ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الإنس والجن، بل إنّ نومه أفضل من عبادة الإنس والجن، وحركته أفضل من عبادة الإنس والجن، وتنفّسه أفضل من عبادة الإنس والجن، وضحكه و ...
لكن بما أن رسول الله لا يمكنه أن يبيّن هذا الأمر للناس، ينقل هذه الحقّيقة بطريقة يفهمها الناس ويقبلها الجميع ويعترفون بها ويقرّون بأن المطلب كذلك: لو أنّ علياً لم يقم بهذا العمل، لما كان هناك أثر للإسلام»
رحم الله مولانا جلال الدين محمّد البلخي الرومي، فقد تكلم بشكلّ جميل عن هذه الواقعة ووصفها وبيّنها جيدًا، وإن كان هو بدوره إنّما رفع النقاب عن أسرار هذه الأعجوبة والمرآة التامّة لجمال الله وجلاله بمقدار سعته وظرفيته الخاصّة، نعم:
آب دريا را اگر نتوان كشيد | *** | هم بقدر تشنگي بايد چشيد۱ |
[يقول: إذا لم تقدر على الإحاطة بماء البحر كلّه، فاشرب منه بمقدار حاجتك].
يقول مولانا:
۱. از علي آموز اخلاص عمل | *** | شير حق را دان منزّه از دغل |
٢. در غزا بر پهلواني دست يافت | *** | زود شمشيري برآورد و شتافت |
٣. او خدو انداخت بر روي علي | *** | افتخار هر نبيّ و هر ولي |
٤. او خدو انداخت بر روئي كه ماه | *** | سجده آرد پيش او در سجدهگاه |
٥. در زمان انداخت شمشير آن علي | *** | كرد او اندر غزايش كاهلي |
٦. گشت حيران آن مبارز زين عمل | *** | وز نمودن عفو و رحمت بيمحل |
۷. گفت بر من تيغ تيز افراشتي | *** | از چه افكندي مرا بگذاشتي |
۸. آن چه ديدي بهتر از پيكار من | *** | تا شدستي سست در اشكار من |
٩. آن چه ديدي كه چنين خشمت نشست | *** | تا چنان برقي نمود و باز جست |
۱۰. آن چه ديدي كه مرا زآن عكس ديد | *** | در دل و جان شعلة آمد پديد |
۱۱. آن چه ديدي برتر از كون و مكان | *** | كه به از جان بود و بخشيديم جان |
۱٢. در شجاعت شير ربّانيستي | *** | در مروّت خود كه داند كيستي۱ |
۱٣. اي علي كه جمله عقل و ديدهاي | *** | شمّهاي واگو از آنچه ديدهاي |
۱٤. تيغ حلمت جان ما را چاك كرد | *** | آب علمت خاك ما را پاك كرد |
۱٥. بازگو دانم كه اين اسرار هوست | *** | زآنك بي شمشير كشتن كار اوست |
۱٦. صانع بي آلت و بي جارحه | *** | واهب اين هديهاي رابحه |
۱۷. صد هزاران روح بخشد هوش را | *** | كه خبر نبود دو چشم و گوش را |
۱۸. بازگو أيّ باز عرش خوش شكار | *** | تا چه ديدي اينزمان از كردگار |
۱٩. چشم تو ادراك غيب آموخته | *** | چشمهاي حاضران بردوخته |
٢۰. راز بگشا أيّ عليّ مرتضي | *** | اي پس از سوء القضا حسن القضا |
٢۱. چون تو بابي آن مدينة علم را | *** | چون شعاعي آفتاب حلم را |
٢٢. باز باش أيّ باب بر جوياي باب | *** | تا رسند از تو قشور اندر لباب |
٢٣. باز باش أيّ باب رحمت تا ابد | *** | بارگاه ما لَهُ كُفواً أحد |
٢٤. گفت من تيغ از پي حق ميزنم | *** | بندة حقّم نه مأمور تنم |
٢٥. شير حقّم نيستم شير هوي | *** | فعل من بر دين من باشد گوا۱ |
٢٦. ما رَميتَ إذ رميتم در حِراب | *** | من چو تيغم وآن زننده آفتاب |
٢۷. رخت خود را من ز ره برداشتم | *** | غير حق را من عدم انگاشتم |
٢۸. سايهام من كدخدايم آفتاب | *** | حاجبم من نيستم او را حجاب |
٢٩. من چو تيغم پرگهرهاي وصال | *** | زنده گردانم نه كشته در قتال |
٣۰. خون نپوشد گوهر تيغ مرا | *** | باد از جا كي برد ميغ مرا |
٣۱. باد خشم و باد شهوت باد آز | *** | برد او را كه نبود اهل نماز |
٣٢. كوهم و هستيّ من بنياد اوست | *** | ور شوم چون كاه بادم باد اوست |
٣٣. جز به باد او نجنبد ميل من | *** | نيست جز عشق أحد سرخيل من |
٣٤. غرق نورم گرچه سقفم شد خراب | *** | روضه گشتم گرچه هستم بوتراب |
٣٥. تا أحَبّ للّه آيد نام من | *** | تا كه أبغض للّه آيد كام من |
٣٦. تا كه أعطا للّه آيد جود من | *** | تا كه أمسِك للّه آيد بود من |
٣۷. بُخل من للّه عطا للّه و بس | *** | جمله للّهام نيم من آنِ كس |
٣۸. وآنچه للّه ميكنم تقليد نيست | *** | نيست تخييل و گمان جز ديد نيست۱ |
٣٩. ز اجتهاد و از تحرّي رستهام | *** | آستين بر دامن حق بستهام |
٤۰. گر همي پرّم همي بينم مطار | *** | ور همي گردم همي بينم مدار |
٤۱. ور كشم باري بدانم تا كجا | *** | ماهم و خورشيد پيشم پيشوا |
٤٢. بيش ازين با خلق گفتن روي نيست | *** | بحر را گنجاي اندر جوي نيست |
٤٣. پست ميگويم به اندازة عقول | *** | عيب نبود اين بود كار رسول۱ |
وبناءً عليه، فما نسمعه في بعض الأحيان من إطلاق اسم «عليّ» بعنوانٍ عامٍّ على بعض الأشخاص، أو إطلاق لقب «عليّ الزمان» و «حسين الزمان» وأمثال ذلك .. هذا كلّه خطأ واشتباه، إذ «عليّ» إنسانٌ وحيدٌ فريدٌ وليس هناك من يشبهه ولن يأتي أحدٌ مثله، وكذلك الحسين فهو فردٌ وحيدٌ لا يوجد له نظير، وإذا كان هناك من يشبه عليًا والحسين و يعدّ نظيرًا لهما فهو ابنهما المعصوم وحجّة الله على عالم الوجود الإمام الحجّة ابن الحسن العسكري أرواحنا لتراب مقدمه الفداء فقط لا غير. لأنّه عليه السلام يشترك مع آبائه في هذه النقطة المتميّزة والشاخصة التوحيديّة، بل إنّه متّحدٌ معهم فيها.
كما أنّنا نسمع من بعض الخطباء في خطبهم، أو من بعض الكتّاب في كتبهم عباراتٍ بهذا المضمون؛ حيث يقولون مثلًا: على الإنسان أن يتعرّف على يزيديِّي زمانه، وأن يشخّص حسينيِّي (جمع حسين) زمانه؛ فهذا كلّه غلطٌ في غلطٍ. نعم، مِن الممكن أن يكون في زمانٍ ما العديد من الأشخاص الذين يُمثلون يزيدًا، لكنّ هذا لا يبرّر أن يكون للحسين أيضًا مصاديق متعدّدة، فحسين الزمان واحدٌ فقط وهو الإمام المعصوم لذلك الزمان، لا أيّ شخصٍ آخر.
وكذلك ما يُقال مِن أنّ عاشوراء حادثةٌ متعدّدةٌ بعدد الحوادث المشابهة لعاشوراء الإمام الحسين الأصليّة، فهو غلط أيضًا؛ فعاشوراء كانت واحدةً فقط ولن تتكرّر، لأنّ قضيّة عاشوراء لم تكن مسألة ذاك اليوم الذي جرى فيه القتل والمواجهة بين الحقّ والظلم فقط، بل أهمّ الأمور في قضيّة عاشوراء وأكثرها حساسيّة هي مسألة إدارة سيّد الشهداء عليه السلام للمعركة، فالإدارة كانت بيد إمام معصوم عليه السلام، لا بواسطة إنسانٍ عاديٍّ، وسيّد الشهداء عليه السلام كان إمامًا قبل أن تحصل واقعة عاشوراء، كان إمامًا معصومًا، وهذا الإمام نفسه كان يداري حكومة معاوية بن أبي سفيان لعنة الله عليه مدّة عشر سنوات، ولم يخالف حكومة معاوية احترامًا منه لعقد الصلح الذي جرى بين أخيه الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية، والذي كان يقضي بإنفاذ حكومة معاوية.
وكذلك ما يقوله البعض من أنّ الخصوصيّة الروحيّة والنفسيّة التي كان يتمتّع بها سيّد الشهداء تقتضي محاربة حكومة الظلم والجور، وأمّا روح الإمام الحسن عليه السلام ونفسيّته وطبيعته تقتضي الصلح وخلق جوٍّ من المسالمة مع حكّام الجور .. فهو كلامٌ عارٍ عن الصحّة والحقيقة ويفتقد إلى أدنى مرتبةٍ من التحقيق.
لو كان سيد الشهداء عليه السلام مكان أخيه الأكبر الإمام المجتبى مع وجود تلك الظروف ومقتضيات ذلك العصر، لكان صالح معاوية قطعًا. ولو كان الإمام المجتبى عليه السلام مكان أخيه سيد الشهداء، لقام ثائرًا في وجه يزيد حتماً؛ وذلك لأنّ كلًا منهما كان إمامًا، وكلاهما كان معصومًا، وكلٌّ منهما يقوم بتنزيل المشيئة الإلهيّة و إجرائها، إلّا أنّ الفرق أنّ هذا كان في زمانه بشكلٍ، والآخر كان بشكلٍ آخر في الزمان الآخر.
وعليه، فقضية عاشوراء كانت متقوّمة بالقائم بها والمدير لها؛ وهو الإمام المعصوم عليه السلام، لا بأيّ شخصٍ عاديٍّ مهما كان هذا الشخص، والنكتة الدقيقة هي أنّ الحوادث التي وقعت في يوم عاشوراء والأحداث التي جرت في ذاك اليوم
والأيّام التي تلته، كانت -جميعها الواحدة تلو الأخرى- قد جرت بقيادة وهداية إمامٍ معصومٍ، ولو كانت إدارة ذلك اليوم بعهدة شخص آخر غير سيد الشهداء عليه السلام -حتّى لو كان ذاك الشخص هو أبو الفضل العباس عليه السلام أو حضرة عليٍّ الأكبر عليه السلام- فلن تكون عاشوراءُ عاشوراءَ، بل كانت المسألة قد أخذت شكلًا آخر.
إنّ التأمّل والتدقيق في لطائف وإشارات وقائع ذلك اليوم، يجعل هذه المسألة واضحةً وجليّةً جدًا عند أرباب البصيرة والفهم، وهي أنّ إدارة وقائع يوم عاشوراء يجب أن تكون بيد فردٍ حقيقته وذاته هي عين التجلّي الأعظم لحضرة الحقّ تعالى، بحيث يكون وجوده قد خرج عن جميع شوائب عالم الكثرة وآثاره، ولم يعد يصدر عنه سوى إرادة الحقّ تعالى ومشيئته، وهذا الفرد يجب أن يكون إمامًا معصومًا، فلذا نرى أنّ الأئمّة عليهم السلام يذكرون هذه الواقعة بصفتها قضيّةً فريدةً لا نظير لها.
ففي الخبر الوارد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه عندما مرّ بطريقه في أرض كربلاء، قال:
«هنا مُناخُ ركابٍ ومصارعُ عشّاقٍ؛ شهداء لا يسبقهم مَن كان قبلهم ولا يلحقهم مَن بعدَهم»۱.
لقد طال بنا الكلام في هذا الموضوع، ومقصودنا مِنه أنّه كما أنّ الإمام عليه السلام شخصيّة أوحديّة وغير قابلة للمقايسة بالأشخاص الآخرين، فكذلك ولي الله والعارف الكامل الذي تكون ذاته مندكّة في ذات الإمام عليه السلام ونفسه -و هذا الفناء و الاندكاك يتحقّق بالمحو والانمحاء في حقيقة ولاية المعصوم التي هي عين ولاية الله وحقيقة الله وذات الله- وبالتالي فإنّ هذا العارف الفاني بالإمام عليه السلام سوف يتّصف بصفات الإمام المعصوم عليه السلام وملكاته وآثاره، وسيتحيّث بنفس شؤونه وحيثيّاته.
وبناءً على هذا الكلام، فنفس تجلّي ذات الحقّ تعالى بذات الإمام المعصوم عليه السلام الذي يجعل وجود الإمام متبدّلًا ومتحوّلًا إلى وجود حضرة الحقّ، فإنّ ذاك التجلّي بعينه في نفس السالك الواصل والعارف الكامل يوجب تحوّلها تحوّلًا جوهريّاً، و يوجد فيها تبدّلًا ماهويّاً إلى حقيقة ذات الله تعالى، ويعبّر عن هذه الرتبة بالفناء الذاتي والتجرّد التام والتمكّن من ملكة التوحيد في جميع مراتبها. حينئذٍ فقط وحينما يحصل ذلك، يمكن لنا أن ندّعي صحّة اتّباع مثل هذا الشخص، و الاتّباع لا يكون منطقيًا إلّا في هذه الحالة؛ وذلك لأنّ الطاعة يجب أن تكون للّه تعالى لا غير، والعبوديّة تقتضي إطاعة المولى فقط، والمولى لا يرضى بطاعة غيره أبدًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ﴾۱.
وبما أنّ إطاعة الإمام عليه السلام كانت بلحاظ تبدّل ذاته، وبالتالي تبدّل صفاته ومدركاته على أساس مباني التوحيد، فإنّ طاعة الإمام عليه السلام هي بعينها إطاعة للّه دون زيادة أو نقصان. وهذا الملاك بعينه، وهذا المنهج نفسه يقتضي أن تكون إطاعة العارف الكامل والسالك الواصل الحائز على الخصوصيّات التي ذكرناها .. أن تكون إطاعته إطاعةً للّه تعالى بدون أيّ زيادةٍ أو نقصانٍ.
وعلى أساس هذه النكتة المتينة يعتمد كلام المولى الروميّ عندما يتعرّض لضرورة وجود إنسانٍ كاملٍ من أجل تربية النفوس المستعدّة، سواءً كانت هذه النفس الكاملة وهذا الروح المجرّد إمامًا معصومًا عليه السلام أو كان من سنخ سائر البشر والملل، حيث يقول:
۱. پس بهر دوري وليّي قائم است | *** | تا قيامت آزمايش دائم است |
٢. هر كرا خوي نكو باشد برست | *** | هر كسي كو شيشه دل باشد شكست |
٣. پس امام حيّ قائم آن وليست | *** | خواه از نسل عمر خواه از عليست |
٤. مهدي وهادي وليست أيّ راه جو | *** | هم نهان و هم نشسته پيش رو |
٥. او چو نور است وخرد جبريل اوست | *** | آن وليِّ كم ازو قنديل اوست |
٦. وآنكه زين قنديل كم مشكات ماست | *** | نور را در مرتبه ترتيبهاست |
۷. زانكه هفتصد پرده دارد نور حق | *** | پردههاي نور دان چندين طبق |
۸. از پس هر پرده قومي را مقام | *** | صف صفاند اين پردههاشان تا امام۱ |
والمقصود مِن كلام مولانا في هذه الأشعار إثبات وجود العارف الكامل ومظهر التجلّي الأتمّ لحضرة الحقّ تعالى من أجل تربية النفوس وإجراء مشيئة الحقّ وإرادته في عالم الكثرة، سواءً كان ذاك الوليّ الكامل والعارف الواصل هو النفوس المقدّسة للأئمّة المعصومين عليهم السلام، أم كان غيرهم من الطبقات الأخرى الذين يقومون بالتربية و الإرشاد تحت ولاية هؤلاء الأئمّة.
وأمّا ما يتصوّره البعض من أنّ مراده ومقصوده هو أنّ الملاك في الإمامة والولاية هو الوجود النوعي للأئمّة، و هذا الوجود النوعي يظهر في كلّ زمان بصورةٍ خاصّةٍ ومصداقٍ مشخّصٍ، وأنّه يريد أن يقول: إنّ إمام الزمان عليه السلام بصورته النوعيّة وشكله الكلّي قابلٌ للتسرّي والظهور بصورٍ مختلفةٍ ...، فهو تصوّر خاطئ.
فهو ليس في مقام إثبات الولاية الخاصّة والإمامة المصطلحة عند الإماميّة لكلّ فردٍ وكلّ مصداقٍ، فإمام الزمان أرواحنا فداه له مقامه الخاصّ في عالم الوجود لا
يشاركه فيه أحد؛ إذ أنّه عليه السلام هو رأس السلسلة ومنشأ فيض الحقّ تعالى من عالم الإرادة والمشيئة إلى عالم الإمكان -سواءٌ كان عالم المادّة أم عالم المجرّدات بأنحائها ومراتبها وأشكال استعداداتها وفعلياتها- وهو الواسطة في فيض الحقّ والعروة الإلهيّة الوثقى والحبل الممدود بين الله تعالى وبين الخلق، فلذا كان هو صاحب الولاية المطلقة والكليّة الإلهية، ولا مجال في هذه المسألة للشك والتردّد أبدًا.
بل إنّه في مقام إثبات نفس الوليّ الكامل بشكلٍّ عامٍّ وكلّيٍ، فهذا الوليّ الكامل لا فرق بين كونه نفس الإمام المعصوم وبين أن يكون غيره؛ وسواءً كان في زمان الإمام عليه السلام أم في غير زمانه، و أنّ مثل هذا الشخص ينبغي أن يكون هو المرجع في أمور الإنسان، وعلى الإنسان أن يرجع إليه في أموره الخاصّة، لأنّ قوله حقّ وكلامه صدق وإمضاءه حجّة.
۱. گفت نوح أيّ سركشان من من نيم | *** | من ز جان مردم بجانان ميزيم |
٢. چون بمردم از حواس بوالبشر | *** | حق مرا شد سمع و ادراك و بصر |
٣. چونكه من من نيستم اين دم ز هوست | *** | پيش اين دم هر كه دم زد كافر اوست |
٤. هست اندر نقش اين روباه شير | *** | سوي اين روبه نشايد شد دلير |
٥. گر نبودي نوح شير سرمدي | *** | پس جهاني را چرا برهم زدي |
٦. صد هزاران شير بود او در تني | *** | او چو آتش بود و عالم خرمني |
۷. جمله ما و من به پيش او نهيد | *** | ملك ملك اوست ملك او را دهيد |
۸. چون فقير آئيد اندر راه راست | *** | شير و صيد شير خود آن شماست |
٩. زانكه او پاكست و سبحان وصف اوست | *** | بينيازست او ز نغز و مغز و پوست |
۱۰. هر شكار و هر كراماتي كه هست | *** | از براي بندگان آن شهست |
۱۱. آنكه او بينقش ساده سينه شد | *** | نقشهاي غيب را آئينه شد۱ |
الفرق بين العارف الكامل و غيره أن العارف قد انكشف له الواقع حقيقة و وجدانًا
يتّضح جليًّا ممّا عرضناه أنّ الفرق بين العارف الكامل العالم بالله، وبين غيره منحصرٌ في مقام الإثبات والشهود، بمعنى أنّ العارف يرى أنّ جميع الوجود وعالم الإمكان ممحوٌّ وفانٍ في وجود ذات الحقّ تعالى، ولا ينسب أيّ شيءٍ من الوجود -سواءً في مرتبة الذات الإلهيّة أم في سائر المراتب من صفات الذات وملكاتها وعوارضها- إلى غير ذات الحقّ تعالى، وهذا العِلم والإدراك ناشئٌ عن مرتبة الشهود لا أنّه مجرّد نتائج فكريّة وعقليّة. لكن غير العارف يعتقد بأنّ لغير الحقّ تعالى وجودًا حقيقيًّا وكيانًا مستقلًا وذاتًا متمايزةً ومغايرةً لذات وحقيقة ربّ العزّة سبحانه، وهو وإن كان يريد أن يحكي -بعباراته الجميلة وألفاظه الساحرة وكلماته الرنّانة- عن ذلك العلم والإدراك الذي يمتلكه العارف، إلّا أنّ هذا في مقام الحكاية والنقل فقط، وفي حدود التفكّر والتعقّل فحسب، وسوف يكون دائماً عرضةً للاضطرابات والتشويش والتشكيك بسبب ضعف وجوده، ولن يبلغ حدّ المَلَكة الراسخة في هذه الأمور أبدًا.
والدليل على هذا الأمر واضحٌ وجليٌّ أيضًا؛ لأنّ حقيقة علم العارف وعرفانه يرجعان إلى انقلاب ذاته وتحول نفسه وشخصيّته وهويته الوجوديّة، وانكشاف حقيقة
التوحيد لم يكن على أساس التصوّرات والتصديقات بحيث يكون طروّ أدنى تغييرٍ وتحوّلٍ في أوضاعه الروحيّة والنفسيّة أو في الأمور الخارجيّة أو بسبب اختلاف التوقّعات والميول سببًا في حصول اضطرابٍ وتغيّرٍ في تلك التصوّرات والتصديقات بسبب طغيان الأحاسيس وغلبة جنبة العواطف وحبّ الذات عليه. بل إنّ وجوده تحوّل كلّياً إلى وجودٍ توحيديٍّ وصار يشاهد الحقّ تعالى بعين قلبه وسرّه، وصار يدرك حقيقة الحقّ كما يدرك حقيقة ذاته بالعلم الحضوريّ الذي لا يقبل الخطأ والاشتباه أبدًا، فعندئذٍ كيف يمكن أن يحصل تشويش واضطراب في عباراته، أو يبتلى باختلالٍ واعوجاجٍ في كلماته! فحاله تمامًا كحال من يرى الشمس في النهار بعينيه، ويشعر بحرارتها التي تبلغ الخمسين درجة بجميع وجوده، ويحسّ بالعرق المتقاطر من جبينه، ويفرّ من جهة إلى جهة طلبًا للظل وهربًا من الحرّ، ومع كونه في هذه الحالة يأتي شخصٌ ويقول له: إن الوقت الآن ليلٌ وليس هناك أيّ أثرٍ لنور الشمس، ودرجة الحرارة لا تتجاوز العشر درجاتٍ مثلًا! فإنّ هذا الرجل سيضحك حتماً من قوله وسيسخر منه، وسوف يتعامل مع كلامه على غرار تعامله مع كلام المجانين والعابثين، وسيقول: إنّ عرق جسدي يتقاطر من شدّة الحر، وأنت تقول: إنّ الحرارة لا تتجاوز العشرة! ولا أقدر أن أنظر إلى الشمس لحظةً واحدةً وأنت تقول الوقت ليل!
والعارف الذي ينال هذه المرتبة سيبقى مصونًا من كلّ خطأ واعوجاجٍ، ولا يمكن أن ينكشف أنّه كان مخطئًا أبدًا، ولا شكّ أنّ الوصول إلى هذا المقام إنّما يمكن تحقيقه من خلال الرياضة والمجاهدة والمراقبة، وبالعمل على طبق أوامر الشرع وإرشادات الإنسان الخبير.
***
المجلس الحادي عشر: خصوصيّات العارف الواصل ومميّزاته
بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيْم
الحَمْدُ للّه رَبِّ العَالَمِيْن
وَصَلَّى اللهُ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَاهِرِين
وَلَعْنَةُ الله عَلى أَعْدَائِهِم أَجْمَعِيْن
بما أنّ البحث وصل إلى هنا، فقد أضحى مناسبًا أن نذكر المميّزات الروحيّة للعارف الكامل والخصائص المعنويّة للسالك الواصل؛ حتّى نميّزه عن غيره من الناس مهما بلغوا من رتبةٍ وسعةٍ وجوديّةٍ.
الخصوصيّة الأولى: الإشراف الكامل للعارف الواصل على مشاهداته
إنّ الخصوصيّة الأولى للأستاذ الكامل والعارف الواصل هي أنّ لديه إشرافًا كاملًا على ما يراه وما يلمسه ويشاهده بعين الشهود، وكلّ ما يُسأل عنه في هذه الموارد، فإنّه سوف يجيب عنه كما يجيب الناظر إلى الشمس، ولمّا كانت نفسه قد تجاوزت جميع عوالم الغيب وطوت الأسفار الأربعة؛ فإنّه قد استولى على جميع آثار هذه العوالم وخصوصيّاتها و باتت متمكّنةً في وجوده؛ ولذا فإنّ إخباره عن كيفيّة تلك العوالم وحكايته خصوصيّاتها ليس إخبارًا عمّا في الكتب ولا حكاية عن مطالعاته
وقراءاته، بل هو إخبارٌ عمّا يوجد في الضمير وعمّا هو متحقّق في ذاته؛ كما هو الحال بالنسبة للشخص الجائع عندما يتحدّث عن حالته، أو المريض عندما يتكلّم عن خصوصيّات مرضه، أو الشخص الذي يخبر عن صفاته وملكاته النفسيّة؛ فالمريض عندما يريد أن يبيّن حالة الألم التي يشعر بها، لا يحتاج إلى مراجعة أي كتابٍ أو مجلّةٍ أو أن يستفسر من شخص آخر حول هذا الموضوع، بل إنّه يخبر عمّا يختلج في داخله ويبيّن واقع المسألة، وهذا كالمثال المعروف الذي يقول: «من الخطأ أن تعلّم الأمّ التي فقدت ولدها كيف تبكي»۱، والسرّ في ذلك أنّ بكاء الأمّ إنّما هو ظهورٌ لتلك الحالة التي تعيشها، وبيانٌ لحقيقة النار التي تلتهب في أحشائها، تلك النار التي اشتعلت بسبب فقدانها لولدها، وحرقة الفراق وتصدّع القلب ليس من الأمور القابلة للتعليم! نعم، النائحة -وهي التي يُؤتى بها لتنوح عزاءً للمفجوع- تقوم بتمثيل هذه الحالة وتتظاهر بها، فهي في الحقيقة تشبّه نفسها مجازًا بأمّ الميت وتتظاهر بأطوارٍ من حالتها، فإذا ما بكت فإنّ بكاءها ليس إلّا بكاءً مجازيًّا واعتباريًّا، لا بكاءً حقيقيًّا.
وعلى هذا الأساس، فلو أراد شخصٌ أن يبيّن الحقائق التوحيديّة ويوضّح كيفيّة نزول نور الوجود في مراتب التعيّن والتقيّد وعوالم الأسماء والصفات، ويشرح كيفيّة تحقّق الإرادة والمشيئة الإلهيّة في تكوين عوالم الوجود، دون أن يكون قد وصل بوجوده وذاته إلى كنه هذه المسائل وسرّها وباطن الحقيقة فيها، فإنّه سوف يكون نظير تلك النائحة المستأجرة التي تريد أن تقلّد أمّ الولد المتوفى، وسوف ينكشف بوضوح سرُّ المسألة ولبّ القضيّة في حركات مثل هذا الشخص وأعماله وتصرّفاته، وسيصبح واضحًا للجميع أنّه مجازيّ ولا حظّ له من الواقعيّة، وبالتالي لن يكون بيانه هذا كاشفًا عن الواقع ولا حاكيًا له، وسيكون الاعوجاج في بيانه والاضطراب في عباراته والخلط بين المراتب في كلماته مشهودًا بوضوح؛ بحيث أنّ من لديه أدنى اطّلاع على هذه المباني والمعارف، يُمكنه أن يقف في وجهه فورًا ويسدّ عليه الطريق ويغرقه في مستنقع
العبارات والمصطلحات، أمّا العوامّ الذين لا اطّلاع لهم على هذه المواضيع ولا خبر عندهم عنها، والذين قامت أذهانهم وبُنيت أفكارهم على أساس المسائل الظاهريّة فانجذبوا للمعاني المجازيّة والاعتباريّة؛ فإنّهم قد يأنسون بكلمات هذا الشخص ويركنون إلى حديثه فيجلّلونه بالمدح والإطراء، ويضعون أنفسهم تحت تصرف شخصيّته ونفوذها ويوكلون زمام أمورهم إليه، ويعتبرون أنّه إنسانٌ كاملٌ وشخصٌ قويمٌ، غافلين عن أنّه مثلهم سوى أنّه يقوم بترتيب الألفاظ وتنسيقها، وينظّم المفاهيم ويظهرها بشكلٍ مناسبٍ كأنْ يقوم بسرد الحكايات والأمثال، ويعمل على تبيين حالات العظماء، وينقل كلماتهم ويصوغها ضمن حديثه، ويزيّن بها محاضرته أو مقالته أو كتبه، ويحضرها كي يعرضها في سوق هذا المتاع.
أما العارف الحقيقيّ والواصل الكامل فكلامه متينٌ مستحكمٌ، وحديثه قويمٌ متقنٌ؛ بحيث لو تزلزلت الجبال من مكانها لما تراجع عن كلامه قيد أنملةٍ، ولو وقف العالم بأجمعه في وجه مطالبه ومبانيه، فسيقف مدافعًا عنها ولو كان وحيدًا، ولا يمكن لأيّ شخصٍ في أيّة مرتبةٍ كان أن يُثبت بطلان مبانيه ومطالبه، أو أن يبطل حجّته؛ فإنّه لا يمكن أن يجد الإنسان شخصًا لديه مطالب أكثر إتقانًا وأشدّ إحكامًا وأعلى شأنًا من المطالب التي يذكرها هذا العارف، فهو في ثباته ورسوخه أمام استدلال المستدلّين والمستشكلين كمثل الجبل الراسخ، حتّى أنّ أكبر العلماء والفلاسفة والمتخصّصين في العرفان النظري يعجزون عن دحض حجّته وإبطال دليله.
ينقل المرحوم الوالد رضوان الله عليه في كتاب «الروح المجرّد» قصّة تشرف العالم العامل آية الله الحاج السيّد إبراهيم الخسروشاهي بمحضر المرحوم السيّد الحدّاد، وينقل أنّه عندما اعترض هذا السيّد عليه بقوله: «إنّ من غير المعلوم أنّ كلام هؤلاء العرفاء ينبع من سرّ الحقيقة والصدق؛ إذ أنّ الكثير من مسائلهم وأفكارهم وعقائدهم مخالفةٌ للحقّ»؛ قال له:
«أيها السيّد أنت عالمٌ ومن أهل الاطلاع، وخبيرٌ بالمسائل الاعتقاديّة وبصير بالمعارف الإلهيّة، فمن البعيد جدًا أن يصدر عنك هذا الكلام،
فاذهب إليه (أي إلى السيّد الحدّاد) واختبره في أيّ مسألةٍ تراها مناسبةً وامتحنه بها، ويمكنك أن تسئله عمّا شئت بِدْئاً من أشكل المسائل الفلسفيّة حتّى أغمض مفاهيم العرفان النظريّ ومعارفه، وادخل عليه من الطريق الذي تحسنه جيدًا، فإنّك سوف ترى: أيوجد تردّد في كلامه أو اضطراب في بيانه، أم لا؟ وهل سيحتار في جوابه لك؟ وهل أنّ أجوبته ستقنعك أم لا؟ فالمسألة لا تحتاج إلى شيء، فهو الآن حاضرٌ ومستعدٌ لحلّ مشاكلك، وهذا الطريق هو أفضل الطرق للحصول على الاطمئنان وهدوء النفس واليقين بصحّة الطريق والسير إلى الله، فتوكّل على الله»۱.
واللطيف في المسألة أنّه بفتحه باب المذاكرة والمباحثة في المباحث المشكلة للحكمة المتعالية، اتّضح له أنّ هذا الشخص إنّما يأخذ مطالبه من أفق أوسع من الدرس وتبادل الآراء بالشكل المعتمد في المدارس، وأنّه لم يكن يعتمد في بيانه لهذه المسائل على الطريقة المتداولة في البحث والتدريس والتعليم. ولهذا السبب لم يستطع أن يُقيم أيّ دليل يخالف طلب المرحوم الوالد رضوان الله عليه.
وكذا الأمر في قضيّة لقاء المرحوم آية الله الحاج الشيخ مرتضى المطهري رحمة الله عليه بالسيّد الحدّاد قدّس الله نفسه الزكيّة، حيث تباحثا في بعض المشكلات العلميّة والحِكَميّة، فقال: «إن هذا السيّد يبعث الحياة والروح في الإنسان»٢.
والأمر المهمّ هنا هو أنّه لو كانت نتيجة هذه اللقاءات والأبحاث هي تغلّب هؤلاء العلماء على المرحوم السيّد الحدّاد، وتبيّنُ عدمِ قدرته على الإجابة على أسئلتهم واستدلالهم بالشكل المناسب، وبعبارة أوضح: لو تمّ إثبات عجز السيّد الحدّاد وعدم قدرته العلميّة على الإجابة على مسائل هؤلاء العلماء وأدلّتهم العلميّة؛ فبماذا كان سيجيبهم حينئذٍ المرحوم العلّامة الوالد رضوان الله عليه؟ وبأيّ دليلٍ وأيّة حجّةٍ يمكنه أن يدافع عن مدرسة أستاذه وطريقته، وكيف سيوجّه ادّعاءه أنّ السيّد الحدّاد قد وصل إلى مرتبة الكمال المطلق والمعرفة الشهوديّة والذاتيّة لحضرة الحقّ تعالى، وأنّ لديه اللياقة التامّة في الإرشاد وتربيّة النفوس، ومساعدة الناس في الوصول إلى الحقّ! عندها كان العلّامة الطهراني سيُصاب بحالة من التزلزل بينهم، وسيفقد كلامه درجة الاعتبار والقبول عندهم، بل سيصل السؤال والتشكيك إلى نفس مسلكه وطريقه، مما يؤدّي في النهاية إلى إثبات صحّة ادّعاء الأشخاص الآخرين، كما أنّ هؤلاء العلماء سوف يعتقدون -من الجهة الشرعيّة والعقليّة والمنطقيّة- أنّهم على حقّ، وسوف يرون أنّ سماحته وجميع الادّعاءات في هذه المسألة مردودةٌ باطلةٌ وأنّها خلاف الواقع، ولكان الحقّ معهم في ذلك أيضًا.
إنّ مدرسة الحقّ وكلام الحقّ لا يمكن أن يكونا مغلوبين ومهزومين أمام المدارس الأخرى وكلامهم؛ وذلك لأنّ ﴿كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا﴾۱، فكلام الله والحجّة الإلهيّة، دائماً وفي أيّ موضعٍ كان، أعلى وأرفع من سائر الحجج والأدلّة والبراهين الأخرى.
وسِرّ ذلك أنّه يرى ويشاهد، ومَن يرى الحقيقة كمثل الشمس لا يتوقّف أمام استدلالات الآخرين، ولا يعجز عن مقابلة الاحتجاجات والتشكيكات المخالفة، بل هو قادرٌ على دحض حجّة الخصم من أيّ طريقٍ ورد؛ فيسدّ عليه الطريق ويلزمه الحجّة، وهو يستطيع أن يجعل أيّ باب يختاره الخصم للمحاججة معبرًا وطريقًا مناسبًا له،
وحقيقة المسألة يمكن أن تنكشف للخبير المطلّع خلال عشرين إلى ثلاثين دقيقة، كما أنّه في المقابل، يمكن لمثل هذا الشخص أن يدرك نقصان الإنسان الذي يدّعي هذه المرتبة ادّعاءً لا واقعيّة له، وأن يكتشف فراغ من يجلس في هذا المقام بشكلٍ كاملٍ خلال عشر دقائق، وسرعان ما ستُدقّ طبولُ فضيحةِ هذا المدّعي، كما أنّه سيُشاهَد عليه آثار الاضطراب والتغيّر في كلامه والتبدّل في لهجته مهما كان حاذقًا وأستاذًا قديرًا في حفظ العبارات وتدقيق المعاني وتحقيق المعارف، ولن تستطيع عباراته الجميلة وأحاديثه العذبة وبياناته اللطيفة أن تخفي افتضاحه أو تقف أمام بيان حاله، بل سرعان ما سيفتضح أمره وستظهر حقيقة ادّعائه أمام الملأ، وسوف ينكشف حاله ويتعثّر لسانه أو أنّه سيتوسّل بأيّ طريقٍ ممكنٍ لينأى بنفسه ويخرجها من وطأة هذا البحث والنقاش، ولن يعود أبدًا ليضع نفسه في معرض الاستدلال والكلام، بل سيتقدّم بعرض أعذارٍ واهيةٍ وأسبابٍ خاليةٍ ليتهرّب من شرّ البحث والتحقيق، كأن يقول مثلًا: إنّ المصلحة الآن في السكوت والصبر وعدم الكلام، أو أن يقول: إنّ حالتي لا تسمح لي بالتحدّث مع الآخرين ولا مجال للكلام الآن، أو أن يقول: إنّ هذا الميدان ميدان تسليمٍ وتعبّدٍ وانقيادٍ لا أنّه ميدان بحثٍ وشجارٍ وأخذٍ وردٍ، مستدلًا بقول الشاعر:
پاى استدلاليان چوبين بود | *** | پاى چوبين سخت بى تمكين بود۱ |
[يقول: دليل الاستدلاليين كخشبة الأقطع، وخشبة الأقطع ليست محكمة].
أو بقول الآخر:
هر چه ديدى دم مزن | *** | عيش ما بر هم مزن |
[يقول: لا تسئل عن كل ما تشاهده، ولا تعكّر صفو عيشنا بما تراه].
كما أنّه سيقوم باستخدام أنواع الترّهات وسائر الأمور الأخرى التي هي وسائل دفاع العاجزين، وهو باستخدامه لهذه الوسائل الشيطانيّة يُغرّر بقسمٍ من الناس العوامّ
الذين لا يعقلون، ويعتلي بذلك رقابهم ويصل من خلالهم إلى منافعه الدنيويّة وملذّات نفسه الشهوانيّة، حتّى إذا عجز عن مسألةٍ قالوا دفاعًا عنه: إنّه احترز عن الجواب للمحافظة على بعض المصالح، أو يُقال: إنّه لم يرغب في أن يكسر خصمه ويفضحه، وما ذلك إلّا لتواضعه وأخلاقه العالية، وغيرها من العبارات التي لا تخدع إلّا بعض الأفراد الحمقى الذين لا فهم لديهم ولا فِكر لهم، قد أقاموا حياتهم كلّها على أساس الأوهام والخرافات، بل إنّهم جعلوا رقابهم كمتون الدواب؛ مَرْكبًا لمطامع النفوس الملوّثة العفنة والمنغمسة في الشهوات والطالبة للرئاسات والكثرات الدنيويّة.
إنّ الحقّ في مدرسة التشيّع يقوم دائماً على أساس الدليل والحجّة ويعتمد أبدًا على البرهان المنطقي، ولقد كان شعارها الدائم في إعلان كلمة التوحيد هو: ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾۱، وإنّ المحور الذي تدور حوله أيّة حركةٍ في مدرسة الولاية يعتمد على أساس الحريّة والإرادة واختيار الأصلح وانتخاب الأحسن، و يُعدّ التقليد الأعمى في هذه المدرسة من ألدّ أعداء المعرفة والفهم، ومن أشدّها ضررًا على التفكّر والتطوّر والتزكية، وقد نهض القرآن الكريم بما يملك من قوّةٍ لمواجهة عوامل الركود والجمود والجهل والضلالة.
خلق را تقليدشان بر باد داد | *** | اى دو صد لعنت بر اين تقليد باد٢ |
[يقول: لقد جعل التقليدُ الناسَ في مهبّ الرياح، فألف لعنةٍ على هذا التقليد].
وفي كلّ موقعٍ يأتي التقليدُ فيه، فإنّ العقل والدراية والصلاح والسداد سوف تحزم أمتعتها و تغادر، وسيقوم مقامها الضياع والحيرة والقلق والتردّد والاضطراب والتيه والتحرّك الأعمى، وسيكون مصير صاحبه الخسران وفقدان جميع الاستعدادات وزوالها، وإضاعة كافّة القابليّات.
إنّ كلمات الأولياء الإلهيين والعرفاء الواصلين والعلماء بالله كنجمةٍ متلألئةٍ تحكي بنفسها عن واقعيّتهم ووضوحهم الباطني، كما أنّ عبارات هؤلاء تكشف بنفسها الحقيقة الواضحة والصريحة التي يتحلّون بها، فهي تكشف -كالقضايا التي قياساتها معها- بذاتها الستار عن سرّهم الداخلي و عن مكنونات ضميرهم، بحيث لا يبقي في نفوس من لديهم مقدارٌ من المعارف الإلهيّة واطّلاع على مدارج الكمال ومراتب التوحيد أيّ شكٍّ في صدق هذه العبارات وانطباقها على الواقع.
فمن باب المثال نرى العارف بالله ابن الفارض المصري يقول في بيانه لأحوال عالم التوحيد وخصوصيّات مقام الهوهويّة وحضرة الأحديّة ومرتبة الذات:
۱. يقولونَ لي صِفها فأنتَ بوَصفها | *** | خبيرٌ أَجَلْ عِندي بأوصافها عِلمُ |
٢. صفاءٌ ولا ماءٌ ولُطْفٌ ولا هَواً | *** | ونورٌ ولا نارٌ وروحٌ ولا جِسْمُ |
٣. تَقَدّمَ كُلَّ الكائناتِ حديثُها | *** | قديماً ولا شكلٌ هناك ولا رَسمُ |
٤. وقامتْ بها الأشياءُ ثمّ لحكمةٍ | *** | بها احتَجبتْ عن كلّ مَن لا لَه فهمُ |
٥. وهامتْ بها روحي بحيثُ تمازَجا | *** | اتِحادًا ولا جِرْمٌ تَخَلّلَه جِرْمُ |
٦. فَخَمْرٌ ولا كرْمٌ وآدَمُ لي أبٌ | *** | وكَرْمٌ ولا خَمْرٌ ولي أُمُّها أُمُ |
۷. ولُطْفُ الأواني في الحقيقةِ تابعٌ | *** | لِلُطْفِ المعاني والمَعاني بها تَنْمُو |
۸. وقد وَقَعَ التفريقُ والكُلّ واحدٌ | *** | فأرواحُنا خَمْرٌ وأشباحُنا كَرْمُ |
٩. وقالوا شربْتَ الإِثمَ، كلّا وإنّما | *** | شربْتُ التي في تركِها عنديَ الإِثمُ |
۱۰. وعنديَ منها نشْوَةٌ قبلَ نشأتي | *** | معي أبدًا تبقى وإن بليَ العَظْمُ |
۱۱. عليكَ بها صرفًا وإن شئتَ مزْجها | *** | فعدْلُكَ عن ظَلْم الحبيب هو الظُّلمُ |
۱٢. وفي سكرةٍ منها ولو عُمْرُ ساعةٍ | *** | ترَى الدَّهر عبدًا طائعًا ولك الحُكْمُ |
۱٣. فلا عَيْشَ في الدُّنْيا لمَن عاشَ صاحيًا | *** | ومَن لم يَمُتْ سُكْرًا بها فاته الحزمُ |
۱٤. على نفسه فليَبْكِ مَن ضاع عمْرهُ | *** | وليسَ لهُ فيها نَصيبٌ ولا سهمُ۱ |
[يقول:
۱- يطلبون منّي أن: «صِفها، فأنت خبيرٌ عالمٌ بأوصافها»، نعم لدي علمٌ بها وبأوصافها.
٢- فهي صفاءٌ بلا ماءٍ، ولطفٌ دون هواءٍ ونورٌ بدون نارٍ وروحٌ بلا جسمٍ.
٣- لقد تقدّم حديثها ونداؤها على جميع الكائنات منذ القدم، حيث لم يكن هناك وجودٌ لشكلٍ ولا لرسمٍ.
٤- وهناك قامت بها الأشياء لحكمةٍ، و بواسطة حجاب الأشياء فقد اختفت الحكمةُ عن غير ذي الفهم.
٥- وقد تعلّقت بها روحي وهامت بها بحيث صارا مركّبين تركيبًا امتزاجيًّا إلّا أنّ ذلك ليس من حلول جسمٍ في جسمٍ؛ لأنّه لم يكن هناك مادةٌ أو جسمٌ ليحلّ في جسمٍ آخر.
٦- فقد كان هناك سُكْر الشراب دون أن تكون الكرمة (شجرة العنب) حينَ كان آدم أبو البشر أبي، وكانت الكرمة دون سكرِ العشق عندما كان أصلها وذاتها هو أصلي وذاتي.
۷- ولطف الأواني تابع في الحقيقة إلى لطف المعاني، كما أنّ المعاني تنمو بإنائها.
۸- وقد ظهر التفريق بين موجودات عالم الخلق والحال أنّها جميعًا ترجع إلى أصلٍ واحدٍ ولها حكمٌ واحدٌ، وعليه فأرواحنا هي جذبات العشق وسكر شرابه، بينما أشباحنا تمثّل أشجار الكرمة.
٩- يعترض عليّ هؤلاء القوم ويقولون بأني ارتكبت الآثام بشرب الخمر، كلّا ليس الأمر كذلك، بل إنّي شربت شيئًا يُعتبر تركه عندي هو الإثم.
۱۰- ومن شربي لهذا الشراب الذي قسمه لي الله سكرتُ وأدركت نشأةً لي قبل أن أضع قدمي في عالم الطبع، وهذا السُكر وتلك النشأة ستبقى معي إلى الأبد حتّى وإن بليت العظام في قبري.
۱۱- فعليك أن تقصد المعشوق والمحبوب وحده فقط، وإذا أردت أن تدخل غيره في قلبك، فاعلم أنك إذا تجاوزت عن ريق الحبيب وتعدّيته فهو ظُلمٌ عظيم۱.
۱٢- وإذا حصلتَ على ساعة سكرٍ وعشقٍ بالحبيب والمعشوق، فسوف تحصل لديك حالةٌ تجد فيها الدهر مثل العبد المطيع ينتظر أوامرك، وتكون أنت الحاكم والأمير على ما سوى الله.
۱٣- فمَن لم يقضِ أيّامه في هذه الدنيا بحالة سكرٍ وهيامٍ وعشقٍ للمحبوب، فإنّه لم ينل حظّاً ولا نصيبًا من هذه الحياة، ومَن لم يُقدّم حياته وروحه من شدّة سكره وعشقه للحبيب، فهو لم يسلك سبيل الاحتياط وطريق السداد. ولا معنى للعيش والحياة بالنسبة لمن يعيش بعيدًا عن معنى عذاب الغرام به، ومن لم يمت من سكر عشقه فلن يكون رجلًا صاحب حزمٍ ودرايةٍ.
۱٤- وعليه، يجب أن يبكي على نفسه من أضاع عمره دون أن يكون له في الحبيب سهمٌ ولا نصيبٌ.]
لو كان هناك شخصٌ لديه أدنى اطّلاعٍ وخبرةٍ في الأمور العرفانيّة والحقائق التوحيديّة، فسيفهم من خلال قراءة هذه الأبيات فورًا بأنّ ناظمها لا بدّ أن يكون قد بلغ مقام الوصل؛ إذ ليس ممكنًا أن يأتي رجلٌ ويخبر عن أسرار عالم التوحيد، ويتحدّث عن نشأته وآثاره وصفاته بلسانٍ قاطعٍ وبيانٍ واضحٍ كهذا، والحال أنه لم يتذوّق بعد تلك اللذّة ولم يصل إلى باطن هذه المفاهيم وحقيقة هذه المعارف!
كنت يومًا في محضر المرحوم آية الله الوالد رضوان الله عليه، وجرى الحديث حول أشعار أحد الأشخاص الذي استخدم في أغلب أشعاره مطالب أهل الذوق واستعاراتهم وكناياتهم. فقرأ سماحته واحدةً من أشعار هذا الشخص الغزليّة المعروفة والتي كان قد كتبها في ورقةٍ، ثمّ قال لي ما رأيك بهذا الغزل؟
فقلتُ له: يا سيّدي! يظهر من لحن عبارات هذا الشخص وكيفيّة انتخابه للكلمات، أنه لم يشمّ رائحة العرفان وليس لديه شيءٌ من حقائق عالم التوحيد، بل إنّه بمجرّد حفظه لاستعارات العرفاء وظرائف كلماتهم وتشبيهاتهم، جاء واستعملها في عالم التمثيل والتشبيه، وقام بتنسيق هذه الكلمات وتنضيد المقصود منها؛ كي يظهر كلامه بمظهر أهل الذوق والعرفان، وهذه النكتة مشهودةٌ بوضوحٍ من كيفيّة تركيبه الاستعارات ولحاظها، ومن عدم المهارة في انتخاب الألفاظ المناسبة وتبيين الحقائق، فأين هذا من غزل حافظ الشيرازيّ العذبِ الذي يبعث الحياة في القلوب؟! والحاصل أنّ كلّ مَن جاء وأراد مِن عرضه لمتاعه أن يتجاوز حدّه واضعًا قدمه في مقام العظماء، فقد كشف عن عجز نفسه وأتعب الآخرين به.
لذا يرى الإنسان أنّ لكلام الأولياء روحًا وحياةً خاصّةً ونورانيّةً وبهجةً مميّزةً، وأنّ قراءة ما يطرحونه يترك في النفس أثرًا عميقًا، فهو يخاطب حقيقة الإنسان ويناجيه في سرّه وينفخ الروح في هيكل النفس الميّتة ليمنحها الحياة فيعطي الإنسان الأمل، حتّى أنّ الإنسان إذا قرأ كلامهم مِرارًا، يشعر أنّه كمن لم يقرأه من قبل؛ فهو يكشف له في كلّ مرّةٍ أمرًا جديدًا ويفتح أمامه أفقًا حديثًا، وقد شاهد هذا الحقير بنفسه ذلك، ولامسه في كتبِ المرحوم الوالد قدس الله سرّه، كما شاهده أيضًا في كتب سائر العرفاء العظام من قبيل: كتابات نادرة الدهر محيي الدين بن عربي، ومولانا جلال الدين محمّد الروميّ، وحافظ الشيرازيّ، وبابا طاهر العريان، وابن الفارض المصريّ، وكذلك في مقالات ورسائل العلماء بالله؛ كالمرحوم الآخوند ملا حسينقلي الهمدانيّ، والسيّد أحمد الكربلائي وغيرهم، والحال أنّه من الممكن أن تصدر نفس هذه المواضيع عن غيرهم، ولا يكون في إعادة قراءتها مرّةً أخرى ذلك الرونق والتأثير.
ينقل المرحوم الوالد عن أستاذه السيّد الحدّاد رضوان الله عليهما أنّ المرحوم السيّد القاضي رضوان الله عليه كان يقول:
«لقد قرأت كتاب المثنوي للملّا الرومي من أوّله إلى آخره ثماني مراتٍ، وفي كلّ مرّةٍ كنت أنتبه إلى معنىً جديدٍ لم أكن ملتفتًا إليه عند القراءة السابقة!».
وقد سمع الكاتب من كثيرٍ من الأشخاص نفس هذا الكلام بالنسبة لكتب المرحوم الوالد قدّس سرّه، كما أنّني وجدتُ ذلك بنفسي تحقيقًا، والسرّ في ذلك واضحٌ وجليّ؛ و هو أنّ المواضيع والمباني التي يذكرها هؤلاء العظماء إنّما يذكرونها من حقيقة عالم الملكوت ونفس الأمر، فالصور العِلميّة وحقائق الملكوت تنكشف في نفوسهم وتتجلّى لهم في صورها الواقعيّة ومعانيها الحقيقيّة، فتجري بشكلٍ طبيعيٍّ على ألسنتهم أو من خلال أقلامهم. إنّ تلك الحقائق تتنزّل على قلوبهم دون أي تدخّلٍ من النفس وبلا جرحٍ وتعديلٍ أو زيادةٍ ونقصان، وبلا أدنى تصرّفٍ من قبل الأفكار المنحرفة أو من جهة النفوس الملوّثة التي لم تخضع للتزكية؛ لذا يشعر الإنسان في كتبهم بالقرب والوحدة والأنس، كما أنّه يجد فيها الجديد دائماً ولا يشعر في قراءتها بأيّ مللٍ أو كللٍ.
والعكس صحيح في مورد سائر الأشخاص، فإنّهم وإن كانوا قد بلغوا المراتب العلميّة العالية، إلّا أنّ تمام علومهم هذه ومدركاتهم علومٌ و مدركاتٌ صوريّةٌ؛ فهم قد جمعوها من هذا الكتاب وذاك الكتاب وحفظوها في ذاكرتهم، وكان همّهم منصبًّا على تجميع المواضيع فقط والاستفادة منها في المجامع العلميّة والمحاضرات والمؤتمرات ومجالس البحث والوعظ والدرس والخطابة، ولم يتعلّموا هذه العلوم لأجل الانتفاع الشخصيّ بها والاستفادة الخاصّة منها، ولا من أجل العمل على إصلاح الطريق وقطع مسير القرب نحو الحقّ، ولو علم يومًا أنّه لن يعود لهذا المتاع زبائن في السوق، فإنّه سوف يتوقّف عن المطالعة والتحقيق في هذه المواضيع وعن تجميع هذه الأمور، وسيسعى للحصول على متاعٍ آخر، فكيف يمكن بعد ذلك لهذه العلوم أن تغيّر نفوس هؤلاء الأشخاص، وتعمل على تزكيتها؟! أو أن تترك تأثيرًا بالغًا على
روحيّتهم ونفسيّتهم؟! إنّ مَثلهم كمثل الطبيب الذي لا يفكّر منذ دخوله إلى كلّية الطب إلّا في اختيار العلوم التي يمكنه أن ينتفع بها من المرضى بشكلٍ أكبر، وما هو الاختصاص الذي يساعده في تحسين وضعه الاقتصادي، وأيّ الأمراض التي يكثر المراجعون لأجلها بحيث يمكنه من خلالها أن يحسّن مِن وضعه المالي، ويسأل عن الأمراض التي قليلًا ما يبتلي بها الناس والتي لا تعود عليه بالمنفعة والمال الكثير، حتّى يجتنبها ولا يُقدِم على دراستها. إنّ هذه العلوم لن تكون أبدًا موجبةً للترقّي أو تزكية النفس، ولن تؤدّي إلى تقدّم هذا الإنسان ونورانيّته، بل سوف تقرّبه أكثر من عالم الكثرات والشهوات وتتركه بعيدًا عن الإنسانيّة والشرف والكرامة.
وفي مقابل هذا الموقف هناك أشخاص قاموا من أوّل الأمر بجعل درسهم وتحصيلهم قائمًا على أساس رضا الله وخدمة الناس ورفع مشاكلهم.
وإن شاء الله سوف يأتي بيان هذه المسألة في الفقرات الآتية من الحديث الشريف لعنوان البصري، أمّا الآن فسوف نكتفي بهذا المقدار من بيان هذه الخصوصيّة الأولى للعارف الكامل والعالم بالله وبأمر الله، وبرأيي فإنّ هذا المقدار من البيان كافٍ لإدراك الأمر من قبل أهله، فننتقل الآن إلى الخصوصيّة الثانية للوليّ الكامل والنقطة المميِّزة للمُرشد الواصل.
***
الخصوصيّة الثانية: كلام الإنسان الكامل مبني على محور التوحيد فقط ولا يمكن التنازل عنه
إنّ الخصوصيّة الثانية لتصرّفات أهل التوحيد وكلامهم هي: أنّ دعوتهم وتبليغهم وكلامهم مع الناس وحديثهم معهم إنّما يقوم على أساس التوحيد ويدور حول محوره، فهم لا يتنازلون عن هذه المرتبة إلى سائر الجهات ومراتب الأسماء والصفات، وهذه المسألة طبيعيّةٌ ومتوافقةٌ تمامًا مع الأصول، ومطابقةٌ لها.
فمن الطبيعي أن يكون كلام كلّ إنسانٍ وعمله حاكيًا عن مرتبة الكمال التي هو فيها، وأن تكون عباراته و تصرفاته تجلّيًا يعكس ظهور تلك المرحلة و يبرزها. ولمّا كان العارف الكامل قد وجد أنّ الحقيقة هي فقط في التوحيد والمعرفة الشهوديّة لحضرة الحقّ تعالى، ورأى أنّ سائر المراتب الأخرى تقع في الأسماء والصفات التي هي دون تلك المرحلة؛ فمن الطبيعي أن يكون كلامه وعمله بتمامه متوجّهًا و مائلًا إلى تلك الجهة، سائقًا نحوها، وألّا يتنازل أبدًا عن تلك المرتبة إلى سائر الظهورات الأخرى، بل هو يعتبر أنّ مثل هذا التنازل خسارةٌ له وللآخرين وإتلافٌ لوقتهم، إنّ العارف الكامل كما أنّ وجوده قد صار مندكّاً في الذات الأحديّة، فإنّ آثاره الوجوديّة التي تبرز منه تسير كذلك على هذا السبيل وتدور حول هذا المحور، و الأنوار التوحيديّة تتلألأ في جميع أطوار وجوده، وهو لم يعد مستعدًا للتنازل قيد أنملةٍ عن تلك المرتبة إلى ما دونها بأيّ شكلٍ من الأشكال.
في أحد الأيّام قال المرحوم الوالد قدس الله سرّه:
«كنّا بمعيّة المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه وسائر الرفقاء والأحبّة في منزل أحد الأصدقاء في الكاظمين، ودار الحديث حول عروج مقام حضرة جبرائيل إلى عالم الوحي، وكيفيّة نزوله على قلوب الأنبياء والرسل الإلهيّين، وكيفيّة انتقال الحقائق العلميّة من حقيقتها الكلّية إلى نفوس البشر الجزئيّة، وحول قدرة هذا المَلَك المقرّب وقوّته وإشرافه على جميع العلوم والصور الكلّية والجزئيّة للحقيقة العلميّة لحضرة الحقّ جلّ وعلا، وفي هذه الأثناء تحدّث كل شخصٍ طبق فهمه وعرض الأمر ضمن إدراكه، وكان كلٌّ منهم يبرز تعجبّه من هذه المسألة، وبقي المرحوم السيّد الحدّاد ساكتًا يستمع إلى كلام هؤلاء الأشخاص، وبعد مدّةٍ رفع رأسه وقال بلهجة جادّة تحكي عن حقيقةٍ منكشفةٍ لديه بشكلٍ عميقٍ ووضوحٍ جليٍّ:" أيّ بحثٍ هذا الذي تبحثونه وتتحدّثون فيه عن علوّ درجات ومقامات حضرة جبرائيل وسعته الوجوديّة؟! إنّنا في مقامٍ ومرتبةٍ لا يستطيع جبرائيل أن يتصوّرها، ولا يقدر على إدراك تلك المرتبة أو حقائقها الوجوديّة، فلماذا توقّفتم عند صعود الملائكة ونزولهم؟ تعالوا وانظروا ماذا يوجد فوق ذلك! هناك حيث لا يتمكّن الآلاف من أمثال جبرائيل من الوصول إلى ذاك المكان، بل يبقون دون ذلك المقام؛ فعلى السالك أن لا يرضى بما دون الذات، وألّا يتنزّل عنها ويحرم نفسه من الارتواء من الماء المعين لتلك الحقيقة، ولا أن يشغل نفسه بحقائق هي دون حقيقة ذات حضرة الحقّ تعالى فيفنيَ عمره دون جدوى"».
إنّ ما يظهر من العارف الكامل ووليّ الله في أطوار حياته وعلاقته بالأفراد، إنّما هو عبارة عن سوقهم نحو تلك النقطة العليا ودفعهم وتشجيعهم على السير إليها والوصول إلى أعلى مرحلةٍ من العبوديّة، وهي ما يعبّر عنها بالتوحيد الذاتي والتجرّد المحض والفناء الذاتي، و هو لا يتنازل عن هذه النقطة لا في مجالسه ولا في كلامه وآثاره.
إنّ الاختلاف بين هذه الفئة من العرفاء الإلهيّين وبين سائر العظماء من أهل الكشف والشهود -على اختلاف مراتب كمالهم وارتقائهم- هو أنّ هذه الفئة من الأولياء الإلهيّين والعرفاء بالله قد تبدّلت حقيقتهم من خلال الانغمار في حقيقة الذات، والاندكاك في مرتبة هوهويّة الحقّ، فصارت تلك الحقيقة محيطةً بهم وصارت ذاتهم مُتشئِّنة بشؤون الذات، لذا فقد صارت الآثار المترشّحة من وجودهم وما يظهر منهم من كلامٍ أو تصرفات تمثّل نفس آثار ذات الحقّ تعالى وظهوراته وبروزاته التي برزت وتجلّت في الكتاب المبين (القرآن الكريم).
فمن خلال أدنى تأمّلٍ وتدبّرٍ في الآيات الإلهيّة الكريمة تتضّح هذه المسألة الدقيقة جيّدًا؛ وهي أنّ الله تعالى تقدّست آلاؤه في القرآن المجيد قد حصر حقيقةَ الوجود والاستقلالَ في التحقّق والتعيّن بذاته تعالى، وأنّه عزّت آلاؤه لا يعتبر أيّ أثرٍ من آثار عالم الخلق متمايزًا ومتغايرًا عن آثار ذاته وأفعاله، ولا يرى لأيّ موجودٍ في عالم الوجود نصيبًا في شيء من الوجود غير وجوده وشأنيّته، ويعدُّ جميع الأشياء -سواءً كانت عاليةً أو دانيةً- فقيرةً مقابل ذاته، بل هي فقرٌ محضٌ أمامه، وأمّا الغنى الذاتيّ والاستقلال الوجوديّ، فهو منحصرٌ به تعالى فقط.
يقول تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾۱.
يخاطب تعالى الناس في هذه الآية قائلًا لهم: اعلموا أنّ الفقر لباسكم ومحيط بكم، وأنّ الغنى ردائي فقط، وعليه فذاتي فقط من بين ذواتكم وسائر الموجودات هي المستوجبة للحمد والثناء.
ويقول عزّ من قائلٍ في سورة الحديد: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾٢.
يُثبِت الله تعالى في هذه الآية التوحيدَ الذاتيّ لنفسه في عالم الوجود؛ لأنّه أوّل جميع الأشياء، أي أنّه لم يكن أيّ وجودٍ متحقّقًا قبل وجوده، فكلّ وجودٍ ناشئٌ من وجوده
ونازلٌ من مرتبة هويّته، وكذلك هو في مرتبةٍ متأخرةٍ عن كلّ وجودٍ (الآخِر)؛ بمعنى أن تشؤّن الوجود بشؤونات مختلفة وتقيّده بقيود متغايرة وتعيّنه بتعيّناتٍ وماهيّاتٍ متفاوتةٍ، لا يستدعي أن يكون ذلك الوجود خارجًا عن حيطة ذات الحقّ تعالى ووجوده، بل إنّ وجود الحقّ تعالى مع بساطته وصرافته، شامل لجميع الوجودات في كلّ مرتبةٍ من مراتب التقيّد والتعيّن -سواءً كانت من المجرّدات أم من المادّيات- فإنّها كلّها مشمولةٌ لوجوده؛ وعليه فليس هناك أيّة ذاتٍ إلّا وهي فانيةٌ في ذاته؛ بمعنى أنّه ليس لها في ذاتها شيءٌ من الوجود الاستقلالي، وهذه هي حقيقة التوحيد الذاتي.
وقد أشير في الآيات الشريفة إلى هذه الحقيقة كرارًا وصُرح بها مرارًا، كما يمكن أن تلاحظ هذه المسألة الدقيقة كثيرًا في كلمات الأئمّة المعصومين والروايات المرويّة عنهم سلام الله عليهم أجمعين.
ففي خطب «نهج البلاغة» يقول أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الأولى:
«كائنٌ لا عن حدثٍ، موجودٌ لا عن عدمٍ، مع كلِّ شيءٍ لا بمقارنةٍ، وغير كلّ شيءٍ لا بمزايلة»۱.
أي إنّ كينونته وتحقّقه ليس مترتّبًا على حدوثٍ، وموجوديّته ليست مسبوقة بالعدم، وهو مع جميع الأشياء لكن معيّته ليست بمعنى المقارنة والمصاحبة، ومفارقٌ لكلّ شيءٍ لكنّ افتراقه عنها ليس بمعنى المباينة ولا بمعنى الفاصلة الوجوديّة والحدود الوجوديّة.
يُشير الإمام بوضوحٍ في هذه الخطبة إلى مسألة التوحيد الذاتيّ لحضرة الحقّ تعالى، ويَعتبر أنّ الوجود منحصرٌ في الذات الأحديّة.
وجاء نظير ذلك في جوابه عليه السلام لذعلب اليمانيّ حين سأله: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال له:
«لا تدركُهُ العيون بمشاهدةِ العَيَان، ولكن تُدركُه القلوبُ بحقائق الإيمان، قريبٌ من الأشياء غير ملابسٍ، بعيدٌ منها غير مُباينٍ، متكلّمٌ لا برويّةٍ، مريدٌ لا
بهمّةٍ، صانعٌ لا بجارحةٍ، لطيفٌ لا يوصف بالخفاء، كبيرٌ لا يوصف بالجفاء، بصيرٌ لا يوصف بالحاسّة، رحيمٌ لا يوصف بالرقّة، تعنو الوجوه لعظمته، وتجلّ القلوب من مخافته»۱.
يقول الإمام عليه السلام: إنّ حضرة الحقّ تعالى ذاتٌ لا يراها الناظرون بأنظارهم الظاهريّة، ولكن عين الباطن ورؤية القلب قادرةٌ على رؤيته من خلال حقيقة الإيمان، فهو ذاتٌ قريبٌ دائماً من الأشياء لكن لا بقربٍ مكانيٍّ، وبعيدٌ أيضًا من الأشياء لكن لا ببعدِ انفصالٍ وتباينٍ، متكلّمٌ لكن لا كما يتكلّم البشر، مريدٌ لكن لا بسبب شوقٍ وميلٍ واهتمامٍ بالوصول إلى المقصد، خالقٌ وصانعٌ لكن ليس بأعضاء وجوارح ماديّةٍ، لطيفٌ لكنّ لطفه ليس خفيّاً عن الأنظار، كبيرٌ لكن لا يتعدّى ويتجاوز في عظمته، بصيرٌ لكن ليس بحواسٍّ ظاهريّةٍ، رحيمٌ وعطوفٌ لكن لا من جهة رقّة قلبه وغلبة إحساساته، تخضع لعظمته جميع الوجوه، وتضطرب من الخوف منه جميع القلوب.
يوجد في هذه الخطبة أيضًا إشارةٌ إلى حقيقة التوحيد الذاتيّ لحضرة الحقّ تعالى، وكذلك في العديد من الخطب الأخرى، وذِكرها جميعًا يوجب التطويل والخروج عن الموضوع٢.
فعلى هذا الأساس، كما أنّ الله سبحانه وتعالى جعل كلامه في القرآن الكريم وفي الأحاديث القدسيّة منصبًا على التوحيد، ولم يتنازل قيد أنملةٍ عن مرتبة التوحيد وشؤوناته إلى آثار غيره في مراتب التعيّن وشؤوناته، ولم يعط أحدًا من مخلوقاته -حتّى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم- شيئًا من الحيثيّة الاستقلاليّة والوجود المستقلّ ولو كان مقدارًا بسيطاً منه، بل كان -من خلال قهّاريته و بسبب غيرته- يخطف أنفاس كلّ من يتعرّض لكبريائه وجبروته وعظمته وغنائه ولو بمقدار جناح
بعوضةٍ، فكما أنّ الله تعالى كذلك، فكذا العارف الكامل ووليّ الله؛ فإنّ حديثه في جميع المجالس والمواعظ وفي جميع كتاباته عبارةٌ عن: التوحيد وشؤونات التوحيد وآثار التوحيد والاتّجاه نحو التوحيد، ولا يتنازل أبدًا عن هذه المرتبة إلى ما دونها من المراتب، لأنّ حيثيّته صارت حيثيّة الحقّ تعالى، وبات وجوده متحوّلًا بوجود الحقّ تعالى، وذاته متذوّتةٌ بذات الحقّ؛ فحينئذٍ كيف يُتصوّر أنّ حضرة الحقّ يمكن أن يتحدّث عمّا سواه، وأن يتكلّم عن الأغيار، أو أن يسوق الناس إلى غيره ويرغّب الناس بمن سواه؟! هذا محالٌ لأنّه كما يُقال:
«الذاتيّ لا يختلف ولا يتخلّف ولا يتغيّر ولا يتبدّل»
وبناءً على هذا الكلام فالعارف -شاء أم أبى- لا يمكنه أن يتحدّث بغير التوحيد، ولا يمكنه أن يسوق الناس إلى غير التوحيد من شؤون عالم الخلق أو أن يوجّههم إلى أيّ ظهورٍ من الظهورات أو مظهرٍ من المظاهر، لا أنّ هذا الفعل منه يحصل من باب التواضع والخضوع مقابل حضرة الحقّ تعالى، فإنّ جميع الناس يمكن لهم ذلك، بل إنّ العارف لا يمكن أن يصدر من ذاته غير هذا الفعل ولا أن يترشّح منه غير هذا الأمر، وهذا ليس تواضعًا بل حكمٌ فطريٌّ وذاتيٌّ جُبل عليه هذا العارف، فهو يرى أنّ جميع موجودات عالم الكون مظاهرُ مختلفةٌ من شؤون الحقّ تعالى وينظر إليها من هذا المنطلق، ويرى أنّ ولاية الإمام المعصوم عليه السلام هي ولاية حضرة الحقّ تعالى ولا يراها منفصلة عنه أبدًا، بل يعتبرها شيئًا واحدًا ذا عينيّةٍ واحدةٍ، كما أنّ نظرته إلى الإمام عليه السلام نظرةٌ مرآتيّةٌ لا نظرةٌ استقلاليّةٌ وموضوعيّةٌ، كما ينظر إليه سائر الأشخاص.
نظرة العارف إلى الإمام نظرةٌ مرآتيّةٌ و دعوته إلى الإمام هي دعوة إلى الله تعالى
إنّ العارف لا ينظر إلى إمام الزمان عليه السلام بعنوان أنّه موجودٌ مستقلٌ عن وجود الحقّ تعالى، بل يرى أنّ حقيقة هذا الإمام هي ظهور التجلّي الأعظم لحضرة الحقّ تعالى، والتجلّي لا يمكن أن يكون متمايزاً ومستقلًا عن المتجلّي.
وعلى هذا الأساس فإنّ دعوة العارف إلى الإمام عليه السلام هي دعوةٌ نحو الله تعالى لا نحو شخص الإمام عليه السلام؛ و ذلك من باب أنّ جعل الإمام عليه السلام محورًا للدعوة والتبليغ بحيث يجعل الله جانبًا هو عين الشرك، والإمام عليه السلام نفسه لا يرضى أبدًا بهذه الدعوة ولا بهذا التبليغ، إنّ الإمام يدعو الجميع نحو الله؛ فكيف يرضى بأن يُدعى الناس إلى نفسه ويساقون نحوه!؟
وبناءً على هذا، فالأشخاص الذين يقيمون المجالس مدّعين بأنّهم من أهل الولاء، ويجعلون محور التوسّل والالتجاء والابتهال فيها على أساس النظرة الاستقلاليّة، لا على أساس نظرةٍ مرآتيّةٍ وآليّةٍ؛ فعليهم أن يعرفوا أنّ مسيرهم هذا وطريقتهم هذه مخالفةٌ تمامًا للمباني والأصول الموضوعة من قبل أولياء الحقّ وأئمّة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. إنّ التوسّل بسيّد الشهداء عليه السلام إنّما يكون ممضىً من قبل الإمام ومرضيّاً عنده عندما لا يكون هناك توجّه استقلالي نحوه، وعندما لا نجعل الإمام و أوامره ودستوراته على حدّ سواء مع الله سبحانه وأوامره ودستوراته.
كما أنّ الذين يتعاملون مع الإمام عليه السلام على أنّه وسيلة لقضاء الحوائج ورفع المشاكل وأداء الديون، فيعقدون جلسات التوسّل لهذا الغرض، يكونون بذلك قد أنزلوا الإمام من أرفع مراتب العظمة وأعلى مرتبةٍ من مراتب الوجود، إلى المرتبة الدانية لعالم المادّة وإلى حضيض عالم الطبع، وجعلوه في حدود قضاء بعض الأمور الماديّة والميول الدنيويّة التي لا قيمة لها، ومن هنا فإنّ إقامة مجالس التوسّل لأجل شفاء المريض وأداء القرض ورفع الحصار عن المحاصر وتحرير السجين من سجنه والتسريع في إنجاز جواز السفر ورفع الموانع أمام سفر الزيارة وغيرها ورفع التخاصم بين شخصين وإيجاد الألفة والمحبّة بينهما ...، هي جميعًا مخالفةٌ لطريق العرفاء الإلهيّين ومنهجهم.
إنّ العرفاء الإلهيّين يريدون الإمام عليه السلام لأجل نفس الإمام، ويرون أنّ الهدف المنشود من التوجّه إلى الإمام ولفت الأنظار نحوه هو الاندكاك في ولايته المطلقة، ويعتبرونه المقصد الأعلى والغاية القصوى في كلّ ميل وشوقٍ وتوجّه؛ سواءً أُدّي دينهم أم لا، وسواء شُفي مريضهم أم استفحل به المرض فمات، وسواء ظلّوا في أنواع الشدائد وابتلاءات الحياة أو تخلّصوا منها! إنّ دعوة هؤلاء هي نحو معرفة الإمام عليه السلام معرفةً حقيقيّةً، ولا يُشم من أحاديثهم أمثال هذه الأمور أصلًا، فلو جلست معهم وسمعت منهم ألفَ عام، فلن تسمع منهم كلامًا من قبيل: عليك أن تتوسّل بسيّد الشهداء عليه السلام لأداء دينك، أو عليك أن تقوم بكذا وكذا لأغراض دنيويّة، فتجدهم يتقبّلون جميع المصائب الدنيويّة التي تصيبهم طوال حياتهم، لكنّهم مع ذلك لا يستعينون بالإمام عليه السلام لرفعها؛ فهؤلاء يريدون الإمام لمساعدتهم و إنقاذهم في عوالم النفس لا لقضاء الحاجات الماديّة والدنيويّة، ويعتبرون أنّ الإمام عليه السلام واسطة في الفيض لحضرة الحقّ تعالى، وأنّه المجري لمشيئة الله المتقنة وإرادته الحتميّة، لا أنّه عبارة عن صندوق خيري لمساعدة المحتاجين أو محكمة لحلّ المشاكل وفضّ النزاعات.
لم يأتِ الإمام عليه السلام إلى هذه الدنيا لكي يقضي ديوننا ويشفي مرضانا ويعالج المصابين بالسرطان، ولا ليهيّئ لنا الجواز وتذكرة السفر، إذ الإمام عليه السلام هو مُجري القضاء والمشيئة الإلهيّة، فكيف يتخلّف هو عن هذه المشيئة وعن هذا القضاء؟!
لذا نقرأ في الزيارة الجامعة:
«السلامُ على محالِّ معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله، وحفظة سرّ الله، وحملة كتاب الله، وأوصياء نبيّ الله، وذرّية رسول الله صلّى الله عليه وآله ورحمة الله وبركاته، السلام على الدعاة إلى الله، والأدلّاء على مرضات
الله، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّة الله، والمخلصين في توحيد الله، والمظهرين لأمر الله ونهيه، وعباده المكرمين، الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، ورحمة الله وبركاته»۱.
تتضّح من هذه الفقرات الشريفة الحقيقة الوجوديّة للأئمّة المعصومين عليهم السلام جيّدًا، فالأئمّة عليهم السلام واسطةٌ في فيض الوجود وتربية النفوس، وهم الذين يسوقون الناس نحو الكمال المختصّ بهم، وهم المُجْرون للإرادة الإلهيّة الحتميّة في عالم الإمكان، فهم لا يسبقون حكم الله أو يتعدّون قضاءه، ولا ينقصون أو يزيدون شيئًا من تلقاء أنفسهم؛ إلى أن يقول:
«وأنّ أرواحكم ونوركم وطينتكم واحدةٌ، طابت وطهرت بعضها من بعض، خلقكم الله أنوارًا فجعلكم بعرشه محدقين، حتّى مَنّ علينا بكم (وخلقكم في عالم النفس ودنيا المادّة) فجعلكم في بيوت أذن الله أن تُرفع (وتسمو درجاتها وتعلو مرتبة كرامتها) ويُذكر فيها اسمه (كأفضل ما ذُكِر، ففي تلك المنازل يصِل الذكر إلى أعلى مراتبه الوجوديّة، بحيث لا يتصوّر مرتبةٌ أعلى منها، ويُحرز شأن وحيثيّة حضرة الحقّ في أسمى موقع لها. والحقّ أنّ هذه العبارة العجيبة جدًا وهي حاويةٌ على أسرارٍ ورموزٍ)، وجعل صلواتنا عليكم وما خصّنا به من ولايتكم طيبًا لخَلْقِنا، وطهارةً لأنفسنا وتزكيةً لنا، وكفّارةً لذنوبنا، فكُنّا عنده مسلِّمين بفضلكم ومعروفين بتصديقنا إياكم»٢.
لقد بيّنت هذه الفقرات جميع خصائص حقيقة الولاية المطلقة و مميزاتها التي تتجلّى وتظهر من النفوس القدسيّة للمعصومين عليهم السلام، كما أنّها وضّحت بشكلٍ جليٍّ الاتّحاد العينيّ والمصداقيّ للولاية المطلقة لحضرة الحقّ تعالى مع ولاية
هذه الذوات المقدّسة، وبما أنّ ولاية الحقّ ليس لها مِثل أو شبيه ولا تقبل أيّ غيرٍ في محيط تصرّفها، فلا بد أن تكون ولايةُ المعصومين عليهم السلام نفسَ ولاية الله تعالى وعينَها حقيقةً وواقعًا.
وبهذا اللحاظ، يكون نظر العارف إلى الإمام عليه السلام نظرًا آليّاً ومِرآتيّاً لا نظرًا استقلاليّاً، وما يتجلّى في المرآة يعود للّه تعالى و يختصّ به لا إلى شخص الإمام عليه السلام، لأن الإمام عليه السلام ليس لديه شيء من قِبل ذاته، ولا يمكنه أن يدّعي لنفسه شيئًا من هذه الولاية، و من هنا فإنّ هذه الولاية في أيّ مظهرٍ ظهرت وضمن أيّ قالبٍ كانت -سواءً كان ذلك المظهر هو الإمام عليه السلام أم غيره- فهي مملوكةٌ للّه تعالى مختصّةٌ به، وليست مرتبطةً بهذا المظهر.
فيض روح القدس ار باز مدد فرمايد | *** | دگران هم بكنند آنچه مسيحا مى كرد۱ |
[المعنى: إذا تفضّل علينا روح القدس وأفاض علينا من مدده، فيستطيع الآخرون أن يفعلوا ما كان يفعله المسيح].
وبما أنّ حقيقة الولاية (التي تعني الإحاطة الوجوديّة بمظاهر عالم الوجود) هي حقيقةٌ كليّةٌ تتميّز بجنبة السعة الوجوديّة، وبمقتضى الحقيقة الإطلاقيّة لحضرة الحقّ؛ فإنّ ولايته أيضًا تتّصف بهذه الصفة وتختصّ بهذه الخصوصيّة، وبالتالي فإنّ تنزّلها في عالم الوجود وسريانها في عوالم الإمكان هو على نحو التشكيك وذو مراتب مختلفةٍ، وذلك بالبيان التالي وهو: أنّ كلّ ما يصدر من فعلٍ وتصرّفٍ في أيّة مرتبةٍ من مراتب الوجود -سواءً كانت صادرة من المجرّدات أم من الماديّات أو أيّ تعينٍ من التعيّنات ولو كان بمقدار جناح بعوضةٍ أو أقلّ من ذلك- هي جميعها عين الولاية المطلقة لحضرة الحقّ تعالى، وهي من خلال التنّزل في هذه المرايا والوسائط، تظهر بهذا الشكل المحدود وتبرز بهذا القالب المعيّن.
ومن الطبيعي أنّه -و بمقتضى قاعدة «إمكان الأشرف»۱- فلا بدّ أن تكون هذه الحقيقة العالية وهذا السرّ الذي يحكم عالم الوجود، موجودًا في ذات من الذوات المتمكّنة في عالم الإمكان بنحوٍ أشرفَ وأوسعَ وأعلى وأجمع من سائر الممكنات الأخرى، وهذه الذات هي النفس المقدّسة للمعصوم عليه السلام، والتي يمثّل الوجود المبارك لخاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رأس السلسلة و نقطة الوصل الأولى فيها، حيث قال حضرة الحقّ تعالى في حقّه:
«لولاك، لما خلقتُ الأفلاك»٢.
و هو ما نظمه الشاعر في قوله:
تاج سرت افسر لعمرك | *** | ديباي برت قباي لولاك |
فرموده به شأنت ايزد پاك | *** | لولاك لما خلقت الافلاك٣ |
[يقول: تاج رأسك علامته عبارة «لَعَمْرِكَ» (أي قسمُ الله تعالى باسم النبي)، ورداؤك قوله «لولاك» لقد قال الله في شأنك: لولاك لما خلقت الأفلاك].
وكم هو جميل ورائع الكلام الذي ذكره في هذا الباب العارف الكبير الشيخ محمود الشبستري قدّس الله سره، حيث قال:
۱. يكي خطّ است ز اوّل تا به آخر | *** | برو خلق جهان گشته مسافر |
٢. در اين ره انبياء چون ساربانند | *** | دليل و رهنماي كاروانند |
٣. وز ايشان سيّد ما گشته سالار | *** | هم او اوّل هم او آخر در اين كار |
٤. احد در ميم احمد گشته ظاهر | *** | در اين دور اوّل آمد عين آخر |
٥. ز احمد تا احد يك ميم فرق است | *** | جهاني اندر آن يك ميم غرق است |
٦. | *** | بر او ختم آمده پايان اين راهدر او منزل شده ادعوا إلى الله |
۷. مقام دلگشايش جمع جمعست | *** | جمال جانفزايش شمع جمع است |
۸. شده او پيش و دلها جمله در پي | *** | گرفته دست جانها دامن وي |
٩. در اين ره اولياء باز از پس و پيش | *** | نشاني دادهاند از منزل خويش۱ |
إنّ التوسّل بالإمام عليه السلام في نظر العارف هو عين التوسّل بذات الحقّ تعالى، وهو يرى الله في هذا التوسّل ويشاهد أن الأثر من الله ويدرك بذلك ولاية الله، ولا يرى أنّ الأثر من عند الإمام، بل يعتبر أنّ الإمام واسطة فقط ليس له في ذاته أيّ شيء، بل هو مقابل ولاية الحقّ صفر؛ حيث لا يوجد إلّا الحقّ تعالى فقط.
أما سائر الناس فليسوا كذلك، حيث إنّهم يفتحون للإمام عليه السلام في حياتهم حسابًا خاصًّا مقابل الله تعالى، ويعتبرون أنّ طريقهم إلى الله مغلقٌ بينما طريقهم إلى الإمام عليه السلام مفتوحٌ، فهم يضعون الله تعالى في مرتبةٍ بعيدةٍ عن إدراك البشر ومعرفتهم ويعتقدون أنّ الوصول إليه محالٌ، ويزعمون أنّهم قد تعلّقوا بحبل الإمام عليه السلام وعنايته، وهم يتصوّرون أنّهم بذلك يمشون في الطريق الموصل إلى باطن الولاية وحقيقتها، ويحسبون أنّ هذا الأمر سيجعلهم مشمولين لكرامة صاحب الولاية ولطفه، غافلين عن أنّ هذا الإمام الذي يتوسّلون به من خلال هذه النظرة ليس هو الإمام الحقيقيّ، بل هو وهمٌ مخلوقٌ لتخيّلاتهم،
وجاهلين بأنّ تلك الولاية التي يتمّ النظر إليها بمنظارٍ استقلاليٍّ وموضوعيٍّ ليست ولايةً واقعًا، بل عبارةٌ عن أوهامٍ أفرزتها أذهانهم، لا انطباق لها على الحقّ والواقع، و ذلك كما يقول العارف الكبير:
رمد دارد دو چشم اهل ظاهر | *** | كه از ظاهر نبيند جز مظاهر۱ |
[يقول: عيون أهل الظاهر مصابة بالرمد، لأنّها لا ترى من المظاهر إلا الظاهر].
إنّ العارف يشاهد حقيقة الإمام عليه السلام في جميع مظاهر عالم الوجود وصوره، وفي تمام حركاته وسكناته، بينما يراه الآخرون في صورةٍ خاصّةٍ و جهةٍ خاصّةٍ ومكانٍ خاصٍّ وهويّةٍ خاصّةٍ.
كان المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه يقول:
«إنّ كلّ عينٍ تستيقظ من النوم صباحًا، ولا يقع نظرها أوّلًا على إمام الزمان هي عينٌ عمياء»٢
إنّ إمام الزمان عليه السلام في كلّ مكانٍ وهو توأمٌ مع كلّ شيءٍ من الأشياء الموجودة في العالم، بل وجود جميع الأشياء بوجودها القيّومي قائمٌ به، فكيف يمكن أن يغفل العارف لحظةً واحدةً ويسهو قلبه وضميره عن ذاك الإمام، أم كيف يمكن ألّا يكون معه في كلّ آنٍ!؟ إنّ سر العارف وضميره ونفسه وروحه قد امتزجت بسرّ الإمام وضميره وقلبه ونفسه كما يمتزج السكر بالحليب ويذوب فيه، فإنّه إذا امتزج السكر بالحليب سيغدو فصلهما عن بعضهما مستحيلًا. وفي اللحظة التي يحصل فيها هذا الافتراق والامتياز ستكون هي اللحظة التي يهلك فيها العارف ويتحقّق فيها موته وفناؤه فورًا وبشكلٍ مباشرٍ.
الردّ على الإشكال الذي يتهم العرفاء بقلّة توسلهم بالأئمّة عليهم السلام
لقد جاء في بعض الكتب التي ذكرت أحوال العظماء أنّه: «الإشكال الذي يرد على العرفاء وأهل التوحيد هو أنّهم قليلًا ما يتوسّلون بالأئمّة عليهم السلام، وأنّهم يكتفون في مجالسهم بقراءة القرآن وذكر المسائل التوحيديّة فقط، ولا يُرى في هذه المجالس حضورٌ فعّالٌ لذكر مصائب المعصومين عليهم السلام وقراءة العزاء والالتجاء إليهم والابتهال بهم»
عجبًا! يتصوّر هؤلاء أنّ التوسّل بالأئمّة وإحياء مجالس ذكرهم منحصرٌ فقط في اللطم والضرب على الرأس، ويتصوّرون أنّ رفع الصوت بالنواح والعويل والصراخ المتعارف في مجالس العوامّ هو الميزان الكاشف عن مدى التعلّق بالأئمّة والولاء لهم والغرق في حبّهم! ويعتبرون أن التمسّك بولاية أهل البيت إنّما يكون بالبكاء على مصائبهم في مجالس العزاء، ويرون أنّ المجلس لا يكون مجلس ذكرٍ لأهل البيت و مجلس إحياءٍ لسنّتهم وأمرهم إلّا إذا قُرأ العزاء في ذاك المجلس وجرت دموع الحاضرين وجرى اللطم فيه بأعلى وتيرةٍ، وقام جميع الحاضرين بتعرية صدورهم عند ذكر المصيبة الواردة على أئمّة الهدى وانشغلوا بلطم الصدور وضرب الرؤوس، وبعدها يفقدون توازنهم ويقعون على الأرض في حالةٍ من عدم الشعور والاضطراب، أو عندما يضربون وجوههم ورؤوسهم بأنواع السلاسل وسائر الوسائل الأخرى، فيجرحون أنفسهم وتجري الدماء على وجوههم وأجسامهم! ويعتقدون أنّهم بفعلهم هذا يكونون قد دخلوا إلى حريم الإمام عليه السلام وحرمه، وأنهّم بذلك يستوجبون عناية الإمام وكرمه ولطفه، وأنّهم يعرضون بذلك ولاءهم على أئمّتهم ويظهرونه لهم، ويعتبرون أنّهم قد صاروا من أقرب المقرّبين إليهم ومن أخصّ خواصّهم، ويسخرون من الآخرين ويهزؤون بهم لأنّهم بعيدون عن حريم الولاية وفاقدون للطف الإمام عليه السلام وعنايته!
إنّ هؤلاء ينظرون إلى الإمام من جهة مصائبه فقط، ولذا ترى أنّ الإمام الذي يستحقّ احترامًا أكثر عندهم وقيمته أكبر لديهم هو الإمام الذي جرت عليه المصائب والمحن والأذى من قبل المعاندين والظالمين بشكلٍ أشدّ، فلذا صار سيّد الشهداء مورد إكرامٍ وإعزازٍ؛ باعتبار ما تحمّله من مصائب وما جرى عليه من أمور في يوم عاشوراء، وكذا الحال بالنسبة للإمام موسى بن جعفر عليهما السلام؛ حيث لاقت مجالس العزاء عليه رواجًا باعتبار أنّه عانى سنين في السجن وابتُلي بأنواع البلاء والأذى والمحن، لكنّهم قلّما يتكلّمون عن سائر الأئمّة عليهم السلام ويأتون على ذكر مصائبهم أو يبرزون اهتمامًا بها، بل حتّى سيّد الشهداء عليه السلام لو كان قد ارتحل عن الدنيا بطريقةٍ غير هذه ولم يكن قد ابتُلي بهذه المصائب، لما كان له ذاك الرونق ولما لاقى ذاك الرواج والاهتمام عندهم، ولما وُجد له متاعٌ يُعرض في تلك المجالس.
إنّ هؤلاء لغافلون عن أنّ سيّد الشهداء كان قبل حادثة عاشوراء وواقعة كربلاء إمامًا معصومًا، والإمامُ إمامٌ في أيّ حالٍ وأيّ مكانٍ كان، سواءً ثار أم سكت، وسواءً ظهر وبرز في الملأ و أمام أعين الناس أم جلس في منزله وانعزل عن الناس؛ فهو في جميع حالاته إمامٌ نتّبعه وأسوةٌ نقتدي به.
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«الحسنُ والحُسَين إمامانِ قامَا أو قَعَدا»۱،ومضمون هذا الحديث يسري أيضًا على سائر الأئمّة عليهم السلام، وعليه فلا يوجد أيّ فرقٍ من هذه الجهة بين سيّد الشهداء وبين الإمام الهادي أو الإمام العسكري أو الإمام الباقر عليهم السلام.
نعم، الفارق في المسألة هو أنّ الإمام الحسين عليه بتحمّله ما جرى عليه من مصائب في يوم عاشوراء، والتبعات التي لحقتها أوجبت له درجاتٍ ومقاماتٍ خاصّةٍ غير مسألة الإمامة، كما ينقل نفس الإمام الحسين ذلك عن جدّه رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم حيث يقول في حقّه: «وإنّ لكَ في الجنان لدرجاتٍ لن تنالها إلّا بالشهادة»۱.
وهذه المرتبة لا علاقة لها بمسألة الإمامة والولاية، بل هي مرتبطةٌ بمسألة السعة الوجوديّة والسير في عالم الأسماء والصفات الإلهيّة التي لا تتناهى، والتي يعبّر عنها بحيثيّة عالم البقاء.
ومن هنا، لم تكن المسألة في قضيّة عاشوراء مجرّد مسألة قتلٍ وضربٍ وأسرٍ وأعمالٍ إجراميّةٍ خبيثةٍ؛ إذ من الممكن أن يحصل هذا في الكثير من الأحداث والوقائع في العالم، بل المسألة مسألة إدارة إمامٍ معصومٍ وتدبيره، فقبل أن نفكّر في نفس هذه الابتلاءات والمصائب التي جرت في ذلك اليوم، علينا أن نفكّر أوّلًا في كيفيّة ظهور هذه المسائل ونحو ذلك، وعلينا أن ننظر إلى العوامل التي جعلت تلك الحادثة مختلفة عن سائر الحوادث المشابهة التي حصلت طوالَ تاريخ البشريّة، ونبحث عن الحقيقة الكامنة في هذه القضيّة وما هو السرّ الذي جعل جميع الأولياء الإلهيين والأئمّة المعصومين عليهم السلام يدعوننا دائماً إلى إقامة المجالس لذكر هذه الواقعة العظيمة، وبيان ما حصل في هذه الحادثة المنفردة التي لم يحصل على مرّ التاريخ مثيلٌ لها، وعلينا أن نفكّر لماذا قال الإمام الرضا عليه السلام:
«يا ابن شبيب! إن كنتَ باكيًا لشيءٍ، فابكِ للحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام»٢.
ولماذا ورد هذا الكمّ من الروايات التي تُبيّن ثواب البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام؟ وهل يترتّب الثواب على مجرّد البكاء فقط؟ فكلّ شخص يشعر برأفةٍ ورحمةٍ تجاه أيّة قضيّةٍ، تجري دموعه دون اختيار، فأيّ منقبةٍ في ذلك؟! إنّ كلّ من مات أبوه أو ماتت
أمّه يبكي أيضًا، حتّى لو كان من أفسق الفسّاق وأشدّ المعاندين. فهل هذا البكاء من مثل هذا الشخص حسنٌ؟ أم هل يترتّب عليه ثواب؟! كما أنّنا نرى أنّ الأشخاص العاديّين أيضًا عندما يقرؤون قصّةً عاطفيّةً أو روايةً مفعمةً بالأحاسيس والمشاعر، تنكسر قلوبهم وتجري دموعهم ويبكون، وبعدما ينتهون من القصّة أو الرواية ينتهي ذلك الإحساس وينسون تلك الحالة التي لحقتهم، فتحلّ مكانها حالةٌ أخرى، ولا يبقى لدى الإنسان من ذلك سوى إتلاف الوقت وإضاعة الفرص.
يجب أن نفكّر جيّدًا في هذه المسألة ونضع أنفسنا في الطريق الذي رسمه لنا الأولياء الإلهيّون وأرشدونا إليه، و ألّا نسمح للأحاسيس والعواطف أن تتغلّب علينا، وينبغي لنا أن نشتغل فقط بالحقائق الأصيلة والمباني الإسلاميّة الرصينة، ضمن نظرةٍ أكثر عقلانيّة وواقعيّة.
ما حاجة الإمام الحسين عليه السلام إلى البكاء والعويل وإظهار الجزع والنواح؟! إنّ الإمام الحسين في مقامٍ منيعٍ ودرجةٍ رفيعةٍ تفوق تصورنا ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾۱، وهو في كمال العزّ والغنى وفي مقام العظمة والبهاء، وليس بحاجةٍ إلى هذه المجالس، فلو فرضنا أنّه لم يبكِ عليه أحدٌ منذ خلقة آدم حتّى قيام الساعة، فلن يهمه ذلك أبدًا؛ لأنّه مستغرقٌ في الحقّ وموجودٌ بوجود الحقّ، فما حاجته إلينا بعد ذلك؟ لقد اختار الإمامُ الله تعالى دون سواه، ولذا فهو يمتلك كلّ شيء! أمّا نحن المساكين الذين لا نمتلك شيئًا، فنحن المحتاجون الذين ينبغي أن نعلّق آمالنا بكرمه وننظر إليه مستعطفين؛ لعلّه ينظر إلينا ويلاحظنا بعين كرمه.
إنّ العلّة التي صارت بها عاشوراءُ عاشوراءَ، وتمايزت بها عن سائر الحوادث الأخرى، هي أنّ وقائع هذا اليوم و أحداثه قد حصلت بشكلٍ خرجت فيه جميع الصفات والأسماء الإلهيّة إلى منصّة الظهور والبروز من خلال الوجود المبارك لهذا الإمام، فالمسألة لم تكن مسألة شهادةٍ فقط، بل إنّ كيفيّة حصول القضايا والحوادث وبيان
المطالب، وطريقة تصرّف الإمام ورعاية الظروف والالتفات إلى لطائف عالم التربية والتزكية كلّها كانت قد تجلّت وترشّحت عن وجود الإمام عليه السلام، وبعبارةٍ أخرى: لو كانت هذه القضيّة قد حصلت بدون حضور الإمام الحسين عليه السلام، وكان تدبير هذه الواقعة وإدارتها بعهدة شخصٍ آخر مثل أبي الفضل العباس أو مثل علي الأكبر عليهما السلام، لما كانت عاشوراء بل كان لهذه الواقعة هويّةٌ أخرى، ولظهرت لها خصوصيّات غير هذه التي ظهرت، حتّى لو لم يختلف شيء من الأحداث التي جرت ولم يطرأ تغييرٌ على الابتلاءات التي حصلت؛ بمعنى أنّه لو حصل ما حصل من الضرب والقتل والعطش وتقطيع الأجساد والتمثيل بها وغيرها من أنواع البلاء تمامًا، لظلّت المسألة مختلفةً و متفاوتةً عن عاشوراء التي أدارها الإمام الحسين عليه السلام. وهنا نلتفت إلى أنّ سرّ المسألة يكمن في أنّ زمام الأحداث في يوم عاشوراء يجب أن يكون بيد الإمام المعصوم عليه السلام حتّى تصير عاشوراءُ عاشوراءَ، ولكي تظلّ هذه الواقعة إلى الأبد مشرقةً كنور الشمس على جبين التاريخ، يتّبعها الآخرون ويسترشدون بها، ويرتوي الجميع من فيض محيطها الذي لا ساحل له.
ولهذا السبب لن تصير أيّة واقعةٍ نظير واقعة عاشوراء، كما أنّه من الخطأ المحض نقل هذا الاسم واستعماله في غير هذه الواقعة، كذلك الأمر في إطلاق لفظ «الحسين» على شخصٍ غير الإمام الحسين عليه السلام، فهو إطلاقٌ باطلٌ؛ إذ ينبغي علينا أن لا نسرّي الإمام المعصوم إلى غير الإمام فنقول: «علي الزمان» و «حسين الزمان»، فهذا الكلام غلطٌ محضٌ، كما أنّ له تبعاتٍ وعواقب وخيمةً.
إنّ روح العارف وسرّه متّحدان مع الإمام الحسين عليه السلام، وبكاؤه على الإمام الحسين بكاء عشقٍ لا بكاء مأتمٍ، إنّ العارف يرى معشوقه في أعلى مرتبةٍ وأرفعٍ منزلةٍ من الجمال والبهاء والنور والعشق، ولا يمكنه أن يملك دموعه من الجريان عندئذٍ، فهو يدخل إلى حريم محبوبه من خلال هذه الدموع والآهات، فيلصق روحَه ونفسَه بروح المعشوق ونفسه، إنّ مجرّد ذكر الحبيب يقلبه رأسًا على عقب، بلا حاجةٍ إلى العزاء وذكر المصيبة، بل إنّ ذكر سيّد الشهداء يرفعه ويسمو به بشكلٍ مباشرٍ، ويحلّق به فيبقى بقربه
إلى الأبد، ويبقى إلى ما لا نهاية مع الإمام في رياض عالم القدس منهمكًا بالسير والمشاهدة والالتذاذ من الجذبات والجلوات الأحديّة التي تسطع على الإمام عليه السلام.۱
عندما كان يأتي ذكر سيّد الشهداء عليه السلام على مسامع السيّد الحدّاد والمرحوم الوالد رضوان الله عليهما، كنتَ ترى على صفحات وجههما حالةً من الانقلاب والوجد والشغف الشديد لا يمكن وصفها أصلًا وكما ذكر المرحوم الوالد قدّس سره في كتاب «الروح المجرّد»٢ فإنّ ذكر واقعة عاشوراء في أيام محرّم كانت تترك آثارًا واضحة من الوجد والعشق والهيام على وجنات السيّد الحدّاد، وكأنّ حلول هذا الشهر كان ينبئ بدخول فصلٍ جديدٍ من حياته، بل كانت أحواله تنقلب وتتغيّر كليّاً، فهو وإن كان بشكلٍ دائمٍ يعيش في حالة اتحادٍ مع حبيبه سيّد الشهداء عليه السلام، كما أنّ حالة المعيّة حاصلةٌ له باستمرارٍ، لكنّ دخول هذا الشهر عليه كان له جاذبيّةٌ خاصّةٌ وتلألؤًا مختلفًا. لقد كانت زيارة عاشوراء تُقرأ في منزله صباح كلّ يومٍ، وفي المساء كان الحديث يدور حول الحالات والعوالم والحقائق التوحيديّة المتجلّية من نفس الإمام، أمّا في يومي تاسوعاء وعاشوراء، فقد كان يعطي تلاميذه دستورًا بالنزول إلى الشوارع والمشاركة في مواكب العزاء، وكانت تُشاهد منه حالة انقلابٍ عجيبةٍ؛ فكانت دموعه تجري على وجنتيه كالميزاب وبدون اختيارٍ منه، ولم يكن يقدر على التكلّم و التعامل مع الناس، بل كان يشتغل بمناجاة معشوقه والابتهال إليه في صميمه و باطنه بدون ضجيجٍ وبعيدًا عن الضوضاء والجلبة.
وأمّا بالنسبة إلى المرحوم الوالد رضوان الله عليه، فإنّني لم أرَ في حياتي وفي طول عمري أحدًا لديه هذا القدر من العشق والحبّ لسيّد الشهداء عليه السلام مثل ما كان لديه، فقد كان ينتهز أيّة فرصةٍ لإقامة مجالس العزاء والذكر، ولم يكن يكتفي بإلزامنا فقط بإقامة مجالس العزاء وذكر أهل البيت -سواءً في مشهد أم في سائر الأماكن الأخرى- بل
كان يجبرنا أيضًا على ذكر المصيبة بصوتٍ عالٍ، وإذا فُرض أن شخصًا تخطّى هذه الأوامر، كان يعاتبه ويؤاخذه على ذلك. وكانت مجالس العزاء وذكر المصاب تستمرّ تمام مدّة شهري محرّم وصفر صباحًا في منازل أصدقائه ورفقائه، وكان يُشارك بنفسه في هذه المجالس ويحضرها، كما كان يُلزمنا في أيّام عاشوراء بذكر العزاء على المنبر وباللطم أيضًا، وكان يضع عمامته جانبًا ويقف ليشارك الناس في اللطم، كما أنّه كان يعقد ليالي الجمعة في منزله في مشهد مجلسَ عزاءٍ مختصرٍ يحضره ما يقرب من عشرين شخصًا، وكان الخطيب يذكر المصيبة فقط دون أن يتحدّث بشيءٍ آخر، وبعدها كان يضع الطعام.
ثمّ بعد كلّ هذا، أليس من الإجحاف وعدم الإنصاف أن نُشكل على العرفاء، ونقول: إنّهم قليلًا ما يتوسّلون بالذوات المقدّسة للأئمّة المعصومين عليهم السلام، وأنّ أكثر أوقاتهم يُصرف في الحديث عن التوحيد؟! إذا لم يكن هذا الذي يقومون به توسّلًا فأين هو التوسّل إذن؟!
نعم، هؤلاء الأعاظم لا يتوسّلون لقضاء حاجاتهم الدنيويّة، ولا ينثرون دموعهم لغلبة إحساساتهم وعواطفهم مثلما يفعل العوامّ، كما أنّهم لا يطلبون الإمام عليه السلام للأمور الدنيويّة، ولا يعتبرون أنّ التوسّل منحصرٌ فقط في إقامة المجالس المتكرّرة والتي تحوّلت إلى عادةٍ انطبع عليها الناس، ولا يرون أنّ مجرّد البكاء على سيّد الشهداء موجبٌ للقرب إلى الحقّ وتجرّد النفس واكتساب الفضائل المعنويّة.
بل إنّ هذه الطائفة يقيمون مجالس العزاء لأهل البيت عليهم السلام لتهيئة الأرضيّة المناسبة لإظهار مدرسة هؤلاء العظماء صلوات الله عليهم وإبراز طريقتهم وإيضاح ممشاهم والكشف عن هدفهم؛ فهم يبحثون في هذه المجالس عن المدرسة التوحيديّة للأئمّة المعصومين عليهم السلام وطريقتها، ويستفيدون من الأحداث والقضايا التي جرت على هؤلاء الطاهرين درسًا وعبرةً، ويتّخذونهم أسوةً في العبور عن عقبات النفس الأمّارة وارتقاء القوى العقلانيّة والروحيّة وتزكية النفس وتهذيبها، ويوضّحون للآخرين الطريق الصحيح لهؤلاء العظماء، ويشرحون لهم منهجهم القويم، فضلًا عن أنّهم يبيّنون
كيفيّة طريق أولياء الله في علاقتهم بالأحداث والظواهر المختلفة التي يواجهونها في حياتهم، كما يجري الكلام في هذه المجالس عن أسّ الحياة المعنويّة وأساسها، تلك الحياة التي تبلورت في مسيرة أولياء الحقّ وحياتهم، وتُوَضّح في هذه الجلسات الغايةَ والهدف من أيّة حركةٍ أو سكونٍ جرت في حياة الأئمّة المعصومين عليهم السلام.
ما هو الهدف والغاية من الثورة المقدّسة لسيّد الشهداء عليه السلام؟ ولماذا ضحّى الإمام بنفسه وبذرّيته وأصحابه وقدّمهم فداءً؟ بماذا كان الناس منشغلين في ذاك الزمان، وفي أيّ طريقٍ كانوا يسيرون حتّى استوجب أن ينبّههم الإمام بهذا الشكل، ويوقظهم من نوم غفلتهم؟ أوَلم يكونوا يقيمون الصلاة ويؤدّون الصيام ويذهبون إلى الحج؟! أوَلم يكونوا يجاهدون ويقيمون صلاة الجمعة؟! لقد كانوا يقومون بكلّ ذلك، لكنّ أساس الدين وأصله لم يكن موجودًا! إنّ أساس الدين هو الولاية، وأساس الدين هو اتّباع الإمام المعصوم عليه السلام والإطاعة المحضة والانقياد التامّ لأوامره، وكما قال الإمام الباقر عليه السلام:
«ولم ينادَ بشيءٍ كما نُودِي بالولاية»۱.
إنّ هذه الولاية هي الطريق إلى التوحيد والمسير إليه؛ وهي تمثّل مسار التحرّر والحريّة مقابل كل ما سوى الحقّ، وهي مسير العبوديّة والعجز والفقر مقابل حضرة الحقّ تعالى، مسير علوّ النفس واعتلائها مقابل الحطام الدنيوي الفارغ الذي لا قيمة له؛ ألم يقل أمير المؤمنين لابنه الحسن بن علي عليهما السلام:
«يا بُني ...، وأكرم نفسك (وأعززها) عن كلّ دنيّةٍ (في هذه الدنيا وعن كلّ حاجةٍ لا قيمة لها) وإن ساقتك إلى الرغائب؛ فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً (أي إنّك إن تفعل ذلك، فلن تستطيع أن تحصل على شيء يوازي ما بذلته من المناعة والعزّة والعظمة والحرية والرفعة التي تتمتع بها نفسك)»٢.
إنّ مدرسة الإمام الحسين هي هذه المدرسة، مدرسة عرفان الحقّ والمعرفة الواقعيّة للحقّ تعالى والعبوديّة المحضة أمام حضرة الحقّ والتخلّي عن كل قيدٍ نفسانيّ وتعلّقٍ شهوانيّ وهوى شيطانيّ، هي مدرسة التحرّر عن كلّ جمود وتعصّب جافٍّ وخالٍ عن المحتوى، وهي مدرسة التخلّص من أسر الهوى والهوس والأحاسيس والشائعات والتقليد الأعمى للمبادئ الفاسدة المفسدة، وهذا ما يظهر بوضوح في خطابات الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء. إنّ مدرسة سيّد الشهداء هي مدرسة التعقّل لا التقليد الأعمى، وهي مدرسة التدبّر، ومدرسة الحريّة وتطوّر الفكر وانبساطه، ومدرسة التحقيق واختيار الأفضل، لا مدرسة العصا والسوط والضرب والشتم؛ فتلك المدرسة هي مدرسة أبي بكرٍ وعمر ويزيد ومعاوية.
إنّ مدرسة هذا الإمام هي الرجوع إلى العقل والعودة إلى الفطرة والوجدان، والخروج من وادي الجهل والضلالة والجمود والتصلّب والتخلّف العقلي، وهي المدرسة التي تتضمّن جميع الجهات الوجوديّة للإنسان -الدنيويّة والأخرويّة- وحيثيّاته الظاهريّة والباطنيّة والروحيّة والنفسيّة، فالشيء الوحيد الذي يُطرح في هذه المدرسة و يُدافِع عنه هو التوحيد فقط، وفي هذه المدرسة، الله موجودٌ وغيره باطلٌ، و في هذه المدرسة لا سبيل للأحاسيس ولا قيمة فيها للنفس.
من هنا يُخطئ من يقول: إنّ المسألة التي كانت حاكمة في واقعة عاشوراء هي مسألة العشق؛ لأنّ العشق بدون تعقّل يعني الجنون، والعشق الذي يكون منفصلًا عن مباني الشرع يعني اللا أباليّة و إرضاء النفس، فالعشق البعيد عن الموازين والمباني يعني الهوس والتمرّد. إنّ العشق الذي له قيمة في مدرسة الإمام الحسين عليه السلام هو العشق الذي يقوم على أساس الفهم والإدراك والتشخيص والتعقّل والدراية، لا القائم على أساس الهوى والهوس وغلبة الأحاسيس؛ فجميع أصحاب سيّد الشهداء في واقعة كربلاء كانوا عاشقين للإمام، لكنّ عشقهم هذا ليس عشقًا مجازيّاً وصوريّاً،
وليس عشقًا نابعًا من الإحساس والعاطفة، فذاك عشقٌ لا فائدة منه وعُملةٌ لا قيمة لها.
إنّ عشق الأصحاب كان عشقًا نابعًا من الفهم والنظر الدقيق، وكان عشقًا على طبق الموازين والمباني العقلائيّة والشرعيّة، كان عشقًا للحقيقة النورانيّة والعظمة المطلقة والنفس القدسيّة، كان عشقًا لمبدأ الوجود والبهاء الأتمّ والمجلى الأكمل والأوسع لحضرة الباري تعالى؛ فأين هذا العشق من العشق الذي يتمّ الحديث عنه في المجالس والمحافل؟! وأين هذا من العشق الذي يتغيّر ويتبدّل إلى حالةٍ من اليأس والنفور من المعشوق بأدنى تغيير في التوقّعات أو تبدّل فيما يُنتظر منه؟! وأين العشق العادي من العشق الذي يقول فيه الحبيب لحبيبه: «والله يا ابن رسول الله لوددت أنّي قتلتُ ثمّ نشرتُ ألف مرّةٍ وإنّ الله تعالى قد دفع القتل عنكَ»۱؟! إنّ عشق الأصحاب رضوان الله عليهم مبنيٌّ على أساس الفهم واليقين وإدراك الحقيقة، بينما ذاك العشق مبنيٌّ على أساس الجاذبيّات الفارغة والاعتبارات والدعايات والإشاعات وسائر الأمور التي لا تعتمد على أساس؛ فانظر ما أعظم التفاوت بين هذين العشقين!
ولذا نرى أنّ مجريات حادثة كربلاء قد بُيّنت على لسان أولياء الحقّ بشكلٍ متمايزٍ عن بيانهم لسائر المجريات والأحداث الأخرى، يقول أمير المؤمنين عليه السلام عن هذه الحادثة:
«مُناخُ ركابٍ ومصارعُ عشّاقٍ؛ شهداء لا يسبقهم مَن كان قبلهم ولا يلحقهم مَن بعدَهم»٢.
لا يمكن للعقل أن يمنع الإنسان من التحرّك في وادي العشق، كما لا يمكن للعشق الواقعيّ أن ينفصل عن المباني والموازين العقليّة، إنّ العقل يدعو الإنسان إلى التقرّب
من الحبيب والفناء فيه، ويأمره أن يتوسّلَ بأيّة وسيلةٍ يمكنها أن تساعده للوصول إلى هذا الهدف، ويرى أنّ كلّ ما يُقرّب من الحبيب أمرٌ ممدوحٌ وجائزٌ، بل لازمٌ، كما أنّه يحذّره من كلّ ما يمكن أن يكون عائقًا أمامه وقاطعًا للطريق وحاجزًا عن الدخول في حريم حضرة الحقّ تعالى وينهاه عنه.
إنّ العقل موهبةٌ إلهيّةٌ منحها الله للإنسان لتصحيح المسير وتطبيق الفكر والعمل على أساس الواقع والحقيقة، فيتحرّك نتيجةً لذلك نحو المقصد الأعلى والغاية القصوى ويصل إلى فعليّةِ جميعِ الاستعدادات البشريّة الكامنة فيه والكمال المطلوب منه، وهذا العقل بعينه يدعو الإنسان إلى سيّد الشهداء، ويدعوه للفناء به والتسليم له وتفويض جميع شراشر وجوده وآثار حياته إليه؛ فهذا العقل لا يمكن أن يكون حاجزًا في طريق الوصول إلى هذا الإمام أو مانعًا منه، حتّى يضطرّ الإنسان أن يستفيد من قوّة العشق والمحبّة للوصول إلى هذا الهدف، وإذا كان هناك عقلٌ يريد أن يكون مانعًا من الوصول إلى هذا الهدف ويحرم الإنسان من هذه النعمة العظمى، ويعيقه عن تحقيق السعادة في الدارين من خلال طرح بعض القضايا وترتيب الاستدلالات، فذلك ليس بعقلٍ بتاتًا، بل هو عبارةٌ عن القوّة الواهمة والمتخيّلة قد أخذت دور العقل، وحاولت إظهار هذه القياسات الواهية على أنّها أدلّة وجيهة؛ فعلى الإنسان أن يرجع إلى الحقائق المتقنة والمباني الرصينة والأصول الموضوعة لكي يصل إلى الحقيقة و يدرك كُنه القضايا العقلانيّة، فيستمدّ منها العون ويطبّق طريقه وممشاه على الحقّ والواقع بعيدًا عن الوساوس والتوجيهات النفسيّة. وهنا نصل إلى فهم هذه النكتة، وستتضح لنا العلّة في ترغيب الأئمّة عليهم السلام وحثّهم على إقامة مجالس العزاء لسيد الشهداء عليه السلام.
يقول زيد الشحّام:
«كُنّا عند أبي عبد الله عليه السلام ونحن جماعة من الكوفيّين، فدخل جعفر ابن عفان على أبي عبد الله عليه السلام فقرّبه وأدناه ثمّ قال: يا جعفر! قال: لبيك جعلني الله فداك!
قال: بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين وتجيد.
فقال له: نعم جعلني الله فداك.
قال: قُل!
فأنشده صلى الله عليه فبكى عليه السلام ومن حوله حتّى صارت الدموع على وجهه ولحيته.
ثمّ قال: يا جعفر والله لقد شهدتُ ملائكة الله المقرّبين ههنا يسمعون قولك في الحسين عليه السلام، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر. ولقد أوجب الله تعالى لك يا جعفر في ساعته الجنّة بأسرها، وغفر الله لك.
ثمّ قال عليه السلام: ألا أزيدك؟
قال: نعم يا سيّدي.
قال: ما من أحدٍ قال في الحسين شعرًا فبكى وأبكى به إلّا أوجب الله له الجنّة وغفر له»۱
إنّ السبب في هذا الإصرار والعِلّة الكامنة وراء هذا التأكيد على إقامة مجالس العزاء هو أنّ الرحمة الإلهيّة تتنزّل بواسطة ذكر سيّد الشهداء على المجلس وعلى الأشخاص الحاضرين فيه، كما أنّ الملائكة تحضر في ذلك المحفل، وحضور الملائكة موجبٌ لاستجلاب الفيض والنور والرحمة الإلهيّة، فيضع الإنسان نفسه في حريم الولاية و يجعل نفسه تحت إشراف نفس الإمام عليه السلام؛ ومن هنا، يجب على الإنسان أن يعرف قدر هذه الموقعيّة، فلا يضيّع هذه الفرصة دون مقابل، وأن يسعى بجهده ليضع نفسه واقعًا في هذا المسير والمنهاج، وأن يقترب بشكلٍ أكبر من هذا الحرم والحريم و يدنو من مسير هذا الإمام وطريقه، ويحرص أن تكون مسيرة حياته قائمةً على أساس سيرة هذا الإمام ومنهجه.
وخلاصة الأمر ولبّ الكلام هي أنّ على الإنسان عندما يخرج من مجلس العزاء أن يبني على أنّه قد خرجً مختلفًا عمّا كان عليه قبل دخوله وأنّه أضحى إنسانًا آخر، وأن
يرى أنّ الوجود الباقي للإمام عليه السلام قد رافقه، وأن يعاهد الإمامَ على أن يحفظ وجوده إلى جانبه، و أن يرعى ذلك حقّ رعايته، وعليه أن يرى نفسه إلى جانب الإمام عليه السلام في خيمته وتحت إشرافه ونظره وأن يستشعر معيّته دائماً. حينئذٍ، يصير هذا المجلس نفس ذلك المجلس الذي قصده الإمام الصادق عليه السلام، وحينئذٍ سوف يمنح الله تعالى لهذا الشخص ما بشر به من الثواب والأجر، وإلّا فإن كان المقصود هو الحضور فقط ومجرّد الاستماع والإحساس والبكاء، ثمّ الخروج والاستمرار بأداء تلك الأعمال نفسها التي كان يقوم بها قبل أن يشارك في هذا المجلس، دون أن يشعر بأيّ أثرٍ لهذا المجلس في نفسه وفكره وعقله وروحه، ودون أن يطوّر نفسه ويصقلها، فلن يحصل هذا الشخص على الثمرة المرجوّة من المجلس، إذ العزاء بهذا الشكل سيكون عزاء تكراريّاً وعادةً ممزوجةً باللذائذ النفسانيّة لا الروحيّة.
لقد كان المرحوم الحاجّ هادي الأبهري الخانصنمي (رحمة الله عليه) من جملة الرفقاء والأصدقاء الأعزّاء للمرحوم الوالد رضوان الله عليه، حتّى أنّه كان قد أجرى صيغة الأخوّة معه، وكان هذا الحاجّ رجلًا جيّدًا يمتلك ذهنًا صافيًا وضميرًا طاهرًا ومنزهًا من العيب، ومضافًا إلى ذلك فقد كان من الوالهين بأهل بيت الرسالة عليهم السلام والمتعلّقين بهم خصوصًا بسيّد الشهداء عليه السلام، ولم يكن الحاجّ هادي متعلّماً بل كان أميّاً، حتّى أنه لم يكن يُحسن كتابة اسمه، ولذا فقد اتّخذ لنفسه ختماً كان يستخدمه بدلًا من إمضائه. وكان هذا الحاجّ يمتلك حالاتٍ عجيبةٍ، فقد كان لديه اطّلاع على عالم البرزخ إلى حدٍّ ما، وكان بإمكانه أن يُشخّص بواطن الأشخاص، ويميّز جيدًا بين المنافق والصادق، وكان مطّلعًا على نوايا الناس، وعندما كان يذهب إلى منزل أحد أصدقائه، أو للمشاركة في إحدى الجلسات، فإنّه لم يكن يسأل عن العنوان مع أنّه كان أميّاً، بل كان يقول: كنت أخرج من المنزل فأُلهَم الطريق نحو المقصَد حتّى أصل إليه، وأحيانًا كان يقول: كنت أرى حمامة أمامي، وكنت أمشي وراءها حيثما ذهبت حتّى أصل إلى المنزل المطلوب.
وكان قد قضى -بصفاء ضميره الخاصّ- مدّةً طويلةً من عمره بالابتهال والبكاء والتوسّل والعزاء على سيّد الشهداء عليه السلام، وقد شكّل البكاء الطويل في الليل والآهات في النهار سيرةً مستمرّةً في حياته، بحيث كان يقول: «لقد قضيت حدود اثني عشر عامًا من عمري في البكاء والنحيب وذكر مصائب أهل بيت العصمة»، ومن خلال هذه التوسّلات وهذا الإخلاص انفتحت على نفسه بعض النوافذ، وباتت حقائق عالم البرزخ منكشفةً لديه إلى حدٍّ ما، وكان قد ذهب إلى الكثير من العلماء الكبار؛ ومن جملة من وصل إليه: المرحوم آية الله الشيخ مرتضى الطالقاني في النجف الأشرف، كما كان على علاقةٍ بالمرحوم آية الله الحاج السيّد محمّد هادي الميلاني رحمة الله عليه، وبقي يتردّد عليه إلى آخر عمره، وكان السيّد يُعظّمه ويُكرّمه كثيرًا، كما أنّه أدرك المرحومَ آية الله الحاج الشيخ محمّد جواد الأنصاري رضوان الله عليه واستفاد من فيض جلساته.
لكنّ الشيء الذي كان يُعتبر نقطة ضعفه وموضع نقصانٍ لديه هو أنّه -كما هو شأن الكثير من غير المطّلعين من أهل المعنى والشهود- كان يعتبر أنّ تمام مسألة التكامل الإنساني ونهاية مدارج هذا الكمال هي في الابتهال والتوسّل بالأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين بالشكل الذي تقدّم ذكره، ولم يكن يعنيه أيّة مرتبة فوق ذلك. فالمجلس الذي كان يعتبره ذا قيمة إنّما هو المجلس الذي تذكر فيه المصائب، ويُتلى فيه عزاء سيّد الشهداء عليه السلام، كما أنّه كان يرى أنّ التوسّل بأهل البيت عليهم السلام منحصرًا فقط في شكل قراءة العزاء واللطم، ومقتصرة على الحضور في الهيئات۱ التي تُعنى بإقامة العزاء بالشكل المتعارف، ولم يكن يتصوّر أيّ معنىً أعمق من هذا النوع أبدًا، بل كان يعترض على الأشخاص الذين لم يكونوا يقيمون مجالس
العزاء والتوسّل بالشكل الذي كان يقيمه هو. ولهذا السبب لم تكن علاقته جيّدة بأهل العرفان والتوحيد، بل كثيرًا ما كان يستشكل عليهم ويطرح بعض الإيرادات والانتقادات.
أذكر أنّني في أيّام الطفولة، عندما كنت في سن الأربعة عشر عامًا، قرأت يومًا في محضره هذا الغزل لمغربي:
۱. ما جام جهان نماي ذاتيم | *** | ما مظهر جملهء صفاتيم |
٢. ما نسخة نامه الهيم | *** | ما گنج طلسم كائناتيم |
٣. هم صورت واجب الوجوديم | *** | هم معني و جان ممكناتيم |
٤. برتر ز مكان و در مكانيم | *** | بيرون ز جهات و در جهاتيم |
٥. هر چند كه مجمل دو كونيم | *** | تفصيل جميع مجملاتيم |
٦. ما حاوي جملة علوميم | *** | كشّاف جميع مشكلاتيم |
۷. بيمار ضعيف را شفائيم | *** | محبوس نحيف را نجاتيم |
۸. گو مرده بيا كه روح بخشيم | *** | گو تشنه بيا كه ما فراتيم |
٩. اي درد كشيدة دوا جوي | *** | از ما مگذر كه ما دوائيم |
۱۰. چون قطب ز جاي خود نجنبيم | *** | چون چرخ اگر چه بي ثباتيم |
۱۱. هم مغربيايم ومشرق شمس | *** | هم ظلمت و چشمة حياتيم۱ |
وكان الحاج هادي يدخّن في أثناء قراءتي لهذا الغزل، فلمّا انتهيت من القراءة، ضحك وقال: «ما هذا الكلام الذي تتفوّه به! فالنبي لم يَصدر منه مثل هذا الكلام؟!»
لقد كان يعتبر أنّ أهلَ التوحيد منفصلون عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام ولهم طريق غير طريقهم، وأمّا نظره للمرحوم السيّد الحدّاد فإنّه وإن كان نظر احترام، إلّا أنّه كان في باطنه مُبتلى بنوعٍ من الصراع الذاتي في تطبيق مدركاته الخاصّة على الحالات والمشاهدات التي كان يراها من المرحوم السيّد الحدّاد، وكثيرًا ما كان هذا الصراع يظهر على فلتات لسانه بالكنايات والإشارات. وبما أنّ المرحوم الوالد رضوان الله عليه كان تلميذًا سلوكيّاً خاصًّا لمربي النفوس و الأستاذ الكامل السيّد الحدّاد، فإنّ المباحثات و النقاش بينه وبين الحاجّ هادي حول مسألة العرفان والتوحيد كانت مستمرّةً.
فمن جهةٍ، كان هناك صفاء الضمير والطهارة والصراحة التي كان يتمتّع بها هذا الرجل النوراني والعاشق لأهل بيت العصمة، فضلًا عن عقد الأخوّة بين هذين الشخصين، ومن جهةٍ أخرى، كان هناك شياطين الإنس وقاطعو الطريق والمعاندون لمدرسة التوحيد والعرفان الذين كانوا يستغلّون أيّة وسيلةٍ ويستخدمون جميع السبل للعمل على تشويش ذهنه الصافي ونظره الطاهر بالنسبة لأهل التوحيد، وخصوصًا بالنسبة للسيّد الحدّاد، وهذان الأمران المتناقضان قد سبّبا وجود معضلةٍ في العلاقة بين المرحوم الوالد وبينه، وكان ذلك يؤذي السيّد الوالد دائماً، وكان الوالد بدوره -وحفاظاً منه على علاقة الرفاقة والأخوّة ومن منطلق المروءة- لا يتوانى عن تقديم أيّ نوعٍ من المساعدات له ومدّ يد العون إليه في سبيل تصحيح طريقه وتبيين الحقائق التوحيديّة والمعرفيّة له. وإنصافًا لقد أوفى حقّ الأخوّة والرفاقة معه بالنحو الأتمّ والأكمل.
وفي ذلك يقول المرحوم الوالد رضوان الله عليه:
«لقد قام أعداء العرفان والتوحيد -الذين كانوا ذئابًا بصورة نعاج ومنافقين بلباس الأصدقاء والرفقاء- قاموا بتحريف صورة المرحوم السيّد هاشم الحدّاد قدس الله سرّه في عين المرحوم الحاج هادي، فصوّروه بأنّه شخصٌ منحرفٌ بعيدٌ عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام ومخالفٌ لطريق الولاء والمحبّة لهم؛ فتبدّلت نظرته إليه بشكلٍ كلّيٍ وتغيّر موقفه اتجاهه، فصار لديه سوء ظنٍّ شديدٍ بالمرحوم الحدّاد، وطرأت عليه تخيّلات وأوهام غريبة تتعلّق بشخصيّته، حتّى صار مسلّماً بالنسبة له أنّ طريق السيّد الحدّاد مختلفٌ عن طريق أهل البيت، وأنّ منهجه مخالف لمنهاج الشرع والأولياء الإلهيين»
وقد تعرض المرحوم الوالد قدس سرّه في كتاب «الروح المجرّد»۱ إلى ذكر بعض مسائل ذاك الزمان وما حصل فيه، فقد ذكر أنّه -أي الحاج هادي- وقع طعمة لحيل الغاوين والمعاندين وابتُلي بوساوسهم الشيطانيّة، فتصدّى بنفسه للتنقيص من شخصيّة السيّد الحدّاد والتعيير عليه والقدح فيه مع المخالفين لمدرسة الحقّ والتوحيد، وكان يشارك في مجالسهم ومحافلهم، وكانوا بدورهم يستفيدون بالشكل الأتمّ من نقطة ضعف المرحوم الحاج هادي هذه، فكانوا يحرّضونه من خلال التركيز على تهمة عدم إقامة مجالس العزاء وذكر المصائب ومجالس التوسّل ليدفعوه إلى انتقاد السيّد الحدّاد بلهجته الحادّة، فكان هذا الرجل البسيط ذو الضمير الصافي الذي لا تتجاوز مدركاته حدود هذه المسائل ولا يتعدّى فهمه عن هذه الأمور يتلقّى مسائل هؤلاء الخرافيّة وكلماتهم الفارغة الخاوية بالقبول، فقطع وشائج المحبّة بينه وبين المرحوم السيّد الحدّاد ووقف في صفّ المعاندين والمخالفين له؛ بحيث أنّه عندما تشرّف بالسفر لزيارة العتبات المقدّسة، لم يلتقِ بالمرحوم السيّد هاشم الحدّاد، بل عاد إلى إيران دون أن يراه.
لقد انزعج المرحوم الوالد رضوان الله عليه كثيرًا من هذا التصرّف وتكدّر صفوه، وقام بمؤاخذته ومعاتبته على هذا العمل بشكلٍ جديٍّ، وشدّد في الكلام والبحث معه حول السيّد الحدّاد، وبما أنّ ذاك المرحوم كان شخصًا صادقًا صافي القلب، فقد أثّر هذا الكلام فيه إلى حدٍّ ما، فقلّل من شدّة نظرته وحدّة موقفه من المرحوم السيّد الحدّاد.
واستمرّ الأخذ والردّ بهذا الشكل إلى أن تشرّف المرحوم السيّد الحدّاد بالذهاب إلى الحجّ، ومن باب الصدفة، فقد كان المرحوم الحاج هادي الأبهري أثناء عودة السيد الحداد قد تشرّف بزيارة العتبات المقدّسة، وبمجرّد وصول السيّد الحدّاد إلى كربلاء قام -وقبل الذهاب إلى منزله- بالتشرّف بزيارة سيّد الشهداء ثمّ بزيارة أبي الفضل العباس عليهما السلام، ثمّ بعد ذلك ذهب إلى منزله. لقد شاهد الحاجّ هادي هذا الأمر بنفسه فأثّر ذلك في نفسه تأثيرًا عميقًا، فانقلبت حالته دفعةً واحدةً واندثرت جميع الوساوس الشيطانيّة والصور الإبليسيّة التي كان المغرضون يبثّونها، وقد سحره هذا العمل من السيّد الحدّاد بحيث تقدّم أمامه وقام بالترحيب والاحتفاء به من خلال قراءة الأشعار التركيّة بصوتٍ عالٍ، والحاصل أنّه أصيب بحالٍ عجيبٍ وشغفٍ غريبٍ، بحيث أنّ ذكرى حاله التي لا تنسى ووضعه الذي لا يوصف ما زال باقيًا في خاطر الأصدقاء الذين كانوا حاضرين يومئذٍ.
يقول المرحوم الوالد قدّس سرّه:
«انظر إلى المصيبة أين وصلت؟! و إلى الفاجعة كم هي كبيرة! فقد بلغ الأمر إلى أنّه صار من اللازم لكي يتمّ تنزيه هذا الشخص (أي سماحة السيّد الحداد) وهو الذي يعدّ وجوده فانيًا في وجود صاحب الولاية، وروحه وسرّه مندكّة
في روحِ سيّد الشهداء وسرِّه، بل إنه قد أفنى جميع شراشر حياته وتوابعها في الذوات المقدّسة للمعصومين عليهم السلام، فصار عبارة عن الحقيقة المجسمّة للتوحيد والمظهر الأجلى للحقّ تعالى .. صار لازمًا الاستدلال والتمسّك بزيارته لسيّد الشهداء وأبي الفضل العباس عليهما السلام، لإثبات نزاهته وبراءته! ولقد آل أمر هذا الشخص الذي تبلور سرّ التوحيد في وجوده وتجلّى في نفسه سرّ الولاية إلى أن صار الموجب لتبرئته وطهارته من الذنوب هو زيارة الأئمّة عليهم السلام!».
واهاً لنا! والويل لهؤلاء الأشخاص الذين يحدثون هذه الأمور من حيث يعلمون أو لا يعلمون، فيحرمون الناس بذلك من نعمة الحضور عند هؤلاء الأولياء الإلهيّين والاستفاضة من إدراك هؤلاء العرفاء بالله! فهل هكذا يحاكم الشخص الذي يلهج دائماً بذكر «يا صاحب الزمان»، ويجعل ورده في الليل والنهار المناجاة الخمسة عشر للإمام السجاد عليه السلام، والذي يمسح رأسه ووجهه وعينيه بغبار ضريح الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام عند زيارته له، ويعتبر أنّ زيارة سيّد الشهداء عليه السلام كلّ يومٍ فرضًا واجبًا عليه، كما أنّ إطعامه لعموم الناس في أيّام محرّم مشهورٌ ومعروفٌ لأهل كربلاء، هذا الرجل الذي يرى أنّ الوصول إلى مقام التوحيد وعرفان الحقّ تعالى هو من عنايات التوسّل بباب الحوائج أبي الفضل العباس عليه السلام ومن فيض ألطافه، و يفتخر بنيله لهذا اللطف وهذه الكرامة؟! وهل يجوز أن نتّهم هذا الرجل بهذا الشكل الأبله و المجافي للإنصاف بأنّه ليس من أهل التوسّل بالمعصومين عليهم السلام!
يقول المرحوم القاضي رضوان الله عليه:
«لقد بتُّ في كلّ شبرٍ شبرٍ من صحن سيّد الشهداء عليه السلام من الليل حتّى الصبح».۱
كما يُنقل عنه أيضًا قوله:
«إنّ للتوسّل بسيّد الشهداء عليه السلام تأثيرٌ عجيبٌ في فتح الباب أمام السالكين إلى الله وكشف الحجب، بل لا يمكن فتح هذا الباب من دون التوسّل بسيد الشهداء عليه السلام»۱
وقد كان المرحوم العارف الواصل والعالم الكامل سند العلماء الربانيّين الحاج الميرزا جواد ملكي التبريزي قدس الله سره، معروفًا مشهورًا بتوسّلاته وابتهاله إلى الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وعباراته المنقولة في الكتب في مقام مناجاته ومسامرته مع سيّده ومولاه، تهزّ قلب كلّ قارئٍ وتزلزل لبّ ذوي الألباب.
فهل كان هؤلاء منفصلين عن الأئمّة؟ وهل أنّ أهل الولاء والمحبّة هم فقط أولئك الذين يقيمون المجالس لأجل قضاء الحوائج الدنيويّة؟! وهل تنحصر الولاية والمحبّة في الذين يقيمون المجالس بشكلٍ مكرّرٍ رتيبٍ وغرضهم اتّخاذ الأئمّة وسيلةً للوصول إلى ميولهم وأهدافهم وأوهامهم وتخيّلاتهم؟ تبًا لهذا الجهل وسحقًا لعمى القلب!
أجل، لم يتوانَ المرحوم الوالد رضوان الله عليه عن تقديم النصح والإرشاد للمرحوم الحاج هادي الأبهري إلى آخر عمر هذا الحاج، و ما قصر في موعظته وتبيين طريق الحقّ له.
أذكر أنّه في السنة الأخيرة من حياة المرحوم الحاج هادي الأبهري، تشرّفنا بمعيّة المرحوم الوالد بالذهاب لأداء حجّ التمتّع، فقام بإرسال عدّة رسائل إلى رفقائه وأصدقائه من المدينة ومكّة، فكان من جملة من أرسل إليهم رسالةً، المرحوم الحاجّ هادي الأبهري، وقد ذكر له في هذه الرسالة مطالب عجيبةً جدًا وغريبةً وذكر فيها كلماتٍ مليئةً بالحكمة والشفقة، حيث جاء فيها:
«أيّها الحاج! أريد وأنا في هذا المكان أن أبيّن لك وأتمّ الحجّة عليك، فأنا قلق على حالك؛ إذ إنّني أخاف أن تُبعث يوم القيامة فتقف في موقف الميزان والمحاسبة على أعمالك، فيتّضح لك أنّ ذاك الشخص الذي أفنيت تمام عمرك في البكاء عليه وندبه وفي سكب دموع العين على مصائبه، والذي كان موضع ذكرك وفكرك دائماً، حتّى كنت تنام وتقوم على ذكره، أخشى أنّه سيكون غدًا أوّل خصمٍ لك وسيأخذك من عنقك ليطالبك بجميع ما اتّضح لك من حقائق التوحيد التي لم تكن تقبل بها، بل كنت تعرض بوجهك وتتولى عنها، وسوف يخاصمك في محضر العدل الإلهي وسيؤاخذك على هذه المواقف، ويحكم عليك في مقام العرض والحساب، فانظر لنفسك من الآن: ما هو جوابك الذي سوف تقوله في ذاك اليوم وكيف ستتعامل مع هذه المسألة؟».
يقول المرحوم الحاج هادي: «عندما وصلتني هذه الرسالة كنت في مدينة أبهر، وبما أني كنت أمّيًا فقد قرأها عليّ أحد الأشخاص، وقد بكيت كثيرًا عند قراءتها وتأوّهت، وقلت: الحمد لك يا ربّ؛ فإنّنا وإن لم نر رسولك ونبيّك، لكنّك في هذا الزمان عرّفتنا على أحد أبنائه الذي كان بنا عطوفًا كالوالد الشفيق والأخ الكريم الذي أتى لرفيقه وأخيه الضائع فأنجاه من الضلال والضياع».
وقال: «تذكرتُ في هذه الأثناء سفر رسول الله إلى الطائف؛ حيث إنّه تحمّل الكثير من متاعب السفر، وطوى كل هذه المسافة مع جميع هذه المصائب التي واجهها هناك، وكل ذلك لأجل أن يقوم بهداية رجلٍ واحدٍ في تلك البلاد، ورأيت الآن أنّ السيّد محمّد الحسين يقوم بمثل ما قام به جدّه، وأن تلك الشهامة والحميّة والإخلاص التي كانت موجودة في جدّه قد تبلورت الآن في كيان ولده وتجلّت فيه أيضًا».
يقول المرحوم الوالد رضوان الله عليه:
«لقد منّ الله تعالى بلطفه وعنايته على المرحوم الحاج هادي في أواخر حياته؛ ففي نهاية عمره وآخر أيّامه وعندما كان ممدّدًا على فراش المرض، انكشف أمام عينيه الغطاء فشاهد أنّ جميع المطالب التي كانت طوال عمره تُقال عن المرحوم السيّد الحدّاد كلّها كذبٌ وافتراءٌ محضٌ، وأنّها كانت ناشئة من الحسد واللجاج والعناد، وأنّ الحقّ كان مع السيّد الحدّاد، بينما كان جميع من سواه على الباطل. وقد أظهر هذا الأمر للأشخاص الذين كانوا قد جاءوا لعيادته وصرح لهم قائلًا:" إنّ السيّد محمّد الحسين له عليّ حقّ الحياة، وهو الذي أوجب لي أن أصل إلى طريق الهداية في نهاية المطاف، وأن أخرج من هذه الدنيا بمحبّة العارف الكامل السيّد الحدّاد وولايته" رحمة الله عليه رحمة واسعة»
أجل، إنّ ما يعتبره الناس معيارًا للحبّ والبغض ليس له مكان واعتبار في مدرسة العرفان، أمّا ما هو مخفيٌ عن أنظارهم وبعيدٌ عن تصوّرهم -الذي هو التحقّق بحقيقة الإمام عليه السلام واتحاد نفس الإنسان وروحه به- فهو ممّا لا قيمة له عند العوام؛ فالناس يمشون وراء الصخب والضوضاء، بينما أهل الحقّ في هدوءٍ وسكينةٍ مشغولون بمناجاة المعشوق والمحبوب في قرارة أنفسهم؛ فمن هنا، لا العوامّ لديهم خبر عن هؤلاء، ولا هؤلاء يميلون إلى ما يقوم به العوامّ. فهؤلاء في جهةٍ وأولئك في جهةٍ أخرى.
۱. وراي مطلب هر طالبست مطلب ما | *** | برون ز مشرب هر شاربست مشرب ما |
٢. بكام دل بكسي هيچ جرعهاي نرسيد | *** | از آن شراب كه پيوسته ميكشد لب ما |
٣. سپهر كوكب ما از سپهرهاست برون | *** | كه هست ذات مقدّس سپهر كوكب ما |
٤. بتاختند بسي اسب دل ولي نرسيد | *** | سوار هيچ رواني بگرد مركب ما |
٥. هنوز روز و شب كائنات هيچ نبود | *** | كه روز ما رخ او بود و زلف او شب ما |
٦. كسيكه جان و جهان داد و عشق او بخريد | *** | وقوف يافت ز سود و زيان مكسب ما |
۷. ز آه و يا رب ما آنكسي خبر دارد | *** | كه سوختست چو ما او ز آه و يا رب ما |
۸. تو دين و مذهب ما گير در اصول و فروع | *** | كه دين و مذهب حقّ است دين و مذهب ما |
٩. نخست لوح دل از نقش كائنات بشوي | *** | چو مغربيت اگر هست عزم مكتب ما۱ |
والحقّ هو كذلك؛ لأنه:
مكتب عاشق ز مكتب ها جدا ست | *** | عاشقان را مكتب و مذهب خداست٢ |
[يقول: إنّ مدرسة العارف مختلفة عن مدرسة الآخرين، فإن مذهب العاشقين ودينهم هو الله تعالى].
اهتمام مدرسة العرفان والتوحيد منصبٌّ على كنه الولاية والتوحيد لا على ظاهرها
في مدرسة العرفان والتوحيد يجري الحديث عن حقيقة الولاية والتوحيد، وينصبّ الاهتمام على كنه هذه المسألة وباطنها والإدراك العقلاني والشهودي لها، ولا مجال في
حديث العارف بالله للكلام عن الرؤية الظاهريّة للإمام عليه السلام؛ لأن الظاهر ظاهر، بينما حركة النفس حركةٌ باطنيّةٌ وكشفٌ للحجب؛ فما الفائدة حينئذٍ من اللقاء الظاهري للإمام عليه السلام دون تحقّق المعرفة والوصول إلى باطن الولاية؟! فالإمام ليس أعلى مرتبةً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك فأين ذهب أولئك الأشخاص الذين كانوا يوفّقون للقاء النبي صباحًا ومساءً، وكانوا يصلّون خلفه في الصفّ الأوّل من الجماعة، وكانوا يتسابقون لالتقاط ماء وضوئه تبرّكاً به؟! وماذا حصل لهم، وأيّ موقفٍ وقفوه مقابل صاحب الولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؟
وأين ذهبت تلك المدائح وذلك التمجيد؟! وأين ذهبت تلك الخطب وتلك الصلوات؟! وأين ذهبت تلك النصائح والمواعظ؟! وأين ذهبت تلك المعاجز والكرامات؟! وأين ذهب الوحي وتنزّل الملائكة على رسول الله؟! وأين ذهبت تلك المشاهدات والمعاينات؟! وأين ذهبت تلك المجاملات التي كانوا يمارسونها؟! فماذا حصل بذلك التبليغ وبدعوة الناس والعيش بين ظهرانيهم مدّة ثلاثٍ وعشرين سنةً؟! وماذا حصل لهذه التوصيات التي كان يوصيهم فيها بأهل بيته وعترته، وأين ذهبت واقعة يوم الغدير؟! وماذا صار بحديث:
«إني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»۱؟! أين ذهب جميع ذلك؟!
الجواب أنّه لم يذهب إلى أيّ مكانٍ، و لم يطرأ أيّ تغييرٍ بعد وفاة رسول الله ولم يحصل أيّ تبدّل، لأنّه من أوّل الأمر لم يكن هناك شيءٌ! ومن أوّل الأمر لم يكن هناك معرفةٌ، إذ لم يكن الإيمان قد رسخ واستقرّ في روح هؤلاء وسرّهم وكنه وجودهم، بل إنّهم استفادوا من ظاهر الإيمان وشكله، فإيمانهم كان قد تجلّى في مرتبة المثال والصور البرزخيّة فقط دون أن يتعدّى هذه المرتبة ليصل إلى سرّهم و ملكوتهم، فلقد عرف هؤلاء رسول الله في حدود المعجزات وخوارق العادات والكرامات والفتح
الظاهري والظفر العادي، لا أكثر من ذلك، وحيثما كانت هذه الأمور متحقّقةً، كان لهم حضورٌ في ذلك المكان، و لكنّهم وبمجرّد حصول أدنى أمرٍ خلافًا لتوقّعاتهم، كان موقفهم من رسول الله يتغيّر؛ فما دام الموقف في الحرب لصالح المسلمين وكان المسلمون على مشارف النصر والفتح، كان هؤلاء من المشاركين معه، فإذا ما وجدوا أمرًا مخالفًا لما يتوقّعونه من النصر، كانوا يشكّون في كلّ شيءٍ، فكانوا يشكّون في الله وفي رسوله وملائكته وفي الدين وغيره من الأمور المتعلّقة به.
لقد كان النصر والفتح في إحدى المعارك موجبًا لسرورهم وباعثاً لآمالهم، وكانت الهزيمة في معركةٍ أخرى موجبةً للشكّ عندهم في الحقائق الربوبيّة وفي إجراء المشيئة والتقدير في عالم الخلق، وإذا رأوا معجزةً أو كرامةً من جانب رسول الله، كانوا يتناقلونها فيما بينهم وينظرون إلى النبيّ بعين الإعجاب و المدح معترفين له بالرسالة، بينما إذا نزلت بهم مصيبةٌ وبلاءٌ، تبدّل حالهم وموقفهم من النبيّ؛ لأنّ ما وقع كان على خلاف توقّعاتهم.
إنّ الدعوة في الآيات القرآنيّة هي دعوة للتوحيد لا دعوة للأمور الظاهريّة العابرة۱. فجميع الأمور من تبدّل الحالات واختلاف المقامات تنسب إلى الحقّ تعالى، ولا فرق في نظر الموحّد بين كلا الطرفين؛ لأن الموحّد يرى أنّ هذين الطرفين كلاهما محطّ للمشيئة الإلهيّة وموضع لتقدير الحقّ تعالى، فهو لا يلتفت إلى الظاهر، بل إنّه يقوم بتكليفه ويعمل بوظيفته؛ فالعمل -بالنسبة إلى الموحّد- على طبق تكليفه مع علمه بعدم الوصول إلى النتيجةِ محبوبٌ و جذّابٌ بنفس الدرجة التي لنفس العمل مع العلم بالوصول إلى النتيجة وتحقيق الغرض والغاية.
فمن هنا، نرى أن تحرّك أمير المؤمنين عليه السلام باتجاه صفّين -مع علمه بانكسار جيشه، وأن المصلحة في النهاية ستكون لصالح معاوية، وأنه سوف ينتصر مكر المنافقين في هذه الحرب، وسيرجع إلى الكوفة بيدٍ خاليةٍ- كان يحمل نفس الأهميّة
عنده وله نفس المقدار من الإلزام والتكليف الذي كان يحمله ذاك التحرّك باتجاه حرب الجمل والنهروان اللتين انتصر الإمام فيهما وهزم أعداءه؛ و السرّ في ذلك أنّ عليًا عليه السلام يرى كلتا هاتين المسألتين من الله، ولم يكن يختلف الأمر لديه أو يتفاوت في نفسه قيد أنملةٍ أبدًا؛ فالفتح والظفر من الله، كما أن الهزيمة من الله. إنّ صورة المسألة وظاهرها قد اختلف في الحالتين، أمّا حقيقتها وباطنها فأمرٌ واحدٌ لا أكثر، وهذه المسألة هي حقيقة التوحيد. وعليّ عليه السلام إنّما يدعونا إلى هذا الأمر، لا إلى النصر والفتح وهزم الأعداء والتغلّب عليهم وجمع الغنائم وأخذ الأسرى وتحقيق الفتوحات وفتح البلاد لزيادة التراب والماء، فجميع هذه الأمور التذاذٌ للنفس لا علاقةَ لها بالتوحيد، وانغمارٌ في الشهوات لا عملٌ بالتكليف، وهي تصدر باقتضاء ميول النفس وصفاتها وملكاتها لا أنّها مشي على طريق الرضا الإلهي وسير مطابق للدستور والتكليف. فعندما يقول لك الله: تحرّك! يجب عليك أن تتحرّك، وإذا قال لك: توقّف! يجب عليك التوقّف. فإذا قال لك: توقّف! فلا يمكن للإنسان عندها أن يتحرّك ويذهب؛ لأنّ هذه الحركة لم تصدر على أساس التكليف، بل إنّها صدرت على أساس الميول الذاتيّة النابعة من تلقاء نفسه، وعلى أساس الأهواء والأغراض النفسيّة، ومثل هذا التحرّك لا يمكن أن يكون موردًا للإرادة الإلهيّة، ومحطّاً لتكليف الحقّ تعالى؛ لأنّ الحركة التي تكون موردًا لرضا الله تعالى هي التي لوحظ فيها حيثيّة العبوديّة وجهة الانقياد له، ولم يكن لدى العبد فيها أيّة إرادةٍ أو اختيارٍ من تلقاء نفسه.
في حرب الجمل عندما انسحب الزبير من المعركة وتنحّى جانبًا، أظهر بعمله هذا كراهيته لها وندمه على ما كان قد صدر منه في إيجاد هذه الحرب وهذه المصيبة، فانتهز أحد أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام الفرصة، فحمل على الزبير عندما كان غافلًا عمّا كان يجري حوله وأرداه قتيلًا، ثمّ رجع إلى أمير المؤمنين عليه السلام في بهجةٍ وسرورٍ وأخبره بهذه البشرى، وعندما سمع الإمام منه هذا الخبر انقلب حاله واشتدّ غضبه وقال له بلهجةٍ قاسيةٍ: من الذي أجازك في القيام بمثل هذا العمل؟ ألم
يكن من واجبك أن تسئلني وتأخذ إجازتي في ذلك؟ تعال الآن واسمع ما كنت قد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، «أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: بشّر قاتل ابن صفية بالنار»۱.
وعندما سمع ذاك الشخص هذا الكلام، اعترض على الإمام قائلًا: إن لم نفعل شيئًا فنحن مسؤولون، وإن فعلنا شيئًا فنحن مسؤولون أيضًا، ثمّ ذهب بعد ذلك في حال سبيله.
نعم، هذه هي نتيجة التمرّد والانقطاع والانفصال، فلأجل منْ تحارب أنت؟ أتحارب لأجل نفسك أم لأجل عليّ؟! فإن كنت تحارب لأجل ذاتك فمباركٌ عليك هذا القتال، لكن عليك أن تقبل بنتائجه وعواقبه، بينما إذا كنت تقاتل لأجل عليٍّ، فعليك أن تنتظر أوامره؛ فإن أعطاك أمرًا بقتل شخصٍ وجب عليك أن تقتله ولو كان المأمور بقتله ابنك أو حتّى نفسك، وإذا قال: لا تقتل، وجب عليك أن لا تقتل، ولو كان أعدى أعدائك كمعاوية وعمرو بن العاص. فالدستور دستوره والأمر أمره، وأين نحن منه حتّى نظهر نظرنا أمام اختياره وإرادته، أو أنْ نرجّحَ ميولنا على اختياره!
وقد ورد في الآية الشريفة: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ (ووصلنا إلى مرادنا) وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ ، قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ، قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ (إما الفتح و النصر و إما الشهادة و الجنة و الرضوان الإلهي) وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾٢
يُبين الله تعالى في هذه الآيات بشكلٍ واضحٍ حقيقة عالم التشريع على أساس واقعيّة عالم التكوين والتوحيد، وأنّ كلا طرفي المسألة مندرجٌ تحت دائرة الولاية والإرادة والمشيئة الإلهيّة، والحال أن الناس يرون أن طرف الخسارة ومسألة الهزيمة خارجةٌ عن قدرة الله ومشيئته.
العارف يدعو إلى باطن الإمام و ولايته لا إلى ظاهره فقط
إنّ العارف يوجّه الناس في كلامه نحو هذه الحقيقة، ويهديهم من الظاهر نحو الباطن، ومِن الإحساسات نحو الأمور الواقعيّة، ومن الانجذاب إلى المادّة نحو الجلوات الربوبيّة والأنوار الإلهيّة.
فلا سبيلَ في مدرسة العارف ومنهج أهل التوحيد للنظرة الظاهريّة إلى الإمام عليه السلام، فالعارف يدعو إلى باطن الإمام وولايته، وإلى المعرفة الحقيقيّة للإمام عليه السلام، لا أنّه يروّج لمعرفة الهويّة الظاهرية للإمام فحسب، فإلى أيّ شيءٍ تدعو جميع هذه الروايات الحاثّة على زيارة الأئمّة عليهم السلام مع معرفتهم معرفةً حقيقيّةً، وإلى أيّ مقامٍ ترشدنا وعلى أيّ موقعيّةٍ للأئمّة تدلّنا؟ أليست تلك الروايات التي تعتبر أنّ معيار الأجر والثواب الذي يحصل عليه الزائر على زيارة الأئمّة عليهم السلام هو بمقدار القرب منهم ومعرفتهم .. أليست هذه الروايات دالّةً على أنّ قيمة زيارة الإمام إنّما تكون على أساس المعرفة؟ أليس هناك تفاوتٌ بين زيارة الإمام الرضا عليه السلام التي تعادل ثواب حجّةٍ وعمرةٍ مقبولةٍ، وبين زيارة نفس الإمام التي تعادل ثواب ألف حجّةٍ وألف عمرةٍ مقبولة؟! إذا كان الأمر متفاوتًا بينهما، فأين يكمن ذلك؟
وعلى أيّ أساس كان هذا الثواب، ولمَ استُحقّت هذه الدرجات المترتّبة على زيارة سيّد الشهداء عليه السلام، والتي تحيّر الإنسان؟ ولماذا كلّ هذا الاختلاف الذي نراه في المراتب؟ أليس هناك اختلاف بين زيارة شخصٍ عاديٍّ ليس لديه أيّ معرفةٍ أو إدراكٍ للإمام عليه السلام، وبين ذلك الشخص الذي تكون نفسه مندكّةً في نفس الإمام، وصارت روحه وسرّه مع روح الإمام وسرّه، بل صارت متّحدةً معه؟ أليس هناك فرق من جهة التقرّب بين الشخص الذي يكون خارج الحرم وبين الشخص الذي هو من أهل الحرم؟ ألا تختلف الزيارة التي يقوم بها الإمام بقية الله أرواحنا فداه لمقامات أجداده عن زيارة الناس العاديّين؟!
ومن هنا، نصل إلى أساس طريق أهل التوحيد في كيفيّة تعريفهم وبيانهم للسبيل إلى الإمام عليه السلام، فالعارف يدعو للارتباط بأعلى مرتبةٍ من مراتب الإمام عليه السلام؛ وهي المعرفة الباطنيّة والمعرفة الشهوديّة لحقيقة الولاية والتوحيد، بينما غيرُ العارف يرى الإمام عليه السلام في مراتب أخرى أدنى من ذلك ابتداءً من النظرة الظاهريّة وقضاء الحوائج الماديّة والصوريّة، إلى مرتبة إدراك الإمام وشؤونه واكتساب الفضائل المعنويّة ولكن في حدود المثال والصورة، و الوصول إلى الأمور الغريبة وكسب مراتب الفعليّة من خرق العادات، والقدرة على التصرّف في سائر الأمور، والاطلاع على المغيبات، وانكشاف الأمور المجهولة له، وصدور أمورٍ غير عاديّةٍ منه، وغير ذلك من الأمور التي تُعتبر بأجمعها من المراتب الدانية لحقيقة الإمام عليه السلام وباطنه وكنهه وسرّه. ومن الطبيعي أنّ الإمام سيعطي كلّ شخصٍ بمقتضى طلبه وإرادته وسعته وظرفيّته، ولن يتوانى أو يمتنع عن مساعدة أيّ شخصٍ.
ليس لرؤية الإمام الظاهريّة في مدرسة العرفان تلك المطلوبيّة، فلذا لا تحتوي دستورات العرفاء وبرامجهم على هذه المسألة أبدًا، كما أنّ الذهاب إلى هذا المكان وذاك لرؤية إمام الزمان عليه السلام لا يُحسب أمرًا ذا فضيلةٍ؛ ولذا لا نرى في كلامهم توصياتٍ بالسفر من البلاد البعيدة لأجل التشرّف بزيارة مسجد جمكران -من جهة أن تكرار الزيارة موجبة لمشاهدة إمام الزمان عليه السلام- ولم يُشاهد في أوساطهم أنّهم كانوا يبيتون في مسجد السهلة ليالي الأربعاء بهدف رؤية إمام الزمان، وإذا كانوا يذهبون إلى مسجد السهلة، فإنّما كان ذلك لأجل ما فيه من البركة فقط؛ باعتبار أنّ ذاك المكان المقدّس بنظرهم هو منزل المعشوق ومحلّ نظر المحبوب، ومن الواضح أنّ كلّ من يعشق شخصًا يعشق أيضًا آثار هذا المحبوب ويهيم بكلّ ما يتعلق به، فالعارف يذهب إلى هناك طلبًا لحقيقة المعشوق، سواءً رآه ظاهرًا أم لم يره.
ولذا فنظر أهل التوحيد إلى بعض الآثار من قبيل مسجد السهلة وغيره نظرٌ آليّ لا نظرٌ استقلاليٌّ، فأهل التوحيد يرون إمام الزمان عليه السلام في جميع الأماكن على السواء، ويشاهدون انعكاس صورته في كلّ مكانٍ وقع عليه نظرهم، ويرون أنّ كلّ وجودٍ في هذا
العالم يمثّل ظهورًا لحقيقة الولاية، فقد صار لديهم حالة أنسٍ و ألفةٍ بالإمام وحالة اقتران معه، لذا لا يعتبرون أنّ للإمام مكانًا مخصوصًا، كما أنّهم لا يطلبون رؤيةً خاصّةً للإمام في زمنٍ خاصٍّ أو في مكانٍ محدّدٍ، بل هم لا يصرفون لحظةً من عمرهم بدون معيّة الإمام والاتحاد به؛ ولذا فلا حاجة لهم بمكان مخصوصٍ لكي يروا الإمام فيه، أمّا زيارتهم لمسجد السهلة، فهو من باب أنّه محلٌّ لظهور التجلّي الخاصّ للإمام، لا لأجل رؤيته ومشاهدته الظاهريّة، وهي من باب التيمّن والتبرّك بآثار الإمام؛ ولذا نجد أنّه لا يبقى لديهم أيّ فرقٍ بين ليالي الأربعاء وبين سائر الليالي والأيّام، فهؤلاء يذهبون إلى مسجد السهلة لكن لا لأجل أن يروا الإمام عليه السلام، بل زيارتهم لمسجد السهلة وذهابهم إليه هو من باب التشرّف بالمكان الذي هو محلّ نظر الإمام وموضع عنايته، ولو أنهم ذهبوا إلى هناك ألف سنةٍ ولم يروا فيها الإمام عليه السلام، فمع ذلك سوف يستمرّون بالذهاب إليه واكتساب الفيض منه، حيث يعتبرون أن ذاك المكان هو منزل الحبيب ومأواه، وبما أن باطنهم قد تحقّق بمعيّة الإمام، فكذلك ظاهرهم يتبرّك بالبركات الظاهريّة للإمام عليه السلام.
يكتب المرحوم الوالد قدّس الله سرّه في مقدّمة كتاب «توحيد علمي وعيني» عن أحوال العارف الكامل والفقيه النحرير آية الله العظمى نادرة الدهر الحاج السيّد أحمد الكربلائي، فيقول:
«نقل المرحوم السيّد جمال الدين [الكلبايكاني] للحقير أنّه عندما كان شابًا يدرس في أصفهان، كان يدرس الأخلاق ويتربّى عند المرحوم الآخوند الكاشي والمرحوم جهانگيرخان قشقائي.
وعندما تشرّف بالذهاب إلى النجف الأشرف صار أستاذه المرحوم السيّد جواد، وكان يقول عنه:
«لقد كان شخصًا سريع البديهة وعميق الفهم، وكان يقول: إذا أتتني إجازة من العالم العلوي لنصبت في منعطفات الطرق منبرًا، ودعوت الناس إلى التوحيد والعرفان الإلهي. ولم تمض مدّة حتّى ارتحل هذا العالم إلى رحمة الحقّ
تعالى، فرجعت أنا إلى المربي الأخلاقي المرحوم آية الله الشيخ علي محمّد النجف آبادي، وصرت آخذ عنه دستور العمل.
ثمّ مضت مدّة على ذلك، كنت فيها تحت تعليمه وتربيته، حتّى ذهبت -كما كانت عادتي- في إحدى الليالي إلى مسجد السهلة لأجل العبادة، وكان من عادتي -طبقًا لأوامر الأستاذ عند ذهابي إلى مسجد السهلة- أن أقوم أوّلًا بصلاة المغرب والعشاء، ثمّ آتي بالأعمال الواردة في مقامات المسجد، ثمّ بعد ذلك أفتح تلك الخرقة التي تحتوي على خبز وبعض الأطعمة، التي كنت أحملها معي بعنوان زادٍ، فأتناول شيئًا منها، وبعدها أخلد للراحة والنوم، ثمّ أستيقظ قبل أذان الفجر بساعاتٍ وأشتغل بالصلاة والدعاء والذكر والتفكّر، وعند أذان الفجر أصلّي صلاة الصبح وأستمر بالقيام بسائر أعمالي ووظائفي إلى طلوع الشمس، وبعدها أرجع إلى النجف.
وفي تلك الليلة بعدما أتممت صلاة المغرب والعشاء، وقمت بأعمال المسجد وقد مضى من الليل مدّة ساعتين تقريبًا، وبينما كنت جالسًا لتناول بعض الطعام من الخرقة التي كانت معي، وقبل أن أبدأ بالأكل وصل إلى سمعي صوت مناجاةٍ وتأوّهٍ، ولم يكن أحدٌ غيري في هذا المسجد المظلم.
وقد بدأ هذا الصوت يأتي من جهة الضلع الشمالي وسط حائط المسجد، وبالذات مقابل المقام المطهّر لإمام الزمان عجل الله تعالى فرجه، وقد كان صوت هذا الشخص جذّابًا حزينًا نابعًا من حرقةٍ وكانت قراءته للأشعار العربيّة والفارسيّة والمناجاة والأدعية ذات المضامين الراقية بحالةٍ من التأوّه والحسرة بطريقةٍ عجيبةٍ، ممّا جعل ذهني ينقطع إليه بشكلٍ كلّيٍ.
عندها لم أستطع أن أتناول حتّى لقمةً واحدةً من الخبز، وبقيت الخرقة التي فيها الزاد مفتوحةً، بل لم أستطع أن أستريح أو أنام في تلك الليلة، ولم أقدر على الإتيان بصلاة الليل والدعاء والذكر والتأمّل المطلوب منّي، وبقيتُ منقطعًا ومنصرفًا نحوه.
لقد كان صاحب الصوت ينشغل بالبكاء والمناجاة مدّة ساعةٍ ثمّ يسكت، وبعد مضيّ فترةٍ يعود ثانيًا للقراءة وللبكاء والمناجاة، ثمّ يهدأ صوته مرةً أخرى، ثمّ يقرأ ساعةً ثمّ يسكت قليلًا ويهدأ. وفي كلّ مرةٍ يبدأ فيها بالقراءة كان يتقدّم قليلًا نحو المقام المطهر لإمام الزمان، بحيث أنّه عندما قارب وصول أذان الفجر كان قد وصل إلى مقابل المقام. وفي هذا الحال وبعد بكاءٍ طويلٍ وحرقة قلبٍ شديدةٍ وجّه خطابه للإمام وخاطبه بقراءة هذه الأشعار:
۱. ما بدين در نه پى حشمت و جاه آمدهايم | *** | از بد حادثه اينجا به پناه آمدهايم |
٢. رهرو منزل عشقيم و ز سر حدّ عدم | *** | تا به اقليم وجود اين همه راه آمدهايم |
٣. سبزه خطّ تو ديديم و ز بستان بهشت | *** | به طلبكارى اين مهر گياه آمدهايم |
٤. با چنين گنج كه شد خازن او روح امين | *** | به گدايى به در خانه شاه آمدهايم |
٥. لنگر حلم تو اى كشتى توفيق كجاست؟ | *** | كه در اين بحر كرم غرق گناه آمدهايم |
٦. آبرو مىرود اى ابر خطاشوى ببار | *** | كه به ديوان عمل نامه سياه آمدهايم |
۷. حافظ اين خرقه پشمينه بينداز كه ما | *** | از پى قافله با آتش آه آمدهايم۱ |
ثمّ بعد ذلك سكت ولم يتفوّه بشيءٍ، وصلّى عدّة ركعاتٍ في ذلك الظلام، إلى أن انبلج بياض الصباح، عندها قام وصلّى واشتغل بالتعقيبات والذكر والتفكّر الخاص به إلى أن أشرقت الشمس، وبعد ذلك قام وخرج من المسجد. وقد كنت تمام تلك الليلة مستيقظًا ولم آت بأيّ عملٍ من أعمالي، بل بقيتُ مبهوتًا ومنشدًا إليه.
وعندما أردت الخروج من المسجد، سألت رئيس الخدمة هناك الذي كانت غرفته خارج المسجد في الضلع الشرقي، وقلت له من هو هذا الشخص؟! هل تعرفه أنت؟
فقال: نعم! هذا الشخص اسمه السيّد أحمد الكربلائي، يأتي إلى المسجد في بعض الليالي التي لا يكون فيها أحد، وهذا هو حاله ووضعه كما شاهدته الليلة.
بعد ذلك، عدتُ إلى النجف وذهبت إلى الأستاذ الشيخ علي محمّد وجلست معه، وذكرت له ما شاهدته لحظةً بلحظةٍ، عندها قام وأخذ بيدي قائلًا: تعال معي، فذهبتُ معه، إلى أن دخل الأستاذ إلى منزل السيّد أحمد الكربلائي، ووضع يدي في يده وقال: من الآن فصاعدًا سيكون هو مربيك الأخلاقي وأستاذك العرفاني، ويجب عليك أن تأخذ دستورك منه وتتّبعه»۱
يُعلم من هذه الحكاية أمور:
أوّلًا: مدى ما لأساتذة العرفان والتوحيد من حضورٍ في هذه الأماكن التي لها ارتباط و تعلّق بالإمام بقية الله أرواحنا فداه، وكم هو اهتمامهم وكم هي رغبتهم في الإتيان إليها، وكم كانوا يدعون تلامذتهم ويحثّونهم على الذهاب إليها.
ثانيًا: أنّهم لم يكونوا يرون وقتًا خاصًّا للذهاب إلى هذه الأماكن، كما هو الحال في سائر الأشخاص الآخرين الذين يهتمّون بالذهاب في ليالي الأربعاء لرؤية الإمام، بل يعتبرون أنّ نفس الحضور في هذا المكان المقدّس مغنمٌ لهم، لا أنّ المغنم هو الحضور في وقتٍ خاصّ للفوز بالرؤية الظاهريّة.
ثالثًا: إنّ مقصود هؤلاء ومرادهم من الحضور هو التقرّب الباطني والأنس المعنوي، وهدفهم من ذلك مناجاة حقيقة هذا الإمام، وخلوة النفس والسرّ والروح به، لا مجرّد اللقاء الظاهريّ الصوريّ؛ ولذا تجدهم ينتخبون الأوقات التي يكون فيها المسجد خاليًا من الناس، ولا يوجد فيه أيّ شخصٍ يمكن أن يزاحمهم في شغلهم وذكرهم وفكرهم.
لقد خصّص المرحوم الوالد رضوان الله عليه طوال مدّة إقامته في النجف الأشرف أغلب ليالي الخميس للمبيت في مسجد السهلة؛ لأنّ ليالي الأربعاء كانت ليالي درسٍ وتحصيلٍ، والذهاب إلى مسجد السهلة فيها سيؤدي إلى تعطيل الدروس في ليلة الأربعاء ويومه، هذا فضلًا عن أنّ المسجد في ليالي الأربعاء كان يغصّ بالزائرين الذين كانوا يأتون طلبًا للتشرف باللقاء الظاهري بمحضر الإمام، ممّا كان يُسبّب مانعًا من حصول الخلوة وجمع الخواطر وتركيز الفكر والاستفادة بشكلٍ أكبر.
وكثيرًا ما كان المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه يتشرّف بالذهاب إلى مسجد السهلة في أوقاتٍ مختلفةٍ لاكتساب الفيض منه. وكان أستاذه المرحوم السيّد القاضي قدس الله سره يتردّد على مسجد السهلة لمدّةٍ طويلةٍ إلى أن فتح الله عليه، ووصل إلى إدراك حقيقة ولاية الإمام صاحب الأمر.
وبناءً عليه، فالسرّ في أنّ الأولياء الإلهيّين يتوجّهون في كلماتهم نحو إدراك كنه الولاية والمعرفة الحقيقيّة للإمام عليه السلام، هو أنّ التوجّه إلى ظاهر الإمام وسوق
الناس نحو رؤيته الظاهريّة والتشرّف الصوَري والمادي باللقاء به يحجب النفس عن إدراك فيض الحقيقة وسرّ عالم الولاية، كما أنّ النفس الإنسانيّة تأنس بعالم الصور والظواهر وتألف عالم التخيّل والتوهّم، أكثر من أنسها وألفتها بجنبتها الملكوتيّة وحيثيتها العقلانيّة، ومن جهةٍ أخرى و بسبب انغمارها في الكثرات وغرقها في التوهّم والخيال، فإنّ المسافة بينها وبين حقيقة عالم الوجود و العوالم الأعلى من عالم الصورة و المثال بعيدةٌ جدًا، لذا كان شوق هذه النفس ورغبتها منصبّةً نحو الأمور الصوريّة والمثاليّة، وكانت منجذبةً نحو خوارق العادات والأمور المحسوسة ذات الصور الجذّابة التي تملأ العين أكثر بكثيرٍ من رغبتها وانجذابها إلى الأمور الملكوتيّة والمعنويّة والعقلانيّة والنورانيّة والحقائق المعنويّة الخالصة والخالية عن الصور؛ ولهذا السبب كان كلّ همّ أهل التوحيد وغمّهم منصبًّا على بيان الربط والاتّصال بمبدأ الولاية، على أساس محور المعرفة الباطنيّة وإدراك عوالم نفس صاحب الولاية، لا على أساس محور المشاهدة والرؤية الظاهريّة.
من هنا لم يكن يؤتى أبدًا على ذكر الرؤية الظاهريّة لإمام الزمان أرواحنا فداه في مجالس المرحوم السيّد الحدّاد والمرحوم الوالد قدس الله سرّهما، فأنا لا أذكر أنّي سمعتُ منهم في تمام عمري كلامًا عن رؤية الإمام، أو أنّهم كانوا يشجّعون تلامذتهم ويرغّبونهم في السعي للقاء به، أو أنّهم كانوا يعطونهم دستورًا وذكرًا وبرنامجًا يتيح لهم التشرّف برؤية هذا الإمام ولقائه في الظاهر.
وعندما تشرف الحقير بمعيّة والده المعظم بزيارة العتبات العالية في العراق، بعد العودة من السفر إلى حجّ بيت الله الحرام، قلتُ يومًا للمرحوم السيّد الحدّاد روحي فداه: «ما هو الدستور الذي تعطيه للتشرّف بلقاء الإمام صاحب الأمر؟»
فقال سماحته لي:
«إنّ المقصود الأصلي والمقصد الأساس هو إدراك ولاية هذا الإمام ومعرفة حقيقته، وإلّا فمجرّد الرؤية الظاهريّة للإمام عليه السلام بدون
التوجّه إلى هذا المقصود وهذا الهدف لا يفيد شيئًا، ولكن مع ذلك فإذا أردت أن يحصل لك التشرف بالرؤية الظاهريّة للإمام أيضًا، فاعمل بهذا الدستور لمدّة عشرين ليلة، وبعدها سوف ترى الإمام»
وبما أن الحقير لم يكن يرى نفسه لائقًا بإدراك حضور الإمام والتشرّف برؤيته، فلم أقدم على ذاك العمل، ووكلت مآل أمر نفسي إلى صاحب الولاية؛ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ﴾۱.
ينقل المرحوم الوالد في الجزء الخامس من كتاب معرفة الإمام مسائل مهمّةً جدًا حول هذا الموضوع، ونحن ننقلها هنا بذاتها:
«إنّ الوجود المقدّس لبقية الله عجّل الله تعالى فرجه مرآةٌ تامّةُ الظهور للحقّ تعالى، وينبغي أن نرى الحقّ في تلك المرآة لا أن نراها، لأنّها لا ذاتية لها، ولا يمكن أن نرى الحقّ بلا مرآةٍ، لتعذّر رؤيته بدونها. وعلى هذا الأساس فلا بدّ من البحث والتنقيب عن الحقّ تعالى والسعي نحوه عن طريق وليّه الأعظم ومرآته وآيته.
إنّ المخاطب في الأدعية والمناجاة هو الله عن طريق ذلك الإمام وسبيله وصراطه، ولهذا فلو عرضنا حاجتنا على الإمام نفسه وجعلناه المخاطب، فلا بدّ أن نلتفت إلى أنّه لا يتّخذ طابعًا استقلاليًا، ولا يتقمّص الاستقلال، بل له عنوان الوساطة والمرآتيّة والآيتيّة، ولنعش هذا المعنى في أذهاننا باستمرار ولنأخذه بعين الاعتبار. وسنكون في عملنا هذا قد جعلنا الله -في الحقيقة- هو المخاطب، لأنّ المرآة بما هي مرآة لا تقبل النظر الاستقلالي، بل النظر التبعي ويرجع النظر الاستقلالي إلى نفس الصورة المنعكسة فيها.
وهذه المسألة من أهمّ المسائل في باب العرفان والتوحيد، إذ أنّ كثرات هذا العالم لا تتنافى مع وحدة ذات الحق، وذلك لأنّ الوحدة أصليّة والكثرات
تبعيّة وظلّية ومرآتية، وتستبين مسألة الولاية جيدًا في أنّ حقيقة الولاية هي نفس حقيقة التوحيد، وقدرة الإمام وعظمته وعلمه وإحاطته، هي عين قدرة الحقّ تبارك وتعالى وعظمته وعلمه وإحاطته، فلا اثنينيّة في البين. بل لا معنى للطلب من الله بلا واسطة الإمام ومرآتيّته، كما أن الطلب من الإمام مستقلًا لا معنى له بدون عنوان الوساطة والمرآتية لذات الحقّ المقدّسة أيضًا.
والطلب من الإمام والله شيءٌ واحدٌ في الحقيقة، وليس شيئًا واحدًا في اللفظ والتعبير فقط، ومن الوجهة الأدبيّة والبيانيّة فحسب، بل هو شيءٌ واحدٌ من منظار الحقيقة والواقع، وذلك لأنّه لا شيء في الوجود غير الله؛ ﴿تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ﴾۱.
لقد أخطأت هاتان الطائفتان (الوهابيّة والشيخيّة)، لأنّنا إذا رفعنا عنوان المرآتيّة عن الممكنات سواءً كانت مادية أم مجرّدة، أو أنّنا أضفينا عليها عنوان الاستقلال، فقد أخطأنا في كلتا الحالتين. والصواب هو لا هذا ولا ذاك، بل الموجودات لها أثر الحقّ وهي صاحبة صفات الحقّ، وهي مظاهر ومجالي ذاته وأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
إنّ مذهب الوهابيّة يميل إلى الجبر، ومذهب الشيخيّة يميل إلى التفويض، وكلاهما على خطأ؛ «بل أمرٌ بين الأمرين ومنزلةٌ بين المنزلتين»٢و٣. وذلك هو إشراق نور ذات الحقّ الأقدس في الكثرات المادّية والمجرّدة.
ينكر مذهب الوهابية قدرة الحقّ وعلمه في الموجودات، كما ينكر مذهب الشيخيّة قدرة الحقّ وعلمه في نفس ذاته، فكلاهما قال بالتعطيل، وكلاهما ضلّ السبيل.
إنّ وجود الحجّة بن الحسن أرواحنا فداه هو الظهور الأتمّ للحقّ تعالى، وهو التجلّي الأكمل لذات ذي الجلال، والغاية هو الله. والإمام دليلٌ مرشدٌ إليه. ونحن إذا نظرنا في توسّلاتنا إلى الإمام باستقلال وأردنا لقاءه بشكلٍ مستقلٍّ، فلا نكون قد ظفرنا بفيضه ولا نكون قد ظفرنا بلقاء الله وزيارة المحبوب.
أمّا فيضه فلا نبلغه؛ لأن وجوده ليس مستقلًا. ونحن قد ذهبنا وراء وجودٍ استقلاليٍّ، وأمّا لقاء الله فلا نظفر به لأنّنا لم نتوجّه إلى الله، ولم نر الله في الإمام.
ولهذا فإنّ أغلب الذين يذوبون في عشق وليّ العصر والزمان، وحتّى لو أفلحوا في زيارته، فإنّهم أيضًا لا يتجاوزون الأهداف البسيطة والجزئيّة، والحوائج الماديّة والمعنويّة. ومن هذا المنطلق فإنّهم لم ينظروا إلى الإمام على أنّه مرآة الحقّ وآيته، وإلّا فإنّهم ينبغي أن يروا الله بمجرد الرؤية والزيارة، ويظفروا بوصال الحقّ عن طريق وصال الإمام، لا أن يكون الإمام حجابًا بينهم وبين الحقّ تعالى، فيرجونه قضاء حوائجهم الدنيويّة وغفران ذنوبهم وإصلاح أمورهم.
وما أكثر الذين تشرفوا بالحضور عنده وعرفوه، لكنهم لم يحترزوا من عرض مثل هذه الحاجات، فطلبوا هذه الأشياء! فلم يعرفوه حقًا لأن معرفته هي معرفة الله؛ «مَن عَرفكُم فَقد عَرفَ الله»۱.
ومن رام التشرّف بخدمته، فعليه أن يزكّي نفسه وينشغل بتطهير سريرته، وفي هذه الحالة يبلغ لقاء الله الذي يتطلب لقاء الإمام، ويصل إلى لقاء الإمام الذي يعني الظفر بلقاء الله بالملازمة، حتّى لو لم يتشرف في العالم الطبيعي الخارجي بالرؤية الحسية لجسم الإمام.
فالركن الأساس في العمل هو معرفة حقيقة الإمام، لا التشرف برؤية جسمه المادي الطبيعي. وما يظفر به من التشرف بالحضور المادي والطبيعي هو هذا
المقدار اليسير من الرؤية فحسب. بيد أن ما يظفر به من التشرف بمعرفة حقيقته وولايته هو خلوص سريرته وطهارتها، والحظوة بلقاء المحبوب؛ الله القادر المتعال؛ ﴿لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ﴾۱.
ومما يؤثر عن العلامة بحر العلوم قدس الله نفسه أنه قضى عمرًا في مجاهدة النفس الأمارة وتزكية السريرة وتطهيرها وذلك للتشرف بالعرفان الإلهي وبلوغ مقام المعرفة والفناء والاندكاك في ذات الحق، ومقامه في مراحل العرفان ومنازله مشهودة من رسالته في السير والسلوك. وكان يتشرف بخدمة الإمام عبر هذا المنظار؛ منظار رؤية الحقّ وهو الله تعالى، لا منظار رؤية النفس.
حق بين نظري بايد تا روي تو را بيند | *** | چشمي كه بود خودبين كي روي تو را بيند؟ |
[لا بد أن ننظر من منظار الحق كي نرى وجهك (الشاعر يخاطب الله تعالى) فأنّى للعين التي لا ترى إلا نفسها أن تراك؟!]
ونقل عنه أنه كان مشغولًا ذات يوم بقراءة النص الموجود على باب الحرم الحسيني الشريف المتعلّق بإذن الدخول للتشرف بزيارة سيّد الشهداء عليه السلام، وما إنْ همّ بالدخول حتّى وقف فجأة، وكان يحدق النظر إلى زاوية من زوايا الحرم المطهّر، وظل على وقفته برهة وهو يترنّم بهذا البيت:
چه خوش است صوت قرآن ز تو دلربا شنيدن | *** | به رخت نظاره كردن سخن خدا شنيدن |
[ما أحلى أن نسمع صوتك وأنت تتلو القرآن، وما أسعدنا إذ ننظر إلى وجهك ونسمع منك كلام الله وأنت تتلوه بصوت رخيم!]
وبعد ذلك سألوه عن سبب توقّفه، فأجاب: كان الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه جالساً في تلك الزاوية وهو يتلو القرآن.
هذا هو معنى الوصول وهذه هي حقيقة الآيتية والمرآتية.
وما علينا إلا أن نسعى جاهدين لترسيخ اعتقاداتنا وتشييد صرحها على أساس أصالة الواقع بأحسن وجه»۱.
أجل، إنّ الكلام في زمان ظهور الإمام وتعيين وقت ظهوره، والاشتغال بذكر المنامات والمكاشفات والأمور الخارقة للعادة في هذا المجال يُعتبر مخالفًا تمامًا لمدرسة أهل البيت عليهم السلام وللطريق المستقيم للأولياء الإلهيّين والمسير القويم للعرفاء بالله؛ ففي مدرسة التشيّع يعتبر ظهور الولاية في نفس الإنسان على قدرٍ كبيرٍ من الأهميّة والاعتبار، وليست الأهمّية منصبّةً على مجرّد الظهور الظاهري والصوري للإمام عليه السلام. والذي ورد التأكيد عليه في الروايات المنقولة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام، هو مسألة الانتظار والتهيّؤ الروحي والاستعداد لإدراك الظهور، ومن دون تحصيل حالة الاستعداد الروحي والوصول إلى مرحلة الانقياد والتعبّد والطاعة الخالصة لولي الزمان، فما هي الفائدة التي سوف نستفيدها من ظهوره؟! فهل ظهوره أهمّ من ظهور النبيّ الأكرم؟ لقد رأينا ماذا فعل الناس في زمن الرسول الأكرم معه، وأي جناية ارتكبوها بحق ذرّيته، ورأينا كيف أدّوا حق الرسالة وحفظوا أمانة الرسول!
نعم! ما هو مسلّمٌ من مسألة الظهور هو أن الحكومة ستكون حكومة عدلٍ وإنصافٍ، ولن يكون لأحدٍ الجرأة على التعدّي والتجاوز على حريم الآخرين، وأنّ الجميع -في أيّة مرحلةٍ كانوا- سوف يصلون إلى تلك الفعليّة والرتبة التي اختاروا هم أن يصلوا إليها دون أيّ رادعٍ أو مانعٍ من ذلك. وأمّا ما يتصوّر من أنّه بظهور الإمام سوف يصل جميع الناس إلى مرتبة الكمال، وسوف يصلون -شاؤوا أم أبوا- إلى تحقيق الجهات
المفقودة في وجودهم، وأنّ استعداداتهم ستصل إلى فعليّتها التامّة قهرًا، فهذا خلاف العدل الإلهي، وهو مغايرٌ لموازين عالم التربية والتشريع، ولن يحصل مثل هذا الأمر أبدًا.
ينقل علي بن إبراهيم عن الحسين بن خالد عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام، أنّه خاطب ولده الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام، وقال له:
«التّاسِعُ مِن وُلدكَ يا حسين هو القائمُ بالحقّ المُظهرُ للدّينِ والباسطُ للعَدلِ. قال الحُسين عليهالسّلام: فقلت له يا أمير المؤمنين: وإنّ ذلك لكائنٌ؟ فقال عليه السلام: إي والذي بَعثَ محمّدًا صلى الله عليه وآله بالنُبوّةِ واصطَفاهُ على جميعِ البريّةِ! ولكِن بعد غيبَةٍ وحَيرَةٍ فلا يَثبتُ فيها على دينهِ إلّا المُخلصونَ المباشرون لِروحِ اليقينِ، الذين أخَذ الله عزّ وجلّ ميثاقَهم بولايَتنا وكتبَ في قلوبِهم الإيمانَ وأيَّدهم بروحٍ منهُ».۱
تُبيّن هذه الرواية أنّ أصحاب الإمام عليه السلام هم المخلصون والمصطفون من الشيعة، دون أيّ شخصٍ آخر، وهؤلاء فقط قد بُشّروا بإدراك حقيقة الولاية.
وفي روايةٍ أخرى عن عبد العظيم الحسني عن محمّد بن علي بن موسى عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام، يقول فيها:
«للقائم منّا غيبةٌ أمدها طويلٌ، كأنّي بالشيعة يجولون جوَلان النعم في غيبته، يطلبون المرعى فلا يجدونه، ألا فمن ثبت منهم على دينه ولم يقسُ قلبه لطول أمد غيبة إمامه فهو معي في درجتي يوم القيامة».٢
فهل الاشتغال بمسألة الظهور وإشغال الناس بهذه الأمور توصلهم إلى هذه الدرجة من الإيمان؟ فما هي الفائدة التي تحصل من جلوسنا مع الناس ومحادثتهم عن
الظهور، وأنّ الإمام سيظهر في السنوات العشر القادمة أو أنّه سيظهر بعد عشر سنوات، أيّ فائدة في ذلك سوى أنّه يوجب ابتهاج الناس بشكلٍ مجازيٍّ ويؤدّي إلى فرحهم وسرورهم المجازي وإضاعة وقتهم بهذا الكلام؟!
ألم يقل الأئمّة عليهم السلام: «كذب الوقّاتون»۱؟!
فلا يمكن لأحد أن يحدّد وقتًا وزمانًا لظهور الإمام. وعندئذٍ! كيف يمكننا أن نتجرّأ ونخبر الناس الساذجين -رجماً بالغيب- بمسألة يختصّ العلم فيها بالله تعالى وبوَليه، ونجعلهم يعيشون حالة الفرح الوهمي بذلك، ونخفي عنهم تلك الحقيقة العالية وذاك الواقع الراقي، فلا نحدّثهم عن شيء من ذلك أبدًا؟! ماذا سيفيدنا الكلام عن ظهور الإمام في حالة عدم وجودنا في عصر الظهور وعدم بقائنا إلى ذاك الزمان؟! أوَهل اطّلعنا على مدّة حياتنا التي سنحياها حتّى نعلم بإدراكنا لعصر ظهوره و نفرح بذلك، فنفني عمرنا في انتظاره؟ هذا كله فيما لو كانت هذه التوقّعات و التقديرات صحيحة، أمّا لو كانت خاطئة، فسيختلف الأمر كلياً.
منذ بضعة سنين تشرف الحقير بمعيّة أحد الأصدقاء بزيارة السيّدة المعصومة سلام الله عليها في قم، وفي أثناء الزيارة قال لي ذلك الشخص: «أرغب بزيارة فلان العالم الذي يُنسب إليه الإلمام بمسائل ظهور الإمام، ولديه مسائل تنمّ عن علاقته بهذا الإمام، فهل ترغب في الذهاب معي للقائه؟»، فقلت له: «لا مانع لديّ من ذلك، ولكن اعلم أنّ ما تبحث عنه أنت لن تجده هناك!»، وفي نهاية المطاف، وبعد إصرار هذا الصديق ذهبنا لزيارة ذاك الشخص المحترم، وكان الوقت في الصيف والهواء حارًا جدًا. وعندما وصلنا إلى منزله كانت الساعة بحدود السادسة بعد الظهر، فطرقنا باب المنزل، فأتى نفس ذلك العالم المحترم وفتح لنا الباب، فسلّمنا عليه وطلبنا منه إذنًا بملاقاته. فأجاب -وقد بدت على وجهه ملامح التعب من أثر حرارة الصيف وتأذّيه من شدّة لهيبه- وقال: «يمكنني استقبالكم لمدة خمس دقائق فقط»، فقلنا له: «لا إشكال في ذلك»، عندها دخلنا المنزل وجلسنا.
وبدأ بعدها بالحديث، فتحدّث عن المكاشفات وعن الأمور الحاكية عن تعيين زمان الظهور لمدّة ساعتين تقريباً! وفي هذه الأثناء كان أشخاص آخرون قد التحقوا بمجلسنا، حتّى صار المجلس يحتوي على عشرة أشخاص تقريبًا. ثمّ بعد إتمام كلامه نظرتُ إليه وقلت له: «إذا سمحتم، لديّ سؤال أريد أن أطرحه عليكم»، فقال: «تفضّل!» فقلت:
«لقد مضى ما يقرب من ساعتين ونحن في محضرك، وكان الكلام في جميع هذه المدّة عن زمان الظهور، وعن نقل المكاشفات والمنامات وبيان بعض الأحداث غير العاديّة المرتبطة بهذا الموضوع، والسؤال هو: هل لديك علمٌ بصحّة هذه المنامات والمكاشفات وإتقانها أم لا؟».
فقال: «لا، ليس لديّ علم!»، فقلت له:
«إذن على أيّ أساسٍ وبأيّ دليلٍ شرعيٍّ تذكر هذه الأمور للناس؟! فهل من الصحيح أن تحدّث الناس بصفتك عالماً دينيًا بمطالبَ أنت نفسك لست مطمئنًا من صحّتها؟! بل حتّى على فرض صحّة هذه المنامات والمكاشفات، فهل ترى أنّ نقل هذه الأمور تعتبر موردًا لرضا الأئمّة عليهم السلام وممضاةً من قبلهم؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يُعيّن نفس الأئمّة وقتًا خاصًّا لظهور الإمام؟ كأن يقولوا مثلًا إنّ ظهور الإمام سيكون حتماً في السنة الكذائيّة وفي الشهر الفلاني واليوم الفلاني؟! فلماذا لا يوجد مثل هذا الأمر، ولماذا اكتفوا بذكر العلامات الكليّة فقط؟».
عند ذلك أجابني: «لعلّ المصلحة كانت تقتضي بأن لا يعيّن الأئمّة وقتًا دقيقًا لهذه المسألة».
فقال له الحقير:
«ألا تقتضي تلك المصلحة أيضًا أن لا تعيّن أنت وقتًا لها، بل تدع الأمور تجري وفق مجراها الطبيعي وتستمرّ على هذا المنوال؟ ثمّ إنّك قد اعترفت الآن بأنّه لا علم لديك بصحّة هذه الأمور التي تنقلها من عدمه!»
عند ذلك سكت هذا العالم ولم يتكلّم بعدها بشيءٍ، فقمنا بدورنا بوداعه والخروج من منزله.
وبعد الخروج من المنزل، نظر إليّ ذلك الصديق الذي كان مشتاقًا جدًا لزيارة هذا العالم وقال لي:
«الآن أدركت كم هو كبيرٌ حقّ أبيك علينا، وأنّنا غافلون عن ذلك؛ فأين هو من هؤلاء؟! وأين كلامه ممّا لدى هذه الجماعة؟! وأين هدايته وإرشاده وأين مسائل هؤلاء وتعاليمهم؟! فالإنسان ما لم يطّلع على بعض الأمور بنفسه ويراها بعينه، لا يحصل له التصديق بها».
عند ذلك نظرت إلى ذاك الرجل وقلت له:
«لقد خجلتُ أن أقول لذاك العالم المحترم: إنّ نفس الحقير قد سمع منك تعيين وقتٍ محدّدٍ لظهور الإمام، وقد مضى حتّى الآن سنين من ذلك التاريخ المعيّن ولم يحصل شيء!».
هل يصحّ أن نفعل ذلك؟ أليس لدينا مسائل أخرى حتّى نأتي ونشتغل بهذه المواضيع، فنترك الناس حيارى تائهين في عالم التخيّل والأوهام، ونضيّع أعمارهم وأوقاتهم بانتظار المواعيد التي نخبرهم بها تخيّلًا من دون أساس؟ وعندما يتخلّف وقت الظهور عن الموعد المضروب، نقول للناس: «لقد حصل البداء في ذلك!»، ثمّ نقوم مرّةً أخرى بتعيين وقت آخر، ويحصل «بداء» آخر، وهكذا ...
يا عزيزي! لم يحصل بداءٌ ولم يتغيّر شيء، ولكنّ الذي حصل هو انكشاف جهل هؤلاء الأشخاص وثبوت عدم اطلاعهم؛ فمن الذي طلب منك -أيّها العالم- أن تدخل في بيان هذه الأمور التي لا علاقة لك بها، فتترك خلقًا كبيرًا من الناس في حيرةٍ من أمرهم وفي دوّامةٍ لا نهاية لها؟!
كذلك حصل أمرٌ شبيهٌ بذلك أيضًا مع شخصٍ آخر وعالمٍ آخر في إحدى المدن الإيرانيّة، حيث وعد الناس أنّه بعد انتهاء حربٍ ستندلع في هذه المنطقة، سوف يظهر الإمام، وعندما ثبت خلاف ذلك، قال: «لقد حصل بداء في ذلك وانتقل موعد الظهور
إلى وقت آخر». والعجب من هؤلاء الناس العوامّ الذين لا تدبُّر لهم ولا إدراك؛ حيث لا يزالون حتّى الآن يأنسون بمثل هذا الكلام، ولا يزالون يصغون لحديث هؤلاء. ورغم أنّه قد ثبت لديهم كذب كلام هؤلاء الأشخاص وثبت خلاف ما يدّعونه، فإنّهم مع ذلك لا يبتعدون عنهم ولا يتركونهم!
هناك مسألة في غاية الأهميّة، ولإدراكها آثارٌ مباشرةٌ على حياة الإنسان، ومفادها أنّ مراتب حقائق الأشياء متفاوتةٌ في سلسلة عللها الوجوديّة، وأنّ حقيقة الوجود تتشخّص وتتعيّن في مقام الظهور والبروز ضمن سلسلة من العلل الفاعليّة والصوريّة لها وذلك بواسطة اسم «المُريد»، وكلّ مرتبةٍ من مراتب الظهور لها حكم العلّة الفاعليّة للمرتبة اللاحقة وصولًا إلى مرتبة الشهادة والتعيّن المادّي حيث تصل إلى منصّة الظهور، ويُصبح لها وجودٌ عينيٌّ خارجيٌّ في عالم المادّة والصورة. هذا بلحاظ تطوّر الوجود الصرف البسيط وتحوّله في عالم الأعيان والتشخّصات الخارجيّة.
وأمّا بلحاظ عِلم الحقّ تعالى بهذه التطوّرات، والتحوّلات والإشراف الحضوريّ لذات الباري على الآثار واللوازم والظلال المترشّحة عن مرتبة الذات، فيجب القول: أنّه لا سبيل هناك لحصول أيّ تبدّلٍ وتحوّلٍ أبدًا، وأنّ الحقيقة العِلميّة للباري تعالى بالنسبة لجميع هذه التحوّلات والتغييرات لا يطرأ عليها أيّ تغييرٍ أو تبدّلٍ، وأنّ الصورة العلميّة لا تتبدّل إلى صورةٍ علميّةٍ أخرى بحيث تُمحى الصورة العِلميّة الأولى من صفحة العلم الإلهي، بل إنّ جميع الصور الموجودة في مرتبتها العينيّة الحقيقيّة -والتي هي عبارة عن مرتبة عليّة الوجود الخارجي في عالم الأعيان والشهادة، أو في مرتبة المبدعات والأمور المجرّدة والعقلانيّة والنورانيّة- هي كلّها موجودة على منوالٍ واحدٍ وبدرجةٍ واحدةٍ ومرتبةٍ واحدةٍ ولها ثبوت أزلي بحيث لا يتطرّأ إليها التحوّل والتغيّر أبدًا، وقد عبّر عنها في الآيات القرانيّة بـ «أمّ الكتاب»، كما ورد في الآية الشريفة: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ﴾.۱
أو كما في آية أخرى، حيث يقول: ﴿وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾.۱ وقد عبّر أيضًا عن ذلك بـ «اللوح المحفوظ» مقابل لوح المحو والإثبات؛ كما في الآية الشريفة: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾٢، فإنّه في هذه المرتبة لا وجود لأيّ تغييرٍ أو تحوّلٍ، ولا طريق لأيّ محوٍ أو إثباتٍ، بل سوف تكون جميع الأشياء بصورتها العلميّة ثابتةً في علم الحقّ الأزلي، وكل تغيّرٍ وتحوّلٍ يظهر في عالم المادّة، أو بحسب تعبير بعض الروايات من حصول البداء في إرادة الحق تعالى بالنسبة للصور العينيّة للأشياء، فهو مرتبط بعلمنا نحن، ومرهون بمحدوديّة سعتنا الوجوديّة في الإشراف على العوالم الربوبيّة والاطّلاع على سلسلة العلل الوقوعيّة للأشياء، لا أنّه مرتبطٌ بعلم الحقّ تعالى وإرادته، وإلّا فلازم هذا الكلام هو إثبات الجهل وعدم الاطلاع العلميّ للحقّ تعالى بالنسبة للإرادات المتعاقبة في كيفيّة الوجود الخارجي للأشياء.
وبناءً عليه، فإذا شاهدنا في الروايات حصول البداء في مسألةٍ معيّنةٍ، مثل مسألة إمامة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، أو في إمامة الإمام العسكريّ عليه السلام، فهذا لا يعني أنّ العلم الأزليّ للباري تعالى كان قد تعلّق أوّل أمره بإمامة غير هاذين الإمامين، ثمّ بعد ذلك -ولسببٍ من الأسباب ونتيجة تبيّن بعض المصالح وظهور بعض الأمور- غيّر الله إرادته ومشيئته فتعلّقت إرادته بإمامة هذين الإمامين؛ فهذا الاعتقاد كفرٌ وجهلٌ وضلالٌ. إنّ إرادة الباري تعالى في مرحلة التكوّن ليست كإرادتنا نحن معلولةٌ لتصوّر الموضوع ورعاية الظروف المرتبطة به، وملاحظة سائر جوانبه والمصالح المتعلّقة به، وحصول الشوق والرغبة في تحقّقه، ثمّ حصول العزم المؤكّد على الفعل، بل إنّ نفس إرادة الحقّ لفعلٍ معيّن تساوي تحقّق هذا الفعل في الخارج مباشرة، ولا معنى لحصول هذه السلسلة المذكورة لعليّة الأشياء الخارجيّة في وجود الحقّ تعالى.
إنّ البداء هو بمعنى انكشاف حقيقةٍ ما خلافًا لما كان متوقّعًا قبل ذلك؛ فبعد أنّ بيّن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عدد الأئمّة من بعده، وذكر أسماءهم واحدًا تلو الآخر، وبيّن لأصحابه خصوصيّات كلّ واحدٍ منهم بشكلٍ تفصيليٍّ .. بعد ذلك كلّه، كيف يمكن أنّ يتصوّر أنّ يحصل بداءٌ في هذا الأمر؛ بحيث أنّ النفس المقدّسة للرسول الأكرم لم تكن واقفةً على حقيقته؟!
إذن فالبداء معناه جهلُنا نحن في كيفيّة تحقّق سلسلة العلل الفاعليّة في عالم الأعيان والخارج. وأما بالنسبة للإمام عليه السلام فلا معنى للبداء أبدًا، وذلك لأنّ علم الإمام عليه السلام ناشئ من حقيقة الولاية، وكما ذكرنا فيما تقدّم فإنّ ولاية الإمام عليه السلام هي عين ولاية الحقّ تعالى، وهي ولاية لا تقبل التخلّف أبدًا، كما أنّ ولاية الباري تعالى غير قابلةٍ للتخلّف.
إنّ الولاية تعني سيطرة الباري تعالى وهيمنته وإعمال سلطته على جميع عالم الوجود، وعلى هذا الأساس، فلا يمكن أنّ يتعدّى هذا الإعمال وهذه الفعليّة للإرادة تلك الحقيقة العلميّة الأزليّة للباري أو يتجاوزها؛ ولذا فمن غير الممكن كذلك أنّ تتجاوز ولاية الإمام عليه السلام مسيرة العلم الكليّ للحقّ تعالى أو تتجاوز الممشى الأزليّ له، بل إنّ الإمام عليه السلام، من خلال إعماله لولايته، إنّما يخرج تلك الصورة العلميّة الكليّة للحقّ إلى منصّة الظهور الخارجيّ والمصداقيّ، وهذه المسألة ظريفةٌ ودقيقةٌ و عميقةٌ جدًا.
ومن هنا يُعلم أنّه ليس لدى الإمام عليه السلام أيّة إرادةٍ أو شوقٍ سوى تحقّق إرادة الباري تعالى تمامًا وبدون أيّ اختلاف، ولا سبيل أبدًا لأيّ شيءٍ في وجوده -حتّى ولو كان قليلًا- غير المشيئة الإلهيّة والإرادة الإلهيّة. وأما سائر الأشخاص الذين يمتلكون علماً ناقصًا مقتصرًا على المراحل البسيطة من العلم بسلسلة العلل والأسباب التكوينيّة لعالم الوجود، ولهم اطّلاع على عالم البرزخ والمثال فقط (بل وهذا الاطّلاع ناقصٌ ضعيفٌ لا اطّلاعٌ كاملٌ عميقٌ)، ويعلمون شيئًا من مراتب عالم
البرزخ، فهم يتصوّرون أنّ المسألة تنتهي عند هذا الحدّ، وأنّ كلّ ما شاهدوه في حال النوم أو في المكاشفات سوف يتحقّق قطعًا في الخارج، غافلين عن أنّ حقيقة عالم البرزخ والمثال والصورة إنّما تقع في آخر مرتبةٍ من مراتب سلسلة العلل؛ ولذا فمن المحتمل ألّا تكون الصورة التي شاهدها هذا الانسان قد وصلت بلحاظ عالم الثبوت والعليّة التامّة إلى مرتبة الفعليّة التامّة والكمال الصوري حتّى يتمّ إجراؤها وتطبيقها وتنفيذها في عالم المادّة، وأنّها لا تزال بحاجةٍ للوصول إلى هذه المرتبة إلى تفعيل العلل المتقدّمة عليها، والحال أنّ الله وحده هو الذي يعلم ماذا يجري في عوالم الربوبيّة تلك، وأيّة تصادمات تجري بينها، وأيّ فعلٍ وانفعالٍ يحصل عندها، وأيّ تغييرٍ وتحوّلٍ يصير هناك نتيجة ظهور علل وأسباب وحصول مقدّرات قبل أن يصل القضاء الكليّ إلى مرتبة القضاء المحتوم والمبرَم.
لقد ورد في الخبر أنّ النبيّ عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام أخبر بوفاة أحد الشباب، وفي اليوم التالي رأى أصحاب النبي أنّ ذاك الشاب لا يزال يتمتّع بصحّة وسلامة، وأنّه يقوم بكافّة أعماله، فجاءوا إلى النبيّ وقالوا له: «يا روح الله! لقد أخبرتنا أمس بوفاة هذا الشاب، والحال أنّنا رأيناه سليماً يروح ويغدو بصحّة جيّدة». فقال لهم النبي عيسى: «أحضروه!»، فلمّا جاءه، قال له النبيّ: «كان من المفترض أن تموت الليلة الماضية بلدغة أفعى، فما الذي جرى حتى دفع الله عنك هذا البلاء؟»، فقال له: «قبل أن أرجع أمس إلى المنزل عرض عليّ فقير في طريق العودة، فأنفقت عليه شيئًا وعدت بعدها إلى المنزل، وصباح هذا اليوم عندما استيقظت من نومي التفتّ إلى وجود حيّة سوداء خطيرة تحت فراشي، فقتلتها». عندها قال النبيّ: «أرأيتم هذا الإنفاق وهذه الصدقة كيف دفعت الموت الحتميّ الذي كان مقرّرًا أن يصيب هذا الشاب من خلال سَمّ هذه الحيّة!»۱، وقد وردت رواياتٌ عديدةٌ تحكي مثل هذه القصّة.
من هنا يتّضح أنّ الأشخاص الذين يخبرون بموعد ظهور الإمام الحجّة من طريق المكاشفات والمنامات أو بواسطة إعمال بعض العلوم الغريبة، لمّا كان لديهم جهلٌ ونقصٌ وجوديٌّ وعلميٌّ، فهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى المراتب العالية لسلسلة العلل؛ لذا نرى اطّلاعهم -على فرض صحّته- يقتصر فقط على بعض المراتب المتدنّية من عالم المثال والمراتب التي تقبل التغيّر والتحوّل فيه، ومن الممكن جدًا -نتيجة حصول سبب معيّن أو تظافر أسبابٍ متعدّدةٍ- أن يطرأ تغييرٌ على المصاديق الخارجيّة لهذا القضاء المحتوم الذي كان من المقرّر حصوله على هذا الشخص، أو أن تحصل بعض الأمور الموجبة لتبدّل كيفيّة تحقّق هذا الأمر أو يحصل تبدّل في كمّيته، والحال أنّ هؤلاء الأشخاص لا اطلاع لديهم على هذا الاختلاف الحاصل، ولا خبر لهم به أصلًا، بل يتصوّرون أنّ هذه الصورة التي رأوها هي التي ستتحقّق في عالم الخارج، هذا إن لم نقل أنّ هذه المكاشفات والمنامات باطلةٌ من أساسها، وأنّها حصلت لهم نتيجة حصول بعض التخيّلات ونتيجة غلبة القوّة الواهمة والمتخيّلة عنده.
وبناءً على هذا، فأولئك الذين لديهم اطّلاعٌ كاملٌ وإشرافٌ حقيقيٌّ على مسألة الظهور -من قبيل أولياء الله الحقيقيّين والعرفاء الشامخين وأهل التوحيد- لا يظهرون شيئًا من ذلك، أو أنّهم إذا قالوا شيئًا -وهذا نادرًا ما يصدر- فإنّما يكون في قالب الكنايات والإشارات وضمن كلامٍ مبهمٍ، بحيث لا يطّلع أحدٌ على ذلك، وأمّا أهل هذه الأمور الذين يدأبون على إظهارها وإبرازها ويدّعون معرفتهم بها، فليس لديهم خبر أو اطلاع.
اي مرغ سحر عشق ز پروانه بياموز | *** | كان سوخته را جان شد و آواز نيامد |
اين مدّعيان در طلبش بيخبرانند | *** | و آنرا كه خبر شد خبري بازنيامد |
[والمعنى: يا طير السحر تعلّم المحبة من الفراشة، فقد احترقت وتبدّلت إلى روح ولم تعد تغنّي.
إنّ المدّعين لطلب المحبوب لا خبر لديهم عنه، ومن صار ذا علم به لم يحدّث بشيء].
وهنا وبمناسبة الحديث حول الإخبار عن ظهور بقية الله الأعظم أرواحنا لتراب مقدمه الفداء والكشف عن عالم البرزخ والمثال، أجد من المناسب أن نذكر مطلبًا عن المرحوم الوالد رضوان الله عليه ذكره في كتابه وهو يتعلّق بمسألة الصورة المثالية والبرزخيّة لصلاة الليل، حيث صرّح بأنّ أحد العلماء المحترمين حدّثه عن أهميّة صلاة الليل وفوائدها عند لقائه به في مشهد، وبما أنّ الوالد كان مبتلىً في ذلك الوقت بحالةٍ مرضيّةٍ نتيجة تعرّضه لسكتةٍ قلبيّةٍ، وكان جليس سريره في المستشفى، فقد كانت تفوته صلاة الليل في بعض الأحيان، ولهذا صدر من ذاك العالم المحترم ذلك التذكير بضرورة الإتيان بصلاة الليل.
ويذكر الحقير أنّي في تلك الأيام، وبعد سماع هذه المسألة، أذكر أنّني قمت بتوضيح بعض جوانبها لبعض الأصدقاء، فقلت لهم: إنّ الأشخاص العاديّين وإن كانوا يمتلكون مراتب معنويّةً ونورانيّةً وكانوا من أهل الكرامات والرياضات والمكاشفات، لكن سعتهم العلميّة وإشرافهم الوجوديّ على الأولياء الإلهيّين والعرفاء بالله يقتصر على خصوص عالم المثال والبرزخ، بل حتّى لو كانوا قد بلغوا إلى مراتب أعلى، فسوف يكونون في مرتبة الملكوت المرتبطة بعالم النفس، فبما أنّهم لم يصلوا بعد إلى نهاية مرحلة الرفض المطلق للأنانيّة وترك الحيثيّات البشريّة والتعلّقات النفسيّة، فإنّ وجودهم لن يصل إلى حالة الاتحاد بالوجود الصرف للباري تعالى ولن تحصل لهم المعيّة معه، وسوف تكون آثار الغيريّة وشوائبها مانعةً لهم من الورود إلى الحريم الإطلاقي وغير المتناهي للحقّ تعالى، وسوف يكونون غريبين عن الأشخاص الذين حصل لهم توفيق التشرّف بالحضور بين يديّ السلطان، وسيكون نظرهم إلى الأمور من بعيدٍ وبشكلٍ مبهمٍ ومجملٍ. إنّ هؤلاء ليس لديهم حظٌّ من الاطلاع على ما يجري في تلك المرتبة من التجرّد والتوحيد، ولا علم لهم أيّ نجوى هناك، وأيّ أسرارٍ وخلواتٍ يقوم بها العشّاق مع المعشوق في عالم الوحدة والاتّحاد، إذ الموجود في تلك المرتبة هو الحقّ فقط، وهو الذي يتجلّى بصورٍ متفاوتةٍ، وهو
الذي يظهر في أشكال مختلفةٍ؛ فتارة يظهر بصورة مصلٍّ راكعٍ وساجدٍ، وطورًا يظهر بصورة مريضٍ وسقيمٍ طريح فراشه في البيت أو في المستشفى، ففي تلك المرتبة لا يعود هناك فرقٌ أبدًا بين الأشكال المختلفة والأدوار المتباينة، وذلك لأنّ الذي يتجلّى في تلك المرحلة هو الباري فقط، فلا تبقى أيّة فائدةٍ في اختلاف المظاهر ولا يعود لها أيّة قيمةٍ في سوق المعاوضة. وفي تلك المرتبة ينتفي كلّ شيء؛ فهناك الصلاة والركوع والسجود والخلوة والعبادة وكلّ شيء هناك، عبارةٌ عن شيءٍ واحدٍ فقط؛ وهو تجلّي الباري تعالى.
ولكن بما أنّنا غافلون عن هذه المرتبة، ولمّا كُنّا نعتبر الحقيقة هي الصورة لا ذا الصورة ونشاهد التجلّي والظهور، غافلين عن المتجلّي، فإنّنا نعتبر أنّ كلّ ما ينكشف لنا من تلك الصور المثاليّة في ذاك العالم هو الحقّ فقط، وننفي ما وراء ذلك ونحكم عليه بالعدم، ونشرع بتقديم الإشكالات وبالاعتراض على وجود شيءٍ غير ما وصلنا إليه.
نعم! فتلك الأخبار التي تدلّ على مقام الأنس بالحقّ تعالى والقرب منه والتي تقول:
«لي مع الله حالات لا يسعها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل»۱
إنّما تشير إلى ذاك المقام؛ أيّ المقام الذي لا يقبل التصوير والتشكّل، وبالتالي لا يمكن لأيّ من النفوس والملائكة التي لها اطلاع على عالم البرزخ أن تطّلع عليه. كما أنّ العالم هناك خالٍ عن الصورة والتشكل ولا مقدار له ولا كيفيّة، فكيف يمكن لمن دخل في عالم المثال أن يطّلع على تلك الحالات! إنّ هذا ممتنعٌ بل مستحيلٌ.
وعليه، فعلّة اعتراض ذاك العالم المحترم على المرحوم الوالد قدس الله نفسه سببها عدم مشاهدته الصورة المثاليّة لصلاة الليل في عالم البرزخ، والحقّ معه من هذه الجهة، ولكن من جهة أخرى لمّا لم يكن يمتلك مراتب أعلى ولم يكن قد وصل إلى مرحلة يعرف الخلوة والأنس التي كان يعيشها المرحوم الوالد أبدًا، ولم يكن على اطلاعٍ على
ذلك؛ لذا فقد وقف موقف الناصح والمذكّر له حول الإتيان بصلاة الليل، والحال أنّ ذلك الرجل العظيم أقرب إلى ساحة الوحدة بآلاف المرّات بل بملايين المرّات، بل مهما وضعنا من أرقام للمقايسة تبقى المسألة ناقصة وقاصرة عن بلوغ حقيقة الأمر، حتى أنّ العقل والخيال عاجزان عن الوصول إلى تصوّر تلك المرتبة.
أجل، هذا هو الفرق بين العارف وغيره، وهذا هو الفرق بين أهل التوحيد وسائر الناس من كلّ طبقة وصنف. إنّ المطلوب في مدرسة العرفان هو الوصول إلى كنه الإمام لا إلى ظهوره، فمعرفة نفس الإمام معرفة واقعيّة هي محل البحث وأساس الأمر في هذه المدرسة، لا الرؤية العاديّة والصوريّة له، وعلى هذا الأساس يتقدّم الإنسان و يتطوّر، فيصب توجّهه و اهتمامه نحو حقيقة الإمام عليه السلام وباطنه ويجعل روحه فانية في روح الإمام، ويجعل قلبه فانيًا في قلب الإمام، ويطوي شيئًا فشيئًا مراتب التجرّد والتزكية الواحدةَ تلو الأخرى من خلال تطبيق أموره ووظائفه وتكاليفه مع إمامه، حتّى يصل في نهاية المطاف إلى مرتبة اليقين والشهود ويحصل له الاندكاك والمحو والفناء في ذات صاحب الولاية ونفسه.
من هنا، نرى نفس الإمام عليه السلام في خطابه للشيخ المفيد يقول:
«ولو أنّ أشياعنا -وفّقهم الله لطاعته- على اجتماعٍ من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم (فيما يتعلق بولايتنا والاهتمام بها واتّباعها)، لمَا تأخّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقّ المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلّا ما يتّصل بنا ممّا نكرهه ولا نؤثره منهم»۱.
يُوضح الإمام في هذا الخطاب أنّ علّة حرمان شيعته من لقائه ومشاهدته هو عدم اهتمامهم بالتكاليف الشرعيّة وارتكابهم للأمور المنهيّ عنها، حيث إنّها موجبةٌ لسلب توفيق زيارة الإمام عليه السلام وحضوره، و أنّه إذا وصل هؤلاء إلى المعرفة الحقيقيّة لصاحب الولاية ونالوا هذه الرتبة فلن يكون هناك أيّ رادعٍ أو مانعٍ من اكتسابهم الفيض من محضر الإمام عليه السلام.
إنّ الحديث في هذا المجال واسعٌ جدًا، ولذا نوكل تفصيل الكلام فيه إلى محلّه بحول الله وقوّته.
العارف لا يكتفي بالكرامات و الخوارق و لا يرضى بأي مرتبة دون التوحيد مهما بلغت
كان الكلام في كيفيّة ارتباط الولي الكامل والعارف الواصل بالناس وكيفيّة تحدّثه إليهم وتصرّفه معهم، وتمّ الحديث عن كلام العارف الكامل وتعاطيه وعمله وفكره في أيّ مسألةٍ، وذكرنا أنّه مُتمحّضٌ في التوحيد دون أن يتنازل عن تلك المرتبة إلى غيرها أبدًا، وأنّه يرى أنّ التنازل عن هذه المرتبة خسارةٌ كبيرةٌ وإضاعةٌ للفرصة وإعدامٌ للاستعدادات، مهما تكن تلك المرتبة -التي هي دون التوحيد- مرتبةً جيّدةً وحائزةً على أهميّةٍ عاليةٍ.
في أحد الأيّام ذهب أحد المحترمين الذين ساروا في طريق السلوك وتحمّلوا الكثير من المشقّات، والذين نهضوا لاكتساب الفضائل وتحصيل الكرامات والإتيان بخوارق العادات، عبر تحمّل الشدائد وممارسة الرياضات الروحيّة، فقد ترك مسكنه واعتكف على أعتاب المقامات المقدّسة واشتغل بالمجاهدات والرياضات النفسانيّة وتوسّل بالأئمّة المعصومين عليهم السلام، ونتيجة لهذه التوجّهات والمراقبات انكشفت له بعض العوالم وحصل له الاطّلاع على بعضها، وصار يمتلك نفسًا مؤثّرةً تظهر مِنها الكرامات وخوارق العادات، وقد سمع الكاتب عنه بعض المسائل ونُقل لي عنه مسائل أخرى، وهو المرحوم الشيخ جعفر المجتهدي رحمة الله عليه، لقد ذهب رحمهُ الله بمعيّة المرحوم آية الله السيّد عبد الكريم الكشميري رحمة الله عليه للتشرّف بلقاء السيّد الحدّاد قدس الله سره.
فخاطبه المرحوم السيّد الحدّاد: «ما الذي حصلت عليه؟» فقال له: «لقد حصلت على الاسم الأعظم بسبب التوسّل بالأئمّة المعصومين عليهم السلام وعنايتهم بي، ويمكنني أن أفعل كل ما أريده».
فقال له السيّد الحدّاد:
«هل ترضى أن تتخلّى عما حصلتَ عليه مقابل الحصول على الحقّ تعالى؟!».
فسكت لحظةً في حالةٍ من الحيرة ثمّ قال وملؤه الاضطراب والتشويش: «كلّا! لا يمكنني ذلك، فأنا لم أحصل على هذه الحالة بسهولةٍ، فأنا قد قمتُ بالكثير من الرياضات والمجاهدات حتّى وصلت إلى هذه المرتبة». عندها سكت السيّد الحدّاد أيضًا ولم يستمرّ في الحديث معه.
هذه القضية ونظائرها تستحقّ التأمّل بها والنظر إليها بدقّةٍ، وتُلجئ الإنسان الكيّس إلى التفكير الجدّي: بأنّه كيف يمكن للإنسان أن يأنس بالأمور التي هي دون الحقيقة العالية والراقية، وتصير تلك المرتبة التي حصل عليها كالصنم مقابل معرفة الحقّ وتمنعه من الوصول إلى مقام خليفة الله، وتجعله يأنس ويفرح ببعض التصرّفات وإعمال إرادته في الأمور الجزئيّة، وتجعله يُفوِّت على نفسه ذاك الاستعداد العالي لحقيقة وجود العالم الإنساني ليبطُل ويضيع و يصير نسيًا منسيًا!
يجب الانتباه إلى أنّ جميع هذه المسائل؛ من قبيل الاطّلاع على النفوس والضمائر والمغيّبات، والقدرة على خرق العادات وإظهار الكرامات وشفاء المرضى وإحياء الموتى، كلّها من التذاذ النفس في مرحلة الفاعليّة، ولا علاقة لها بوجه من الوجوه بمسألة التوحيد ومعرفة الله تعالى، بل هي عبارةٌ عن أنسٍ منحه الله تعالى لهذه النفس على مقتضى شاكلتها وما يتلاءم معها، ونظير هذه المسائل موجودةٌ حتّى عند غير المسلمين من الفرق المختلفة وأهل الرياضات.
إنّ الأولياء الإلهيّين والعرفاء بالله يحذّرون تلاميذهم دائماً من التوجّه إلى هذه المسائل، ويعتبرون أنّ الابتلاء بهذه الأمور من أخطر المخاطر وأهم المهالك والموانع أمام ارتقاء النفس والوصول إلى ذورة التوحيد، ويعتبرونها فخّاً خطيرًا يصطاد السالكين والماشين على طريق السلوك، ويُنبّهون بشكلٍ متواصلٍ أنّ: على الإنسان ألّا يتوجّه إلى هذه المسائل أبدًا وألّا يعطف ذهنه إليها بتاتًا؛ وسبب ذلك كما تقدّم هو أنّ نفس الإنسان، و نتيجةً لابتعادها عن الحقائق وعالم المعاني، تتعلّق بهذه
الأمور البرزخيّة وتنجذب أكثر للصور المثاليّة. ومن هنا، فما لم تصل نفس الإنسان إلى نقطة الثبات والملكة في مراحل المعرفة وفعليّة القوى، فيجب عليه أن يبتعد بشكلٍ جدّيٍ عن التفكير بهذه الأمور والانجذاب إليها، ويترك نفسه حرًا بين يدي الحقّ تعالى وإرادته واختياره، ويجب عليه أن يطلب فقط معرفة ذات الباري ولقائه، كما فعل الإمام السجاد عليه السلام في مناجاة «المريدين»، حيث يقول:
«سبحانك ما أضيق الطرق على من لم تكن دليله! وما أوضح الحقّ عند من هديته سبيله (نحو طريقك القويم وصراطك المستقيم)، إلهي! فاسلك بنا سبل الوصول إليك، وسيّرنا في أقرب الطرق للوفود عليك، قرّب علينا البعيد، وسهّل علينا العسير الشديد، وألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار (أي المبادرة والإسراع) إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون، وإيّاك في الليل والنهار يعبدون، وهم من هيبتك مشفقون، الذين صفّيت لهم المشارب، وبلّغتهم الرغائب، وأنجحت لهم المطالب، وقضيت لهم من فضلك المآرب، وملأت لهم ضمائرهم من حبّك، وروّيتهم من صافي شربك، فبك إلى لذيذ مناجاتك وصلوا، ومنك أقصى مقاصدهم حصّلوا.
فيا من هو على المقبلين عليه مقبل، وبالعطف عليهم عائدٌ مفضلٌ، وبالغافلين عن ذكره رحيم رؤوف، وبجذبهم إلى بابه ودودٌ عطوفٌ! أسألك أن تجعلني من أوفرهم منك حظًا، وأعلاهم عندك منزلًا، وأجزلهم من وُدّك قِسماً، وأفضلهم في معرفتك نصيبًا! فقد انقطعتْ إليك همتي، وانصرفتْ نحوك رغبتي، فأنت لا غيرك مرادي، ولك لا لسواك سهري وسهادي (فلا وجود لغيرك حتّى بمقدار الخطور في مخيلتي)، ولقاؤك (والفناء في ذاتك) قرّة عيني، ووصلك مُنَى نفسي، وإليك شوقي، وفي محبتك ولَهي، وإلى هواك صبابتي، ورضاك بُغيَتي، ورؤيتك حاجتي،
وجوارك طلبي، وقربك غاية سؤلي، وفي مناجاتك رَوحي وراحتي وعندك دواء علّتي وشفاء غلّتي، وبرد لوعتي (واحتراقي من الهجر والفراق) وكشف كربتي.
فكن أنيسي في وحشتي، ومقيل عثرتي وغافر زلّتي، وقابل توبتي ومجيب دعوتي، وولي عصمتي، ومغني فاقتي ولا تقطعني عنك ولا تبعدني منك، يا نعيمي وجنتي ويا دنياي وآخرتي، يا أرحم الراحمين».۱
يقول الحقير: إذا بحثنا في جميع الكتب الموجودة في العالم، فإنّنا لن نجد عباراتٍ أعلى ولا أرقى ولا أكثر حكاية عن الشوق والميل والرغبة وتوجّه القلب وتصحيح المسير في طريق التوحيد ومعرفة الحقّ تعالى من هذه المناجاة التي أجراها الوحي على قلب الإمام السجاد عليه السلام، فالإمام زين العابدين عليه السلام له يدٌ بيضاء في هذا المجال، فهو من خلال هذه الفقرات قد أشعل شمس سماء المعرفة وأنار ساحة التوحيد للسالكين والسائرين نحو حريم المقصود وكعبته، وللهائمين بالجمال الإلهي، وأوضح المسألة بشكلٍ تامٍّ؛ فلم تعد ثمرة الكتابة في هذا المجال بعد هذه الفقرات إلّا إحساسًا بالخجل والحياء.
نعم، إنّ إعجاز الإمام السجاد عليه السلام ليس هو ما ذكر في كتب التاريخ والسِيَر، بل إنّ إعجاز الإمام هو مناجاة المريدين هذه! ومع هذه المناجاة، تكون الحجّة قد تمت على جميع مدّعي المسير نحو الكمال، وعلى الذين يتبجّحون دائماً بقربهم من الولاية وظهور خوارق العادات منهم واقترابهم من أولياء الحقّ، و بها سينكشف أمر جميع أولئك، ليظهر أنّ تلك الصور الجميلة التي كانوا يتّخذونها لأنفسهم كانت كالرسم على الماء، فأولئك ليس لديهم أيّ تصوّرٍ عن معرفة ذات الحقّ، وهم يكتفون بمجرّد إنكار الوصول إلى هذه المرتبة، ويطعنون على العارفين بالله والواصلين إلى كعبة ذات المحبوب وحريمه تعالى.
أوَهَل يُمكن أن يتمّ العثور على أعلى من هذه الفقرات وأبلغ!؟ هذه الفقرات التي جعلت إرادة الإنسان وهمّته واختياره وحبّه وعشقه وولهه ونهاية مناه، بل وجميع متعلّقات وجوده، منصبّة فقط في سبيل الوصول إلى حقيقة ذات الباري تعالى ولقائه والفناء فيه! فهل مقصود الإمام من عبارة «أقصى مقاصدهم» هو الوصول إلى الاسم الأعظم فقط، أو التمكّن من تحويل النحاس إلى ذهب، أو القدرة على أن يمسح على المريض فيُشفى؟! لا يمكن ذلك؛ إذ حتّى المُرتاض الهندي يستطيع أن يقوم بهذا الفعل! وهل المقصود من المنزلة العليا والوصول إلى أعلى نصيبٍ من معرفة الحقّ تعالى، هو الاطلاع على ما في ضمائر الناس والكشف عن الأحداث و الخبايا التي تحصل وراء الحائط، أو في أيّ مكانٍ من العالم؟! إنّ هذا يمكن أن يحصل عليه الإنسان من خلال الأشعّة فوق البنفسجيّة مثلًا وبضعة خطوط هاتفيّة! وماذا عمّا ذكره الإمام من أن لقاء الله قرّة عينه۱؟! فهل مقصوده منها التفّاح والفواكه وماء الورد والأنهار وحور العين في الجنّة؟!
إلى أين يذهب أولئك الذين ينظرون نظرة تحقيرٍ وازدراء إلى العرفاء وكلماتهم التوحيديّة ومجالسهم؟ ألم يقرؤوا حتّى الآن فقرات أدعية المعصومين عليهم السلام، ويتأمّلوا فيها؟! أم أنّهم قرؤوها ومرّوا عليها مرور الكرام من دون تفكّرٍ وتعقّلٍ؟ أم أنّهم رأوا أنّ الوصول إلى تلك المرتبة ليس بمقدورهم، فأغمضوا عيونهم وغضّوا طرفهم عن تلك النعم والفيوضات التي لاحدّ لها من الحقّ تعالى، ممّا أدّى بهم إلى مقام الإنكار والعناد والاستهزاء، فأنكروا تلك المرتبة إنكارًا كلّيًا؟ فكيف يمكن أن نعتبر أنّ المقصود من هذه الفقرات هو الوصول إلى المقامات المعنويّة؛ من خرق العادات وبروز الكرامات وكشف المجهولات الصوريّة والبرزخيّة وشفاء المرضى وغير ذلك! فهل قام الإمام السجاد بالدعاء وطلب المعونة والتوفيق من الله لأجل الوصول إلى هذه الدرجات؟! أليس من المُخجل أن يقول الإمام: إلهي هبني القدرة
على شفاء المرضى والتكلّم مع الملائكة وإحياء الموتى والاطّلاع على نوايا النفوس وخفايا القلوب؟! وامنحني هذه القدرة كي أستطيع القيام بأمورٍ غير عاديّةٍ يعجز سائر الناس عن القيام بها!
فذلك الذي يقول في كلامه: «إذا أغمضتُ عيني، فإنّني بهمّة مولاي ومنّه أرى العالم بأجمعه» .. مثل هذا لم يرفع من شأن الله شيئًا، بل إنّه قد حطّ من قدر المولى وأنزله وأفقده قيمته؛ فليست «همّة المولى» هي ما يعطيك القدرة على رؤية الطرف المقابل من الأرض، إذ هذا العمل من وظائف الصحون اللاقطة المرتبطة بالأقمار الاصطناعيّة، فهذا ليس شيئًا ذا بالٍ وليس هذا الفعل ذا فضيلةٍ، وليس في ذلك علوُّ مقامٍ أو ارتفاعُ مرتبةٍ، بل هذا الأمر من التذاذ النفس ونفثةٌ من الشيطان، وهو يمنع النفس من الحركة نحو التجرّد والقرب. بل «همّة المولى» هي أن يجرّدك عن هذه الحالة التي ذكرتها إن كانت عندك، لا أن يعطيك إيّاها!! إنّ همّة المولى تمنح الإنسانَ التفويضَ والعبوديّة والفقر والاحتياج والفاقة، وتجعله يرى نفسه صفرًا أمام مولاه، ويُدرك أنّ كلّ شيءٍ منه.
وأمّا ذاك الذي يقول: «يمكنني بهمّة المولى أن أرى جميع الأشياء»، فمعناه أنّ هذا الأمر قد تعاظم في نفسه وصار كبيرًا؛ حتّى أصبح موجبًا لمباهاته وافتخاره بحيث صار يتحدّث عنه بمثل هذا الفرح والسرور، ولو لم يكن مهماً بالنسبة إليه أو لم يكن كبيرًا في عينه، و لو لم يكن متعلّقًا به، لكان ينبغي عليه -عندما يطلب منه تفويض أموره كلّها والتخلّي عن هذه الحالة والتحرّر من هذه القيود والروابط- أن يقبل فورًا ويحرّر نفسه، ويدخل في مرتبة التسليم والعبوديّة! فما هذه الهمّة التي تمنع هذا الإنسان من الوصول إلى الحقّ تعالى، وتحرمه من تحقيق سعادة الدارين وتسلبه التوفيق للوصول إلى حقيقة العبوديّة؟! ألا يوجد أشخاص الآن في بعض البلدان؛ مثل الهند وغيرها، يمكنهم الإجابة على كلّ ما يُسألون عنه في عالم المادّة، و يمكنهم العثور على الأمور المفقودة، ويحلّون معضلات الأمور ويخبرون عن نوايا الأشخاص بشكل صحيح؟!
إن همّة المولى هي أن يُحوّل وجود الإنسان النحاسي إلى ذهبٍ خالصٍ، لا أن يمنحه القدرة على تحويل النحاس الخارجي إلى ذهبٍ. إنّ المولى بحرٌ زاخرٌ ومحيطٌ واسعٌ لا ساحل له، إنّه التجلّي الأعظم للباري تعالى، و هو مستغرقٌ في بحار التوحيد، وفانٍ في ذات الحقّ؛ ومن هنا، فإنّه يُعطي كلّ إنسانٍ ما يريده؛ فإذا أراد منه الجواهر، أعطاه إيّاه، وإن أراد منه لؤلؤًا وألماسًا، منحه ذلك؛ إذ لا فرق لديه أيَّ شيءٍ يعطي، لأنّه لا يعطي شيئًا من عنده حتّى يأسف لفقدان ما يمنحه ويتخلّى عنه، بل هو يعطي من مائدة الحقّ تعالى وهي لا حدّ لها، فهو واسطةٌ والأصلُ شخصٌ آخر، وهو آلة للحقّ بينما حقيقة الوجود تنشأ من الحقّ، و من الواضح أنّ آلة الحقّ وواسطة الحقّ لا إرادة لها أو اختيار من تلقاء نفسها، بل هو متحقّقٌ وموجودٌ بوجود الحقّ، فعدم محدوديّته إنّما هي لعدم محدوديّة الحقّ تعالى؛ فهو مطلقٌ بإطلاق الحقّ، وهو مفيضٌ بإفاضة الحقّ، لا أنّه غير محدودٍ بالاستقلال؛ مثل الباري تعالى وفي عرضه، أو أنّه مفيضٌ مثل إفاضة الله، فهذا عين الشرك والكفر، والسرّ في ذلك أنّه لا اثنينيّة في عالم التحقّق والوجود؛ فليس لدينا مفيضان وليس لدينا معطيان، بل المُفيض والمُعطي واحدٌ فقط وهو الحقّ تعالى؛ ولذا نجد أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن يرى صدور هذا الفيض وهذه العناية من نفسه، بل كان يراها من الله. فإن كان الأمر كذلك، فـ:
«گر گدا كاهل بود تقصير صاحب خانه چيست؟!»
[يقول: إن كان المستعطي كسولًا فما ذنب صاحب المنزل؟!].
يقول المرحوم الوالد قدس سره نقلًا عن المرحوم آية الله الحاج الشيخ عباس هاتف القوچاني (وصي المرحوم السيّد القاضي رضوان الله عليهم): يقول المرحوم السيّد القاضي:
«عندما كنت أذهب للتشرف بزيارة حرم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، كنتُ أرى على مدى أياٍم متوالية أحد الدراويش جالسًا قرب الصحن المطهّر، وكان يجلس ساكتًا مشغولًا فقط بالنظر إلى القبّة المطهرة ولا يقوم بأيّ عملٍ آخرٍ، وكان هذا شغله طوال هذه المدّة، ثمّ بعد فترةٍ، وأثناء ذهابي
للتّشرف بزيارة الحرم لم أره، فتعجّبت من ذلك وتساءلت في نفسي أين ذهب هذا الرجل؟! وعندما خرجتُ من الحرم صادفته في الشارع، فلحقتُ به وسألته عن أحواله، وقلت له: لم أرك اليوم كما كنتُ أراك في الصحن، فما الذي حدث؟
فأجاب: لقد طلبت من الإمام أن يمنحني علم الكيمياء والإكسير۱، فاشتغلت مدّة أربعين يومًا بالأذكار والأوراد، وقمت بالخلوة عند الإمام والتوجّه إليه، إلى أن منحني الإمام مُناي وأخذت حاجتي منه بالأمس!
فقلتُ له: من أين فهمت أنك بلغت حاجتك؟
قال: لقد أُلهمت بأن قدرةً أُضيفت على وجودي، وشعرت أنّ حالتي قد تغيّرت ولاحظت حصول قدرةٍ واستطاعة في ذاتي أستطيع من خلالها التصرّف في الأشياء، وأثناء شعوري بهذه الحالة مرّ بجنبي صبي يحمل صينيّة نحاس صغيرة، فناديته ووضعت يدي على الصينيّة فتبدّلت فورًا إلى ذهب! حينئذٍ، فهمتُ أنّني لم أشتبه في شعوري، فشكرتُ الإمام على ذلك، وأنهيت الأربعينيّة التي كنت فيها!»٢
انظر إلى هذا الدرويش المسكين في أيّ مستوى يرى الإمام، إنّه يراه في مستوى تبديل النحاس إلى ذهب! والحال أنّ نفس هذا الإمام يمكنه أن يبدّل وجود هذا الشخص إلى وجودٍ توحيديٍّ، ويجعل منه عبدًا صالحًا للّه تعالى، ويمنح روحه حقيقة التوحيد، كما فعل بأصحابه الأوفياء الذين هم محطّ أسراره!
وروي أنّه في زمن الإمام موسى بن جعفر الصادق عليهما السلام أتى أحد المرتاضين من الهند، فدخل المدينة وأثار فيها الصخب والشكّ بفعله، وجمع حوله أشخاصًا اعتقدوا به وتأثّروا بعلمه؛ فقد كان يجيب إجابةٍ صحيحةً عن كلّ ما يُسأل عنه،
حتّى أنه بفعله هذا سبّب افتتان الناس و إغواءهم، وصار يطلب من يبارزه في علمه، ولكنّ أحدًا من الناس لم يتمكّن أن يقف بوجهه ويقابله، وعلى هذا الأساس صار يَعتبر أنّ مذهبه هو الحقّ وأنّ مذهب غيره باطلٌ.
عند ذلك قام أحد أصحاب الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام بإخباره بهذا الأمر، فقال له الإمام: أحضروه إليّ! فأتى إلى منزل الإمام عليه السلام يرافقه العديد من الأشخاص، فلمّا دخلوا المنزل وجلسوا عنده، شرع الإمام عليه السلام بالتحدّث معه وسؤاله عن بعض أمور عالم البرزخ والمثال -طبعًا ضمن حدود مرتبة هذا الرجل- فأجاب عنها جميعًا. عند ذلك مدّ الإمام يده من وراء الستار ثمّ أعادها وقال: ماذا يوجد في يدي؟ فقال له ذلك الرجل: بيضةُ طيرٍ من بعض جبال إحدى الجزر البعيدة. ففتح الإمام يده وشاهد جميع الحضور بيضةً صغيرةً فيها.
فقال له الإمام: من أين علمتَ أنّ في يدي بيضةً صغيرةً؟ فقال: لقد فتشتُ جميع الأرض في لحظةٍ واحدةٍ، فرأيتُ أنّ كلّ شيءٍ في مكانه إلّا بيضةً صغيرةً لم أجدها في مكانها، عندئذٍ عرفتُ أنّ ما بيدك هو تلك البيضة التي افتقدتها. فقام الإمام عليه السلام بإرجاع البيضة إلى مكانها، ثمّ قال له: كيف حصلت على هذه المرتبة؟ فقال: حصلتُ عليها من مخالفة نفسي؛ كلّما اشتهت نفسي شيئًا خالفتها، فقال له الإمام: فاعرض الإسلام على نفسك وانظر بماذا تجيبك؟ فقال: إنّ نفسي تستنكف الإسلام بشدّةٍ وتردّه، فقال الإمام: حسنًا، قم الآن بمخالفة نفسك واختر الإسلام وأسلِم! فأسلم الرجل.
وبعد أن أعلن الرجل إسلامه سأله الإمام عن بعض الأمور، لكنّه لم يستطع أن يجيب كما كان يجيب! فقال له الإمام: ما كنتَ قد حصلتَ عليه من هذه المرتبة كان نتيجة مخالفة النفس والهوى والهوس وأنت على الشرك والكفر والبعد عن الحقّ، وكان الله تعالى قد منحك القدرة على هذه الأمور جزاءً على عملك ورياضتك، أمّا الآن بعد أن أسلمت ورجّحت رضا الله تعالى على رضا النفس، فقد استرجع الله ما
كان قد منحك إيّاه في حالة البُعد عنه وسوف يعوّضك عنه ويعطيك ما يساعدك على القرب منه والأنس به، فلذّة التحدّث والجلوس مع الباري لا تعطى لأيٍ كان. فانظر الآن على الذي ستحصل عليه لقاء هذا التفويض والتسليم والانقياد والعبوديّة! وهل أنّها تقبل المقايسة بينها وبين ما كان لديك قبل الإسلام؟
نعم، لقد صار هذا الشخص من أصحاب الإمام وأخصّ شيعته وأصحاب سرّ الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، ووصل إلى تلك الوعود التي وعده الإمام وبشّره بها، فهنيئًا له ثمّ هنيئًا له ثمّ هنيئًا له.
هذه هي كرامة الإمام عليه السلام وعنايته وهمّته واهتمامه بأصحابه ومواليه وشيعته، وهذا ما كان السيّد الحدّاد والمرحوم الوالد رضوان الله عليهما يطلبونه لأجل أصدقائهم ورفقائهم! لا المنامات والخيالات والكشف وخوارق العادات، ولا الأمور الطفوليّة الناتجة عن الهوى.
لذا، فليس عبثًا أن يقرأ السيّد الحدّاد دائماً هذه المناجاة للإمام السجاد عليه السلام، ويناجي بها بلحنٍ وصوتٍ حزينٍ وقلبٍ والهٍ، يحكي حرقة الفؤاد ويكشف عن تأجّج نار الاشتياق والوله في داخله إلى لقاء الحبيب وزيارة المعشوق تعالى، كما أنّ المرحوم الوالد كان يُوصي في الكثير من جلساته بقراءة هذه المناجاة ومناجاة المحبين. فانظر الآن كم هو التفاوت كبيرًا بين الطريقين! نعم، إنّ مقام الإنسان ومرتبته هي كما بيّنها الإمام السجاد عليه السلام، وإذا تنازل الإنسان عن هذه المرتبة -ولو إلى مقام الملائكة المقرّبين- فهو خاسرٌ، وسيكون قد استبدل الجواهر الثمينة بأشياء بسيطة لا تستحقّ المعاوضة.
وكم هو رائع وجميل كلام العارف الكبير المرحوم الشيخ محمود الشبستري عندما يصف هذا المقام ويعرفّه بقوله:
۱. در آخر گشت پيدا نقش آدم | *** | طفيل ذات او شد هر دو عالم |
٢. تو بودى عكس معبود ملائك | *** | از آن گشتى تو مسجود ملائك |
٣. از آن گشتند امرت را مسخّر | *** | كه جان هر يكى در تست مضمر |
٤. تو مغز عالمى زان در ميانى | *** | بدان خود را كه تو جان جهانى |
٥. از آن دانستهاى تو جمله اسما | *** | كه هستى صورت عكس مسمّا |
٦. ظهور قدرت و علم و ارادت | *** | به تست اى بنده صاحب سعادت |
۷. سميعى و بصير و حىّ و گويا | *** | بقا دارى نه از خود ليك از آنجا۱ |
الآيات الشريفة تدلّ على أنّ أعلى مراتب السعادة و الكمال هي لقاء الله
وعلى كل حال، فالإنسان في أيّ مرتبةٍ كان، ما دام أنّه يأنس بما دون لقاء الحقّ تعالى، فإنّه لم يصل بعد إلى أوج العروج، ولا يزال محجوبًا عن لذّة مناجاة المحبوب، ولم تحصل لديه بعد رؤية كعبة المقصود، من هنا تُسمِّي آيات القرآن الكريم آخر مرتبة من السعادة والفلاح ب: لقاء الله.
مثل الآية الشريفة: ﴿مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾٢. أو مثل الآية الشريفة: ﴿فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾٣.
يُبيّن الله تعالى في هذه الآيات المباركة أنّه جعل نفس لقائه وزيارته، هو منتهى مقصد العروج والغاية القصوى للسير التكاملي للبشر وارتقائهم الروحي. إنّ لقاء الله
يعني لقاء ذات الباري تعالى لا شيئًا آخر، كما أنّ زيارة الإمام عليه السلام تعني زيارة ذات الإمام، لا زيارة خادمه وبوّابه ومنزله والطعام الموجود فيه.
إنّ الله تعالى ذاتٌ لها خصوصيّاتها وأمورها الخاصّة بها، ولها لوازمها الوجوديّة الخاصّة كذلك، وهذه الذات تفترق عن ذات الملائكة وجبرائيل وغيره، وعن سائر المخلوقات؛ الأعمّ من الأنبياء والرسل والأئمّة المعصومين عليهم السلام، وعالم الأرواح والأشباح وعوالم الغيب والجنّة والنار، وأصناف الفاكهة والطعام في الجنّة والحور والقصور. وبما أنّ هذه الموجودات المذكورة تختلف بعضها عن البعض الآخر، ولا يمكن أن نسمّي إحداها باسم الأخرى، فكذلك لا يمكن إطلاق اسم الله تعالى على شيءٍ من هذه المخلوقات، بل إطلاقه عليها حرامٌ وموجبٌ للكفر والشرك والخروج عن الدين والشريعة.
تقول الآية الشريفة: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.۱
وكذلك ورد في آية أخرى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾٢.
فكما أن إطلاق لفظ الله على أيّ شيءٍ غير ذات الباري تعالى حرامٌ واقعًا وباطلٌ وهو بمثابة الكفر، فكذلك إرادة وقصد أيّ شيءٍ غير ذات الباري بالاسم الخاصّ بالله تعالى أو الضمير الراجع إليه باطلٌ أيضًا وحرامٌ. ورغم أنّ المتكلّم في بعض الأحيان قد يطلق اسم شخصٍ و يريد به بعض آثاره و لوازمه أو ألطافه و قهره أو ما شابه ذلك، إلّا أنّ إرادة المجاز من العبارات والألفاظ تحتاج إلى قرينةٍ صارفةٍ، وفي ظلّ غياب هذه القرينة، فلا يمكن حمل الكلمات على غير معانيها اللغوية وعلى مفاهيمها ومصاديقها الحقيقيّة اعتمادًا على مجرّد التخيّل والاستبعاد و الجمود.
أوَلم يكن في مقدور الباري تعالى أن يستعمل ألفاظًا أخرى في هذه الآيات غير لفظ «الله» الموضوعِ حقيقةً لذات واجب الوجود الواحد الفرد الصمد المستغني عن جميع الموجودات؟! ألم يكن قادرًا على استعمال ألفاظٍ من قبيل: «الحور العين» أو «الغلمان» و «الجنّة» و «النعيم» وغير ذلك؟! وأيّ خصوصيّة في استعمال لفظ «الله» أو ضمير المتكلّم حتّى يستعملها الباري تعالى مكان أسماء النِعم الموجودة في الجنّة؛ مثل البرتقال والتفاح والعنب وحور العين؟! أليس هذا الاستعمال موجبًا لتوهين مقام الحقّ تعالى والحطّ من موقعيّته؟! أوَليس هذا إنزالًا للحقّ سبحانه و هبوطًا به إلى مراتب الأمور العاديّة التي يرغب فيها العوام؟!
نعم، إنّ أولئك الذين ينكرون لقاء الباري تعالى والفناء الذاتي والاندكاك في حقيقة الوجود، ليسوا ملتفتين لعواقب أفكارهم الساذجة وآرائهم البسيطة الخالية من التحقيق، ويجب أن يتمّ توصيتهم بأن يكفّوا عن إظهار آرائهم في المسائل التي لا يقدرون على التحليل فيها، وأن يتحاشوا الدخول في الأمور التي لا يملكون عنها إلّا معلوماتٍ بسيطةٍ وقليلةٍ، وأن يتركوا الكلام في هذا المجال لأهله وللمتخصّصين من أهل الخبرة فيه، ولا يجعلوا أنفسهم مصداقًا للآية الشريفة التي تقول: ﴿أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾۱.
يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي رضوان الله عليه في تفسير الآية الشريفة ﴿مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾:
«والمراد بلقاء الله، وقوف العبد موقفًا لا حجاب بينه وبين ربّه، كما هو الشأن يوم القيامة الذي هو ظرف ظهور الحقائق، قال تعالى: ﴿وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾٢.
وقيل: المراد بلقاء الله هو البعث، وقيل: الوصول إلى العاقبة من لقاء مَلَك الموت والحساب والجزاء. وقيل: المراد ملاقاة جزاء الله من ثواب أو
عقاب۱، وقيل: ملاقاة حكمه يوم القيامة، و «الرجاء» على بعض هذه الوجوه بمعنى الخوف٢.
وهذه وجوهٌ مجازيّةٌ بعيدةٌ لا موجب لها، إلّا أن يكون من التفسير٣ بلازم المعنى».٤
نجد هنا أنّ المرحوم العلامة الطباطبائي قد صرح بهذا المعنى أيضًا؛ حيث قال: إنّه لا ضرورة توجب صرف اللفظ عن معناه الاصطلاحي والوضعي إلى غيره ولا دليل يدلّ عليه، هذا فضلًا عن وجود الروايات وسائر الأدلّة الدالّة على الرؤية الواقعيّة والحقيقيّة للباري جلّ وعلا، والتي سوف نعرضها في مكانها إن شاء الله.
من هنا، يخطئ العلماء الذين يعتقدون بأنّ السلوك إلى الله إنّما هو متاحٌ في زمن الظهور وحضور الإمام عليه السلام، بخلافه في زمن الغيبة حيث يرون أنّ هذا الطريق مسدودٌ وموصدٌ، وهؤلاء بقولهم هذا يحرمون أنفسهم من الوصول إلى هذه الغاية القصوى وسرّ عالم الوجود.
يكتب أحد هؤلاء الأشخاص في كتابٍ له حول بيان حالاته وأقواله فيقول (والنقل بالمعنى): «إنّ الباب في زمن غيبة الإمام وإن كان مقفلًا أمام الحضور والاستفادة الخاصّة من الإمام عليه السلام، ولا سبيل للوصول إلى إدراك حقيقة الولاية، لكن مع ذلك هناك فرقٌ بين من يمشي في الشارع ويسعى وراء عمله، وبين الذي يجلس خلف الباب منتظرًا خروج صاحب المنزل ليتيح له الورود إلى داخل الدار»
إنّ هذا الكلام عارٍ عن الحقيقة والاعتبار، فالحقّ والولاية في مدرسة العرفان والتوحيد تتلألأ في جميع الأنحاء وتظهر في جميع الأمكنة وهي حاضرةٌ فيها، حيث لا
فرق أبدًا بالنسبة للولاية -من وجهة نظر الإحاطة والسعة والإدراك والعلم ومعرفة أحوال الناس وكيفيّاتها- بين الأحوال المختلفة، فإنّ مقدار إشراف الإمام عليه السلام على الإنسان ونواياه وحالاته وملكاته واطّلاعه عليها في زمن حضور الإمام والجلوس بين يديه والتحدّث إليه، حاصلٌ له عليه السلام بعينه وبنفس ذلك المقدار في زمان الغيبة، دون أدنى تفاوتٍ بين الحالتين أبدًا. ولماذا لا يكون الأمر كذلك، والحال أنّ الإمام عليه السلام محيطٌ بالموجودات ومطّلعٌ عليها اطلاعًا ملكوتيّاً لا اطّلاعًا صوريّاً وماديّاً فقط؟!
إنّ الإحاطة التي تكون على أساس الرؤية والنظر الظاهري والمشافهة لا قيمة لها؛ لأنّها تجعل الإمام على حدٍ سواءٍ مع عوامّ الناس، ومثل هذا الإمام لا قيمة له عندنا ولا احترام له كذلك. إنّ الإمام الذي نراه إمامًا لنا ومربيًّا للنفوس وسائقًا لها نحو مدارج الكمال التي يمتلكها إنّما هو الذي يكون مجرىً للفيض والمشيئة الإلهيّة، وهو الذي تتشخّص جميع حقائق عالم الوجود وتتعيّن من خلال نفسه القدسيّة، سواءً بالوجود الأوليّ والذاتيّ أو بالوجود الثانويّ والكماليّ (كما هو ثابتٌ من خلال البراهين العقليّة والحجج النقليّة)، وهو الذي يستنير به الجميع ويستفيضون منه، بحيث لو قطع عنهم مدده لتناثرت تلك القوالب الخاوية وتحطّمت! فمع الالتفات إلى ذلك، كيف يمكن أن يكون بابه في زمن الغيبة مغلقًا أمامنا، أو يكون الطريق إليه مسدودًا في وجهنا؟! هذا عين الشرك والجهل، ومن يعتقد بذلك يكون قد ساوى بين نفسه وبين الإمام، ونظر إليه كما ينظر إلى نفسه، واعتبر أنّ سعة الإمام كسعته هو، ويكون قد أنزل مرتبة الإمام إلى مرتبته ومنزلته هو.
ولو كان هذا الكلام صحيحًا، فيجب أن ينسحب هذا الملاك وهذا المقياس على سائر الأئمّة عليهم السلام، وعلينا أن نسرّي هذا الحكم عليهم حينئذٍ فنقول: يمكن الاستفادة من الإمام عليه السلام في الوقت الذي يكون فيه الإمام حاضرا بيننا وشاهدًا فينا وحيّاً معنا، أمّا إذا كان الإمام في السجن -مثلما حصل مع الإمام
موسىبن جعفر عليهما السلام- فلا فائدة منه، لأنّ الباب إليه مسدود؛ إذ ما الفرق بين غيبة الإمام وبين حبسه؟ إنّ الحبس لأسوأ؛ لأنّه لا مخلّص منه بأيّ شكلٍ من الأشكال، أو مثل الإمامين العسكريين عليهما السلام اللذين كانا محصورين وممنوعين من ملاقاة الناس في سامراء، فهل كانت إمامتهما في ذلك الزمان تختلف عنها في زمان السعة؟! أيّ كلام فارغ هذا، وأي تصوّر خاوٍ لا أساس له يجعلنا أن ندّعي بأن هناك فرقًا بين عصر حضور الإمام عليه السلام وبين عصر غيبته؟! أوَلم يرد في الروايات أنّ الإمام عليه السلام في عصر غيبته كالشمس إذا سترها الغمام حيث إنّها وإن كانت غائبة عن العيان لكن آثارها المفيدة ظاهرة ومستمرة على الجميع؟