المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1423
التاريخ 1423/09/13
التوضيح
هل الله تعالى بعيد عنّا؟ ما هي حدود حريّة الإنسان؟ ما هو الحجابُ الحقيقيّ الذي يفصلنا عن الله تعالى؟ كيف تظهر عظمة الإسلام في عصر الجهل؟ ؟ تُجيبك هذه المحاضرةُ التي عقدها سماحة آية الله الحاجّ السيِّد محمَّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ قدَّس الله سرَّه في شرحه لدعاء أبي حمزة الثماليّ عن هذه الأسئلةِ وغيرها، كما تُسلّطُ الضوءَ على مفهومِ المالكيةِ الحقيقيّةِ للهِ على الإنسانِ وجوارحِهِ، وتَستعرضُ قصصًا من الواقعِ والتاريخِ لتُبيّنَ كيفَ تُصبحُ الأعمالُ حِجابًا كثيفًا أو تُقصِّرُ المسافةَ إلى المحبوبِ.
هو العليم
الأعمالُ هي حِجابُنا عن الله
كيف تُقصِّرُ أعمالُنا المسافةَ إلى الله أو تُطيلها؟
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٣ هـ - الجلسة الثامنة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا ونَبِيِّنَا أَبِيالْقَاسِمِ مُحَمَّدٍ
وآله الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
واللعنة عَلَى أَعْدَائِهِمْ أَجْمَعِينَ
الله أقرب إلينا من حبل الوريد
«وَأَنَّ الرَّاحِلَ إِلَيْكَ قَرِيبُ الْمَسَافَةِ وأَنَّكَ لَا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إِلَّا أَنْ تَحْجُبَهُمُ الْأَعْمَالُ دُونَكَ».
إنَّ من يَشدُّ الرحالَ إليكَ لا يقطعُ مسافةً كبيرةً، بل مسافتُه قريبةٌ. وأنتَ لم تَجعلْ نفسكَ في حِجابٍ أو سِترٍ عن خلقكَ، ولكنّ أعمالَهم هي التي سبّبتْ احتجابكَ.
لقد تحدّثنا سابقًا عن مسألة أنّ السفر إلى اللهِ تعالى قريب، ووصلَ الحديثُ بالأمسِ إلى هنا: وفقًا للقاعدةِ الفلسفيةِ، وكذلك بناءً على مبادئِ الشهودِ، لا يوجدُ وجودٌ أقربَ إلينا من اللهِ تعالى؛ أي إذا نظرنا إلى جسدنا هذا.. إلى جسدنا الماديّ، فكم هو قريبٌ منّا هذا الجسد؟ عندما يرتدي شخصٌ ثوبًا، يكونُ مالكًا لهذا الثوبِ، ولو جاءَ شخصٌ وادّعاه لنفسه، لقال له: «كلاّ، أنا مالكُ هذا الثوبِ، فكيفَ تدّعيه أنتَ وتريدُ أن تأخذَه؟»، حيث يشعرُ الإنسانُ بملكيّةٍ تجاه ثوبه وقميصهِ. وبالنسبة لهذا الثوبِ الذي يرتديه الإنسانُ، فإنّ الجسدَ نفسَه أقربُ شيءٍ إليه، أي إلى روحه ونفسه، ومرادنا من الجسد هنا هو الجسدُ المادّي. وحينئذ، نجد الله تعالى يقول: نحنُ أقربُ إليكَ من هذا الجسدِ، وأقربُ إليكَ من حبلِ الوريدِ.
وبشكلٍ عامّ، فإنّ الاختيارُ والمالكيّةُ يعودان إلى الحقيقة والذات التي تكون لها ـ بالنسبة لأيّ شيء ـ الأولويّة على الآخرين. ومن هنا، عندما نحصل على ثوبٍ أو قلم حبر أو قلمِ رصاصٍ، فإننا نتمتّعُ بأولويّةٍ على الآخرين فيما يتعلّقُ بهِ؛ ولهذا، نكون نحنُ المالكين له. وعندما نحصلُ على منزلٍ، فإنّنا نتمتّعُ بأولويةٍ على الآخرين فيما يتعلّقُ بهذا المنزلِ، فنكون نحنُ المالكين له. وعندما يتزوّج رجل بامرأةٍ، لماذا يحرمُ الآخرونَ على هذه المرأةِ؟ لأنّ الرجلَ يشعرُ بنوعٍ من المالكيّةِ تجاهها؛ وبناءً على هذا الأساسِ، فإنّ الله تعالى جعل للرجل ولايةً على المرأةِ، فالرجلُ هو وليّ المرأةِ. حتى أبوها لم يعدْ وليًّا لها؛ أي عندما تتزوجُ المرأةُ، إذا أمرها أبوها بشيءٍ، وأمرها زوجها بما يخالفه، يحرمُ عليها أن تطيعَ أمرَ الأبِ؛ لأنّ الولايةُ انتقلتْ إلى الزوجِ. وهذا الشعورُ هو نوعٌ من المالكيّةِ، لكنّها ليسَت مالكيّةً كمالكيّةِ الأرضِ والبناءِ، كلاّ! لا يصحّ إطلاق هذا النوع من المالكيّة عليها، بل هي شكلٌ من أشكال الاختصاصِ؛ وهذا نظير: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛۱ إذ لم يشترِ اللهُ تعالى السماواتِ والأرضَ ليملكَهما، بل إنّ معنى الملكِ هنا هو الاختصاصُ؛ أي أنّ الأرضَ والسماواتِ مختصّتانِ بهذه الذاتِ، ولا تعودانِ لأحدٍ آخرَ. ومن هنا، فإنّه يحرمُ على الآخرين أن يتزوّجوا تلك المرأةَ. لماذا؟ لأنّ هذا يُعدُّ تصرّفًا في حقّ الغير وملكه، والإسلامُ حرّمَهُ ولم يُجزه.
حدود حرّية الإنسان
ولهذا، فإنَّ جسدَ الإنسانِ غير مستثنىً من هذه القاعدةِ، بل هو أتمُّ مصداقٍ لها. هل نمتلكُ حريّة التصرّف في جسدنا أم لا؟ نعم، نمتلكُ. فاليومَ نأكلُ هذا الطعامَ، وغدًا ذاكَ الطعامَ. هذا هو امتلاكُ حريّة التصرّف الجسدِ. والآن نشربُ الماءَ، وبعدَ ساعةٍ لا نشربُه. واليومَ نمرضُ، فنستعملُ هذا الدواءَ.. كلّ هذه اختياراتٌ يمارسها الإنسانُ بسبب مالكيّتهِ على الجسدِ. فلو افترضنا أنَّ شخصًا يسيرُ في الشارعِ، فهل تذهبُ أنتَ حتمًا لتُجبرَهُ على تناولِ الطعامِ؟ لا! لماذا؟ لا علاقةَ لكَ بهِ. اختيارُهُ ليسَ بيدكَ، بل إنّ اختيارهُ ملكٌ لهُ. حتى لو أرادَ أن يموتَ جوعًا، فليمتْ. ما علاقتكَ أنتَ بذلك؟ إلاّ إذا دخلَ تحتَ قاعدةٍ أخرى سنعرضها لاحقًا. فإذا أراد شخصٌ أن يُلقيَ بنفسهِ من الجبلِ، فليُلقِ بها، أو أرادٌ أن يقتلَ نفسهُ، فليقتلها؛ إذ وفقًا للقاعدةِ الأوّليةِ، لا علاقةَ لنا بهذا الأمرِ، وكلّ شخصٍ يمتلكُ حرّية التصرّف بنفسه.
قوانين حقوق الإنسان المتأثّرة بالجهل
إنّ ما أعرضه لكم هو نفسُ القوانينِ الدوليّةِ؛ أي أنّ حقوقَ الإنسانِ والقوانينَ الدوليّةَ تحكمُ بذلك، حيث نجدهم يقولونَ: إذا أرادَ أحدٌ الانتحارَ، فلا يمكنُ لأحدٍ أن يمنعه؛ لأنّه يمتلكُ حريّة التصرّف بنفسه.
أجل، هذه القضيةُ قد ألغيتْ الآن، ولكن في السابقِ، كان هذا التوحّشُ والهمجيّةُ الغربيةُ سائدَينِ إلى هذا الحدّ. فقانونُ المبارزة الثنائيّة الذي كانوا يتحدّثون عنه كان بسببِ هذا، حيث كان شخصانِ يتراهنانِ على قضيةٍ ما، ويخوضانِ مبارزة ثنائيّة (Duel). هل تعلمونَ ما معنى "دوئل"؟ يعني أنّهما كانا يُبرمانَ عقدًا يسمحُ للطرفينِ بقتلِ بعضهما البعضِ، إذا تحرّكا وفقًا لهذا القانونِ؛ فكانا يتحرّكانِ بضعةَ أمتارٍ، هذا يذهبُ إلى جهةٍ ويلتفُّ بظهرهِ، وذاك إلى جهةٍ أخرى. وفجأةً، عندما تنتهي الخطواتُ، يلتفتانِ ويطلقانِ النارَ على بعضهما البعضِ، ويقتلانِ بعضهما بسهولةٍ، من دون أن يمنعهم أو يوقفهم القانون. لقد أرادا هما ذلك؛ فإذا لم يكونا يرغبان فيه، فلا يفعلانه، ولكنّهما أرادَاه.
لقد ظهر قانونُ المبارزة الثنائيّة أوّلاً في فرنسا، ثمّ انتشرَ في النمسا وأماكنَ أخرى. ما حقيقة هذا القانونُ؟ إنه قانونٌ حيوانيٌّ، والحيواناتُ تفعلُ الشيءَ نفسه. فعندما تتشاجرُ الحيواناتُ على شيءٍ ما، تنهضُ ويُمزّقُ بعضها البعضَ؛ وفي النهايةِ، يتغلّبُ أحدُها على الآخرِ، أو يسعى أحدها إلى الاعتداء على حرمةَ الآخرِ، أو سلب الفريسةَ من يدِه، أو غير ذلك. إنّ الإنسانُ في هذا العصرِ المتوحّشِ هو حيوانٌ.
وهذا موجود الآن أيضًا، حيث نجد بعض الألعاب ـ مثل بعض الأنواع من المصارعة ـ تُؤدّي إلى الموت، ولا يوجد قانون يمنع ذلك. أليس الأمر كذلك؟ ففي البلدان الأجنبية الآن، هناك بعض أنواع المسابقات تُؤدّي إلى الموت. خمسة وثلاثون بالمائة منها تُؤدّي إلى الموت، ولا يوجد أحد يمنع ذلك؛ سواء حدث الموت فوريًّا في مكان المسابقة، أو بعد أسبوع؛ ففي النهاية يموت [أحدهما]؛ لأنّه يكون قد جُرح، وهذا الجرح يتسبّب له في شيء ما، ولا يدع الأمر يمرّ هكذا... .
نماذج من انحطاط الإنسان في هذا العصر
في إحدى المرّات، كنتُ في مكان ما، ليس في إيران، وشاهدتُ فيلمًا. لكن، بعد مرور خمس دقائق، لم أستطع إكماله. وحقًّا، يُمكننا القول إنّه كان حيوانًا بكلّ معنى الكلمة؛ أي، إذا قلنا عنه إنّه نمر، فالنمر أفضل منه بمائة مرّة. وإذا قلنا عنه إنّه فهد، فإنّ الفهد ـ حقًّا ـ أفضل منه بمائة مرّة. فما الاسم الذي يمكن أن يُطلق على ذلك الشخص الذي يرى أنّ خصمه في وضع غير مناسب، ثُم يهوي عليه بذلك الوزن، بحيث يموت في الحال؟ ما الاسم الذي يمكن أن يُطلقه الإنسان على هذا؟ فالنمر والأسد أفضل منه بمائة مرّة! كم يجب أن ينحطّ الإنسان أخلاقيًا ويقع في الذلّ والانحطاط، لكي يقبل بمثل هذه الأمور؟! والقانون يؤيّد ذلك من دون أيّ إشكال!
فمسابقات الملاكمة الموجودة حاليًّا في البلدان الأجنبيّة مسابقات حيوانيّة. هيّا نضرب بعضنا البعض حتى نموت! يا للعجب! ماذا يعني ذلك؟ فإذا تلقّى ضربتين في رأسه، يسقط ويموت. هذا ليس مزاحًا، لقد مات الكثيرون منهم. ماذا؟ كلّ هذا ناتج عن أنّ الجهل هو المسيطر على الإنسان، وليس العقل. وما يدور حوله العالم الآن هو الجهل. فالذين يقومون بهذا العمل، والمتفرّجون الذين يأتون ويجلسون ويُصفقّون ويُشجّعونهم هم أيضًا مثلهم، بحيث لو أتيحت لهم الفرصة، لفعلوا الشيء نفسه، غاية الأمر أنّهم لا يقدرون الآن على ذلك، فيُصفّقون بأيديهم.
تقرأون في التاريخ أنّه في القرون الوسطى، كان الحكّام الظالمون يُنشئون في ساحات المدن أماكن يُطلقون فيها الأسرى الذين يأسرونهم من الدول الأخرى ومن الأعداء، ويُطلقون أسدًا ليأكلهم، ويبدأون في الاستمتاع؛ أي أنّهم هم وزوجاتهم وأطفالهم كانوا يأتون ويجلسون، والأعيان والأشراف والناس كانوا يستمتعون بمشاهدة الأسد يُمزّق هؤلاء. كنّا نقول في ذلك الوقت: عجبًا! هل حقًّا كانوا بشرًا؟! إلى أيّ مستوى وصلوا في الحيوانيّة! كم... لا يا سيّدي، هم الآن أيضًا بهذا النحو. فالذي يجلس الآن، ويُشاهد هذا المشهد [مباراة المصارعة]، وذاك يقتل الآخر، في ماذا يختلف عن ذلك الشخص في القرون الوسطى؟ في ماذا يختلف عنه حقًّا؟ فالموت واحد، غاية الأمر أنّ الوسائل والأدوات مختلفة.
وعليه، ليس أنّ الإنسان لم يتقدّم ولم يتطوّر بسبب العصر الذريّ وغير الذريّ وحسب، بل إنّه ازداد سوءًا وانحطاطًا، حيث نجده يستعمل هذه الأدوات في خدمة الحيوانيّة وأهوائه النفسانيّة، لا في خدمة العقل. فهذه الوسائل لم توضع في خدمة العقل، بل في خدمة النفس والشيطنة والحيوانيّة والبهيميّة.
وكما ترون الآن في هذه الأيّام، تأتي دولة مستكبرة وتقول مثلاً: «أريد مهاجمة مكان ما لأنّ لديهم سلاحًا معيّنًا». هذا بغضّ النظر عن أن كلّ هذا الكلام هراء، وأنّ هناك أهداف أخرى وراء هذه المسألة. فلننظر الآن إلى هذه القضيّة بظاهرها: هل تريدون حقًّا أن تنزعوا السلاح الفتّاك من هذه الدولة؟ الآن، الدولة اليهوديّة لديها ثلاثمائة من هذه الأسلحة الفتّاكة، فلماذا لا تذهبون إليها؟ ولماذا لا تعترضون على تلك الدولة في الطرف الآخر من العالم؟! أليس لدى الهند مثل هذه الأسلحة؟! أليس لدى باكستان أيضًا؟! أ لا توجد أيضًا في أماكن أخرى؟ فلماذا صرتم تهتمّون الآن بهذه الدولة فقط من بين كلّ هؤلاء؟! ثمّ تذهبون بعد ذلك إلى مكان آخر.
ما حقيقة ذلك؟ ولماذا يوجد مثل هذا الأمر؟ لأنّ الغرور قد تسبّب في أن لا يظهر العقل في الساحة، ووُضعت القوّة والتقنية والتكنولوجيا في خدمة هوى النفس، لا في خدمة العقل، وليس في خدمة النفس من حيث الروحانيّة والنورانيّة، بل في خدمة النفس من حيث البهيميّة والحيوانيّة؛ وهذا أمرٌ يصيب الجميع.. أليس كذلك؟! إذًا، هذه القضية أيضًا كانت موجودة، حيث كانوا يقولون: إنّه يملك نفسه، وهو حرٌّ في قتل نفسه، ولا شأن لنا به.
ظهور عظمة الإسلام في عصر الجهل
لكنّ الإسلام لا يقول هذا. ماذا يقول الإسلام؟ اقرأوا الأبيات الشعريّة التي تقول:
| بنی آدم اعضای یکدیگرند | *** | که در آفرینش ز یک گوهرند |
| چو عضوی به درد آورد روزگار | *** | دگر عضوها را نماند قرار |
| تو کز محنت دیگران بی غمی | *** | شاید که نامت نهند آدمی۱ |
يقول:
بنو آدم أعضاء لجسد واحد، في الخلقة من جوهر واحد.
إذا اشتكى عضو من آلام الزمان، لم يقرّ لبقيّة الأعضاء قرار.
أنت الذي لا تهمّك محنة الآخرين، لا ينبغي أن يُسمّونك إنسانًا.
لقد أخذ الشيخ الأجلّ هذه الأبيات من كلمات النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وأقواله، حيث قال ما مضمونه: «إنّ بني آدم كجسد واحد، الناس كجسد واحد، إذا اشتكى عضو تداعى معه سائر الأعضاء بالسهر والحمّى».۱ فالناس مثل جسد واحد. فعندما يتألّم عضو واحد، تجد الجسم قد ارتفعت حرارته، وتألّمت أذنه، وكلّ الجسم، وظفر القدم أيضًا يتألّم، وإصبع القدم أيضًا ترتفع حرارته، لا أن يقول هذا: «ما علاقتي أنا به؟ تفصلنا مسافة مترين، فإذا تّألم هو، فما علاقتي به؟ ولماذا يجب عليّ أن أشعر بالحرّ هنا؟». كلاّ! فهو أيضًا يشعر بالحرّ؛ لأنّ كلّ سلسلة الأعضاء والأعصاب، وسلسلة الأجهزة.. كلّها بمثابة عضو واحد.
يقول الإمام: هذا المنطق هو منطق الإسلام. والذين يقولون في العالم الآن: «إنّ الإسلام ينتمي إلى ألف وأربعمائة سنة مضت»، ليفتحوا أعينهم قليلاً، ويقرؤوا هذه العبارات، وليروا في أيّ وضع مأساويّ يتحرّك العالم الآن؟ فتلك الدولة التي تعدّ نفسها مهد الحضارة والحريّة، جاءت بكلّ تجبّر، وتقدّمت إلى الأمام وهي تقول: «كلّ من يتنفّس، إذا كانت لديه القدرة، فليتقدّم»، ولا أحد يستطيع أن يقف في وجهها، وفي النهاية ستفعل ما تريد.. أليس كذلك؟! لكن النبيّ لم يفعل هكذا، بل نجده يقول: جميع الناس لهم حكم واحد.
إنّ الحديث هنا مسهب جدًّا، حيث تكون الحروب كلّها قائمة على أساس الرأفة، والدفاعات قائمة بأجمعها على أساس الرأفة والشفقة، وعلى أساس الغيرة، وعلى أساس تلك الحالة من الوحدة والشعور بالوحدة في أصل الوجود وبقاء الوجود واستمرار الوجود، والكمالات التي تترتّب على هذا الوجود.. على هذا الأساس، لا على أساس الغزو والاستيلاء على البلدان الذي هو ديدن أهل الجهل وأهل الظلم والعدوان.
هذا بالطبع بهذه الكيفيّة؛ لذلك، لا يحقّ لأيّ أحد أن يعتدي على الإنسان؛ لأنّ اختيار الإنسان بيده، بحيث يُمكنه الذهاب إلى هنا أو هناك، ويُمكنه استخدام جسده هنا أو هناك، ووضع قدمه هنا أو هناك، فحريّة التصرّف بيد الإنسان.
بِيَد من من تقع حريّة التصرّف في البدن؟
و بناءً على هذا المبدأ الذي طُرح، فإنّنا نصل إلى مستوى أعلى من هذه المسألة؛ فإذا كان من المفروض أنّ الله تعالى أقرب إلينا من بدننا، فَبِيَدِ مَن تقع حرّية التصرّف بهذا البدن؟ تقع بيد الله تعالى؛ فلا يعود بوسعنا أن نفعل كلّ ما يحلو لنا، ولا يُصبح بإمكاننا أن نفعل أيّ شيء كيفما كان بجسدنا، ولا يضحى بمقدورنا أن نُلحق ضررًا بهذا الجسد، أو أن نفعل شيئًا يتسبّب في مرضه. وإذا قمنا بعمل عمديّ يؤدّي إلى ذلك، فسنكون قد ارتكبنا حرامًا؛ ولهذا، إذا تناولنا دواءً يضرّنا، فإنّ هذا الفعل حرام، وإذا لجأنا إلى التدخين ـ وهو أمر مضرّ بالبدن ـ فإنّ ذلك حرام، وكلّ من يقول إنّه حلال فليذهب هو ويتحمّل المسؤوليّة. أمّا نحن، فنقول إنّه حرام.
وكذلك، فإنّ وضعَ الإنسانِ نفسَه في وضعٍ يتعرّض فيه جسدُه للأذى حرامٌ.. لماذا؟ لأنّ حرّية التصرّف ببدننا ليست بأيدينا، بل بيد آخر؛ وهو يقول: «يجب أن تضع جسدك في حالة صحّة واعتدال مزاجيّ، وفقًا للظروف التي تقع على عاتقك وفي وسعك، ويجب أن تمتثل لهذا الأمر!». فمن ناحية يقول هذا، ومن ناحية أخرى يأتي ويقول: «إذا حدثت حرب، فيجب أن تضحّي بهذا الجسد في سبيل الله». يقول هذا وذاك. وحينئذ، إذا استطاع أحد أن يقول: «لا أفعل هذا»، وإذا فرّ من الحرب، فما حقيقة ذلك؟ إنّه فرار من الزحف، وهو في حكم الكفر.۱ لماذا؟ لأنّ الله يقول: «لم تكن أنت مالكًا لهذا الجسد، بل أنا هو مالكه؛ فكما أمرتك حتّى الآن بالمحافظة عليه، فإنّني آمرك الآن بالتضحية به!». أليس صحيحًا؟ إذا أخطأنا يومًا، فقولوا: صحيح! أي قولوا: صحيح، لقد أخطأتم!!
وعلى هذا الأساس، يُمكننا تفسير جميع قوانين الإسلام. فما أقوله لكم هي أمور لا شكّ فيها، ولو بمقدار ذرّة واحدة. ففي يوم القيامة، سيُسأل الإنسان عن كلّ واحد [من هذه الأعضاء].. عن كلّ واحد منها؛ فيُسأل عن اللسان: في أيّ طريق استخدمتَه؟ وماذا قلتَ به؟ فيجب أن تأتي وتجيب. وإذا قلت لله تعالى: «هذا اللسان كان ملكي، قأردت أن أسبّ، وأردت أن أضحك، وأردت أن أسخر، وأردت أن...». كلاّ، كلاّ! فاللسان لم يكن ملكك. في ماذا استخدمتَ أذنك؟ لسماع كلّ كلام لغو؟ لسماع الحرام؟ لسماع الغيبة؟ لسماع البهتان؟ الأمر صعب جدًّا أيها السادة. وحقًّا، فإنّ بدن الإنسان يرتعش! فإمّا أن لا يقبل هذا الكلام، ويقول صراحة: «لا يا سيّدي، لا! هذا الكلام كذب، مع السلامة». أو يقبله.
دقّة الحساب الإلهيّ يوم القيامة
وحينئذ، يجب أن نكون من الليلة فصاعدًا حذرين؛ إذ لم نعُد نملك أجسادنا. في ماذا استخدمتَ أذنك؟ «لا شيء، هكذا جئنا وجلسنا. كنّا عاطلين عن العمل، فسمعنا صوت الموسيقى، واستمتعنا قليلاً، وهكذا». لقد أخطأتَ! «جلسنا ورأينا شخصًا يغتاب، فقلنا: "لنرَ ماذا يقول؟"». لقد أخطأتَ! «جلسنا ورأينا شخصًا يتّهم آخر، فاستمعنا لنرى ماذا يقول». لماذا؟ ما علاقتك بذلك؟ «جلسنا ورأينا شخصًا يرتكب النميمة، فاستخدمنا آذاننا هناك». لم يكن لك الحقّ! كلاّ، لم يكن لك الحقّ. فقدمك، ويدك، وعينك، ودماغك، وقلبك.. كلّها تأتي يوم القيامة واحدة تلو الآخر [وتشهد]؛ حيث لدينا آية من القرآن تقول: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ﴾.۱ فتأتي أيديهم وتشهد، وتأتي ألسنتهم في يوم القيامة وتقول: «يا إلهي، في تاريخ كذا، قال بواسطتي هذا الكلام، وتحدّث بهذا الكلام الباطل». ﴿تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي ضدّهم. فيقولون: «عجبًا أيّها الخبيث، لقد كنتَ في فمي، والآن تشتكي ضدّي... كنتَ ملكي، وهذا الذي يحدث الآن...»؛ أي كأنّ الإنسان نفسه يشهد ضدّ نفسه. «كنتَ في فمي سبعين عامًا، والآن تشهد ضدّي!». يقول: «كلاّ! كنتَ تظنّ أنّني ملكك». ﴿قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾.٢ «الله هو الذي أنطقنا. ففي الوقت الذي كنتَ تغتاب فلانًا بواسطتي، في نفس الوقت كنتُ أقول لك: "أيّها المسكين، لماذا تفعل بي هذا العمل؟ لماذا تفعل بي هذا الفعل؟"، لكنّك كنتَ غارقًا في نوم الغفلة، ولم تكن تفهم أيّة نار وأيّة مصيبة تشتريها لنفسك بهذا الحديث الذي تقوله الآن بواسطتي؟ الآن تعال وشاهد». فأقول: «عجبًا! هذا اللسان الذي كان يومًا في فمي، أيّة نار أشعلها الآن ضدّي! وهذه العين التي كانت في رأسي، أيّة نار أوقدتها! وهذه الأذن التي كانت في رأسي، أيّة نار...!»، فيأتي كلّ عضو عضو وكلّ جارحة... فأيّة نار أشعلتها القدم! وأيّة نار أشعلتها اليد! وأيّة نار أشعلها الدماغ! ماذا؟! كلّ هذه الأمور... .
﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.٣ لا يُسأل عمّا يفعله، ولكنّ غيره مسؤولون جميعًا.. كلّهم مسؤولون. فيأتي يوم القيامة، ويسأل. ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾.٤ عندما يُسأل الطفل الذي دُفن، وأخفي في التراب، بأيّ ذنب قُتلتَ؟ بأيّ حقّ دفنوك في التراب؟ يجب على الأب أن يأتي ويجيب. فيقول الله تعالى: «بأيّ...؟». حيث يحضر هذا الطفل نفسه يوم القيامة، ويقول: «يا إلهي، هذا الأب دفنني في التراب، وحرمني من الوصول إلى الكمالات. أنت خلقتني في هذا العالم لأصل إلى الكمالات بفضل الحياة في الدنيا، وهذا حرمني». ويجب على الرجل أن يجيب: «بأيّ حقّ؟ لماذا فعلت هذا؟ لماذا فعلت هذا؟ أنت الذي كنت تريد أن تدفنه، لماذا تزوّجت من البداية؟ لقد أخطأت عندما تزوجت حتّى تدفنه الآن. لقد أخطأت عندما عقدت النكاح حتى تدفن هذا حيًّا الآن، ماذا؟! أنت تأتي وتصنع موجودًا، ثمّ تأخذه وتدفنه حيًّا؟! أنت تأتي وتتحمّل مسؤوليةً، ثمّ تُحدث هذا الوضع؟! وتتسبّب في هذه الأوضاع؟! كلاّ!».
الملكيّة الإلهيّة المطلقة والمسافة الصفر
أتذكّر أنّ المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه كان يتحدّث في مناسبة ما مع أحد السادة العلماء، وذلك في السنوات الأخيرة من عمره في مشهد، فقال له [ذلك العالم]: «لماذا لا تُبدي رأيك في المسألة الفلانيّة؟ ولماذا لا تُبيّن الأمر؟». فقال: «أنا حاضر ما دام الدم لم يخرج من أنف أحد، وإلاّ فلن أكون حاضرًا». فالمسألة صعبة جدًّا، والمسألة بالغة الحساسيّة؛ لأنّه على الإنسان حينئذ أن يجيب بنفسه، ولا يُمكنه أن يقول: «لا أعلم».. نعم؟! لماذا الأمر هكذا؟ لأن الله هو المالك، وعندما يصبح الله هو المالك، لا يعود لنا الحقّ في أن نفعل ما نشاء.
سيُسأل كلّ واحد منا: «لماذا ذهبتَ إلى هناك في تلك الليلة؟ ولماذا ذهبتَ إلى هناك في الغد؟و لماذا خطوتَ هناك؟ ولماذا رأيتَ ذلك؟ ولماذا سمعتَ ذلك؟ لماذا قلتَ هذا الكلام؟ لماذا فعلتَ ذلك؟»؛ فيُسأل عنها الواحدة تلو الأخرى، من دون أن تفلت أيّة واحدة منها، ومن غير أن تختفي أيّة صفحة واحدة من الملفّ! فهذه الملفّات صفحاتها دقيقة، دقيقة ومحكمة ومتقنة، لدرجة أنّه لا يوجد أيّ جهاز في العالم ـ سواء ما كان موجودًا أو سيأتي لاحقًا ـ يمكنه أن يُسجّل هذه الملفّات والبيانات والأوراق بهذه الدقّة؛ إذ كلّها في مكانها الصحيح. فالكلام الذي ينتمي إلى هذا الملفّ موجود هنا، ولا يضعه في الملفّ الآخر. ذاك لذاك، وذاك لذاك. ويوم القيامة، يُحضرون كلّ شيء واحدًا تلو الآخر، ويفتحونه واحدًا تلو الآخر. ﴿كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾.۱ يقول الله تعالى: «انظر إلى كتاب أعمالك، وحاسب أنت نفسك.. ﴿كَفَىٰ بِنَفْسِكَ﴾. لا داعي لأن آتي وأخبرك، بل انظر بنفسك.. ﴿كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾. تعال، وكن أنت حسيبًا لنفسك». في ذلك الوقت، يطأطئ الإنسان رأسه، فما عساه أن يقول لله تعالى؟! حقًّا، ما عساه أن يقول؟! حسنًا، لن نواصل الآن الحديث عن هذه القضية أكثر من ذلك حتّى لا نبتعد عن الموضوع الأصليّ.
وعليه، فإنّ الله تعالى الذي هو أقرب إلينا من أنفسنا سيكون ـ بمقتضى هذا الدليل العقليّ ـ مالكنا، وتكون لملكيّته تقدّمًا طبعيًّا ورتبيًّا على ملكيّتنا؛ مثلما أنّ للعلّة تقدّمًا طبعيًّا على المعلول؛ أي أنّ طبيعة العلة ـ من حيث كونها علّة ـ متقدّمة على المعلول، وتقدّمُها رتبيٌّ؛ أي أنّ رتبتها متقدّمة على تلك الرتبة.
حينئذ، وبالنظر إلى هذه المسألة، أيّة مسافة لدى الإنسان بينه وبين الله؟ لا شيء، صفر! فالمسافة بين الإنسان والله صفر، فلا توجد هنا أيّة مسافة؛ أي أنّ الله تعالى لا تفصله عن الإنسان أيّة مسافة، بحيث يكون هذا الإنسان محتاجًا لأن يتحرّك إليه ويتوجّه إليه. فالمسافة صفر، ويجب أن يبدأ من الصفر وينتهي إلى الصفر. فلا توجد مسافة؛ لأنّه بمجرّد أن يريد الحركة، وبمجرّد أن يريد استخدام فكره، فإنّ الله تعالى يكون حاضرًا حتّى قبل أن يستخدم هذا الفكر؛ وحينئذ، إلى أين يريد الإنسان أن يذهب؟!
أعمالنا هي الحجاب الحقيقيّ
لكن، لماذا يقول الإمام السجّاد: «قريب المسافة»؟ حيث يقول الإمام السجّاد: كلاّ! هناك مسافة، لكنّها مسافة قريبة. فهناك إذن مسافة. ما هو جواب هذه المسألة؟ العبارة التالية من الإمام تحلّ هذه المشكلة، حيث يقول الإمام: «وأَنَّكَ لَا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إِلَّا أَنْ تَحْجُبَهُمُ الْأَعْمَالُ دُونَكَ». أنت لم تخفِ نفسك عن الخلق، بل أعمالنا هي التي سبّبت إخفاءك. انتبهوا! فهنا نصل إلى حقيقة المسألة؛ وهي أنّ العلاقة بين الإنسان والله، والعلاقة بين الله والإنسان تُفسّر في مرحلتين:
العلاقة الأولى هي علاقة الربوبيّة بالنسبة للمربوب، وعلاقة الربّ بالنسبة للعبد، وعلاقة الله تعالى بنا. فعندما تُشرق الشمس، يسطع نورها على كلّ العالم، على كلّ العالم. فترفع رأسك فترى الشمس، وترى أنّ هذه الشمس مسيطرة عليك، وقد ألقت نورها عليك، ونشرت حرارتها على الجميع. ولكن، إذا أردت أن تذهب نحو الشمس، فهل يكون الأمر بهذه السهولة؟ كلاّ، فهي مسيطرة عليك من حيث الحرارة، ولكنّك بعيد عنها، فيجب أن تسافر لسنوات، وليس هكذا. كم كيلومترًا؟ يبدو أنّها مسافة ثماني دقائق وثلاث عشرة ثانية ضوئيّة. اضربها في ثلاثمائة، وانظر كم ستكون المسافة؟ فماذا يجب أن تفعل بهذه المسافة؟ يجب أن تقطعها. ولكن ماذا عن الله تعالى؟ كلاّ! هو مشرف مباشرةً.
فالمسافة التي يعتبرها الإمام السجّاد عليه السلام هنا بين العبد والربّ، وبين العبد والله تعالى، هي مسافة المعرفة، والعبور من النفس والحجب النفسانيّة، والوصول إلى المقام الإلهيّ ومقام المعرفة.. هذه هي المسافة. وأمّا من ناحية التوجّه والالتفات، ففي كلّ وقت، وفي كلّ ساعة، وفي كلّ لحظة يقول العبد: «يا ربّ»، فإنّ الله تعالى يقول: «لبّيك»، وليس الأمر كما كان سابقًا مثلاً. فعندما كانوا يتّصلون، لا أعلم كيف كانت الأسلاك في ذلك الوقت. فعلى سبيل المثال، حينما كان يقول أحدهم: «السلام عليكم»، كان صوته يصل إلى تلك المدينة بعد دقيقة، أو مثلاً، بسبب بطء تلك... أليس كذلك؟ والآن أيضًا بهذا النحو؛ إذ عندما يتحدّث الإنسان في بعض البلدان التي ليست فيها الاتّصالات جيّدة جدًا، يجد أنّه عندما يتكلّم، يرى أنّ الصوت وصل إليه فجأة بعد عدة ثوانٍ؛ والآخر أيضًا هو بنفس النحو. وأحيانًا، يتقاطع الكلام؛ وهذا بسبب أنّ الوسائل التي تنقل هذا الكلام ليست حديثة جدًّا، ولا تستطيع أن تنقلها بسرعة كبيرة.
وأمّا الإنسان، فلا! إذ بمجرّد أن يقول: «يا إلهي!»، بل وقبل أن يقول: «يا إلهي»، يرى أنّه تعالى يقول: «لبّيك». فلماذا يقول: «لبّيك»؟ لأنه مُحيط، وهو أيضًا يقف بجانب الإنسان؛ ومرادي من ذلك أنّه قريب إلى هذا الحدّ؛ فهذا تشبيه وحسب. أي: بمجرّد أن يميل القلب نحو المبدأ [الله تعالى]، يكون هذا الميل عبارة عن توجّه المبدأ إليه، فلا توجد أيّة مسافة في ذلك. ففي الإسلام، يُمكن للإنسان أن يدعو في أيّ وقت من الأوقات. وفي كلّ وقت من الأوقات، يُمكنه أن يُصلّي.
العبادة بين الإسلام والمسيحيّة
هذا خاصّ بالإسلام، والمسيحيّة ليست كذلك. فالمسيحيّون لديهم يوم واحد فقط، وهو يوم الأحد، ومن الصباح حتى الظهر. وعندما يحين الظهر، يذهبون ويتطهّرون من جميع خطايا الأسبوع. يدفعون قليلاً.. بضعة دولارات، ويحصلون على خصم قليل، ويصطلحون مع بعضهم البعض. ويشتري ذاك الجحيم، ويبيع ذاك الجنّة، ويفعل ذاك كذا، وخلاصة القول: عندما يخرجون من الكنيسة ظهرًا، كأنّهم وُلدوا من جديد؛ فلا توجد لديهم أيّة خطيئة، ولا ذرّة معصية.. يوم جديد، ورزق جديد، حتّى الأسبوع القادم! ماذا؟! الله تعالى أرحم الراحمين!! فهؤلاء يقضون يومًا واحدًا فقط في الأسبوع، بل نصف يوم فقط، فيذهبون، ويقومون ببعض الأعمال، ويقرأون بعض الأشعار، ويعزفون بعض الموسيقى، ويقولون بعض الأشياء، ويقولون «آمين»، ويفعلون بعض الأعمال، ويخرجون. فهذا هو حال المسيحيّة.
وأمّا الإسلام فماذا؟ كلاّ! ففي الإسلام، إذا أردت أن تتوجّه إلى الله الآن، فتوضّأ الآن وصلِّ. وإذا أردت أن تفعل ذلك بعد ساعة، فالأبواب مفتوحة. وإذا أردت أن تفعل ذلك في منتصف الليل، فالأبواب مفتوحة. وإذا أردت أن تفعل ذلك قبل الأذان، فالأبواب مفتوحة. وإذا أردت أن تفعل ذلك ظهرًا، فالأبواب مفتوحة. فجميع أوقات الليل والنهار مفتوحة للعودة إلى الله. أليس كذلك؟! جميع أوقات الليل والنهار مفتوحة للتوبة والإنابة.
في أيّ وقت شئتَ، ولا تؤجّل لحظة واحدة، وإلا ستُخدع. لحظة واحدة. لا تقل: «حسنًا، لقد ارتكبت هذه الخطيئة، سأرى [ذلك الشخص] غدًا، سأراه الأسبوع القادم، سأذهب وأطلب منه أن يسامحني». لا يا سيّدي، ربّما تموت قبل الأسبوع القادم. قم الآن، في نفس هذه اللحظة، وإذا رأيت أنّك أغضبت أخاك المؤمن، أو إذا اغتبتَه يومًا، ولكنّ هذه الغيبة لم تصله، فلا تذكرها. ماذا يقول الناس؟ العوامّ يقولون: «إذا اغتبت، فاذهب واطلب منه السماح». ولكنّ هذا خلاف الصحيح. لا، لا تفعلوا ذلك أبدًا. لا تغتابوا أبدًا، فأنا لا أقول اغتابوا؛ لأنّ الغيبة حرام وذنبها أشدّ من الزنا.۱ ولكن، إذا ارتكب الإنسان هذا الخطأ وعلم أنّها لم تصل إلى مسامعه، لم تصل إلى مسامع الشخص المغتاب، فلا يذهب ليُخبره، بل يتوب في قلبه ألاّ يفعل ذلك مرّة أخرى، والله يغفر له؛ لأنّ إظهار الذنب وإظهار الغيبة يُسبّب بنفسه أثرًا سيئًا، ويُقلّل من حسن ظنّ الإخوة المؤمنين ببعضهم البعض.
إذا لم أعلم أنّك اغتبتني، فحسنًا، لن يكون لديّ أيّ شعور تجاهك، أليس كذلك؟ سأتعامل معك بصفاء وصدق كما في السابق إذا لم أعلم. فقد قلتَ كلمة عنّي في مكان ما وانتهى الأمر. فعليك أن تقول: «يا سيّدي، ذات يوم، أخطأت وارتكبت خطًا»، وانتهى الأمر! لكن، لو جئتَ وقلتَ لي: «يا سيّدي، سامحني! ففي المجلس الفلانيّ، اغتبتك، وقلت كذا وكذا!». حسنًا، لن أنسى هذا ما حييت.. لن أنساه؛ لهذا، لا ينبغي للإنسان أن يقول ذلك، ولكن إذا وصلت الغيبة إلى ذلك الشخص، حينئذٍ يجب على الإنسان أن يذهب ويطلب منه السماح. لقد وصلته الغيبة، وعندما وصلته، لا يمكن فعل شيء آخر. فيجب أن يذهب ويرضيه بأيّة طريقة، ويجب أن يُزيل الآثار السلبيّة لهذه المسألة؛ لأنّ لها آثار سلبيّة.
توبة الحُرِّ بن يزيد الرياحيّ: مثال على قرب المسافة
وهنا، فإنّ هذا العمل الذي يقوم به الإنسان هو عبارة عن التوجّه، والتوجّه هو عبارة عن الحضور؛ أي أنّ الإنسان حاضر عند الله، وفي أيّ وقت يشاء، يُمكنه أن يتدارك ذلك.. في أيّ وقت. من كان الحُرُّ بن يزيد الرياحي؟ كان رجلاً تسبّب في وقوع كلّ أحداث كربلاء؛ إذ لو أنّه لم يسمح بحدوث تلك الأشياء للإمام الحسين، لذهب عليه السلام إلى اليمن، ولما حصلت كربلاء في الأساس. لكن، عندما جاء يوم عاشوراء، ورأى أنّ الأمر جادّ، ورأى أنّ القضية جادّة، حيث كان يظنّ أنّها ستتمّ بطريقة أخرى... حسنًا، كانت نفسه طيّبة، كانت نفسه طيّبة، كانت نفسه نقيّة. هذه الدنيا وتعلّقاتها وزينتها وأمثال ذلك قد أوقعته في بعض المتاعب، لكنّ نقاءه الخاصّ لم يختفِ؛ فرأى أنّ الأمر ليس مزاحًا يا سيّدي! فموضوع القضيّة هو ابن النبيّ، وهم يُريدون قتله! والمسألة ليست لعبًا.
جاء إلى عمر بن سعد وقال: «ماذا تريد أن تفعل؟» فقال: سأفعل شيئًا، أقلّه هو قطع الرؤوس. ماذا أريد أن أفعل؟! لم نكن عاطلين عن العمل حتّى نجمع ثلاثين ألف جنديّ ونأتي بهم إلى هنا! إمّا أن يستسلم ليزيد وعبيد الله، ونقيّد يديه هكذا ونذهب به إلى هناك، ونُبقيه أمام عبيد الله كأسير؛ ليس أنّ عبيد الله يأتي ويُقيم للإمام الحسين أقواس النصر ويذبح الغنم! كلاّ! سنُقيّد يديه كأسير كما فعل المسلمون بالمشركين في معركة بدر، وجاء النبيّ وقال: «اذهبوا أنتم الطلقاء».. قوموا واذهبوا لحال سبيلكم!۱ سنُقيّد يديه هكذا ويقف أمام عبيد الله؛ فإن أراد هو أن يصفح، فليصفح. وإن لم يرد ذلك، فلا يفعل. هكذا... ظنّوا أنّ الإمام الحسين مثل هؤلاء الناس المنحطّين في الدنيا!
فقال [الحرّ]: «كلاّ، القضية جدّية، المسألة جدّية». رأى: كلاّ، هنا القضية ليست مزاحًا. وجاء إلى الإمام الحسين، وقال له: «هل يمكنني أن أتوب؟» «هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟».۱ هل يمكنني أن أتوب؟ ماذا يقول الإمام هنا؟ الإمام هو مظهر رأفة الله ورحمته. الإمام هنا لا ينظر إلى ما فعله، بل ينظر إلى الموقف الحالي! ماذا يفعل الآن؟ ليس ما فعله سابقًا. نحن لا! بل تجدنا نقول: «لقد فعلتَ كذا، انتظر، سأدمّرك، فهل ينتهي الأمر بالتوبة؟! لا يُمكن أن يتمّ الأمر بهذا النحو!». لكنّ الإمام الحسين ليس هكذا. فليس أنّ [الحرّ] لم يكن يُصدّق، بل إنّ عظمة ذنبه وثقله كانا يمنعناه من أن تتجلّى له هذه الحقيقة؛ لأنّه قام بعمل جسيم جدًّا!
فإذا أوقع الإنسانُ ـ عبثًا ـ حيوانًا في الهلاك، فإنّ ذلك لن يُغادر مخيّلته طوال حياته. وإذا قام الإنسان بعمل يُؤدّي إلى هلاك شخص، فإنّ هذا لن يُغادر فكره طوال حياته، إلاّ أن يكون هو بنفسه حيوانًا. الآن، تصوّروا القضيّة، يأتي شخص ويحاصر ابن النبي مع زوجته وأولاده وأصحابه وهكذا، ويوقعه في الفخ، وفي المصيدة، مع العلم أنّ عاقبة الأمر كانت ستتّضح بعد ساعتين أو ثلاث. أيّ ضجّة يجب أن تحدث في نفسه؟ وأيّ جهنّم يجب أن تقوم في هذه النفس بسبب العمل الذي قام به؟ ففي هذه الحالة، لن يستطيع أن يأتي بتاتًا [عند الإمام الحسين]؛ أي أنّه لن يملك القدرة على المجيء. بمعنى أنّ الإنسان إذا أراد أن يتصوّر حال الحرّ، فعليه أن يضع نفسه في تلك الواقعة وفي ذلك الوضع إذا استطاع، وأن يضع نفسه مكانه، وحينئذٍ يرى هل يُمكنه في الأساس؟ وهل لديه الجرأة على أن يعود إلى الإمام الحسين أم لا؟ ولكن، من الناحية الأخرى، فإنّ بحر رحمة الله، ومحيط غفرانه ورحمته الواسعه، ماذا؟ هو بجانبه؛ إذ من يكون الإمام الحسين؟ الإمام الحسين هو مظهر الله تعالى؛ ولهذا، يقول: «حينما تُبت الآن؛ فكأنّك لم تفعل شيئًا، ولم تفعل أيّ عمل». ولا تظنّوا أن الإمام الحسين كان يمزح معه، ويريد أن يُسايره بطريقة ما حتّى لا يكسر قلبه، بل لم يكن في نفس الإمام الحسين غير ذلك بتاتًا. ففي النهاية، قد يعرض الإنسان أحيانًا الأمرَ بطريقة مختلفةً أمام الآخرين، ويطرحه بطريقة أخرى، ويقول: «لا يا سيّدي، لا بأس، ما هذا الكلام؟ ليست هناك مشكلة، ولا يوجد أيّ شيء»، ولكن في قلبه يقول: «لقد حدث كذا، لقد دمّرتنا، ماذا فعلتَ؟! لقد فعلتَ كذا». وأمّا الإمام الحسين، فكان في قلبه صفر، لا شيء، لا شيء، لا شيء. وليس الإمام الحسين فقط، بل السيّدة زينب عليها السلام أيضًا كذلك.. السيدة زينب عليها السلام أيضًا كانت كذلك. فقد يقول الحرّ: «أنا الآن أتعامل مع الإمام الحسين، لكن، كيف أتصرّف مع هؤلاء النساء والأطفال؟! حسنًا، فهؤلاء [ليسوا] هم الإمام الحسين». لكنّه يرى: كلاّ! فحتّى السيدة زينب جاءت، وتصرّفت بالنحو ذاته، وكأنّ شيئًا لم يحدث بتاتًا.
حقًّا هؤلاء... فحقًّا إنّ الإنسان ليحتار: فأيّة عائلة كانت؟! وأيّة مرتبة من مراتب الكمال والشهود والتحقّق كانوا فيها، لدرجة أنّ الإنسان لا يستطيع هضم أعمالهم في داخله، ولا يستطيع إخضاعها لأيّ مقياس أو معيار؟! لا يُمكنه بتاتًا، فلا يستطيع الإنسان فعل هذا العمل، حيث جاء شخص، وتسبّب في قتل نفسه وزوجته وأولاده وأصحابه، كلّ هذا حدث. والآن بعد أن جاء يقولون له: «لا شيء، لا شيء على الإطلاق، لا شيء. تفضّل أهلاً وسهلاً، لا شيء». لماذا؟ لأنّه جاء بشكل صحيح، وهذا هو الشرط.
أعمالنا تُحدّد المسافة بيننا وبين الله تعالى
إنّ عبارة الإمام السجّاد التي يقول فيها: «إلاّ أن تحجبهم الأعمال» بدأت هنا تجد معناها شيئًا فشيئًا. كيف جاء الحرّ؟ جاء بشكل صحيح. والآن بعد أن جاء بشكل صحيح، أصبح ماذا؟ قريب المسافة؛ أي: عندما يريد أن يتحرّك نحو الإمام الحسين، يجب عليه أوّلاً أن يُطهّر باطنه. وعندما يُطهّر باطنه، فماذا يحدث للمسافة؟ تصير قريبة. فيقول له الإمام الحسين: «السلام عليكم. أهلاً وسهلاً، أين كنتَ حتى الآن؟!». فالإمام الحسين كان أيضًا مرحًا بعض الشيء، وربمّا مازحه قليلاً.. أين كنتَ حتى الآن يا رجل؟! فقد كنّا نبحث عنك، ولماذا كنتَ في ذلك الطرف؟ لو جئت إلى هنا... وهكذا. إنّه أمر يجعله يقول: «يا للعجب، وهل فعلتُ شيئًا في الأساس؟!»؛ أي أنّه يُقلّل من شأن الأمر.
فهذه هي طبيعة عملهم؛ أي أنّهم لم يكونوا يمزحون في هذه الأمور، بل إنّ عملهم كان بهذا النحو؛ فهم عظماء إلى هذا الحدّ، وكرماء إلى هذا الحدّ، وعظماء إلى هذا الحدّ، لدرجة أن كلمة "عظمة" ليست لفظًا يمكن أن يُناسب هذا القوام، وكلمة "كرم" ليست كلمة يمكن أن تُؤدّي حقّ المعنى إطلاقًا، حيث نجدهم يتعاملون بطريقة تجعل الإنسان نفسه يشكّ، ويقول: «هل فعلتُ شيئًا في الأساس؟!». فماذا تكون هذه الحركة حينئذ؟ تكون حركة قريبة المسافة. يقول الإمام السجّاد عليه السلام... إنّ الوقت يمرّ، ويبدو أنّ الموضوع بدأ يطول، وبقيت المسألة كما هي!! فهذا الذي يريد الإمام عليه السلام أن يقوله: عندما تُريد أن تتحرّك نحو الله تعالى، كيف يجب أن تتحرّك؟ إذا سلكت الطريق وفقًا لقوانين السفر وقطع المسافات، حينئذٍ سترى الله بجانبك، وحينئذٍ تكون هذه الحركة حركة توصلك سريعًا إلى المطلوب.
الحاجّ طيِّب مثال على قطع المسافة بشكل سريع
كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يقول: عندما ألقوا القبض على "طيِّب"... ومن كان طيِّب؟ كان رجلاً فَعَل كلّ ما يخطر ببالكم، كان من الفتوّات۱ في طهران، صاحب مقهى، وصاحب كذا وكذا، وكثير... لكنّ ولاءه وإخلاصه للإمام الحسين كانا في مكانهما، مثل هؤلاءالفتوّات، فهؤلاء هم أفضل بمائة مرّة من غيرهم! ففي يوم عاشوراء، ويوم تاسوعاء، كان لديه مواكب وكذا وكثير... لكن، باختصار، كانت لديه مجالس أنسه الخاصّة أيضًا. وخلاصة القول، في حادثة الخامس عشر من خرداد، ألقوا القبض عليه وقالوا له: «من أمرك أن تفعل هذا؟»، فقال: «لم يأمرني أحد، فعلتُه بنفسي». لماذا فعلتَ ذلك؟ رأيتُ مرجع التقليد يقول: أيّها الناس اخرجوا وافعلوا كذا وكذا، فخرجتُ وثُرت. حسنًا، لقد كان رجلاً معروفًا. قالوا له: «ألم تأخذ مالاً على ذلك؟». فقال: «لا». فقالوا: «يجب أن تقول إنّك قبضت أجرًا». فقال: «لا أقول كذبًا، أنا لا أكذب. أنا لم أقبض مالاً، فلماذا أقول إنّني أخذته؟!». قالوا: «سنضربك ونفعل بك كذا». فقال: «افعلوا ما شئتم». وبدأوا شيئًا فشيئًا بتصعيد الأمر حتّى قالوا: «سنُعدمك». فقال: «افعلوا». ففي تلك الحالة، ماذا كان يفعل؟ كان يُقلّل المسافة باستمرار، ويُقرّب نفسه من نقطة الصفر ونقطة الوحدة. فجاءوا وعذّبوه، عذبوا هذا المسكين حقًّا. وطوال هذه المدّة كانوا يقولون: «يجب أن تقول إنّك أخذت مالاً وفعلتَ ذلك». فكان يقول: «لم آخذه، ولن أتّهم السيّد». نقاؤه هذا أنقذه. وفي النهاية أعدموه.
كان المرحوم العلاّمة يقول: «في المّدة التي قضاها طيِّب في السجن، قطع طريقه». لماذا؟ لأنّه جاء وأزال هذه الحجب واحدًا تلو الآخر، حيث كانوا يمسكون به، ويضربونه، فيقول [في نفسه]: «دعني أقول ذلك»، لكن، من ناحية أخرى، كان ضميره يقول له: «لماذا تقول؟ لماذا تقول؟». ثمّ يأتي مرّة أخرى ضرب آخر، وتعذيب آخر، فيقول في نفسه: «دعني أقول ذلك»، حيث يقولون له: «إنّ مكانتك وكذا، وكذا، وسنفعل بأولادك كذا، ونفعل كذا بعقاراتك، وأرضك!».
إنّ الشقيّ هو عمر بن سعد الذي جاء، وقال له الإمام كذا، فقال له: «سيسلبونني أرضي». فقال له الإمام: «أنا أعطيك أرضًا من أراضيّ بالمدينة». وقد قال له ذلك بكلّ جدّ! على الإنسان حقًّا أن... فيجب أن نخاف كثيرًا، ويجب أن نأمل أيضًا. نخاف لأنّنا نرى أنّ الخطر كبير جدًّا، والمسألة ليست بهذه السهولة. ونأمل أيضًا برحمة الله تعالى. ففي النهاية، أيّ بلاء يجب أن يصيب الإنسان، وأيّة مصيبة يجب أن تصيبه حتى يسلب الله منه هذا العقل؟ يسلب منه هذا العقل؟ هذا العقل يقول: اثنان في اثنين أربعة. وهو يقول: اثنان في اثنين سبعة. يقول: اثنان في اثنين سبعة. اثنان في اثنين ثلاثة. حسنًا، أحدهم لنفترض أنّه عمر بن سعد، والآخر طيِّب. فكلاهما يحمل لقبًا، وكلاهما ماذا؟ كلاهما من أصحاب الثروة وكذا، وكلاهما بشر. كلاهما كانا بشرًا. هذا يُضرب هكذا ويفعلون به كذا ثمّ يعدمونه، فيقول: «كلاّ»، ويصمد حتى النهاية ويقول: «كلاّ». فما الذي يفعله حينئذ؟ إنه يُقلّل المسافة باستمرار، يُقلّلها باستمرار، ويُزيل بصدقه الحجب واحدًا تلو الآخر؛ ولهذا، قال [المرحوم العلاّمة]: في المدّة التي قضاها [في السجن]، زالت الحجب من قلبه.
أهمّية زيارة السيّد عبد العظيم الحسنيّ عليه السلام
وكان هو نفسه غالبًا، عندما كنتُ أتشرف بزيارته في ذلك الوقت، يذهب إلى زيارة السيّد عبد العظيم الحسنيّ. لا تنسوا زيارة السيّد عبد العظيم الحسنيّ، فهو ليس شخصيّة بسيطة. فقد قال الإمام الهادي عليه السلام، الإمام علي النقي: «مَنْ زَارَ عَبْدَ الْعَظِيمِ بِرَيٍّ كَمَنْ زَارَ الْحُسَيْنَ بِكَرْبَلَاءَ».۱ عندما جاء الراوي إلى الإمام، وقال: «يا ابن رسول الله، لا أستطيع الذهاب إلى كربلاء، ماذا أفعل حتى أحصل على ثواب زيارة الإمام الحسين؟»، فقال الإمام: «أليس لديكم عبد العظيم؟ أليس لديكم؟ ثمّ قال: من زار عبد العظيم، فكأنّما زار جدي الحسين في كربلاء». وهذه رواية موثوقة ولا مجال للشكّ فيها. فعندما كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه في طهران، كان في بداية كلّ شهر يذهب لزيارة السيّد عبد العظيم الحسنيّ. والأصدقاء أيضًا، كلّما ذهبوا إلى طهران، إذا كان بمقدورهم، فلا يُفوّتوا زيارته. حسنًا، هل نستمرّ في الحديث أم لا؟ الساعة تقريبًا التاسعة والنصف، ماذا تقولون؟ لقد تعب الأصدقاء. أليس كذلك؟ لا؟ كنت أتوقّع أن تقولوا نعم. حسنًا، أنا تعبت.
فهذا العمل يُساهم في أن يتمكّن الإنسان من طيّ طريقه في بضعة أيّام، ويتقدّم إلى الأمام في أيّام معدودات.
نرجو من الله ـ إن شاء تعالى ـ أن يُوفّقنا للحديث مع الرفقاء ـ بمقدار عقلنا الناقص وطاقتنا المحدودة ـ في الجلسة أو الجلسات القادمة عن كيفيّة الحركة والسلوك، وكيف ينبغي على الإنسان أن يطوي هذا الطريق، لكي يُقرّب المسافة بينه وبين الله تعالى.
اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد