2

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة

قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

39
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1424

التاريخ 1424/09/04

جلسات المجموعة(12 جلسة)

التوضيح

كيف نميّز بين الحياة الحيوانيّة التي تقتصر على تلبية الشهوات، والحياة العقلانيّة التي تسمو بالإنسان نحو الكمال؟ وما هي آفات الحضارة الماديّة المعاصرة التي تُبعد الإنسان عن حقيقته؟ يتناول آية الله السيد محمد محسن الطهراني هذه الأسئلة، مبيّنًا أهمية الصمت والتفكّر في السير إلى الله، وضرورة اغتنام النفحات الإلهيّة لتحقيق السعادة الحقيقية، وذلك ضمن شرحه لفقرات من دعاء أبي حمزة الثمالي.

/۱٤
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة - قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

1
  •  

  • هوالعليم

  •  

  • الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة 

  • قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك 

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٤ هـ - الجلسة الثانية

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة - قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم

  • بِسمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيم

  • وصلَّى اللهُ عَلَى سيدنا ونبينا أبي القاسمِ محمَّدٍ

  • وعلى آلِه الطَّيبينَ الطَّاهرينَ 

  • ولعنةُ اللهِ عَلَى أعدائِهِم أجمَعينَ مِنَ الآنَ إلى يومِ الدِّين

  •  

  •  

  • «وَاَنْتَ الْمَنَّانُ بِالْعَطِيّاتِ عَلَى أَهْلِ مَمْلَكَتِك وَالْعَآئِدُ عَلَيهِمْ بِتَحَنُّنِ رَأْفَتِك، إِلٰهي رَبَّيتَني في نِعَمِك وَإِحْسَانِك صَغيراً، وَنَوَّهْتَ باسْمي كبيراً، فَيا مَنْ رَبَّاني فِي الدُّنْيا بِإِحْسَانِهِ وَتَفَضُّلِهِ وَنِعَمِهِ، وأشارَ لي فِي الْآخِرَةِ إِلىٰ عَفْوِهِ وَكرَمِهِ»

  • يا إلهي، أنتَ المتفضِّلُ بالعطايا والمنحِ على أهلِ مملكتِكَ، ودائمًا ما تشملُهم برأفتِكَ. يا إلهي، لقد ربَّيتَني في نعمِكَ وإحسانِكَ صغيرًا، ورفعتَ اسمي وشهرتَه. فيا مَن ربَّاني في الدُّنيا بإحسانِه وتفضُّلِه ونعمِه، وبشَّرَني في الآخرةِ بعفوِه وكرمِه ومنحِه.

  • رحمةُ اللهِ تعالى الخاصَّةُ، سببُ توجُّهِ الإنسانِ وتوفيقِه

  • ذُكِرَ في الجلسةِ السَّابقةِ أنَّه لولا مِنَّةُ اللهِ تعالى علينا ورأفتُه التي شملتْ حالَنا، لكنَّا كسائرِ الذين يقضونَ حياتَهم في عالمِ الغفلةِ والجهلِ وعدمِ الالتفاتِ إلى سعادتِهم، لكنَّا مثلَهم. طبعًا، يُلحَظُ في هذه الفقرةِ الشَّريفةِ معنيان: عامٌّ وخاصٌّ. فالمعنى العامُّ هو ذلك الجانبُ مِن سعةِ رحمةِ اللهِ تعالى وعموميَّتها الذي يشملُ جميعَ الأفرادِ وجميعَ الموجوداتِ في بقاءِ الوجودِ وبقاءِ الحياةِ، حتَّى بالنِّسبةِ للكفَّارِ والفسَّاقِ وجميعِ الموجوداتِ. هذا جانبٌ واحدٌ حيثُ إنَّ الفيضَ الإلهيَّ دائمًا في حالةِ سريانٍ وجريانٍ مِن المبدأِ الفيَّاضِ إلى القوالبِ الوجوديَّةِ والإمكانيَّةِ. وتلك الرَّأفةُ الإلهيَّةُ والعطفُ المتعلِّقُ بالجانبِ الكماليِّ للأفرادِ، يقتضي دوامَ الفيضِ على هذه الممكناتِ. ولكن يبدو أنَّ الإمامَ السَّجَّادَ عليه السلام يشيرُ في هذه الفقرةِ إلى جانبٍ خاصٍّ مِن رأفةِ اللهِ تعالى وعطفِه على عبادِه، ذلك الجانبُ مِن الرَّأفةِ الذي يوجبُ اقترابَ الأفرادِ مِن عالمِ القُدسِ وابتعادَهم عن عالمِ الجهلِ والبهيميَّةِ والتَّوحُّشِ والجهالةِ والحيوانيَّةِ.

  • خصائصُ حياةِ الإنسانِ الحيوانيَّةِ

  • بشكلٍ عامٍّ، إذا ألقينا نظرةً على حياةِ الأفرادِ، يمكنُنا تصنيفُ هذه الحياةِ في مرتبتينِ: مرتبةُ الحياةِ الحيوانيَّةِ والجهلِ والجهالةِ والغفلةِ، وهي الحياةُ التي يكونُ الهدفُ والغايةُ فيها مجرَّدَ الوصولِ إلى الميولِ الدُّنيويَّةِ والرَّغباتِ والمتاعِ الدُّنيويِّ. هذه الحياةُ يمكنُ أن توجدَ في أيِّ قالبٍ وأيِّ صنفٍ كان. الحيوانُ يريدُ أن يُشبعَ بطنَه، ولا يعرفُ لذلك حدًّا ولا قيدًا. فهل رأيتُم كيف تتكالبُ الحيواناتُ على جيفةِ الدُّنيا وتُلقي بنفسِها عليها لتأخذَ حصَّتَها ونصيبَها منها؟! عندما تكونُ هناك جيفةٌ، يهاجمُها عددٌ مِن الكلابِ، كلُّ واحدٍ منها يريدُ أن يصلَ إليها أسرعَ ويُشبعَ نفسَه، ولا شأنَ له بالآخرِ، أمّا هل يبقى الكلبُ الآخرُ جائعًا أم لا؟ وهل هو مريضٌ أو أعرجُ؟ وهل سيتخلَّفُ عن القافلةِ أم لا؟ فلا شأنَ له بهذه الأمورِ، بل يهمُّه فقط أن يصلَ بسرعةٍ إلى متاعِه ومنافعِه. عندما يهاجمُ النَّمر، لا يهمُّه أنَّ ذلك الحيوانَ لديه صغارٌ، أو أنَّه أمٌّ، أو أنَّ صغارَها تنتظرُها ولديها طلبٌ أو حاجةٌ، لا، فقط يقولُ: نحن جائعونَ واللهُ قد رزقَنا هذا الرِّزقَ، ويجبُ أن نشبعَ بطونَنا مِن الطَّعامِ، فيمسكُ به ويهاجمُه ويحصلُ عليه ويؤمِّنُ رزقَه. ومع ذلك، مائةُ رحمةٍ وسلام على هذه الحيواناتِ! فعندما تشبعُ بطونُها لا تعودُ تهتمُّ بشيءٍ. يقولون: «عندما يكونُ الأسدُ أو النَّمرُ شبعانًا، لو كانت الظَّبيةُ بجانبِ أحدهما لما تعرَّض لها!». ولقد حدثَ ذلك، كما يُنقَلُ. نعم، عندما تجوعُ، حينها تُقدِمُ على الهجومِ لرفعِ جوعِها. والأفاعي عندما تكونُ شبعانةً لا تهاجمُ الحيوانَ ولا تبتلعُه. فقط عندما تجوعُ تهاجمُ، وهكذا بقيَّةُ الحيواناتِ.

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة - قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

3
  • عدمُ التَّكاملِ الحقيقيِّ للإنسانِ المعاصرِ رغمَ التَّقدُّمِ التُّكنولوجيِّ

  • ولكن هذا الإنسان، ما حقيقة أمره حقًّا؟! يقولون: «لقد تطوَّرَ هذا الإنسان. في القرنِ العشرينَ، في قرن الألفين، اكتملتِ العقولُ. تقدَّمتْ حضارةُ البشرِ. الإنسانُ اليوم يختلفُ عن إنسان ما قبلَ ألفَيْ عامٍ. لقد وصلَ علمُ البشرِ وثقافتُهم وبصيرتُهم اليومَ إلى مرتبةٍ عليا. فلم تعُدْ هناك اليومَ حاجةٌ إلى الأخلاقِ والأستاذِ والتَّربيةِ الدِّينيَّةِ والتَّربيةِ التَّشريعيَّةِ. الإنسانُ نفسُه يُدركُ صحَّةَ الأمورِ وسقمَها، ولم يعُدْ بحاجةٍ إلى تربيةٍ وإرسالِ الرُّسُلِ وإنزالِ الكُتُبِ والإلزامِ بالتَّكاليفِ!».

  • قبلَ أيَّامٍ كنتُ أقرأُ في صحيفةٍ أنَّه في إحدى هذه الدُّولِ المتحضِّرةِ والمتقدِّمةِ جدًّا والحديثةِ، وهي ألمانيا، التي تُعتبرُ مِن الدُّولِ المتحضِّرةِ مِن النَّاحيةِ الثَّقافيَّةِ. انظروا ماذا فعلَ هذا الإنسان الذي تقدَّمَ اليومَ ولم يعُدْ بحاجةٍ إلى الأخلاقِ؟! في أحدِ المسابحِ، كان مئتا فردٍ مِن هؤلاءِ النَّاسِ يسبحونَ وكانوا في الخارجِ، فأُصيبَ طفلٌ عراقيٌّ يبلغُ مِن العمرِ عشرَ سنواتٍ هناك بمكروهٍ، أو أنَّهم آذَوْهُ، أو أنَّه هو نفسُه واجهَ مشكلةً في وسطِ المسبحِ ولم يستطعْ إنقاذَ نفسِه. هؤلاءِ المائتا فردٍ كانوا ينظرونَ إليه ويضحكونَ، ولأنَّه كان فردًا غريبًا، فقد نظروا إليه حتَّى غرِقَ أمامَ أعينِهم! هل تلتفتونَ؟ هذا هو الإنسان الذي وصلَ إلى الحضارةِ! يعني لا يمكنُكم تصوُّر أرذل مراتب التَّوحُّش، أن ينظرَ امرؤٌ يبلغُ مِن العمرِ ثلاثينَ أو أربعينَ أو خمسينَ عامًا إلى طفلٍ يبلغُ مِن العمرِ تسعَ أو عشرَ سنواتٍ، يغرقُ أمامَ عينَيْهِ لأنَّه مِن عرقٍ آخرَ، وهو يضحكُ باستمرارٍ وينظرُ، والطِّفلُ يغرقُ ويُخرجونَ جثَّتَه! هذا كلُّ ما في الأمرِ! وهناك أمورُ وأشياءُ تعرفونَها أنتم بدرجاتٍ متفاوتةٍ، وتُدركونَ أنَّه لا يا عزيزي، التُّكنولوجيا والتِّقنيَّةُ لم توقظْ ضميرَ البشرِ. ضميرُ البشرِ في جهالةٍ.{إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ الا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}۱. الإنسانُ دائمًا في حالةِ من الضرر والخسارة الناتجة عن مراتبِ جهلِه، الا الذين يُخرجونَ أنفسَهم مِن هذه الورطةِ ويعملونَ الصَّالحاتِ ويضعونَ أنفسَهم تحتَ تربيةِ الشَّرعِ حتَّى يحدثَ فيهم تغييرٌ. والا، فأيُّ فرقٍ يُحدثُه ركوبُ الحمارِ عن ركوبِ الطَّائرةِ في ثقافةِ البشرِ؟! أولًا، ألا يركبونَ الخيلَ الآنَ؟ ألا يركبونَ الحميرَ؟ هؤلاءِ الذين يتسابقونَ، يركبونَ الخيلَ ويتسابقونَ. لقد أصبحَ الحصانُ المسكينُ وسيلةً للتَّرفيهِ والمتعة للأفرادِ. سواءٌ ركبَ الإنسانُ حيوانًا أو ركبَ سيَّارةً فما الفرقُ؟ سواءٌ كانت وسيلةُ تنقّل الإنسانِ قديمةً أو جديدةً، فما علاقةُ ذلك بالثَّقافةِ؟ ما علاقةُ ذلك بالعقلِ والدِّرايةِ؟! ما علاقةُ ذلك بالحسابِ والكتابِ؟! تلك الطَّائرةُ التي تمرُّ وعلى متنِها ثلاثُمائةِ راكبٍ بريءٍ، خمسُمائةِ راكبٍ بريءٍ غافلونَ عمَّا يجري، ينتقلونَ مِن نقطةٍ إلى أخرى، بينهم طفلٌ رضيعٌ وشيخٌ كبيرٌ، ثمَّ يتعلَّقُ رأيُ السَّادةِ بإسقاطِ هذه الطَّائرةِ فوقَ البحرِ! ألم يفعلوا ذلك؟ ألم يُسقِطوا طائرةً إيرانيّة؟ هذا الذي يقومُ بهذا العملِ الآنَ، إذا كانتْ لديكَ عداوةٌ فاضرِبِ الطَّائرةَ خالية ولكن ما شأنُكَ بالرُّكَّابِ؟! ما ذنبُ ذلك الطِّفلِ الرَّضيعِ؟! ما ذنبُ ذلك الشَّيخِ الكبيرِ الذي يجلسُ هناك الآنَ ويعدُّ اللَّحظاتِ أملًا في العودةِ إلى منزلِه؟! هذه هي مظاهرُ الحضارةِ البشريَّةِ! وذلك الذي يقومُ بهذا العملِ الآنَ، هل يعلمُ أيَّ جريمةٍ وأيَّ فاجعةٍ يُحدِثُ؟ يعلمُ، ومع ذلك يضربُ ويستمتعُ ويُفاخِرُ أيضًا! ما هذا؟ هذا هو تقدُّمُ ثقافةِ البشرِ. الحمدُ للهِ، لأنَّهم تقدَّموا، فإذا كانوا في السَّابقِ يضربونَ بالقوسِ والسَّهمِ فيقتلونَ فردًا واحدًا، فالآنَ يضربونَ بقنبلة واحدةٍ فيُقطِّعونَ ثلاثَمائةِ فردٍ إربًا، نعم، ممتازٌ جدًّا. هذا هو التطوّر الفكريُّ وتطوّر الحضارةِ البشريَّةِ!.

    1. سورة العصر (۱۰٣)، الآيتان ٢-٣.

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة - قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

4
  • ليس هذا تقدُّمًا يا عزيزي. هذا توحُّشٌ وحيوانيَّةٌ! هذه جريمةٌ، هذه بربريَّةٌ، وليستْ تطوّرًا عقليًّا! إنَّه تطوّر للشَّيطنةِ لا الضَّميرِ والأخلاقِ، إنَّه تطوّر للحيوانيَّةِ والبهيميَّةِ لا للإنسانيَّةِ والقِيَمِ الإنسانيَّةِ، ليس نطوّرًا للإنسانيَّةِ. تطوّر الإنسانيَّةِ هو ذلك التطوّر الذي يأتي فيه المرءُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه ويقولُ: سأروي لكَ ما حدثَ ليلةَ البارحةِ. فيقولُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه: وماذا كانَ؟ فيقولُ: لقد أحضروا طعامًا لجارِنا وكان هو أبناؤه جائعينَ، ونحن أيضًا كنَّا جائعينَ، وأطفالُنا أيضًا كانوا جائعينَ. فرأتْ تلك المرأةُ الجارةُ أنَّه إذا استهلكت هذا الطَّعامَ الآنَ فالأطفالُ نيامٌ، ونحن أيضًا جائعونَ، وحاليًّا هؤلاءِ الأطفالُ نيامٌ، وإلى الغدِ فاللهُ كريمٌ. فأحضرتْ هذا الطَّعامَ إلى بابِ منزلِنا وقدّمتهُ لنا، لأنَّ أطفالَنا كانوا مستيقظينَ وجائعينَ، وهي كانتْ تُدرِكُ ذلك. يعني أنَّها لم تأكلِ الطَّعامَ بنفسِها وأحضرتْهُ وأعطتْهُ للجارَةِ وقالتْ: أطفالي نيامٌ حاليًّا ويمكنُ تجاوزُ هذه المرتبةِ وتجاهلُ هذا الأمرِ. فما هذا؟ هذا هو تطوّر الضَّميرِ وتكامل الإنسانيَّةِ، تكامل مكارمِ الأخلاقِ. قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه: «بُعِثتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأَخلاقِ»۱، لقد بُعِثتُ لِأُوصِلَ القِيَمَ الإنسانيَّةَ إلى كمالِها، لِأُوصِلَ القِيَمَ الإنسانيَّةَ والقِيَمَ الأخلاقيَّةَ إلى كمالِها، لِأُوصِلَ مكارمَ الأخلاقِ إلى كمالِها. هذا الأمرُ كما ذُكِرَ لا يختصُّ بفئةٍ دونَ أخرى. أيُّ إنسانٍ في أيِّ مرتبةٍ مِن الدُّنيا يريدُ أن يختصَّ بالمنافعِ لنفسِه ويُزيحَ الآخرينَ، في أيِّ شريحةٍ كانَ، لا فرقَ، ذلك هو عالمُ الجهلِ والجهالةِ. أن يعملَ للوصولِ إلى مرتبةٍ ما بطريقةٍ يحرمُ بها الآخرينَ مِن تلك المرتبةِ ويحصلُ هو على تلك المكانةِ، هذا هو نفسُه عالمُ الجهلِ والجهالةِ. حتَّى لو عملَ لإحرازِ مكانةٍ دينيَّةٍ بطريقةٍ يتفوَّقُ بها على الآخرينَ ويصلُ هو إلى تلك المكانةِ، فهذا أيضًا كذاك لا فرقَ بينهما. أن يعملَ للوصولِ إلى سلعةٍ والاستيلاءِ على منفعةٍ ما بطريقةٍ يظنُّ بها أنَّه يختلسُ هذا المتاعَ مِن الآخرينَ، فهذا أيضًا كذلك، لا فرقَ أبدًا. كلُّ ما هو موجودٌ يندرجُ في هذا القالبِ ويمكنُ تقييمُه في هذه المكانةِ.

  • اللهُ تعالى لم يرزُقْ كلَّ أحدٍ نعمةَ الهدايةِ هذه ونعمةَ انفتاحِ الآفاقِ الفكريَّةِ وإشراقِ عوالمِ الغيبِ ومراتبِ التَّوحيدِ، ولم ينَلْ كلُّ واحدٍ من الناس نصيبًا وحظًّا مِن هذا الأمرِ. وكما تقدّم ليلةَ البارحةِ، فهذا الأمرُ هو إكسيرٌ أعظم وحياةٌ وسعادةٌ أبديَّةٌ رزقَها اللهُ تعالى لبعضِ الناس وأنارَ أعينَهم على الأمورِ الواقعيّة والحقائق. في أيِّ وضعٍ هم الآخرونَ؟ فلنُشاهِدْ؛ التَّكالبُ على الدُّنيا، الأخذُ، النَّهبُ، رَسْمُ الخُطَطِ، التَّهديدُ والوعيدُ، كلُّ هذا لأجلِ ماذا؟ كلُّ هذا لأنَّ الغفلةَ هي الحاكمةُ. الجهلُ هو الحاكمُ على البشرِ، الغفلةُ والجهلُ والجهالةُ. وكم هو الإنسانُ في خُسرانٍ حقًّا حينَ لا يُخرِجُ نفسَه مِن وادي البهيميَّةِ والحيوانيَّةِ هذا! ومهمَا أرادَ الأولياءُ والأعاظمُ أن يُخرِجوا البشرَ مِن هذه المكانةِ، فهو لا يسمحُ بذلك. يقولُ الأولياءُ: «اخرُجْ مِن سجنِ الجهلِ هذا. وسِّعْ أُفُقَكَ الفكريَّ. لا تنحصِرْ في هذا المَضيقِ مِن الضَّلالاتِ ورؤيةِ الذَّاتِ والأنانيَّاتِ. أرِحْ أعصابَكَ، أرِحْ حياتَكَ. اجعلْ زوجتَكَ وأطفالَكَ مرتاحينَ. وجِّهْ فكرَكَ نحوَ أمورٍ أخرى. لا تكُنْ أسيرَ هذا وذاكَ ومقيَّدًا بأعمالِ هذا وذاكَ!» ولكن أينَ الأُذُنُ الصَّاغيةُ؟! أينَ الأُذُنُ الصَّاغيةُ؟!

    1.  مکارم الأخلاق، ص ۸.

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة - قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

5
  • ضرورةُ الالتفاتِ إلى مسألةِ الصَّمتِ في جلبِ رحمةِ اللهِ تعالى الخاصَّةِ

  • البعضُ يبحثُ عن راحتِه في الاضطرابِ والقلقِ! دائمًا في حالةِ من القلق والاضطراب؛ وكأنَّ حياتَهم مرتبطةٌ بهذا الأمرِ، حياتُهم لا تهدأُ أبدًا! انظروا إلى الذين هم هادئين في المجالسِ، يتكلَّمونَ أقلَّ. إذا جلسَ الإنسانُ معهم ساعةً، لا يسمعُ منهم أمرًا إلاّ المفيد والضَّروريّ. وبشكلٍ عامٍّ، لا يصلُ الإنسانُ إلى شيءٍ بكثرةِ السُّؤالِ. فيسألُ باستمرارٍ، باستمرارٍ يقولُ: يا سيِّدُ، ما هذا؟ يا سيِّدُ، ما ذاكَ؟ يا سيِّدُ، ما هذا الأمرُ؟ ما يحصلُ عليه الإنسانُ في الصَّمتِ أكثرُ بكثيرٍ ممَّا يريدُ أن يحصلَ عليه بالسُّؤالِ.

  • حكايةٌ عن حالاتِ السُّكونِ والطُّمأنينةِ لدى المرحومِ العلاَّمةِ الطَّهرانيِّ

  • ذاتَ مرَّةٍ كنتُ أذهبُ مع المرحومِ العلاَّمةِ إلى مكانٍ ما؛ كانتْ حالاتُ المرحومِ العلاَّمةِ على قسمينِ. في بعضِ الحالاتِ كانَ في وضعٍ، لا مجالَ فيه للكلامِ أبدًا، يكون فقط غارقًا في نفسِه. ونحنُ أيضًا كنَّا نُدرِكُ ذلك، ولم نكُنْ نتحدَّثُ معه، حتَّى أنَّه كانَ يحدثُ أحيانًا أنْ نأتيَ إلى المنزلِ لأمرٍ مهمٍّ، ولكن بمجرَّدِ أنْ ننظرَ إليه نُدرِكُ أنَّه لا، ليسَ الآنَ وقتُ الكلامِ. يعني بمجرَّدِ أنْ نسألَه سؤالًا أو نطرحَ أمرًا، كانَ يتأثَّرُ وتضطربُ حالةُ الهدوءِ والسُّكونِ والطُّمأنينةِ تلك بالنُّزولِ إلى هذه الأمورِ والمسائلِ. لذلك، كانَ هو نفسُه قد علَّمَنا كيفيَّةَ الأمرِ، في أيِّ وقتٍ وفي أيِّ أوقاتٍ نسألُه عن المسائل. لا أدري هل رويتُ هذه القصَّةَ للرُّفقاءِ أم لا؟

  • ذاتَ مرَّةٍ، كانَ أحدُ الأصدقاءِ والرُّفقاءِ، قد اتَّصلَ بي هاتفيًّا في ذلك الوقتِ، وطلبَ منّي أنْ ننقلَ حالاتِه للمرحومِ الوالدِ، وأطلبَ منه أنْ يعطيه برنامجًا، قائلينَ: يا سيِّدي، حالاتُه كذا وكذا، فبماذا تأمرونَ؟ ولأقول له إنَّ أذكارَه قد انتهتْ، والعالَمُ بأسْرِه قد توقَّفَ حتَّى يبدأَ هو مرَّةً أخرى ذِكْرًا وبرنامجًا؛ لقد تعطَّلَ نظامُ الخَلْقِ بأسْرِه! فقُلت: حاضرٌ، سأذهبُ.

  • وفي الغدِ ذهبْت إلى السَّيِّدِ، فوجدْت الأمرَ عجيبًا، فقد كان الوقت أيضًا مِنْ تلك الأوقاتِ التي لا ينبغي فيها التَّقدُّمُ والكلام. فأدرْت رأسي كالأطفالِ المؤدَّبينَ، وطأطأْت رأسي وعُدْت إلى المنزلِ. وفي اللَّيلةِ التَّاليةِ جاءَ اتِّصالٌ هاتفيٌّ: سيِّدنا هل أخبرتَ المرحومَ العلاَّمةَ؟! قلتُ: لم تَسْنَحِ الفُرصةُ، إنْ شاءَ اللهُ سأُخبرُه لاحقًا. فقالَ "لا بأس" ولكنَّها كانتْ أفضلَ مِنْ ألفِ "لا بأس"! وأبلغَ وأفصحَ وأفيدَ مِنْ أيِّ كلامٍ آخرَ. وفي الغدِ بعدَ الظُّهرِ ذهبْت إلى منزلِ السَّيِّدِ مرَّةً أخرى، فوجدت الأمرَ مختلفًا والوضع بشكلٍ آخرَ. ومرَّةً أخرى في ليلةِ الغدِ اتَّصل هاتفيًّا: سيِّدنا ماذا جرى؟ وكنت أنا أيضًا أضحكُ قليلًا؛ فقد كانت حالتي جيِّدةٍ! فأنا لم تكن لديّ مشكلة ولم تنتَهِ أذكاري، لم يكُنْ بي شيءٌ، هو كانَ لديه عمل مستعجل مع المرحومِ العلاَّمةِ، وأمّا أنا فأمري مختلف، وكنت مرتاحًا. فقُلت له: لا! للأسفِ لم يحدثْ شيء ولم يكن هناك فرصة.

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة - قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

6
  • فقال: "سيِّدنا، على أيِّ حالٍ، نحنُ هكذا مُعطَّلونَ." 

  • وكنت أمزحُ أحيانًا فقلتُ: "حسنًا، أنتم أيضًا صَلُّوا على النَّبيِّ حتَّى يصِلَ إنْ شاءَ اللهُ الذِّكرُ الجديدُ وتحلّ مشكلتكم." 

  • فقالَ: "حاضرٌ، سأقوم بما تأمرون به." وكان قوله هذا هذا أيضًا أفضل مِنْ ذاكَ! نعم أبلغَ بكثيرٍ من عبارة اللَّيلةِ الماضيةِ، وكنت قد أعددْت نفسي للمراتبِ التَّاليةِ، وفكّرت إلى أينَ سيصِلُ الأمرُ. وبالصُّدفةِ، في اليومِ الثَّالثِ أيضًا ذهبْت إلى محضر السيّد، وقُلت إنَّه يجبُ اليومَ على أيِّ حالٍ أنْ أعرِضَ الأمرَ عليه؛ لأنَّ الأوضاعَ أصبحتْ جدِّيّة و"القمر في برج العقربِ"۱، وإن لم يجب السيّد الوالد ، فلا يُعلَمُ ماذا سيحدث. وعلى أيِّ حالٍ، جِئت وما كِدْت أبدأُ بكلامي حتَّى قالَ لي: "اهدأْ يا سيِّدُ! تفضَّلْ!" حسنًا، هذا كانَ صريحًا في عدمَ رغبتِه في الإجابةِ. 

  • فقُلت: حاضرٌ، سأتفضَّلُ. فعلى أيِّ حالٍ الأمرُ هكذا.

  • وفي اللَّيلِ كنت أنتظرُ الاتِّصالَ الهاتفيَّ، وفجأةً رأيت أنّ هذا الجهاز قد ارتفعَ صوتُه، وأنّه هو المتَّصِلُ، وقُلت له: لا يا عزيزي، لم أستطعْ بعدُ! 

  • فنفِدَ صبرُ هذا السَّيِّد الجليل، وقالَ: "سيِّدنا، هل هذا صحيح أنْ تُعطِّلونا هكذا لعدَّةِ أيَّامٍ؟!" فقلتُ: يا عزيزي، ما المشكلةُ؟! متى تريدُ أنْ تصِلَ إلى الفَناءِ؟! أخبرْني؛ بعدَ سنةٍ؟ بعدَ سنتينِ؟ فليكُنْ بعدَ سنتينِ وثلاثةِ أيَّامٍ. ما المشكلةُ أنْ يتأخَّرَ فناؤك أربعةَ أيَّامٍ أخرى، ثلاثةَ أيَّامٍ أخرى؟! إنْ شاءَ اللهُ، نعم اللهُ يرزقك. 

  • فقالَ هو: "لا أظنُّ أنَّ هذا السُّلوكَ صحيحٌ!" 

  • فقلتُ ممازحًا: إنْ شاءَ اللهُ يُعوِّضُ، يُعوِّضُ ما فاتَ؛ إذا كنتَ تسيرُ بسرعةِ مائةِ كيلومترٍ، إنْ شاءَ اللهُ ستصِلُ إلى الباقي بسرعةِ مائةٍ وعشرينَ كيلومترًا، فتصل إلى المقصِدِ المنشودِ". فأغلق ذلك المسكينُ الهاتفَ دونَ أنْ يُودِّعَ أيضًا، وكأنّ مزاحي لم يتطابق مع مزاجه... 

  • وبعدَ يومينِ ذهبْت إلى منزلِ المرحومِ العلاَّمةِ، وكانتْ هناك جلسةٌ ـ نعم! هذه الأمورُ التي أذكرها لحضراتِكم، الرُّفقاءُ وأهلُ الفِطنةِ يعلمونَ أيَّ أمورٍ تدورُ في الذِّهنِ [فتعالجها] ـ بعدَ يومينِ آخرينِ ذهبْت إلى المرحومِ العلاَّمةِ وكانتْ هناك جلسةٌ. فرأيتُ هذا الرجل يتوجَّهُ إلى أخي الأكبرِ ويُخبرُه ببرنامجِه هذا، قائلًا: سيِّدنا! اذهبْ إلى المرحومِ العلاَّمةِ، وأخبره أنّ برنامجي هو كذا، فبأيَّ ذكر ألتزم الآن؟ كنت واقفًا هناك، وفجأةً ارتفعَ صوتُ المرحومِ العلاَّمةِ مِنْ داخلِ الغُرفةِ موجِّهًا كلامَه إلى أخِي: مَنْ قالَ لك أنْ تتجاوَز وتتعدَّى ما قد حدَّدْناه؟ يجبُ عليه أنْ يُخبِرَ فُلانًا بأمرِه ويأخذَ جوابَه مِنْ فُلانٍ. فهل تلتفتونَ! وهذا أخونا أيضًا جاءَ وقد تغيَّرَ لونُ وجهِه وقالَ لذاك الرجل: "يا عزيزي، ألم يُخبِروكم أنْ تأخذوا من أخي؟" إن كانَ مِن المفترَضِ أنْ يكونَ هناك دقّة في الأمرِ، فهذا أيضًا جزءٌ مِنْها، ولا يمكنُ أنْ يكونَ منفصلًا! وعندما يقول السيّد لست قادرًا الآن ولستُ في مزاجٍ مناسبٍ، فهذا أيضًا جزءٌ مِن البرنامجِ. ليسَ لديّ مجالٌ، يا عزيزي فاذهب وشأنك؛ لماذا تعمل حتمًا بهذه الكيفيَّةِ وبهذا الشَّكلِ؟!

    1. كنايةٌ عن سُوءِ الطَّالعِ وتعقُّدِ الأمورِ. (م)

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة - قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

7
  • وأهل الاطّلاع يعلمونَ أنَّ الأمورَ التي يجبُ أنْ تصِلَ إلى أسماعِهم ستصِلُ. 

  • خرجْتُ يومًا مِنْ جلسةِ عُنوانَ البصريِّ، وفي الشَّارعِ يأتي أحدهم ويقولُ لي: "سيِّدنا، تفضَّلْ بنصيحةٍ." 

  • فقلتُ: "إذن ماذا كنتُ أفعلُ لكم لمدَّةِ ساعةٍ ونصفٍ؟" 

  • ـ سيِّدنا، تفضَّلْ عليّ ببرنامج خاصٍّ.

  • فقلتُ: "يا عزيزي، أنا لا أعرفُ البرنامج الخاصّ، عليك أن تراجع آخرينَ في هذا." 

  • عملنا هو أنْ نذهبَ ونجلِسَ و[لا نستفيدَ كما ينبغي]؛ ولكنَّ الذين هم من أهل المعنى وأهل الإدراكِ، يستخرجونَ ألفَ برنامج خاصٍّ مِنْ جُملةٍ عامَّةٍ واحدةٍ. أمَّا أنْ يأتوا باستمرارٍ ويقولوا: "سيِّدنا، ما هو البرنامج الخاصُّ الذي لديكم لنا؟ سيِّدنا، ما القضيَّةُ الخاصَّةُ التي لديكم لنا؟" فما هذا الكلامُ؟! فبالكلامِ وطرحِ المسائلِ باستمرارٍ وهذه الأمورِ، لا تُحَلُّ القضيَّةُ. نعم، في بعضِ الحالاتِ الخاصَّةِ التي لا يستطيعُ الإنسانُ فيها حقًّا التَّمييزَ بينَ الطَّرفينِ، في تلك الحالاتِ لا بأسَ. أمَّا أنْ يحرِصَ على أنْ يصِلَ إليه الأمرُ حتمًا بالقولِ وكثرةِ الكلامِ فلا فائدةَ من ذلك!

  • ذاتَ مرَّةٍ أردتُ أنْ أذهبَ لخدمةِ بعضِ الأصدقاءِ إلى مكانٍ ما، وكانتْ حالتي في ذلك الوقتِ حالةً خاصَّةً. ففي بعضِ الأوقاتِ يحدثُ هذا للجميعِ وليسَ خاصًّا بفردٍ. فقيل لي: "سيِّدنا دعنا نذهب إلى المكانِ الفُلانيِّ." 

  • فقلتُ: "لا! حالتي لا تسمح بذلك". فأصرُّوا كثيرًا. وكنتُ٢٢ أعلمُ أنَّ الظروف هناك غيرُ مناسبةٍ. فقلتُ: "يا سيِّدي، سآتي معكم، وأشكرُكم كثيرًا على ذلك، ولكن بشرطٍ واحدٍ، وهو ألاّ يسألَني أحدٌ شيئًا حتَّى أتكلَّمَ أنا، وألاّ يتدخَّلَ أحدٌ في شؤوني، أجلِسُ هنا أم هناك، أتكلَّمُ أم لا، ماذا أقولُ... لا شيءَ من ذلك. يكون كلُّ واحدٍ منشغلاً بعملِه". فقد كان الذين دعوني لُطفاء ومُحبّينَ، وكرمُهم ونُبلُهم كانَ سببَ دعوتي، ولكنَّني شعرتُ بأنَّ هناك توقُّعًا بأنَّي سأذهبُ الآنَ وأتحدَّثُ خلالَ هذه الرِّحلةِ، نعم! سنطرحُ أسئلتَنا ومسائلَنا بشكلٍ جيِّدٍ. وفجأةً رأوا أنَّ الأمرَ اتَّخذَ شكلًا آخرَ ونوعًا آخرَ، فأدركوا حقيقة الأمرَ. وهذا الأمرُ يعرض للجميعِ، ولا يختصُّ بفردٍ واحدٍ.

  • يجبُ على الرُّفقاءِ والأصدقاءِ أنْ يلتفتوا إلى هذا الأمرِ ـ لأنَّني شعرتُ بهذا الأمرِ ـ فكثرةُ الكلامِ وقضاءُ العُمرِ والوقتِ والزَّمانِ في الكلامِ، هذا أكلٌ مِنْ رأسِ المالِ ومِن الكِيسِ! وضياعٌ للأعمالِ المنجَزةِ! ومرارًا كانَ المرحومُ العلاَّمةُ يقولُ: ليُقلِّلِ الرُّفقاءُ مِنْ حديثِهم مع بعضِهم البعضِ بعدَ الجلساتِ، وحتَّى مع زوجاتِهم، ليُقلِّلوا مِنْ حديثِهم، والأحاديث المتعارفة أيضًا، يجبُ أنْ تكونَ حولَ الأمورِ المفيدةِ، مع مراعاةِ ظروفِ الطَّرَفِ المقابلِ. أحدُهم ليسَ في حالةٍ تسمحُ بالكلامِ، يريدُ أنْ يكونَ مع نفسِه، صامتًا. فيجلِسونَ بجانبِه ويقولون: "سيِّدا، هل تعلمُ حقًّا ماذا فعلَ فُلانٌ بالأمسِ وماذا فعلَ ذاكَ؟!" عندها لا شيءَ من أحواله وتوجّهه يبقى. كلُّ تلك الحالةِ تزولُ تمامًا.

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة - قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

8
  • وخصوصًا في الأشهرِ الحُرُمِ وفي الأشهرِ المحترَمةِ كرجبٍ وشعبانَ ورمضانَ، وكذلك في الأوقاتِ الخاصَّةِ والأزمنةِ الخاصَّةِ التي يكونُ فيها لُطفُ اللهِ تعالى وعناية بشكلٍ آخرَ، نرى أنَّنا في مِثلِ هذه المواقفِ نُضيِّعُ الفُرصةَ. يعني تمامًا في الوقتِ الذي ستنزل الرحمة على أحد الأفراد، أو أنْ تأتيَ له بارقةٌ، أو نفحةٌ. فجأةً يقولُ الرَّفيقُ الجالس جنبه: "يا فُلانُ، ماذا حدثَ؟" فينتهي الأمرُ ويذهب كلّ شيء، والآنَ متى ستأتي هذه النَّفحةُ والبارقةُ مرَّةً أخرى؟! أو هو نفسُه يتكلَّمُ فهذا أيضًا كذلك. رحمةُ اللهِ تعالى تلك، والبارقةُ تلك تستقرُّ في القلبِ الهادئِ، لا ذلك القلبِ الذي يتكلَّمُ. لا تستقرُّ في ذلك القلبِ الذي يتكلَّمُ. لماذا؟ لأنَّه في حالةِ تموُّجٍ ودورانٍ. في حالةِ اضطرابٍ، وعلى القلبِ المضطَرِبِ لا تَرِدُ الجذباتُ الإلهيَّةُ والنَّفحاتُ الإلهيَّةُ. يجبُ أنْ يكونَ القلبُ هادئًا، يجبُ أنْ يكونَ القلبُ متوجِّهًا حتَّى تتمكَّنَ تلك النَّفحاتُ مِن المجيءِ إليه.

  • وصيَّةُ المرحومِ آيةِ اللهِ القاضي رضوانُ اللهِ عليه بشأنِ اغتنامِ الحضورِ

  • ذاتَ مرَّةٍ كانَ المرحومُ القاضي رضوانُ اللهِ عليه جالسًا في مجلس، وكانَ يتحدَّثُ عن الحضورِ القلبي، وأنَّه يجبُ اغتنامُ الحضورِ القلبي. الحضورُ القلبي يعني تركيز الذهن والتَّوجُّهَ إلى المبدأِ والتركيز على النفس، وكانَ يقولُ أنَّه يجبُ اغتنام هذه الحالة؛ وفي هذه الأثناءِ كانَ فرد يمرُّ مِن الزُّقاقِ فضرَبَ شيئًا بالجدارِ، فصدَرَ صوتُ "طَقْ"، فقال: «في بعضِ الأوقاتِ، نفس هذا الصَّوتِ "طَقْ" يُزيلُ ذلك الحضورَ ولا يعودُ مرَّةً أخرى.» يعني في تلك اللَّحظةِ كانَ يجبُ أنْ تأتيَ تلك البارقةُ والنَّفحةُ وتُصيبَ القلبَ، وصَوتُ "طَقْ" هذا تسبَّبَ في اضطرابِ ذلك القلبِ، ومع الاضطرابِ لم تعُدْ تلك البارقةُ تستقرُّ في الرُّوحِ ولا تأتي لتستقرَّ فيه، إلى هذا الحدِّ الأمرُ مهمٌّ!

  • اغتنامُ التَّوفيقاتِ التي ننالُها مِنْ رحمةِ اللهِ تعالى الخاصَّةِ

  • على كلِّ حالٍ، هذا الجانبُ الذي هو جانبُ عنايةِ اللهِ الخاصَّةِ، محترَمٌ جدًّا ومُغتَنَمٌ جدًّا، وحقًّا مهمَا فكَّرْنا في هذا الأمرِ، لا يصِلُ تفكيرنا إلى شيء. هل فكَّرْنا حقًّا في أنفسِنا حتَّى الآنَ وبحثْنا هذا الأمرَ، أنّه يا إلهي لو لم تكشِفْ لنا هذه الأمورَ، فماذا كُنّا سنفعل؟! يا إلهي لو لم تضَعْنا في هذه الظروف، فمن أينَ كان بإمكانِنا أنْ نحصُلَ على هذه المعارف؟! ومن أينَ كانَ بإمكانِنا أنْ نصِلَ إلى هذه النقاط؟! فليسوا قلَّةً الذين هم على درايةٍ بهذه الأمورِ مِن النَّاحيةِ العلميَّةِ والنَّظريَّةِ. فيكتبونَ الكُتُبَ، ويقومونَ بأمورٍ.

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة - قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

9
  • عدمُ جدوى أعمالِ بعضِ أصحابِ العلومِ والفُنونِ

  • قبلَ أيَّامٍ قليلةٍ كنتُ أُطالِعُ كتابًا لكاتبٍ ما. كاتبٌ مُطَّلِعٌ على القضايا الإسلاميَّةِ والفلسفةِ والعِرفانِ الإسلاميِّ، ويعيشُ في الخارجِ وله هناك أنشِطةٌ. عندما كنتُ أقرأُ هذا الكتابَ، سجدتُ حقًّا وقلتُ: يا إلهي، انظُرْ، الأمورُ التي يقولُها هي نفسُها، المسائلُ التي يقولُها هناك هي نفسُها، هي نفسُ الشَّيءِ الذي سمِعْناه؛ طبعًا، بعضُها كذلك، لا أنَّه هو نفسُه تمامًا، لا، ليسَ هو نفسُه، هناك فرقٌ كبيرٌ؛ ولكن إلى حدٍّ ما، فقد سمِعَ الحقائق أيضًا، وذهبَ إلى الأعاظمِ، وزارَ هذا المكانَ وذاكَ، فقد ذهبَ إلى العلاَّمةِ الطَّباطبائيّ. ورأى أفرادًا آخرينَ، وكانَ على اتِّصالٍ بالكثيرينَ، ولكنَّه كانَ يدورُ حولَ نفسِه طوالَ الوقتِ! هذه الرحلات وهذه الحركاتُ لم تنفُذْ إلى باطنِه. والآنَ ما هي النَّتيجةُ؟ ترى أنّه مُطَّلِعٌ على المسائلِ، مُطَّلِعٌ على الفلسفةِ، مُطَّلِعٌ على المعارِفِ، ويقوم بإلقاء المحاضرات في إحدى مُدُنِ أمريكا على سبيلِ المثالِ أو بعض الأماكن الأخرى، فيذهبَ هنا وهناك ويُلقيَ المحاضراتِ ويعقِدَ المجالسَ وكذا. أيّها المسكين، لا يمكنُ العثورُ على اللهِ في تلك الأماكنِ! تراهم يعقِدونَ الجلسات، ويُنظِّمونَ الندوات، ويُقيمونَ احتفالاتٍ سنويَّةً، ويُخلِّدونَ الذِكريات، ولا أدري في أيٍّ مِنْ هذه الأيَّامِ، ويمنحونَ الميداليَّاتِ، ويجتمعُ الأطبَّاءُ والأفرادُ، ويفعلون ما شابه ذلك، ويُصفِّقونَ، ويمنحونَه شرفَ إلقاءِ مُحاضَرةٍ في المكانِ الفُلانيِّ، ولكن ما النتيجة التي تحققت؟! ما هي؟! تنظرُ إلى الكلامِ فلا تجدُ فيه عُمقًا ولا باطنًا، إنَّه جافٌّ. مِثلُ البالونِ، إذا نقرْتَه انفجَرَ. خاوٍ، فُقاعةٌ، فُقاعةٌ، فُقاعةٌ!

  • كانَ المرحومُ العلاَّمةُ يُعبِّرُ عن هؤلاءِ الأفرادِ بالبالونِ. ما هو البالونُ يا عزيزي؟ كلُّ ما بداخلِه هو هواءٌ، وإنَّه كبيرٌ جدًّا. فبعضُ هذه البالوناتِ، كنَّا نراها في السَّابقِ، لا أدري هل ما زالتْ موجودةً أم لا؟ سابقًا، كنَّا نرى في الاحتفالاتِ بالونًا عجيبًا جدًّا وكبيرًا جدًّا موصولاً بهذه الحبال، ولكن كلُّه هواءٌ. ويتحرَّكُ ويَلْفِتُ انتباهَ النَّاسِ، ويتجمَّعونَ هنا وهناك وينظرونَ، ولكن إذا وخَزْتَه بإبرةٍ، فجأةً يُصبِحُ فارغًا! وينتهي الأمرُ. لا شيءَ يبقى، هؤلاءِ هم هكذا أيضًا. الرِّيحُ والهواء كثيرٌ. مجالسُ، ندواتٌ، تعالَ واذهبْ، ألْقِ مُحاضَرةً، افعلْ كذا، اصعَدْ [أعلى]، احتفِلوا، كذا وكذا، يُهدونَ الجوائزَ، يُعرِّفونَ برجلِ العامِ، ويفعلون كذا وكذا. يا عبدَ اللهِ، لقد خدعوكَ بتلك العِمامةِ، لقد خدعوكَ حتَّى وصلتْ إلى سُرَّتِكَ، وأنتَ لا تدري يا مسكينُ. مسرورٌ بخمرةِ النَّصرِ ومدحهم لكَ!

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة - قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

10
  • مظاهرُ الدُّنيا الخادعةُ وفِطْنةُ أولياءِ اللهِ

  • أرادوا أنْ يخدعوا المرحوم العلاَّمة الطَّباطبائيّ رضوانُ اللهِ عليه أيضًا. كانَ المرحومُ العلاَّمةُ ينقُلُ أنَّ الشَّهيدَ مطهَّري رحمه الله جاءَ إلى العلاَّمةِ الطَّباطبائيِّ وقالَ: «سيِّدنا، إيَّاكَ أنْ تفعلَ هذا، إيَّاكَ أنْ تأتيَ، هؤلاءِ يريدونَ أنْ يُضحُّوا بقيمةِ وعظمةِ عالِمِ الدِّينِ ومكانتِه في هذه الصَّفقاتِ الدُّنيويَّةِ والبهيميَّةِ والاعتباراتِ الدُّنيويَّةِ»، فلم يقبَلِ المرحومُ العلاَّمةُ الطَّباطبائيُّ. لقد جاؤوا إلى المرحومِ العلاَّمةِ أيضًا. سابقًا، ففُروزانْفَرُ صاحب المقامات الذي كلَّما ذُكِرَ اسمُه كانَ المرحومُ العلاَّمةُ يقولُ: «لعنةُ اللهِ عليه.» وكانَ يقولُ: «هو مِنْ أولادِ الحرامِ الذين يُنفِّذونَ خُطَطَ الماسونيَّةِ الماكِرةَ ضدَّ الإسلامِ، ولكن للأسفِ، البعضُ يذكرونَهم بالتَّكريمِ والتَّعظيمِ! حتَّى الآنَ! لقد أرسل فُروزانْفَرُ عدَّةَ مرَّاتٍ إلى المرحومِ العلاَّمةِ ليقبَلَ الأستاذيَّةَ في كليَّةِ الإلهيَّاتِ وهذه الأمورَ. فقالَ: «أنا أُصلِّي في هذا المسجدِ، وإذا كانَ الأمرُ يتعلَّقُ بالتَّبليغِ، فسأُبيِّنُ للناس هنا.» فكم أخذوا من العلماء وخدعوهم بالتَّشجيعِ والتَّصفيقِ وعقدِ الجلساتِ! فمَنْ خدعوا؟ أفرادًا كانوا مِن المُعتمَدينَ والأعمدةِ والرَّكائزِ التي استندَ إليها النِّظامُ الطَّاغوتيُّ السَّابقُ والنِّظامُ الشَّاهنشاهيُّ البهلويُّ. لولاهم لما كانَ هو. لو لم يكُنْ هؤلاءِ الفُروزانْفريُّونَ وهؤلاءِ السَّعيدُ نفيسيُّونَ والشَّخصيَّاتُ العلميَّةُ المعروفةُ في جهازِ النِّظامِ البهلويِّ، لما استطاعَ أنْ يرتكِبَ تلك الجرائمَ، ولما استطاعَ أنْ يُفسِدَ كلَّ هذا الفسادَ، لما استطاعَ! فهؤلاءِ هم الذين حافظوا على هذه الرَّكائزِ، هؤلاءِ! ثمَّ نأتي نحنُ إلى مِثلِ هذه البيئةِ الجامعيَّةِ لنأخُذَ مِنْ أيدي هؤلاءِ الأفرادِ ميداليَّاتِ الشَّرَفِ! هذا مِنْ جهةٍ، ومِنْ جهةٍ أخرى يجعلونَ أنفسَهم مُرافقينَ، يُعوِّضونَ عن خِسَّتِهم تلك بجلْبِ مِثلِ هذه الشَّخصيَّاتِ. يقولونَ هؤلاءِ أيضًا في الجامعةِ، هؤلاءِ أيضًا جاؤوا! هؤلاءِ أيضًا معَنا، نحنُ أيضًا لدينا مِثلُ هؤلاءِ! فهذه البيئةُ بيئةٌ علميَّةٌ. هذه كلُّها خُطَطٌ! فمَنْ كانَ يدرك هذه الأمورَ؟ المرحومُ العلاَّمةُ كانَ يدرك! ذلك الذي يعلمُ أينَ تكمُنُ هذه الخُطَّةُ. وقد جاؤوا إليَّ أيضًا لمِثلِ هذه المسائلِ. فقلتُ: «نحنُ طُلَّابُ عِلمٍ ندرُسُ هنا وحسْبُ.» فهم يمنحونَ الأوسمةَ والميداليَّاتِ ويفعلونَ كذا، وكلُّ هذه مجرّد دُنيا، كلُّ هذه خُدَعٌ تأتي في مظاهِرَ برَّاقةٍ وتأخُذُ تلك العِزَّةَ والقيمةَ والمكانةَ وتستبدِلُها بهذه الدُّنيا والاعتباراتِ وهذه الأمورِ. 

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة - قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

11
  • قصة السيّد العلامة ودعوته لحضور أحد المراسم

  • أرسلوا رسالةً إلى المرحومِ العلاَّمةِ ليُشارِكَ في مراسمَ كـ "كتابِ العامِ" وأمثالِ ذلك. فقالَ المرحومُ العلاَّمةُ لفردٍ ما أنْ يعتذِرَ. حتَّى أنَّهم قالوا للمرحومِ العلاَّمةِ إنَّنا سنُجهِّزُ وسائلَ النَّقلِ ذهابًا وإيابًا ليأتوا ويفعلوا كذا. فقالَ: «نشكرُكم جزيلَ الشُّكرِ، نحنُ مشغولونَ. اذهبوا أنتم.» وبعدَ أنْ جاؤوا، كانتْ هناك جوائزُ وأشياءُ، فقالَ: «قولوا لهم أنْ يصرِفوها في مواجهةِ هذه المسائلِ.» في ذلك الوقتِ، كانَ زمنَ الحربِ وهذه الأمورَ، فقالَ: «اصرِفوا هذه أيضًا في الأمورِ الخيريَّةِ ومواجهةِ هذه المسائلِ وهذه الأمورِ.» وشكَرَ ذلك الفردَ.

  • الإنسانُ الذَّكيُّ والفَطِنُ هو الذي يُدرِكُ الأمرَ بدِقَّةٍ، ويكونُ دقيقَ الملاحظةِ، ولا يُخدَعُ، ولا يغتَرُّ بهذه الأمورِ، ويعلمُ تلك العظمةَ التي في هذه المكانةِ ـ أقولُ هذه الأمورَ خاصَّةً للرُّفقاءِ مِنْ طُلَّابِ العِلمِ وأمثالِهم، طبعًا، هذا الأمرُ قد يحدثُ في حالاتٍ مختلفةٍ لكلِّ أحدٍ حسَبَ وضعِه؛ ولكن بالنَّظرِ إلى الوضعِ والمكانةِ الحاليَّةِ، فهذا يتعلَّقُ بهذا الصِّنفِ وهذه الفئةِ المتميِّزةِ ـ ويجبُ أنْ نعلَمَ تلك العظمةَ والمكانةَ ورِفعةَ الشَّأنِ والمقامَ الذي اكتسبْناه في مدرسةِ الإمامِ الصَّادِقِ عليه السلام، وأن لا نستبدِلَها بهذه الخرزاتِ التَّافهةِ، ولا نستبدِلَها بهذه الأمورِ الوضيعةِ والاعتباراتِ والتَّصفيقِ في يومٍ مِن الأيَّامِ، لا سمحَ اللهُ. تلك المكانةُ والوضعُ الذي اكتسبْناه لأنفسِنا في هذا الوادي، والذي مَنَّ اللهُ به علينا، إيَّانا أنْ نأتيَ ونستبدِلَه بهذه الأمورِ الظَّاهريَّةِ والتَّافهةِ والمنفوخةِ كالبالونِ. هذه الأمورُ الاعتباريَّةُ، بهذه الضَّوضاءِ والصَّخَبِ، بهذه الأمورِ التي تُنسَى جميعُها بأدنى اختلافٍ. اليوم، بمدحَيْنِ وثناءَيْنِ وقولَيْنِ مُخالِفَيْنِ للواقِعِ، نُصبِحُ موضعَ مدحٍ وثناءٍ للبعضِ، وغدًا، وببيانِ حقيقة، نسقُطُ رأسًا على عَقِبٍ بحيثُ لا يستطيعونَ إخراجَنا حتَّى مِنْ قَعْرِ البئرِ، هذا هو! ما دامَ الإنسانُ مادِحًا، فهو مُعزَّزٌ ومحترَمٌ ويستفيدونَ منه، ولكن بمجرَّدِ أنْ يقولَ كلمةَ حقٍّ، يسقُطُ رأسًا على عَقِبٍ! وكأنْ لم يكُنْ له أثرٌ في عالَمِ الوجودِ! يا عزيزي، هذا هو نفسُه الذي حصَلَ على الجائزةِ بالأمسِ! هذا هو نفسُه الذي حصَلَ على الميداليَّةِ بالأمسِ! لم يمضِ يومانِ بعدُ، فماذا حدثَ فجأةً لتُصبِحَ الأمورُ بهذه الكيفيَّةِ؟ ماذا حدثَ؟ حينها يُصبِحُ الإنسانُ {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}۱

    1. سورة الحج (٢٢)، الآية ۱۱.

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة - قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

12
  • أمَّا إذا سارَ الإنسانُ منذُ البدايةِ على نهجٍ منيعٍ وكريمٍ ومتينٍ وثابتٍ، وفتَحَ عينَيْهِ فقط على مدرسةِ الإمامِ الصَّادِقِ عليه السلام، وصرَفَ النَّظرَ عن جميعِ المدارسِ الأخرى، وجعَلَ وِجهتَه فقط التَّأسِّيَ بإمامِ الزَّمانِ أرواحُنا فِداهُ، وأصبحتْ بقيَّةُ الشَّخصيَّاتِ لا قيمةَ لها ولا وَزْنَ لها بالنِّسبةِ له، فلنْ يتقلّب في هذه التَّقلُّباتِ. فلا فرق عنده أيرفعُونَه، أم يُخفِضُونَه، أم يُعظِّمُونَه، فحسابه مع فرد آخَر، حسابُه وعقابه مع فردٍ آخَرَ. هذه التَّعظيماتُ هي تعظيماتُ أهلِ الدُّنيا، الذين ينتفضون بزبيبةٍ ويبردونَ بحِصْرِمَةٍ. اليومَ يمدحونَكَ بكلمتينِ، وإلى أينَ يأخذونَكَ، وغدًا تحدُثُ قضيَّةٌ فتُنسَى كلُّ تلك المدائحِ. اليومَ إذا كنت كريمًا فأنتَ أفضلُ فردٍ في العالَمِ، وغدًا إذا أمسكْتَ لمصلحةٍ ما فأنتَ أسوأُ مِنْ أيِّ فردٍ، واليومَ إذا قابلْتَ بوجهٍ بشوشٍ ومُعاملةٍ حسَنةٍ فأنتَ فردٌ مُنظَّمٌ جدًّا ونَزيهٌ، وغدًا إذا أردْتَ أنْ تعبِسَ فأنتَ أسوأُ مِنْ أيِّ فردٍ آخر. هؤلاءِ النَّاسُ هكذا هم! وفي هذا الأخذِ والعطاءِ، تختلِفُ العقائدُ، وتتغيَّرُ جميعُ الأمورِ، والقوانينُ والأنظمةُ كلُّها تُغيِّرُ أماكِنَها، أمَّا الذي هو في غِنًى واستغناءٍ ـ وإن كان غير ذاتيّ بل كانَ استغناءً طَريقيًّا وحيَويًّا بحيث وصلتْ حياتُه إلى استغناءٍ عِلميٍّ ـ فليسَ الأمرُ كذلك بالنِّسبةِ له. فمَنْ شاءَ أن يمدحه فليمدَحْهُ، ومَنْ شاءَ أن يثني عليه فليُثْنِ، ومَنْ شاءَ لم يفعلْ، فلا فرقَ عندَه، فلتمرّ مائة ألفِ سنةٍ لا يمدَحُه أحدٌ ولا يُثني عليه فلا يبالي.

  • لا قدَّرَ اللهُ أن يأتي ذلك اليومَ الذي يمدَحون فيه الإنسانَ ويُثنوا عليه، ندعو الله ألّا يأتي ذلك اليومُ، والا فيجبُ على الإنسانِ نفسِه أنْ يُفكِّرَ، ماذا حدثَ حتَّى أصبحَ هؤلاءِ يمدحونَني؟! نعم؟ ما هذا؟ هذه هي تلك الرَّأفةُ الخاصَّةُ مِن اللهِ تعالى التي لا تشملُ كلَّ أحدٍ، ولا يصِلُ كلُّ أحدٍ إلى هذه المرتبةِ. ذلك الطَّبيبُ أو ذلك المُتعلِّمُ أو صاحبُ المِهنةِ الذي بنى عملَه على الصِّحَّةِ، يجبُ عليه أنْ يُدرِكَ هذا الأمرَ، مَنِ الذي أعطاه هذا الفهمَ وهذه البصيرةَ؟! فهناك ألفُ فردٍ لم يُعطِهم اللهُ مِثلَ هذا الفهمِ، ففي كلِّ شارع يوجدُ مُنحرِفونَ، ولكن الذين يُحافِظونَ على الطَّريقِ ويسلُكونَه، هذا هو المهمُّ. اليومُ يمضي، وغدًا يأتي، وغدًا أيضًا يمضي، وعلى أيِّ حالٍ هذه الأيَّامُ ستمضي، ولكن ما هي النَّتيجةُ التي تبقى للإنسانِ؟ هل النَّتيجةُ مُوجِبةٌ للخِزيِ والعارِ والنَّدَمِ، أم أنَّ تلك النَّتيجةَ مُوجِبةٌ للفخرِ والاعتزازِ؟! كلُّ أحدٍ في أيِّ وضعٍ وفي أيِّ فرعٍ وفي أيِّ مكانةٍ هو فيها، يجبُ أنْ يلتفِتَ إلى هذا الأمرِ.

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة - قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

13
  • «وَالْعَآئِدُ عَلَيهِمْ بِتَحَنُّنِ رَأْفَتِك» يا إلهي، أنتَ الذي استمرَرْتَ في رأفتِكَ ورحمتِكَ التي تشملُ عِبادَكَ. «إِلٰهي رَبَّيتَني في نَعَمِك وَإِحْسَانِك صَغيراً». يا إلهي، لقد ربَّيْتَني في صِغَري وأنعمْتَ عليَّ بنعمةِ الحياةِ وهيَّأتَ الأسبابَ لتربيتي جِسمًا وروحًا. «وَنَوَّهْتَ بِاسْمي كبيراً» ورفعتَ اسمي في الكِبَرِ.

  • يبدو أنَّنا كان مِن المفترَضِ أنْ نتحدَّثَ عن هذه الفقرةِ، فقد وقعت عيني الآنَ على السَّاعةِ ورأيتُ أنَّ الوقتَ قد تجاوَزَ السَّاعةَ على ما يبدو، صحيح يا عزيزي؟! حسنًا جدًّا، إنْ شاءَ اللهُ لنْ نكونَ موضعَ مُؤاخَذةٍ مِن الرُّفقاءِ! لنْ نكونَ موضعَ مُؤاخَذةٍ مِن الرُّفقاءِ، ولكن على أيِّ حالٍ، الآخرونَ ربَّما يُؤاخِذونَ! على أيِّ حالٍ، يجبُ أنْ تُؤخَذَ جميعُ الحقوقِ بعين الاعتبارِ هنا. على أيِّ حالٍ، هي مجالسُ أُنسٍ ومحبَّةٍ ومودَّةٍ، وليالي شهرِ رمضانَ، والإنسانُ لا يلتفِتُ إلى مُرورِ الوقتِ. على أيِّ حالٍ، كنَّا ننوي أنْ ننتهيَ مُبكِّرًا قليلًا حتَّى يتمكَّنَ الأفرادُ والأصدقاءُ والرُّفقاءُ مِنْ إنجازِ أعمالِهم. على أيِّ حالٍ، هذه ليالٍ لا يمكنُ حقًّا العثورُ على مِثلِها. كنتُ أقولُ اليومَ لعائلتي أنَّ شهرَ رمضانَ قد انتهى. قالوا: ماذا انتهى؟! اليومُ هو الثَّامنُ من رمضان! قلتُ: نحنُ لم نشعُرْ بهذه الأيَّامِ الثَّمانيةِ أصلًا! ستأتي اثنانِ وعشرونَ يومًا أخر، ويرى الإنسانُ كيفَ أنَّ هذه النِّعَمَ الإلهيَّةَ جاريةٌ هكذا، ولكنَّنا لسنا أهلًا ولا لائقينَ لإدراكِها، إلّا أنْ يتفضَّلَ اللهُ تعالى نفسُه، مِنْ تلك النَّفَحاتِ التي هبَّتْ على الأعاظمِ في هذا الشَّهرِ، وشملتْ رحمةُ اللهِ تعالى ورأفتُه الخاصَّةُ عِبادَه فيرزُقَنا نصيبًا منها، وبواسطةِ أنفاسِ أولياءِ اللهِ والأعاظمِ، يتلطَّفُ اللهُ تعالى بنا أيضًا. على أيِّ حالٍ، قُلنا لا تطولَ المجالسُ أكثرَ مِنْ هذا حتَّى يتمكَّنَ الرُّفقاءُ مِنْ إنجازِ أعمالِهم، والدعاء والذِكْر، والسَهَر في هذه اللَّيالي.

  • نحنُ أيضًا كنَّا نرى في حالاتِ المرحومِ العلاَّمةِ أنَّه تقريبًا مِنْ مُنتصَفِ شهرِ رمضانَ فصاعدًا، كانَ مستيقظًا تقريبًا ثلاثةَ أرباعِ اللَّيلِ أو ثُلُثَيْهِ، وكانَ ينامُ أقلَّ، وفي تلك العَشْرِ الأواخِرِ، كنَّا نُشاهِدُ أنّ المرحومِ العلاَّمةِ ينام فقط بمقدارِ رفْعِ التَّعَبِ والضَّرورةِ.

  • إنْ شاءَ اللهُ نأملُ أنْ يُعامِلَنا اللهُ تعالى برأفتِه وفضلِه، وأنْ يجعلَ نفوسَنا، التي ليستْ أهلًا لكلِّ هذه البركاتِ وهذه الأمورِ، مُستعدَّةً بفضلِه لإدراكِ بركاتِه ونِعَمِه في هذا الشَّهرِ.

الحياة الحيوانيّة والعقلانيّة - قيمة الصَّمت في السَّير والسُّلوك

14
  • ‌ 

  • اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ.