المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1424
التاريخ 1424/09/13
التوضيح
متى تكون الشهرة نعمة ومتى تصبح نقمة؟ ما هو أثر الخواطر والنيّات والأعمال في تبدّل أحوالنا الروحيّة وصراعنا الداخليّ بين جنود الرحمن وجنود الشيطان؟ وكيف واجه الأعاظم من أهل العلم والتقوى آفات الشهرة والانسياق وراء العوام؟
تتناول هذه المحاضرة هذه الأسئلة المحوريّة، مستعرضةً أقسام الشهرة وآثارها، ومقدّمةً دروسًا عمليّة مستقاة من سير الأولياء والصالحين وقصصهم الملهمة، مع بيان لأهمية الإخلاص والمراقبة في السلوك إلى الله.
هو العليم
الشهرة الممدوحة والمذمومة
الصراع بين الإلهام الإلهي والوسوسة الشيطانية
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٤ هـ - الجلسة الثامنة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا أَبِي القَاسِمِ مُحَمَّدٍ
وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
وَاللَّعْنَةُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ أَجْمَعِينَ.
«إِلَهِي رَبَّيْتَنِي فِي نِعَمِكَ وَإِحْسَانِكَ صَغِيرًا وَنَوَّهْتَ بِاسْمِي كَبِيرًا»
لقد رفعت اسمي كبيرًا بين الناس وجعلتني معروفًا بينهم.
الشهرة المقبولة والمذمومة
لقد ذكرتُ للرفقاء ليلة البارحة أنّ الشهرة والصيت إذا كانا من قِبَل الله تعالى دون أن يكون للإنسان دورٌ فيهما فلا إشكال فيهما؛ لأنّ الله تعالى هو مسبّب الأسباب وهو المريد، والعالم كلّه مِلْكٌ له، وهو أولى بالتصرّف. فإذا شاء أن يجعل إنسانًا ما معروفًا، فهو أعلم بذلك، وليس لنا أن نتدخّل فنسأل: يا رب، لمَ تفعل هذا؟!
يقول الله: أنا أريد أن أفعل كذا، أنا هكذا أشاء. وبشكل عام، عندما يكون من المقرّر أن نعتبر الله تعالى مالكًا لكلّ الأمور، فأيّ مجال للشكوى أو الاعتراض على الأمور التي يقدّرها الله تعالى، سواء أكانت في جانب العزلة والانزواء والخمول والتزام الصمت والسير في طريق الذات واختيار زاوية الخلوة، أم كانت مع الشهرة والصيت وأمثال ذلك؟! فعندما يريد هو، ما شأننا نحن بالتدخّل؟!
وقد ذكرتُ ليلة البارحة أنّ قبح المسألة يكمن في الموضع الذي نخطو فيه نحن خطوة نحو هذه الشهرة، أو نقوم بحركة من أجل هذا الصيت، أو نسعى للشهرة بأنفسنا. نريد أن نجعل أنفسنا على كلّ لسان، فننحّي الآخرين جانبًا لنكون نحن المطروحين. لا قدّر الله إن كان الأمر كذلك، فهذه من صفات الشيطان، والشيطان يتّصف بالعتوّ والغرور والتكبّر والأنانيّة والصفات الرذيلة. فعندما يأتي ويستقرّ في قلب الإنسان، يُدخِل صفاته معه.
لِمَ تتغيّر أحوالنا الروحيّة؟ قصّة طلب القرض في المجلس الحسينيّ
عندما تصلّون، لماذا تشعرون بالروحانيّة؟ لماذا؟ وعندما تكونون في مجلس سيّد الشهداء عليه السلام، لماذا تشعرون بالروحانيّة؟ كان أحدهم يقول: ذهبتُ إلى أحد الأفراد لأقترض منه مالًا، فقال: ليس لديّ، وما إلى ذلك من الأعذار. فقلتُ في نفسي: لا، ليس الآن وقته. وفي وقت ما، شاركنا معه في مجلس، طُرحت فيه مواضيع، وذُكرت مصيبة، فقلتُ في نفسي: جيّد! الآن وقت الطلب! فقلتُ له: يا فلان، لدينا مشكلة ونحتاج هذا المبلغ. قال: حسنًا، حسنًا، تعال لاحقًا لأعطيك. قلتُ: لا، هل يمكنك أن تعطيني الآن؟ لأنّني أحتاجه! قال: حسنًا، ثمّ أعطاني المبلغ. ثمّ قال هو نفسه: فهمتُ لماذا طلبتَ منّي أن أعطيك هنا، لأنّني لو خرجتُ من هنا، لتغيّرت حالي، وأنت أيضًا فهمتَ القضيّة.
تأثير البيئة والحديث في تبدّل الأحوال
لماذا الأمر هكذا؟ لماذا يذهب الإنسان إلى مجلس فتتغيّر حاله؟ يصلّي صلاة فتتبدّل حاله؟ يقرأ القرآن فتتغيّر حاله؟ ولكن على العكس، عندما يذهب إلى مكان فيه حديث عن الدنيا، يرى أنّه أصبح على نحو آخر. فالحديث عن الماديّات، يشعر بالكسل. الحديث عن الدنيا والعمل والأخذ والعطاء وفعل هذا وذاك، نرى حاله قد تغيّرت، لماذا؟
لأنّ الإنسان عندما يكون في بيئة مناسبة، تأتي ملائكة الرحمة إلى كيانه. وعندما تأتي إلى كيانه، يشعر بالراحة والخفّة، ويشعر بانقطاع تعلّقه بالدنيا. وعندما يكون في بيئة غير مناسبة، يأتي الشيطان وجنوده إلى كيانه، فيشعر بالثقل والكدورة. وعندما يجلس في مجلس باطل فيه قهقهة وما إلى ذلك... طبعًا، أحيانًا يكون هناك ضحك، ولكنّه ضحك ومزاح في إطار المعرفة والصفاء والمودّة والبهجة؛ فقد كان الأعاظم يمزحون أيضًا، ونحن أنفسنا كنّا نراهم يمزحون، فالعبوس والتجهّم الدائم لا فائدة منه، ومن أن يعبس الإنسان دائمًا ويطأطئ رأسه! فماذا هناك يا عزيزي؟! المزاح والضحك وتفريج الهموم والملاطفة من صفات الأعاظم والمتّقين.
نماذج من مزاح أهل البيت عليهم السلام
وبالمناسبة كان أمير المؤمنين عليه السلام مزّاحًا جدًّا، مزّاحًا جدًّا، وكان يمازح الناس. وسيّد الشهداء عليه السلام كان مزّاحًا جدًّا، طبعًا بعض الأئمّة عليهم السلام لم يكونوا كذلك، وكانت حالهم تختلف، فمثلًا في أحوال الإمام السجّاد عليه السلام نجد أنّه لم يكن كذلك، ولكن الإمام الباقر عليه السلام كان كذلك، والإمام الرضا عليه السلام كان يمزح أحيانًا.
أمّا هذا المزاح المبتذل والكلام الذي يسبّب تكدّر النفس وظلمتها، فهذا ليس جيّدًا. والأسوأ من ذلك، الحديث في أمور لا قيمة لها على الإطلاق، فيهدر الإنسان وقته فيها فقط! فلان جاء وفلان ذهب، وفلان فعل كذا وسيفعل كذا. حسنًا، وماذا أفعل أنا إذا فعل هو هذا الأمر؟! ماذا بوسعي أن أفعل؟!
كيف تجلب الغيبةُ الظلمةَ إلى القلب؟
هذا النوع من الأمور يسبّب الكدورة، فما بالك بالأمور الدنيويّة والمواضيع التي ـ لا قدّر الله ـ يتحوّل فيها المجلس إلى الغيبة أو ما هو أسوأ منها كالتهمة. هنا يأتي الشيطان بجنوده ويستقرّ في نفس الإنسان. فعندما يغتاب الإنسان، يتكدّر. لماذا يتكدّر؟ لقد خرج كلام من فمه، فليكن. فلماذا يتكدّر؟ أو أنّه قال كلامًا، فلماذا يتكدّر؟ لماذا يجد الظلمة في نفسه؟ لقد خرج كلام من فمه، فما علاقة الكلام بالظلمة؟ الأمر هو أنّه عندما يقول الإنسان هذا الكلام، في تلك اللحظة تنشأ علاقة بين نفسه وبين نفس "حضرة" الشيطان! وبما أنّ الشيطان هو مركز التكدّر والثقل، فإنّه ينقل ذلك الثقل والتكدّر إلى الإنسان، فيجد المرء نفسه متكدّرًا.
أهميّة المراقبة: القلب بين استئذان الملائكة والشياطين
أحيانًا، يتّفق أن يتكلّم الإنسان كلمة، فيبقى باله منشغلًا بها لمدّة طويلة، فيتساءل لماذا قال تلك الكلمة ولماذا خرجت من فمه؟ والآن، حتّى يخرج هذا الشيطان وتحلّ الملائكة محلّه، قد يستغرق الأمر وقتًا طويلًا. لذا، قيل يجب على الإنسان أن يكون مراقبًا وأن يكون حذرًا، حذرًا ممّا يقول وما يفعل. وهذان الأمران متلازمان، ففي ساعة تأتي الملائكة وفي ساعة تذهب، ويأتي الشيطان محلّها. ثمّ يستغفر الإنسان، فيذهب أولئك ويأتي هؤلاء. ثمّ تحدث أحداث أخرى، فيأتي أولئك. هكذا هم يقفون خلف جدار قلبنا يطلبون إذن الدخول، لنرى لأيّهم نأذن ونجعل بيت القلب مأوى لمن! فهل نأذن للملائكة بالدخول قائلين: تفضّلوا، أم نأذن للشيطان والأبالسة قائلين: لا، تفضّلوا أنتم، لديكم مكان جيّد جدًا هنا، ودافئ وناعم وممتاز! فهم ينتظرون إلى أيّ جانب نُدخِلهم.
قصّة تبدّل حال رجل في المجلس
في أحد الأيّام، كنّا أنا والمرحوم العلامة في مجلس، وكان هناك رجلٌ ذو حال جيّدة. فرأيتُ المرحوم العلامة يوليه اهتمامًا كبيرًا، وينظر إليه خلسة. وفجأة، رأيتُ المسألة قد تغيّرت، فلم تعد النظرات نظرات محبّة، بل كانت نظرات من نوع آخر. فعندما انتهى المجلس، ذهبتُ إليه وقلتُ: يا فلان! منذ بداية دخولك المجلس كانت حالك جيّدة، وفي منتصف الأمر أفسدتَها! خرجتَ عن المسار! أخبرني ماذا فعلتَ؟ قال: يا للهول! فجأة، خطرت تلك الذكرى ببالي ولم تفارقني حتى أواخر المجلس. كيف عرفتَ؟ فقلتُ له ممازحًا: نحن نعرف هذه الأمور، نحن ندركها. فهذه أمور إلهاميّة ولا تُعطى لأيّ كان! قلتُ: ماذا حدث حتّى خرجتَ عن المسار فجأة في منتصف الأمر فأفسدتَ حالك؟ قال: نعم، المسألة هكذا كانت!
انظروا، فلقد خطر بباله خيال، ولكنّ الله عَلِمَ فتغيّر سلوكه. لا مجال للمزاح في القضيّة، فهي ليست بخدعة بصريّة. حتّى تلك اللحظة، كانت الحال جيّدة، حال روحانيّة، حال بهجة. وفجأة تتغيّر، فتصبح على نحو آخر. خطور خاطرٍ واحد يأتي فيفسدها، يفسدها تمامًا.
تأثر أجواء الحرم بحال الجنائز: هل للأرواح أثر على الأماكن؟
كان أحد الرفقاء يقول: تشرّفت بزيارة حرم سيّد الشهداء عليه السلام، كنت جالسًا في الحرم، فرأيت أنّ الأجواءَ عجيبة جدًّا، عجيبة للغاية. وفي هذه الأثناء، أُحضرت جنازة ومُرِّرت من أمامي، فرأينا أنّ الحال لم تتغيّر، لكن عندما أُحضرت الجنازة الثانية، رأيت أنّ أجواء الحرم تغيّرت، وأصبحت على نحو آخر، وكانوا يطوفون بها على هذا النحو. وبمجرّد أن أُخرجت من الباب، عادت الأجواء إلى وضعها السابق. يعني أنّ هذا الرجل السيّئ، رغم أنّ روحه لا تأتي، بل روحه تبقى في الخارج، إلاّ أنّه يؤثّر في الأجواء.
قصة الكلب الأسود فوق الجنازة
ألم ينقل المرحوم العلامة أنّ أحد أصدقائه ـ ويبدو أنّه على قيد الحياة ـ كان يقول: كنتُ واقفًا بجوار حرم سيّد الشهداء عليه السلام أو يبدو موسى بن جعفر عليه السلام، فأُحضرت جنازة وكان هناك كلب أسود جالسًا فوق الجنازة، كلب أسود كبير جدًّا جالس فوق هذه الجنازة ويذهب معها، ـ بالطبع هذه كانت روحه ـ أُحضرت هذه الجنازة إلى باب صحن الإمام موسى بن جعفر والإمام الجواد عليهما السلام. وبمجرّد أن أرادوا إدخال الجنازة، قفز الكلب إلى الأسفل ووقف بجانب الباب. وقف بجانب الباب، فلم يعد له الحقّ في الدخول. أُخذ الجسد وطيف به ثم أُخرج. وبمجرّد أن خرجوا، قفز هذا الكلب مرّة أخرى فوق الجسد، إلى جانب رفيقه الذي لا يطيق فراقه، حتى أخذوه ودفنوه.
هكذا هي المسألة، ولكن لا يفهمها كلّ أحد، بل يدركها الأفراد الذين فُتحت أبصارهم. نفس هذا الشخص كان يقول: كنتُ جالسًا في الحرم، وفجأة شعرتُ بأنّ حالي تكدّرت. طبعًا، هذه المسألة موجودة، وهي أنّ تبدّل أحوال الإنسان يعود إلى أختلاف المراتب التي يكون فيها. قد يكون الإنسان في مرتبة أعلى ويجلس ولا تتغيّر حاله. فمسألة الدرجات هذه، تُقيّم لكلّ شخص بما يتناسب معه، وليس لها قاعدة عامّة. ولكن على كلّ حال، هذه كانت حقيقة واقعة، لقد رآها. وهنا، طبعًا، يوجد الكثير من المطالب والمواضيع حول هذه المسألة، الكثير جدًا.
الحال الربّاني والشهرة المنهيّ عنها: متى تكون الخسارة؟
هذه الحال التي يعيشها الإنسان، يجب أن تكون من جانب الله تعالى، لا من جانب الذات. أي لا ينبغي للإنسان أن يتدخّل ويتصرّف من تلقاء نفسه في إرادة الله تعالى ومشيئته. هو المالك وهو صاحبنا، فإذا يشاء يُظهر مكانة الإنسان للآخرين، وإن لم يشأ أبقاها على حالها. ولكن ما لم يأتِ الأمر ليشتهر الإنسان، فكلّ من يسعى إلى الشهرة فقد خُدِع! وكلّ من يسعى إلى إظهار نفسه في قضيّة ما وترك أثر من نفسه ليلتفت إليه الآخرون، فقد خسر القضيّة، خسرها تمامًا.
قصة بهلول وباني المسجد: لمن تبني؟
يُقال إنّ بهلولاً كان يمرّ ذات يوم فرأى مسجدًا يُبنى، وفوق المسجد يُكتب اسم شخص ما. ـ الآن يفعلون ذلك أيضًا، حسينيّة آل فلان، مسجد فلان، تكية السيد فلان، عائلة فلان، في المدن، هنا وهناك، لكي يُعرف من قام بهذا العمل! كي لا يذهب كلّ هذا الجهد المبذول سُدى، فعلى الأقلّ ليبقى اسمه هناك في الأعلى ـ كان يمرّ فرأى أنّهم يكتبون اسم الباني بالجصّ في الأعلى. ولم يكن البناء قد انتهى بعد، ولكنّ أثرهم...! فمحاه هو وكتب اسمه مكانه، فأصبح مسجد بهلول. ثمّ ذهب ورأى صاحب المسجد قد جاء وأخذ يتشاجر مع العمّال قائلًا: بأيّ حقّ سمحتم بكتابة هذا هنا؟! قالوا: والله لم نرَه. جاء [بهلول] وقال: ما الأمر؟ قال: ألا تخجل؟ أنا أدفع المال ويُكتب اسمك هنا؟ قال: هل تبني المسجد للّه أم لنفسك؟ إذا كنتَ تبنيه لله، فليكن اسمي، ما شأنك أنت؟!
من أخلاق الأعاظم: قصة مناجاة آية الله السيد البروجردي رحمه الله في زمن المحنة
كان آية الله البروجردي رحمه الله على وشك الموت... ـ رحمه الله، فقد كان رجلًا عظيمًا، رجلًا مخلصًا، مخلصًا وحريصًا على صحّة عمله ـ كان المرحوم العلامة ينقل أنّه في إحدى المرّات، في ذلك الصيف الذي لم يكن فيه في قم، بل في أطراف قم، سواء كانت كهك أو أبعد من كهك، ذهب إلى هناك. كان ذلك الزمان صعبًا للغاية، زمن مصدّق وزمن (الشيوعيّين) الذين جاؤوا وكانوا ينشطون كثيرًا في إيران، وكان خطرهم يهدّد كيان البلاد والإسلام. كان أحد أصدقاء المرحوم العلامة ـ وحاليًا هو حيّ يرزق في قم نفسها ومن العلماء وله مؤلّفات وما إلى ذلك ـ هو نفسه يروي للمرحوم العلامة قائلًا: كان لدينا عمل مع السيد البروجردي فذهبنا لرؤيته في ذلك المكان. وبما أنّ علاقته كانت حميمة جدًا بالسيّد البروجردي، فكان يدخل غرفته. ولم تكن علاقته بالسيّد البروجردي معقّدة كثيرًا.
قال: استيقظتُ في منتصف الليل لأجدّد وضوئي، إمّا لأصلّي صلاة الليل أو لشيء آخر. فسمعت صوتًا يأتي من زاوية الفناء، صوت مناجاة. قلتُ: من هذا في هذه الزاوية من الفناء ويناجي؟ ذهبتُ فرأيتُ آية الله السيّد البروجردي رحمه الله بقميص وسروال، وعليه عباءة رقيقة، وقد ربط منديلًا أبيض على رأسه كعمامة بيضاء، يصلّي ويقرأ السور الأربع التي تبدأ بـ "قل" بحضور قلب عجيب! كانت عبارته هكذا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}۱ ويكرّرها، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ۱ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ}٢ وهكذا حتى انتهت صلاته ولم أفعل شيئًا لكي لا أشتّته. ثمّ ذهبت وقضيت حاجتي وما إلى ذلك. وفي صباح الغد، ذهبتُ إليه وقلتُ: سيّدي، رأيتُك البارحة تصلّي، ولكن بدت حالك مضطربة وغير عاديّة. فقال: ألا ترى؟ ألا ترى وضع البلاد وما يجري فيها؟ ما الذي يمكننا فعله سوى أن نتوسّل إلى حضرة الأحديّة؟ خلاصة القول، بتعبير المرحوم العلامة كان رجلًا واقعيًّا، كان آية الله السيّد البروجردي رحمه الله رجلًا واقعيًّا. ولكن على كلّ حال، لكلّ إنسان حدّ ومرتبة.
عبرة من آخر ساعات آية الله السيد البروجردي رحمه الله: أيُّ عملٍ يبقى؟
هذا السيّد نفسه كان يقول: في اليوم الأخير أو الأيّام الأخيرة من حياة آية الله البروجردي، وعندما كان طريح الفراش ومشرفًا على الموت، ذهبتُ إليه وقلتُ: سيّدي، كيف حالك؟ قال: سيّدي، يدي فارغة، لا أعرف ماذا أفعل؟! ليس في يدي شيء! التفتُّ إليه وقلتُ: سيّدي، لقد بنيتَ كلّ هذه المدارس هنا وهناك، وفي خارج إيران، فكم من المساجد والمدارس قد بنيتَ! قال: سيّدي، هذه لا فائدة منها لنا. قلتُ: سيّدي، كم كان لديك من المقلّدين! قال: سيّدي، هذه لا تنفع. هكذا بحالة من الحسرة ولم يكن يمزح أبدًا! في تلك اللحظة، لم تعد القضيّة مزاحًا. فلو كانت القضيّة مزاحًا لسبعين أو ثمانين سنة، ففي تلك الساعات الأخيرة، لم تعد القضيّة مزاحًا. كلّنا نفهم جيّدًا أنّ القضيّة في تلك اللحظة جادّة، لم يعد هناك مجال للرجوع. عندها فقط نتذكّر ماذا فعلنا؟ ماذا فعلنا؟ ثمّ التفتُّ إليه وقلتُ: سيّدي، هذا الكتاب الذي ألّفتَه، هذا الكتاب "جامع أحاديث الشيعة"، ألم يكن قصدك نشر مدرسة أجدادك؟ فكّر قليلًا ثمّ بدأ بالبكاء! قال: عسى الله أن يتقبّل منّا هذا فقط، يتقبّل منّا، وكلّ الأعمال و.... مع ذلك، كان السيد البروجردي رجلًا صالحًا، رجلًا مستقيمًا. أوّلًا، كان رجلًا فقيهًا، رجلًا عالمًا، ثمّ كانت نفسه ـ بتعبير المرحوم العلامة رضوان الله عليه ـ نفسًا صافية، وكان يريد أن يعمل للّه، يريد أن يعمل للّه. رحمه الله.
بين مرجعية قم وفقدان الذات: تأمّلات في سيرة آية الله البروجرديّ رحمه الله
هل هذه الأمور في مصلحة الإنسان أم ليست في مصلحته؟ فهذا غير معلوم. كان يقول إنّه عندما سُئل في أواخر عمره، قال: "عندما كنّا في بروجرد، كان وقتنا لنا. لكن منذ أن جئنا إلى قم، لم نعد لأنفسنا!" حسنًا، عندما يصبح أحدهم مرجعًا، ويأتي الناس لتقليده، ويكثر التردّد عليه، ويذهب هنا وهناك، خاصّة إذا وقع في شباك الشياطين، شياطين الإنس، فيأتون ليحدّدوا للإنسان تكاليفه، سيّدي اذهب إلى هنا، سيّدي اذهب إلى هناك، سيّدي لديك لقاء هنا ولديك لقاء هناك، وهو لا يمتلك تلك الإرادة ليقف ويقاوم هذه الهجمات.
المرحوم العلامة كان هكذا، فبمجرّد أن يحاول أحدهم أن يفرض عليه أقلّ تكليف، كان يقتلعه من جذوره بحيث يذهب ذلك الشخص إلى حيث ألقت أم قشعم رحلها، أي لا يعود له ذكر أو خبر أبدًا.
قصة العالم الذي أهانه أحد أتباعه: آفة الانسياق وراء العوام
يأتي الآخرون ويريدون أن يحدّدوا له تكليفه، وقد شاركنا مرّة في مجلس، و كنّا معتادين على سلوك المرحوم العلامة عندما يأتي أحدهم ليحدّد له تكليفًا، افعل هذا أو لا تفعل ذاك، أن يأتوا ليفرضوا عليه معتقداتهم، أن يأتوا ليطبّقوا نيّاتهم بطريقة ما! هل كان العلّامة ليقبل ذلك؟! في إحدى المرّات كنّا في إحدى المدن، كان هناك مجلس عقد، وكانوا قد أحضروا عالم تلك المدينة. أحضروا عالمها ليقولوا مثلًا إنّنا في مقابل الطرف المقابل، لدينا هذا أيضًا. نعم، عالم المدينة المعروف، وقد انتقل إلى رحمة الله، يبدو أنّه تعرّض لحادث في سفر زيارة وانتقل إلى رحمة الله، كان رجلًا صالحًا، ولكن على كلّ حال... في ذلك المجلس، دار بيننا وبينه نقاش فقهيّ أيضًا. وكنّا نتجرّأ، كنّا قليلي الأدب، ولم نراعِ الشؤون وما إلى ذلك، على كلّ حال، هو أيضًا أظهر لنا الكثير من المحبّة واللطف. على كلّ حال، انعقد المجلس وكان يسير بطريقة مناسبة وما إلى ذلك. فجأة، حدث أمر بين عائلة العروس وعائلة العريس، كنّا نسمع ضجيجه من الفناء! قلتُ: ستر الله، إلى أين سيصل هذا المجلس مع هذا الضجيج وهذا الصراخ؟ ولم يمضِ وقت طويل حتّى رأيتُ ذلك العالم الذي أحضر كديكور، لنسمّه هكذا، أو كثقل في مقابل هؤلاء، رجلٌ من أهل السوق، من أهل السوق، يرتدي بدلة، من أهل السوق، لا أعرف ماذا كان يبيع. جاء وبتحكّم ـ أثار عجبي بشدّة ـ التفت إلى هذا السيّد وقال: سيّدي، انهض! انهض! هذا ليس مكاننا، انهض! بقينا هكذا مذهولين، أنتم تشاجرتم، فما علاقة هذا السيّد بذلك؟ انهض! هذا المسكين الآن وقع في ورطة، فماذا يفعل؟ ماذا يقول لنا؟ كيف لا يخسر مريديه! كيف هي الأوضاع؟ ماذا يفعل؟ ثمّ خلاصة القول،
ـ قال: حسنًا دعنا نحاول
ـ لا يوجد أيّ من هذا الكلام يا سيّدي، انهض ولنذهب!
أمسك بيده وسحبه قائلًا: لنذهب. كأنّه ماذا أقول؟ يا سيّدي، كأنّه عبد، أمسك بيده وأخرجه! وهو رجلٌ عجوز في الثمانين من عمره، أو السبعين، نعم كانت لحيته كلّها بيضاء، وكان عالمًا معروفًا. أخرجه من مكانه وأخرجه بتلك الطريقة المذلّة بحيث إنّنا انزعجنا من أصل القضيّة، انزعجنا من هذا الوضع الذي حلّ بهذا المسكين! ما هذا الوضع؟ حسنًا يا سيّدي، تفضّل، لقد حدثت مشكلة، حدث أمر ما. تعجّبنا كثيرًا، كان الأمر عجيبًا جدًّا بالنسبة لنا. يعني، يا إلهي، هل يجب أن يصل أمرهم إلى هذا الحدّ، وبهذه الطريقة...؟ بعد عشر دقائق أو ربع ساعة، عاد هذا السيّد. عاد ورأى أنّ الوضع سيّئ جدًا. الآن هو لم يأتِ، ذلك الشخص من أهل السوق لم يأتِ، يبدو أنّهم أقنعوه في الخارج بالعودة وعدم إفساد الأمر، وأن يقولوا إنّ السيّد جاء هكذا. كان الأمر عجيبًا جدًا بالنسبة لنا. هناك رأينا، يا للعجب! أين نحن وأين الناس؟ مريد السيّد يأتي ويرفعه كأنّه عبد ويسحبه إلى الخارج! لقد استخدمتُ تعبيرًا آخر في مكان آخر، لن أذكره الآن، حقًا كان ذلك التعبير الذي استخدمتُه هناك صحيحًا! أن يفعلوا هكذا برجل عالم عجوز...! وهؤلاء موجودون في كلّ مكان، في كلّ مكان. فيأتون ويحيطون بالإنسان ويوجّهون له الأوامر والنواهي: "سيّدي اذهب من هذا الطريق، سيّدي لا تذهب من ذاك الطريق، افعل هذا ولا تفعل ذاك." يجهّزون الأمور، يجهّزون المجلس ثم يقولون: يا فلان، إذهب إلى ذلك المجلس! وهذا المسكين غافل عن كلّ شيء! فما هو إلا أداة بيدهم! يذهب هنا ويذهب هناك، فيأتون ويأخذونه ثمّ يفعلون به ما يحلو لهم، هؤلاء هكذا. لا قدّر الله أن يُبتلى الإنسان بالإضافة إلى الشهرة بهذه الآفة أيضًا، آفة الانسياق وراء العوام، وآفة الانسياق وراء المريدين، وآفة ألاعيب المريدين التي هي وزر ووبال وهلاك لأهل العلم خاصّة في هذه المسألة. لكنّ المرحوم العلامة لم يكن كذلك! كان يشهر سيفه ويضرب الأعناق بحيث لا يبقى خبر لا للرأس ولا لصاحب الرأس! كأن يأتي أحدهم ليرسم له خطًّا، يرسم له خطًّا؟!
قصة عفو المرحوم العلامة بعد استخارته بالقرآن: كيف نتعامل مع العداوات؟
في أحداث ۱٥ خرداد سنة ۱٣٤٢ (٥ حزيران/يونيو ۱٩٦٣)، وبعد أن اعتقلوا آية الله السيّد الخميني رحمه الله ووضعوه في سجن "قزل قلعة"، جاء آية الله الميلاني رحمه الله إلى طهران. أتذكّر أنّه كان لديه مجلس في منزل كبير في منطقة "داووديّة" في طهران. ذهبنا مع والدنا رحمه الله ـ كنتُ في السابعة من عمري آنذاك، في الصفّ الأوّل الابتدائي ـ إلى هناك لزيارة آية الله الميلاني رحمه الله. ويبدو أنّ والد السيّد الحاجّ روح الله، حضرة آية الله الشيخ صدر الدين، كان حاضرًا أيضًا في ذلك المجلس، على قدر ما تسمح به ذاكرتي. ذهبنا إلى هناك وجلسنا بجانب الإيوان، ثمّ دخل المرحوم العلامة وتحدّث مع السيّد الميلاني والآخرين ثمّ خرج. رأيتُ أحد روّاد المسجد، ممّن كان كثير التردّد والحركة وما إلى ذلك، يقوم بترتيب الأحذية. وهو نفسه الذي أشار إليه المرحوم العلامة في كتاب "نور الملكوت"، لم يذكر اسمه ولكنّه أشار إلى أنّ خلافات نشأت معه وأدّت إلى القطيعة، وأنّه أرسل رسالة إلى المرحوم العلامة ـ هل قرأتموها أم لا؟ إن شاء الله تكونون قد قرأتموها، وإن لم تقرأوها فاذهبوا واقرأوها ـ فأرسل رسالة، وأراد المرحوم العلامة أن يتّخذ إجراءات ضدّه، فاستخار بالقرآن فجاءت هذه الآية: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}۱ فالآية تتعلّق بالعفو والصفح وما إلى ذلك، وفي ذيلها أنّك يجب أن تتجاوز بحيث يصبح الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم. هذه الآية، ثمّ تفاصيل الواقعة طويلة، اذهبوا واقرأوها. يبدو أنّها في كتاب "أنوار الملكوت"٢ فيما يتعلّق بالصفح وما إلى ذلك.
من مآسي المرحوم العلامة: قصّة الظلم الذي تعرض له من ذوي القربى بعد وفاة والده
ينقل قصّتين، إحداهما تتعلّق بالفترة التي تلت وفاة والده، وما فعلوه به. وعلى حدّ تعبيره، كان يقول: "لن أفتح ذلك الملفّ الأسود مرّة أخرى." وحقًا كان ملفًّا أسود. مؤخّرًا سمعتُ من أحد معارفنا وأقاربنا، وهو في سنّ المرحوم العلامة تقريبًا ويسكن في مشهد، كان يقول: يا سيّد محسن، لقد رأيتُ أباك يبكي وهو جالس على جانب الزقاق، زقاق حمّام وزير الملك آباد، يبكي من أفعال أقاربه هؤلاء، هذا الرجل العظيم! ماذا فعلوا به بحيث رأيتُه بعد فترة قصيرة قد هاجر إلى النجف وقرأ الفاتحة على كلّ ما في طهران بشكل كامل. كان وصيّ أبيه، فعندما رأوا أنّهم أضاعوا الوصيّة، لا أعرف هل سرقوها، سرقوا الأموال وأخذوها، صادروا كتبه، الكتب التي وهبها له والده في حياته، وما إلى ذلك. خلاصة القول، أنزلوا به من البلاء ما جعله ـ وهو الذي لم يكن يؤخّر درسه ساعة واحدة ـ يقول: "قضيتُ سنة واحدة في طهران على هذا النحو، كنتُ أتمنّى كلّ يوم أن ينتهي عمري ولا أشهد هذه الأمور مرّة أخرى." أي أنّهم كانوا قد شهروا سيف العداوة والحقد إلى هذا الحدّ! وكأنّه لا وجود للرحمة ولا للقرابة أصلًا، لا شيء على الإطلاق! لا شيء!
قصة انقطاع المعونة عن المرحوم العلامة في النجف بسبب الوشاية
في إحدى السنوات الأخيرة من حياة المرحوم العلامة، حدثت لي قضيّة، فذهبتُ إليه. فقال: يا سيّد محسن، لقد حدث لوالدك من هذه القضايا بل وما هو أشدّ منها. قلتُ: عجبًا! قال: أأقول لك ما هو أشدّ منها؟ ـ لا أعرف الآن هل من الصواب أن أقول هذا هنا أم لا؟ حسنًا، سأقوله على كلّ حال ـ قال: عندما أردت الذهاب إلى النجف، أوصى والدي أحد السادة الذين كانوا في طهران بأن يرسل لي مرتبي الشهريّ كلّ شهر إلى النجف، لأنّه كان يعلم أنّني لا أتلقّى مرتّبًا من أيّ مكان آخر. كان يقول: ذهبت إلى النجف، وكان هذا المرتّب يأتي في بداية الشهر عن طريق أفراد كانوا هناك. فكان رجلٌ ما يأتي ويقول: وصلكم حوالة من إيران. وكان يقول: إنّي كنت أعيش حياة متوسّطة. وفي أحد الأشهر، رأيت أنّه لم يعد يأتِي، وفي الشهر الثاني لم يأتِ، وفي الشهر الثالث لم يأتِ، حتّى أصبح وضعنا صعبًا . طبعًا، كانت الأمور تسير بصعوبة شديدة وما إلى ذلك. أصلًا، هذا المخصّص الذي كان يرسله هذا الشخص للمرحوم العلامة، انقطع تمامًا، تمامًا. طبعًا، كان الأمر يُعوَّض، من مكان آخر، إلى حدّ ما، ولكن، على كلّ حال، كان في ضيق وما إلى ذلك، وكان يراعي جدًّا. ووالدتي تروي حكايات عن أمور النجف.
قصّة ليلة الحاجة في النجف: كيف كان لطف أمير المؤمنين عليه السلام بالمرحوم العلامة؟
في إحدى الليالي ـ هذه القصّة رواها المرحوم العلامة نفسه ـ كانت ليلة ثلاثاء، في مسجد القائم، وكنتُ جالسًا بجانبه، فقال: يا بني محسن، أريد الليلة أن أروي لك قصّة تتعلّق بك ـ الآن بعض الرفقاء موجودون من الذين كانوا حاضرين هناك ـ كان يقول: لم يكن لدينا مال، لا شيء من المال. كنتَ أنت آنذاك تشرب الحليب ـ يعني حليب البقر وما إلى ذلك ـ كنّا نذهب ونشتريه ونحضره لك، وكنتَ تشرب الحليب، لأنّ والدتك لم يكن لديها حليب، وكنتَ تشرب حليبًا معلّبًا. جاءت والدتك وقالت: يا فلان! هذا الطفل ليس لديه حليب. فلم أقل لها شيئًا، وأنّنا لا نملك شيئًا، وليس لدينا مال. قلتُ: حسنًا، الآن حضّري له ماءً وسكّرًا، على أيّ حال، كشيء يخدعونه به، شيء يلهونه به، من هذه الأشياء التي يخدعون بها الأطفال، حضّري ماءً وسكّرًا. وأنت أيضًا بدأتَ شيئًا فشيئًا بالانزعاج، ولكنّك كنتَ قد بدأتَ المشي، كان عمرك حوالي السنتين وما إلى ذلك. قلتُ: حسنًا، سأخرج الآن ثمّ أعود. قال: أخذت بيدك وخرجت. كان يقول إنّه قد أقرض أحد عباد الله دينارين، ديناران آنذاك كانت مبلغًا كبيرًا، ديناران عراقيّان. فقلت: أذهب إلى منزله وأسلّم عليه، فإذا أعطانا، أخذناهما. وبالمناسبة، كان لديّ كتاب عنده أيضًا وكنتُ أريد أن آخذه، ولم تكن القضيّة محصورة في هذا فقط. فذهبتُ وقلتُ: سيّدي، هل قرأتَ ذلك الكتاب؟ قال: نعم، وما إلى ذلك. قلت: حسنًا، وبعد ذلك جلسنا، فرأيت أنّ هذا السيّد لم يتطرّق أبدًا إلى أنّ يا سيّدي، خذ هذين الدينارين أيضًا، لأنّه قد مضى شهر على القضيّة، ومن المفترض أن يأتي بهما ويعيدهما إليّ. وأنا أيضًا لم أقل شيئًا، خجلت ونهضت وخرجت من عنده، خرجت ثمّ عدنا إلى المنزل. قلت: ممّن آخذ؟ لم أكن من أهل هذه الأمور لأذهب وأقترض من أحد. فذهبت إلى صحن أمير المؤمنين عليه السلام وقلت: يا عليّ، إذا كنتَ تريد أن تجوّعنا، فلا مشكلة، ولكنّك تعلم وضعنا! يقول ما إن جئت إلى باب المنزل، عند زاوية الشارع، حتّى قال البقّال: يا سيّد محمّد حسين، جاءتك رسالة، رسالة من إيران. فتحتها فرأيت فيهاعشرين دينارًا أو أكثر لا أذكر. فقلتُ: إذن يا سيّدي، وصلكم من جانبنا نصيبكم أيضًا؟ هل تحسّنت أوضاعكم أنتم أيضًا؟ قال: نعم، نعم، الأمر كذلك. خلاصة القول، هكذا كانت القضيّة، كانت المسألة بهذه الكيفيّة، ولدى والدتي حكايات عن هذه المسألة.
كشف الحقيقة: الرجل الذي قطع المعونة يعترف بالبهتان ويطلب السماح
هذا السيّد الذي قطع الراتب الشهريّ، كان السيّد العلّامة يقول: مضى على هذه القضيّة وقت حتّى جاء هذا الذي كان يرسل لنا المخصّصات في السنة التالية إلى النجف ـ وكان يريد الذهاب إلى مكّة ـ فجاء إلينا ليطلب منّا السماح. جاء وقال: يا سيّد محمّد حسين، سامحنا، يجب أن تسامحنا. قلنا: والله لا نعرف ما المشكلة. قال: هذه المدّة التي كانت أربعة أشهر أو خمسة أشهر أو ثمانية أشهر التي كنت أرسل الأموال ثمّ انقطعت. قال: هل تعلم ما الذي حدث؟ فلان وفلان من أقاربكم جاؤوا إليّ وأقسموا قائلين: يا سيّدي، أنت جالس وترسل المال لهذا السيّد محمّد حسين في النجف؟ فهل لديك خبر أنّ كلّ هذا الكلام مجرّد لعبة وخداع؟ أيّ نجف؟ أيّ سيّد محمّد حسين؟ أيّ درس؟ هذا في لبنان، هذا في لبنان، على شاطئ البحر المتوسّط، اشترى منزلًا، ولا تدري من يُحضِر إلى هذا المنزل؟ هذه ليست مزحة! وهذا المال الذي ترسله إلى النجف، يُرسَل إلى لبنان عن طريق أصدقائه! والآن الأمر لك، فإن شئتَ أرسِل وإن شئتَ لا ترسِل! كان يقول: سبب انقطاعي عن إرسال المال هو أنّهم أقسموا أيمانًا مغلّظة! يعني، إلى أين يصل الإنسان حقًا من دناءة الفطرة والخسّة، وإلى أيّ حدّ يجب أن يكون لئيمًا، وإلى أيّ حدّ يجب أن يكون وضيعًا، وإلى أيّ حدّ يجب أن يكون بلا شرف وبلا أيّ شيء، بحيث يأتي ويريد أن يضرب بهذه الطريقة؟ حسنًا يا عزيزي، قل لا ترسِل له، قل إنّ هذا الرجل كذا وكذا، أمّا هذه التهمة! ثمّ كان يقول: لقد أدركت مؤخّرًا، كان يقول: لقد أدركت أنّ كلّ هذا الكلام كان كذبًا وتهمة وما إلى ذلك، والآن جئت أطلب منك السماح، وهكذا هي القضيّة.
حيل الشيطان وأفعال المتظاهرين بالدين وكيف يغفر العارفون
يعني أنّ الإنسان لا يدري حقًا كيف يأتي الشيطان وبأيّ شكل يأتي؟ يأتي ليتدخّل في منافذ وجود الناس ويسلب قواهم ويضعهم تحت سيطرته! والآن، من كان يقول هذا الكلام؟ أناس كانوا يصلّون يا سيّدي! يصلّون ويصومون! حسنًا، لماذا تصلّي بعد الآن؟ فأنت الذي تجاوزت هذا الحدّ، لماذا تصلّي؟ فمن يأتي ليقول هذا الكلام...! ثمّ هذا المرحوم العلامة نفسه، عندما يعود، يمحو كلّ هذا بقلم عفو واحد، «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ». كأنّه لم يكن شيء، ولم يقل أيّ كلام، ولم تقع أيّ مسألة. هو ذهب إلى النجف تحت ولاية أمير المؤمنين عليه السلام يدرس الدين، وأنت جالس هنا ماذا تقول؟ هو أين وماذا يفعل؟
طوطیان در شکرستان کامرانی میکنند | *** | وز تحسر دست بر سر میزند مسکین |
مگس يقول:
الببغاوات في رياض السكّر تنعم | *** | والذباب المسكين من الحسرة يضرب رأسه |
كانت عبارة المرحوم العلامة لي: يا سيّدي، لا تهتمّ كثيرًا بهذه الأمور، لقد مررنا بمثل هذه المشاكل. ثمّ أنشد هذا البيت:
عزیز مصر به رغم برادران غیور | *** | ز قعر چاه برآمد به اوج آفتاب رسید |
يقول:
عزيز مصر رغم إخوته الغيورين *** خرج من قعر البئر ووصل إلى أوج الشمس
فهذا الذي ذهب إلى هناك وهو يعمل للّه يوصل نفسه إلى أوج الشمس. والآن ليأتِ البعض هنا و... وهذه القضيّة استمرّت حتّى النهاية، حتّى نهاية حياته. حتّى نهاية حياته كان هناك حسد تجاهه، حقد تجاهه، كنّا موجودين ونرى ذلك، كان هناك حسد وحقد وغيبة وتهمة. والآن أيضًا موجود، مازال موجدًا الآن.
رگ رگ است این آب شیرین آب شور | *** | بر ملائک میرود تا نفخ صور |
يقول:
عرقًا عرقًا هذا الماء العذب والماء المالح *** يصعد إلى الملائكة حتى نفخ الصور
... | *** | گروهی این گروهی آن پسندند |
يقول:
.. *** فريق يفضّل هذا وفريق يفضّل ذاك
{كلّ حزب بما لديهم فرحون}.۱
فكلّ إنسان يجب أن يسلك طريقه ويعمل عمله الخاصّ.
لقد حان الوقت وانتهى المجلس وبلغ العمر نهايته، ونحن ما زلنا في بداية وصفك. كنّا نريد أن ننهي المسألة الليلة، ولكنّ القدر الإلهيّ رسم عالم المقدّرات بشكل آخر. إن شاء الله تتمّة الحديث لليلة غد.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ