12

عظمة الحلم الإلهيّ

شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

536
مشاهدة المتن

المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسممحاضرات العلامة الطهراني

المجموعةشرح دعاء أبي حمزة

التاريخ 1398/09/14

جلسات المجموعة(14 جلسة)

التوضيح

هل من شأن الله تعالى أن يُقايس ذاته وأفعاله بذات عبده وأفعاله؟ ما هو تأثير حُسن الظنّ بالله تعالى في مسألة الصفح عن المذنبين؟ كيف يكون الحلم الإلهيّ علّة لعدم مؤاخذة الله تعالى لعبده؟ ما هو مصدر الهداية والرفعة والأمان بالنسبة للإنسان؟ ما هو المعنى الحقيقيّ للجوع والعطش؟ ماذا يعني أنّ الله تعالى يتردّد في قبض روح المؤمن؟ هل يتحقّق الغنى بواسطة المال؟ إذا كان الله تعالى خلق كلّ شيء لأجل الإنسان، هل من شأنه أن يتخلّى عنه؟ هي تساؤلات سعى سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لشرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ الشريف
/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • عظمة الحلم الإلهيّ

  •  

  • شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

  •  

  • محاضرة القاها

  • سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ 

  • قدّس الله نفسه الزكيّة

  •  

  •  

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

2
  •  

  •  

  • أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیمِ

  • بِسمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحیمِ

  • وصَلَّی اللَهُ عَلَی خير خلقه مُحَمَّدٍ وءَ‌‌‌‌الِهِ الطّاهِرینَ

  • ولَعنَةُ اللَهِ عَلَی أَعدَائِهِم أَجمَعینَ

  •  

  •  

  • الله تعالى أعظم من أن يُقايس ذاته وأفعاله بذات عبده وأفعاله

  • «فَإِنْ عَفَوْتَ يَا رَبِّ، فَطَالَ مَا عَفَوْتَ عَنِ الْمُذْنِبِينَ قَبْلِي؛ لِأَنَّ كَرَمَكَ أَيْ رَبِّ يَجِلُّ عَنْ مُجَازَاةِ الْمُذْنِبِينَ، وَحِلْمَكَ يَكْبُرُ عَنْ مُكَافَأَةِ الْمُقَصِّرِينَ؛ فَأَنَا عَائِذٌ بِفَضْلِكَ، هَارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ، مُتَنَجِّزٌ۱ مَا وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بِكَ ظَنًّا».

  • ذكر الإمام عليه السلام سابقًا مجموعة من الهواجس التي من الممكن أن يكون أحدُها هو العلّة في حصول حالة الانقباض والكسل أثناء المناجاة، وهذا يدلّ بالملازمة على أنّ الراغبين في سلوك طريق الله تعالى، والمنتظرين باستمرار نزولَ الجذبات الإلهيّة والنفحات القدسيّة مُلزَمون بتجنيب أنفسهم كافّة هذه الأمور التي ذكرها عليه السلام على نحو التردّد؛ إذ من شأن كلّ واحد منها أن يكون في حدّ نفسه علّة لطروّ حالة الكسل حين الدعاء والمناجاة؛ لكن، إذا انتفت هذه الأمور بأجمعها، فإنّه يُقال حينئذ: الطبيعة تتحقّق بوجود فردٍ ما، وتنتفي بانتفاء جميع الأفراد٢؛ وبالتالي، يتعيّن على الإنسان أن ينأى بنفسه عن كافّة الأفراد التي قد يكون أحدُها علّةً لحصول حالة الانقباض والكسل أثناء المناجاة، ليتمكّن بكلّ تأكيد من الظفر بالأحوال المعنويّة البهيجة التي ينتظرها حين المناجاة. 

  • وبعد كلّ ذلك، يقول:

  • «فَإِنْ عَفَوْتَ يَا رَبِّ، فَطَالَ مَا عَفَوْتَ عَنِ الْمُذْنِبِينَ قَبْلِي»؛ وحينئذ، إذا عفوت وتجاوت عنّي، وغفرت لي جميع الخطايا والجرائم التي قد تكون صدرت منّي، وساهمت في طروّ الكسل عليّ أثناء العبادة، أو سلبت منّي ذلك الحال المعنويّ، وأبعدتني عن منزل التوّابين، فغلبني النعاس وأخذتني سِنةٌ حين المناجاة، فسلبتني حالي المعنويّ، وتغاضيتَ عن كافّة هذه المقدّمات والأسباب التي لربّما أوصلتني إلى هذا المقام والموضع، فإنّ ذلك ـ يا إلهي ـ ليس جديدًا بالنسبة إليك!.

  • «فَطَالَ مَا عَفَوْتَ عَنِ الْمُذْنِبِينَ قَبْلِي»؛ فذلك المقدار الذي عفوت وتجاوزت به عن المذنبين قبلي، فغفرت لهم بسبب هذه الأحوال الطارئة عليهم... ويعني غفران هذا الحال: حصول الأحوال [المعنويّة] الحسنة، بحيث لا تعود تلك المقدّمات تُساهم في طروّ الكسل أثناء المناجاة. ويُراد من العفو هنا أنّه: إذا عفوت عنّي، وتجاوزت عن عصياني، وخلّصتني من هذه المقدّمات، فسأحصل حينئذ على أحوال معنويّة بهيجة حين الدعاء والابتهال؛ فإن فعلت ذلك، فلن يكون بالأمر الجديد عليك! لأنّك يا إلهي كريم؛ وقد كان هناك العديد من الأفراد الذين ارتكبوا قبلي هكذا خطايا وذنوب، فجعلتهم محطًّا لعفوك وكرمك.

    1. خ ل: منتجزٌ.
    2. الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، ج ٥، ص ۱۱.

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

3
  • «لِأَنَّ كَرَمَكَ أَيْ رَبِّ يَجِلُّ عَنْ مُجَازَاةِ الْمُذْنِبِينَ»، (لماذا؟) لأنّ كرمك يا إلهي أعظم من أن تلجأ إلى مجازاة المقصّرين، بحيث يكون عملك مجعولاً في مقابل عملهم!

  • فكما أنّ ذاتك أعظم بكثير بالمقارنة مع ذات المقصّر، فإنّ فعلك أيضًا أعظم بكثير بالنسبة لفعله؛ وبالتالي، فإنّك لا تضع بتاتًا نفسك في مقابل عبدك، ولا تجعله أبدًا ندًّا وعديلاً لك؛ وفي هذه الحالة، كيف يُمكنك أن تجعلك عملك وفعلك قرينًا وعديلاً لعمله؟! فلو صدرت معصية من المقصّر، وأردتَ تبعًا لذلك أن تُؤاخذه بتقصيره، وتُجازيه ـ دائمًا وبالدقّة ـ بالجزاء السيّء على هذا التقصير، فإنّك ستكون قد وضعتَ ذاتَك في مقابل ذاته، وفعلَك في مقابل فعله! لكنّ الأمر لا يجري بهذا النحو؛ إذ كما أنّك أعظم من هذا الموجود الممكن بعينه، ومن ذلك العاصي بذاته، فإنّ فعلك أعظم أيضًا [من فعله]!

  • «وَأَنَا عَائِذٌ بِفَضْلِكَ، هَارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ».

  • ما معنى ذلك؟ يعني أنّ أحوال [سيّئة] عرضت لي أثناء العبادة والصلاة والمناجاة ـ رغم أنّني كنت أتوقّع أن تحصل لي أحوال حسنة لكنّها لم تحصل ـ وأظنّ أنّ هذه الأحوال [السيّئة] قد حدثت بسبب إحدى المقدّمات التي ذكرتها لك؛ فأنا أستجير بك من هذه الأحوال، وأضع نفسي في ظلّ عفوك وكرمك، وأفرّ منك إليك؛ أي: إنّني أعلم أنّ هذه الأحوال التي عرضت لي، وساهمت في طروّ التراخي والفتور عليّ أثناء العبادة لا تخرج عن قضائك وإرادتك، وليست بمنأى عن حكمك ومشيئتك، وإلاّ لكنت حينئذ قد هربت من غيرك حينما هربت منها، والتجأت إليك حينما التجأت إلى عفوك وكرمك؛ وبالتالي، سأكون قد فررت من غيرك إليك! كلاّ، لا يجري الأمر بهذا النحو! فأنا أعلم أنّ هذه الأحوال حصلت بسبب إرادتك ومشيئتك، وطرأت عليّ بواسطة هذه الإرادة؛ أجل، يبقى الكلام عن المصلحة والحكمة في تقديرك لي إحدى هذه المسائل؛ فسواء كان ذلك حتّى لا أبتلى بالعُجب والكِبر، أو لا ينتابني الغرور، أو لكي أعتبر نفسي مساويًا لبقيّة المخلوقات، ولا أراني أعلى منها، أو أيّ شيء آخر، فإنّ معرفتي بك بلغت حدًّا، بحيث صرتُ أدرك أنّ تلك المسائل حصلت بإرادتك ومشيئتك؛ وحينئذ، فإنّني أفرّ من هذه الأمور المملوكة لك إليك، وإلى عفوك الذي يُعدّ بدوره مملوكًا لك!

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

4
  • فتارةً، يخرج الإنسان من غرفة بمنزله، ليدخل إلى غرفة أخرى؛ ففي هذه الحالة، سيكون قد ذهب من مِلكه إلى مِلكه؛ وتارةً أخرى، يُخرج المال من جيبه، ليضعه في جيبه الآخر؛ وحينئذ، لن يكون قد أدخل في هذا الجيب شيئًا مملوكًا للغير، بل سيكون قد غيّر موضع هذا المال وحسب؛ لأنّ كلا الجيبين مملوكان له. فأنا أيضًا مملوك لك، وعملي مملوك لك؛ ولهذا، حينما أهرب من مكان إلى آخر، فإنّني أهرب منك إليك!

  • حُسن الظنّ بالله تعالى سببٌ للتمسّك بالوعد الإلهيّ القاضي بالصفح عن المذنبين

  • «مُتَنَجِّزٌ مَا وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بِكَ ظَنًّا»؛ فأنا متمسّك بكلّ قوّة بالوعد الذي وعدت به الذين يُحسنون الظنّ بك بأن تعفو عنهم، بحيث لن أتنازل عنه أبدًا!.

  • فمهما عصيتُ، وقصّرتُ، وارتكبتُ الخطايا، ومهما يكن السبب لكي تُبعدني عن حرمك، وتسلبني حال العبادة والمناجاة، وتأخذ منّي حال التوجّه والخلوص بسبب تلك المقدّمات التي ذكرتها لك، وتطردني عن بيتك، وتُقصيني عن قُربك إلى بُعدك، وتجعلني في موضعٍ ناءٍ، فافعل كلّ ما تشاء، غير أنّني اطّلعت على هذا الأمر، فلن أتراجع عنه أبدًا؛ ألا وهو: إنّني أعلم أنّك وعدت الذين يُحسنون الظنّ بك بأن تعفو عنهم؛ وقد تمسّكتُ بهذه المسألة بكلّ قوّة، وأنا متنجّز فيها!

  • وقد قال [الإمام] سابقًا: افعل بي كلّ ما يحلو لك، [فلا يهمّني ذلك]؛ لأنّ تلك المسألة تُشكّل المحور الأساسي في أفعالي؛ فمهما أبعدتني عن هذه الدائرة إلى أيّة جهة، فإنّ المركز الذي تدور حوله كافّة أعمالي يتمثّل في أنّني اطّلعت على تلك المسألة، وأخذت بها بكلّ حزم؛ وهي: أنّك وعدت بأن تعفو عن الذين يُحسنون الظنّ بك؛ وأنا بدوري يا إلهي قد عرفتُك بهذا النحو، وأنا أيضًا أُحسن ولا أسيء الظنّ بك؛ فظنّي بك حسن!

  • وقد وعدت أيضًا بأن تتجاوز عن الذين يُحسنون بك ظنًّا؛ فهذا هو وعدك، وأنت لا تُخلف وعودك؛ كما أنّه لا يُساورني في هذا الاعتقاد أيّ شكّ أو تردّد أو توجّس أو تعليق، بل أخذته على محمل التنجيز، لا التعليق! فأفعالي غير مكتَنَفة بـ "إذ"؛ نظير: «إذا فعلت كذا، فإنّ الله تعالى سيغفر لي؛ وإذا صار كذا، فإنّ الله سيفعل كذا؛ وبما أنّ هذه "الإذا" غير متوفّرة فيّ أنا، فإنّه تعالى لن يفعل ذلك»؛ كلاّ! فأفعالي لا توجد فيها "إذا"، بل فيها حتمٌ؛ أي أنّني أخذتها على نحو الحتم؛ لأنّني رأيتك تعِدُ الذين يُحسنون الظنّ بك بأن تعفو عنهم؛ فأخذتُ هذا الوعد على نحو التنجيز والتثبيت، بحيث لا يوجد في هذا التنجيز أيّ تعليق؛ بمعنى أنّ قلبي لا يُخالجه أيّ شكّ أو ارتياب.

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

5
  • ومن هنا، فإنّ قلبي يشعر تجاه هذه المسألة بالثبات والرصانة، وقد تمسّكتُ بها؛ وحينئذ، مهما كانت الجهة التي أبعدتني إليها، فإنّني سأحطّ رحالي بنفس هذه العتبة! وأين تقع هذه العتبة؟ «مُتَنَجِّزٌ مَا وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بِكَ ظَنًّا»؛ تمامًا مثل مغناطيس جعلتَه على ورقة وُضعت فيها برادة حديد، حيث نجد أنّ هذه البرادة تجتمع مباشرة على المغناطيس مشكّلةً كُتلة واحدة؛ فإذا فُرّقت هذه البرادة يمينًا وشمالاً، فإنّها تجتمع مرّة أخرى؛ وهكذا دواليك؛ لأنّها تنجذب نحو مبدئها؛ فمهما شكّلتم هذه البرادة أو هذه القطع الصغيرة بأيّ شكل وصورة، فإنّها لا تتخلّى أبدًا عن تشكيل تلك الكتلة الخاصّة التي تحصل من التجاذب الحاصل بينها وبين مبدئها؛ فأنا [يا إلهي] صرت أملك نفس هذا الحال تجاه تلك المسألة؛ وقد عثرت على هذا المحلّ، فلن أتنازل عنه!

  • عِظَم الحلم الإلهيّ

  • «إِلَهي أنتَ أَوسعُ فضلاً وأَعظَمُ حِلمًا مِن أن تُقايِسَني بِعَمَلي أو تَستَزِلَّني بِخَطيئَتي؛ ومَا أنا يا سَيِّدي ومَا خَطَري؟! هَبني بِفَضلِكَ»!۱

  • إلهي، إنّ فضلَك أوسعُ وأرحب، وحلمَك وصفحَك أكبرُ من أن تُؤاخذني بفعلي، وتُقايسني بسلوكي، وتُقيّم عملي لكي ترى مستوى هذا العمل، وكم يملك من قيمة، وكم درجة الخلوص فيه، وكم يوجد فيه من توجّه ونية وإخلاص، وكم هو مقداره في ميزان القيمة؛ ولو أردتَ القيام بذلك، لتبيّن أنّ أعمالي فاسدة؛ فأنا لا أملك الأهليّة لأن أقدّم لك عملاً ما، لكي تُحاسبني عليه، وتمنحه قيمة واعتبارًا، وتُجازيني عليه طبقًا لهذه القيمة؛ كلاّ! فلا يصحّ ذلك أبدًا! ففضلك أوسع، وحلمك وأناتك أعظم من تلجأ إلى هذا الفعل؛ بمعنى أنّه: إذا أردت أن تُقيّم العمل الذي أقوم به بكلّ دقّة، وتقيس درجة خلوصه ونيّته وطهارته، وتجازني عليه، وتُنزل ـ في مقام الجزاء ـ من شأنك إلى مستوى التقييم والقياس؛ فتجعل فضلك محدودًا بهذا التقييم، فإنّني أُعلمك بأنّ هذا ليس هو أملي فيك وظنّي بك؛ لأنّني أعتقد بأنّ فضلك أوسع بكثير! بحيث إذا قمتُ بعمل سيّء، فإنّك تقول عنه: إنّه جيّد جدًّا! وحينما أقدّم ورقة الامتحان، وتكون مليئة كلّها بالأخطاء، فإنّ فضلك كبير، إلى درجة أنّك لا تقول: «إنّها مرفوضة»، بل تقول: «ضعوا عليها درجة عشرين».

    1. خ ل: لِفَضلِكَ.

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

6
  • فحلمك هو على مستوى من العظمة، بحيث تجدنا نعصيك، ثمّ نتوقّع أن تُدوّن ـ في مقابل هذه المعصية ـ ثوابًا في صحيفة أعمالنا، وتكتب في هذه الصحيفة بأنّنا لم نعصك بتاتًا! وأمّا إذا أردت أن تأخذ أعمالنا، وتُعيّن طولها وعرضها وعمقها، وتقيسها بالمليمتر، وتستعمل في هذ القياس آلاتٍ تبلغ دقّتها عُشر المليمتر أو جزء بالمائة من المليمتر، فإنّنا نعترف بأنّنا لا نملك هكذا أعمال، وأعمالنا ليست بهذا النحو بتاتًا، ودقّة عملنا لا تبلغ هذا المستوى، بحيث تجدنا نؤدّي الأعمال بأيّ نحوٍ كان، ثمّ نقول: «على بركة الله!»؛ غير أنّ فضلك عظيم، ويستوعب هذه الأعمال. فنحن نتعامل معك بهذا النحو، ونرجو ألاّ تتنزّل معنا إلى هذا المستوى؛ وإلاّ، لو فعلتَ ذلك، وأردتَ أن تتصرّف معنا بهذه الطريقة، لما استطعنا مجاراتك! فأنت أعظم من تُؤاخذني بخطيئتي ومعصيتي، وتقول: «لقد أخطأ فلان وارتكب معصية، فسأعمل على رجّه وزلزلته، ليسقط جرّاء هذه المعصية، وينكسر رأسه، وتحلّ عليه المصائب!»؛ كلاّ، فنحن نقترف الذنوب، فتتغافلُ عنّا بعظمتك، ولا تؤاخذُنا بهذه الذنوب، ولا تُعاملُنا بالمثل!

  • «وَمَا أَنا يَا سَيّدي وَمَا خَطَري»؟! فيا إلهي، ويا سيّدي، ويا مولاي، ما عساي أن أكون؟ وما تكون أعمالي؟ وأيّة عظمة تتّصف بها هذه الأعمال لكي تعمل على قياسها؟!

  • أ فهل أملك أنا أيّة قيمة، حتّى يكون لعملي قيمة، فتأتي حينئذ، وتقيس هذا العمل؟! هذا لا يصحّ بتاتًا! فأنا وعملي أصغر بكثير من هذا الكلام!

  • «هَبني بِفَضلِكَ» يا سيّدي، ويا ربّي، ويا مولاي اعف عنّي بفضلك.

  • (بفضلك) يعني بكرمك الزائد، وليس بعدلك؛ «اللهُمَّ لا تُؤاخذنِي بِعَدلِكَ»، فتُقايسني بعملي، وتُعاملني بحسب هذا العمل؛ ففي هذه الحالة، سيتبيّن أنّ أعمالي باطلة بأجمعها! فالمراد من (بفضلك): برحمتك الزائد؛ أي استوعبني واعف عنّي برحمتك الواسعة.

  • «وَ۱تَصَدَّق عَلَيَّ بِعَفوِكَ»؛

  • «وَ٢جَلِّلني بِسِترِكَ»؛ ألبسني حجاب العصمة والعفّة والحياء، واكسني الحجاب الذي يحفظني من المعاصي، ويصونني من التجرّؤ والجرأة على مقامك المقدّس.

  • فآتني بهذا اللباس من عندك، واكسني إيّاه، لكيلا تظهر قبائح أعمالي!

  • «وَاعفُ عَن تَوبيخي بِكَرَمِ وَجهِكَ»؛ فتجاوز بكرم وجهك وجاهك وسماحتك، وتغاضى عن التوبيخ والتأنيب والعقاب الذي تُريد أن تحلّه بي.

    1. لم ترد الواو في كتاب المصباح، لكنّها وردت في كتاب البلد الأمين، ص ٢۰۸.
    2. لم ترد الواو في كتاب المصباح، لكنّها وردت في كتاب البلد الأمين، ص ٢۰۸.

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

7
  • علّة عدم مؤاخذة الله تعالى لعبده

  • «سَيِّدِي أَنَا الصَّغِيرُ الَّذِي رَبَّيْتَهُ، وأَنَا الْجَاهِلُ الَّذِي عَلَّمْتَهُ، وأَنَا الضَّالُّ الَّذِي هَدَيْتَهُ، وأَنَا الْوَضِيعُ الَّذِي رَفَعْتَهُ، وأَنَا الْخَائِفُ الَّذِي آمَنْتَهُ، وأَنَا الْجَائِعُ الَّذِي أَشْبَعْتَهُ، والْعَطْشَانُ الَّذِي أَرْوَيْتَهُ، والْعَارِي الَّذِي كَسَوْتَهُ، والْفَقِيرُ الَّذِي أَغْنَيْتَهُ، والضَّعِيفُ الَّذِي قَوَّيْتَهُ، والذَّلِيلُ الَّذِي أَعْزَزْتَهُ، والسَّقِيمُ الَّذِي شَفَيْتَهُ، والسَّائِلُ الَّذِي أَعْطَيْتَهُ، والْمُذْنِبُ الَّذِي سَتَرْتَهُ، والْخَاطِئُ الَّذِي أَقَلْتَهُ، وأَنَا الْقَلِيلُ الَّذِي كَثَّرْتَهُ، والْمُسْتَضْعَفُ الَّذِي نَصَرْتَهُ، وأَنَا الطَّرِيدُ الَّذِي آوَيْتَه».

  • إلهي، إن أردت محاسبتي، فسأصف لك نفسي: أنا هو الصغير الذي ربّيته، وأدّبته في ظلّ صفتك الربّانية؛ ولهذا، فإنّ تربيتي تمّت على يديك أنت!

  • ففي البداية، كنتُ في أصل خلقي صغيرًا؛ ومع أنّني كنت صغيرًا ـ سواء حينما كنت طفلاً، أو حينما كنت أصغر من ذلك في رحم أمّي، أو أصغر من ذلك في مرحلة النطفة، أو أينما كنت، لأنّ المهمّ أنّني كنت صغيرًا ـ إلاّ أنّك أخذتَ بيدي في الأطوار والأحوال المختلفة شيئًا فشيئًا، وربّيتني، إلى أن أوصلتني إلى هذا الموضع؛ وبالتالي، فإنّ أصل خلقي منك أنت، وتربيتي منك أنت أيضًا ﴿ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِينٍ﴾۱، ﴿قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ﴾٢؛ أي: أنّه تعالى هو الذي خلق كلّ موجود، ولم يتركه لحاله، بل ربّاه، ونمّاه، وهداه إلى كماله؛ وعليه، فإنّني الصغير الذي ربّيته أنت!

  • «وأَنَا الْجَاهِلُ الَّذِي عَلَّمْتَهُ»؛ فأنا جاهل غارق في الجهل، وأنت الذي علّمتني، ومنحتني هذا العلم الذي وُهبته.

  • فلو صرفتَ نظرك عن هذا العلم، ونظرتَ إليّ، لرأيتَ جهلاً محضًا؛ وحينئذ، بأيّ شيء تُريد أن تؤاخذني؟! هل بهذا العلم الذي وهبتني إيّاه أنت؟! لكنّه ليس ملكي أنا! أو هل تريد مؤاخذتي بالجهل الذي أملكه؟! لكنّ هذا الجهل راجع إلى ذاتي أنا! فبأيّ شيء تُؤاخذني؟! ولماذا تُريد مؤاخذتي بجهلي؟! فهذا الجهل هو لازم لذاتي وإمكاني؛ بل إنّ موجوديّتي في أساسها جهلٌ وعجز، وذلك المعدن الأوّلي لوجودي وخميرتي مؤلّف من الجهل؛ في حين أنّ النورانيّة التي أمتلكها والعلم الذي أتّصف بها منك أنت! فحينما يُضاء المصباح، ويسطع نوره، فإنّ الوجوه تستنير؛ لكن، متى ما أطفئ هذا المصباح، فإنّ الجميع يغرق في الظلام، ولا يُمكن لأيّ أحد أن يتعرّف على ما يوجد إلى جانبه.

    1. سورة السجدة، الآية ۷.
    2. سورة طه، الآية ٥۰.

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

8
  • الله تعالى هو مصدر الهداية والرفعة والأمان

  • «وأنَا الضالُّ الذي هَدَيتَه».

  • فحينما أقول «أنا»، فإنّ هذه الأنا تعني الضالّ والضائع والأعمى والمنغمر في الضلال، حيث يُراد من الضالّ: الذي لا يستطيع العثور على أيّ شيء بتاتًا؛ فهو غارق في الضلال، ولا يتمكّن من تمييز يده اليُمنى عن اليُسرى، ولا يمتلك أيّ إحساس، ولو بمقدار إحساس بعوضة؛ فذهنه أبسط، وإدراكه أقلّ من ذلك. 

  • ولدينا آية قرآنيّة مباركة يُخاطب فيها الله تعالى رسوله بقوله: ﴿أَلَمۡ يَجِدۡكَ يَتِيمًا فَـَٔاوَىٰ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ﴾۱.

  • يقول البعض: «كيف يُمكن أن يكون النبيّ ضالاًّ، ثمّ يهديه الله تعالى؟!»، غير أنّ هذا الخطاب يقع في ذلك المقام، والله تعالى هو الذي يُخاطبه بقوله: ﴿أَلَمۡ يَجِدۡكَ﴾، ﴿وَوَجَدَكَ﴾؛ بمعنى أنّه: حينما يغضّ الإنسان النظر عن تلك الشؤون التي تُفاض على نفسه من الله، فينظر إلى هذه النفس في مقابله تعالى، فإنّه يجدها عين الضلال، ولا شيء غير ذلك! وفي هذه الحالة، فإنّ كلّ ما هو هداية ونورانيّة وعلم وكمال يأتي من الله تعالى، ويرجع إليه؛ وعندئذ، إذا رجع الإنسان مع هذه الأمور، وصار فانيًا، فهنيئًا له! وإلاّ، فسيبقى حبيسًا لفقره وعجزه وضلاله.

  • «وأنَا الضالُّ الذي هَدَيتَه».

  • فلو لم تشأ أن تهديني، لما هديتني؛ كما فعلت مع الملايين من الناس.

  • أ لم نقرأ سابقًا [في الدعاء]: «لاَ تُسأَلُ عَن فِعلِكَ وَلاَ تُنازَعُ في مُلكِكَ»٢.

  • ﴿لَا يُسۡـَٔلُ عَمَّا يَفۡعَلُ وَهُمۡ يُسۡـَٔلُونَ﴾٣؛ فمن الذي بوسعه التحدّث إليك؟! فالإرادة والمشيئة تختصّ بك أنت؛ وإذا كنّا نتحدّث إليك الآن، فلأنّك شئت ذلك؛ وإلاّ، لما قدرنا على الكلام، ولما تمكّنت ألسنتُنا من النطق، ولما جاءت هذه المسائل على بالنا؛ وحتّى لو جاءت، وأُلقيت في ذهن الإنسان، فلن يستوعبها، ولن يُدركها بتاتًا، ولن تسمح له نفسُه أبدًا بمغادرة منزله، والمجيء إلى هنا، بحيث لو هدّموا بيته على رأسه، فإنّ ذلك سيكون أسهل بالنسبة إليه من أن يتقدّم خطوة واحدة إلى الأمام؛ مثلما يحصل مع العديد من الأفراد الذين لا يستطيعون المضيّ قُدُمًا، ولو هُدّمت الجبال على رؤوسهم! فمن الذي أراد ذلك [أي الحركة]؟ هل هم الذين أرادوا ذلك بأنفسهم؟! لو كان الأمر بهذا النحو، لتوجّب على الإنسان أن يذهب إلى منازل هؤلاء ليُقبّلها، ويلثم أعتابها، بسبب امتلاكهم لهكذا قدرة وإرادة؛ فلو كان الإنسان يمتلك مثل هذه القدرة، لكان ذلك أمرًا جيّدًا جدًّا؛ لكنّ المسألة ليست بهذا النحو يا عزيزي، فليس هم الذين أرادوا ذلك!

    1. سورة الضحى، الآيتان ٦ و۷.
    2. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ٥۸٦.
    3. سورة الأنبياء، الآية ٢٣.

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

9
  • فالذي يُريد شيئًا للمؤمن، يُريد عكسه لغير المؤمن؛ ويخضع هذا الأمر لسلسلة من المسائل الدقيقة والأصيلة التي يعجز العقل عن إدراكها، حيث نجد أنّ ما يُقدّره الله العليّ الأعلى للإنسان يتأثّر بكافّة الاختيارات التي قام بها هذا الإنسان، وبجميع المعاصي التي ارتكبها، وبالفطرة التي نشأ منها، وبالعلاقات التي تربطه بمختلف النفوس، وبالأعمال التي أدّاها، وبالأخطاء التي اقترفها، وبمواطن التوبة التي تخلّف عنها؛ ولهذا، نرى في كثير من الأحيان أنّ الإنسان يُحبّ القيام بعمل حسن، لكنّه لا يتمكّن من أدائه، من دون أن يعلم سبب عدم قدرته على فعله!

  • «وأنَا الضالُّ الذي هَدَيتَه».

  • «وَأنَا الوَضيعُ الذي رَفَعتَه»؛ فأنا هو ذلك الإنسان الوضيع والخسيس؛ وأنت الذي أمسكت بيدي، ورفعتني.

  • ﴿وَرَفَعۡنَا لَكَ ذِكۡرَكَ﴾۱؛ «وأذعنا صيتك وشهرتك»؛ فإن كان الله تعالى قد أذاع صيت النبيّ، فهل هذا يعني أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يحتاج إلى هذا الصيت؟! فحينما تسعى النفس نحو الصيت، فإنّ الله لا يهبها إيّاه؛ لكن، متى ما أعرضت عنه، فإنّه تعالى يمنحها إيّاه؛ لأنّ هذا الصيت سيكون حينئذ مختصًّا بالله تعالى؛ وفي هذه الحالة، لن يوجد أيّ إشكال في إعلاء ذكر الإنسان، وإذاعة صيته، بحيث يكون هذا الصيت إلهيًّا لا ينسبه الإنسان إلى نفسه، ولا يُسقطه في العُجب والرياء ﴿وَرَفَعۡنَا لَكَ ذِكۡرَكَ﴾ فالله تعالى هو الذي يقول ذلك لنبيّه.

  • فقد رفعتني، ورفعتني، ورفعتني، إلى أن أوصلتني إلى موضع لا يُدركه العقل! لأنّ الإمام السجّاد عالمٌ بتلك الأحوال التي بينه وبين الله تعالى، وهو مطّلع بنفسه على المقام الذي يتواجد فيه، وعلى الموضع الذي لا يستطيع كافّة أفراد الإنسان أن يثنوه فيه عن هذا المسعى والهدف والفكر والعقيدة، ولو اجتمعوا برمّتهم، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا! وهذا كلّه بِيَدِ مَن؟ بِيَدِ الله تعالى! فلو لم يشأ الله تعالى [رفع الإنسان]، لتمكّن طفل صغير ذي سنتين أو أربع سنوات من خداعه، ولصار هذا الإنسان كافرًا لأدنى شكّ يعرضه؛ فتتسلّل فكرةٌ إلى قلبه، ويُصبح كافرًا، أو تحلّ خاطرة بهذا القلب، فيضحى مسلمًا؛ ومن هنا، نجد أنّ الإنسان وبسبب خاطرة قلبيّة واحدة، يُسيء الظنّ بالله، أو يُحسن الظنّ به تعالى! فحينما ننظر إلى كافّة الناس الذين لا يُؤمنون بالله تعالى، ولا يُمكن إقناعهم بهذا الإيمان، فإنّنا نجد أنّ سبب ذلك يتمثّل في أنّ ذهنهم وفكرهم صار متحجّرًا، وأنّ التنجّز الذي تحكي عنه عبارة «مُتَنَجِّزٌ مَا وَعَدتَ» صار بالنسبة إليهم تعليقًا، بحيث لا ترتقي عقولهم إلى أيّ مقام، بل تجدهم ينتقلون من هذا المكان إلى ذلك المكان وسط العواصف والرياح العاتية والأمطار الغزيرة كالطائر الذي فقد عشّه، إلى أن يحلّ بهم الدمار! لكنّ المسألة ليست بهذا النحو؛ لأنّك أنت الذي رَفعتني؛ مع أنّك لم ترفعني بين الناس؛ إذ لا قيمة لهذا الأمر، بل رفعتني عندك!

    1. سورة الشرح، الآية ٤.

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

10
  • ﴿وَرَفَعۡنَٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾۱، ﴿بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيۡهِ﴾٢، حيث ورد عن نبيّ الله إدريس أنّ الله تعالى رفعه مكانًا عليًّا، وعن نبيّ الله عيسى على نبيّنا وآله وعليهما الصلاة والسلام أنّه تعالى رفعه إليه؛ لكن، أين يوجد الله؟ فمكانه لا يقع أعلى المجرّة، ولا فوق الشمس، بل إنّه تعالى في مقام الوحدة والبساطة وأفق اللاتناهي، بحيث تكون ذاته مهيمنة على كافّة الأسماء والصفات. [يقول الله تعالى:] لقد رفعنا عيسى عليه السلام وارتقينا به إلى ذلك المقام، واحتفظنا به حيًّا عندنا هناك! فهذه هي الرفعة التي وهبها الله تعالى إيّاه.

  • «وَأَنَا الخَائِفُ الذي آمَنتَه».

  • فهذا الأمان الذي أشعر به، وهذه الطمأنينة التي أحسّ بها منك أنت، لا منّي أنا! حيث تواجه الإنسان في كلّ لحظة الملايينُ من الآفات التي لو هيمن التفكير بواحدة منها على الإنسان، لأصيب بسكتة قلبيّة؛ لكنّنا نرى أنّ الأيّام تمضي، من دون أن تخطر على بال هذا الإنسان بتاتًا تلك الآفات والمصائب؛ ولهذا، فإنّه يعيش بكلّ طمأنينة. ففي نهاية المطاف، نجد أنّ الإنسان ينعم بصحّة واحدة، لكنّه يواجه الآلاف من الأمراض؛ أليس كذلك؟! حيث تُلاحق هذه الأمراضُ الإنسانَ من كلّ جانب. فحينما يكون الإنسان حيًّا، تكون له مجموعة من الأفكار والترتيبات الخاصّة، ويتوفّر على حياة خاصّة، ومنهج معيّن، ومبدأ محدّد، ومعاد مشخّص؛ فإذا مات الآن، فإنّ وضعه لن يكون في الغد بهذا النحو، بل سيتهدّم ويتغيّر كلّ شيء فيه؛ غير أنّه لا يُفكّر بتاتًا في الموت غدًا؛ وإلاّ، لو حلّت هذه الفكرة بنفسه، واستقرّت فيها، لما بقي على قيد الحياة حتّى الغد، ولاحتسى نخب المنيّة في نفس الليلة، وانتشى بها، وارتحل!

  • لكنّ الله تعالى يُريد [بقاء] الدنيا أيضًا؛ ولأنّه يريدها أن تظلّ عامرة، فإنّه لا يُرسّخ هذه الفكرة في ذهن الإنسان؛ أي فكرة أنّ هذا الإنسان قد يموت غدًا، بل يعبُر ذلك العنوان على ذهنه فقط، لينام في الليل بكلّ راحة؛ وإلاّ، لما تمكّن الناس من النوم بتاتًا، ولما ظلّوا على قيد الحياة أبدًا، بل سيجري تغيير المستشفيات إلى مصحّات أمراض عقليّة، وتتبدّل لوحاتها، ويُصاب نفس الأطبّاء المعالجين للمرضى بالأمراض النفسانيّة، فيتعيّن تقييدهم بالسلاسل، لكيلا يُقطّعوا الناس إربًا إربًا؛ لأنّهم سيصيرون مجانين! فلو عرف كافّة الناس أنّهم سيموتون غدًا، لماتوا برمّتهم بعد مرور ساعة واحدة؛ ولو لم يقتصر الأمر على موتهم فقط، وظهرت لهم الآثار واللوازم والعقبات ـ سواء الدنيويّة أو الأخرويّة ـ التي ستتحقّق بعد وفاتهم، لكان الأمر عجيبًا جدًّا! لكنّنا غضضنا النظر عن ذلك، ونغضّ النظر عنه، ونمضي. فالإنسان يُواجه في كلّ آن الآلاف من مواطن الخوف والخشية، لكنّك لا تُخطرها على باله، حتّى لا ينتابه الخوف؛ ولهذا، فإنّه يعيش بكلّ أمان، ويمضي!

    1. سورة مريم، الآية ٥۷.
    2. سورة النساء، الآية ۱٥۸.

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

11
  • المعنى الحقيقيّ للجوع والعطش

  • «وَالجَائِعُ الذي أَشبَعتَه».

  • وليس المراد هنا من الجائع: الجائع لفقدانه الخبز ومرق اللحم، بل المراد منه جائع آخر؛ فهذا هو الذي أشبعته، حيث جاء في الروايات: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ؛ فَرْحَةٌ عِنْدَ الإِفْطَارِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ الله»۱.

  • ليلة أمس، كنت جالسًا مع الأطفال، فقلت لهم: ما معنى أنّه لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ؛ فَرْحَةٌ عِنْدَ الإِفْطَارِ؟ فهل معناه أنّه يفرح حينما يرى الحساء بالكَشك٢، أو يخنة الباذنجان؟! هل هذا هو المعنى؟! كلاّ! ففرحة الصائم حين الإفطار ليست بهذا النحو، بل المراد منها: «لقد انقضى يوم واحد، ووفّقتَني يا إلهي لصومه، فتمكّنتُ من القيام بهذا العمل، وإزاحة هذا العبء عن كاهلي، وتجنّبتُ العقاب»؛ وإلاّ، فلا أحد يفرح بالكَشك، لا سيّما إذا كان صائمًا!

  • «(أنا) الجَائِعُ الذي أَشبَعتَه»، لا أنّك أشبعتني بصحن من مرق اللحم، أو يخنة الباذنجان، بل إنّ وجودي في أساسه جوعٌ، حيث يستقرّ هذا الجوع في قعر ذاتي. فلأنّك أوجدتني خليفة لك (أي لله تعالى)، ودعوتني إلى مقامك، لكي أكون مرآة تامّة لجمالك وكمالك في مختلف الأبعاد، وجذبتني إلى هذا المقام، فقد أُوجِد فيّ الجوع؛ هذا، مع أنّ الجائع يبحث [تلقائيًّا] عن الطعام، بحيث ما دام الإنسان لم يشعر بالجوع، فإنّه لا يطلب شيئًا؛ وحينما انتابني هذا الشعور، وصرتُ أطلبكَ، منحتني هذا الأمر، وأشبعتني أيضًا ولله الحمد! «أشبعتَ»؛ ولذلك، فإنّك لم تتركني جائعًا؛ وبالتالي، فإنّ هذا الشبع هو منك أنت أيضًا!

  • «وَالعَطشانُ الذي أَروَيتَه»؛ فأنت الذي رويتني وسقيتني بيدك.

  • فما ألذّ الارتواء بيد الله تعالى! فأحيانًا، قد يرتوي الإنسان عن طريق الماء؛ غير أنّ هذا الماء قد يُصبّ في وعاء متّسخ؛ وحينما ينظر إليه الإنسانُ، يفقد الشعور بالعطش، ويقول: «لقد ارتويتُ يا سيّدي، ولم أعد راغبًا في هذا الماء، وصرفتُ نظري عنه!»؛ لكن، أحيانًا، يُصبّ الماءُ في كأس بلّوري لطيف، ويُضاف إليه الثلج، فيصير باردًا، ويكون الساقي حوريّة من الجنّة يُحيّر جمالُها الجميع، ويصيّرهم سكارى ومذهولين، فتأتي بهذا الكأس وتضعه أمام الإنسان! يقول:

  • به تـیغم گـر کشـد دسـتش نگیـرم***و گــر تیــرم زنــد منّــت پــذیرم
    1. بحار الأنوار، ج ٩٣، ص ٢٤۸؛ الكافي، ج ٤، ص ٦٥، باختلاف يسير.
    2. الكَشك من منتوجات الحليب التي تُصنع في إيران وأفغانستان من اللبن الرائب. المعرّب

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

12
  • کمــان ابرویــت را گــو مــزن ۱تیــر***...
  • [يقول: لو جاء يقتلني بسيفه، فلن أُمسك بيده؛ ولو رماني بسهامه، فسأكون ممتنًّا له

  • فقل لحبيبنا الذي حواجبه بالقوس أشبه: لاترمني بسهامك ...]

  • فلا يتطلّب الأمر أن ترميني بسهامك لكي تقتلني،

  • ...***که پیش دسـت و بازویـت بمیـرم٢
  • [يقول: ...لأنّني سأتهاوى ميّتًا بين أذرعك]

  • معنى تردّد الله تعالى في قبض روح المؤمن

  • توجد رواية تتحدّث عن المؤمن حينما يُشرف على الموت، فيأتي عزرائيل لقبض روحه؛ ويكون هذا المؤمن متعلّقًا قليلاً بالدنيا و...؛ لأنّه يُحبّ ولده، وله نوعُ تعلّقٍ بحياته، كما أنّ له أنس وألفة بالأشياء التي كدّ لأجلها، والكتب التي ألّفها، والأمور التي تعب في سبيلها؛ وقد قام بمجموعة من الأعمال، فيكون له توجّه إلى هذا العالم؛ وهذه الرواية عجيبة جدًّا، ذكرها المرحوم الكلينيّ في الكافي٣، ونقلها أيضًا أحمد بن محمد بن خالد البرقي في كتاب المحاسن ـ وهو كتاب معتبر جدًّا ـ عن مشايخ الكلينيّ، كما يرويها الشيخ الطوسيّ في الأمالي، حيث نُقلت هذه الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام٤، وكذلك عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم٥، وجاء فيها: يقول الله تعالى: «ما تردَّدتُ في شيءٍ كَتَرَدُّدِي عِندَ قَبضِ روحِ عبدي المؤمِن يَكرهُ الموتَ وأنا أَكرَهُ مَسَاءَتَهُ»٦.

  • يقول الله تعالى: لا يوجد أيّ موضوع من الموضوعات أو شيء من الأشياء تردّدت فيه، وتأمّلتُ بشأنه، بل إنّني أبثّ في كلّ أعمالي مباشرةً وبشكل حاسم، من دون تأمّل أو تردّد أو تريّث؛ اللهمّ في موضع واحد؛ وهو حينما أريد أن أقبض روحي عبدي المؤمن، ولا يكون راغبًا في الموت؛ فهنا فقط، أتريّث؛ لأنّني أريد قبض روحه، فيثقل عليه هذا الأمر، ولا أرغب في إيذاءه «وَأَنا أكرَهُ مَسَاءَته»، ولا إزعاجه!.

  • التفتوا جيّدًا، لأنّ هذه العبارة تحتوي على أمور دقيقة جمّة؛ فالذات الإلهيّة المقدّسة لا يوجد فيها أيّ تريّث، غاية الأمر أنّ هذا الفعل الإلهيّ يتحقّق في مقام الأسماء عن طريق الملائكة؛ والتي يكون لها تريّث في ذلك المقام؛ وأمّا على مستوى الذات الإلهيّة، فلا يوجد أيّ تأمّل أو تريّث.

    1. ديوان حافظ، الغزل ٣٢۱، الهامش.
    2. المصدرالسابق، الغزل ٣٢۱.
    3. الكافي، ج ٢، ص ٢٤٦ و٣٥٢.
    4. المحاسن، ج ۱، ص ۱٥٩ و۱٦۰.
    5. المصدر نفسه، ج ۱، ص ٢٩۱.
    6. الأمالي، الشيخ الطوسي، ص ٤۱٤:
      «أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: .... قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ ضَوْءٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "مَا مِنْ شَيْ‌ءٍ أَتَرَدَّدُ فِيهِ مِثْلَ تَرَدُّدِي عِنْدَ قَبْضِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ؛ فَإِذَا حَضَرَهُ أَجَلُهُ الَّذِي لَا تَأْخِيرَ فِيهِ، بَعَثْنَا إِلَيْهِ بِرَيْحَانَتَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ تُسَمَّى إِحْدَاهُمَا الْمُسْخِيَةَ والْأُخْرَى الْمُنْسِيَةَ، فَأَمَّا الْمُسْخِيَةُ فَتُسْخِيهِ عَنْ مَالِهِ، وأَمَّا الْمُنْسِيَةُ فَتُنْسِيهِ أَمْرَ الدُّنْيَا"».

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

13
  • وهنا، نجد أنّ هذه الرواية تتألّف من قسمين؛ فمن جهة، يُريد الله قبض روحه عبده؛ لأنّ من مصلحته أن يرحل، ولا يُمكنه البقاء؛ ومن جهة أخرى، فإنّه تعالى لا يُحبّ الإساءة إلى هذا العبد وإيذاءه.

  • وقد شاهدتم أنّ الإنسان قد يقف حقيقةً حائرًا بين هذين الأمرين؛ فمن ناحية، نجده يرغب في إيصال منفعة إلى رفيقه، لكنّ هذا الرفيق لا يتحمّل ذلك، بحيث إذا وصلته هذه المنفعة، فإنّه يستاء وينزعج؛ فلا يُحبّ ذلك الإنسانُ إزعاجَه؛ وحينئذ، فإنّه يظلّ محتارًا بين هذين المحظورين، ولا يعلم ما الذي يُمكنه فعله؛ فإذا أوصل إليه تلك المنفعة، فإنّه لا يراها كذلك، بل يراها مضرّة، فيستاء؛ هذا، مع أنّها خير، وينبغي إيصالها إليه! وهنا، يصير الأمر صعبًا جدًّا، ومعقّدًا للغاية! فماذا بوسع الإنسان أن يفعل؟! لا يعلم! وما الذي يُمكن لله تعالى أن يفعله؟ علينا أن ننظر إلى الروايات.

  • فقد جاء في إحدى الروايات «أنّ الله تعالى يُعطي ملك الموت غصنين من الزهور ذواتي عطر فوّاح: "ريحانتين"؛ الأولى اسمها المـُسخية، والثانية اسمها المـُنسية؛ فيأتي بهما ملك الموت، ويُقدّمهما للمؤمن»۱.

  • فكلمة المـُسخية أصلها السخاء؛ ممّا يعني أنّه حينما تقع هذه الريحانة في يد الإنسان، فإنّه يسخى بكلّ ما يملك، ويهبه. وأمّا المـُنسية، فأصلها النسيان؛ أي أنّها توقع الإنسان في النسيان. فليس فقط أنّ هاتين الزهرتين تتّصفان بالطراوة، لنقول عنهما إنّهما جميلتان وحسب، بل إنّهما عَطِرتان أيضًا؛ لأنّ الريحانة تعني الزهرة العطِرة؛ ومن أين أتت هاتان الريحانتان؟ جاءتا من عند الله تعالى؛ فهما زهرتان تفوحان بالعطر الإلهيّ! فإذا كانت الزهور العادية تُسكر الإنسان حقيقةً في بعض الأحيان، فما الذي ستفعله الزهرة التي تفوح بالعطر الإلهيّ؟! ماذا؟

  • فيقع غصن الريحانة التي تُسمّى بالمـُسخية في يد هذا المؤمن، فتُصيبه بالدوار، فيتخلّى عن كافّة ما يملك من مال وغيره؛ إذ ما إن تصل رائحتها إلى مشامّه، حتّى تُمحى من باله كلّ خاطرة عن المال وغيره.

  • كما أنّ الريحانة التي تُسمّى بالمـُنسية تفوح أيضًا بالعطر الإلهيّ؛ لأنّها جاءت من عنده تعالى؛ فما إن تصل رائحتها إلى مشامّ ذلك المؤمن، حتّى ينسى كلّ شيء، ولا يبقى في باله أيّ شيء، بتاتًا٢!

    1. الأمالي، الشيخ الطوسي، ص ٤۱٤.
    2. الأمالي، الشيخ الطوسي، ص ٤۱٤. 

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

14
  • ولدينا رواية أخرى جاء فيها أنّ الله تعالى يُرسل ريحين۱، حيث يُراد من الريح النسيم؛ فيأتي نسيمان عليلان من ناحية الحقّ.

  • اى صبا نكهتى از منزل آن٢ يار بيار!***...٣
  • [يقول: يا ريح الصبا، ائتني بنكهة من منزل ذلك الحبيب]

  • ويُراد من النكهة الرائحة العطِرة، ورائحة الفم الطيّبة. «ای صبا نکهتی از منزل آن یار بیاور» يعني: يا ريح الصبا، هُبّي، وأحضري تلك النسائم التي تفوح من الجزر الخالدات، فترحل بالإنسان، وتُخلّده هناك، لا أنّها تطرده؛ فتعالي بتلك النسائم! حيث إنّ تلك الرائحتين وذلك العطرين يُرافقان هذه النسائم.

  • فتهبّ ريحان من جانب الله تعالى؛ إحداهما تُسمّى بالمـُسخية، والثانية بالمـُنسية، وتصلان إلى مشامّ هذا المؤمن، فينسى كلّ شيء.

  • وحينئذ، ما الذي سيعنيه قبض الروح؟! فلن يكون هناك أيّ أذى أو إزعاج، ولن يحدث أيّ قبض للروح! فينسى [المؤمن] نفسه تلقائيًّا، ليجد أنّه صار في ذلك العالم؛ فلا يتحقّق هنا أيّ قبض للروح، كما لا يحصل لهذا المؤمن أيّ أذى؛ إذ سيحصل له أذى إن كان له وجودٌ يُراد قبضه. فحينما تهبّ تلكما الريحين، أو تقع تلكما الريحانتين في يد الإنسان، فإنّه يسكر بنحو تلقائيّ، ويرحل٤.

  • «وَالجَائِعُ الذي أَشبَعتَه، وَالعَطشانُ الذي أَروَيتَه»؛

  • الغنى بالله تعالى لا بالمال

  • «وَالعاري الذي كَسَوتَه؛ وَالفَقيرُ الذي أَغنَيتَه».

  • فما هي حقيقة ذاتي؟! إنّها فقر! فكلّ غنى نتّصف به... لكن، إذا تحدّثنا عن الغنى، فلا ينبغي أن تنصرف أذهانكم مباشرةً إلى المال؛ لأنّ بعض الأموال تُفقر الإنسان أكثر؛ فالمراد من الغنى هنا الغنى بالله تعالى؛ أي أنّ غناك شمل حالنا، فلم نعُد محتاجين!

  • «وَالضعيفُ الذي قَوّيتَه»

  • أ فهل نحن ضعفاء أم لا؟! فما عسانا أن نكون؟! فإذا قام الإنسان بدراسة المرحلة التي يقطعها الجنين في بطن أمّه، والكتب التي ألّفت في هذا المجال ـ مع أنّ الكتب المفصّلة منها ... ـ ، لاعتراه الجنون من هذه الحقائق؛ فالجنين موجود ضعيف؛ ولهذا، نجدهم يُشرّعون قانون الإجهاض؛ وذلك لأنّ حكمهم يجري على الضعيف. فبما أنّ هذا المسكين لا يتمكّن في بطن أمّه من الكلام والسمع، ولا يستطيع الدفاع عن نفسه، كما أنّ هؤلاء لم يجدوا من هو أضعف منه، فإنّهم يقولون: فلنُلقِ بجميع هذه الأجنّة في وادي الهلاك!

    1. الكافي، ج ٣، ص ۱٢۷:
      «أَبُو عَلِيٍّ الْأَشْعَرِيُّ... قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْيَقْظَانِ عَمَّارٌ الْأَسَدِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم: "لَوْ أَنَّ مُؤْمِنًا أَقْسَمَ عَلَى رَبِّهِ أَنْ لَا يُمِيتَهُ مَا أَمَاتَهُ أَبَدًا؛ ولَكِنْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ، أَوْ إِذَا حَضَرَ أَجَلُهُ، بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ إِلَيْهِ رِيحَيْنِ رِيحًا يُقَالُ لَهَا الْمُنْسِيَةُ ورِيحًا يُقَالُ لَهَا الْمُسَخِّيَةُ؛ فَأَمَّا الْمُنْسِيَةُ فَإِنَّهَا تُنْسِيهِ أَهْلَهُ ومَالَهُ، وأَمَّا الْمُسَخِّيَةُ فَإِنَّهَا تُسَخِّي نَفْسَهُ عَنِ الدُّنْيَا حَتَّى يَخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ"».
    2. خ ل: خاك ره [أي تراب الطريق]
    3. ديوان حافظ، الغزل ۱۱۷.
    4. لمزيد من الاطّلاع على هذه المسألة، راجع: معرفة المعاد، ج ٢، ص ٢۱ ـ ٢٩.

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

15
  • فكلّ إنسان كان بهذا النحو، ونحن أيضًا كنّا كذلك؛ ولهذا، فإنّ جميع الذين يقولون بجواز الإجهاض وإسقاط الجنين كان يجوز إسقاطهم في فترتهم الجنينيّة؛ لأنّهم كانوا أيضًا أجنّة! فلو جرى إسقاطنا حينما كنّا أجنّة، لما وُجدنا الآن؛ ولهذا، فإنّ جميع أفراد العالم قَطَعوا المرحلة الجنينيّة، وصاروا بهذا الشكل؛ وبالتالي، فإنّ الحكم بجواز إسقاط الجنين يُضاهي الحكم بقتل العالم بأجمعه:۱ ﴿مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٍ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعًا﴾٢.

  • «وَالذليلُ الذي أَعزَزتَه؛ ومنحته العزّة».

  • «وَالسقِيمُ الذي شَفَيتَه»؛

  • «وَالسائِلُ الذي أَعطَيتَه»؛ فأنا المستجدي والسائل الذي رحمته، ووهبته شيئًا.

  • «وَالمـُذنِبُ الذي سَتَرتَه»؛ وأنا العاصي الذي غطّيته، ووضعت ستارًا على معصيته

  • «وَالخَاطِئُ الذي أَقَلتَه».

  • فلم تدعني أسقط جرّاء هذا الخطأ؛ فالإقالة تعني الحفظ [من السقوط] عند الزلّة، والتي تعني العثرة. فأنا الخاطئ الذي حفظته، ولم تدعه يسقط على وجهه بسبب خطيئته.

  • «وَأَنا القَليلُ الذي كَثَّرتَه»؛

  • «وَالمـُستضعَفُ الذي نَصَرتَه»؛ فأنا المستضعف الذي وقع تحت سيطرة أناس أقوياء وحكومات قويّة وأفكار قويّة؛ وباختصار، فإنّني كنت خاضعًا من جميع الجهات لسلطة الأقوياء الذين استذلّوني؛ فنصرتَني، وخلَّصتني من الاستضعاف.

  • «وَأَنا الطرِيدُ الذي آوَيتَه»؛ فأنا الإنسان الذي كنت مُستبعدًا وطريدًا وشريدًا، فمنحتني مأوى، وأدخلتني إلى حرمك».

  • فإذا كنتَ أنت الذي قمتَ بكلّ هذه الأفعال، وأوصلتني إلى هذا المستوى، أ من الممكن أن تتخلّى عنّي بهذا النحو؟! أم لا؛ لأنّه مرّة أخرى: «إِنَّ لَنَا فيكَ أَمَلاً طَويلاً»٣؛ أي أنّنا نملك تجاهك مجموعة من الآمال.

  • الله تعالى الذي خلق كلّ شيء لأجل الإنسان لا يتخلّى عنه

  • فلقد هيّأتَ جميع هذه المقدّمات، ومهّدت العالم والسماوات والأرض والشمس والأفلاك، لكي توصلنا إلى هذه المرحلة؛ ولهذا، فإنّ لنا ـ من هذه المرحلة فصاعدًا ـ شغلٌ معك، وليس من شأنك أن تتخلّى وتُعرض عنّا!

  • ابر و باد و مه و خورشید و فلک در کارند***تا تو نانی به کف آری و به غفلـت نخـوری
  • این همه بهـر تـو سرگشـته و فرمـانبردار***شرط انصاف نباشد کـه تـو فرمـان نبـری٤
  • [يقول: إنّ السّحاب والرياح والقمر والشمس والفلك تعمل وتكدّ، حتّى تحصل أيّها الإنسان على خبزك ورزقك فلا تأكله وأنت غافل.

    1. لمزيد من الاطّلاع على حرمة الإجهاض في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة، راجع: الرسالة النكاحيّة، ص ۱۸.
    2. سورة المائدة، الآية ٣٢.
    3. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ٥۸٩: «يَا رَبِّ إنَّ لَنَا فيكَ أَملاً طَويلاً كَثيرًا».
    4. كلستان (روضة الورد) لسعدي، المقدّمة.

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

16
  • هي كلّها منقادةٌ ومطيعةٌ من أجلك، فليس من الإنصاف أن لا تنقاد أنت وتطيع أوامر الله].

  • فإذا أراد الإنسان أن يتحدّث عن الأحوال التي يتحقّق بها والمراتب التي يحصل عليه بكلّ دقّة، ومن وجهة نظر فلسفيّة، واعتمادًا على البراهين العقليّة؛ وأراد أيضًا أن يدرسها رياضيًّا، استنادًا إلى المعادلات الرياضيّة الدقيقة، فإنّه سيكتشف أنّ للمجرّة التي خلقها الله العليّ الأعلى قبل ثلاثين مليون سنة دخالةٌ في نَفَس واحد من أنفاسنا؛ فجميع هذه الأجهزة والأنظمة مرتبطة ببعضها، بحيث يكون كلّ واحد منها دخيلاً في التحقّق والوجود؛ فإذا فسد أحدها، أو هلك، أو غيّر مساره، فإنّ العالم سينهار! وعليه، فإنّ هذه الأنظمة مخلوقة لأجلنا نحن، ولأجل كمالنا؛ فإذا أغدقتَ علينا مالاً، فلأجل مصلحتنا؛ وإذا منحتنا علمًا، فلأجل منفعتنا؛ وإذا أعطيتنا قدرة، فلأجل صلاحنا؛ وإن وهبتنا عمرًا، فلأجل كمالنا؛ وفي هذه الحالة، إذا ارتكبنا معصيةً، واعتَرَتنا غفلةٌ، فهل ستطردنا؟! وهل سترفضنا تمامًا؟! لا يصحّ هذا!

  • «إِنَّ لَنَا فيكَ أَمَلاً طَويلاً»؛ فحينما يصل الأمر إليك، نجد أنّ رغباتنا كثيرة جدًّا، وشهيّتنا كبيرة للغاية؛ فأنت خلقتنا جوعى وعطشى، وجعلت ذاتَنا عطشانة؛ مع أنّ العطشان يحتاج إلى الماء، والجائع يفتقر إلى الطعام؛ وحينئذ، من أين سنأتي بالماء؟! هل من بيت خالتنا؟! فخالتنا هي أيضًا مسكينة مثلنا؛ ومهما طرقنا بابها، فإنّها ستقول: «لقد جفّ بئرنا!»؛ فمن أين سنحصل على الماء والخبز؟ من بيت عمّتنا؟! فمهما طرقنا بابها، فإنّها ستقول: «لا يوجد في بيتنا ولو قطعة خبز يابسة، فلا يُمكنكم العثور فيه على أيّ شيء!»؛ فهي مسكينة مثلنا؛ وأنت هو رازقنا، وأنت الذي تمنحنا الماء والخبز والطعام؛ فلا تقطع عنّا هذا المقدار من الطعام الذي وهبتنا إيّاها حتّى الآن! ونحن نعلم بأنّك لا تقطعه عنّا؛ لكنّ شهّيتنا مرتفعة، فأطعمنا بمقدار هذه الشهيّة. وصحيح أنّ هذه الشهيّة كبيرة جدًّا ولا مثيل لها في العالم بأجمعه، لكن، ما هو شأننا بذلك؟! فأنت رزّاق، ولا يهمّنا من أين ستأتي بهذا الرزق! فأنت رازق، ويقع رزقنا في عهدتك أنت؛ ونحن غير مكلّفين بالتحقيق عن المصدر الذي تأتي منه بهذا الرزق! فعليك أن تهبنا الرزق الذي نطلبه، ولا علم لنا بأيّ شيء، اللهمّ إلاّ تطلّعُنا إلى فضلك الواسع وحلمك العظيم؛ فرجاؤنا وأملنا متعلّق بـ: «مُتَنَجِّزٌ۱ مَا وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بِكَ ظَنًّا»٢.

    1. خ ل: منتجزٌ.
    2. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ٥۸۸.

عظمة الحلم الإلهيّ - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية عشرة

17
  • لقد ألقينا بحملنا هنا، وعليك أن تمنحنا أرزاقنا! [وإن قلت:] لا تتوفّروا على الأهليّة اللازمة، وهذه الأرزاق مختصّة بالأنبياء والرسل، ولا يظفر بها أيّ واحد كيفما كان؛ فما عساكم أن تكونوا؟! فإنّنا سنقول: لا نفقه شيئًا من هذا الكلام، ونحن لم نطلبها من أنفسنا، أو من موجودنا مثلنا، بل طلبناها منك أنت؛ فهل تقدر على إعطائها أم لا؟! فإن قلت: «لا أقدر»، فإنّ الأمر سيكون مشكلاً؛ وإن قلت: «أقدر»، فهذا الذي نُريده؛ فتعال، وامنحنا!

  • الليلة هي ليلة الثامن عشر من شهر رمضان المبارك؛ وليلة الغد هي ليلة إحياء؛ فندعوك أن تُنعش المساكين، وتتحنّن عليهم؛ فقد أدّوا الصيام كلّ هذه الأيّام، وأحيوا الليالي لأجلك، وكلّ واحد منهم قام بعمل معيّن، فلا تحرمهم من فضلك!

  • نرجو من الله ألاّ يجعلنا إن شاء تعالى من المحرومين!

  •  

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد