المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء أبي حمزة
التاريخ 1398/09/09
التوضيح
في هذه المحاضرة التي عقدها سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة لشرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ، سعى بدايةً إلى بيان السرّ في عدم إمكانيّة اعتماد الإنسان على أعماله، ثمّ تحدّث عن حقيقة الإحسان الإلهيّ الذي يتوجّب على الإنسان الاتّكال عليه، وبيّن أنّ المجاز هو قنطرة للوصول الحقيقة، مشيرًا إلى دور التعاليم الشرعيّة في وصول الإنسان إلى المقامات العالية، ثمّ تكلّم عن مقدار سعة الرحمة الإلهيّة في مقابل أعمال الإنسان السيّئة، مبيّنًا في ضمن ذلك كيف يُربّي الله تعالى الإنسان بواسطة يدي جماله وجلاله؛ ليخلص في الأخير إلى أنّ اليأس رأس جميع الذنوب.
هو العليم
الدعاء بين المجاز والحقيقة
شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ
بِسمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيمِ
و صَلَّى اللَهُ عَلَى محمَّد وآلِهِ الطّاهِرينَ
وَلَعنَةُ اللَهِ عَلَى أَعدَائِهِم أَجمَعينَ
مِنَ الآنَ إِلَى قيامِ يومِ الدّين
السرّ في عدم إمكانيّة اعتماد الإنسان على أعماله
«لَستُ أتَّكلُ فِي النَّجَاةِ مِن عِقَابِك عَلَي أعمَالِنَا، بَل بِفَضلِك عَلَينَا؛ لِأنَّك أهلُ التَّقوَى وَأهلُ المَغفِرَة، تُبدِئ بِالإحسَانِ نِعَمًا، وَتَعفُو عَنِ الذَّنبِ كرَمًا؛ فَمَا نَدرِي مَا نَشكرُ أَجَمِيلَ مَا تَنشُرُ، أم قَبِيحَ مَا تَستُر، أم عَظِيم مَا أبلَيتَ وَأَولَيتَ، أم كثِيرَ مَا مِنهُ نَجَّيتَ وَعَافَيتَ؟»
أحيانًا، يعتمد الإنسان من أجل نجاته على الأعمال التي يأتي بها؛ وفي هذه الحالة، علينا أن نرى هل هذا الاعتماد والاتّكال صحيح أم لا؟
فأوّلاً، وبغضّ النظر عن الأعمال السيّئة، فإنَّ جميع الأعمال الصالحة التي يأتي بها الإنسان إنّما تتمّ بتوفيق من الله؛ ولولا إرادته تعالى، لما تمكّن هذا الإنسان من القيام بأيّ عمل من أعمال الخير؛ وبالتالي، إن توفّق الإنسان للإتيان بعمل الخير، فإنّ ذلك يرجع إلى الإحسان الإلهيّ الذي غمره.
وعلاوةً على كلّ ذلك، لو فرضنا أنَّ الإنسان هو الذي قام بجميع تلك الأعمال الصالحة، فإنّه لن يكون قد أتى بذلك المستوى من العمل الذي يليق بساحة القدس الإلهيّ، ولن يكون قد أدّى ـ في مقام العبوديّة ـ ذلك المقدار من العمل الذي يتناسب مع مقام ربوبيّته تعالى؛ ولهذا، نرى بأنَّ جميع النفوس تشعر هنا في داخلها بالخجل؛ وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدلُّ على عدم التمكّن من أداء الحقّ الإلهي كما يجب وينبغي، وبأنّ الناس لا يتمكّنون من الإتيان بهذا الحق، وإلاّ لما تحقّق بينهم هكذا انكسار.
وإضافة إلى ذلك، فإنَّ الإنسان يأتي بأعمال سيّئة أيضًا إلى جانب تلك الأعمال الحسنة؛ فإن أراد الله العليّ الأعلى مؤاخذته على واحدة من هذه الأعمال السيّئة، فبأيّ دليل وبرهان يستطيع الإنسان الاحتجاج على الله، والقول: إنّك لا تملك هذا الحقّ؟! بل:
«لَك الحُجَّةُ عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذَلِك، ولَا حُجَّةَ لِي فِي مَا جَرَى عَلَيّ فِيهِ قَضَاؤُك، وألزَمَنِي حُكمُك وبَلَاؤُك»۱.
فالله تعالى هو الذي يُقيم الحجّة على الإنسان، ويقول: أنا الإله، وأنا القادر والعالم والمحيط والحيّ، وقد أمرتك وأنت عبدي، فلماذا خالفت أمري؟! كما أنّ هذه المخالفة لم تكن عن اضطرار وإجبار، بحيث سُلبت منك إرادتك، بل خالفتني بمحض هذه الإرادة. فلو أراد الله تعالى أن يتغاضى عن جميع الأعمال الحسنة التي أتى بها الإنسان، ويُعاقبه على سيّئة واحدة من سيّئاته، لما ارتكب عملاً خاطئًا، بل سيكون قد عامله بعدله؛ لأنّ جميع تلك الأعمال الحسنة لن تصل إلى مستوى ما يستحقّه تعالى، بل وعن أيّ أعمال حسنة نتحدّث هنا؟! هذا، مع أنّه اقترف مجموعة من السيّئات التي لا يستطيع الدفاع عن واحدة منها، ولا يقدر على تبريرها في محكمة العدل والمؤاخذة الإلهيّين؛ وحينئذ، من سيتمكّن ـ والحال هذه ـ من الاعتماد على عمله؟!
فالأدعية التي كان الأئمّة عليهم السلام يقرؤونها، وهم يبكون ويتضرّعون ويُناجون الله تعالى بقولهم: «أنا كذا، أنا الضعيف، أنا المذنب، أنا المستحقّ للعقاب، وإنّ كرمك هو الذي أخذ بيدي» لم تكن في مقام التعليم والتربية، وليس من أجل تعليم الآخرين هذا الأمر، ولا من باب التصنّع، بل إنّ مقتضى حالهم كان بهذا النحو، ووضعهم الحقيقيّ كان على هذه الشاكلة؛ وذلك لأنَّه كلّما ازداد علم الإنسان ومعرفته، انكشفت له قدرة الله وعظمته بشكل أكبر، وازدادت معرفته بعدمه واضمحلاله؛ وبالتالي، فإنّ حالهم هو الذي كان يقتضي هذا المعنى، ولم يكن أمرًا مغايرًا للواقع، وذلك بأن يظهر عليهم ما يُخالف هذا الواقع ونفس الأمر، بل كان ذلك هو حالهم الفعليّ؛ إذ إنَّ مقام العبوديّة يُحتّم عليهم الشعور بالخجل في أنفسهم؛ ولو لم يشعروا بهذا الخجل، لكان ذلك مخالفًا لمقتضيات ذلك المقام۱.
في إحدى خطب عيد الأضحى، ألقى أمير المؤمنين خطبة طويلة جدًّا نقلها المرحوم الشيخ الصدوق في كتابه "من لا يحضره الفقيه"، وصاحب الجواهر في كتابه "الجواهر" في باب صلوات العيدين، وقال فيها عليه السّلام:
«فَوَ اللَّهِ لَو حَنَنتُم حَنِينَ الوَالِهِ العَجلَان، ودَعَوتُم بِمِثلِ دُعَاءِ الأَنَامِ، وجَأَرتُم جُؤَارَ مُتَبَتِّلِي الرُّهبَان...» (والكلام مفصّل جدًّا) ٢
أقسم بالله، لو صرختم وضججتم كالمساكين المتحسّرين الذين ليست لهم حيلة، وصِحتم كالثكلى بولدها، وارتفعت أصواتكم بالأنين المـُحرق للقلوب، وبكيتم طيلة أعماركم، جالسين على التراب، و...، وسألتم الله أن يغفر لكم ذنبًا واحدًا من ذنوبكم، لما كنتم مستحقّين لذلك مقابل هذه الأعمال.
«ولَكن بِرَحمَتِه تُرحَمُون»٣؛ فرحمة الله تعالى هي التي تأتي، وتغمر الجميع، وتتغاضى عن الذنوب، وتغفرها، وتذهب بها.
وفي هذه الحالة، لو كان الأمر حقيقةً بهذا النحو، وكان الإنسان طيلة حياته في حال بكاء وأنين من أجل محو سيّئة من سيّئاته، هل يُمكنه أن يعتبر في قرارة نفسه وذاته أنّه مستحقّ بسبب هذا الأمر للثواب والمغفرة والجنّة؟! كلاّ! من الذي أعطاه هذا الحقّ؟ ومن الذي منحه إيّاه؟ أليس الله هو الذي منَّ عليه بذلك؟! فالله تعالى هو الربّ، وهو مالك الملك، ولا يتجرّأ أحدٌ على مخالفته في مقام ربوبيّته؛ غير أنّ رحمته عامّة، فتأتي هذه الرحمة، وتغمر الجميع، وتغفر لهم وتشملهم؛ «ولَكن بِرَحمَتِه تُرحَمُون».
وهذا هو نفس مضمون دعاء الإمام السجّاد عليه السّلام حين يقول:
«لَستُ أتَّكلُ فِي النَّجَاةِ مِن عِقَابِك عَلَى أعمَالِنَا»؛
فأيّ عملٍ هذا [يُمكن أن يتكّل عليه الإنسان]؟! ألم يقل عليه السلام: «ومَا أنَا يا رَبِّ ومَا خَطَرِي»۱؛أي: من أكون أنا في الأساس، وماذا يكون عملي؟!.
حقيقة الإحسان الإلهيّ الذي يتوجّب على الإنسان الاتّكال عليه
«بَل بِفَضلِك عَلَينَا»؛ فأنا أتّكل على فضلك علينا؛ فأنت الذي تتفضّل علينا، وتمنّ علينا، وتُحسن إلينا؛ وأنا أتّكل على إحسانك أنت.
فهنا موضع الاتّكال؛ لماذا؟
«لِأنَّك أهلُ التَّقوَى وَأهلُ المـَغفِرَة»؛
فأنت لست من أهل الانتقام، بحيث تلجأ إلى بتعذيب عبادك بسبب البخل والطمع وتشفّي النفس والجشع والحرص المكنون في ذاتك؛ فهذا ليس من شأنك؛ وإن عذّبت أحدًا، فذلك إنَّما يكون من أجل تربيته وتهذيبه، وإلاّ، فإنَّ مقتضى ذاتك التقوى والمغفرة.
«تُبدِئُ بِالإحسَانِ نِعَمًا وَتَعفُو عَنِ الذَّنبِ كَرَمًا»؛ وفي الأساس، فإنّ فعلك وعادتك هو أن تفيض النعم دائمًا بواسطة إحسانك الابتدائيّ.
ذلك هو الإحسان الابتدائيّ، لا الإحسان الثانويّ الذي يكون باعتبار أصل الجزاء والثواب؛ فقد تُعطي أحمالاً إلى حمّال، وتقول له: احملها، واذهب بها إلى دكّاني، وهذا هو أجرك وإكراميّتك؛ فهذا العطاء يكون مقابل العمل الذي أدّاه؛ لكن، أحيانًا، قد تنادي على حمّال مارّ في طريقه، وتُعطيه عشرة أضعاف الأجر الذي تدفعه مقابل نقل الأحمال، من دون أن تطلب منه نقل أيّ شيء لك؛ فتقول له: خذ هذا المبلغ، واذهب مع السلامة! ؛ فهذا هو معنى القول:
«تُبدِئُ بِالإحسَانِ نِعَمًا» (وليس نعمة واحدة).
فما هي النعم التي منَّ الله بها عليك؟ إنَّه أصل الوجود، والذي يُعدّ مصدر جميع الحسنات التي تصدر عن الإنسان؛ فلولا وجود الإنسان، هل يُمكن أن يظهر منه أيّ عمل صالح، أو علم، أو قدرة، أو حياة أو أيّ شيء آخر؟! وبالتالي، فإنّ أصل إيجاد الإنسان من العدم هي نعمة من نِعم الله، بل هي أكبر نعمة، ثمّ تأتي على إثره بقيّة النعم الأخرى؛ وهي نعمة ابتدائيّة. هذا، مع أنّه في الموارد التي يُوفّق فيها الإنسان لعمل الخير، فإنّه ما دام لم يصدر إحسانٌ من الله تعالى، فلن يندفع هذا الإنسان للقيام بأيّ فعل صالح؛ فلولا التوفيق، لما حصل ذلك أبدًا!
وصحيح أنّ الإنسان يمتلك إرادة واختيارًا [في أفعاله]، غير أنَّ التوفيق من الله؛ مثلما أنّ الخذلان يكون منه تعالى أيضًا.
فلو فرضنا أنَّك تريد الذهاب إلى المسجد للصلاة؛ فإنّ ذهابك هذا يكون بإرادتك، ولم يُجبرك أيّ أحد على هذا الفعل؛ غير أنَّه لا بدَّ من تظافر مجموعة من العوامل لكي تستطيع الذهاب؛ فعندما تعزم على الذهاب، ينبغي ألاّ تكون مريضًا أو تعبًا أو مصابًا بالصداع؛ وحينما تنهض لكي تتوضّأ، يجب أن يكون الماء البارد موجودًا في الحوض، فتتوضّأ؛ ثمّ تكون المصابيح مضاءة، فتعثر على حذائك، وترتدي ثيابك، وتذهب إلى المسجد وحالك مناسبة للعبادة. ففي هذه الحالة، أنت الذي اخترت [الذهاب للمسجد]، غير أنَّ مستلزمات الذهاب قد تهيّأت لك باستمرار الواحدة تلو الأخرى، وتآزرت، حتّى أوصلتك إلى الهدف المنشود.
وأحيانًا أخرى، قد تكون لك رغبة في العبادة؛ لكنّ العوائق تأتي باستمرار الواحدة تلو الأخرى؛ كأن تشعر بالدوار، أو ألم المعدة، أو ينتابك التعب والفتور؛ فيذهب المرء لكي يتوضّأ، وإذا بالمصباح ينطفئ؛ فيذهب لكي يُضيئه، وإذا بتماسٍّ كهربائي يحصل، فينقطع التيّار الكهربائي عن المنزل بأكمله، وترتفع عندها الأصوات؛ أو أن يسعى للبس حذائه، وإذا به يجد فيه عقربًا؛ أو أنَّه يحاول لبس معطفه، فإذا به يجد فأرًا في كمّه، وما شاكل ذلك من الموانع. وعندما يُريد الخروج إلى المسجد؛ فما إن يفتح الباب، حتّى تعلق يده به، فتنكسر أو تسيل بالدم، فيذهب لتضميدها، وهكذا؛ ثمّ إنّ هذه العوائق تقف في طريقه إلى درجة أنّه لا يتمكّن بتاتًا من المجيء إلى المسجد؛ أو أنَّه قد يتمكن من الوصول إليه؛ لكن، ما إن يجلس في زاوية من زواياه، حتّى يرتفع صوت شخيره، فيُسلب منه حال العبادة؛ فهذا الذي يُقال له الخذلان، والذي هو عكس التوفيق.
فتارةً، تتظافر الأسباب [المساعدة] باستمرار، فيكون ذلك عبارة عن المدد الإلهيّ؛ وتارةً أخرى، لا، فيسلب الله التوفيق من الإنسان ويخذله؛ وهذا يكون أيضًا بيده تعالى، ويكون بدوره خاضعًا لحساب دقيق، لا أنّه يحصل عشوائيًّا.
لقد أعمل العظماءُ هذه الحسابات بدقّة؛ فقالوا:
إن كان الإنسان يمشي في الطريق، فعلق حجرٌ تحت رجله، فتزحلق، ووقع، فعليه مراجعة حساباته، ليعرف ما الذي فعله، حتّى حلّت به هذه العقوبة!۱
فلا يحصل شيء في هذا العالم اعتباطًا؛ وهذا من الأمور العجيبة حقًّا! بل هو من العجب إلى درجة أنَّه يُحيِّر العقول! فكلّ ما يجري للإنسان، إنّما يجري وفق حساب دقيق؛ فصحيح أنَّ الإنسان مختار في أفعاله، غير أنَّه لولا مساعدة الله، فأنّى له أن يقوم بهذه الأفعال؟!٢
«تُبدِيُ بِالإحسَانِ نِعَمًا»؛
فأنت تُشاهد النعم؛ لكن، كم هو عددها؟! إنَّها تبلغ آلاف الآلاف! وهكذا! حينئذ، تجدنا نقابل إحسانك هذا بالعصيان:
«وتَعفُو عَنِ الذَّنبِ كرَمًا»؛
فأنت بعظمتك وسعة وجودك، لا تنظر إلى حقارتنا وذنوبنا وتمرّدنا وجرأتنا على الوقوف بوجه سلطانك وعظمتك، وتخطّينا لدائرة العبودية، بل تعفو عن ذنوبنا وتتجاوز عنها.
فَمَا نَدرِي مَا نَشكرُ:
«أَجَمِيلَ مَا تَنشُرُ أم قَبِيحَ مَا تَستُر»؛
ولا نعلم أيّ شكر نؤدّيه تجاهك؛ فنبقى حائرين منذ الوهلة الأولى في الشكر الذي يتوجّب علينا الإتيان به: فهل نشكرك على الجميل الذي نشرته والنعم غير المتناهية التي تمنَّ بها علينا ابتداءً، أم نشكرك على تلك القبائح التي ارتكبناها، فسترتها، وأخفيتها، ولم تُعاقبنا عليها؟!
«أم عَظِيمَ مَا أبلَيتَ وَأَولَيتَ أم كثِيرَ مَا مِنهُ نَجَّيتَ وَعَافَيتَ»؟!
أم نشكرك على الامتحانات الكبيرة التي ابتليتنا بها، فوضعتَنا ـ ببركة ولايتك التي أخضَعَتْنا لحكمك وسيطرتك ـ تحت تصرّفات مقام العبودية، وجعلتنا نجتاز جميع هذه الامتحانات (حيث قضيتَ عنّا امتحاناتنا، وأقلتَنا من مسؤوليّة أداء فروض الطاعة والامتثال التي لم نتحمّلها، فنشكرك على ذلك)، أم نشكرك كثيرًا على النكبات التي كنّا نستحقّها واقعًا، فأنجيتنا منها، ومنحتنا العافية؟!
ففي بعض الأحيان، يرى الإنسان في قرارة ذاته أنّه يستحقّ العقاب والعذاب الكذائيّين، ويرى نفسه مستوجبًا لذلك حقيقةً! وإذا ما تمعّن جيدًا، سيجد بأنَّ هذا العقاب قد أتى من الله، وهو يحوم فوق رأسه كالطير، ويريد أن يستقرّ فوقه؛ وفي هذا الوقت، يرى بأنَّه تعالى قد أنجاه منه، ومنحه العافية؛ على أنَّ هذه العافية ليست عافية بدنيّة، بل هي عافية الروح، وسلامة النفس والمزاج، ورسوخ العقيدة والإيمان، والثبات عند عبور الصراط المستقيم؛ فهذه هي حقيقة العافية. فأنت [يا إلهي] تُنجّي من كلّ ذلك البلاء، وتتجاوز، وتمنح العافية.
المجاز قنطرة الحقيقة
«يا حَبِيبَ مَن تَحَبَّبَ إلَيك، وَيا قُرَّةَ عينِ مَن لَاذَ بك وَانقَطَعَ إلَيك».
فنحن لسنا أحبّاؤك، لكنَّنا نتحبّب إليك؛ وفي نهاية المطاف، نحن لسنا بشيء، حتّى تُحبّنا حقيقةً، وتجعلنا لنا مكانة لديك! فبالنظر إلى سيّئاتنا، وأساس ماهيّتنا الإمكانيّة، وحدودنا وقيودنا الوجوديّة، وآثارنا، فإنّنا لسنا تلك الأشياء اللطيفة والجذّابة والنقيّة والطيّبة والطاهرة التي تقتضي أن تكون موضعًا لمحبّتك! كلاّ! ولهذا، فنحن نتحبّب إليك؛ أي أنّنا نقوم بشيء، حتّى نُلصق أنفسنا بالمحبّة؛ فنتوسّل ببعض الأعمال لكي تُحبّنا؛ فنصلّي، لكنّ هذه الصلاة مقرونة كلّها بالغفلة؛ ونصوم، لكنّ صيامنا مكتنف بألف نقص؛ ونحجّ؛ غير أنّ حجّنا مصحوب بألف عيب؛ وهكذا الحال في كلّ عمل نأتي به، حيث إنّ هذه الأعمال بأجمعها هي من باب اللعب والتسلية، وعبارة عن مجازٍ في مقابل الحقيقة المتمثّلة بك يا إلهي.
فنحن نقوم بأعمالنا تلك من أجل التحبّب إليك؛ لكنّ تحبّبنا هذا صار سببًا لأن تُدخل محبّتك إلى قلوبنا؛ وإنَّه لمن العجيب كيف أصبح هذا المجاز قنطرة للحقيقة، حيث نجد أنّ عمل الإنسان مجازيّ، غير أنَّ نتيجته هي الوصول إلى الحقيقة! وهذا بالضبط مثل حيوان أُلبس قناع إنسان، ويقوم بأعمال إنسانيّة؛ وبعد مدّة من الزمن، يُرفع عن وجهه هذا القناع، فيُكتشف أنّه إنسان [فعلاً]، أي أنّ ماهيته قد تبدّلت.
وهذا راجع إلى سعة اللطف الإلهيّ؛ فالطريق مفتوح إلى درجة أنّه إذا قام أحدٌ بعملٍ ما تصنّعًا، فإنّ هذا التصنّع يوصله إلى الحقيقة.
فنحن نقول في كلامنا: «نريد الله، ونريد لقاءه، وما شابه ذلك»؛ ولكن، ماذا يعني لقاء الله؟! ومن هو الله؟! فهذه المسائل هي على درجة من العلوّ، بحيث لو فكّر فيها الإنسان من الآن إلى يوم القيامة، لما تمكّن من الإحاطة بها! فما هذا الكلام؟! غير أنَّنا نشغل أنفسنا بأعمال هي في نظرنا أعمال مهمّة جدًّا، في حين أنّها عند الله مجرّد ألعاب؛ أ فهل يمكن للإنسان الوصول إلى الله بواسطة هذه الأعمال؟!
عُنقا شكار كس نشود دام باز گير۱ | *** | كانجا هميشه باد به دست است دام را٢ |
[يقول: لم يتسنَّ لأحد اصطياد العنقاء، فارفَع الشباكَ وأزِل المصائِد، فلَن تَصيد شِباككَ إلّا الهَواء].
لكن، في لحظة واحدة، نجد أنَّ العنقاء قد وقعت في الشباك؛ ووقوعها في الشباك يعني أنّ هذه الشباك قد تلاشت؛ فنرى أنّ العنقاء قد احتلّت كلّ مكان.
فعملنا مجازيّ، غير أنَّه صار قنطرة وجسرًا للحقيقة، بحيث يعبر الإنسان فوق هذا المجاز، ليجد الحقيقة في الطرف الآخر؛ ممّا يعني أنّ المجاز هو وسيلة الوصول إلى الحقيقة.
للمرحوم الشيخ الأنصاريّ رحمة الله عليه عبارة لطيفة جدًا يقول فيها:
لا يمكن للإنسان أن يرتدي اللباس الخاصّ بالحرم خارج الحرم؛ فإذا تعيّن عليه الولوج إلى هذا الحرم، ستُغيّر ملابسُه بشكل تلقائيّ، ويُلبَس لباس الحرم.
هذه العبارة راقية جدًا، ومعناها هو: صحيح أنَّنا نقول: هذا هو لباس الحرم، غير أنَّ لباس الحرم لا يمكن الحصول عليه خارج الحرم؛ فلا يمكن لذلك الذي لم يرد الحرم بعدُ أن يلبس لباس الحرم؛ لأنَّ لباس الحرم خاصّ بالحرم. فالطهارة والصفاء والبصيرة والعشق والنورانيّة والتوحيد هي عبارة عن ملابس الحرم؛ ولا يمكن الحصول عليها خارج الحرم؛ وحينئذ، مهما قلت: «إنّني موحِّد وعارف وزاهد ومتّق»، فلن يعدو ذلك كونه مجرّد كلام، ولا يُمثّل لباس الحرم. ومهما قلت: «إنّني طيّب وطاهر»، فإنّ هذه الطهارة هي طهارة مجازيّة؛ وهي ليست بزهد حقيقيّ، بل هي تزهّد؛ وليست قدسًا، بل تقدّس؛ وليست حقيقة، بل مجاز؛ وليست واقعية، بل مجرّد هيكل وجسد.
غير أنَّنا يجب ألاّ نكفّ عن الإتيان بهذه الأعمال؛ لأنَّ الذين يُسمح لهم بالدخول إلى الحرم هم الذين كانوا مشغولين بهذا المجاز خارج الحرم؛ فلباس الحرم لا يمكن إلباسه للجميع، بل يُكسى به أولئك الذين يدّعون أنَّهم يريدون الولوج إلى الحرم، ويأتون بتلك الأعمال المجازيّة؛ فيستيقظون في الليل لصلاة ركعتين، ويتصدّقون بأموالهم، ويبتهلون إلى الله، قائلين: «يا الله»، وإن كانت عبارة «يا الله» التي يذكرونها تفصلها عن عبارة «يا الله» التي يذكرها ذاك المستقرّ في الحرم مسافة ألف سنة؛ ولكن لا بدّ من قولها. فإن قاموا بهذه الأعمال، فسيُفتح لهم الباب؛ وحينئذ، سيُكسى الإنسان بلباس الحرم؛ وعندما يُكسى بهذا اللباس، سيعلم عندها بأنَّ جميع ملابسه السابقة كانت مجازيّة وزائفة، وأنّها كانت مجازيّة ومزوّرة! فالماء الذي كان يشربه هناك، لم يكن ماء، بل ظنّ أنَّه ماء؛ والطعام الذي كان يتناوله هناك، لم يكن طعامًا، بل خال أنّه طعام؛ والبلابل التي كانت تغرّد له لم تكن بلابل، بل كانت بومًا وضفادع تنقنق في البستان؛ في حين أنّه كان يعتقد بأنَّها أصوات بلابل. فالبلبل خاصّ بالحرم، وهو يموت إن أُخرج منه؛ فما هو موجود خارج الحرم إنَّما هي الضفدعة؛ لكن بما أنّ الإنسان لم يرَ بلبلاً في حياته، فحينما يسعى لسماع صوت البلبل، يشتبه عليه الأمر، ويحسب صوت الضفدعة صوت بلبلٍ؛ فيطلب الضفدعة ظانًّا أنَّها بلبل. وهنا، يقول الله تعالى: لا توجد أيّة مشكلة، سأقبل منك هذا ما دامت حركتُك كانت بقصد الوصول إليّ؛ فسأقبل منك أُنسك بصوت الضفدعة، وأعمل على إدخالك إلى الحرم تدريجيًّا، وأُطلعك حينها كيف يكون صوت البلبل!
وعليه، فهذا هو التحبّب الذي يقوم به الإنسان تجاه الله تعالى؛ أي أنّه يتظاهر كذبًا بالمحبّة على الدوام، فيقوم بالإنفاق والحجّ والجهاد والصلاة، لكنّ ذلك بأجمعه من باب التحبّب! ولهذا، لو جرى استنطاقه وامتحانه ومؤاخذته وإقعاده خلف منضدة الاستجواب، لتبيّنت حقيقة الأمر عندها! ومع هذا، فإنّ محبّة الله تعالى تستقرّ ـ نتيجة لذلك ـ في قلبه؛ فلقد كان ذلك التحبّب مجازيًا، ولم تكن محبّة حقيقيّة، غير أنَّ نتيجته هي المحبّة؛ وحينما تأتي هذه المحبّة، سيُحسم الأمر. ألم يقل:
«وَحبّي لَك شَفِيعِي إلَيك».
فإذا حلّت المحبّة، فإنّها ستعمل على رفع الأحمال.
إنّ حركة الإنسان نحو الله تعالى بطيئة؛ لأنّها تفتقر إلى المحبّة؛ فذلك الانجذاب إنَّما يحصل عن طريق الحبّ؛ فإذا تحبّب الإنسان إلى الله، سيأتي الحبّ؛ وحينئذ، سيعمل هذا الحبّ على مساعدة الإنسان في رفع أحماله.
دور التعاليم الشرعيّة في وصول الإنسان إلى المقامات العالية
وباختصار، لأجل الوصول إلى تلك المقامات، لا مناص من الالتزام بتعاليم الشرع المقدس؛ فلا بدّ من الصيام في أيّام الصيف، والصلاة في ليالي الشتاء، والتغاضي عن الأموال الشخصيّة والإنفاق منها، والجهاد، وصلة الرحم، وإيقاع النفس في كافّة هذه الابتلاءات؛ هذا، مع أنّه إذا وضعنا أيدينا على كلّ أمر من هذه الأمور، سنجده مجازيًّا! أ فهل إنّ الصيام هو الذي يوصل الإنسان حقيقةً؟! وهل يحتاج الله تعالى إلى صيامنا؟! وهل يفتقر إلى صلاتنا؟! وأيّة صلاة هي؟! أ هذه الصلاة البتراء؟! وهذه الصلاة التي سيُعلم لاحقًا أنَّها كانت من دون وضوء؛ شأنها في ذلك شأن صلاة السيّدة "تميز خالدار"؟!
أتعلمون ما هي حكاية صلاة السيّدة "تميز خالدار"؟ هي حكاية ينقلها المرحوم الشيخ البهائي في كتابه الخبز والجبن، حيث ألّف رحمة الله عليه مجموعة من الكتب تحت عنوان: الخبز والحلوى، والخبز والجبن، والحليب والسكر وغيرها؛ وهي كتب مصنّفة باللغة الفارسية وتحتوي على أشعار سلسة، فاشتروها، واقرؤوها؛ ويقول الشيخ البهائيّ في ذلك الكتاب:
كانت السيدة "تميز خالدار" امرأة من أهل هراة، حيث كانت تضع نفسها تحت تصرّف الآخرين؛ ومتى ما جاء عندها أحد، وانصرف [بعدما قضى حاجته]، كانت تنهض، وتُصلّي ركعتين من دون أن تتوضّأ؛ وكانت تستمرّ على هذا المنوال حتّى الليل. فقيل لها: «وماذا عن الوضوء؟»، قالت: «لقد توضّأتُ صباحًا»؛ فقيل لها: يا له من وضوء محكم! فلقد فاق أيّ وضوء آخر! لأنَّ الوضوء العادي ينتقض بمجرّد النوم أو خروج البول، أمّا وضوءك، فلا ينتقض مع كلّ هذا التردّد عليك؛ فهو وضوء محكم جدًّا، ووضوء عجيب حقًّا۱!
حسنًا، فنحن نتوضّأ، ونُصلّي، ونقوم بكذا وكذا، ثمّ يُقال لنا بعد ذلك: «إنَّ صلاتك قد تمّت من دون وضوء»، بل وسيُثبتون لنا أنّ الوضوء يعني الطهارة؛ فهل يُسمّى ما قُمت به من غسلٍ لوجهك ويديك بكفّ من الماء طهارةً؟! فهذه الطهارة هي عنوان لتلك الطهارة الباطنيّة؛ فإذا كان يُقال لنا دائمًا: «صلّوا، وأخرجوا البغضاء والحسد من قلوبكم، ولا تتخاصموا مع إخوانكم في الدين، وأمثال ذلك»۱، فإنّما هو لأجل استحصال الطهارة الباطنيّة؛ إذ لا تكون الصلاة صحيحة ولا تصعد إلى السماء ولا ترفعها الملائكة، ما لم تتضمّن هذه الشروط. فبناءً على هذا، تكون صلاتكم قد تمّت من غير وضوء، وأنتم تعتقدون بأنَّكم كنتم على وضوء؛ كلاّ! فهذا الوضوء إنّما هو عنوان لذلك الوضوء؛ وهم محقّون حينما قالوا: الصلاة معراج المؤمن؛ إذ كلّ من أراد العروج إلى الله، يجب أن يكون نقيًّا، وعلى طهارة.
شستشویی کن و آنگه به خرابـات خِرام | *** | [تا نگردد ز تـو ایـن دیـرِ خـراب، آلـوده]٢ |
[يقول: لا بدّ لك أوّلًا أن تتطهّر، ثمّ بعد ذلك تذهب إلى الخرابات٣،كي لا يصير بسببك هذا الديرُ الخرِبُ ملوّثًا].
فلا يمكن الولوج إلى هناك من دون طهارة!
عبارة «الصَّلَاةُ مِعرَاجُ المـُؤمِن» ليست رواية، غير أنّ المرحوم صاحب الكفاية ذكرها في الهامش عند البحث عن الصحيح والأعمّ على أنَّها رواية؛ وهو خطأ على ما يبدو؛٤ هذا، مع أنّنا نُطالع في ضمن كلام الإمام السجّاد عليه السّلام الوارد في رسالة الحقوق أنّ:
«الصّلَاةُ وَفَادَةٌ إلى اللَه»٥؛ ولدينا في بعض النسخ: «مِرقَاة إلى اللَه»٦.
فالمرقاة تعني المعراج؛ أي السلّم الذي يصعده الإنسان درجة درجة ليصل إلى الله؛ فهكذا هي الصلاة! وحينئذ، لا بدّ أن يكون وضوء هذه الصلاة مثلها؛ ولهذا، قيل لنا دائمًا: «عليكم بهذا الوضوء؛ لكن ينبغي في الوقت ذاته أن تحترزوا بواسطته قليلاً عن الباطل»؛ وفي هذه الحالة، سيعمل هذا التحبّب تدريجيًا على إيصال الإنسان إلى المحبّة.
«وَيا قُرَّةَ عينِ مَن لَاذَ بك»؛ يا من يمنح على الدوام الراحةَ والبهجة واللطف والرقّة وقُرَّةَ العينِ لمن التجأ إليه.
ففي اللغة الفارسيّة، نُفسّر قرّة العين بضياء العين؛ في حين أنّ ذلك ليس هو معناها، بل معناها هو برودة العين۱؛ أرأيتم كيف أنَّ عين ذلك الذي يكون في حال من الانزعاج والتعب والعصبية والارتباك تكون منتفخة وساخنة؛ وأمّا أولئك الذين يكونون في حال من السكينة والهدوء وراحة البال والبهجة والسرور، فإنّ عيونهم تكون ناضرة وباردة؟! فهذا الذي يُقال له: قُرَّةَ العينِ؛ والتي نستعملها في اللغة الفارسيّة في معناها الكنائيّ واللازم؛ أي ضياء العين.
فيا أيّها الإله الذي أنت هو ضياء العين بالنسبة للذين التجؤوا إليك
«وَانقَطَعَ اِلَيك»؛ أي انقطع عن سواك، واتّصل بك.
«أنتَ المـُحسِنُ وَنَحنُ المـُسِيؤونَ»؛
«فَتَجَاوَز يا رَبِّ عَن قَبِيحِ مَا عِندَنَا بِجَمِيلِ مَا عِندَك»؛ فيا إلهي، اعفُ عن كافّة القبائح التي عندنا بتلك المحاسن وذلك الجمال الذي لديك.
فمحاسنك غير متناهية، وجمالك غير محدود؛ ومعنى كونها غير متناهية أنّ سعتها تستوعب كافّة تلك القبائح، وتغسلها، وتُزيلها.
مقدار سعة الرحمة الإلهيّة في مقابل أعمال الإنسان السيّئة
«وَأيُّ جَهلٍ يا رَبِّ لَا يسَعُهُ جُودُك أو أيّ زَمَانٍ أطوَلُ مِن أنَاتِك»؛ فيا إلهي، ويا ربّ، أيّ جهل وعمل طالح لا يستطيع جودك وكرمك أن يزيله؟ دُلّني عليه!.
فصحيح أنَّنا مذنبون، غير أنَّ كرمك وجودك من السعة بحيث يستطيعان إزالة هذه الذنوب؛ فلو كان جودك وكرمك محدودين، بحيث لا يشملان مثلاً إلاّ المتّقين والمؤمنين والطيّبين والمخلَصين، ولا يشملان غيرهم، لوجب أن يُصاب الإنسان باليأس؛ لأنَّ جودك وكرمك سيختصّان بأولئك الناس، فيكون على هذا الإنسان أن يذهب إلى حال سبيله! وكذا الحال فيما لو كان جودك وكرمك يتجاوزان عن الطيّبين والمخلصين، ويغمران الذين تكون حسناتهم أكثر من سيّئاتهم؛ في حين أنّنا اعترفنا سابقًا بأنّ سيّئاتنا أكثر من حسناتنا؛ وعندئذ، لن يكون لجودك وكرمك السعة اللازمة لكي يشملاننا أيضًا؛ فيتوجّب على الإنسان ـ والحال هذه ـ أن يذهب إلى حال سبيله! لكنّ الإمام يقول: رغم كوننا مذنبين، ومهما تكون الذنوب التي صدرت منّا، فإنّ جودك وكرمك سيشملانها؛ أي أنّهما سيأتيان، ويغمرانها؛ ولهذا، فإنّنا في حيرة!
وعليه، أيّ جهل يصدر منَّا يا ربّ، ولا يتمكّن جودك من شموله، ولا يقدر على محوه؟! وأيّ زمان أطول من حلمك وصبرك؟! فصبرك على درجة من الطول بحيث يدفعنا للتساؤل: أيّ زمان يقدر على الإحاطة به؟!.
فالأزمنة والدهور والعصور تأتي، وتذهب، وتفنى، ويظلّ صبرك وأناتك وجودك ثابتًا في مكانه؛ فكم هو عجيب! وكم هو واسع!
«وَمَا قَدرُ أعمَالنَا فِي جَنبِ نِعَمِك»؟! فمن نكون أساسًا؟! وما قدر الأعمال التي نأتي بها في مقابل النعم التي مننت بها علينا، وبالمقارنة مع هذه النعم؟!.
ففي ذلك الحين [أي إذا تسنّت لنا هذه المقارنة]، سيكون عدد النعم التي وهبنا الله تعالى إيّاها ألفًا، وعدد أعمالنا واحدًا؛ فتكون النسبة حينئذٍ واحدًا بالألف، فنقول: «شكرًا لك يا ربّ، فقد تمكنّا من القيام بعمل واحد بإزاء ألف نعمة»؛ فنكون قد شكرنا واحدًا بالألف من نعمه تعالى! غير أنَّ الأمر ليس بهذا النحو؛ لأنّ نعمه تبلغ آلاف الآلاف، ونسبة أعمالنا إليها تبلغ أقلّ من واحد في آلاف الآلاف! فنجد أنّ الأمر من ذلك الجانب يتزايد، ومن هذا الجانب يتناقص؛ فأعمالنا تتمدّد، ونعمه أيضًا تتمدّد؛ غاية الأمر أنّ نعمه تتمدّد من حيث الكبر إلى ما لانهاية؛ في حين أنّ أعمالنا تتمدّد من حيث انعدام المقدار إلى ما لانهاية في الجهة السلبيّة؛ فأيّة مقارنة هذه؟!
«وَكيفَ نَستَكثِرُ أعمَالاً نُقَابِلُ بِهَا كرَمَك»؟! فكيف نعتقد بعِظم أعمال نريد بها مقابلة كرمك؟!.
ممّا يعني أنّنا نريد أن نضع هذا العمل مقابل ذلك الكرم؛ لكن، أيّ عمل يستطيع مقابلة كرمك؟!
«بَل كيفَ يضِيقُ عَلَي المُذنِبِينَ مَا وَسِعَهُم مِن رَحمَتِك»؟! بل أيّ ضيق وعُسر سيُبقيه لنا ذلك الكرم الذي يصدر منك، فيغمر المذنبين ويسعهم؟!.
فإذا وصلت تلك الرحمة الواسعة، فلن تُبقي للمذنبين أيّ ضيق أو عُسر؛ لكن، إذا جاءت هذه الرحمة، لكنّها لم تصل إلى هنا، فإنّ ذلك المذنب سيظلّ مبتلى بالضيق،؛ وأمّا إذا جاءت، ووصلت، وغمرت ذنوب ذلك المذنب، فإنّها ستُخرجه من ذلك الضيق والعسر، وتُبدّل سيّئاته حسنات، فهل تريدون شيئًا أعجب من هذا؟!
﴿أُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾۱.
فبعمل واحد وتوفيق واحد وقفزة واحدة، تتبدّل جميع السيئات التي ارتكبها الإنسان إلى حسنات!.
فما هو سبب ذلك؟ إنَّها سعة الجود؛ والتي تعمل هنا على تبديل الماهية، حيث تكون ماهية أحدهم ماهية مشرك، وإذا به يتحوّل إلى مؤمن في لحظة واحدة؛ ويكون كافرًا، فيصبح مسلمًا؛ ويكون مشركًا، فيصير موحّدًا؛ وما إن صار موحّدًا، حتّى تغيّرت ماهيته؛ وكان حيوانًا، فأصبح الآن إنسانًا؛ وكان من الجنّ، فصار الآن من الملائكة، حيث إنّ لكلّ واحد منهم منزله الخاص به؛ فمنزلُ الذنبِ الضيقُ والعُسرُ، ومنزلُ الإيمانِ السعةُ والرحمةُ؛ فتتبدّل ماهيته بلطف الله، ويخرج من ذلك المنزل الضيِّق، إلى سعة الرحمة الإلهيّة.
«بَل كيفَ يضِيقُ عَلَى المُذنِبِينَ مَا وَسِعَهُم مِن رَحمَتِك؟! يا وَاسِعَ المَغفِرَةِ! يا بَاسِطَ اليدَينِ بِالرَّحمَة»!
تقول اليهود: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾۱؛ فلا يستطيع تعالى القيام بكلّ الأشياء، ولا يقدر على حلّ المشاكل، ولا يُمكنه فعل كذا وكذا، ولا يستطيع تعذيبنا! فالعذاب الذي سيُعذّبنا به يوم القيامة سيستمرّ لفترة محدودة، وهي مدّة الأربعين يومًا التي ذهب فيها موسى عليه السلام إلى المناجاة، فارتدّ عنه آباؤنا، وتمرّدوا على هارون، وصاروا فيها عبدة للعجل٢، حيث سنُعذّب لأيّام معدودة٣، ثم نتنعّم في الجنّة إلى الأبد، ولا يستطيع الله فعل أيّ شيء غير هذا!
لكنّ الأمر ليس بهذا النحو٤.
«يا بَاسِطَ اليدَينِ بالرَّحمَةِ»! فكلتا يديه مفتوحتان، سواء يد الجمال أو يد الجلال؛ فهما مبسوطتان بالرحمة لا بالنقمة.
تربية الله تعالى للإنسان بواسطة يدي جماله وجلاله
فحينما يرحم الله الإنسان بإحدى يديه [يد الجمال]، فإنّه يرويه ويُنعّمه؛ وعندما يسلب منه أمرًا آخر بيد جلاله، فإنّه يُريد تربيته وتأديبه، حيث تكون هذه اليد يد رحمة كذلك؛ وبالتالي، فإنّ أخذه تعالى وعطاءه، وقبضه وبسطه يكونان على أساس الرحمة، وكلاهما يكون من أجل كمال الإنسان؛ تمامًا كما يحصل للطفل الذي يذهب إلى المدرسة، حيث يعطيه المعلم الحلوى من جانب، ويضربه على يده من الجانب الآخر؛ فكلا العملين مفيدان له. وإذا لم يُضرب هذا الطفل على يده، فلن يتهذّب، ولن يتحسّن خطّه، ولن يتعلّم القرآن والحساب بشكل جيّد؛ وإذا لم يكن المعلّم ماهرًا، وكان يكتفي بإعطاء الحلوى للطفل، ويخاف أن يضربه، فسوف يبقى هذا الطفل جاهلاً، وستكون تلك الحلوى قد آذته، وآذت روحه أيضًا. وأمّا المعلّم الحقيقيّ، فهو الذي يأمر الطفل بحفظ دروسه؛ فإن حفظها، فإنّه يشجّعه ويقول له: «بارك الله فيك! أحسنت!»، ثمّ يقول له ثانية: «أحسنت!»؛ وأمّا إن خالف أمره، فإنّه يُعاقبه؛ لكن من دون أن يصفعه على وجهه، أو يرفعه ويضرب به الأرض ويكسر رأسه، بل يُمسك أذنه ويفركها بهدوء، فلن يحدث أيّ شيء جرّاء ذلك، أو يضربه على يده بمقدار تحمّله، حتّى يعرف هذا الطفل دائمًا حينما يأتي للصفّ بأنَّ الدرس يستتبع مسؤوليّة.
والله العليّ الأعلى أيضًا يُعطي للإنسان ويأخذ منه؛ فيفيض عليه باستمرار من نعمه عن طريق جماله ومن خلال التجليّات التي تسطع منه لجذب القلوب، ويمنّ عليه بجميع النعم من جانب، ويسلب منه من جانب آخر. فلو أعطى الله الإنسان، ولم يسلب منه، لصار غافلاً تمامًا، ونسب هذه النعم إلى نفسه، وأنكر كونها من الله؛ ولهذا، فإنّه تعالى يعطي ويسلب، ويبسط ويقبض؛ فيكون العالم في حال دائم من القبض والبسط، حيث تجدنا ليلاً ونهارًا، وفي كلّ ساعة، وفي كلّ لحظة، في قبض وبسط؛ أي أنَّه تعالى يعطي ويأخذ، ويمنح ويسلب، فتظلّ هذه العجلة في حركة دائمة. ومن هنا، فإنّ كلتا يدي رحمة الله مبسوطتان، فلا تكون يد جماله، ولا يد جلاله مغلولة؛ وهو تعالى ليس بجبان، حتّى يخاف هنا، ويُحجم عن الضرب على القفا۱؛ كما أنَّه لا يبخل هناك، ولا يخشى من القيام بهذا الفعل [أي العطاء]؛ فالعالم يدور في الأساس حول محور جمال الله تعالى وجلاله؛ وعليه، فيا من بسطت يديك بالرحمة!.
اليأس رأس جميع الذنوب
«فَوَ عِزَّتِك يا سَيدِي لَو نَهَرتَني، مَا برِحتُ مِن بَابِك، وَلَا كفَفتُ عَن تَمَلُّقِك، لِمَا انتَهَى إلَيّ مِنَ المَعرِفَةِ بِجُودِك وَكرَمِك»!
فيا ربّ، ويا سيّدي، ويا مولاي! لو طردتني، ونحيّتني، لما تخلّيت عن هذا البيت، ولما ذهبت، ولما توقّفت عن تملّقي.
تَمَلَّق ومَلَق، تَمَلَّقَهُ ومَلَقَهُ: تعني إظهار المودّة والمحبّة والأدب، وإن لم يكن ذلك مطابقًا للواقع٢.
أرأيتم كيف تجلس القطّة مقابل المائدة؟! فهي تجلس بأدب كبير، وتُطرق برأسها إلى الأرض، ولا يصدر منها أيّ صوت، سوى مواء ضعيف لجلب الانتباه! فهذا الأدب الذي تُبرزه ليس أدبًا حقيقيًّا، بل هو خوفًا منكم؛ ولهذا، إن ذهبتَ إلى حديقة البيت، وعدتَ، فستجدها قد أخذت قطعة اللحم، ولاذت بالفرار؛ وبالتالي، فإنّ أدبها هذا ليس أدبًا حقيقيًّا، بل هو تملّق؛ أي تودّد وتأدّب مصطنع تجاهك؛ ولو نظرت إلى عينيها، لرأيت فيها تلك الآثار؛ ففي ذات الوقت الذي تخفض فيه بصرها، فإنّها تنظر إليك، وترصد كلّ شيء، لكنّها تتظاهر بأنَّها لا تنظر إلى كلّ مكان.
ـ إلهي، أنا لن أكفّ عن التملّق والتودّد إليك.
ـ ابتعد، فأنت غير مؤهّل! ابتعد أيها المذنب! فلقد كان لديّ عباد لهم من الصفات كذا وكذا؛ ابتعد عنِّي، فقد هيمن الشيطان على وجودك، واستولت المعصية على جميع أرجائك!
ـ لن أبرح مكاني؛ لأنّ لدي جواب على كل عبارة من هذا الكلام.
ـ اذهب!
ـ أين تريدني أن أذهب؟! دُلّني على مكان آخر لكي أذهب إليه، وسأفعل ذلك.
ـ أنت مذنب!
ـ أنا أعترف بذنبي؛ ولكن، هل تشمل رحمتك المحسنين فقط؟!
ـ لقد غمرتك الذنوب من رأسك إلى أخمص قدميك!
ـ أنا أعترف؛ لكن، ماذا يُمكن للذي غمرته الذنوب أن يفعل؟!
ـ أنا لديّ عباد ممتازون!
ـ أنا لست منهم، فماذا تُريدني أن أفعل؟! فأنا مسكين!
وفي نهاية المطاف، ليس لي بابٌ آخر لكي أطرقه، سوى هذا الباب؛ ألا وهو باب المحبّة.
يوجد شيء واحد يُهلِك الإنسان، ألا وهو اليأس؛ فإنَّه من الشيطان. فإن حلّ اليأس، انتهى كلّ شيء، وتوجّب علينا الذهاب للنوم، ولم تعُد هناك أيّة فائدة. فاليأس يصنع للإنسان إلهًا كاذبًا وباطلاً في مقابل الإله الحقيقيّ والواقعيّ، ويجعله يميل إلى هذا الإله الوهميّ والباطل؛ فهذا هو اليأس، وهو من الشيطان، وهو رأس جميع الذنوب؛ إذ لو انتاب الإنسانَ اليأسُ، لأسقط إنسانيّته، وتسبّب في اضمحلاله وتلاشيه، وسلب منه تلك الحقيقة والجوهرة والروح. ومن هنا، إذا ظهر اليأس في الإنسان، فإنّه سيكون ذنبًا لا يضاهيه أيّ ذنب آخر۱.
أمّا إذا انعدم اليأس، وظهر الأمل، فإنّه حتّى لو كان هنالك ذنب، فليكن؛ لأنّ الذنب ملازم لوجود الإنسان؛ فنحن بشر، ولا ينبغي علينا أن نذنب؛ لكن، إذا أذنبنا، فليغفر الله تعالى لنا! فلا يجب على الإنسان أن يُركّز كثيرًا على هذه المسألة، ويقول: «لقد أذنبت، ولا يُمكن غفران ذنبي أبدًا!»؛ فلماذا لا يُمكن غفرانه؟! نعم، سيكون هذا الكلام صحيحًا لو كان إلهنا غير الله، ولم تكن رحمة هذا الإله واسعة؛ لكنّ إلهنا ذو رحمة واسعة، بحيث مهما كانت ذنوبنا عظيمة، بل ولا يمكن تصوّر ما هو أعظم منها، فإنّ رحمة الله أوسع، وهي تسع كلّ تلك الذنوب. فبناءً على هذا:
«وَلَا كفَفتُ عَن تَمَلُّقِك بِجُودِك وَكرَمِك»؛
فمهما طردتني، فلن أبرح هذه الدار؛ فأنا لا أعرف دارًا غيرها؛ لهذا، لن أكفَّ عن التملّق.. لماذا؟ لأنَّ قلبي صار عارفًا، وتوصّل إلى جودك؛ فعلمتُ أنَّك أهل الجود؛ وحينما عرفتُ من يكون صاحب البيت، فلن أتراجع أبدًا.
«وَأنتَ الفَاعِلُ لِمَا تَشَاءُ، تُعَذِّبُ مَن تَشَاءُ بِمَا تَشَاءُ كيفَ تَشَاءُ، وَتَرحَمُ مَن تَشَاءُ بِمَا تَشَاءُ كيفَ تَشَاءُ».
«أنتَ الفَاعِلُ لِمَا تَشَاءُ»؛ فأنت يا إلهي فاعل، وتفعل كلّ ما تشاء، والمشيئة مشيئتك.
«تُعَذِّبُ مَن تَشَاءُ بِمَا تَشَاءُ كيفَ تَشَاءُ»؛ فتعذّب من تشاء بأيّ مقدار تشاء، وبكلّ ما تشاء، وبأيّ نحوٍ تشاء، وبأيّة طريقة تريدها.
«تَرحَمُ مَن تَشَاءُ بِمَا تَشَاءُ كيفَ تَشَاءُ»؛ فرحمتك تغمر كلّ من تشاء، وبأيّة طريقة تريدها، وبأيّ مقدار تختاره.
«تَرحَمُ مَن تَشَاءُ بِمَا تَشَاءُ كيفَ تَشَاءُ»؛ إلهي، إنّ المشيئة بأجمعها مشيئتك؛ فاختر لنا بهذا النحو!.
فنحن عبادك الضعفاء، ونحن نسألك، وأنت القائل بأنَّ هذا المجاز هو قنطرة الحقيقة؛ وما دمنا نؤمن بالمجاز، فلا تجعلنا يا ربّ من زمرة «تُعَذِّبُ مَن تَشَاءُ»، بل اجعلنا من زمرة «تَرحَمُ مَن تَشَاءُ»، وارحمنا! فنحن نعلم بأنَّ كلّ شيء بيدك، وحلّ جميع المشاكل والمعضلات بيدك، وأنت مصدر كلّ رحمة؛ ونعلم أيضًا أنّك تريد منّا ذريعةً وحسب؛ وها نحن قد وضعنا أنفسنا تحت إحدى هذه الذرائع، فلتشملنا رحمتك يا ربّ.
«لَا تُسأَلُ عَن فِعلِك وَلَا تُنَازَعُ فِي مُلكك وَلَا تُشَارَك فِي أمرِك وَلَا تُضَادُّ فِي حُكمِك».
سنترك إن شاء الله شرح هذه الفقرة إلى الليلة القادمة إن وفّقنا تعالى لذلك، وأبقانا إلى الغد.
نسأل الله العليّ الأعلى أن يُظلّنا برحمته بالمقدار الذي يشاء وبالكيفيّة التي يريد؛ وأن يجعل هذه المجازات قنطرة وجسرًا للعبور إلى الحقيقة؛ وأن يجعل في الأخير نتيجةَ هذه المحاورات الوصولُ إلى مقام عزِّه وعظمته؛ وألاّ يؤاخذنا بأعمالنا، بل يشملنا بسعة جوده ورحمته وكرمه التي شملت المذنبين؛ وأن يُخرجنا من ضيق الجهات والتعيّنات إلى مقام عزِّه وسعته وانبساطه، وإلى المقام غير المتناهي لأسمائه وصفاته؛ وأن يجعلنا نفنى في ذاته المقدّسة؛ وألاّ يكلنا في جميع العوالم إلى أنفسنا طرفة عين أبدًا.
بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيبِين.