3

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

6283
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1431

التاريخ 1431/09/14

جلسات المجموعة(11 جلسة)

التوضيح

هل التصرّف في الأحكام من قبل أولياء الله بسبب تغيّر الموضوع يتنافى مع العدالة و المساواة وكون الأحكام ثابتة على الجميع بمستوى واحد؟ ما هو السرّ في ذكر قضيّة الخضر وموسى في القرآن؟ لماذا أمر الله بالعمل وفق الظاهر؟ هل الاستفادة من الرحمة الرحيميّة الخاصّة يتنافى مع المساواة؟

/۱٤
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

1
  •  

  • هوالعليم

  •  

  • شمول الرحمة الإلهيّة للجميع على نحو المساواة

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۱ هـ - الجلسة الثالثة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني

  • قدّس الله سرّه

  •  

  •  

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

2
  • ‌ 

  •  

  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم 

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  •  

  •  

  • "حُجَّتِي یا اللَه فِي جُرأتِي عَلَى مَسألَتِك مَعَ إتيانِي مَا تَکرَهُ جُودُك وَ كرَمُك، وَ عُدَّتِي فِي شِدَّتِي مَعَ قِلَّةِ حَيائِي رَأفَتُك وَ رَحمَتُك".

  • حجّتي يا الله في الجرأة التي لديّ، الجرأة على طلبي منك، رغم فعل ما لا يرضيك وما تكره، تلك الجرأة ناشئة رأفتك ومن جودك وعطائك وكرمك وشهامتك.

  • معنى الحجّة

  • وقد تقدّم أنّ الحجة هي المستند والسبب والأمر المشجّع والعلّة، فكلّ هذه المعاني ترجع إلى الحجّة. يقال: ما هي حجّتك ومبرّرك لهذا الأمر؟ يعني على أي أساس تقول هذا؟ وائت بحجّتك تعني قدّم دليلك، ومن يدّعي في المحكمة يقال له: ما هي حجّتك؟ ما هو دليلك؟ بأيّ داعٍ وأيّ سبب وعلى أيّ أساس أنت تطرح هذا الأمر؟ فالحجّة تعني الدليل، المستند في الأمور العلميّة، البيّنة في الدعاوى، السبب في المسائل الاجتماعيّة، فهذه كلّها تعني الحجّة.

  • حياء الإنسان من الناس وجرأته على الله

  • وهنا يوضح الإمام السجاد عليه السلام أن حجّتي ومستندي إذ أرتكب هذه المخالفة... فمقتضى المخالفة هو أن لا يتوقّع الإنسان شيئًا ممّن خالفه، ولا يلتقي به ويختفي من أمامه، ويخفي نفسه، فهذه الجرأة التي لديّ على السؤال والطلب منك ما هو سببها؟ فأنا أخالفك، أعصيك، أفعل ما يخالف رضاك وما تكرهه ، ومع ذلك أطلب منك الآن، فهذا غريب جدًّا.

  • وكما ذكرت في الليالي السابقة، يأتي الإنسان ويتكلّم بألف كلمة وكلمة في غياب آخر ثمّ يتوقّع أن يعامله ذاك بلطف وبشاشة، فلو علمنا أنّا ستكون لنا معاملة غدًا في إحدى الدوائر مع هذا الإنسان، فهل نغتابه؟ نخشى أن يخبره أحد بذلك، غدًا عندما نذهب إلى هناك سوف يؤخّر عملنا ويقول: تعال غدًا، لا وقت لديّ الآن، هناك أعمال أخرى تحت يدي، هناك أمور أهمّ. وهكذا يؤجّل، فلماذا يفعل هذا؟ يقول: "لقد جاء اليوم هذا الرجل لرؤيتي وقد تكلّم عنّي بالأمس، واغتابني في مجلس معين، أو اتّهمني في مجلس معين. فبأيّ وجه يأتي الآن؟! يريد منّي أن أساعده وأنجز معاملته، بأيّ وجه يقابلني؟!" يأتي، وفي المقابل ذاك لا يساعده. 

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

3
  • فلو كنّا نعلم مع من ستكون معاملتنا غدًا في الآخرة لقضينا الحياة بطريقة ما، ننهي هذين اليومين من الدنيا بنحو ما، فنحن لسنا كغيرنا ممّن لا يقول بالمعاد ولا يقول بالبعث، ففي النهاية نعتقد بيوم الحساب ونؤمن به، ولكن في الوقت نفسه نعمل بما يخالف رضاه أيضًا، نجعل أوزارنا ثقيلة في هذه الدنيا، فما هو سبب ذلك؟ ما هو وجهه؟

  • وجهه وسببه هما إحسانه وفضله، سواء ما نلمسه نحن في أنفسنا، أو نقل لنا عن جوده وكرمه، وما بيّنه لنا أجلاؤنا وأئمّتنا وأوليائنا حول جود الله وكرمه. 

  • انظروا فهناك الكثير من القضايا هنا، الكثير من القضايا، ولو أردنا الآن الدخول في هذه الأمور... ـ يمكننا أن نتكلّم عنها في الليالي القادمة أيضًا ـ فسنبتعد عن الطريقة المعتمدة للبحث والكلام، فجود الله وفضله كبيران إلى درجة... . 

  • يروى أن أحد الشعراء كانت له بعض الذنوب، بعض الأخطاء، بعض المعاصي، فكتب قصيدة وهو على فراش الموت، طبعا لا أتذكّرها، ولكن معناها أنّه يا إلهي إني أشعر بالخجل منك لأنني لم أستطع أن أرتكب تلك الذنوب التي تليق بعفوك، وأنا أموت بهذا الخجل. بالطبع، لا نريد أن نقول إنّ هذا الأمر يجعل الإنسان جريئًا، ولكن في النهاية، ربّما أدرك هو أيضا شيئًا عن رحمة الله وعن مغفرته، لقد فهم بعض الأشياء، في كثير من الأحيان قلت للرفقاء إنّ الذنب ليس في هذه الأمور، فهذه أخطاء تصدر عن الإنسان وينبغي أن لا يرتكبها، وينبغي أن نعلم أيضاً أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: "من قارف ذنبًا فارقه عقل لا يعود أبدًا"۱. فمن يرتكب ذنبًا سلب منه عقل لا يعود إليه أبدًا. 

  • فهناك أمثال هذه الأمور أيضًا، فلا تفرحوا كثيرًا بكون رحمة الله الآن واسعة، كلاّ، فرحمة الله واسعة، ولكن ماذا نفعل فيما وهب الله؟ ماذا يجب أن نفعل به؟ نعم، يوم القيامة إن شاء الله وبشفاعة أمير المؤمنين، وبشفاعة أجدادنا، سنكون جميعاً تحت شفاعتهم، وستأخذ محبّتهم بأيدي الجميع إن شاء الله، لكنّ النقطة المهمّة هي أنّه هناك مراتب في نهاية المطاف، وقد لا يدخلوننا إلى جهنّم، ولكن في النهاية لا يسمحون لنا بالدخول إلى جميع أماكن الجنّة!!

    1. المبدأ والمعاد لصدر الدين الشيرازي ص ٣٦۸ ـ علم اليقين للفيض الكاشاني ـ إحياء علوم الدين للغزالي ج ٣ ص٢٣ وج ٤ ص۷۷، ٥۸٣ ـ المحجّة البيضاء في إحياء الأحياء للفيض الكاشاني ج ٥ ص٢٤ و ج ۷ ص٩٥ وج ۸ ص۱٦۰.

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

4
  • ولذلك ينبغي أن نفكّر في هذه المسألة. وسنصل إلى ذلك إن شاء الله، فلا نعجل إن شاء الله، سنتناول هذه المسائل في الليالي القادمة، وهي كثيرة وليست قليلة.

  • عدم التمييز بين العباد عند الله وأوليائه

  • ذكرنا الليلة الماضية أنّ الله تعالى وأولياءه لهم نظرة واحدة تجاه العباد، فكلّهم عندهم سواء، فالجميع خاضعون لمعيار واحد ومقياس واحد على السواء، وهذا الأمر عند أولياء الله أيضًا هو صفة وملكة راسخة لا حال، فأن ينظر إلى الجميع بنظرة واحدة هو ملكة، صفة من صفات الله، التي هي صفة الرحمة العامّة وبمقتضى الرحمة العامّة فإنّ الناس جميعهم مشمولون للحكم والتكليف الظاهريّ، ونحن نشاهد ذلك، نشاهده في التاريخ وفي سيرة الأئمّة، وفي سيرة أولياء الله، فقد كانوا هكذا، فكون الجميع مكلّفين بحكم واحد قضيّة لا استثناء فيها. 

  • اختلاف الحكم باختلاف الموضوع لا يعني التمييز بين العباد

  • نعم يمكن في بعض الموارد أن يرى ذلك الوليّ الإلهيّ أنّ موضوع هذا التكليف قد اختلف وعلى أساس تغيّر الموضوع يتغيّر التكليف والحكم أيضًا، فقد حصل ذلك وشوهد في بعض الموارد. وحتّى في عهد أمير المؤمنين عليه السلام، كان في بعض الأحيان يثبت شرعًا وبحسب الظاهر حدّ على أحد ما، ثمّ وبسبب تغيّر حالته كان الإمام بنفسه يرفع ذلك الحد، فالأمر هنا مختلف.

  • من هو صاحب الحقّ في رفع الحدود والتصرّف في الأحكام؟ 

  • وبالطبع، هذا لا يحقّ لأيّ إنسان، إنّه عمل الإمام نفسه وليس من شأننا أن نغيّر الموضوعات ونغيّر الأحكام ونبدّلها وفق أذواقنا الخاصّة. فهذا الأمر خاصّ بالأئمّة والمعصومين، ثمّ وفي المرتبة الثانية بالذين هم تالو تلوهم من الأولياء ومن العرفاء بالله وبأمر الله الذين هم علماء بالله، وهم أفراد معدودون ومن النوادر من بني آدم والناس، لا أن يجعل أيّ إنسان نفسه من أولياء الله والعرفاء فحينها ستتحوّل الدنيا إلى غابة وبركة سباع، بل أصحاب تلك البصيرة الخاصة الذين إذا أردنا أن نسمّي نظراءهم، فينبغي أن نذكر أمثال المرحوم العلامة السيد مهدي بحر العلوم، أو المرحوم العلامة السيّد علي القاضي أو المرحوم الآخوند الملا حسين قلي الهمداني، فأمثال هؤلاء هم من يستطيع أن يعرف المعايير والملاكات، ويمكنهم أن يحدّدوا الموضوع بشكل صحيح، ويرتّبوا عليه الحكم الصحيح والخاص به في تلك الحالة، أمّا أنا وأمثالي فعلينا أن لا نتدخّل في هذه الأمور ذات الحريم الخاصّ ولا نتجاوز حدودنا، وباختصار، لا سبيل لنا والباب مغلق أمامنا فيما يرتبط بهذه المسائل.

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

5
  • ولكن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى المعصومين عليهم السلام، فقد كانوا يعلمون ويستطيعون أن يفعلوا ما يمكنهم فعله بسبب ارتباطهم بعالم الملاكات، ألم يفعل ذلك الخضر على نبينا وآله وعليه السلام؟ لقد فعل ذلك، فآيات القرآن هذه لم تأت هكذا صدفة، ونحن نقرأها هكذا ونقول إنه كان هناك قضايا وأحداث وأنّه كان للخضر علم بحقيقة معيّنة! حسنًا، فهذه آية.

  • ماذا يريد القرآن من ذكر قصّة الخضر وموسى عليهما السلام؟

  • فماذا يريد القرآن أن يقول؟! وما هو الطريق الذي يريد أن يبيّنه لنا؟ وما السر الذي يريد أن يكشفه؟ ما السر الذي يريد أن يكشفه لأهله؟

  • فالآية القرآنيّة تريد أن تقول: إنّه رغم أننا مكلّفون بالأحكام الظاهريّة، ورغم أن علينا العمل بالتكاليف وبتشخيص الموضوع على أساس العلم الظاهريّ والمعرفة الظاهريّة، وأنّه ما هو الموضوع الآن في هذا المورد؟ ولنفترض الآن أنّ الموضوع هنا هو سائل وماء، ويقول الإنسان إنّه حلال وطاهر، والحال أنّه متنجّس، فعلينا أن نعدّه طاهرًا ولا إشكال في استعماله، لأنّنا لا نملك علم الغيب، وليس لدينا اطّلاع على الغيب، فالقواعد والأصول الجارية في الأحكام الظاهريّة تحكم بالحليّة، وتحكم بالبراءة، وتقتضي امتناع العقاب بالنسبة إلى قضية لا علم لنا بها. فلو جاء رجل وقال: إنّ هذا متنجّس وقد رأيته بنفسي، فإنّ الحكم هنا يتغيّر ويختلف الأمر، فالموضوع هنا يتغيّر، لقد كان الموضوع الأوّل مشتبَه النجاسة، وبواسطة شهادة العادل تبدّل إلى معلوم النجاسة بالعلم التنزيلي لا بالعلم اليقينيّ والواقعي والقطعيّ، فإنّ شهادة العادل هنا منزّلة منزلة العلم، والشارع المقدّس جعل شهادته بمنزلة العلم، وكأنّكم رأيتم الشيء بأعينكم، فقال: أنا أضمن لكم أن أحكم على ما سمعتموه من العادل المؤمن ومن عدول المؤمنين عين الحكم الذي أحكمه على ما رأيتموه أنتم وقطعتم به، فهذا هو العلم التنزيليّ. 

  • قصّة شاه نعمة الله ولي وعدم أكل الحرام

  • تذكّرت الآن قصّة جميلة وملفتة، وكنت قد سمعتها من المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه، وقد أخبرنا بها ونحن جالسون في جلسة عائلية في إحدى الليالي، وهي عن أحوال السيد شاه نعمة الله ولي، وهو أحد أعاظم العرفاء وأولياء الله والعلماء وفقهاء الإسلام، وهو من النوادر، وضريح ذلك الرجل العظيم في مدينة ماهان في كرمان، وقد وفّقني الله ورزقني زيارته مرارًا، كان من أعاظم مفاخر الإسلام، وكان رجلاً فقيهًا وعالمًا وحكيمًا وصاحب نفس وصاحب قلب وكاشفًا للأسرار، كان رجلاً عظيمًا جدًّا. يُنقل أنّه قال في مجلس له: إنّ مال الحرام لا يدخل بطون أولياء الله. فقد نقل عنه كلام كهذا، ووصل إلى الحاكم تلك المنطقة، فأراد أن يدينه ويحرجه أمام الناس ويثبت بطلان كلامه. وفي يوم من الأيام دعاه وبسط مائدة كبيرة جدًّا فجاء هو وبدأ بتناول الطعام مع جماعة، وبعد انتهاء تناول الطعام قال الحاكم للحاضرين وبكامل الغرور والاعتداد: انظروا الآن إلى بطلان كلام جنابه ـ فقد كانوا يخاطبونه بجناب المولى وحضرة المولى ـ فقد ثبت، لأنّ هذا الطعام كان حرامًا حتمًا وقد أكل طعامًا حرامًا. فقالوا: كيف كان هذا حرامًا؟ قال: إنّ اللحم المستخدم في هذا الطبق هو لحم شاة قد أخذها عناصرنا وجنودنا بالقوة وغصبوها وسرقوها من امرأة عجوز فقيرة تعيش في ناحية ما، وسرقة الممتلكات وأخذ أموال إنسان ما وإنفاقها في مكان آخر حرام، أليس كذلك؟ ـ وهكذا هو الحال في زماننا! وكان هكذا دائما!! ـ وقد قرأنا وتعلّمنا هذا وأن الإنسان إذا ما أخذ مال غيره وأنفقه في مكان آخر، سواء كان مال إنسان واحد أو مال اثنين أو ثلاثة أو أكثر، فهذا غصب وحرام ومحرّم، إنّه سرقة، والشاة التي أحضرناها إلى هنا مغصوبة. فقال: هذا غير ممكن، هذا الطعام الذي أكلته هو حلال حتمًا ولا شكّ فيه، اذهب وحقّق، ولم يخبر هو عن حقيقة الأمر بل قال: اذهب وحقق.

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

6
  • قال الحاكم: حسنًا، يا من جاء بهذه الغنمة كيف وجدتموها؟ قالوا: نعم، خرجنا لنبحث عن غنمة مسروقة، فرأينا أنّ كل هؤلاء الرعاة، وكل هؤلاء الذين لديهم قطعان من الغنم يرعونها، كلهم ينتسبون إلى فلان وفلان من أصحاب المراكز في الدولة، ولم نجد إلا هذه العجوز الفقيرة... ـ وهكذا هو الحال عادة!! ـ وجدنا فقيرة بائسة ورأينا أنّه ليس هناك أفقر منها، فأخذنا غنمة منها وأحضرناها. فقال شاه نعمة الله: اذهبوا وأحضروا تلك المرأة العجوز. فذهبوا وأحضروها. فقال: دعونا نرى ماذا حدث حين جاؤوا إليك وأخذوا هذه الغنمة؟ قالت: الحقيقة أنّ ابنتي مرضت قبل سنوات، مثلاً العام الماضي، مرضت وكادت تموت، فنذرت أن يشفي الله ابنتي لتكون هذه الغنمة لشاه نعمة الله، فشفى الله ابنتي، وكانت هذه الغنمة هكذا بين اثنين أو ثلاثة من العنزات الأخر، ويبدو أنّها كانت من الماعز، وكانت هذه العنزة بينها، وكنت أنتظر هكذا، ومهما قلت لهم لا تأخذوا هذه فهي ليست لي لم يكونوا يسمعون ـ فعندما يكون العمّال مستندين إلى هذا الحاكم فهم لا يستمعون إلى أحد، لا يستمعون إلى النساء العجائز، ولا إلى غيرهنّ ـ فلم يعيروا أيّة أهميّة وأخذوا تلك العنزة ومضوا بها. وفجأة ارتفع الضحك في المجلس، واتّضح أنّ الحقّ قد وصل إلى صاحبه.

  • حسنًا، فانظروا الآن كيف يتمّ التخطيط، وما هي الحسابات التي يتمّ إجراؤها في البين، بحيث يذهب هؤلاء ولا يأخذون من هذا ولا من ذاك، يذهبون بدقّة إلى تلك الخيمة وإلى تلك المرأة العجوز، التي تمتلك هذه الماعز.

  • هذا هو عمل أولياء الله، هكذا هم أولياء الله، يذهبون بدقّة إلى هناك، فمن حيث الظاهر ما حكمها؟ هذا المال حرام، حتى الحاكم نفسه لا يجوز له أن يأكله، فالحاكم أكل من الأموال النجسة ومن أموال الناس إلى درجة أصبح معها لا يفرّق بين الحرام والحلال، لا يتأثّر، لا فرق لديه، والمحيطون به أفضل منه في سرقة الناس وينافس بعضهم بعضًا في ذلك. 

  • ينظر هنا شاه نعمة الله ولي فيرى أنه لا مشكلة في هذا المال بحسب الظاهر، ولو قالوا له إنّ هذه الشاة مغصوبة، هذه الماعز التي أحضروها الآن مغصوبة، فربما لا يأكل بل يمتنع. وإن أمكنه أن يكشف الأمر للناس بنحو ما، ولكن بحسب الظاهر لا يقدم ولا يأكل، ولكن بما أنّهم لم يخبروه فقد بدأ بتناول الطعام، بدأ بالأكل منها، على أساس أنّه يجب أن لا يكون في طعام أولياء الله حرام، فعلى هذا الأساس يسير، ويتّضح أنّها كانت حلالاً، أي يتّضح أنّها كانت حلالًا من البداية، ولكن لو أخبروه من البداية ربما قال هذا مغصوب، وما لم يتّضح ذلك فلن أمسّ هذا الطعام ولا أتناول منه. 

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

7
  • وهذه الطريقة في الالتزام بالحكم الشرعي مدهشة حقًّا، فإحدى معجزات الشرائع، وخاصّة الشريعة الإسلاميّة المقدّسة، أنّ الأحكام واحدة للجميع، لا فرق، لا فرق هنا. وقد لاحظنا هذا، ورأيناه، ولمسناه في حياتهم، وفي كيفيّة علاقاتهم، فقد كانوا يهتّمون بذلك ويدقّقون. 

  • لماذا عدم التمييز في الشريعة؟ 

  • لماذا يجب أن يكون الأمر هكذا؟ لماذا يجب أن يكون الحكم هو نفسه للجميع؟ لماذا؟ 

  • لأنّ رغبة الناس بإنسان ما وعدم رغبتهم به لا ترجع إلى صفاتهم الحقيقية وتصوراتهم الحقيقية، فالكثير من هذه الرغبات قد تكون بسبب الحبّ والكراهية الظاهريّين، وقد تكون بسبب القرابة والرحم، وقد تكون بسبب الصداقة، وقد تكون بسبب الحصول على المنافع، يرى الإنسان مصلحته عند إنسان، فلا ينظر إلى أفعاله القبيحة بل يبرّرها، ولكن عندما تتغيّر الأحوال ولا ينال ما يتوقّع منه يعترض عليه، فأين كنت حتى ذلك الحين؟! لقد كان يعصي منذ عشر سنوات، فلماذا الآن تكلّمت؟ لم يفعل ذلك الآن، بل منذ عشر سنوات... لقد منعتني منافعي من النقد، منعتني العلاقات الأسريّة والعائليّة عشر سنوات، منعتني من الالتفات إلى الأخطاء، عشر سنوات من تلك العلاقات الخاصة والمصالح التي كانت تحت هذه العلاقات منعتني من الالتفات إلى خصائصه ومخالفاته وسيّئاته.

  • فما يجعل جماعة ما تميل إلى حركة معيّنة، ليس رؤيتها الحقيقية وبصيرتها، بل هناك قضايا ينخرطون فيها، ولهذا أمر الشرع بالنظر إلى العمل الظاهري للناس. 

  • التعامل بحسب الظاهر وحسنِ الظنّ له حدود

  • وطبعًا فإنّ مراعاة حسن النيّة والحمل على الصحّة لها مكانها، وعلى الإنسان أن يحسن النيّة، يجب أن يكون حسن النيّة، ولكن عندما يرى شيئًا خاطئًا، فهو خطأ، هو كذلك خطأ، لقد صار لديه يقين، والحمل على الصحّة هنا غباء، والحمل على الصحّة هنا تعامٍ، والحمل على الصحّة هنا تصامّ، والحمل على الصحّة هنا إلقاء للستر على الضمير والقلب والوجدان، فعلى الإنسان أن لا يحمل على الصحّة في كل مكان، فما معنى أن يحمل الإنسان على الصحّة رغم كون الآخر يرتكب الخطأ بوضوح وصراحة؟! ما معنى الحمل على الصحة ؟ لماذا كان الحمل على الصحّة لهذا ولم يكن لذاك؟!

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

8
  • المنع من سوء الاستفادة هي غاية التعامل حسب الظاهر

  • وهنا يتّضح لماذا حكم الإسلام بأنّ على الإنسان أن يحكم على وفق الظاهر، حتّى لا يسيء أحد الاستفادة، لا يقول: أنا من شيعة أمير المؤمنين فأفعل ما يحلو لي، سيشفع لي. كلاّ بل يأتي أمير المؤمنين بنفسه وبسيفه ذو الفقار ويضربه ويشقّه نصفين، لا معنى لهذا الكلام، فما الفرق بينك يا من يدّعي التشيّع ويرتكب الجنايات التي يريد وبين ذلك الإنسان غير الشيعيّ واليهوديّ والبهائي والنصراني وغير الملتزم وحتّى المنكر لله؟ ما الفرق؟ لا فرق أبدًا. لماذا؟ لأنّ كلاًّ من هاتين المخالفتين نشأتا من مصدر واحد، وهذا المصدر هو النفس، وأينما وجدت النفس وجدت المخالفة، ووجد ما يكره الله، الجناية، ما يكرهه الله، سواء كان الفاعل بهائيًّا أو مسيحيًّا أو شيعيًّا، الجميع على السواء ولا فرق بينهم أبدًا، لا فرق، لا فرق. المتّبع لأمير المؤمنين ولمدرسته والذي يعدّ نفسه منتسبًا لجهة وفئة معيّنة ومنتحلاً لنحلة ما، أليس عليه أن يفكّر بأنّه بأفعاله هذه يقصم ظهر مدرسته أكثر ممّا لو قال مخالفوه هذا الكلام أو ارتكبوا هذا الفعل؟ أيّهما أكثر إراقة لماء الوجه؟! أيّهما أكثر؟ 

  • هل مجرّد الانتساب إلى أمير المؤمنين يخوّلك أن تفعل ما تشاء؟ معنى آية {يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ}

  • لذلك فإنّ هذا الكلام الذي يقال بأنّ مجرّد انتساب الإنسان يخوّله أن يفعل ما يشاء برجاء أن يقع تحت رحمة الله والشفاعة لأنّه منتسب إلى الولاية وإلى التشيّع، هذا الكلام كلّه هراء فارغ، {يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذي في‌ قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً}۱فيا نساء النبيّ لستنّ كسائر الناس، فقد تغيّر موقعكنّ بسبب انتسابكنّ إلى النبيّ، يقولون: انظروا إلى زوجة النبيّ، والآن بعد ۱٤۰۰ سنة لا زالوا يقولون: قادت زوجة النبيّ جيشًا، السيّدة عائشة، القائدة عائشة، فنحن في الإسلام لدينا أيضًا قائدات! فمن قال أنّه ليس لدينا في الإسلام قائد جيش وضابط؟ فقد كانت هي قائدة الجيش وكان طلحة والزبير ضبّاطًا، فكم نجمة وعلامة يضع الضبّاط والقادة؟! وماذا يضعون على أكتافهم وصدورهم؟! يضعون معدن "البرونز"؟ يضعون النحاس؟ وهذه الأشياء التي يضعونها، وربّما كانت عائشة قد وضعت أساور، وشيئًا في رقبتها، ونجومًا وأمثال هذه الأشياء التي هي محض اعتبار، عندما يلبسها الإنسان ما شاء الله! عندما يضع الإنسان تلك القبّعة يغدو منظره مدهشًا ويستحقّ النظر.

    1. سورة الأحزاب (٣٣)، الآية ٣٢. 

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

9
  • ميزة خلافة أمير المؤمنين وعدم حاجتها إلى جعل الأحاديث

  • نعم فقد جاءت ووقف أمام خليفة الإسلام، الخليفة الذي انتخبه الناس أنفسهم، فقد كانت خلافة أمير المؤمنين عجيبة جدًّا، فقد حقّقها الله بطريقة لا يتمكّن أحد معها من العثور على أيّة نقطة ضعف، فالآن بعد ۱٤۰۰ سنة هم مشغولون بالبحث عن طرق وأساليب مختلفة لإثبات وتبرير الخلافة الظالمة والجائرة للخلفاء الثلاثة بأيّ نحو وبأيّ خداع، ولكن لماذا لا توجد أمثال هذه التبريرات لخلافة أمير المؤمنين؟ لأنّها حقّ، والحقّ لا يحتاج إلى تبرير، فالفخر الرازي الذي يريد أن يثبت في كتابه خلافة أبي بكر، يبذل قصارى جهده فيكتب ثلاثين صفحة ليبرّر خلافته وفي النهاية يقول الإجماع. 

  • ولم يكن إجماعًا ما انعقد، نحن لم نعقل ماذا كان! تلك الخلافة هي التي تحتاج إلى جعل أحاديث من أمثال أبي هريرة، ومن أمثال سمرة بن جندب، ومن أمثال الكذّابين الذين كانوا يجعلون الأحاديث للخلفاء ولبني أميّة وبني مروان ويتّهمون رسول الله ويفترون على خلافة أمير المؤمنين لقاء الدراهم وأكياس الذهب والفضّة! فيا إخواننا أهل السنّة كم حديثًا جعل لنثبت أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب خليفة بعد رسول الله كم حديثًا؟! تفضّلوا وأخبرونا! هل استطعتم أن تأتوا بحديث واحد وضعه الشيعة لتثبيت خلافة أمير المؤمنين؟! حسنًا تفضّلوا بسم الله وانظروا كم حديثًا وضع لتثبيت خلافة الأوّل والثاني والثالث في كتب أهل السنّة هذه؟ ربّما كان أقلّ من عدد النجوم بقليل، لماذا؟لأنّ الحقّ لا يحتاج إلى تبرير، الحقّ لا يحتاج إلى جعل للحديث، الحقّ لا يحتاج إلى التماس، الحقّ لا يحتاج إلى طلب واستجداء، الحقّ حقّ، من جاء فأهلاً وسهلاً به، ومن لم يأت ففي أمان الله!

  • الفارق بين حكومة الحقّ وحكومة الباطل

  • إنّه غير الحقّ الذي يقول: إن لم تبايع ألقينا في عنقك حبلاً وجررناك على الأرض جرًّا وأخذنا بك إلى المسجد وضربنا فرقك بالسيف حتّى تبايع!! هذا عمل الأوّل والثاني. وأمّا بالنسبة إلى الحقّ فأمير المؤمنين لم يكن يلزم أحدًا، من أراد أن يبايع فليبايع، ومن لم يرد فشأنه، فمتى طلب أمير المؤمنين من أحد أن بايع خلافتي؟! متى استجدى؟! كان يقول: من أراد أن يبايع فليتفضّل، ومن لم يرد فشأنه، ولم يكن يلزم الناس، ولم يكن يبغي الفساد، فما لم تتعرّضوا لنا لا نتعرّض لكم، فسعد بن أبي وقّاص لم يبايع أمير المؤمنين ولم يكن أمير المؤمنين يتعرّض له. حسنًا إن كنت معارضًا فشأنك، نعم إن أعلنت التمرّد وتعرّضت لأموال المسلمين وأعراضهم ودمائهم فعلى الحكومة أن تدفع الفساد، أما ما دمت لنفسك وتلتزم أعمالك الخاصّة فرغم أنّك تقول لعليّ أيضًا: نحن لا نوافقك، فإنّه يقول لك: هذا شأنك، هداك الله. إذا تكلّم كثيرًا يقول له الإمام: هداك الله. وينتهي الأمر، ولا يلقي به في السجن. 

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

10
  • هذا هو تطبيق الحكم الذي يمكنه أن يثبت كون هذه الأحكام حقًّا على نحو التساوي، أمّا لو كان لدينا في الإسلام مقرّب وغير مقرّب، فالمرتبطون بالأئمّة لهم حصانة قانونيّة، وغير المرتبطين بهم خاضعون للقانون، حينها كيف سيمكن للإسلام وحقيقة الإسلام أن تُبرز وتُظهر للنّاس كونها حقًّا وصوابًا؟ كيف؟ هل بما ذكرته سابقًا من مسألة الحبّ والبغض التي تدور ٩۸ بالمائة منها مدار الأمور غير الحقيقيّة؟! أليس هذا هو الواقع؟! إنّه عجيب جدًّا، فأحيانًا قد يحدث أن يعيش الإنسان مع آخرَ سنوات متمادية ويكون بينهما صداقة ورفقة، ويكون لهذه الصداقة حدّ، لها خطّ أحمر، ويسعى الإنسان أن لا يتجاوزه، فهذا يحبّ ذاك، وذاك يمدح هذا، وهذا يمجّد أفكار ذاك، وذاك يقبل بمنهج وأفكار هذا ويعمل بها، وفجأة يتجاوز هذا الخطّ الأحمر فتنهار كلّ تلك الأسس، والحال أنّ هذا كان يعلم ذلك من البداية، غاية الأمر أنّه لم يكن يتجاوز الخطّ الأحمر، كان يراعي ويُرفق ويوافق، وكان يخيّل إلى الآخر أنّ كلّ شيء على ما يرام، ولم يكن الواقع هكذا، فعمّ يكشف ذلك؟! يكشف عن أنّه لم يكن هناك العمق المطلوب. 

  • وطبعًا فإنّ أولياء الله يتعاملون معنا هكذا، "إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم"۱، فلا يمكن أن تحمّلهم ما هو خارج عن مستوى فهمهم ومستوى تدبّرهم وسعتهم الوجوديّة، إذا أردت ذلك تحيّروا واختلّ وضعهم، اختلّ. وقد كنت أستشعر بدقّة في الزمان السابق عندما كنت في خدمة الأعاظم كيف كانوا في مرافقتهم للأفراد في صدد التربية وزيادة السعة الوجوديّة وتصحيح الأفكار وتصحيح الأعمال، وذلك بالرفق والضحك والمزاح، فإلى جانب المزاح كانوا يلقون بقطعة صغيرة، ويطرحون أمرًا ما، فإذا ما أخذها الطرف المقابل فقد أخذها، وإذا ما تركها فإنّهم يطرحونها مرّة أخرى بطريقة أخرى وبنحو آخر عسى أن يأخذ بها، وكان يبدو أنّ البعض لم يكونوا يريدون أصلاً، بينما كان البعض الآخر يأخذون منهم. فالمرحوم العلاّمة نفسه كان يقول لي، لأنّي كنت أراه كيف يكون في تلك المجالس مع أساتذته كلّه آذان صاغية ويعطيهم جميع حواسّه، ويأخذ من كلّ كلام نقطة، ومن كلّ حركة وإشارة فكرة، فقد شاهدت ذلك بنفسي، وكنت أشعر أنّ المرحوم الوالد إذا تكلّم أساتذته يغدو دقيقًا حتّى إنّه يريد أن يقتنص منهم فكرة من كيفيّة تغيير وجوههم والتحوّلات التي تحصل في ملامحهم. 

    1. الكافي، ج۱ ص٢٣. 

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

11
  • لقد قال لي ذات يوم في تلك الرحلة التي تشرّفنا خلالها [بزيارة بيت الله] برفقته: على الإنسان أن يقتنص الفكرة من إشارات وجوه الأولياء فكيف بكلماتهم وبتصريحاتهم. فإلى أيّة درجة يجب أن يصل حال الإنسان بحيث أنّهم يصرّحون له إنّ هذا العمل الذي تقوم به باطل، ولكن مع ذلك يحوّل الإنسان هذا الكلام إلى معنى آخر ويغيّره. فكثيرًا ما كنت إذا ذهبت إليه أستفيد أمرًا لا من كلامه بل من سكوته، فقد كنت أذهب إليه أحيانًا وأطرح سؤالاً، ولكن كنت أرى أنّه لم يجب عنه، فكنت أدرك حقيقة الأمر، وألتفت إلى واقعه، أو كنت ألتفت من طريقة الجواب إلى درجة ذلك الحكم وذلك التكليف ونسبته المئويّة، فهذا أمر مهمّ، وهذا أمر لا بدّ من الالتفات إليه. 

  • عدم التمييز في الشريعة هو سبب انتشارها

  • فما نراه الآن من أنّ حكم الشريعة الإسلاميّة قد اتّسع وقد استقرّ في النفوس إنّما هو بسبب هذه الأمور، بسبب هذه المبادئ وأنّ تطبيق الحكم والتكليف واحد على الجميع، وهذه المسألة مسألة توحيديّة، فلا يمكن أن تنزل شريعة إلى هذا العالم تميّز بين الناس، فهذه ليست شريعة أصلاً، إنّها شيطان، إنّها شريعة الشيطان ودينه. 

  • إن كان لا بدّ أن تنزل شريعة ما، فلا بدّ أن تكون مسألة المساواة هذه فيها مشهودة، حتّى تتجلّى حقّانيّة الحقّ بواسطة ذلك أمام الناس وتقول: إنّي حقّ، وما دمت حقًّا فلا بدّ أن أكون على نحو واحد ونسق واحد، ويجب أن لا يشكّ أحد في حقّانيّتي ويتردّد. 

  • الرحمة الرحمانيّة العامّة والرحمة الرحيميّة الخاصّة

  • حسنًا فقد كان ذلك ممّا يرتبط بتتمّة كلام الليلة السابقة، وأنّه كيف هي تلك الرحمة الإلهيّة شاملة للجميع بنحو واحد وعلى السواء، وأنّ كونها على السواء للجميع يسبّب الاستثناء والدخول تحت الرحمة الخاصّة بالنسبة إلى بعض، أي إذا جاءت تلك الرحمة العامّة الأولى فإنّها تأتي للجميع وتدعو الجميع، لا أنّها تأتي أولاً خاصّة وتميّز بين جماعة وجماعة، وتعقد عقد أخوّة بينها وبين بعض ثمّ تذهب إلى الرحمة العامّة وتحقّق للجميع نعمًا في هذه الدنيا، وعلى أساسها يقدّر الله الأعمار للجميع لبضعة أيّام في هذه الدنيا، كلاّ، بل تلك الرحمة العامّة هي لجميع الأفراد، وهي بالنسبة إلى جميع الناس على نسق واحد، فهناك يوم يأتي وتصل فيه الحقائق لجميع من يجب أن تصل إليه على نسق واحد، وهذا كلّه بسبب تلك الرحمة العامّة. 

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

12
  • فعندما يأتي رسول الله ويتكلّم، فإنّ كلام رسول الله رحمة عامّة، وتحت منبر رسول الله الجميع جالسون، والنبيّ لا يوجّه خطابه لفرد معيّن ويقول: أنا أقول هذا الكلام لك، أو هذه المسألة موجّهة إليك، بل يقول أمرًا ما للجميع. هذه هي الرحمة العامّة. 

  • وعندما ينزل القرآن فإنّ نزوله هذا يبيّن للجميع ويقرأ للجميع، فهذه هي الرحمة العامّة، فمعاوية يسمع وعمر وأبو بكر يسمعان، وعمّار وسلمان وأمير المؤمنين أيضًا يسمعون، الجميع يسمعون، ثمّ لا يذهب هؤلاء سرًّا إلى بيت النبيّ أن يا رسول الله ألا تتضمّن هذه الآية التي نزلت استثناء ما؟ أخبرنا بهذا الاستثناء، لقد خجلتَ من ذكره أمام الناس، ولكن أخبرنا به سرًّا.

  • وقد قلتُ أحيانًا للرفقاء في مجالس عنوان البصري التي تعقد إنّ أمير المؤمنين في نهج البلاغة يقول أنا أقول لكم ما قاله رسول الله ولا أخفي شيئًا ولكن هناك من يعمل وهناك من لا يعمل. وأحيانًا أتكلّم ساعتين في مجالس عنوان البصري فإذا نزلت عن المنبر يأتي من يقول لي: انصحني. فأقول له: فماذا كنت أصنع خلال هاتين الساعتين على المنبر إذن؟! هل كنت أتكلّم مع الجدران والأبواب؟ لا معنى لأن تقول: انصحني، الساعتان كثيرتان، خذ منهما خمسة دقائق تكفيك لآخر عمرك، فماذا كنت أصنع على المنبر؟! 

  • هذا كلّه رحمة عامّة، فالحديث على المنبر وبيان الحقائق هو رحمة عامّة، والرفقاء والأصدقاء الذين يذهبون إلى المدن ويبلّغون الحقائق للنّاس فعلهم هذا هو رحمة عامّة، وتحت اسم الرحمن ونزول الصفات الرحمانيّة، فالرحمانيّة ليست بالخبز والماء والشمندر والكوسى، الرحمانيّة تشمل الأرزاق الظاهريّة والأرزاق المعنويّة على السواء، فكلّ ذلك مصاديق للرحمانيّة، لذلك لا يمكن لأبي بكر يوم القيامة أن يقول: لم يخبرني رسول الله. لقد أخفى عنّي. كلاّ فالنبيّ يقول: ما قلته لعليّ فقد قلته لك، ولكنّه هو أطاع وأنت لم تطع، لم تصغ، وذهبت ليلاً وعقدت مجلسًا وجمعت أصحابك وندماءك وتآمرت على الكلام الذي تكلّمت به اليوم، ثمّ بعد ذلك تقول لي: أخبرتَ عليًّا ولم تخبرني! أخبرت عليًّا بأمور لم تخبرنيها!. لماذا فعلت ذلك؟! أليس لدينا في التاريخ أنّه كلّما كان يتكلّم النبيّ كانوا يعقدون جلسة ليلاً في بيت عبد الرحمن أو بيت الجرّاح أو بيت أبي بكر أو فلان ويقولون: تعالوا نتشاور حول كلمات النبيّ اليوم، تعالوا نغوص فيها لنرى ماذا يمكن أن نصنع من خدع؟! ماذا يمكننا أن نردّ؟ لقد كانوا يفعلون ذلك، وقد كتب في الكتب. أمّا عمّار وإخوانه فماذا كانوا يفعلون؟ لا شيء، لا يعقدون جلسة ولا محفلاً، لا شيء، كانوا يسمعون الأمر من رسول الله، ويقولون: في أمان الله، ويمضون إلى العمل به، كانوا يعملون به. 

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

13
  • قصّة إسلام مالك بن نويرة

  • ماذا فعل مالك بن نويرة؟ لقد كان مالك بن نويرة شيخ قبيلة فجاء إلى المدينة وقصّتة مفصّلة والجميع سمعوها ورأوها، جاء وأسلم، عرض عليه النبيّ تعاليم الإسلام فمضى ودعا قبيلته إلى الإسلام، فقال رسول الله: "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة فلينظر إلى هذا"۱. فلحقه عمر وقال له اشفع لي فقد قال رسول الله إنّك من أهل الجنّة، فقال له: تركت الأصل ولحقت بي لأنّي من أهل الجنّة؟ وهذا لسان حاله طبعًا: تركت خالق الجنّة ومن أوجد الجنّة؟! أليس لدينا أنّ رسول الله قال لعليّ: أنت قسيم الجنّة والنار. فهذه الجنّة ومراتبها، والنار ومراتبها هي كلّها بيدك، أنت من أوجدها، وأنت عيّنت هذه المراتب في عالم الخارج بواسطة نزول مراتب ولايتك وقبول الأفراد لتلك المراتب، فبمقدار ما يقترب الإنسان من ولايتك ترتفع مرتبته، فولايتك إذن هي الجنّة، هي الجنّة المجسّدة والتي ظهرت في الخارج بهذا الشكل. وبغضك هو الذي صار جهنّم ونار جهنّم وتلك الدركات من النار. لقد تركت خالقها ولحقت بي؟ 

  • لقد أخذ مالك هناك بكلام رسول الله ومضى وانتهى الأمر، ولم يتكلّم النبيّ بعدها معه بشكل خاصّ ولم يكلّمه في الخفاء، كلاّ بل هناك أمر واحد هو رحمانيّة رسول الله التي شملته، وبعدها جاءت هذه الرحيميّة وجذبته إليها وصار من شيعة أمير المؤمنين ثمّ كان عاقبته أن استشهد، وكانت تلك الحادثة السوداء في التاريخ، تلك الحادثة المظلمة والفاجعة التي لم يحدث مثلها في التاريخ، حادثة إحراق باب منزل الوحي وقتل ابنة النبيّ وإسقاط جنينها، والحمد لله فالحكومة التي تقوم هكذا تكون هذه نتائجها، فهذه نتائج تلك وبركاتها، فالحكومة التي تقوم هكذا لا بدّ أن تقطّع ابنة النبيّ فهذا أمر طبيعيّ، اثنان زائد اثنين يساوي أربعة، هذه نتيجة ذلك في نهاية المطاف، فالحكومة التي تقوم على أساس الكذب والخداع والتزوير والقوّة نتيجتها هي إسقاط المحسن وقتل ابنة النبيّ وحرق مهبط جبرائيل، لا بدّ أن تكون هكذا، أمّا الذين إذا نزلت عليهم الرحمة الرحمانيّة عملوا بها وساروا على أساسها فهؤلا تنزل عليهم الرحيميّة الخاصّة، وتجذبهم إليها، فبما أنّك سمعت ورتّبت أثرًا، فتعال وانظر ماذا هناك، تعال وشاهد ماذا هناك، تعال وانظر. هذه هي الرحمة الرحيميّة، تعال وسر على هذا الأساس وتقدّم وتقدّم وارتق. 

    1. بحار الأنوار، ج٣۰، ص ٣٤٣: الفضائل: البراء بن عازب، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله جالسًا في أصحابه إذ أتاه وفد من بني تميم، منهم مالك بن نويرة، فقال: يا رسول الله علمني الإيمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: "تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله، وتصلي الخمس، وتصوم شهر (٤) رمضان، وتؤدي الزكاة، وتحج البيت، وتوالي وصيي هذا من بعدي - وأشار إلى علي (ع) بيده - ولا تسفك دما، ولا تسرق، ولا تخون، ولا تأكل مال اليتيم، ولا تشرب الخمر، وتوفي بشرائعي، وتحلل حلالي وتحرم حرامي، وتعطي الحق من نفسك للضعيف والقوي والكبير والصغير حتى عد عليه شرائع الاسلام"فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله! أعد علي فإني رجل نساء، فأعادها عليه فعقدها بيده، وقام وهو يجر إزاره وهو يقول: تعلمت الايمان ورب الكعبة، فلما بعد عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال صلى الله عليه وآله: "من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا الرجل".فقال أبو بكر وعمر: إلى من تشير يا رسول الله (ص)؟!. فأطرق إلى الأرض فاتخذا في السير فلحقاه، فقالا له: البشارة من الله ورسوله بالجنة، فقال: أحسن الله تعالى بشارتكما إن كنتما ممن يشهد بما شهدت به، فقد علمتما ما علمني النبي صلى الله عليه وآله، وإن لم تكونا كذلك فلا أحسن الله بشارتكما.فقال أبو بكر: لا تقل ذلك فأنا أبو عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وآله. قال: قلت: ذلك فما حاجتكما؟.قالا: إنك من أصحاب الجنة فاستغفر لنا.فقال: لا غفر الله لكما، أنتما نديمان لرسول الله صلّى الله عليه وآله صاحب (٥) الشفاعة وتسألاني أستغفر لكما؟! فرجعا والكآبة لائحة في وجهيهما، فلما رآهما رسول الله الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تبسم، وقال: "في الحق مغضبة"؟!.فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وآله ورجع بنو تميم إلى المدينة ومعهم مالك بن نويرة، فخرج لينظر من قام مقام رسول الله صلّى الله عليه وآله، فدخل يوم الجمعة - وأبو بكر على المنبر يخطب الناس - فنظر إليه وقال: أخو تيم؟.قالوا: نعم. قال: ما فعل وصي رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي أمرني بموالاته؟. قالوا: يا أعرابي! الامر يحدث بعد الامر الآخر. قال: تالله (۱) ما حديث شئ وإنكم لخنتم (٢) الله ورسوله، ثم تقدم إلى أبي بكر وقال له (٣): من أرقاك هذا المنبر ووصي رسول الله صلى الله عليه وآله جالس؟!. فقال أبو بكر: أخرجوا الاعرابي البوال على عقيبه من مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله!.فقام إليه قنفذ بن عمير وخالد بن الوليد فلم يزالا يكذان عنقه حتى أخرجاه، فركب راحلته وأنشأ يقول شعرا:
      أطعنا رسول الله ما كان بيننا***فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر 
      إذا مات بكر قام عمرو أمامه***فتلك - وبيت الله - قاصمة الظهر 
      يذب ويغشاه العشار كأنما***يجاهد جما أو يقوم على قبر 
      فلو طاف فينا من قريش عصابة***أقمنا ولو كان القيام على جمر
      قال: فلما استتم الامر لأبي بكر وجه خالد بن الوليد وقال له: قد علمت ما قال على رؤوس الاشهاد، لست آمن أن يفتق علينا فتقا لا يلتام، فاقتله، فحين أتاه خالد ركب جواده وكان فراسا يعد بألف فارس، فخاف خالد منه فآمنه وأعطاه المواثيق ثم غدر به بعد أن ألقى سلاحه فقتله، وعرس بامرأته في ليلته وجعل رأسه في قدر فيها لحم جزور لوليمة عرسه لامرأته ينزو عليها نزو الحمار.

شمول الرّحمة الإلهيّة على نحو المساواة

14
  • فإذن لا بدّ أن يكون هناك رحمانيّة قبل الرحيميّة، وما لم تأت الرحمانيّة لا تتحقّق الرحيميّة، لا تتحقّق، فالرزق المعنويّ لا بدّ أن ينزل على الجميع بصورة عامّة لكي يتمكّن من التكامل هؤلاء الذين يريدون بواسطة العمل.

  • حسنًا فالبحث له تتمّة ولكن نكتفي بهذا المقدار، وإن شاء الله نتعرّض لسائر المواضيع التي في هذه الفقرة والتي هي أنّ جودك وكرمك يا الله كما يقول الإمام السجّاد هما للجميع على السواء، فالعطاء من جهة والكرم من جهة أخرى هما للجميع، وهما يتجلّيان للجميع وهما للجميع على السواء، ولا يعرفان مقرّبًا وغير مقرّب، ومؤمنًا وغير مؤمن، وطالحًا وصالحًا، بل هما للجميع على السواء. لذلك فهذا ما يؤدّي بنا في كثير من الأحيان أن لا نقوم بما علينا، وإن شاء الله سنتحدّث عن ذلك في الليلة القادمة.

  •  

  • بِمحمّدٍ وآلِه الطاهرينَ وصلِّ على محمّدٍ وآلِه أجمعينَ