المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالخسران و بطلان العمر
التاريخ 1426/05/25
التوضيح
من هم الأخسرون أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنًعا؟ وما معنى من يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطانًا فهو له قرين؟
ماذا يحصل حتّى يحسب الإنسان أنّه يحسن صنعًا؟ كيف نحفظ أنفسنا من الدخول في هذه المهلكة؟
تجيب هذه المحاضرة عن هذه الأسئلة من خلال تفسير الآيات وشرح الأحاديث المرتبطة بذلك. وتؤكّد على دور التعقّل والتفكّر في حفظ النفس، وتكشف عن قانون سلوكيّ وفكريّ أساسيّ وهو التمييز بين المحور الثابت وبين المظاهر والأدوات المتغيّرة، وتمثّل لذلك بمجموعة من الأمثلة.
هو العليم
المحور الثابت والمظاهر المتغيّرة
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱۱۷
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
ما معنى "ولا يدع أيّامه باطلاً"؟
يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان: ولا يدع أيّامه باطلاً.
أي إنّ المتّصف بهذه الأوصاف التي ذُكِرت، يجب أن لا يقضي عمره بالبطالة.
تقدّمت بعض الأبحاث حول معنى البطلان والبطالة في الجلسات السابقة إن كنتم تذكرون، وأنّ معنى البطلان هو الخواء، الخاوي هو الشيء الذي لا قيمة له ولا مقابل، يعطي الإنسان شيئًا ولا يأخذ مقابله شيئًا، فهذا معنى البطلان والخواء. لا نفع في عمله، فهذا معنى الخواء والبطلان.
كما تقدّم في الجلسة السابقة أنّ مقصود الإمام عليه السلام من هذه العبارة ليس أن يعمل الإنسان عملاً محرّمًا ثمّ ينال شيئًا مقابله؛ لأنّ هذا الأمر خارج عن محلّ البحث. بل المقصود هو أن يعمل الإنسان عملاً له ظاهر محمود، يُعتقد أنّه حسن، أمر يهتمّ به الناس ويريدونه، ولكنّ الإنسان لا ينال شيئًا وراء هذا العمل. هذا المعنى هو معنى البطلان.
من هم الأخسرون أعمالاً الذين يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا؟
في الآية الشريفة يقول: {قل هل ننبّئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا}.۱ وذكرنا في الجلسة السابقة أنّ المعيار في بحثنا هو هذه الآية وهو بكامله يتمحور حولها. فالمستوى الأوّل الذي يمكن أن نتصوّره لمسألة البطلان هذه، مستواها الأوّل الذي يمكن أن نستلهمه من هذه الآية، وإن شاء الله في الجلسات اللاحقة سنتعرّض للمستويات الأخرى التي هي أكثر ظرافة ودقّة وعمقًا...:
تقول الآية قل هل تريدون أن أخبركم من هم أكثر الناس شقاء وخسرانًا ومسكنة وفقرًا؟! من بين الناس الذي يعيشون في هذه الدنيا ويعملون هذه الأعمال التي يقوم بها الناس، ويعيشون حياتهم، هؤلاء الذين يتصوّرون أنّ العمل الذي يقومون به هو عمل خيرٍ حسنٌ في حين أنّ كافّة جهودهم ومساعيهم قد ذهبت أدراج الرياح في هذه الدنيا وصارت هباءً منثورًا ولم يبق منها لهم إلا التعب والنصب.
ما معنى كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع...؟
وقد تذكّرت الآن رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ! وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء! حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم۱ وهي رواية عجيبة فالإمام يقول فيها كم من الناس يحيون الليل حتّى الصباح بالعبادة والصلاة والذكر والسهر، في حين أنّهم ليس لهم من هذا السهر إلا التعب والإرهاق وقلّة النوم والكآبة، وكم من أناس يقضون نهارهم من الصباح حتّى المساء ممسكين ولا يعود عليهم سوى الجوع والعطش والتعب، هنيئًا للأذكياء ـ وأولي الفهم والكياسة الذين يغتنمون الفرص ـ على إفاطرهم ونومهم، هؤلاء الذين ينامون ولكنّ نومهم ليس عن غفلة، نوم عن فهم، عن تدبّر، عن تفكير بالمصلحة. لا لأجل الغفلة يغطّون في النوم ولا يقومون حتّى الصباح. وإذا ما أفطروا فإنّ إفطارهم عن بصيرة ونظر، لا عن قلّة مبالاة وتساهل وتسامح وعدم التفات وانغماس في أمور الدنيا وغفلة عن أمور الآخرة.
ثلاثة أصناف للناس في الدنيا
الصنف الأول: أهل النعيم في الدينا والملذّات الدنيويّة الواضحة
لماذا هؤلاء مساكين وأشقياء؟ لماذا؟ لأنّ المشغول بالمعاصي في هذه الدنيا ينال على الأقل حظًّا منها في هذه الدنيا. ففي النهاية يقضي حياته في هذه الدنيا كما يحبّ ويهوى، يسرق، يشرب الخمر، يختلس، يقامر، يزني، يكذب، يرشو، يخادع الناس، يكذب على الناس، يعدُهُم كذبًا ويطوي حياته هكذا بهذه اللذائذ النفسيّة، أمّا أنّه لا شيء له في الآخرة فهذا أمر آخر، فعلى الأقلّ قضى دنياه بهذه الطريقة.
الصنف الثاني: أهل الشقاء في الدنيا والآخرة
أمّا من أراد أن يجعل حياته في هذه الدنيا بحيث يحرم نفسه فيها، وفي المقابل لا يجني شيئًا سوى هذا التكبّر والملذّات النفسيّة دون تلك اللذات المتعارفة، أفتحسبون أنّ من يريد أن يبلغ الزعامة ينام بهدوء؟ لا ينام من الليل إلى الصباح وهو يخطّط ماذا يفعل غدًا. لا ينام مرتاحًا، هو وأعوانه الآخرون هنا وهناك. لماذا؟ لأنّه يريد أن يصل إلى الرئاسة. فالرئاسة لا تُقدَّم هكذا لمن هو جالس في البيت! في النهاية على الإنسان أن يقوم بعمل ما، عليه أن يكذب بضعة كِذبات هنا، ويعِدَ بضعة وعود كاذبة هناك، فيشدّ إليه اهتمام عدد من الناس، ويجذب جماعة أخرى بأمور باطلة ويحكم بالباطل. كيف يخطّط بحيث يتغلّب على خصمه والمحيطين به، فهل لهؤلاء بال مرتاح؟! أنتم جلستم هنا مرتاحين وأنا أتكلّم معكم مرتاحًا. أمّا أولئك الذين لديهم أغراض في أذهانهم فإنّهم لا يرتاحون، لا بدّ أن يكون نهارهم وليلهم وحياتهم وجميع ما لديهم فداء للأمور التي تبلغ بهم إلى هذا المركز وهذا المقام.
وعندما يصل الإنسان إلى مرتبة وإلى منصب فهل ينتهي الأمر؟! كلاّ، فهنا خصام يومًا ما، وهناك خصام في يوم آخر، عليه أن ينظر هنا وأن ينظر هناك، عليه أن يرى هذا وأن يرى ذاك. ولكن ما هي نتيجة كلّ هذه الجهود؟ هو أن أكون رئيسًا، هذه هي. هل يحصل الإنسان على شيء آخر؟! أيّ شيء مهمّ ينال الإنسان هنا؟!
لماذا جاء عمر وتوسّل بكلّ كذب؟ أوّل كذبة هي أنّه أشاع في المدينة أنّ النبيّ لم يمت، غاب عن الوعي وسقط على الأرض، وبعد بضعة أيّام سيعود ويصلح الأمر! لماذا؟ لكي يتأخّر قليلاً موعد السقيفة التي كان من المقرّر أن تكون، فعليه أن يشدّ اهتمام أذهان الناس إلى هذا الأمر كي لا ينتخبوا أحدًا، حتّى يرجع أبو بكر، ما إن يرجع أبو بكر من خارج المدينة يقول: ماذا تقول يا عمر هل مات النبيّ؟! هل مات؟! يقول: نعم لقد مات النبيّ. بما أنّ صديقه قد جاء فلنذهب ولنُعدَّ السقيفة الآن. فجاؤوا إلى السقيفة وبالقوّة والمنازعة وبضرب ذلك الذي ذكر أمير المؤمنين على فمه حتّى امتلأ دمًا، ثمّ وبالخداع والمكر أوصل أبا بكر إلى الخلافة. لأيّ شيء؟ لكي يأتي هو بعد أبي بكر ويجلس على المسند. حسنًا فماذا نلت؟! ماذا حصّلت؟! ماذا وجدت من هذه الرئاسة والخلافة؟! سوى أنّك أحسست أنّك خليفة المسلمين على جميع الرقاب وعلى جميع الممالك، الجميع تحت سيطرتك. مع غضّ النظر عن تلك الأعمال المحرّمة. فلنفترض أنّ الأمر كان من دون ارتكاب حرام وقتل ابنة النبيّ وإسقاط جنينهها وأمثال ذلك. لنفترض أنّ ذلك لم يكن. ماذا حصّلت؟ ماذا أخذت من هذه الخلافة؟ ماذا جنيت منها؟
الصنف الثالث: أهل النعيم في الدارين والطمأنينة بالله
أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فماذا يصنع؟ أمير المؤمنين بكلّ بساطة وسهولة وبدون آلام في الرأس، هو يعلم أنّهم يشكّلون اجتماع السقيفة الآن وماذا يصنعون. جلس أمير المؤمنين في المنزل يكفّن ويغسّل ويدفن النبيّ صلّى الله عليه وآله، فليفعلوا ما يشاؤون، لقد جلس مرتاحًا بلا اضطراب في فكره وانزعاج وقلق. سأتأخّر أم لا يزال هناك وقت، يجب الآن أن يغسل بدن النبيّ ولا بدّ أن يكون الغسل بواسطة إمام معصوم.
لا يمكن لأحد غير الإمام المعصوم أن يغسّل بدن الإمام، فكيف برسول الله؟ لذلك يجب أن يقوم بالتغسيل الإمام نفسه، ويجب أن يكفّنه أيضًا. فإذا أنجز جميع الأعمال، وعيّنوا هم خليفة، فهذا النبيّ علينا أن نصلّي عليه وندفنه.
لماذا؟ لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يفكّر في عالم آخر يختلف عن تفكير الآخرين، يختلف عن ذلك الهدف الذي يهدف إليه الآخرون، بطريقة أخرى غير تلك الطريقة والتفكير اللذين يسلكهما الآخرون في تفكيرهم في الأمور. هو يفكّر في أمر آخر. إن وصلت إليه الخلافة فبها، وإن لم تصل فليكن، بكلّ سهولة؛ ولذلك هو هادئ، يقوم بأعماله مطمئنّ البال، ثمّ وعندما يرى أنّ الأمر هو هكذا يعمل بتكليفه. في المرحلة الأولى لا يبايع، لأنّ هذه البيعة بيعة للظلم ومحرّمة، والشيعيّ والمؤمن لا يمدّ يد البيعة لمن وصل إلى الخلافة والحكومة بواسطة الكذب. ولذلك لا يبايع أمير المؤمنين عليه السلام ذلك الحاكم الذي عيّن على خلاف النصّ على أمير المؤمنين، وبواسطة السقيفة. ثمّ يأتون بالقوّة ويضعون يده على يد أبي بكر ويعدّون ذلك بيعة. إن أردتم فافعلوا ذلك بايعوا حسنًا. بهذا النحو هي أمر آخر. هذا الطريق طريق أمير المؤمنين عليه السلام، وذاك المنهج منهج عمر وأبي بكر.
{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم} ضلّ يعني بطل، الذين بطُل جهدهم في هذه الدنيا، أي بذلوا جهدًا وأثاروا ضجيجًا، صرفوا الأموال، أتلفوا أعمارهم في هذا الطريق، توسّلوا بكلّ حيلة ووسيلة، طرقوا كلّ باب حتّى وصلوا إلى هذه النقطة، ولكن في المقابل لا يحسب لهذا العمل حسابٌ مثقالَ ذرّة، هذا ما يقال له: ضلّ، ضلّ يعني بطُل. {ضلَّ سعيُهم }ـ بطُل سعيُهم ـ {في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا}: إنّهم يعتقدون أنّهم يقومون بعمل حسن، هذه النقطة يجب أن نبحث حولها.
ما عوامل أن اعتقاد الإنسان بحسن أعماله الباطلة؟
ماذا يحصل حتّى يعتقد الإنسان أنّ عمله صحيح؟ ما هو العامل الذي يؤدّي أن يتصوّر الإنسان ذلك؟ كيف نحفظ أنفسنا من الدخول في هذه المهلكة؟ علينا أن نعرف ما هي العوامل التي تؤدّي بنا أن نصل إلى هذه النقطة. ففي النهاية العمل المحرّم معروف، شرب الخمر معروف، الزنا معروف، السرقة معروفة، الكذب معروف، الحيلة والقمار معروفان، الغشّ معروف، هذه أمور معروفة والإنسان يمكن أن يحترز عنها، أن يكفّ نفسه عنها، ولكن ماذا نفعل بهذه الآية التي تقول إنّ الإنسان يشعر في نفسه أنّه يعمل عملاً صالحًا، يشعر أنّه يقوم بعمل حسن، عمل مناسب ومرضيّ من قبل الله {وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا}؟!
إنّه لا يقول وهم يفكّرون وهم يعتقدون. فيحسبون يعني يتخيّلون، يتصوّرون، يظنّون ذلك. فعنوان الحسبان هنا ناظر إلى هذا الأمر وأنّهم لا يعتقدون، فالعلل والعومل الظاهريّة قد أوجدت حجابًا تخيّليًّا وتصوّريًّا لذهنهم، وهم يرون أنّهم يعملون عملاً موافقًا لرضا الله. ولكن ليس هذا العمل عن تفكير.
الفكر والتعقّل طريق إلى الواقع، وطريق إلى الباطن، التعقّل لا يمكن أن يوصل الإنسان إلى خلاف الباطن، التفكّر لا يمكن أن يوصل الإنسان إلى خلاف رضا الله. ما يسبّب أن يعتقد الإنسان أنّه مستقيم وهو في طريق الانحراف، هو عبارة عن سلسلة من الأمور المجازيّة وغير الواقعيّة والمخادعة والمخالفة للواقع، وهذه السلسلة من الأمور تدخل الإنسان في غطاء من التوهّم والتخيّل هما علّة أساسيّة لإرضاء التلذّذات النفسيّة: لو لم أكن أنا فلا يمكن لأحد أن يقوم بهذا العمل! انظروا هذا تخيّل. إن لم آت سيكون الأمر أسوأ! هذا تخيّل! كلّه أنا...! لو لم أقدم أنا فمن كان سيرفع هذا الحمل؟! لو لم أقم أنا بهذا العمل فمن يمكنه أن يدافع عن المظلوم ويحقّ الحقّ؟ وكأنّه ليس للسماء إلاّ رجل واحد قدّمته إلى هذه الدنيا وأرسلته إلى الأرض وهو جناب هذه "الأنا" هذه الأنا موجودة عند الجميع، أنا أقول: أنا، وهذا أيضًا يقول: أنا، وذاك أيضًا يقول: أنا، جميعنا نقول: أنا، فأيّها هو الصحيح؟ أيّها هو الصحيح؟ لا يمكن أن أقول أنا: أنا. ويقول ذاك: أنا. ويكون صحيحًا وكذلك إنسان آخر، وثالث ورابع، جميعنا نقول: لو لم أكن لحصل كذا، لو لم أكن أنا... فإذن من الواضح أنّنا جميعًا غارقون في الخيال، جميعنا غارقون في التصوّر، لأنّ هذين الاثنين من "الأنا" لا يمكن أن يجتمعا، هذه "الأنا" تزيح تلك، وتلك تزيح هذه، وكلتاهما تزيحان الثالثة، وثلاثتها تزيح الرابعة وأربعتها تزيح الخامسة والمائة منها تزيح المائتين، والمائتين تزيحان الألف، والألف تزيح المليون والمليون تزيح السبعين مليونًا...
الجميع يتطاردون في هذه "الأنا"، لا أحد يجمع أناه مع أنا أخرى، ويحقّق الوحدة والألفة. فإذن هناك سبعون مليون تصوّر، وسبعون مليون تخيّل، وسبعون مليون وسبعمائة مليون وبضعة مليارات ومهما تقدّمنا... فكلّ من في هذا العالم هم جميعًا في تخيّل في تخيّل في توهّم. هذا معنى آية{ ويحسبون أنّهم يحسنون صنعًا}. فحيث إنّ الإنسان يحبس نفسه في حدود تمنعه من الاهتمام بالحقيقة. تلك الحدود وذلك الغطاء تمنعه من الوصول إلى الواقع. غطاء، عندما أضع على رأسي قماشة سوداء فلن ترى عيني شيئًا بعد ذلك. يأخذون بيدي ويقودونني إلى حيث شاؤوا فأنقاد لهم؛ لأنّي عيني لا ترى في النهاية. فيصطدم رأسي بالجدار، يصطدم بالعمود، يصطدم بالباب. لماذا؟ لأنّي سترت أمام عيني.
معنى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا
هناك آية شريفة أخرى في القرآن توضّح هذه الآية:{ وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ* حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ* وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ}۱ وإنّها لآية عجيبة جدًّا وتستحقّ الالتفات إليها تقول: من يغفل عن ذكر الله، يعشُ يعني يغفل يمتنع... نحن ماذا نتصوّر؟ نقول: تلك الغفلة التي ارتكبناها قد حصلت بواسطة الشيطان، فالشيطان جاء فسبّب لنا الغفلة، ولكنّ الآية لا تقول ذلك، تقول الآية عكس ذلك تمامًا. تقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} فأوّلاً تأتي الغفلة من ناحيتنا ثمّ يأتي الشيطان فيقوّيها ويعدّ لنفسه موضعًا عندنا. لا يقول: نقيّض شيطانًا للإنسان وهو يعشو عن ذكرنا، يأتي الشيطان ثمّ تحصل الغفلة. كلاّ أوّلاً تحصل الغفلة لنا. ما معنى ذكر الرحمن؟ ليس بمعنى التلفّظ بالأذكار، كلاّ. بل تذكّر الله وجعله في البال، جعل الله هو الوحيد الذي يلاحظ وتهميش كلّ ما سوى الله من الكثرات، هذا المعنى هو معنى ذكر الرحمن وذكر الله.
من يغفل عن ذكر الرحمن فهل ننظر إليه هكذا؟! كلاّ، بل بما أنّك غفلت، فإنّا نأتيك بشيطان ونجعله إلى جانبك حتّى لا تبقى وحيدًا! بما أنّه ينبغي أن لا تسير وحدك، فاذهب برفقة الشيطان، فلتسيرا معًا، فالوحدة ليست جيّدة! يقال إنّ السفر وحيدًا مكروه، نأتي بشيطان فنجعله إلى جانبك، نقيّض له شيطانًا، نختار له شيطانًا ونجعله إلى جانبه فهو له قرين يصبح له ملازمًا، الشيطان الذي نجعله هو محبّ إلى درجة، وعطوف إلى درجة بحيث لا يبتعد عنك حتّى مترين اثنين، بل يأتي ويلتصق بك. هل رأيتم هناك بعض الأعشاب تلتصق بنباتات الحديقة وتتّحد معها، فإذا أراد الإنسان أن يقتلعها تقتلع معها الورقة، فهي تصبح جزءًا من تلك الورقة، جزءًا من ذلك الساق، ثمّ بعد مدّة تقضي علها، ترى أنّ تلك النبتة قد اصفرّت بعد مدّة، ونبتة العشقة٢ المعروفة يشير اسمها إلى هذا باللغة العربيّة، فالعشقة هي تلك النبتة التي تنبت بنفسها ثمّ تلتصق بنبتة أخرى أيّ نبتة تجدها، ثمّ تجعل نفسها جزءًا من تلك النبتة بحيث لا يمكن أن تفصل عنها، وأحيانًا يجب أن تقتلع النبتة الأخرى، لأنّها تسري، وتسري بسرعة أيضًا. فهذا الشيطان الذي يقيّضه الله يسبقنا جميعًا في عالم الصداقة. يقول: أنا آتي وأصبح رفيقًا لك ولكنّي لست رفيقًا إلى نصف الطريق. لست بالرفيق الذي يأتي من بعدك، لست بالرفيق الذي يبتعد عنك خمسة أمتار، بل آتي وألتصق بك بحيث لا يمكن أن أنفصل عنك، تصبح بين هذا الإنسان والشيطان الذي قيّضه الله وحدة.
فإذن لم يأت الشيطان أوّلاً كما يقولون: خدعنا الشيطان لنفعل هذا الفعل! لقد فعلوه هم بأنفسهم عبثًا! ولم يخدعهم الشيطان، الشيطان المسكين لم يفعل أمرًا كهذا، من خدع؟! أنت ذهبت وخُدعت، من الذي قال إنّ الشيطان خدعنا؟ ما هذا الكلام؟ نريد أن نلصق ضعفنا بالشيطان، لا دور للشيطان في هذا الأمر. عندما يرى الشيطان أنّ هذا المحترم صار بواسطة الغفلة مستعدًّا لأن أنفذ يقول: أنا أدخل الآن، الآن أنا آتي وأخطّط له، الآن أنا آتي وأهدي تفكيره في ذلك الطريق الذي يوصله إلى المقصود خير إيصال. {فهو له قرين} سيكون قرينًا ولن يجلس عاطلاً عن العمل. يقال إنّ الرفيق هو من يبيّن للإنسان دائمًا مصالحه وينبّهه ويبيّن له الأمور التي هي لصالحه. فإذا جاء هذا الشيطان المحترم وصار قرينًا فإنّه يبيّن له كلّ ما هو في صالحه الواحد تلو الآخر. اذهب من هذا الطريق، لا تذهب من ذاك، اشتمه، اكذب عليه، خادعه، عده وعدًا كاذبًا، اصنع به هناك كذا، لا تخبره بسجلّه، اصنع بهذا السجلّ كذا، أفسد بين هذا وذاك، يأتي ويقول كلّ ذلك. لماذا؟ يقول أريد أن أؤدّي حقّ الصداقة معك! يقول: هذا ليس كذبًا أو ما يشبهه، الكذب الذي تكذبه كذب لمصلحة، لا إشكال فيه، أنت صاحب هدف مقدّس، أنت تريد أن تفعل هذا العمل.
جاؤوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقالوا: دع معاوية الآن في منصبه حتّى تستقرّ دعائم حكومتك، وبعد ذلك تعزله، فقال لا يمكنني أن أرى للحظة واحدة واليًا يرتكب المخالفات.۱ ألم يكن أمير المؤمنين يعرف أساليب الخداع؟ يقول في كلام له: والله ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر٢. يخادع وأنا لست من أهل الخداع. إنّه ليس أذكى منّي، إنّه من أهل الخداع إنّه يتوسّل بأيّ وسيلة ليصل إلى الحكومة. لا فرق عنده بين الصدق والكذب، والحق والباطل عنده سواء. المهمّ هو ما يوصله، إن كان حقًّا فبها، وإن كان باطل فبها لا فرق لديه.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام أنا لا يمكنني أن أرى لحظة واحدة على رأس الحكومة إنسانًا يرتكب المخالفات، هذا سبيلي، إن لم يرض به أهل السياسة فشأنهم، إن لم يرض به أهل الدنيا فشأنهم. لا علاقة لي بذلك.
{ومن يعش عن ذكر الرحمن} من يغفل عن ذكر الرحمن {نقيّض له شيطانًا}. الله يقول؛ فإذن علينا أن نعلم أنّ الله أرسل ذلك الشيطان الذي يأتي ويسرع في مساعدتنا، ويجعل نفسه تحت تصرّفنا بكامل قدرته. أنت غفلت عن ذكري، فانظر إلى جواب ذلك! أنت نسيتني في عملك! أنت نسيتني من سلوكك! أنت نظرت إلى نفسك فحسب! فلو أراد الإنسان أن ينظر إلى الله فإنّه لا يعمل بهذا النحو. لا يعمل هذه الأعمال! لقد نحّيتني جانبًا! حسنًا فأنا أجعل إلى جانبك مشاورًا أمينًا مائة بالمائة ورؤوفًا وعطوفًا ومخلصًا وذكيًّا ليساعدك، يحمل عنك، يعيّن لك أين تذهب وأين تمتنع عن الذهاب، ماذا تقول وماذا لا تقول. أين لا تقول الحقّ، لا تقل الحقّ لأجل مصالحك. إنّه يساعدك، وهناك عكس ذلك أيضًا هناك عكسه. {فهو له قرين}، إنّه معه قرين.
ما هو العمل الذي يقوم به هؤلاء؟ ليصدّونهم عن السبيل. يمنعونهم عن طريقهم. يسدّون عليهم طريقهم، هؤلاء الشياطين يسدّون طريقهم، فما معنى ذلك؟ أي يأتون ويزيّنون لهم المظاهر المادّية والقيم المادّية والجواذب الماديّة بحيث لا يعود لهذا الدماغ وهذا القلب معها ميل إلى القيم المعنويّة. هذه القيم الظاهريّة تأتي وتتجلّى لهم، وترفعهم، فتحلّ المكانة والأمر والنهي مكان استقبال الملائكة وعالم الأرواح. يعطونهم السلام والصلوات [عند الدخول إلى المحافل] بدلاً من تهاني عالم الأنوار وعالم الملائكة. يحتلّ التعظيم والتكريم الظاهريّ والتحسين والتمجيد من المتملّقين مكان تهاني عالم الملائكة ورضا الله. وهذه القيم المادّية والجواذب الماديّة تأتي بها الشياطين التي نقيّضها لهم وتجعلها محيطة بهم وتعدّ لهم الفرص. فهم يأتون من هذه الناحية أيضًا، فهم يؤدّون وظيفتين اثنتين: فمن جهة يسوقون الذهن والفكر نحو هذا النوع من الأمور الجذّابة، ومن جهة أخرى يهيئون الظروف المناسبة لأجل ذلك.
فإذا ذهب الإنسان إلى مكان ما فلم يجد استقبالاً من الناس فحزن وفكّر وتأذّى أن يا ويلي أتيت لأتكلّم هنا فلم أجد اثنين. أتيت لأعمل هنا هذا العمل فلم يشجّعني اثنان، أتيت لأقوم بذاك العمل فلم يمدحني أحد ولم يثن عليّ. هؤلاء الشياطين هؤلاء المحترمون يعملون على الإنسان إلى درجة أنّهم يحرّكونه نحو هذه المكانة بكامل قدرته وكامل دوافعه وقواه وإمكاناته، فيلقون به في هذه المهلكة، ومن جهة أخرى يجمعون الناس لنا أيضًا، لأنّه في النهاية لكلّ إنسان مخاطبون. فهم من جهة يقودون الإنسان نحو ذاك الاتّجاه، ومن جهة أخرى يهيّئون الظروف المناسبة للإنسان حتّى لا يشعر بالوحدة، حتّى لا يشعر بالفراغ، حتّى لا يشعر بالهزيمة، حتّى لا يشعر بالركود والخمود، ويبقى نشيطًا دائمًا، وهذا النشاط الكاذب والمجازيّ يقف أمام ذاك النشاط المعنويّ والروحيّ ويصبح حاجبًا وساترًا له.
{وإنّهم ليصدّونهم عن السبيل ويحسبون أنّهم مهتدون}. هنا يحسبون أنّ طريقهم صحيح. هذا العمل الذي نقوم به هو لأجل الله، هذا العمل الذي نقوم به هو كذا. هذا العمل الذي نقوم به في النهاية فيه هذه الأمور وهذه النوايا ورضا الله. حسنًا فإلى متى هذه القضيّة تستمرّ؟{ حتّى إذا جاءنا}. إلى أن ينتهي عمر هذا المسكين الشقيّ ويغلق سجلّه. الآن تفضّل إلينا، ليأت هؤلاء الذين روّجوا لك، ليأت هؤلاء الذين بذلوا الجهود من أجلك، فليأتوا إلى قبرك، فليأتوا ولينظروا ماذا حلّ بك؟ {حتّى إذا جاءنا قال يا ليت بيني...} فجأة يفتح عينه ولا معنى هناك للحسبان والظنّ والخيال، فهناك عقل، هناك نور. هناك يكشف الغطاء عن هذه العين فترى الواقع. إذا أراد الإنسان أن يفارق الدنيا ففي لحظة الاحتضار تلك تنكشف له الحقيقة، سواء كان مؤمنًا أو كافرًا. لا حاجة إلى القبر ومنكر ونكير. منذ تلك اللحظة، عندما تريد أن تخرج هذه الروح من التعلّقات المادّية وتقع عينها على عالم الواقع، عالم الملائكة، عالم الحساب والكتاب، وعالم الأمر والنهي، [هناك يقول:] عجيب ماذا حصل؟ لقد كنت أظنّ إلى الآن أنّ الأمر هكذا. فيبدأ بالصراخ ـ لدينا في الرواية ـ يا من أتلفت حياتي وقضيت عمري باطلاً لأجل دنياهم تعالوا وأدركوني۱. هذا في حال الاحتضار! تعالوا وأدركوني. وهم يسيرون في الغرفة في طريقهم، هذا يكتب إعلانًا للنعي، وذاك يقول لندعو ذلك الخطيب. وذاك يقول: فلنذهب ونشترِ التمر والحلوى٢، ولا أحد يسمع صوته، وهم مشغولون بأفكارهم، وذاك يقول: لنأت بلافتة ونعلّقها: رحيل كذا... وفاة جناب كذا وكذا و... وذاك يقول لنقم المجالس. هو يصرخ ويستغيث: أنا مشغول بمصيبة أخرى. ولكنّهم أصلاً لا يسمعون صوته ـ وإلاّ فهو يرى وهو ملتفت ـ وكأنّ شيئًا لم يكن، كلّ في عمله وحياته ومكانته. هذا الميّت يصرخ ويستغيث وذاك يفكّر في وجاهته وكيف يجب أن يكون المجلس على أبّهة ووقار؟ كيف نقيم مجلس العزاء بتكريم وتأبين ظاهرين؟ كيف نقيم مجلس الفاتحة بحيث يحفظ كرامة العائلة؟ نعم! هذا هو في النهاية.
هو مشغول بالقول هناك: {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين}. أيّها الشيطان الذي جئت وعقدت معي عقد الأخوّة وعهدها، ليت بيني وبينك مثل ما بين المشرق والمغرب ولم أر وجهك. {بعد المشرقين فبئس القرين} كم كنت قرينًا عجيبًا! كم كنت رفيقًا عجيبًا! ولكن لا فائدة الآن.{ ولن ينفعكم اليوم}. الآن؟ الآن تقول: {فبئس القرين}؟ الآن تقول: {بعد المشرقين}؟ لا فائدة الآن. {إذ ظلمتم أنفسكم أنّكم في العذاب مشتركون}. نلقي بكم جميعًا في جهنّم، اذهبوا إليها. هذا معنى {وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا}.
سجدة الشكر على الطمأنينة الناتجة من تربية الأعاظم
قبل مدّة كنت أقول لأحد الرفقاء: لو أنّا سجدنا سجدة الشكر إلى يوم القيامة ـ وأقوله جادًّا ولا أبالغ، وأنا الآن حاضر أن أثبت لكم غدًا، فهناك غد في النهاية ـ لو سجدت إلى يوم القيامة على هذا الهدوء والطمأنينة والسكينة والإحساس بالراحة التي حصلنا عليها من تربية أعاظم الدين وأولياء الله فصارت حقيقة المسألة واضحة لنا، لو سجدت سجدة الشكر لما أدّيت الأمر حقّه، أن كيف قدّموا لنا معيارًا لتمييز الحقّ من الباطل، وضّحوا لنا الفرق بين الحقائق والاعتباريّات، وضّحوا لنا، حتّى يوفّقنا الله ويعمل الإنسان بذلك. هذه هي المسألة المهمّة.
علينا أن نطلب التوفيق من الله للعمل بهذه الأمور، الأمور واضحة وتامّة، لقد بيّن المرحوم العلاّمة في كتبه الحقّ أكثر من اللازم، فالأمر تامّ في هذا المجال. في كلماته، استمعوا إلى كلامه، انظروا في كتبه التي بين أيديكم، هل هناك مشكلة يبتلى بها الإنسان غير موجودة في هذه الكتب؟ لقد بيّن الأمر. وبيّن الحقيقة في كلّ كتاب من كتبه ببيان مختلف، وبعبارات مختلفة، فإن لم يرد أحد ما أن يسير في هذا الطريق [فهذا شأنه] بشرط أن لا يريد أن يفهم الأمر خاطئًا، لا يريد أن ينظر إلى الأمر نظرة مسبقة، إن لم يرد ذلك فإنّ كلّ ما له فيه الصلاح [قد بيّن ] وقد أوضح ذلك مرارًا طوال حياته فقال: لقد بيّنت في كتبي طريق الرفقاء وكلّ من يريد أن يسير إلى الله. فهذا الكلام هو كلامه، ولا شكّ في ذلك. إلاّ إذا أردنا أن نحقّق الأمر بطريقة أخرى. نعم كان هناك أناس عندما ينظرون إلى كتبه كانوا من البداية ينظرون بنظّارة أخرى إلى هذه الأبحاث، والنتيجة التي يجب أن يأخذوها يأخذونها قبل فتح الكتاب.
يقال إنّه في زمان الشاه عندما كانوا يريدون أن يحاكموا إنسانًا ـ هكذا يقال والله أعلم ـ من البداية كان السجلّ معلومًا، يتعاملون مع الأفراد الذين يعرفونهم ويعرفون إلى أين ينتهي الأمر معهم، لذلك فإنّ القاضي وغيره كانوا يعلمون من البداية ما هو الأمر، وكانوا يشكّلون جلسة وكانت النتيجة معلومة من البداية. وفي كثير من الأماكن الأمر هو كذلك! الذين طالعوا كتاب المرحوم العلاّمة في ذلك الزمان وكانوا يبيّنون النتيجة النهائيّة من البداية، أي أنّهم كانوا يفتحون الكتاب من البداية بهذه النيّة وأنّهم أين يجب أن يعترضوا عليه، بهذه النيّة. عندما كانوا يفتحون الكتاب كانوا يفتحونه بهذه النيّة وأنّهم يمكنهم أن يتّخذوا ذريعة ضدّه. هذه هي المسألة.
وقد كنت بنفسي أعيش تلك الأحداث في زمانه، كتب المرحوم العلاّمة كتابًا ـ ولا حاجة إلى التسمية والرفقاء يعلمون وذكر هذه الأمور يسبّب الملل ـ كان هناك البعض بل ليس البعض بل الكثير يفتحون الكتاب بدون نتيجة مسبقة وفرضيّة مسبقة، ويجدون أن يا للعجب! أيّ موضوعات يحتوي! أيّ حقائق فيه لم نسمع بها حتّى الآن! أيّ مسائل فيه لم نسمع بها من قبل! فقد كان هناك أيضًا من هذا النوع من الناس.
كيف النجاة من اقتران الشيطان بنا؟
هذه النقطة التي هي أنّه كيف على الإنسان أن يقوم بعمل لا يجعله يقع في هذه الورطة؟ هذه المسألة لا بدّ أن تكون باعثة لنا على الالتفات والاهتمام. علينا أن نجعل كلامنا هنا حول معرفة السبب الذي يجعل علمنا وقدرتنا وأمورنا الملفتة للنظر وكمالاتنا وخصوصيّاتنا بدلاً من أن تؤدّي إلى تكاملنا ورقيّنا تسبّب انحطاطنا وتخلّفنا وهلاكنا والاقتران بالشيطان. فكيف يمكن أن يحصل ذلك؟
قانون المحافظة على المبدأ والهدف الثابت وعدم استبداله بالأدوات
الأمر الذي ذكرته للرفقاء في الجلسات السابقة هي أنّه الله تعالى يعدّ ذاته وطريقه فحسب حقًّا وواقعًا، وما هو غير ذاته وغير طريق الوصول إلى ذاته فهو يعدّه باطلاً وضلالاً.{ ذلك بأنّ الله هو الحقّ وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل...}۱ فهذه الآية مهمّة جدًّا فالله حقّ، وطريقه حقّ وسوى ذلك هو باطل كلّه. فإذن ما ينبغي أن نهتمّ به في مدرسة الإسلام ومدرسة التشيّع هو أنّ المسلم والشيعي لا بدّ أن يكون ثابتًا عند الحقيقة، وهي الاهتمام بمسألة التوحيد والمبادئ التوحيديّة وطريق التوحيد فقط لا غير. فهذه المسألة لا بدّ أن تكون حقيقة تاريخيّة ثابتة في حياة الإنسان ولا بدّ أن ينظر إليها كقانون تاريخيّ ثابت.
وأمّا سائر المسائل فلا بدّ أن تكون ظروفًا ومظاهر لهذا الأصل الثابت والمبنى الذي لا يتغيّر، فما هو المهمّ لدى المسلم في الإسلام والذي اهتمّ به رسول الله صلّى الله عليه وآله عندما بعث بالرسالة هو حركة المسلمين في مسير تكاملهم على أساس هذا المبدأ والقانون الأساس الذي هو التوحيد. الله وحده فقط، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا۱ فحسب. فليكن الله تعالى وحده أمام ناظركم، إن كنتم كذلك فستفلحون، فالفلاح والتوفيق مترتّبان على مسألة التوحيد فحسب. وليسا مترتّبين عليّ أنا رسول الله كشخص وكإنسان وكفرد، وليس الفلاح والتوفيق متوقّفان على سائر المظاهر والأفراد والشخصيّات المختلفة. لا يرجع الأمر إلا إلى الله وحده قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.
يحصل الإنسان في هذه الدنيا على علم، يحصل على قدرة، وهذا العلم والقدرة والكمال والأمور الجذّابة هي ذات قيمة ما دام يستفاد منها في مسير الحركة نحو التوحيد، القوّة لها قيمة ما دامت لها حيثيّة الوسيّلة والآلة لا حيثيّة الاستقلال. العلم له قيمة ما دام يسوق الإنسان والآخرين إلى التوحيد، لا إلى الذات والشخصيّة. وبعبارة أخرى إن كنّا أتينا واستبدلنا هذا المبدأ التاريخيّ الثابت بمظهره وبظرفه ومكانه فإنّا مشمولون لهذه الآية: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً}، فعلمنا الذي يجب أن يكون في سياق التوحيد، إذا حصَرنا فيه وسُلِبت عنه حيثيّة التوحيد، صار أصلاً ثابتًا.
ومن باب المثال، نحن لماذا نريد كوب الماء هذا؟ نريده لرفع العطش. الغرض من هذا الكوب وهذا الظرف هو أن يكون فيه ماء يرفع به الإنسان عطشه. فلو تقرّر أن آتي وأستبدل هذا الشيء الذي هو لرفع العطش بهذا المظهر والمقطع التاريخيّ الذي هو عبارة عن هذا الكوب وأتّخذ من هذا الكوب أصلاً ثابتًا، فيمكن أن لا يكون هناك كوب في مكان ما، فإذن يجب أن أموت من العطش حينها. والحال أنّه ما دام المقصود من هذا الكوب هو رفع العطش فيمكن للإنسان أن يرفع العطش أحيانًا بواسطة كاسة، وأحيانًا بكوب، وأحيانًا من صنبور الماء هذا، وأحيانًا بكفّه، كلّ هذه المظاهر لا بدّ أن تعدّ أدوات للوصول إلى الهدف، لا أنّ هذه الوسيلة تصبح متّحدة مع الغاية، حينها سيفقد الأصل والقانون أصالته وحقيقته ويقيّد الإنسان بهذا المظهر.
الذي يدرس العلم لأيّ شيء يدرس؟ لأيّ شيء يبذل الجهد؟ لأيّ شيء يحصّل؟ لكي يعثر على تلك الأحكام الإلهيّة والحقائق الربّانيّة والاعتقادات الإلهيّة ويسوق نفسه والناس نحو التوحيد. فلو أنّ هذا العلم وجد في نفسه وقال يجب أن تأتوا إليّ! فهذا صار وقوفًا عند المظهر، هذا صار افتقادًا لصفة الآليّة وحلولاً لصفة الاستقلاليّة مكانها. في حين أنّا قلنا إنّ الأصل الثابت في حركة الإنسان هو التوحيد وسائر الأمور هي أدوات وقيود، ينسى ذلك الأصل الثابت و {نقيّض له شيطانًا فهو له قرين} فيأتي ويحبسه في دائرة هذه الأدوات وهذا العلم بحيث يستعمل كافّة الحقائق الخارجيّة لأجل تمتين موقعه العلميّ، ولأجل تمتين شخصيّته، في حين أنّ هذا العلم يجب أن يكون نحو التوحيد ونحو الله.
شخصيّة السيّد البروجردي ليست هدفًا
في ذلك الزمان الذي تحدّث عنه المرحوم العلاّمة في كتابه الشمس الساطعة حول قضيّة العلاّمة الطباطبائي والسيّد البروجردي رضوان الله عليه حيث نقل هذه القصّة وأنّ السيّد البروجردي أرسل إلى العلاّمة الطباطبائيّ أن يعطّل درس الفلسفة، فأجابه بأنّ هناك شبهات الآن تختلف عن شبهات الزمان السابق، ولا يمكن للإنسان أن يجيب عنها بالفقه والأصول. فالطالب يحتاج إلى الفلسفة لكي يتمكّن من الناحيّة العلميّة من الإجابة على هذه الشبهات. فالأحكام الفقهيّة والأحكام الفرديّة ليست متكفّلة بالإجابة على الشبهات العقائديّة، الشكّ بين الركعة الثانية والثالثة في الصلاة لا تجيب على الشبهات الإلحاديّة والماديّة حول المبدأ والمعاد وأصل الروح والتجرّد. فهذا عمل عباديّ وأحكام وتكاليف عباديّة. فقد قال ذلك العلاّمة هناك، وكذا الحال فيما يرتبط بكتاب المرحوم العلاّمة المجلسي، فهناك أبحاث ثمينة جدًّا وقيّمة. أذكر أنّه حينما نشر هذا الكتاب آنذاك قام عدد من الناس بمخالفته بسبب هذا الكلام وأنّه لماذا كشف هذا الأمر حول شخصيّة آية الله البروجردي؟! وأحد هؤلاء المعروفين ولا يزال الآن موجودًا جاء إلى أحد أصدقائنا وقال له: بعد هذا الكلام الذي ذكره ـ وفي النهاية نحن ليس لدينا أحد بعد السيّد البروجردي ـ فقد أثار حوله أيضًا علامة استفهام، فلم يبق أحد بعد ذلك. هكذا هو الحال.
علينا أن نلتفت إلى هذا الأمر وهو أنّه هل الأصل الثابت في حياتنا هو السيّد البروجردي أم أنّ الأصل عبارة عن التوحيد والحقّ؟ إن كان الأمر مخالفًا للصواب فأجيبوا وصحّحوا. أمّا أنّ طرح هذا الأمر يصطدم مع شخصيّته ويؤدّي إلى سقوطها فيجب أن لا يكون، فهذا هو تجلٍّ وإبراز للقيم الاعتباريّة في مقابل القيم الحقّة والقيم الأصيلة. ما هي القيمة الحقّة؟ القيمة الحقّة هي أن تقول الحقّ، أن تدعو الناس إلى التوحيد. إن كان الأمر مخالفًا للصواب فقل هو مخالف للصواب. هذا الموضع مخالف للصواب وهو خطأ لأجل هذا الأمر. أمّا الحديث حول أنّ وظيفة العالم في بيان الأمور ما هي؟ هل هي الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى الحقّ أو الدعوة إلى شخصيّات الناس؟ هنا يستبدل ذك القانون الحقيقيّ التاريخيّ مكانه مع ظرف طارئ، والظرف يصبح أصلاً وتلك الحقيقة توكل إلى النسيان.
شواهد على عظمة السيّد البروجردي
لم يكن السيّد البروجردي بالإنسان القليل الشأن، كان رجلاً كبيرًا جدًّا، ولكنّه في النهاية أخطأ خطأً، ليس لدينا نظير للسيّد البروجردي، قليلون هم أمثاله، كان رجلاً عظيمًا جدًّا تجاوز عن هواه، وينقلون عنه الحكايات، وجميع الحكايات تفيد أنّه لم يكن يتبّع هوى النفس في قراراته.
كنت أحضر درس مكاسب أحد الأعاظم رحمة الله عليه، فكان يقول: في تلك الجماعة التي كانت في منزل السيّد البروجردي أو في غير منزله وكانت تعمل بكتاب جامع الرواة وجامع الأحاديث والذي كان السيّد البروجردي قد شرع به وتحت إشرافه ورعايته وواقعًا هو كتاب نفيس جدًّا. تلك الجماعة التي كانت مشغولة بذلك العمل جاء السيّد البروجردي رحمه الله ذات يوم إليها، فقام أحد الحاضرين ـ ولأجل إبراز نفسه ـ بإزاحة كتاب كان في طريق السيّد البروجردي برجله، وهذا الكتاب كتاب أحاديث الأئمّة عليهم السلام وآيات القرآن. فتأذّى إلى درجة كبيرة وحاسبه ثمّ طرده. وقال له: أنت فعلت هذا من أجلي؟!
أو يقال... المرحوم العلاّمة نقل مرّة أنّ هذه المواكب التي كانت تقام في أيّام عزاء عاشوراء ومحرّم وصفر في قم، ثمّ كانت تأتي إلى منزل السيّد البروجردي لأجل التعزية. فقام أحد عديمي الأدب والتربية في هذه المواكب والتي يكثر فيها بحمد الله أمثال هؤلاء! هؤلاء الذين يريدون أن يدوسوا الحقائق لأجل إظهار أنفسهم، ويحجبون بستار جميع القواعد والأصول من أجل مكانتهم الخاصّة! قام أحد هؤلاء في باحة المنزل بالقول بصوت مرتفع: لسلامة حضرة آية الله العظمى السيّد البروجردي وإمام الزمان ـ هل التفتّم؟ ـ صلّوا على محمّد وآل محمّد. فقام فجأة وفتح نافذة غرفته وقال: من هو عديم التربية الذي قدّم اسمي على اسم إمام الزمان عليه السلام؟! اخرجوا اخرجوا! أنا لا آتي!
فقد كان هكذا، وحول انعدام هواه في الأمور حكايات، ولكن على كلّ حال، الأصل بالنسبة لنا هو التوحيد والإمام عليه السلام الذي هو الشخصيّة المجسّدة للولاية التي هي عين التوحيد، والتي هي في وجود الإمام عليه السلام وحده. هذا هو الأصل التربويّ الثابت عندنا على طول تاريخ الإسلام ولا غيره.
الإمام محور تفكير واهتمام الشيعيّ
ما كان المرحوم العلاّمة يقوله من أن لا تقيموا لي ذكرى سنويّة وذكرى أربعين، لم يكن يريد أن يتواضع بذلك، لم يكن من أهل التواضع وهذا النوع من الكلام. كان يريد أن يقول إنّه ما يجب أن يكون موضع اهتمام عند الشيعيّ في أفكاره وفي منهاجه وفي مسيره وفي اهتمامه الفكريّ هو فقط الإمام عليه السلام ولا غير. هو الذي يجب أن يكون موضع اهتمام. ولذلك لم يكن من أهل التواضع والمداهنة وهذا النوع من الكلام، فالإنسان لا يتواضع في مسألة الحقّ. الحقّ لا يقبل التواضع.
عدم التفكير في غير الإمام عند زيارته
لقد ذهبت ذات يوم في زمان المرحوم العلاّمة بسيّارتي الشخصيّة من طهران إلى مشهد لأجل زيارة الإمام الرضا عليه السلام، وكان في نيّتي أن أزور أيضًا في الأثناء الأعاظم الذين هم على طول الطريق، فهناك في سبزوار الحاج هادي السبزواري رحمة الله عليه وهو من الأعاظم، وفي شاهرود بايزيد البسطامي، والشيخ أبو الحسن الخرقاني، فهؤلاء من الأعاظم ـ طبعًا يبعدان عن شاهرود قليلاً بضعة كيلومترات ـ وفي نيشابور هناك العطّار النيشابوري، وقد كان من الأعاظم ومن أولياء الله، وكان عارفًا كاملاً. فقلت فلأزر على طول الطريق هؤلاء أيضًا إلى أن أتشرّف بحرم الإمام الرضا عليه السلام. وعندما وصلت كنت جالسًا في الصباح أبيّن للمرحوم العلاّمة فلم يقل شيئًا وقال: حسنًا، ماذا حصل هنا وماذا حصل هناك؟ وأنا بيّنت له كلّ شيء. ثمّ وعندما أراد أن يقوم قال: سيّد محمّد محسن لا تحدّث عن سفرك هذا أحدًا! من جاء لزيارة الإمام عليه السلام فعليه أن لا يفكّر بغير الإمام عليه السلام. من هو الملاّ هادي السبزواري؟ ـ طبعًا هذا ما أقوله أنا ولم يقله هو ـ من هو الملا هادي؟ ومن هو الشيخ العطّار؟ ومن هو الشيخ أبو الحسن؟ ومن هو بايزيد؟ ألف بايزيد وشيخ عطّار عليهم أن يمسحوا تراب زوّار الإمام الرضا عليه السلام وقد مسحوا حتّى وصلوا إلى هنا. لا تتصوّروا أنّ الأمر هكذا! بايزيد وليس أيّ إنسان. من كان يأتي لزيارة الإمام الرضا عليه السلام عليه أن لا يفكّر بأيّ تفكير آخر. نعم لو مرّ أثناء المسير على سبزوار ومرّ على قبر المرحوم السبزواري فما الإشكال في أن يتوقّف لنصف ساعة ويجلس ويقرأ الفاتحة، ولكن يجب أن لا يجعل ذلك في فكره ونيّته، ينبغي أن يكون الإمام الرضا فحسب. انتهى الأمر.
الأصل الثابت في تاريخ تشيّعنا هو الإمام المعصوم فقط لا غير، ذاك هو الأصل، ونحن جئنا وجعلنا الحوادث والمقاطع التاريخيّة المؤقّتة بدلاً من هذا الأصل الثابت. وقال لي: لأنّك ابني، إذا أردت أن تبيّن للرفقاء هذا الأمر، فمن حيث انتسابك إليّ فإنّهم يقومون بذلك أيضًا، لذلك عليك أن لا تقصّه على أحد. هذه هي مدرسة التوحيد، المدرسة التي جعلت الإمام وحده هدفًا. المدرسة التي جعلت المعصوم وحده غاية. المدرسة التي جعلت الولاية وحدها علامة، والتي تدوّن وترتّب سائر الطرق والمناهج والمبادئ والأعمال والسلوكيّات والوظائف على أساس الوصول والتوجّه إلى الإمام المعصوم لكي تصل إليه.
أمّا لو لم نفعل ذلك نحن، بل قلنا: علينا أن لا نقول الحقّ لأجل المرجع الفلانيّ كالسيّد البروجرديّ مثلاً. كلاّ فالسيّد البروجرديّ كان مقطعًا تاريخيًّا، كان ظاهرة تاريخيّة، يأتي يومًا ويذهب في آخر. لو لم نتحدّث ـ وحفظًا لمقام الشيخ الطوسيّ مثلاً لأنّ له ذاك الموقع المكانة ـ عن فتواه المخالفة للصواب، سنكون قد جعلنا الإمام الصادق عليه السلام الذي هو أصل التاريخ قربانًا لحادثة تاريخيّة وظاهرة من الظواهر. الإمام الصادق بالنسبة إلينا أصل. الإمام الصادق بالنسبة إلينا هو كلّ شيء، الإمام الصادق عليه السلام لا يتغيّر. وهنا الخطر!
ما كان يقلق المرحوم العلاّمة فكريًّا هو أنّ يزول ويُنسى ذاك الأصل الذي هو عبارة عن التوحيد والإمامة والولاية، وتأتي مكانه الظواهر العابرة والمقاطع والحوادث المؤقّتة كنقطة أصيلة ودائمة. هذا لا وجود له في مدرسة التشيّع. في مدرسة التشيّع الاهتمام هو بالتوحيد فقط، وكلّ شيء لا بدّ أن يتبلور ويتشكّل على هذا الأساس، سواء كان الشيخ الطوسي، أو السيّد البروجرديّ، أو العلاّمة الحليّ، أو أيّ إنسان آخر، فهؤلاء كلّهم عابرون، هؤلاء كلّهم ماضون.
ذات يوم قال المرحوم العلاّمة: أنا أعلم لو أنّي أوكلت الأمر إلى رفاقي ـ التفتوا ـ لو أنّي أوكلت الأمر إلى رفاقي وقلت لهم أن يدفنوني حيث يريدون، فإنّهم يريدون أن يجعلوا لي قبّة أمام قبّة الإمام الرضا، ولكنّ ذلك لن يكون، أنا سأدفن في مكان أكون فيه تراب أقدام الإمام الرضا عليه السلام ـ لقد قال لي هذا الأمر ولم أخبر به أحدًا إلى الآن ـ لو أردتم أن أترك الأمر إلى رفاقي فإنّهم سيفعلون ذلك. ومن أكون أنا؟!
بعض الرفقاء يقولون نحن ذهبنا إلى زيارة قبر الإمام الرضا عليه السلام، ثمّ والحمد الله وفّقنا لزيارة قبر والدكم. ما معنا وفّقنا؟ ليس إلا الإمام الرضا فحسب. فلو كان السيّد يريد أن يجعل لنفسه مكانًا إلى جانب الإمام الرضا لما كان السيّد. لقد كان كامل هدف والدي وكامل نيّته سواء في حياته أو بعد مماته أن يرى نفسه صفرًا أمام الإمام الرضا عليه السلام. والحمد لله تحقّق ذلك.
بعضهم يقولون: لنذهب لزيارة الإمام الرضا عليه السلام في التاسع من صفر ذكرى وفاة العلاّمة. قلت: مخطئون إذ تذهبون. ما معنى ذكرى وفاته؟! لقد كان من أولياء الله فليكن، نحن ليس لدينا إلا الإمام الرضا عليه السلام فحسب. وانتهى الأمر. فما معنى ذكرى وفاة؟! أنت لأجل ذكرى وفاته تقوم من طهران إلى مشهد؟ لقد نحّيت الإمام الرضا جانبًا وأردت أن تزوره في ذكراه السنويّة؟ من أراد أن يزور الإمام الرضا عليه السلام فليس من حقّه أن يجعل في باله غيره. وإلاّ فإنّ زيارته باطلة، باطلة!
جاء أحدهم ولكي يلفت نظري ويستمع إلى الإطراء والثناء...، فقلت له: أنت أخطأت إذ جئت ونحّيت زيارة الإمام الرضا جانبًا، فالإمام الرضا لا يقبل بالذكرى السنويّة، فما هذا الكلام؟! إن كان والدي فليكن، وإن كان من أولياء الله فليكن. وإن كان الأمر في أولياء الله هؤلاء مختلفًا وليس الآن وقت الحديث عن ذلك، والكلام هو عن أنّ أولياء الله هؤلاء ماذا كان هدفهم؟ هل كان هدفهم أن يصنعوا لأنفسهم قبّة أمام قبّة الإمام الرضا عليه السلام؟ هل كان هدفهم أن يجمعوا الناس؟ أم لا بل لا اسم ولا رسم.
بعد ارتحاله قيل لي: اكتب نصًّا لكي نعدّ لوحًا صخريًّا لقبره، أنا كنت قد التفتُّ إلى أنّ هذا الأمر لن يكون ولكن في الوقت نفسه رأيت إصرارًا، فكتبت نصًّا، وبالطبع كان نصًّا عربيًّا، ولمّا ذهبوا وعرضوه لم يوافقوا عليه. قالوا: اكتب يا سيّد نصًّا أرقّ وبعبارة أدنى مرتبة. فكتبت ذلك أيضًا بنصّ عربيّ، غاية الأمر أنّي كتبتها بعبارات أيضًا لم تلق قبولاً. قالوا: اكتب نصًّا فارسيًّا. اكتب نصًّا يكتبه الجميع. فكتبت نصًّا فارسيًّا أيضًا ولكن عندما أراد المتصدّي أن يذهب قلت له: عزيزي، إنّ أبي لن يرضى أن يجعل على قبره لوحة صخريّة، فاذهب أنت الآن! وعندما ذهب ولم يقبلوا بالنصّ قال ذلك الرجل إنّ السيّد لا يريد أن يجعلوا لوحة صخريّة، فاستريحوا، لا حاجة إلى نصّ آخر بعد ذلك. لماذا هو لا يريد؟ لماذا؟ ولن توضع اللوحة اعلموا ذلك أيّها الرفقاء! لماذا؟ لأنّ والدنا لم يكن يرى سوى حقٍّ واحد وهو الإمام الرضا عليه السلام فقط. وهذه روحه لن تسمح أن يجعل له لوحة إلى جانب الإمام الرضا عليه السلام، وأن يكتب له شيء. لن يكون ذلك، لن يتيسّر. هكذا هم أولياء الله. فعلينا أن نلتفت نحن.
لقد انتهى الوقت، وصار الكلام بالنسبة لي أمرًا صعبًا، والرفقاء تعبوا. وإن شاء الله إذا وفّقنا لجلسة أخرى نتابع البحث. فأولياء الله في منهجهم التربويّ كانوا يؤكّدون علينا هاتين النقطتين: الأصل الثابت والفرع العابر. ما هو الأمر الذي نجعله ثابتًا دائمًا وما هو الذي نجعله عابرًا؟ المظروف ثابت والظرف عابر. الحقائق ثابتة والمظاهر عابرة. الواقعيّات ثابتة والشخصيّات عابرة. وبكلمة: التوحيد والولاية ثابتان وما سواهما عدم.
نأمل من الله أن يوفّقنا إن شاء لكي نتمكّن من فهم ما أراده الأعاظم وأولياء الدين والذين سلكوا الطريق وذاقوا حقيقة الأمر بأرواحهم وأسرارهم، وأن يوفّقنا أن نقتفي آثارهم فإنّ غير ذلك خسارة.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد