المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتكاثر والتفاخر
التوضيح
هل هناك إشكال في طلب الدنيا؟ وهل يستفاد ذلك من سيرة الأئمّة؟ وما الفرق بين سيرة الإمام أمير المؤمنين في العطاء وسيرة غيره من الأئمّة؟ هل يجوز الدخول في النظام الجائر بغير إذن المعصوم بحجّة خدمة المؤمنين؟
يجيب سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الطهراني رضوان الله عليه على هذه الأسئلة وغيرها ضمن شرحه لحديث عنوان البصري فقرة هان عليه الدنيا والخلق وإبليس ولا يطلب الدنيا تفاخرًا. ويوضّح نماذج من سير الصالحين والعرفاء في هوان الدنيا عليهم وشدّة تعلّق غيرهم بها.
هو العليم
طلب الدنيا وهوانها
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱۰٦
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
هان عليه الدنيا وإبليس والخلق!
ذكر الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ أنّه إذا وفّق الله العبد أن يسلّم لإرادة الله وتدبيره، وأن يرى ما يملك ملكًا لله ولا ينظر إليه نظرة استقلال، بل نظر عارية وأمانة، ويرى نفسه مجرّد واسطة في النقل والانتقال لا أكثر! ولو عدّ نفسه أكثر من ذلك فقد خُدع، وهكذا عمل بما أمر به الله من أجل تكامله وترقّيه، حينها هان عليه الدنيا وإبليس والخلق. فالعلاقات مع جمهور الناس الذين يجعلون الدنيا غايتهم وهدفهم لا وسيلة ومعبرًا، الذين يفترضون الدنيا موطنهم الدائم ولا يفكّرون أبدًا بغدهم، وليس لهم أيّ همّ للأمور الأصليّة والحقيقيّة والواقعيّة. هؤلاء يتصوّرون أنّهم يبقون فحسب، ويسيرون على النقيض ممّا قدّره الله وعالم التكوين والخلقة.
افترضوا أنّ التقدير جعل للوصول إلى مكان ما طريقًا فذهب الإنسان في الطريق المقابل له، أو إلى شماله، يريد أن يذهب إلى طهران، فيسير في الطريق المخالف، وكلّما سار في هذا الطريق ابتعد عن الهدف، ويصل إلى حيث يكون بينه وبينه غايته ما بين المغرب والمشرق، بين الهدف والمكان الذي توقّف فيه بعد شاسع ولا يمكن أن يصنع شيئًا بعد ذلك. هذا المنهج هو منهج أهل الدنيا، وسنقدّم اليوم قليلاً من التوضيح حول هذا الأمر.
يقول الإمام عليه السلام: إذا حصلت هذه الأمور الثلاثة لإنسان هان عليه الدنيا وإبليس والخلق، فلن يكون لديه همّ بعد ذلك حول كيفيّة الحياة في الدنيا، كيفيّة الحياة في جميع الأبعاد، كيف يعيش؟ كيف يعاشر الناس؟ وكيف يحافظ على موقعه الشخصيّ؟
نماذج من التعلّق بالدنيا وسهولة التخلّص منها
قصّة أحد علماء النجف وجمع قشور البطّيخ
لقد تذكّرت الآن أمرًا، وإن كان في غير محلّه ولكن أخشى أن أنساه. لقد نقل المرحوم العلاّمة هذا الأمر مرّتين أو ثلاث فقال: ذهب أحد العلماء المعروفين والمدرّسين في النجف إلى محضر أحد الأعاظم، وبالطبع لم يكن ذلك السيّد القاضي؛ لأنّ كيفيّة الأوامر عند مختلف الناس تبيّن حالاتهم ومدى إحاطتهم وإشرافهم على الأمور الروحيّة والمحيط، فقد جاء إلى أستاذ آخر من الأعاظم وطلب منه برنامجًا. فسأله ذلك الأستاذ: هل جئت إلى هنا واقعًا أم مجرّد مزاح؟ فقال: جئت واقعًا. ولكنّه كان يمزح! ما دام الإنسان لم يخضع لمحكّ الامتحان والتجربة فإنّ نفسه توجد له مكانة محبّبة وجذّابة ويرى نفسه راضيًا دائمًا، ويشعر أنّه دائمًا منتصر ومسرور وراض في طاعته وانقياده لله. والله تعالى يوجد للإنسان وسائل وأحداث في حياته كلّ واحد منها محكّ واختبار لمعرفة مدى ما حقّقه الإنسان من العبور.
فقال له: أتمزح أم تقول جادًّا؟ قال: كلاّ، أقول جادًّا! واقعًا جئت، واقعًا أشعر أنّ ما قمت به إلى الآن وما حصّلته لم يستطع أن يملأ حالة الخلأ والنقصان والخلل التي أشعر بها في وجودي، وأنا ألوم نفسي على هذا العمر الفائت. فقال له: حسنًا. غدًا صباحًا تحمل سطلاً بيدك وتسير في أزقّة النجف وكلّما وجدت قشر بطّيخ وشمّام تجمعه، وتملأ السطل وتأتي به إلى منزلك أو تأخذه إلى زاوية من النجف حيث ترمى الفضلات والمهملات. والحاصل أنّك من الغد تبدأ بأعمال البلديّة! مثل عمّال النظافة الذين يجولون، ما المشكلة في ذلك؟ أفهل يجب أن يقوم بذلك جماعة معيّنة وبهيئة خاصّة؟! ما المشكلة في أن تقوم أنت غدًا بعمل بقيّة الناس؟! وعلى كلّ حال فهذا أيضًا عمل من الأعمال.
وفي اليوم التالي جاء هذا الرجل باكرًا في الصباح الباكر حتّى لا يراه أحد في الأزقّة والشوارع. ثمّ حمل السطل تحت العباءة ـ وكانت أيضًا عباءة شتويّة وضعها على رأسه، لا مثل هذه العباءات، فهذه العباءات شفّافة، وكلّما كانت هذه أرقّ كانت تكشف أكثر ـ كلاّ، بل اختار عباءة سميكة ومرتّبة وحمل هذا السطل ومشى، وكلّما وصل إلى مكان نظر حوله، فإذا لم يرَ أيّ طائر... ـ ولم تكن هناك من هذه الآلات والتجهيزات التي أحيانًا تستغفل الإنسان! ـ والحاصل أنّه جمعها واحدة واحدة حتّى ملأها وذهب وألقاها. ثمّ جاء فرحًا ضاحكًا مسرورًا إلى ذلك الأستاذ. طرق الباب ودخل، ما إن وقعت عينه عليه حتّى قال: أخفيت؟! ذهبت خفية؟! كنت تنظر هنا وهناك؟ كلّ الأعمال كأنّه كان معه فيها من البداية. وفي كلّ الأماكن التي ذهب إليها. ذهبت صباحًا بين الطلوعين؟! كنت تختبئ؟! لبست عباءة غليظة؟! لا فائدة من ذلك! هذا لا ينفع! فلا تقل جئت واقعًا. والحاصل أنّه رأى أن لا مفرّ! لو أنّه واقعًا جاء جادًّا، فواقعًا يجب أن يكون جادًّا.
الرحلة التبليغيّة الأولى للعلامة الطهراني في سنّ الشباب وسهولة أمر الدنيا عليه
ومن جديد تذكّرت الآن هذا الأمر. في السنة الأولى التي تشرّف فيها المرحوم العلاّمة بالمجيء إلى قم وكان معمّمًا، وأخذ حجرة في المدرسة الحجتيّة وكان أوّل طالب فيها ـ والتي كانت في تلك المبنى القديم لها، ثمّ وسّعت فيما بعد وجدّد بناؤها، أي أعيد بناؤها من جديد، وكان هناك مبنى قديم ـ فكان المرحوم العلاّمة أوّل من جاءها. ومن الأساس كان المرحوم العلاّمة هو الذي أسماها بالحجّتيّة. لأنّ السيّد حجّت كان رجلاً عظيمًا جدًّا وكان رجلاً خاليًا من الهوى، وكان رجلاً بدون هوى وعظيمًا، وكان يتمتّع بعزّة الطبع والحريّة والعلميّة، وكان معروفًا بعلميّته وابتعاده وإعراضه عن الدنيا، الإعراض عن الدنيا وعدم الاهتمام بأمر المرجعيّة والشعبيّة وجمع الناس من حوله، وكان يهتمّ بذلك إلى حدّ جعله مشهورًا بين الجميع سواء المخالف والمؤالف.
لقد كان المرحوم السيّد حجّت رجلاً عظيمًا جدًّا، وأنا بنفسي سمعت من أحد الصادقين وأهل الباطن أنّه في الليلة التي انتقل فيها السيّد حجّت إلى رحمة الله، وكان ذلك الرجل في مشهد، رأى الإمام الرضا عليه السلام في النوم، وأنّه انطلق من مشهد، فسأله أن إلى أين أنت ذاهب؟ فقال الإمام: لقد توفّي السيّد حجّت وأنا ذاهب إلى قم من أجل أموره ولقائه.
لقد كان رجلاً عظيمًا، متصلّبًا في الدين ومحكمًا. لقد كان رجلاً لم يستطع المحيطون به أن يؤثّروا فيه ويسيّروه في الطريق الذي يريدون، وعندما كان يتّخذ قرارًا، لم يكن يسمح لأحد أن يتكلّم خلافًا لمعتقده! كان رجلاً متصلّبًا جدًّا في الدين، وإذا أراد أحد أن يتكلّم في مقابل عزمه كان يخرجه سريعًا من المنزل! فكان يقول: اخرج! اخرج! ثمّ يذهب ويغلق الباب! كان يقول: اخرج! أصلاً لا أريد! لا أريد أصلاً أن تكون! فلم يكن يجيز الكلام بكلمة واحدة. ما إن يرى أنّ رجلاً يريد أن يوسوس ويوجد ثقبًا وأن يبدّل رأيه وتفكيره على أساس الأمور الماديّة والدنيويّة...عندما بنى تلك المدرسة كان متردّدًا في تسميتها. وكان المرحوم العلاّمة في ذلك المجلس فقال: سمّها الحجّتيّة. وبعد حديث طويل وافق في النهاية رعاية لبعض المصالح. فهذا الاسم كان من جانب المرحوم العلاّمة أيضًا.
لقد كانت له مجالس مع الطلاّب حول الإعراض عن الدنيا وعدم الاعتناء بأمور الدنيا، وكان المرحوم العلاّمة يقول: لقد شاركت في بعض مجالسه، كنت قد أتيت إلى قم حديثًا ولم يكن قد مضى على مجيئي بضعة أشهر، فتحدّث ليلة حول هذه الأمور، وأنّ على الإنسان أن لا يهتمّ بهذه التعلّقات التي يهتمّ بها الناس، والتي تزيد من تعيّنات الإنسان ونفسه وأموره النفسيّة، كان يقول: كان هذا الحديث رائعًا جدًّا. بعد أسبوعين حلّ محرّم، وعادة يذهب الطلاّب في أيّام محرّم إلى أماكن مختلفة، ويقومون بهذه السنّة والسيرة الحسنة التي هي تبليغ الشريعة ودين الإسلام المقدّس كما وصلنا عن الأئمّة عليهم السلام وعن أولياء الدين عبر أهل العلم، يوصلونه إلى آذان الناس.
كان يقول: انطلقت فقلت إلى أين أذهب؟ فلأذهب إلى شهريار۱ ـ ولم تكن حينها كما هي الآن، فقد تغيّرت أوضاعها بالكامل ـ فكان يقول: ذهبت إلى هناك، وكان هناك أتوبوس، نزلت ولنفترض مثلاً أنّه كان اليوم الأوّل من محرّم. قلت: إلى أين أذهب هنا؟ ليس لديّ مكان هنا. مثلاً مسجد، فأنا لم أُدعَ... قلت: كان هناك سوق ـ ففي ذلك الوقت كان في وسط شهريار ساحة ترابيّة، وحولها ما يشبه النزل، هكذا كانت ـ فكان يقول: فكّرت في نفسي، لو جاء إمام الزمان وقال لي تحدّث مع الناس فماذا أصنع؟ يجب أن أتحدّث مع الناس في النهاية! قلت: ولا يمكن أن أتحدّث هكذا! في النهاية لا بدّ أن يكون هناك منبر، أو شيء آخر، ولا يوجد هنا شيء. قلت: لا بأس، أذهب وآخذ كرسيًّا طويلاً (مما يستعمل لتناول الأشياء العالية) من هذه الدكاكين التي فتحت لتوّها وأقف عليها وأبدأ بالحديث.
قال: فذهبت إلى إحدى الدكاكين التي فتحت لتوّها وقلت: هل لديك كرسيّ؟
ـ تفضّل مولانا هذه كرسيّ! ماذا تصنع بها يا مولانا؟
قلت: أعطنيها أريدها لديّ بها عمل، أعطنيها مدّة ساعة.
فأخذتها ووضعتها في الساحة، والآن طالب علم شاب كان عمره قريب العشرين عامًا... قال وضعت الكرسيّ وبدأت بالكلام، لم يكن هناك أحد! فقط كان هناك رجل واحد، وما إن رأوا أنّ طالب علم يتكلّم جاؤوا، واجتمع اثنان أو ثلاثة، ثمّ بعد خمس دقائق صاروا عشرة، خمسة عشر و... كان يقول: ما إن مضت ساعة حتّى امتلأت ساحة شهريار من الناس. كان يقول: كان حديثي حينها حول معجزات القرآن، وأنّه ما هي معجزات القرآن وفي أيّ المجالات؟ المعجزات الظاهريّة للقرآن، البلاغة والأمور المعروفة، ثمّ الأمور الأخلاقيّة، ثمّ الأمور الباطنيّة وهكذا. كان يقول: كان هذا المجلس وهذا الحديث قد أعجب الحاضرين كثيرًا، فبدأت الدعوة. جاء مختار المحلّة ليأخذه، وجاء ذاك ليأخذه في المقابل، وتنازعوا فيما بينهم فهذا يقول: نحن سنأخذ السيّد إلى منزلنا، وذاك يقول نحن سنأخذه. وفي النهاية تغلّب المختار فذهبت إلى منزله. وكان يقول: أيضًا دعيت إلى محلّة رباط كريم القريبة من هناك، فكنت أذهب إلى مجلسين. وكان ذلك أيّام عشرة محرّم. فجعلت الليل لشهريار، والنهار لرباط كريم. وكان يقول: كانت المجالس جيّدة جدًّا. وكانت قد بدأ الحزبيّون حينها وكانوا يعملون بنشاط، وكانت للأحزاب الشعبيّة أنصار كثر في إيران وكانت قد طرحت للتوّ أبحاث التجديد والحداثة تلك بين الشباب، فكان يقول: كانت أبحاثي حينها تدور حول هذه القضايا والأمور العقائديّة، وكانت رائعة جدًّا.
فانظروا هذا الرجل الذي يفكّر هكذا لا يبحث عن أشياء أخرى. فإذا سار الإنسان على أساس هذا الفكر وبهذه الدوافع فإنّ كافّة أعماله وبرامجه وأموره ستكون على هذا النهج حتّى النهاية، يعني ليس هناك ضميمة إلى ما يريده الله، وليس لديه أمر آخر.
أحد خطباء الجمعة يؤجّل خطبته انتظارًا للناس ويختصرها لقلّتهم
ذات يوم وعندما راجت صلاة الجمعة بعد الثورة، كنّا نشارك في إحدى صلوات الجمعة، وقد كنّا في إحدى المحافظات الأخرى. وكان الوقت في أوّل الظهر، وأوّل الظهر يجب أن تقرأ الخطبة وتشرع الصلاة. وصادف في ذلك اليوم أنّ المطر كان يهطل كما كان هناك حدث ما، وبالطبع فإنّ الناس سيخرجون في مثل تلك الحال بشكل أقلّ من منازلهم، ولا أذكر ماذا كان حدث آنذاك؟ فكانت هذه سببًا وكان المطر سببًا آخر لأن يأتي عدد قليل من المصلّين إلى صلاة الجمعة، فمثلاً على ما كنت أرى لم يكن هناك سوى عشرين أو ثلاثين مصليًّا لصلاة الجمعة. وجاء الخطيب فأخذ ينظر تارة إلى هذه الجهة وتارة إلى تلك، وبدلاً من أن يرتقي المنبر ذهب وجلس وقال لأحد الجالسين: أليس هناك أحد من أصحاب الصوت الجميل ليقرأ سورة الجمعة حتّى يجتمع الناس والمؤمنون؟! فجاء أحدهم ـ وسمعنا بالإجبار سورة الجمعة، وكان يطيل في قراءتها، فقد كان يقول له: اقرأ بتأنٍّ حتّى يجتمع المؤمنون أكثر، ولكنّ المؤمنين لم يحضروا! وكان هذا يقرأ ويقرأ! ولا أدري ماذا كان قد حدث للمؤمنين حتّى لم يأتوا؟! ومهما أطال هذا في قراءته كانت عينا إمام الجمعة على الباب أن الحمد لله جاء رجل! لا لم يأت! ثمّ قال: اقرأ الآن سورة الفجر! فبدأ بقراءة سورة الفجر! فذهبت إليه وقلت: لو قرأت القرآن كلّه فلن يأتي غير هؤلاء الذين هم هنا! إن كنت تريد أن تصلّي فلتصلّ، وإن كنت لا تريد فلترحنا ونذهب . قلت: إن كنت لا تريد أن تصلّي فأخبرنا لنذهب، نحن جئنا لنقوم بوظيفتنا. فنحن نعتقد أنّ صلاة الجمعة واجبة، صلاة الجمعة واجبة عينًا وتعيينًا، سواء في زمان ظهور الإمام أو في زمان غيبته، وسواء كانت هناك حكومة إسلاميّة مثل زماننا أم لا، على كلّ حال صلاة الجمعة واجبة، قلت: حدّد ما يجب علينا، إن كنت لا تريد أن تصلّي فنحن نذهب، نحن جئنا لنؤدّي وظيفتنا. والحاصل أنّه قام وبدأ بالحديث، ولكن كان معلومًا أنّه كان منزعجًا حتّى أنهى كلامه، وكان مجموع خطبتيه ما يقرب من عشرين دقيقة، أو خمسٍ وعشرين دقيقة، ولم يُطل!
انظروا! والآن قارنوا! ذلك العمل الذي قام به كان عملاً مستحبًّا، كان تبليغًا ومستحبًّا ومن دون أيّ عنوان خاصّ، وكان أمرًا اجتماعيًّا. هذا العمل عمل واجب، إقامة صلاة الجمعة، ولا بدّ من إقامتها، وطبعًا عند شروطها. وقد دخل وقت الظهر، عند وقت الظهر هناك أمر بإقامة الصلاة. فرسول الله قال: يجب أن تقام صلاة الجمعة: {يا أيّها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع...}۱ فعندما يرتفع النداء إلى صلاة الجمعة فاسعوا وأسرعوا وانطلقوا! وذروا البيع ودعوا معاملاتكم ولا تقصّروا! أنجزوا معاملاتكم بسرعة! إن كانت لديكم معاملة فلا تأخّروا صلاة الجمعة وسارعوا إلى هذه الصلاة والفريضة.
والآن في وقت الصلاة نحن نضع يدًا على أخرى، ونبدّل هذه على تلك منتظرين زيادة الحاضرين! سواء ازداد الحاضرون أم لم يزدادوا، الوقت وقت الصلاة. إذا اجتمع خمسة في مكان فصلاة الجمعة واجبة، والآن هناك ثلاثون مصلّيًا في النهاية! ستّة أضعاف الحدّ اللازم لوجوب صلاة الجمعة لديك الآن فلماذا تنتظر؟!
الفارق بين أولياء الله وغيرهم النظر من الأعلى إلى الأسفل
نحن ننظر من الأسفل إلى الأعلى، نحن ننظر من الظاهر إلى الأعلى. نحن نبحث عن الأعلى والمعنى في الظاهر. وأولياء الله ينظرون من الأعلى، عندما يأتي الحكم بالصلاة فإنّهم يصلّون، ينظرون الآن إلى الأسفل مهما كان العدد فلا يهمّهم، مهما غاب من غاب، ما دام الحكم بالقيام بهذا العمل قد جاء فإنّهم يؤدّونه، مهما كان هناك من المستمعين... نحن نريد أن نبدأ من المستمع إلى الأعلى، من المستمع نريد أن نصل إلى المقصود. أولياء الله ينظرون من الأعلى إلى الأسفل. هو ينظر إلى أمر الله، لا إلى أنّه من الذي يجلس أمامه، هو ينظر أنّه ما هو تكليفه الآن؟ لا ينظر هل وصل الجالسون إلى حدّ النصاب ـ النصاب الاعتباريّ لا الواقعي ـ أم لا؟ النصاب الواقعيّ هو خمسة مع إمام الجمعة، يعني إمام الجمعة مع أربعة آخرين يجب أن يقيموا الصلاة.
بين الاعتبار والحقيقة، هذا الفارق جار ٍدائمًا في جميع شؤون حياتنا حتّى النهاية هكذا أن ما هي النظرة التي نمتلكها حول الأمور والعلاقات مع الأشياء؟ هل النظرة من الأعلى إلى الأسفل أم من الأسفل إلى الأعلى؟ وهذا هو الفارق، كلّ ما هو موجود وكلّ ما يعطي للإنسان نتيجة هو الاختلاف بين هذين الأمرين وهاتين النظرتين.
يقول الإمام الصادق عليه السلام: إذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا والخلق وإبليس. ولم تعد لديه مشكلة. هل إذا أردت الآن أن أتكلّم فعليّ أن أنظر ما إن كان الذين جاؤوا اليوم يختلفون عن الآخرين؟ هل حدث أمر ما فلم يأت عشرة أو عشرون؟ دائمًا في صراع مع نفسي، هل أتكلّم بهذا الكلام أم لا؟ هل ستضيع أتعابي هدرًا أم لا؟ لأجل من أريد أن أتكلّم بهذا الكلام؟! فلأترك الموضوع إلى مرّة أخرى. إن كان هناك موضوع هامّ جدًّا فلا أقوله، ولأقل بدلاً منه مطالب بسيطة، ولأترك النقاط الحسّاسة إلى وقت يكون فيه الحضور أكثر. كلّ هذا شيطان! كلّ هذا وسوسة من الشيطان، ذلك الشيطان الذي نحبّه! لقد قلت للرفقاء ماذا لدينا نحوه. ما إن تحصل هذه الوسوسة: هل أقول أم لا؟ يُعلم أين توجد مشكلة. فلأترك هذا إلى وقت يكون فيه الحضور أكثر، فيكون الموضوع قد أخذ مكانه بشكل أفضل! هنا نكون قد خسرنا! كلاّ يجب أن يبيّن ما جاء، لا فرق بين وجود واحد أو مائة مليون. لا فرق بين واحد ومائة ألف واحد. حتّى لو سلّيت نفسي بأنّه إن لم يكن هناك كثيرون فهناك الكثير من آلات التسجيل، وهم يسجّلون ويوصلون إلى الآخرين فهذا شيطان أيضًا!
انظروا هو أمر واحد، ولكن بأيّ صور يظهر؟! نحن نرى ظاهرًا، ولكن لا اطّلاع لدينا على باطن هذا الظاهر. هذا هو الفارق بيننا وبين الذين يعرفون الناس ولديهم اطّلاع على الخصوصيّات. كم يتكلّم جيّدًا! كم يرتّب الموضوعات وكم يتكلّم بشكل جيّد! أمّا ما هو الدافع إلى هذا الكلام وما هي النيّة وراءه؟ فلا اطّلاع لدينا.
يقول الإمام عليه السلام: إذا فعلت هذا العمل فلن يكون لديك قلق، لو كان أمامك عشرة تجلس وتتكلّم وكأنّ أمامك مائة مليون يستمعون إلى كلامك. وكأنّهم يصوّرونك وينقلون كلامك نقلاً مباشرًا إلى الدنيا كلّها وهم يشاهدون. كيف تكون منظّمًا ومرتّبًا وبشكل جيّد ومنتظم حتّى في حركات الرأس واليدين؟! فهم يشاهدون الآن! لو كنت جالسًا في المنزل، لا مع زوجتك الكريمة، بل مع صديق ومع رجل آخر تتحدّث فهل كنت ستتحدّث هكذا؟! أم أنّ الأمر يختلف؟ لماذا الأمر هكذا؟ لماذا؟ لأنّه ينظر إليه من الأسفل إلى الأعلى، يهتمّ به من حيث الظاهر.
نحن لا شأن لنا بأنّه ما هو الصلاح؟ نحن نهتمّ بكيفيّة طرح هذا الصلاح وكيف يأخذ الموضوع مكانه عند المستمعين وكيف نؤدّيه بحيث يكون الاعتراض والإشكال علينا أقلّ، هذا ما نهتمّ به، ولا نهتمّ بأنّه ماذا نقول؟ ولا نهتمّ بالحقيقة التي نطرحها على الناس، أوّلاً ننظر إلى أنفسنا ثمّ إلى الناس، أوّلاً ننزّه أنفسنا ونحسّنها ونؤنّقها بين الناس ثمّ نبحث عن الموضوع. هذا ما لا يصح! هذا فساد! هكذا فسد الأمر! في النتيجة دائمًا نكون في حالة اضطراب، دائمًا في حالة تشويش. لا قدّر الله أن يكون موقع كلامي غير ملائم! لا يكون موقع كلامي فاسدًا! ماذا أصنع بموقع كلامي؟! لا قدّر الله لا أشتبه هناك! أمّا لو جلستَ بكلّ طمأنينة وتكلّمت، وقلتَ ما تعتقد به. وبالطبع لا ينبغي أن يطرح أيّ موضوع، لا بدّ من رعاية المصلحة، لا المصلحة الاعتباريّة، بل المصلحة الواقعيّة. فلو كان الناس لا يحتملون الاستماع إلى موضوع معيّن فلا يجوز للمتكلّم أن يطرحه، يؤدّي إلى إشكال، يؤدّي إلى استفهام. على المتكلّم أن ينظر إلى الأجواء، أن ينظر إلى الاستعدادات، أن ينظر إلى مقدار التحمّل، وينظر ما فيه صلاح ويطرحه للناس من دون مواربة وبشكل صحيح وواضح.
إذا صار هكذا هان عليه الدنيا وإبليس والخلق، يقول الكلام، فإن اعترض الناس فليعترضوا، إن لم يعترضوا فلا بأس، إن مدحوا فليمدحوا وإن لم يمدحوا فلا بأس، لقد كان اليوم مختلفًا عن الأمس، بالأمس كان أفضل، اليوم كان أقلّ. هذا ينبغي أن لا يترك تأثيرًا لدى الإنسان.
بناء على ذلك يقول الإمام عليه السلام: ولا يطلب الدنيا تفاخرًا ولا تكاثرًا. واقعًا إذا ما نظرنا فإنّ رموز السير والسلوك وحقيقة التربية والتزكية قد ضمّنت في هذا الكلام للإمام الصادق عليه السلام. فحديث عنوان البصريّ هذا هو واقعًا يمكن أن يقال إنّه معجزة الإمام الصادق عليه السلام، فكلّ كلمة وكلّ عبارة نفكّر بها وندقّق بها وننظر إليها ككلام صادر عن المعصوم، ومن كانت له عصمة واقعيّة وحقيقيّة في الكلام وكلامه عين الحقّ وعين الواقع، نجد أنّ هذا الكلام وهذا التعبير ينتهي فقط وفقط إلى التوحيد. فعندما يرتّب الأمور والمراحل بعضها خلف بعض، فإنّ حقيقته تنتهي إلى التوحيد وإلى كيفيّة الوصول إلى التوحيد الذي هو عين الواقع ومتن الواقع.
لا إشكال في طلب الدنيا وإنّما في التفاخر والتظاهر
وكما ذكرت للرفقاء في الجلسلة السابقة لدينا هنا أمران: فالإمام لا يقول إنّه لا يطلب الدنيا، فتارة يقول الإمام: لا يطلب الدنيا، ولو قاله لكان شيئًا، يعني هو أصلاً لا يبحث عن الدنيا، ولكنّ كلام الإمام هو أنّه لا يطلب الدنيا للتفاخر والتظاهر أمام الناس وعرضِ نفسِه وعرضِ شخصيّتِه للآخرين، لا أنّه لا يريد الدنيا. فما يستفاد من كلام الإمام في الوهلة الأولى أنّ طلب الدنيا لا إشكال فيه، فليطلب الإنسان الدنيا ولكن يجب أن لا يكون هذا الطلب طلبًا للتفاخر، طلبًا للتعالي على الآخرين ـ موضوع التكاثر موضوع لا بدّ من الحديث عنه في موضعه الخاص، وكلامنا الآن عن التفاخر وكيفيّة التعالي والمباهاة ـ يقول الإمام: لا إشكال في طلب الدنيا، كلّ من أراد الدنيا فليطلبها، ليس لها أيّ منافاة مع التوحيد، لا منافاة بينها وبين العرفان، لا منافاة بينها وبين السير والسلوك.
اختلاف أحوال الأئمّة مع الدنيا حسب الظروف
النموذج الذي يمكننا أن نراه في الأئمّة عليهم السلام هو أمير المؤمنين عليه السلام مع ذاك الحال وذاك الزهد وتلك الكيفيّة الخاصّة من الحياة، ثمّ نرى بعض أبناء أمير المؤمنين كالإمام سيّد الشهداء عليه السلام في تلك المكانة المميّزة، وفي زمان الإمام الصادق عليه السلام كان الأمر بنحو مختلف، وفي زمان الإمام الهادي عليه السلام كان الأمر مختلفًا، فهذه الاختلافات كانت موجودة بين الأزمان، فذاك أخ الإمام عليه السلام يأتي إلى أمير المؤمنين لإضافة نصيبه من بيت المال، فيحمي له الإمام حديدة ويدنيها من يده! هكذا لأنّ ظروف الزمان كانت بهذه الكيفيّة. وذلك الرجل الفقير أيضًا يأتي قرب منزل سيّد الشهداء عليه السلام ويسأل ويطلب منه هبة وعطاء، فيذهب الإمام ويأتيه بكيس من الذهب هو تمام ما يملك ـ يعني في ذلك اليوم وذلك الشهر ـ وفيه مئات الدنانير، ويقول له: اصرفه على نفسك وسدّ به ديونك وما يبقى اجعله لنفسك ذخيرة، وعندما يبكي ذلك الرجل يقول له الإمام: ربّما كان هذا المقدار قليلاً ولم يرفع حاجتك، هل استقللته؟ يقول ذلك الرجل: كلاّ. إنّما بكيت على هذه الأكف كيف يتضمّنها التراب؟! ففي ذلك الزمان كان الأمر هكذا، وكان الإمام يعطي هكذا.وفي زمان أمير المؤمنين عليه السلام كان الحال على تلك الصورة وهكذا كان الإمام يتصرّف.
فسيّد الشهداء عليه السلام نفسه الذي كان له هذا الجود، جاءه في زمان أمير المؤمنين ضيف ولم يكن في بيته شيء، لم يكن شيء! فقال الإمام لقنبر أعطني الآن من بيت المال قرضًا من سهمي في الشهر القادم! من ذلك العسل الذي أرسل من اليمن، فأخذ من بيت المال من سهمه في الشهر القادم، لا أنّه كان يأخذ هكذا بل قرضًا. فلمّا سمع أمير المؤمنين سخط إلى حدّ قال: لولا أنّي رأيت رسول الله يضع شفاهه على وجهك لأدّبتك على ذلك. هل تلتفتون؟! فالأمر كان مهمًّا إلى درجة عالية ودقيق وفيه جوانب هامّة بحيث أنّه لا بدّ أن تلاحظ الخصوصيّات في كلّ ظرف، لم تكن حقيقة الأمر أنّ زهد أمير المؤمنين أكثر من زهد الإمام الحسين، فكلاهما إمام. الإمام الحسين عليه السلام عندما وصل إلى الإمامة كان إمامًا. فالدهر كان هكذا لكلّ على حال، فهذه نقطة. في ذلك الزمان كان الأمر مختلفًا وكان يختلف عن هذه الحالة.
معنى أن لا يطلب الدنيا تفاخرًا
يقول الإمام الصادق عليه السلام إنّه لا يطلب الدنيا تفاخرًا. فما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام هو أن ننظر نحن ونرى هذه الدنيا لأيّ شيء هي؟
في الجلسة السابقة قلت إنّ الدنيا عبارة عن موهبة إلهيّة يتفضّل بها الله على كلّ واحد منّا بمقدار معيّن وفق مصلحته لكي نصل من هذه الدنيا إلى العقبى، من هذه الدنيا إلى الآخرة. هذه هي الدنيا. بناء على ذلك إذا أردنا أن نبرّر الدنيا تبريرًا منطقيًّا فعلينا أن نقول هي عبارة عن الحركة في عالم الطبع وفي عالم المادّة وعالم الظاهر على أساس القواعد المنطقيّة والقواعد العقليّة والقواعد التوحيديّة والتي تسير في اتّجاه واحد، أي لا بدّ أن تكون قواعدنا العقليّة وقواعدنا التوحيديّة واحدة. إذا اختلفت فلا شكّ في وجود خلل ومشكلة. فمن كان يسير ويعيش في الدنيا لا بدّ أن تكون أعماله التي يقوم بها وصراعاته التي يخوضها وعلاقاته التي يؤسّس لها ودروسه التي يدرسها وموقعيّته ومقامه التي يبحث عنها، والمال الذي يدّخره، والمعاملة والتجارة التي يقوم بها، والعلاقات مع الناس وفي المجتمع، كلّ ذلك يجب أن يكون على أساس منطقيّ وأساس توحيديّ يستند إليه، فهذه هي الدنيا من منظار الإمام الصادق عليه السلام.
بناء على ذلك عندما يطلب إنسان ما الدنيا فلا بدّ أن يبحث عن أنّ هذه الحركة التي يقوم بها هي في صالح سيره أم لا؟ هذه هي القاعدة، هذا هو المعيار. الخطوة التي يقوم بها هل هي في صالحه أم لا؟ المعاملة التي يقوم بها هل تمنعه من ذلك الهدف أم تساعده وتسرّع وصوله إليه؟ العلاقة التي يقيمها مع الناس هل هي ذات بعد منطقي وتوحيدي أم ذات بعد اعتباري؟ المسألة على أساس اعتباريّ، لأنّ موقعيّته هي كذلك فسأقيم معه علاقة، ولو كان غير ذلك فلماذا نتلف وقتنا؟! المقام الذي يبحث عنه هل هو لتثبيت الشخصيّة والاعتبار المنسوجين في ذهنه أم في سبيل تحقيق وتنزيل وتثبيت المبادئ التوحيديّة؟ أيّهما؟
حوار السيّد جمال الدين الكلبايكاني مع أحد المقرّبين من النظام البهلوي
كان المرحوم العلاّمة يقول: كان في العهد السابق رجل من أصحاب المراكز يدعى القائمقمام الرشتي، وكان رجلاً معروفًا في الدولة البهلويّة، سواء عند رضا شاه أو محمّد رضا شاه، فقد كانت له مكانة مرموقة وكان مقرّبًا جدًّا، وكان يدخل عليهما بدون موعد وبدون ترتيب مسبق. وفي المقابل كان على علاقة مع النّاس، مع العلماء، حتّى مع المتديّنين. وبالطبع كان من أهل الصلاة والصيام والحجّ، كان يهتمّ بهذه الأمور، ولكنّه كان مرتبطًا بالنظام الظالم والجائر، وعندما جاء إلى النجف اصطدم مع علماء النجف، ومنهم السيّد جمال الكلبايكاني.
لقد كان السيّد جمال الكلبايكاني عالمًا معروفًا وفقيهًا كبيرًا وعالمًا ربّانيًّا ومن أهل التوحيد، وكانت لديه حالات قويّة، ومن أهل الباطن وأهل التزكية. وكان المرحوم العلاّمة يقول: إنّ أقرب أقاربه لم يكن مطّلعًا على حالاته، وكان بعض الخواصّ المرتبطين به على اطّلاع على حالاته الروحيّة والمعنويّة. فحتّى أقاربه لم يكونوا يعلمون! وقد سمعت مؤخّرًا كلامًا عن بعض أقاربه فتأسّفت كثيرًا، وقلت عجيب، رجل كهذا يجب أن يكون من أقرب المقرّبين إليه، فكيف يعبّر تعبيرًا كهذا؟! تأسّفت كثيرًا. هذا ناشئ من الجهل وعدم إدراك الأمر! ولا إشكال على هذا، وعلى كلّ حال فقد كان هكذا، وعلى الدوام هكذا كان! وليس هناك ضرورة إذا كان إنسان ما وليًّا لله ومن الأعاظم أن يكون كافّة المنتسبين إليه في هذا المجال أيضًا ويسيروا في هذا الطريق.
التقى ذلك الرجل به، وخلال حديثه معه جرى نقاش فقال له السيّد جمال رحمه الله: لماذا أنت في هذا النظام؟ في النظام الظالم؟ في النظام البهلوي، لماذا؟! ألا تعلم أنّ وجودك في هذا النظام ـ أمثالك أنت وجيه الملّة ومتديّن ظاهرًا، أمّا المتديّن الواقعي فلا يدخل في هذا النظام ـ يسبّب الخلط والاشتباه والمغالطة للآخرين؟! ألا يزيل نظرتهم السيّئة إلى هذه السلطة؟! ألا يجعلهم غير مبالين لبقاء هذه الظروف والحكومة والنظام الظالم؟ لو أنّ أمثالك لم يدخلوا في هذا النظام لما رآك الناسُ وأمثالَك تؤيّدونه عندما يحصل ظلم أو خيانة، أفلا يؤدّي وجودك إلى تعزيز ودعم الحكومة البهلويّة الظالمة؟
قال: نحن ندخل إليها لنخدم، لنخدم المؤمنين، لنرفع الظلم، نملأ فراغًا ونقصانًا نسدّ خللاً.
ـ إنّ الخلل يحدثه هذا النظام نفسه! فماذا ترفع أنت؟! الخلل يحدثه هذا النظام نفسه! والآن ليغطّي على جناياته وخياناته هذه يأتي بأمثالك، ويقول: افعل هذا العمل وافعل ذاك! وإلاّ فمن الذي يسبّب ذلك؟! هذه النقائص من الذي يسبّبها؟ من يوجد القلّة والضعف؟ كلّ ذلك الذي يوجده هو النظام، كلّه الحكومة هي التي توجده في النهاية! هي التي توجد ذلك، ولكي تستقرّ على أريكة القوّة وتشرف، ليس لها سبيل إلا أن تأتي بأمثالك وبعض العلماء والمعمّمين وتجعلهم أمام أعين الناس، وبواسطتهم وخلفَهم ترتكب كلّ جناية وخيانة ووقاحة وقباحة. فإذن أنت الذي يسبّب هذا الخلل، وأنت تسبّب هذا الظلم والباطل بين الناس وفي المجتمع المظلوم والمستضعف! ثمّ بعد ذلك تأتي وتمنّ أنّك تساعد ذلك الفقير الذي يأتي إلى مكتبنا! ها! أنت تأتي وتمنّ أيضًا؟!
فقال القائمقمام الرشتي: سيّدنا ألم يكن أمثال عليّ بن يقطين في حكومة هارون... وهنا يقال إنّه غضب غضبًا شديدًا وقال: دع عليّ بن يقطين! دعه! يأكلون ما يحلو لهم من القاذورات ـ وسمّى أيضًا ـ ثمّ يقولون عليّ بن يقطين، عليّ بن يقطين، عليّ يقطين! فعليّ بن يقطين كان في حكومة هارون بأمر من الإمام المعصوم، فبأمر من دخلت أنت في حكومة البهلويّ؟ بإجازة من دخلت أنت في هذه الحكومة مسترضيًا قلبك بهذا؟ إنّه الإمام الكاظم عليه السلام هو الذي قال لعليّ بن يقطين إنّ الله يدفع بوجودك مع النظام العبّاسيّ الجائر الظلم والجور عن شعيتنا. ثمّ إنّ عليّ بن يقطين أيّ إنسان كان؟! هل كان إنسانًا عاديًّا؟ هل كان مثلك؟! (وهذا ما أضيفه أنا)
قصّة عليّ بن يقطين مع أحد الشيعة وعدم استقبال الإمام له
جاء صفوان الجمّال كما يبدو أو عبد الرحمن ـ أنا شاكّ في الأمر ـ إلى عليّ بن يقطين ليتحدّث معه في أمر. إنسان عاديّ من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، فالإمام في المدينة وعليّ بن يقطين في بغداد. وكان هذا من أهل الكوفة، فجاء إلى بغداد ليشكو ظلمًا وقع عليه، حيث كان قد أجّر جملاً أو ما شابه مهما كان الأمر فقد جاء ليشكو ويأخذ حقّه. وكان عليّ بن يقطين مشغولاً جدًّا، ورأى أنّ الأمر ليس مهمًّا ولم يرتّب أثرًا، فرجع ذاك منكسر القلب والخاطر إلى الكوفة. فهذا إنسان عاديّ فما المشكلة في النهاية؟! هناك مسائل أكثر أهميّة، مسائل أكثر أهميّة، أمور الدولة! فلينكسر قلب واحد! إلى جهنّم! فلينكسر! ولينكسر قلب ألف واحد! فما دام هناك مسائل أكثر أهميّة فلماذا يشغل الإنسان نفسه بالأمور البسيطة ويضيع وقته عليها؟! انظروا، هل أدرك الرفقاء الأمر؟! أن ما هي الرؤية الموجودة؟ فمن ينظر من الأعلى إلى الدنيا ومن ينظر من الأسفل إليها، فهذا يقول: أنا أريد أن أصل إلى مسألة مهمّة، فليذهب واحد إلى جهنّم، ولينكسر قلبه! دعوه! ولكنّ الأمر ليس كذلك. كسر قلب إنسان كسر لقلب العالم كلّه. لا تظنّوا أنّكم تكسرون قلب واحد فقط! كلاّ، بل العالم كلّه! وكلّها متّصلة مثل حلقات السلسلة. نظنّ أنّا نقوم بعمل صحيح. كلاّ بل نحن غارقون في الدنيا إلى أعلانا.
مضى على هذه الحادثة بضعة أشهر، جاء عليّ بن يقطين إلى مكّة للحجّ، وفي الطريق في المدينة قال: فلأزر الإمام. وصل قرب المنزل وكان الوقت ليلاً فطرق الباب. جاء خادم، فقال له: اذهب وقل للإمام جاء عليّ بن يقطين، جاء وزير هارون. ذهب الخادم وأخبر الإمام، قال الإمام: أغلق الباب! ولا تدخله! فقد كان عليّ بن يقطين هكذا التفتوا! كان دائمًا يقول: أنا عليّ بن يقطين! فهل أنتم هكذا؟! فأغلق الباب. فانقلب فجأة رأسًا على عقب، واضطرب. فأنا بأمر الإمام، والوقت الآن لم يكن غير مناسب للمجئ وطرق الباب! فليست الساعة الثانية عشرة والنصف أو الواحدة ـ ذات يوم كانت الساعة حوالي الثانية عشرة والنصف أو الواحدة وكنت جالسًا في الطابق العلويّ مشغولاً بالكتابة، وفجأة سمعت الجرس يرنّ، جرس الطابق السفليّ، والعلويّ والأوسط، الساعة الواحدة! قمت ورفعت السمّاعة: تفضّل من الطارق؟ هل حدث أمر ما؟ قال: السلام عليكم! هل أنتم سماحة السيّد فلان؟ قلت: نعم تقريبًا أنا. قال: عفوًا نحن جئنا من أصفهان نريد زيارتكم. قلت: الساعة الواحدة بعد منتصف الليل؟! قلت: الساعة الواحدة بعد منتصف الليل جئتم لزيارتي؟!
ـ لو سمحتم بضعة دقائق نراكم ونرجع.
قلت: كلاّ! لا أسمح! ارجعوا وناموا في الفندق إلى الغد وننظر ماذا سيحدث؟ ولا تعودوا لمثل هذه الأعمال! فلا أحد يأتي إلى مكان في الساعة الواحدة ـ فعليّ بن يقطين لم يكن قد جاء في وقت غير مناسب. تعجّب، وانقلبت أحواله. وأنا أنقل لكم القصّة كما سمعتها من المرحوم العلاّمة لأنّ هذه القصّة مكتوبة في الكتب أيضًا ـ فذهب ورجع في اليوم التالي وطرق الباب من جديد. لا يتراجع ويقول بما أنّه لم يفتح الباب ففي أمان الله! أنا ذاهب. كلاّ! لم يكن هكذا. لماذا لم يفتح؟ لماذا لم يسمح الإمام؟ يتابع الأمر. جاء عليّ بن يقطين من جديد وطرق الباب، ومن جديد ذهب الخادم فقال الإمام من جديد لا تجبه! قال عليّ بن يقطين للخادم: لن أبرح الباب حتّى أعرف ماذا صنعتُ أنا؟! قال: اذهب وأخبر الإمام بذلك! أنا لن أترك! إن لم تفتح الباب فأنا باق هنا! لن أغادر! أحسنت! واقعًا مائة أحسنت لهؤلاء الناس الذين هم شيعة الأئمّة! هؤلاء شيعة! ليسوا من أهل الشعارات، واقعًا شيعة. يصرّون، لا يفرّون، لا يتخلّون عند المدّ والجزر، قال: ما الأمر؟ ماذا حدث؟ قال الإمام: اذهب إليه وقل له لماذا جاءك رجل من شيعتنا متظلّمًا فلم تستقبله؟! لماذا صنعت ذلك؟ جاء الخادم وقال له الإمام يقول لك لماذا لم تستقبل ذلك الجمّال الذي جاء إليك قبل أشهر؟ ففهم، فهم السبب وأين هي المشكلة في الأمر. فقال: الآن اسأل الإمام ماذا عليّ أن أصنع؟ فقد قمت بذلك! أخطأت! تبت! وكلّ ما تأمرون به فإنّي مطيع! وقد قال ذلك صادقًا! مهما أمرت فأنا أنفّذ، وأَصَرّ. فقال الإمام: حسنًا! أحضر ذاك الجمل من الحظيرة، قال الإمام بنفسه أخرج ذلك الجمل، وأنت تركبه فيأخذك من المدينة إلى الكوفة، ولا تحتاج إلى أن تدلّه، هو بنفسه يأخذك إلى باب ذلك الجمّال ـ كان هناك تحكّم من بعد! ـ هو نفسه يأخذك إلى هناك، فتسترضي صفوان أو ذلك الرجل الآخر، وترجع.
أحضر عليّ بن يقطين كلّ ما يملك من مال وركب الجمل، وبدقيقة واحدة وصل الجمل من المدينة إلى الكوفة. كان الوقت ليلاً، مشى وطوى الأزقّة ووقف عند المنزل. طرق الباب، وكان قد مضى مقدار من الليل، فقال له: من؟ قال: عليّ بن يقطين. فاستوحش وخاف! قال: ماذا يصنع عليّ بن يقطين في منزلي؟! قال: على كلّ حال لقد جاء عليّ بن يقطين، فافتح الباب، إنّ من أرسلني لا بدّ أن يفتح لي الباب، ففي النهاية لا بدّ أن نصل إلى نهاية الأمر! فتح الباب ودخل، فقال: لقد جئت لأطلب منك المسامحة، كما أريد أن أعطيك حقّك، فخذ هذا الحقّ الذي سلب منك. أعطاه من جيبه وضاعفه له وقال: هل أخذت حقّك أم لا؟ قال: نعم. ثمّ جاء ونام على الأرض وقال له لا بدّ أن تدوس برجلك على وجهي بقسوة وتقول اللهمّ إنّي رضيت على عليّ بن يقطين. قال: لا يمكن أن أقوم بذلك! قال: وأنا لا يمكن أن أذهب من هنا أيضًا! فهذا ما لم يقله له الإمام، هذا قام به من نفسه. بارك الله بالإنسان الذكيّ! الإنسان الذي يرى الدقائق ويفهمها. ذلك العمل الذي قمت به لا بدّ أن تذوق النفسُ عقابه، فقد فهم المشكلة أين تكمن. قال: لا أفعل! قال: الموت أهون عليّ من أن أفعل ذلك! قال: أنا لن أبرح! لن أبرح حتّى تفعل ذلك! في النهاية نام ووضع ذاك رجله على وجهه. قال لا بدّ أن تضغط! قال: لا يمكنني! قال: لا بدّ أن تفعل! فضغط برجله على وجهه. ثمّ قال له هل رضيت؟ قال: نعم رضيت! قال: اللهم ارض عنه فقد رضيت عنه. ثمّ قام وقبّله وقال: إن كانت لديك حاجة في أيّ وقت فتعال وقل أنا فلان. ماذا صنعت أنا معك؟! والحاصل أنّه اعتذر منه.
جاء وركب الجمل وبدقيقة واحدة وصل الجمل إلى باب موسى بن جعفر عليه السلام. ما إن وصل وقبل أن يطرق الباب فتح الخادم الباب وقال له تفضّل! كلّ شيء حاضر، كلّ شيء واضح. فدخل فقال الإمام بصوت مرتفع أهلاً وسهلاً السلام عليكم، كيف الحال، كيف حال الوزير؟! هل أنت بخير؟ فجاء واحتضنه الإمام وقبّله وأجلسه فقد صار مستقيمًا الآن. من يذهب إلى منزل الإمام لا بدّ أن يذهب طاهرًا، على طهارة. هذا هو عليّ بن يقطين. ثمّ بعد ذلك يقايس ذلك الرجل نفسه بعليّ بن يقطين!
قال السيّد جمال: يصنعون ما يريدون وما يحلو لهم ثمّ يقولون نحن عليّ بن يقطين!
لقد جلس القائمقام الرشتي مع جميع علماء النجف في تلك السفرة وتحدّث معهم وكانت له معهم جلسات، وكان الجميع مصرّين على تثبيت موقعيّته، كافّة علماء النجف! وجميعهم قالوا: ابق في مكانك! وجميعهم قالوا: لا تترك مكانتك! وجميعهم قالوا: ابق في موقعك هذا! الوحيد الذي قال له: اخرج من نجاستك هذه هو المرحوم السيّد جمال الكلبايكاني، وحده. وذاك أيضًا لم يخرج من مكانه حتّى النهايات، ففي أواخر عمره يبدو أنّه التفت وانفصل عن محمّد رضا شاه بمشكلة وقطع علاقته به ولم يعد يذهب إليه حتّى مات. وعندما توفّي، رغم أنّ ابنه من أفضل وأقرب أصدقاء الوالد رضوان الله عليه ـ أتعلمون من كان ابنه؟ إنّه ذلك الذي كتب عنه المرحوم العلاّمة في بداية الروح المجرّد أنّه ذهب برفقة اثنين من النجف إلى كربلاء مشيًا أحدهما المرحوم الحاج الشيخ عبّاس القوجاني، والآخر أحد المعروفين، فقد كان هذا ابنه، وقد كانت لديه حالات جيّدة وكان من أهل الوجد والمكاشفة، وكانت له حالات خاصّة في نفسه ـ رغم أنّه كان ابنه، لم يشارك المرحوم العلاّمة في تشييع أبيه، قال أنا لا أشارك في تشييع من يعمل في النظام الظالم، من كان في النظام البهلويّ فأنا لا أشارك في تشييعه. في حين أنّ كثيرًا من الناس، وكثيرًا من العلماء، تقريبًا أكثر علماء طهران قد شاركوا في تشييعه وكانوا أصدقاءه. فهذا هو الرجل الثابت.
قال المرحوم العلاّمة أنّه في أواخر عمره عندما انفصل عن محمّد رضا شاه قال: الآن أدركت أنّ الوحيد الذي قال لي كلامًا حقًّا هو السيّد جمال الكلبايكاني، وجميعهم كانوا مخطئين. من هم الذين قالوا ذلك؟ كافّة المراجع والعلماء المعروفين ثبّتوه على موقعيّته تلك. قال: الآن أدرك أنّ الحقّ كان مع المرحوم السيّد جمال الكلبايكاني، وجميع هؤلاء قد اشتبهوا. أفهل الأمر هكذا؟ أهكذا يقوم الإنسان ويطلب الدنيا ثمّ ورغبة في ماذا؟ يأتي الشيطان ويخدعه ويقول نعم! تدخل إلى هناك وتحقّ الحقّ! تساعد فقيرًا! ماذا تفعل لمظلوم؟! وأمورًا كهذه. في حين أنّه هناك يأكل دائمًا من رأسماله، مثل الكيس المثقوب الذي يتساقط منه على الدوام الأرزّ أو الدُّخْن، فيرى في النهاية أنّه لم يبق سوى الكيس! كلّ شيء قد ذهب! بكلام من؟!
هل التفتّم الآن إلى كلام من يجب أن يصغى؟! ومن الذي يجب أن يطاع؟! هل السيّد جمال أم غيره؟! من هو الذي يرى المصلحة الواقعيّة والحقيقة الباطنيّة؟! ذلك الذي ينظر من الأعلى لا من الأسفل. لذلك عندما يذهب ذلك الرجل إلى السيّد جمال يريد أن يدفع الحقوق الشرعيّة، فإنّ السيّد جمال يقول: أنا لا أقبلها، هذه الأموال حصلت عليها من النظام الجائر والبهلويّ الظالم، فأنا لا أقبل خمسها! فيذهب إلى الآخرين. الآخرون يقبلون جميعًا! لماذا؟ يقولون: لا بدّ أن تسير أمور الحوزة! لقد قالوا له هذا الكلام بعينه! لا بدّ أن تسير أمور الحوزة، لا بدّ للحوزة أن توزّع الشهريّة، لا بدّ للحوزة أن يكون لها إعلام، لا بدّ للحوزة أن يكون لها كذا وكذا! في أحد مجالس الفاتحة جرى نقاش بين السيّد جمال وواحد من علماء النجف هؤلاء، فقال السيّد جمال رحمه الله: لماذا قبلت من هذا الرجل؟! فقال: لا بدّ أن تتيسّر أمور الحوزة يا سيّد! قال: لا بدّ للحوزة أن تتيسّر أمورها بأموال النظام البهلويّ؟! لا بدّ للحوزة أن تتيسّر أمورها بأموال الربا؟! لا بدّ للحوزة أن تتيسّر أمورها بالمال الحرام؟! بهذا المال لا بدّ أن تتيسّر أمورها؟!
عندما سمعت هذا الأمر من المرحوم العلاّمة وقد ذكره أيضًا في كتبه، وأستبعد أن يكون ذكره في الكتب المطبوعة، ولكنّه كتبه في بعض مخطوطاته، وقد قرأته قبل ستّة أشهر تقريبًا فأغلقت الكتاب هناك، وغرقت في التفكير، قمت بالمقارنة بين السيّد جمال والآخرين، وبقيت مدّة ساعة هكذا أفكّر في نفسي، ووضعت هذين الاثنين جنبًا إلى جنب، وعلينا نحن أن نقوم بهذا العمل أيضًا! الآن، لاحقًا. الآن أنتم تسمعون الكلام، فاحفظوه ثمّ لنجلس ولنفكّر فيه. وضعت هذين الاثنين جنبًا إلى جنب، قلت: أيّ فكر هذا الذي يصنع هكذا، وأيّ فكر ذاك الذي يصنع ذاك؟ ماذا يجري في ذهن هذا؟ وماذا يجري في ذهن ذاك؟ هذا بما يجري في ذهنه لا يقبل الأموال الشرعيّة ويرمي بها عرض الحائط، وهذا بما يجري في ذهنه يقبل بها ويقول يجب أن تكون. فما أصل ذلك؟ أيّ اختلاف بين هذين النحوين من التفكير؟ الاختلاف هو فقط هذا الذي ذكرته، هذا ينظر من الأعلى، وهذا ينظر من الأسفل. هذا هو فقط! هذا ينظر من الأعلى، يقول هذه الحوزة حوزة أمير المؤمنين، حوزة وليّ الله، حوزة لا بدّ فيها من أن تضخّ الولاية، لا بدّ أن تضخّ ولاية أمير المؤمنين في أرواح الطلاّب، لا بدّ أن تضخّ فيها مبادئ مدرسة أمير المؤمنين، لا بدّ أن تضخّ في هذه الحوزة نيّات عليّ ورغباته، تلك الرغبات لا تحصل بمال الربا، بالمال الآتي من نظام الظلم، لا تحصل نوايا أمير المؤمنين. لا بدّ من إعمال الإخلاص في هذه الحوزة، لا بدّ أن تأتي المعنويّة والروحانيّة.
لو كان أمير المؤمنين مكانكم فهل كان سيأخذ هذا المال؟ فلنجلس ولنفكّر جيّدًا! لا نقل نعم بسرعة! لو كان عليّ الآن والذي ابنه الآن هو إمام الزمان فهل كان يأخذ هذا المال أم لا؟ لما كان أخذه! لماذا لا يأخذه؟ لأنّ عليًّا يعتقد أنّ الله رزّاق. نحن نعتقد أنّ محمّد رضا شاه رزّاق! أقولها بصراحة! لا مزاح في الأمر! لا إشكال في التصريح في هذه الأمور حتّى نفهم أين هو موضع الخلل. أمير المؤمنين يرى الله رزّاقًا والله مشرفًا ومسلّطًا على كلّ شيء، لذلك فإنّه يريد أن ينظر إلى الحوزة وإلى العلم وإلى الطالب من هذا المنظار. المال حرام، فلا نعطيه، الله هو بنفسه يعلم، يريد أن يرزق أو لا يرزق ما علاقتنا نحن؟! هكذا يفكّر السيّد جمال. يقول أنا لا آخذ المال الحرام، فالله قال لا تأخذه. هو أدرى. ألم يقل إنّه هو المتكفّل؟ حسنًا فهو متكفّل! فأنا لا آخذ. ألم يقل إنّه هو الضامن؟ فهو يقف ويحقّق الأمر، ما شأني أنا؟! لماذا أتدخّل أنا في أمر لا علاقة لي به؟! لماذا؟!
هو يأتي وينظر إلى الأمور من نافذة التوحيد، يمضي ويقول: اذهب! اخرج من النظام! اترك النظام البهلويّ! اخرج من النظام الظالم! يقول أنا أساعد الفقير، أفهل يد الله مغلولة حتّى تساعد الفقير أنت؟! اذهب أنت وساعد نفسك، اذهب أنت وأنقذ نفسك من الغرق! اذهب وفكّر في نفسك قليلاً! أفهل يد الله مغلولة؟! (وقالت اليهود يد الله مغلولة...)۱ قال اليهود إنّ الله لا يمكنه أن يفعل شيئًا، نحن نفعل كلّ الأعمال! نحن نفعل كلّ الأعمال! ذاك ينظر إلى الحقيقة من عالم التوحيد، يقول: كلاّ! ابتعد! ونحن لأنّا لا نرى الله ولا نعرف الله، ولا علم لنا به، وننكره، وإن كنّا باللفظ نصرّ، نقول باللفظ الله، ولكنّ باطننا لا يقبل الله، من هو الله! المال! فقط المال هو المطروح! من أيّ مكان يأتي! إلهنا هم الناس الذين يأتون إلى هنا! إلهنا هي الوسائط والوسائل التي تأتي عن هذا الطريق الظاهري فحسب. هذا ما نفهمه نحن فحسب! ما دمنا كذلك فإنّا نتمسّك بهذه الأمور. بهذه الأمور! نحن نريد أن ننظر من الأسفل: آه لقد نقصت الآن! آه لقد حدث كذا الآن! آه لقد حدث ذاك الآن! آه آه! فإذن خذ! فالله يأتي وماذا يصنع؟ يحضر شيئًا فيه مشكلة! يأتي به في النهاية! كلّ ذلك هو أرسله. يجلس ويفكّر في نفسه، حسنًا إن لم نفعل ذلك فماذا سنصنع هذا الشهر؟ ماذا سيقول هؤلاء؟ يقولون ليس لدى السيّد مال! ليس في جيب السيّد مال! ليس لديه مال ينفقه! هذا ليس جيّدًا لوضعنا، وللإسلام! ها! الإسلام يأتي أيضًا بعد ذلك! نحن والإسلام نصبح شيئًا واحدًا. هذا لا يناسب وضعنا، لا يناسب وضع الإسلام، لا مصلحة فيه.
حينها يأتي من خلال ذلك الطريق الذي رسمه الشيطان، يريد أن يبلّغ الإسلام! والمسكين لا يدري أنّ الطريق الذي يسلكه الآن قد جعله له الشيطان. أتريد أن تبلّغ إسلام عليّ عن طريق الشيطان؟ والذي جلس هناك ألا يرى؟!
هنا علينا أن نفكّر جيّدًا في هذا الأمر. إنّ طريقة التفكير هي التي تبني حياة خاصّة وعلاقات خاصّة وخصوصيّات خاصّة إلى آخر العمر. هذا النوع من التفكير يأتي ويبني برنامجًا خاصًّا ومسائل خاصّة ويؤسّس لجميع شوائب الحياة، ويصبح الفكر فكرًا ماديًّا، ويغدو الأمر ماديًّا، ويصبح المقصد ماديًّا، والهدف ماديًّا، ونأتي بالله أيضًا حتّى لا يبقى هناك فراغ. ونصلّي صلاة جماعة، ونقول لا إله إلاّ الله، ونقيم مجالس عزاء في منازلنا، نقيم مجالس عزاء حتّى يرتفع صوت لسيّد الشهداء من المنزل! والحاصل أنّ الشعائر الدينيّة تقوم بواسطتنا، والإمام الحسين ينتظر مجالسنا! ونرضي قلوبنا ونفوسنا ونعدّ أنفسنا أبرياء الذمّة. ذمّتنا بريئة أمام إمام الزمان، أمام الإسلام، وكلّ شيء قد تحقّق. في حين أنّنا لا نعلم غارقون إلى رؤوسنا في مأزق الدنيا.
صارت الساعة الثانية عشرة! ولطالما قرّرنا أن نتكلّم مدّة ساعة فقط، ولكنّا نتكلّم أكثر في النهاية. أعتقد أنّه ينبغي أن نتوقّف صحيح؟ نتوقّف أيّها الرفقاء أم لا؟ ماذا؟ لا؟ أظنّ أنّي لم أصل بعد إلى الثلث الأوّل من الموضوع الذي كنت أودّ الحديث عنه! مما يعني أنّه لا بدّ أن أتحدّث لساعتين أخريين، لأنّ كلامي اليوم كان له ثلاثة أقسام، القسم الأوّل له موضوع خاصّ ويدور حول موضوع الماديّات، والقسم الثاني حول العلم، والقسم الثالث حول موضوع السلوك والعرفان. وقد علقنا في القسم الأوّل. والآن سأتكلّم لبضع دقائق وأترك تتمّة الكلام إلى جلسة أخرى بحول الله وقوّته.
لماذا طلب النبيّ سليمان عليه السلام
لقد طلب النبيّ سليمان على نبيّنا وآله وعليه السلام من الله الملك: {قال ربّ اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي إنّك أنت الوهّاب}۱، عجيب جدًّا! فمع مقام النبوّة كيف طلب سليمان هذا الطلب؟! {قال ربّ اغفر لي} أولاً اغفر لي، فانظروا علينا أن ندقّق جيّدًا كيف ترتّبت آيات القرآن، فهو لا يقول من البداية {ربّ هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي}، بل يقوم أوّلاً بتصحيح نفسه، يوكل نفسه إلى الله، اللهمّ ارحمني واغفر لي! يعني اجعلني موردًا لمغفرتك ورحمتك وطهّرني! هذا هو الأمر الأوّل. وبعده: {وهب لي ملكًا} أعطني حكومة و{ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي}، لا يجده أحد من بعدي إلى يوم القيامة، لا ينبغي يعني لا يليق. {إنّك أنت الوهّاب}، فقط أنت من يعطي. يعني تلك السلطنة التي تهبني أنت من يهبنيها، أنت الوهّاب، لست أنا من حصّلها! فهذه هي النقطة الثانية، يعني أنت من يعطينيها، إن شئت أعطيتني، وإن لم تشأ لم تعط.{ فسخّرنا له الرّيح،} جعلنا الريح تحت تسخيره {تجري بأمره} فيتحرّك إلى حيث يشاء وحيث يحبّ {رخاء حيث أصاب}٢ أينما أراد أن يذهب وإلى أيّ نقطة أراد فإنّ الريح تحرّكه، فالريح تذهب حيث يريد، يعني لا معنى لشرق العالم وغربه بالنسبة إليه. ثمّ ماذا جعلنا له غير ذلك؟ سخّرنا له الشياطين والجنّ {والشياطين كلّ بنّاء وغوّاص}٣ الشياطين الذين كانوا من أهل البناء ويبنون له كلّ ما يريد، والشياطين الذين يغوصون في البحار ويستخرجون له من ذخائر البحر، غوّاص يغوص في البحر. لم يكن في ذلك الزمان غوّاصات لتذهب وتغوص! ولو وجدت فإنّ لها حدًّا معيّنًا لا تصل إلى قعر البحر، ولكنّ هؤلاء الشياطين لم يكونوا كذلك! بل كانوا يغوصون في أعماق المحيط الهادئ المحيط الكبير، المحيط الأطلسي، كانوا يغوصون كيلومترات. وكلّ ما يطلبه يأتون به، ما يحتاجه للمباني وفي الأمور التي يريدها، وللجيوش والجنود وللنّاس، كلّ ما يريد فإنّ الشياطين كانوا يقومون له به، فقد كانوا مسخّرين له.
{هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب}.۱ يقول الله هذا عطاؤنا لك، فأعط من شئت وامنع من شئت. أعط هذا الملك أنت، أجعله لأفراد الحكومة، هذا اجعله هنا، وذاك اجعله هناك. لقد أعطيناك نحن هذا. ماذا يصبح؟ مثل مقام عليّ بن يقطين الذي أعطاه موسى بن جعفر هذا المقام. فالله يقول نحن جعلنا هذا لك، نحن جعلناه لك، {فامنن أو أمسك} أعطه لمن شئت، كلّ من وجدته لائقًا فأعطه، ومن لم ترد إعطاءه فلا تعطه! وفي النهاية النتيجة: {وإنّ له عندنا لزلفى وحسن مآب}٢ لا تظنّوا أنّ النبيّ سليمان قد فسد أمره بهذا الملك، انتهى سلوكه، خسر عمره، أضاع رأسمال وجوده، فالنبيّ سليمان لم يكن مثلنا! {وإنّ له عندنا لزلفى} له عندنا مقام عال {وحسن مآب} وآخرته أفضل آخرة. مآبه ومرجعه سيكون مآبًا حسنًا ومقامًا حسنًا، لم يخسر عمره.
هذه الآيات الشريفة التي تتحدّث عن النبيّ سليمان، تبيّن كيفيّة حركة الإنسان وقيامه في هذه الدنيا بنحو واسع. فالله لم يكتف في هذه الآيات بنحو خاصّ، بأمر خاصّ، بمورد خاصّ، بأمر جزئيّ، أعطينا النبيّ سليمان مدينة، أعطينا النبيّ سليمان مصنعًا، أعطينا النبيّ سليمان معملاً، أعطينا النبيّ سليمان قيادة. كلاّ! لقد أعطينا سليمان أعلى حدّ يمكن أن تتصوّروه. علينا أن نلتفت إلى هذه النقطة. ماذا كان سرّ الأمر وحقيقته حتّى جاء الله ونقل هكذا أمرًا في القرآن. حسنًا أعطيناه فقد أعطيناه! فلماذا نقلُه في القرآن؟! ماذا يعني بيان هذا الأمر؟! واقعًا عجيب! واقعًا عجيب! ومن المؤسف والمخجل أنّي سمعت عن أحد علماء مشهد المعروفين ولا يزال على قيد الحياة، سمعت عنه بواسطة، وطبعًا واسطة موثوقة أحد الرفقاء والأصدقاء، حيث تطاول على النبيّ سليمان على المنبر وقال عبارة أخجل من قولها! أنّ النبيّ سليمان كان كذا حتّى طلب من الله هكذا مطلبًا. نحن في مدرسة الإمام الصادق! أين دعانا الإمام الصادق إلى أمثال هذه الكلام؟! أيّها الأحمق العديم الإدراك! لقد كان سليمان صاحب مقام النبوّة، وصاحب مقام الرسالة! هل كان مثلك؟! هل كان عقله مثل عقلك؟ هل كان فكره مثل فكرك؟ حيث تقول إنّ النبيّ سليمان كان كذا حتّى طلب هكذا طلبًا. هل يمنعنا الإمام الصادق من الدنيا؟ هل يمنعنا الإمام الصادق من الحكومة، كلّا يا عزيزي! الإمام الصادق يدعونا إلى تشكيل الحكومة، الإمام الصادق يدعونا إلى الدخول إلى هذه الدنيا. غاية الأمر أنّ الإمام الصادق لا يدعو أيّ إنسان ولا أيّ خيال ولا أيّ اعتبار ولا أيّ منطق اعتباريّ دنيويّ وعاميّ. الحكومة التي يمضيها الإمام الصادق هي الحكومة الإلهيّة، والحكومة التوحيديّة. ذلك المنصب الذي يفوّض إلى أحد من قبل موسى بن جعفر هو منصب جاء بنحو مباشر من عند الله ولا يختلف قيد أنملة. النبيّ سليمان كان له مقام الرسالة وكان نبيًّا حين طلب هذا الطلب. لماذا يطلب النبيّ سليمان هكذا طلبًا؟! لأجل عصرنا هذا ولأجل حاجة يومنا هذا يطلب هكذا طلبًا.
لو سمح الرفقاء فقد تعبت وليلة أمس رجعت متأخّرًا من زيارة عليّ بن موسى الرضا، وكنت هناك في الحرم المطهّر نائبًا عن جميع الرفقاء والأصدقاء في الزيارة، ووصلنا إلى طهران عند الساعة الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل، لذلك أرجو المعذرة من الرفقاء. إن شاء الله إلى جلسة أخرى وموعد آخر نكون في خدمة الرفقاء لإكمال الموضوع.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد