44

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

8680
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالملكية الحقيقية والاعتبارية

جلسات المجموعة(10 جلسة)

التوضيح

تتحدّث هذه المحاضرة حول فقرة أن لا يرى العبد لنفسه ملكًا، وتبيّن أنّ ثبوت حقّ التصرّف في الأمور هو فرع ملكيّتها الحقيقيّة، وتُرتِّبُ على ذلك انحصار حقّ الأمر والنهي المطلقين بالله لأنّه هو المالك الحقيقيّ لنا، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد وله الولاية التكوينيّة علينا، وحيث إنّ المعصومين وصلوا إلى مقام العبوديّة وأدركوا أنّهم مظهر لولاية الله التكوينيّة فإنّهم لهم وحدهم الولاية المطلقة في الأمر والنهي وولايتهم عين ولاية الله لا شيء آخر.
وقد بيّنت المحاضرة أثناء بيان انحصار الملكيّة بالله قصّة من سرق بستانًا مبرّرًا سرقته بالرؤية التوحيديّة، ثمّ عالجت هذه الآفة السلوكيّة وبيّنت خطر النفس في كيفيّة توجيه الأدلّة والمبرّرات، وكيفيّة مواجهتها بالمراقبة. كما بيّنت أثناء ذلك قصّة لبايزيد البسطامي مع الكلب الذي وعظه بمواعظ ثلاث، مؤكّدة أنّ السير والسلوك ليس بعدد السنوات بل بالعبوديّة.

/۱۸
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

  • شرح حديث عنوان البصريّ، المحاضرة ٤٤

  •  

  • القاها

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم‌

  • بسم الله الرّحمن الرّحيم‌

  • الحمد لله ربّ العالمين‌

  • وصلّى الله على سيّدنا و نبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا

  • أبي‌القاسم محمّد و على آله الطّيّبين الطّاهرين‌

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين‌

  •  

  •  

  • لا يرى العبد لنفسه ملكًا

  • قال إمامنا الصّادق عليه‌السّلام: [العبوديّة] ثلاثة أشياء: أنْ لا يرَى العَبدُ لِنَفسِه فيما خَوَّلَهُ الله مِلكًا، لأنَّ العَبيدَ لا يكونُ لَهم مِلكٌ...۱

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان إنّ حقيقة العبوديّة في ثلاثة أشياء: الأول أنّ لا يحسّ العبد بالتملّك والملكيّة تجاه ما يمنحه الله من التصرّفات ومن الأموال ومن نعمه؛ لأنّ العبيد لا يرون لأنفسهم ملكًا بل يرون الملكيّة كلّها منحصرة في ملكيّة مواليهم. يرون المال مال الله، فالعبيد يعني عبيد الله يعتقدون أنّ المال مال الله، ويصرفونه في كلّ مكان أمرهم الله أن يصرفوا فيه. 

  • خلاصة الجلسة السابقة: الحقّ في التصرّف فرع الملكيّة

  • جرى الحديث في الجلسة السابقة حول المسائل الاعتباريّة والمسائل الحقيقيّة، وتقدّم أنّ للإنسان القرار في التصرّف في ما يرتبط به، لأنّه مالك لتلك التصرّفات، وصاحب القرار في تلك التصرّفات. فأنا الآن أحرّك يدي، لي الخيار في التحريك وعدمه، لي الخيار في أن أجلس متربّعًا أم على رجليّ، لي الخيار في أن أقف أو أن أنام، أمشي أم أتحرّك، لماذا! لأنّي مالك لأعضائي وجوارحي، لي الخيار في أن أصرف هذا المال الذي هو لي في أيّ موضع بما لا يخالف الشرع طبعًا، فبالنسبة إلى كيفيّة صرف المال، لي الخيار بمقدار ما أعطاني الله وإن شاء الله سيأتي بحث ذلك وبيان حدود الاختيار وما هي الموارد والمواقف التي تقيّد الإنسان؟ لأنّي أشعر بالملكيّة بالنسبة إلى هذا المال، أمّا الإنسان الآخر فلا يمكنه أن يتصرّف في مال غيره. لأنّ هذا الحقّ لم يعط له من قبل الغير، فأنت لا يمكنك أن تتصرّف في مال الجار؛ لأنك لم تُعطَ حقّ التصرّف. ولو تصرّفت فإنّه يواجهك بالقانون، يأخذك إلى السجن، ويؤدّبك. ولو استمرّ فإنّ الأمر ينجرّ إلى التوقيف والحبس وهذه المسائل، ويختلف الجزاء بحسب مستوى الجريمة. لماذا! لأنّه وقع تعدٍّ على الحدود والحقوق، والشارع يؤيّد هذه التدخّلات والتصرّفات، ويذمّ تلك ويعدّها قبيحة. وفي الإسلام وفي كلّ دين لا بدّ أن تقع التدخّلات والتصرّفات ضمن دائرة القانون.

    1. بحار الأنوار، ج۱، ص ٢٢٥، الروح المجرّد، ص ۱٩٥.

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

3
  • قصّة من تصرّف ببستان غيره بحجّة الرؤية التوحيديّة

  • يقال إنّ رجلاً دخل بستانًا وشرع بتسلّق الأشجار والأكل منها، فجاء صاحب البستان وقال: بأيّ إجازة دخلت ملكي وبأيّ إجازة تسلّقت الشجرة وشرعت بالأكل؟ فألقى الرجل نفسه في هذا الطريق وصار موحّدًا وجعل ينظر إلى التوحيد، وكان يرى كلّ شيء للّه ويقول: البستان هو الله، والشجرة هي الله وأنا الله وأنت الله؛ فماذا تقول مالي وملكي وفواكهي وأشجاري فما هذا الكلام؟ فقال له: جيّد جدًّا، ما دام قد جاء من هذا الطريق فلنأت نحن أيضًا منه، فأخذ عصا وقال: العصا هي الله، والضارب هو الله والمضروب هو الله فذق! فرأى أنّ الأمر لم يصلح. 

  • أجل من يقول هذا الكلام لا يتسلّق جدران الناس، ولا يتسلّق أشجار الناس، حاله حال توحيد، وفي أحسن الأحوال وأحسن الأوضاع ويستفيد من هذا الحال.۱

  • من آفات السلوك توجيه النفس لمصالحها بالأدلّة 

  • وهذه المسألة هي إحدى آفات السلوك وآفات الانحراف، الانحراف الفكريّ والانحراف في الطريق، فعندما ترى النفس ـ التي تأتي وتوجّه الأمور بهذا النحو ـ عندما ترى أنّها تنسجم مع منافعنا ومنافع النفس ومع حركة النفس وباتّجاه النفس وميول النفس فإنّها تطبّق بعض المسائل وتنحت بعض التمحّلات والوسائل والذرائع والأدلّة، مثل التمثال الذي يصنعه النحّات كيفما شاء وعلى الصورة التي يريدها، تارة على شكل غزال، وتارة على شكل حمامة وأخرى على شكل وردة، فهذا بحسب ما يريده الإنسان، وهذه النفس أيضًا تأتي وتنحت، فهي تصنع وتجسّم لا أنّها تعطي النظريّة فقط، فهي تجعل الأمور موجودة وحقيقيّة لا وضعيّة اعتباريّة، بل حقيقيّ بحيث يقول: أصلاً هذه هي الحقيقة، أصلاً لا بدّ أن تكون الحقيقة بهذا النحو ويجب أن لا تكون غير ذلك. لماذا؟ لأنّ ذلك هو اتّجاه النفس، تلك الإرادة والميول والمطالب هي في جهة خاصّة، لا في جهة عامّة. فهو لا ينظر إلى المسائل نظرة عامّة كليّة، ينظر نظرة فرديّة، ينظر إلى طريق واحد ومسير واحد. فلأنّه يقع في ضائقة يتغيّر فكره وإرادته ودليله بالنظر إلى حادثة ما. ولو خرج من الضائقة لغيّر تفكيره. ماذا حصل؟ لماذا نحوان من التفكّر، نحوان من الطرق، نحوان من الأدلّة يطرحان هنا؟ لماذا؟ بالأمس كنت في ضيق فكنت تقول: لا بدّ أن يكون الأمر هكذا، وحين خرجت من الضيق انفتح الفكر، ولم يعد أسيرًا للميول ومنافع النفس، والآن تظهر قيود أخرى، الآن يرى مصلحته في إبراز رؤية صريحة وواضحة وجامعة وعامّة شاملة. لقد كان حينها في أزمة وكان يفكّر بطريقة أخرى.

    1. توضیحًا لهذا الكلام ننقل ما ذكره المحاضر في كتابه أسرار الملكوت، ج‌۱، ص: ٢۰۱ حول هذه الفكرة: يُحكى أنّ حكيماً دعا أحد تلاميذه الجدد إلى منزله للإفطار، وعند الإفطار رأى أنّ ذاك التلميذ لم يمدّ يده إلى الطعام ولم يتناول منه شيئاً.
      فتعجّب من ذلك وسأله: لماذا لا تأكل؟ أترى في الطعام ما يمنعك عن تناوله، أو أنّ الطعام الذي تشتهيه غير هذا الموضوع أمامك؟
      فقال له ذلك التلميذ: لا يوجد أيّ مشكلة في الطعام، إنّما المشكلة في انتساب هذا الطعام إليك، فإنّ ذلك هو السبب الموجب لاحترازي منه واجتنابي عنه، لأني أحتاط في أكل الطعام المشتبه، ولأنّ هذا الطعام قد طبخ في منزلك فشبهة النجاسة والقذارة موجودة فيه.
      عندها سأله ذاك الحكيم بتعجّب: أكافر أنا حتى تعتبر طعامي نجساً يجب الاجتناب عنه؟!
      فقال له: نعم، لأنّك تعتقد بوحدة الوجود، وكلّ من يقول بوحدة الوجود فهو كافر نجس، وطعامه أيضاً نجس وحرام.
      فسأله الحكيم: أخبرني ماذا يقول المعتقدون بوحدة الوجود؟
      فأجاب: يقولون بأنّه لا يوجد أيّ فرق أصلًا بين هذا الطعام وبين الله وكلاهما أمر واحد.
      فضحك ذاك الحكيم طويلًا وقال: تفضّل وكل من هذا الطعام ولا تلتفت إلى هذه الوساوس والأفكار، لأنّه لا يوجد أيّ حكيم أو فيلسوف يقول بأنّ هناك وحدة بين الله وبين حمار مثلك!! فأيّ حكيم يقول بثبوت وحدة بين تعيّنات وهويّات مختلفة مع حفظ الماهيّات والحدود المتفاوتة؟!
      ویرید سماحته من هذا الكلام أنّه لا يصحّ أن يقال الطعام هو الله والبستان هو الله و... مع حفظ تقيّدها بماهيّة الطعام والبستان، بل إنّ وجودها ليس خارجًا عن وجود الله لا أنّه هو الله. (المحقق)

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

4
  • ضرورة المراقبة لمعالجة تلك الآفة

  • وهذا أمر لا بدّ أن نهتمّ به دائمًا. والمراقبة التي يتحدّثون عنها هي هذه، وتعني تخليص النفس من القيود والأغلال، وحينها يساعد الله الإنسان ويجعل أفكاره مطابقة للحقائق أو قريبة منها. ففي كلّ مورد فيه مسائل ومصالح، تأتي تلك الأدلّة بشكل تلقائي الواحد تلو الآخر من أجل الوصول إلى المقصود. يا سيّد الأمر كذا، فيه مصلحة، المصلحة تقتضي... الآن مصلحة المسلمين تقتضي هذا، لا بدّ أن يكون الأمر الآن بهذا النحو، وإلا لصار كذا، ولكن بمجرّد أن لا يكون الإنسان في هذه الحالة فإنّه يقول: كلا يا سيّد، لا بدّ من الإعلان، لماذا نكتم، لا بدّ من طرح المسألة، لماذا نخفي؟ الإخفاء ظلم، الإخفاء كذا (الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ...)۱ فالذين يتكتمون هم كذا والذين يكتمون حالهم كذا، والعلماء الذين يخفون ويكتمون الحقائق ولا يقولون المعارف فإنّ الله بأيّ مسائل [يبتليهم]، نرى أنّ هذا الإنسان الذي في الجهة المقابلة هو نفسه لم يتغيّر وسلوكه لم يتبدّل حتّى بمقدار أنملة وله منهاج واحد. فماذا حصل حتّى تغيّرت تلك الآيات فجأة؟ فأنت من تغيّر لا الطرف الآخر الذي في مقابلك إن کان سیئًا صار أسوأ، وإن کان حسنًا صار سیئًا، وإن کان سيئًا صار حسنًا. كلاّ فالذي في مقابلك لم يتغيّر ولا زال كما كان.

  • أمثلة من العلماء الذي يتبنّون آراء حسب ميولهم

  • كان المرحوم الوالد رضوان الله عليه يقول مسألة: عندما كنت أطالع أكثر الآراء التي كتبت حول الولاية والحكومة والقضاء منذ العلماء السابقين إلى زماننا، كنت أجد أنّ أكثرهم كان لهم تعلّق بنحو ما بالموضوع سواء من كان في مقام تأييد الولاية والحكومة والقضاء بالنسبة إلى حاكم دينيّ وعالم دينيّ، أو من كان في الجهة المقابلة أي في مقام الردّ والانتقاد للمسؤوليّة الحقوقيّة والقضائیّة لعالِم الدين، فكنت أرى أنّهم يبحثون وهم غالبًا لا جميعهم كان لهم نحو من الارتباط بالقضيّة المبحوثة، فمن كان مؤيّدًا كان شريكًا، وكانت له مسؤوليّة، والذي رفض لم يكن شريكًا أو كان قد نحّيَ وأمثال ذلك. فهذه في النهاية مسألة بديهيّة لا تحتاج إلى دليل.

    1. - سورة البقرة (٢)، قسم من الآية ۱۷٤.

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

5
  • وأنا من نفسي أذكر نموذجًا لذلك، فمن العلماء الذين دفنوا في قزوين المرحوم الشيخ الملا محمّد تقي البرقاني، والذي قتل على أيدي البهائيين وجماعتهم في مرقد حسين بن الإمام الرضا (شاهزادة حسين). فقد كان هذا الرجل يقف بقوّة أمام إقامة صلاة الجمعة في قزوين عندما كانت تقام، فقد كان أحد علماء قزوين يقيمها وكان ذاك يواجهها بشدّة، وكان يجعل أغلب مجالسه لردّ وإنكار إقامة صلاة الجمعة ويجمع الناس وأصحابه ومريديه فيها. وفي جمعة من الجمعات سافر إمام جماعة قزوين إلى طهران ورجع، فذهب هو وصلّى الجمعة مكانه، حيث لم يكن هناك أحد غيره. فرجع ذلك الرجل وقال: أنا لم أفهم أيّ حكم شرعيّ هذا الذي يختلف مائة وثمانين درجة بسبب السفر إلى طهران والرجوع. وصار من مؤيّدي إقامة صلاة الجمعة، وشرع في الاستدلال على ذلك، وصار اسمه الشهيد الثالث أيضًا وهو مدفون في قزوين. 

  • سبب خطورة عداوة النفس عند جميع الفئات وخصوصًا العلماء: كونها عدوّ للباطن لا للبدن 

  • انظروا! فهذه المسألة لا تختصّ بفئة معيّنة أو فئتین. وخصوصًا فيما يرتبط بنا نحن العلماء ورجال الدين فإنّ المسألة خطيرة جدًّا وحسّاسة، أن كيف تأتي نفس في مكان ما [وتبدّل موقعها] وقد رأيت ذلك في كلّ فئات الناس، وفي كلّ الاختصاصات وفي كلّ الحرف، لماذا؟ لأنّ النفس موجودة عندنا جميعًا. ولا إشكال في ذلك وفي النهاية على الإنسان أن يكون في مقام الإصلاح، وفي النهاية نحن أصحاب نفس، وأنتم عندكم نفس أيضًا جميعنا نمتلك نفوسًا، لو كنّا جميعًا كمّلاً لما كانت لنا حاجة إلى الطريق والسير، ولما كانت حاجة إلى المراقبة وأمثالها، الجميع أصحاب نفوس.

  • والنبيّ الأكرم أيضًا يقول: أعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ‌ التي‌ بَيْنَ‌ جَنْبَيْكَ۱ لماذا؟ لأنّ أيّ عدوّ من الأعداء إنّما يتعامل مع أبداننا، له شأن مع أجسادنا الماديّة، له شأن مع أبداننا الظاهريّة وهذه الدنيا، أمّا النفس فلها شأن مع أبداننا الأخرويّة، مع أرواحنا وأسرارنا وبواطننا وحقائقنا، وتمنعها من الحركة وتمسك بها وتقف أمامها، فكم يتّفق أن يكون للإنسان وجهة نظر في مسألة ما ثمّ يكتشف أنّ رأيه فيها كان نفسانيًّا. وقد طرحه هنا وهناك وقام بنشره هنا وهناك وبثّه هنا وهناك وأفسد وربّما أدّى إلى اختلاف، ثمّ يُعلم بعد ذلك أنّه يا للعجب! لقد كانت المسألة نفسيّة، أصلاً لم تكن المسألة هكذا. حتّى رسول الله يقول في عبارة: إنّ لكلّ إنسان نفسًا٢ فيسأل ألك يا رسول الله نفس؟ 

    1. معرفة الله ؛ ج‌۱ ؛ ص۱٩٤: نُقِلَ هذا الحديث في« بحار الأنوار» ج ۱٥، ص ٤۰، في الجزء الثاني المتعلّق بالأخلاق، طبعة الكمبانيّ، نقلًا عن« عُدّة الداعي». و أوردها كذلك المرحوم آية الله بحر العلوم في الرسالة المنسوبة إليه، ص ٩٤. و ذكرتها أنا الحقير في رسالة« لبّ اللباب» و هي مجموعة دروس و تقريرات الاستاذ العلّامة، ص ۷٣. و جاء ذكره أيضاً في« حدائق الحقائق» ص ۷۱۱.
    2. عوالي اللآلي ابن أبي جمهور الأحسائي ج٤، ص ٩۷ عن مسند أحمد بن حنبل ج۱ ص ٢٥۷: وروي عنه ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : " ما منكم أحد الا وله شيطان " ، فقيل له : وأنت يا رسول الله ؟ فقال : " وأنا ، ولكن أعانني الله عليه فأسلم "

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

6
  • فالنبيّ يقول لكلّ إنسان نفس تحرفه وتبعده عن المسير وتجعل له الحقّ باطلاً والباطل حقًّا، وتسوقه إلى الباطل حتّى تلقي به في الوادي. وقد شوهد أنّ هذه النفس تودي إلى الهلاك، فقد سئل عمر عند احتضاره: من ترى الأليق بالخلافة؟ فقال: هل يمكن أن يتصوّر خير من عليّ؟ يقولون: فلماذا لا تختاره؟ فيقول: لا أتحمّله حيًّا ولا ميّتًا۱ لا أستطيع أن أرى عليًّا جالسًا على مسند الخلافة لا في حياتي ولا بعد مماتي، انظروا! إنّه يموت، وهو نفسه يعلم أنّه يموت، بعد نصف ساعة سيموت، فهذه النفس إلى أين تأتي وتحافظ على الإنسان. فيا عزيزي الوقت وقت الموت، فأنت تقبل بالمعاد في النهاية، فعمر يقبل بالمعاد، ولكنّ هذا الأمر هو بنحو، يأتي بنحو ويقيّد أيدي وأرجل الإنسان، ويوقع الإنسان في أزمة بحيث يغطّي ذلك العذاب وذلك الحال وتلك المسائل وتلک المبانی والمعتقدات التي عنده حول المستقبل، يغطّي كلّ ذلك ويغطّيه ويغطّيه فأيّة قدرة هي هذه؟! وما هو طريقها؟ طريقها هو حركة، قفزة، نهضة.

  • كيف نواجه النفس؟

  • فما إن يرى الإنسان أنّ النفس تأتي وتفتح له ألعوبة وتريد أن تهيّئ له مقلبًا فعليه أن يقوم بهجوم مضاد ولا يدع الفكرة تقوى في الذهن وتعشعش فيغدو الأمر مشكلاً. لأنّه كلّما مرّ الزمان على هذه التخيّلات والتصوّرات والأمور فإنّ مكانة النفس تقوى عند الإنسان، وتتكاثر الجذور وتتجذّر، بعض الأشجار جذورها طويلة جدًّا، يقال إنّ شجرة التوت جذورها طويلة جدًّا، حتّى إنّها تمتدّ إلى بضعة منازل، وكذلك النخلة يقال إنّ جذورها طويلة، بعض الأشجار جذورها في محيطها في متر أو مترين لا أكثر. وأشجار التوت هذه مضرّة وكذك النخل فإن شئت اقتلاعها فعليك باقتلاعها في أسرع وقت ولا تدعها تكبر، ولا تدعها تقوى ولا تدع جذورها تمتدّ فيغدو الأمر مشكلاً خصوصًا إن لم يكن لدى الإنسان وسيلة.

  • سرِ چشمه شايد گرفتن به ميل‌***چو پُرشد نشايد گذشتن به پيل
  • يقول: لربّما أمكن إغلاق رأس النبع بالميل *** فإذا ما امتلأ لم يمكن الخلاص منه بالعمود

  • فما دامت التخيّلات تأتي ولم تتثبّت بعد فعلى الإنسان أن يأتي ويمنعها ولا يسمح لها ويقوم بمخالفتها فورًا، أمّا إذا خالفها فإنّها تلقي بسلاحها وبدرعها فيشعر الإنسان بالانبساط، تلك البهجة والانبساط اللذين يشعر بهما الإنسان هما بسبب ذلك الهجوم المضادّ الذي قام به الإنسان ضدّ النفس. عليه أن يقوم بذلك سريعًا، فمثلاً لو كنت حاقدًا على أخ مؤمن فإنّ النفس تشرع وتقول: نعم لقد كان هو المقصّر، لقد فعل كذا حتّى صار هذا الأمر، أنا لا أذهب، لا أذهب إلى منزله، دعه، دعه عشر سنوات، لقد فعل هذا العمل ويتوقّع أن آتي منزله؟ فعل هذا العمل ويتوقّع أن أسلّم عليه؟ فما إن تأتي هذه الأمور أشغل نفسك بمطالعة كتاب، بالمشي، ولا تسمح لها بالمجيء، وقم في أوّل فرصة إلى منزله، اذهب في الليل: 

    1. ابن عبد ربّه الأندلسي، العقد الفريد، ج٣، ص ۱۸. (دار الفكر، الطبعة الأولى، ۱٤٤۰ ـ ۱٤٤۱هـ ): قالوا : يا أمير المؤمنين ! لو عهدت ؟ فقال : قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أولي رجلا أمركم أرجو أن يحملكم على الحق وأشار إلى علي ، ثم رأيت لا أتحملها حيا ولا ميتا ، فعليكم بهؤلاء الرهط الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم إنهم من أهل الجنة...

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

7
  • ـ السلام عليكم!

  • ـ وعليكم السلام ورحمة الله! لماذا جئت إلى هنا؟

  • ـ جئت لأسلّم عليك، جئت لنجلس ونشرب الشاي ونتناول الفاكهة، ألا أدخل؟ إن لم تأذن أرجع.

  • ـ لا تفضّل تفضّل.

  • لا شيء نأتي ونتناول فاكهة وكوبًا من الشاي وتنتهي المسألة. 

  • آثار حقد النفس على مؤمن

  • أمّا لو استمرّ واستمرّ هذا من هنا وذاك من هناك واستمرّا في التباعد، فقد كانا هنا، ولكنّهما ابتعدا مترًا ثمّ مترين وهكذا إلى أن يغدو أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، ويصبح البعد بينهما بعد المشرقين. فهذا ليس طريق الله.

  • فأولاً: خسرت رفيقًا.

  • وثانيًا: التبعات المترتّبة على ذلك والمعاصي...

  • وثالثًا: وهي أهمّ من الجميع لقد أغلقت الطريق بينك وبين الله. 

  • فهذه النفس لم تعد صلاتها صلاة. اعلموا أنّ هذا الأمر الذي أنقله إليكم لا أقوله من عندي، وإنّما أنقله عن الأعاظم، فلو كان هناك خلاف بين أخوين مؤمنين، فتارة يكون لا بدّ منه وعلى أساس التكليف، وبالطبع هذا له موارده الخاصّة وله محلّه... ولكن هذه الخلافات الظاهريّة، الخلافات الشخصيّة الخلافات الماليّة، المسائل التي تؤدّي إلى نزاع وخلاف بين الناس، فإن كانت من هذا النوع، إن كانت من هذا النوع والذي هو الموجود غالبًا بين الناس، إن كانت كذلك فاعلموا أنّه مع وجود هذه الحالة للنفس فإنّ الصلاة ليست صلاة ولو كان لكم حضور للقلب فيها، فهذه الصلاة لا أثر لها، لا تؤثّر حتّى مثقال ذرّة، ولو أرادت أن تؤثّر لأثّرت أثرًا معاكسًا، إنّها تفسد الأمر كثيرًا. فالفساد هو عندما يصلّي الإنسان ويغرق بواسطة الصلاة في شؤونه النفسيّة، وهذا ما يجعله متجذّرًا أكثر، الأمر هو كذلك (وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً)۱ فالقرآن هو لأجل الشفاء والرحمة، الشفاء من ماذا؟ الشفاء من هذه الأمور، من هذه الأمراض، لا من السرطان وألم الرأس وقرحة المعدة، نعم يمكن أن يكون شفاءً منها أيضًا وهو كذلك، هو كذلك بالنسبة إلى أهله. ولكنّ القرآن شفاء من ماذا؟ من تلك الأشياء التي لا يحصل الشفاء منها بواسطة ألف مَنٍّ من الدواء إن كان يحصل الشفاء من تلك بحبّة من الأسبرين.

    1. - سورة الإسراء (۱۷)، الآية ۸٢

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

8
  • قصّة بايزيد البسطامي مع الكلب الذي وعظه

  • كان بايزيد البسطامي يمرّ من مكان، فرأى كلبًا نائمًا جانبًا، وكان المطر يهطل فكان الكلب مبلّلاً ورطبًا، فجمع بايزيد عباءته كي لا تمسّ الكلب، وكانت عنده حالة... أحيانًا الإنسان يجمع عباءته كي لا تمسّ النجاسة لأجل التكليف، وأحيانًا لا، بل غرورًا، فهذا هو المراد. أي إنّه يجمع العباءة ويقول: آخ آخ! ما هذا؟ كلب الآن... فهذا هو المراد من تلك الحالة. فنطق الكلب ـ وبالطبع بلغة المكاشفة ـ وقال: ماذا؟ لماذا أنت على هذه الحالة؟ جمعت عباءتك أن لا تريد أن تتنجّس، جيّد! فما حالتك هذه؟ أخبرني يا بايزيد! من الذي جعلك بايزيد وجعلني كلبًا؟ إذا أرت أن تمرّ من جانبي يصيبك حالة من الغرور.۱ وما أنقله لكم هو مسائل مهمّة، لقد سمعت بنفسي من كثير من الناس بعد مرور العديد من السنوات يقولون: يا سيّد نحن سلاك منذ خمس وعشرين سنة، وهذا سالك منذ سنتين ويعطينا درسًا. هذه هي حالة بايزيد. غاية الأمر أنّ حالته هي مع الكلب، في حين أنّ هذا مع أحد خلق الله الآخرين. وكلاهما واحد. والمعيار والملاك واحد. الظهور يختلف، والمظاهر تختلف. قال: من الذي جعلك بايزيد حتّى يتّبعوك إلى هذا الحدّ، ويجتمع حولك المريدون وتأمر وتنهى، ومن الذي جعلني كلبًا حتّى أجلس هنا ولا يهتمّ بي أحد؟ فخالقنا أنا وأنت واحد، هل تشكّ في هذا؟ قال: لا. لا بأس. فإذن هذه المسألة الأولى. 

  • ثمّ قال: المسألة الثانية: هذه النجاسة التي أنت تحترز عنها هي نجاسة وقذارة ظاهريّة ترتفع بكفّ من الماء وتتبدّل إلى طهارة، فلو أنّ عباءتك لامستني تصبّ فوقها كوبًا من الماء لا أكثر ـ ولا حاجة إلى الوسوسة، وهؤلاء الذي يبذلون الوسوسة وأمثالها هم مخطئون. يمكن الوضوء بكوب واحد من الماء يا سيّدي العزيز! وبإبريق واحد من الماء يمكن الغسل، فلا تسرفوا في الماء. لقد كنت بنفسي مع المرحوم الوالد رضوان الله عليه في عرفات، وكنت أريق الماء عليه وهو كان يغتسل غسل يوم عرفة ويوم منى، فلم يستعمل أكثر من إبريق بحجم هذا الإبريق الذي هو أمامي أو أقلّ. وأنا أشهد ـ قال: بكوب بقبضة يمكنك أنت أن تزيل هذه القذارة والنجاسة، أدرك نجاسة قلبك التي لن تطهر بسبعة أبحر. هذا ثانيًا. ومن الذي يقول هذا الكلام؟ إنّه الكلب، لا غيره. 

    1. روي شبيه هذه الحادثة عن نوح عليه السلام: جامع الأخبار : روي أن نوحا ( عليه السلام ) مر على كلب كريه المنظر ، فقال نوح : ما أقبح هذا الكلب ! فجثا الكلب ، وقال بلسان طلق ذلق: إن كنت لا ترضى بخلق الله فحولني يا نبي الله ! فتحير نوح ( عليه السلام ) وأقبل يلوم نفسه بذلك ، وناح على نفسه أربعين سنة ، حتى ناداه الله تعالى : إلى متى تنوح يا نوح ، فقد تبت عليك. (موسوعة العقائد الإسلاميّة ج٤، ص ۱۷۸، نقلاً عن جامع الأخبار ٢٤۸\ ٦٣۸.

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

9
  • ثالثًا: أشكرُ الله أن خلقني كلبًا لا يعتني بي أحد كي لا أغدو مثلك يا بايزيد مبتلى بعدد من المريدين يمشون خلفي ويجعلونني أعمى عن ذلك الباطن. فأنا كلب جلست هنا ولا أحد يعتني بي حتّى لا أبتلى بهذه الأمراض. لماذا؟ لماذا على الإنسان أن يكون كذلك؟ فمهما قضى الإنسان ومهما مرّ عليه، ينبغي أن تزداد حالة العبوديّة عنده، ولكنّا نرى بعضهم يأتون ويقولون: يا سيّد لقد كنت عند العلامة مدّة خمسة عشر عامًا، عشرين عامًا، وهذا الفرخ يأتي ويعطينا درسًا. أيّ فرخ وأيّ خمسة عشر عامًا؟ أفهل المسألة بالزمان؟ هل السير والسلوك بالزمان وبالمكان وبالوزن وبالمَنِّ والكيلو، وكلّ من كان أكبر سنًّا و...؟ ما هذا الكلام؟ أحيانًا يرى الإنسان مسائل ومطالب من إنسان مبتدئ، ويسمع عن أناس قضوا عشرات السنين وهم لا يزالون عالقون في تلك الأمور.

  • الحقّ في التصرّف فرع الملكيّة

  • فإذن المال يحقّق للإنسان السلطة والاختيار بواسطة الملكيّة، وحيثما كان الملك ملكًا حقيقيًّا، فماذا سيكون هناك؟ سيكون التصرّف والسلطة. والآن سؤالنا هو أنّ وجودنا من وجود حضرة الحقّ جلّ وعلا، وهو نزول لذلك الفيض من الوجود في القوالب والتعيّنات التي تخرج من مقام الإجمال إلى مقام البسط والانبساط، فإذن من سيكون الأولى بهذا التصرّف والتسلّط؟ نحن أم الله؟ نحن الذين وجودنا منبعث من وجود الله، ولم يكن هناك شيء سوى تلك الذات الحيّة القيّمة المطلقة غير المتناهية لكي يوجدنا منها ويخلقنا ويأتي بنا إلى هذا العالم. فإذن بناء على هذا، أليس هو أولى بنا من أنفسنا وله حقّ التصرّف بنا أكثر منّا؟ 

  • النبيّ عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام يبيّن هذا الأمر بهذا النحو: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)۱ إلهي إن تعذّب هؤلاء الناس لا تكون مخطئًا فإنّهم عبادك، وجودهم وجودك ومتنزّل من وجودك. فإذن أنت تكون قد تصرّفت في ملكك، وليس لأحد أن يعترض. أمّا لو عفوت عنهم فإنّ الغفران والرحمة لوازم لذاتك ولوجودك.

  • ولذلك فإنّ الله تعالى والمبدأ الأعلى وعلّة العلل لجميع الموجودات هو أولى بنا من أنفسنا واختياره بالنسبة إلى أعمالنا وسلوكنا وكيفيّة تصرّفنا أولى من اختيارنا، وذلك بمقتضى آيات القرآن نقلاً وبمقتضى الأدلّة العقليّة عقلاً، فلو أنّا جئنا وقمنا بعمل بغیر رضا الله وبدون تكليف، فإنّه يقول لماذا تدخّلت وتصرّفت في مالي؟ نحن لا يمكننا أن نقوم بقطع إصبعنا بغير سبب، نقول: يا سيّدي هذا الإصبع هو لي وأريد أن أقطعه. فإنّ الله يقول: لا حقّ لك، أنت لست ملكًا لنفسك لكي تأتي وتقوم بما تشاء، أنت ملكي ولا بدّ أن تقوم بأيّ عمل بإذني وإجازتي. ولو أنّ أحدًا انتحر وقتل نفسه وأعدمها فإنّه يترتّب عليه نفس الذنب والوزر الذي يترتّب على من قتل الغير، أي عذاب جهنّم والعذاب الأليم. لماذا؟ لأنّا تصرّفنا في المولى، تصرّفنا في ملك المولى، ولا يمكننا أن نقوم بأيّ عمل.

    1. - سورة المائدة (٥)، الآية ۱۱۸.

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

10
  • ولأنّ الله تعالى بواسطة ولايته التكوينيّة وكونه مالك أمرنا والتصرّف بنا، حيث إنّه مالك أمور الخلائق کلّهم وعباده، فإنّه وحده من يمكنه تشريع الأحكام وجعلها ـ أعني الأحكام الشرعيّة ـ وعلى الناس أن يطيعوا الأوامر والنواهي الشرعيّة، ولا يمكن لأحد سوى الله حتّى جبرائیل أن يتكلّم، لماذا؟ لأنّ الله وحده مالك التصرّف والجميع غير الله عباد وعبيد أمام ذات الجلال الربوبيّة، وإطلاق الولاية الربوبيّة والقهّاريّة الربوبيّة، والقيّوميّة الربوبيّة على الإطلاق هي شاملة للجميع على حدّ سواء حتّى النبيّ الأكرم، ولا يتمكّن أحد، وهناك آية قرآنيّة صريحة في أنّه لا يمكن لنبيّ أو رسول أن يأتي من قبل الله ويقول للآخرين أطيعوني: (كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ)۱ كونوا عبادًا لي وانضووا تحت إطاعتي. لا يمكن لأحد أن يقوم بذلك، وهذا يختصّ بذات الله تعالى وحده. 

  • لذلك فإنّ تلك الذات التي لها ولاية تكوينيّة [هي صاحبة الأمر والنهي التشريعيّين] وبمقتضى تلك الولاية التي يقول عنها القرآن (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)٢ نحن [أقرب] من شريان حياتك ـ الذي هو شريان الرقبة شريان الحياة ـ من ذلك الدم الذي يجري في عروقك ويبعث على استمرار حياتك ودوامها، نحن أقرب إليك من ذلك الدم. ما معنى أقرب إليك؟ أي إنّ كامل زمام وجودك هو في يدنا، إن شئنا استمرّينا، وإن لم نشأ فاقرؤوا لفلان الفاتحة؛ فقد فارق الدنيا وانتهى الأمر. إن شئنا حفظناه لک الیوم، وإن لم نشأ قطعنا شريان حياتك. إن شئنا سلّطنا عليك المرض، وإن شئنا سلّطنا عليك الصحّة. هذا معنى: (وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) نحن أقرب من ذلك الدم الجاري، ولو توقّف الدم عن الجريان فإنّ كافّة الخلايا ستموت. بعد أربعة دقائق فإنّ الدماغ يتعطّل أولاً، ثمّ بعد ذلك تتعطّل سائر الأعضاء تباعًا، ولو أنّ بعضها استمرّ فإنّ أكثر ما يمكن أن تستمرّ به بعض الأعضاء هو ست ساعات، حيث يقال إنّها تستمرّ بعد الموت، مثل القرنيّة وأمثالها. ثمّ بعد ذلك يموت. هذا الدم الذي ترتبط به حياة الإنسان لو توقّف لحظة فإنّ كافّة أجهزة البدن تتوقّف عن العمل. ما هو الشيء الأقرب إلى أبداننا من دمنا؟ لا شيء، هذا فقط، هذا السائل الذي يتألّف من عدّة عناصر... يقول الله: نحن أيضًا أقرب إليك منه لأنّ هذا الدم أيضًا هو تحت تصرّفنا، لو شئنا لحفظناه، أمّا الآن فاجتمعوا كلّكم، هيّئوا الأجهزة، أعدّوا الأجهزة المختلفة، التخطيط، تخطيط القلب، صوّروا، صوّروا صورة "سكانر" حاولوا واسعوا وقوموا بما يمكن...

    1. ۱- سورة آل عمران، الآية ۷٩.
    2. - سورة ق (٥۰)، ذيل الآية ۱٦.

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

11
  • لقد كنت واقفًا عند ارتحال المرحوم العلامة. لقد كانت الأجهزة تشير إلى أنّ عضلات القلب تتوقّف الواحدة تلو الأخرى من اليمين واليسار، وكانت علامات الموت تبرز تباعًا، وكان هؤلاء أيضًا واقفين هكذا ينظرون، بعضهم يحاول معالجة النفَس، وآخر معالجة أمر آخر وهكذا، مساكين. لقد كنت واقفًا أنظر أنا أيضًا، وكنت أرى أنّ الأمر مستمرّ على هذا المنوال، وأنّه لا بدّ أن يتوقّف القلب، ولا يمكن معالجته، لقد تعلّقت إرادته ومشيئته الآن بذلك. [كانوا يقولون:] نادوا فلاناً ليحضر، اصنعوا هذا الأمر، أحدث صدمة، اصنع كذا. قلت لهم: لا فائدة، لماذا تؤذون إلى هذا الحدّ؟! لماذا تؤذون المريض؟ لا فائدة. ثمّ عندما صار ساكنًا بالكامل وسيطر عليه الفلج، لم يبق شيء، فجاء أحدهم وقال: الآن اقرأ ما شئت يا سيّد، إن شئت فاقرأ سورة يس. وقال الذين كانوا هناك: (وَ نَحْنُ أَقْرَبُ) ومن كان هذا؟ كان إنسانًا نعدّه نحن وليًّا. كان إنسانًا نعدّه نحن صاحب ولاية وتصرّف، كان إنسانًا كنّا نعتقد أنّه قادر على القيام بأيّ أمر يريده، ولست أمازح في قولي هذا. والآن لن أتحدّث عن تلك المطالب، وإذا سنحت الفرصة لاحقًا سأتحدّث بين الحين والآخر عن حالاته وما صدر منه لاحقًا وليس الآن. ماذا حصل؟ الآن لا يمكنه أن يصنع شيئًا، لقد سقط مثل خشبة، ولا يمكنه أن يحرّك رموشه، لا يمكنه أن يحرّك ظفره، وكأنّه مات قبل مائة سنة، وإمامه أيضًا هو كذلك، ونبيّه كذلك، وكأنّ شيئًا لم يكن، مائة سنة. وأمير المؤمنين الذي صنع ما صنع بعمرو بن عبد ودّ، وفي معركة صفّين وليلة الهرير والذي لم يكن لدرعه قسم خلفي على الظهر وكان يقول أنا لا أعطي ظهري للعدوّ حتّى أحتاج إلى درع من جهته، فأنا ثابت في المقابل، كان يتحرّك إلى جهة واحدة ذاهبًا وراجعًا، وعندما قبضت روحه والتحقت بالملأ الأعلى صار كالخشبة، وكأنّه لم يتحرّك منذ مائة عام، انتهى الأمر، ولا شيء، وهذا مقام غيرة الله. بالنسبة إليّ الجميع سواء. 

  • وما أقوله لكم فإنّي أقصده وألاحظه نقطة نقطة لنصل منه إلى النتيجة المرجوّة. يقول الله: لا فرق بالنسبة إليّ بين النملة والنبيّ، كلاهما أقبض روحيهما. انظروا إلى هذه النملة الساكنة هنا بلا حراك، وانظروا إلى رسول الله قد سقط. انتهى الأمر فلو أنّ أمير المؤمنين لم يحمله إلى القبر لبقي جسمه ألف سنة على الأرض كما هو. إنّ هذا البدن لم يعد بإمكانه أن يتوجّه إلى القبر، لا بدّ أن يأتي أحدهم ويرفعه ويضعه. هل التفتّم؟ لو أنّ الإمام السجّاد لم يأت ولم يدفن جسد سيّد الشهداء عليه السلام مع قبيلة بني أسد لبقي إلى الأبد... ألم يبق ثلاثة أيّام؟ لقد بقي جسد سيّد الشهداء هكذا على الأرض ثلاثة أيّام. يأتي الإمام السجّاد بقوّة الإمامة في ذلك الوقت الذي كانت فيه القافلة متّجهة نحو الكوفة، وحين كان الإمام في الأغلال والزناجير يأتي عليه السلام ويوجّه بني أسد كيف يصنعون. أحضروا هذا وهذا وهكذا جميع الشهداء الواحد تلو الآخر وادفنوهم، ادفنوا حضرة أبي الفضل هنا، وادفنوا بقيّة الشهداء هنا. ولو أنّهم لم يدفنوها لبقيت، لقد ماتوا. 

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

12
  • يقول الله: الكلّ عندي سواء، لا فرق بينهم. فإذن علينا أن نبحث عمّن؟ عن أيّ ذات؟ عمّن هو أولى بنا منّا وهو أحقّ منّي بالتصرّف بي، فلو أنّي أردت أن أتّخذ قرارًا إن كان مطابقًا لإرادته فإنّه يتحقّق، وإلا لا يتحقّق. إن وافق مشيئته حصل وإلا فلا. 

  • ضرورة أن يكون الشرع والأمر والنهي من الله لأنّه هو المالك 

  • التفتوا لقد كانت القاعدة عقليّة، ونحن تقدّمنا إلى الأمام بواسطة قاعدة عقليّة. لماذا نحن يمكننا أن نتصرّف في أعمالنا وجوارحنا وأعضائنا؟ لأنّنا نحن المالكون الحقيقيّون لها، أعني المالك العرفي ، لماذا يجب أن يكون الله هو من يأمرنا وينهانا دون غيره؟ لأنّه هو المالك الحقيقيّ لنا، وهو أقرب إلينا منّا. فإذن القاعدة العقليّة للأمر والنهي والإلزام بالفعل والإلزام بالترك هي أنّهما لا بدّ أن يصدرا عمّن هو مالك حقيقيّ للإنسان، ومن هو هذا؟ إنّه الله. فلا بدّ أن يكون الشرع إذن من قبل الله لا من قبل غيره. فلو جاء أحد غيره إلى هنا وقال في الشارع: يا سيّد أنا آمرك أن تقوم بهذا العمل. [فإنّه يقال له] ما هذا الهراء؟ اذهب إلى عملك. ولو جاء آخر وقال: يا سيّد أنا أقول قم بهذا العمل. [تقول له] لا إن رأيت أنّه صالح وصواب أقوم به، وإلا فلا إلزام أبدًا، لو كنت في هذه الدنيا ضعيفًا وأجبرتُ فإنّي أوقفك في ذلك العالم. قال لهم الإمام الحسين: لن أبايع يزيد، يزيد غاصب، يزيد لاعب بالقمار، يزيد لاعب بالشطرنج والقمار۱ ـ يقول الإمام السجّاد عليه السلام: ليس من شيعتنا من نظر إلى الشطرنج ولم يلعن يزيد٢. فهذه رواية عن الإمام السجّاد عليه السلام ـ فيزيد لاعب قمار ويزيد لاعب شطرنج ويزيد ملاعب الكلاب والقردة، وليس هذا كلّه بكذب، فقد نقلته التواريخ. أنا ابن رسول الله، ولو لم أكن إمامًا أيضًا. فلو لم تقبلوني كإمام، فإنّي في النهاية مسلم، وأنا صاحب اختيار وشعور، وأنا ابن النبيّ، فكم من المخجل أن أضع كفّي في كفّ يزيد لاعب القمار لأبايعه كخليفة لرسول الله. قال الإمام الحسين أنا لا أصنع ذلك، لا أقول لكم اقبلوا بي كإمام، لا أريد أن تعتقدوني إمامًا. أنا واحد من المسلمين ومن حقّي أن أعمل وفق اختياري وشعوري ومدركاتي، لي الحقّ أم لا؟ إن لم يكن لي حقّ فتعالوا واصنعوا ما شئتم فإنّي لا أضع يدي في يد يزيد، وما دامت عندي قوّة فإنّي أقاتلكم، وإذا ذهبت قوّتي فاضربوني واقتلوني. هل لكم أكثر من هذا القتل، هل لكم أكثر من هذا الفصل، إنّ لكم سيطرة وتسلّطًا على البدن، هل لكم أكثر من ذلك؟ هل لكم سيطرة على روحي؟ هل لكم سلطان على روحي وسرّي وارتباطي بالله؟ إنّه هذا البدن ليس أكثر فتعالوا واضربوه٣، إنّه هذا البدن الذي يسقط برصاصة واحدة، هذا البدن الذي يسقط بمادّة السيانور، هذا البدن الذي يسقط إذا ضرب ضربة على صدغه، فلتضربوه لا يمكنكم أن تصنعوا شيئًا غير هذا. أمّا الجهة الأخرى من المسألة فماذا يمكنكم أن تصنعوا بها؟ فاضربوني لأسقط فهل انتهى الأمر؟ كلاّ يا عزيزي! فالآن هي بداية فتح السجلّ. اضربوا ابن رسول الله وألقوه واصنعوا ما شئتم وأسروا واصنعوا بعليّ الأصغر ما أنتم صانعون، أفتظنّون أنّ المسألة انتهت وانقضت؟! إنّ سجلّكم الآن يفتح للتوّ. افترضوا أنّ إنسانًا جاء في هذه الدنيا وحكم مجموعة من الناس وأراد أن ينفّذ ما يريد بالقوّة وبالرمح، نعم فرض ونفّذ ولكن هل المسألة تنتهي بهذا؟ إنّها لا تنتهي. فكم من الناس الذين جاؤوا، ونحن رأينا في التاريخ أهل القوّة والثروة جاؤوا وظلموا وفرضوا بالقوّة ثمّ ماذا صارت عاقبتهم؟ 

    1. بحار الأنوار، ج٤٤، ص ٣٢٥: إنا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وبنا فتح الله ، وبنا ختم الله ، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر ، قاتل النفس المحرمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله.
    2. وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي- ج ٢٥- ص ٣٦٣: عن الفضل بن شاذان قال : سمعت الرضا عليه السلام يقول : لما حمل رأس الحسين بن علي إلى الشام أمر يزيد لعنه الله فوضع ونصبت عليه مائدة فأقبل هو وأصحابه يأكلون ويشربون الفقاع ، فلما فرغوا أمر بالرأس فوضع في طشت تحت سريره وبسط عليه رقعة الشطرنج وجلس يزيد لعنه الله يلعب بالشطرنج إلى أن قال : ويشرب الفقاع ، فمن كان من شيعتنا فليتورع من شرب الفقاع والشطرنج، ومن نظر إلى الفقاع وإلى الشطرنج فليذكر الحسين عليه السلام وليلعن يزيد وآل زياد يمحو الله عز وجل بذلك ذنوبه ولو كانت بعدد النجوم .
    3. لمعات الحسين ص ٢۸: و أقبل الحرّ بن يزيد يُساير الإمام و لا يُفارقه و هو يقول له: يَا حسين! إنّي أُ ذكِّركَ اللهَ في نفسكَ، فإنّي أشهَد لَئن قاتلتَ لَتُقْتَلَنَّ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَفَبِالْمَوْتِ تُخَوِّفُنِي؟! وَ هَلْ يَعْدُو بِكُمُ الْخَطْبُ أنَّ تَقْتُلُونِي؟

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

13
  • لقد صارت عاقبتهم عين ما صنعوه مع غيرهم. لماذا؟ لأنّ المالك الأصليّ هو غيرهم. ماذا صنعت مع هذا المالك الأصليّ؟ افترض أنّ قوّتك في هذه الدنيا قد نالت من أحد، افترض أنّك استطعت بحسب الظاهر أن تكون الأفضل، فهل استطعت أن تتغلّب على مالكك الأصليّ أيضًا؟ هل استطعت أن تسيطر على المالك الأصليّ وأن تتصرّف في تقاديره ومشيئته؟ فهذا ما لا يمكن أن تقوم به. 

  • فلنطأطئ رؤوسنا قليلاً ولنفكّر أكثر بقليل، ولنتعاط بتواضع أكثر مع الأمور. فكم نريد أن نتكبّر وكم نريد أن نقول أنا أنا؟ كم نريد أن نقول ها أنا ذا وهذا أنت هكذا؟ هذا ما لا يصحّ. هذه حقيقة المسألة وهذه اعتباريّة القضيّة ونحن أيضًا نرى.

  • هنا مسألة الطاعة الشرعيّة تنحصر بطاعة الله. فالطاعة لله وحده، لا للإمام ولا للنبيّ، ولا لجبرائیل ولا لميكائیل ولا لمختلف أفراد الناس العاديّين، لا لأهل الدنيا ولا لأهل العلم ولا لغيرهم... ليس لأحد في العالم سوى ذات الله حقّ التصرّف وحقّ الأمر والنهي للعباد، إنّه لصاحب الولاية التكوينيّة.

  • سبب حصول الولاية التشريعيّة للمعصومين هو كونهم مظهرًا للولاية التكوينيّة

  • والآن لو أنّ الله أعطى هذه الولاية التكوينيّة وحقّ التصرّف بالأشياء لغيره كذوات المعصومين عليهم السلام المعصومين الأربعة عشر الذين هم واسطة في الفيض من جانب الله على العباد، وواسطة نزول الحقيقة وا لنور من مقام الإجمال إلى مقام البسط والانبساط، واسطة تنزّل مقام الأحديّة إلى مقام الواحديّة في جميع المظاهر، سواء المجرّدات أو عالم الطبع والماديّات. هؤلاء الذوات الأربعة عشر المقدّسة هم وحدهم واسطة الفيض من المبدأ الأعلى إلى عالم الوجود. فالآن إمام الزمان أرواحنا فداه، حضرة بقيّة الله الآن هو واسطة الفيض من الله إلى جميع عالم الوجود، من الملائكة المقرّبين إلى تلك الذرّات المجهريّة في عالم المادّة، من هو الواسطة؟ إنّه إمام الزمان. إمام الزمان هذا عليه السلام ولايته هي الولاية التكوينيّة لله. فهو الأولى بالتصرّف بنا. ففي مقام العبوديّة، إمام الزمان الآن أولى بالتصرّف تمامًا كما أنّ الله أولى بالتصرّف؛ ففي الواقع ليسا شيئین، هذا ما أردت قوله، كل ما هناك هو الله فقط، غاية الأمر أنّ الله حيث إنّه أولى بالتصرّف وله الولاية التكوينيّة فإنّه يمكن أن يجعل تلك الولاية التكوينيّة التي هي له في قالب فرد في هذا المقام، في مقام نزول إرادته ومشيئته ونزول فيض الوجود ذاك، فيجعلها في قالبه ويجعل أحدًا ما واسطة. 

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

14
  • أليس لدينا وسائط؟! أليست الملائكة وسائط؟! أليس لدينا في القرآن «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» ۱ أليس لدينا في القرآن ملائكة العذاب إلى قوم نوح وقوم لوط وأمثالهم؟! أي إنّهم کانوا یحضرون معهم حقيقة إرادة الله ومشيئته إلى هذا العالم ويجرونها ـ نحن لا نرى هؤلاء الملائکة ـ فلدينا ملائکة للنهار، وملائکة لليل، فملائكة الليل يقومون بأعمال، وملائکة النهار يقومون بأعمال أخرى، ولدينا ملائکة للعذاب، وملائكة للرحمة، وملائكة للعلم، وملائكة للرزق وملائکة للموت وملائکة للحياة، وكلّ منهم یجری المقادير الإلهيّة هنا ويحقّقها ويكوّنها من خلال تلك الولاية والقدرة والقوى التي أودعها الله تعالى فيهم. هؤلاء هم الملائكة، فإذن الملائکة هم الذين يأتون بالصحّة والمرض، الملائكة هم الذين يأتون بالموت والحياة، ولدينا في القرآن الكريم‌ (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)٢ فملك الموت هو الذي يقبض أرواحكم (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ)٣ فملك الموت في الرأس والملائکة الذين هم تحت نظره مثل قائد جيش يريد أن يفتح مكانًا، فيقول اذهب أنت وخذ هذا المكان، فتذهب تلك المجموعة وتأخذ ذلك المكان، تذهب تلك الكتيبة وتفتح ذلك المكان، وذاك يذهب... وملك الموت أيضًا لديه ملائکة وحضرة إسرافيل لديه ملائكة، وجبرائيل لديه ملائكة، وجميع هؤلاء ملائكة مقربون حيث يأتون ويقومون بـأعمال في هذا العالم، وهل حصل ورأيتم أنّه مهما أعطيتم الدواء مريضًا ما فإنه لا يعافى؟ لماذا؟ لأنّ الأمر لم يأت من هناك ولم يحلّ، ثمّ يأتي إنسان ويقرأ سورة الحمد فينحلّ الأمر ويصبح جيّدًا. فهذا لأجل ذلك الجانب. وهل رأيتم أنه قد يتعافى أحد ما قبل أن يعطى دواء؟ هذا لأنّه لا بد أن يأتي الأمر من هناك. ولا تتوهموا أنّ الدواء والحبوب خارج ذلك. الأمر واحد ولا فرق غايته أنّ الدواء الذي سيؤثّر الآن هل سمح له الملاك أن يؤثّر أم لا؟ فإن لم يسمح له فإنه لن يؤثّر إنّه لسهل أن تشرب قارورة أو برميلاً من هذا الدواء ولا يؤثر، لماذا؟ لأنّه لم تعطَ الإجازة بالتأثير بعد. فإذا أعطيت الإجازة حصل وإن لم تعط لن يحصل التأثير. 

    1. سورة النازعات، الآية ٥. 
    2. - سورة السجدة (٣٢)، صدر الآية ۱۱
    3. - سورة النحل (۱٦)، صدر الآية ٢۸

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

15
  • إنّ كافة هؤلاء الملائكة يقومون بالأعمال في هذا العالم بولايتهم التكوينيّة، أفهل تتصوّرون أنّ الملائكة يأتون ويفتحون السجلّ، ويرون ماذا كتب الله فيه أن اذهب وقم بهذا العمل وبمجرّد أمر اعتباري؟! أفهل يحصل هؤلاء الملائكة على القوّة ويقومون بعمل ما بمجرّد أمر اعتباريّ؟! افترضوا من باب المثال أنّي قلت لطفل ذي خمس سنوات ارفع هذا الحجر الذي هو بوزن خمسين كيلو وضعه هناك ، لو قلت ألف مرّة فهل سيتمكّن الطفل؟ هذا سيكون أمرًا اعتباريًّا. لمن يمكن أن أقول هذا الكلام؟ لمن كان قادرًا على حمل خمسين كيلو فأقول: ارفع هذه الخمسين كيلو يا رجل، فيرفعها. فلا بدّ أن تكون هذه القوّة فيه. هذه هي المسألة التي أريد أن أبيّنها وهي أنّ هذه الوسائط التي تأتي من عند الله وتُجري القضاء الإلهيّ في هذا العالم تأتي بواسطة القدرة التي آتاها الله، لا بمجرد أمر اعتباريّ صرف وإنشاء. فلو قال الله اذهب وقم بهذا العمل ولم يعطه قدرته هل يمكنه القيام به؟! هل يمكنه أن يقبض روحًا؟! هل يمكن لملائكة العذاب أن يأتوا ويعذّبوا قوم لوط ويجعلوهم كأنّهم قد ماتوا قبل ألف سنة؟! هل يمكن لملائكة العذاب أن يحدثوا الزلزال بحيث تدفن المدينة كلّها تحت الأرض؟ ما لم تكن لهم القدرة فمن أين يمكنهم؟ افترضوا أنّي قلت لهذا الجدار ولهذا الحجر ولهذا الخشب وأمرتهم مرارًا أن افعلوا هذا فلا قدرة لها. فإذن هؤلاء الملائكة يقومون في هذا العالم بالأعمال بواسطة الولاية التكوينيّة ولو لم يكن لهم ولاية تكوينيّة لما استطاعوا أن يغيّروا ذرّة من مكانها.

  • ونأتي الآن إلى الإمام، فالإمام عليه السلام له ولاية تكوينيّة على الملائكة. هل صارت القضيّة واضحة؟ أي أنّ كل عالم الوجود هو تحت إرادة ومشية بقية الله فإمام الزمان أقرب إلينا من الدم الذي يجري في عروقنا. هل اتضحت القضية؟ بما أنّ الإمام هو أقرب إلينا منّا وأحقّ بالتصرّف بنا فإنّه يمكنه أن يأمرنا دون سواه، فكما أنّ الله من حيث التكوين صاحب الاختيار والتصرّف بنا، فإنّ حقّ الإلزام بالفعل والإلزام بالترك لا يعقل إلا منه، وكذلك الإلزام بالفعل أو بالترك لا يعقل إلا من بقيّة الله أرواحنا فداه، ولا يمكن لأحد أن يقوم بذلك وهو يختصّ به. ومسألة نحن أقرب إليه من حبل الوريد الآن مجسّمة في وجود حضرة بقيّة الله. حضرة بقيّة الله هو أقرب إلينا من حبل الوريد لماذا؟ لأنّ له ولاية تكوينيّة. 

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

16
  • فإذن من هنا يقول سيّد الشهداء عليه السلام إنّ معرفة الله هي معرفة أهل كلّ زمان إمامه الذي يجب عليهم طاعته، إمام الزمان الذي يجب عليهم طاعته. ولذلك لأنّ ولايته هي ولايته، وإلا فإنّ معرفتهم كمعرفة الناس العاديّين ككونه زيد ابن عمرو، وولد في هذه السنة وله من الدراسات هذا المقدار وفي أمان الله. فما هذه المعرفة؟ ما هذا الأمر؟ لماذا نحن مكلّفون بأن نحصّل معرفة بإمام الزمان؟ لماذا؟ لأنّ إمام الزمان وجوده وصل إلى مرتبة العبوديّة المطلقة، فلأنّه وصل إلى العبوديّة المطلقة تتجلّى فيه الولاية التكوينيّة. 

  • استحالة ثبوت الولاية الشرعيّة المطلقة دون الولاية التكوينيّة

  • وعلى هذا الأساس فهل يمكن أن نقول إنّ لدينا ولاية شرعيّة فقهيّة مطلقة؟ مطلقة بشكل مطلق، أيّ نحو من الإطلاق هذا؟! القرآن نفسه يقول: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)۱ لا يمكن لمؤمن ولا لمؤمنة إذا قضى الله ورسوله ـ التفتوا هنا فالله والرسول هنا واحد، حقيقة واحدة ـ فإذا قضى الله والرسول حكمًا لا يمكن لأيّ مؤمن ومؤمنة أن يخالف أمرًا، مطلقًا مهما كان، فلو جاء النبيّ وقال: لا بدّ أن تطلّق زوجتك فيجب على الإنسان على الفور أن يطلّق. ولو قال النبيّ: لا بدّ أن تنفصلي عن زوجك، فورًا على المرأة أن تنفصل عن زوجها. ولو قال النبيّ: يجب أن تلقي بجميع أموالك في البحر، فورًا على الإنسان أن ينجز هذا العمل. ولو قال النبيّ: يجب أن تلقي بنفسك من الأعلى إلى الأرض وتموت، فورًا بلا تأخير وتأمّل. 

  • كرم الإمام الحسين عليه السلام في عدم استعماله لولايته الشرعيّة المطلقة مع أصحابه

  • والآن انظروا ليس فقط لا يقول النبيّ هذا الكلام، بل يأتي الإمام الحسين في ليلة عاشوراء بدلاً من أن يقول: وأنا أقرب إليكم من حبل الوريد ـ والإمام الحسين هو أيضًا عين النبيّ في النهاية، فالمعصومون الأربعة عشر هم واحد، عندها أنتم تذهبون؟ ـ عندها يأتي الإمام الحسين عليه السلام سيّد الشهداء... انظروا كم لديه من العزّة؟! كم هو حرّ هذا الرجل؟! وكأنّه مملوء حريّة من رأسه إلى قدميه، قد ملأته الحريّة وصنع من الحريّة، فبدلاً من هذا الكلام أنّي ابن النبيّ، أنّي إمام، أنّي أقرب إليكم من حبل الوريد، أنّي... بدلاً من هذا الكلام يقول: لقد رفعت البيعة عنكم، من شاء فليتّخذ الليل جملاً، فليمض٢، حتّى ماذا يقول لأخيه أبي الفضل؟ لماذا أنت جالس؟ 

    1. - سورة الأحزاب (٣٣)، الآية ٣٦
    2. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكرى عليه السّلام، ص ٢۱۸؛ بحارالأنوار، ج ٤٤، ص ٢٩۸ حیث نقل عن الخرائج، ج ٢، ص ۸٤۸: قال علىّ بن الحسين عليه ‌السّلام: كنت مع أبى اللّيلةَ التى قُتل صَبيحتها فقال لأصحابه:
      هذا اللّيل فاتّخذوه جملًا؛ فإنّ القوم إنّما يريدوننى و لو قتلونى لم يلتفتوا إليكم و أنتم فى حلٍّ و سعةٍ؛ فقالوا: لا و الله لا يكون هذا أبدًا...

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

17
  • انظروا! كم هي المسألة مهمّة، كم المسألة دقيقة! وهؤلاء الناس نحن مثلهم، لا نختلف عنهم، هذا الكلام الذي يقال، هذه الأمور التي تنقل عن الأعاظم هي لكي يمتحن الإنسان نفسه، ويختبرها مرارًا، ويقيس نفسه على ذلك الوضع، وأنّه لو كان في تلك الحالة ماذا كان يصنع؟ فلنعرف مكانة الإمام منّا، الإمام أقرب إلينا من حبل الوريد، فاختيار الإمام ليس فقط أولى من اختيارنا، بل ينبغي أن لا يكون هناك اختيار أمام اختياره، فلا معنى أصلاً للاختيار. 

  • بعضهم كانوا يأتون إلى الأعاظم، وكنّا نراهم، كانوا يأتون ويقولون هكذا: لا، المسألة هي هكذا، ولكن لو قالوا [شیئًا] فإنّا نقبل بكلامهم تفضّلاً وتكرّمًا ونعفو. وكانوا هم بعد ذلك يلقون نظرة وينصرفون عنه بشيء ما ثمّ لا يتكلّمون. هذا خطأ. ما هو الطريق الصحيح؟ عندما تريد أن تدخل الباب لا يكون لديك أيّ اختيار، هكذا دون أيّ شيء.

  • ـ ما رأيك في هذه المسألة؟

  • ـ لا رأي لي. 

  • ـ ألا تريد أن تقيم دعوى على خصمك ففي النهاية ألا تعتقد أنّك على حقّ أم ...؟ 

  • ـ لا، أنا لا أعتقد أنّي على حقّ. ما يقوله هو فهو الحقّ. 

  • على الإنسان أن يدخل بدون رأي مسبق، حتّى الرأي الذي يريد أن يستبدله لاحقًا. وبالطبع فإنّ هذه مرتبة جيّدة، أن يكون للإنسان رأي ثمّ يقول إذا غلب رأي ذلك الإنسان العظيم وليّ الله فإنّا نقبل به، في النهاية هو صعب شيئًا ما، ولكن ماذا نصنع؟ في النهاية لأنّه سيّد، لأنّه ابن النبيّ، لأنّه كذا... صعب ولكن في النهاية...، ولكن هناك ما هو أفضل، وهو هذا، الأفضل هو أن لا يكون هناك رأي أصلاً. فأصحاب سيّد الشهداء لم يكن لهم إرادة أمامه أصلاً. 

  • ـ ما رأيك يا برير أو يا زهير مثلاً؟ ماذا تريد؟

  • ـ ليس لنا إرادة. من نحن؟ ما هي النملة لكي يكون لها أقدام ورأس؟ ليس لدينا إرادة، نحن معك لا إرادة لنا أصلاً، إنّها لسخريّة أن نبيّن آراءنا. ما دام الإمام الحسين عليه السلام موجودًا فماذا أصنع أنا؟ أقول يا ابن رسول الله! برأيي أن تقوم بهذا العمل فهو جيّد ولكنّي أطيعك فيما تأمر، كلّ ما تأمر به فإنّا نصغي، في النهاية أنت ابن النبيّ ونحن نصون حرمتك و... هذا ليس صحيحًا. على السالك أن يلقي برأيه جانبًا أمام وليّ نعمته، وليّ نعمتنا الآن هو إمام الزمان عليه السلام حضرة بقيّة الله وفقط، والباقون كلّهم "من عباد الله المُرْخَصِين" لقد نزلت عليّ هذه الآية! [ممازحًا] كلّنا من عباد الله المرخصين. ليس هناك إلا إنسان واحد وهو إمام الزمان نزل القرآن على قلبه، لقد نزل على قلب إمام الزمان، هذه هي المسألة. 

الولاية التشريعيّة فرع الملكيّة والولاية التكوينيّة

18
  • وهذه المرّة كنت أودّ أن أصل بالموضوع إلى نقطة معيّنة وأنهي الحديث حول الأمر الاعتباريّ والشرعيّ ولكن: 

  • مجلس تمام گشت و به آخر رسيد عمر***ما همچنان در اوّل وصف تو مانده‌ايم
  • انقضى المجلس وبلغ العمر نهايته *** ولا زلنا حيارى في بداية وصفك 

  • نسأل الله تعالى أن ينوّر أبصارنا ويجعل صراطنا مستقيمًا، وأن يجعل كافّة أفكارنا وأعمالنا وأقوالنا ومنويّاتنا وكافّة شوائب وجودنا مندكّة في اختيار وإرادة وليّ نعمتنا حضرة بقيّة الله.

  • اللهمّ صلّ عَلى مُحمَّد وآل محمَّد