المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسممباني الإسلام
المجموعةمحاضرات شهر رمضان 1439 هـ
التاريخ 1439/09/26
التوضيح
هو العليم
شبهات و ردود
محاضرات شهر رمضان لعام ۱٤٣٩ هـ ق – الجلسة الرابعة
ألقيت المحاضرة في الليلة ٢٦ من شهر رمضان المبارك
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
بسم الله الرحمن الرحیم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
حينما تشرّفت بزيارة مشهد، كنت بخدمة الرفقاء هناك في جلستين أو ثلاث جلسات على ما يبدو۱، فقلت مع نفسي: إذا أتى القمّيون وطالبوني أيضًا [بحقّهم]، فبماذا سأجيبهم؟! ولهذا، قلت: فلأتحدّث هنا أيضًا ببعض الكلمات، عسى أن يكون ذلك أداءً للدين الذي عليّ!
الإشكال الأول: ابتهاج السيّد الحدّاد رضوان الله عليه في أيّام عاشوراء
منذ مدّة طويلة، حينما ألّف المرحوم العلاّمة كتاب «الروح المجرّد»، أشار هناك إلى مسألة ذكر فيها أنّ السيّد الحدّاد رحمة الله عليه كان يعيش في أيّام عاشوراء حالة من الابتهاج والانبساط مصحوبة بالدموع والبكاء الدائم؛ إذ كانت دموعه تجري بدون انقطاع؛ وكنت أشاهد أنا بدوري أيضًا هذه الحالة منه في ذينك السفرين اللذين تشرّفت فيهما بالزيارة، حيث كنت أرى ازدياد احتقان الدم في وجهه كلّما اقتربنا من اليوم العاشر، وكان يغور في نفسه أكثر فأكثر، ثمّ نرى الدموع تنهمل من عينيه فجأة، لكن، لم نكن نشاهد منه حالة الحزن والبكاء التي كانت تحصل لنا نحن بسبب العزاء وغير ذلك، بل كان يعيش حالة من الابتهاج التي يرافقها نوع من الإعجاب بحادثة عاشوراء.
لقد أثارت هذه المسألة مجموعة من الإشكالات، وبرأيي أن تسعين إلى خمسة وتسعين بالمائة منها لها أهداف مغرضة، وإلاّ، فإنّ المسألة واضحة، حيث إنّ الجميع قرؤوا الكتاب؛ فكيف يُمكن أن يقرأ الكتاب عشرة أفراد، ولا تخطر ببالهم تلك الإشكالات، ثمّ يأتي واحد، ويُصرّ على ذلك؟! من هنا، يُعلم أنّ هذا الشخص له نوايا مغرضة.
ففي الأبحاث العلميّة، حينما تأتيّ الأهداف والنوايا المغرضة، ينسدّ باب البحث، لكن، إذا كان الأمر يتعلّق بالاستفهام، والتساؤل، والاستعلام، وفهم المسائل، ودفع الإشكالات، فإنّ البحث يكون مفتوحًا، والكلام قائمًا، ويكون من اللازم الوصول إلى حلّ المسألة في كلّ مورد وحالة، حيث ينبغي على الإنسان مراعاة جانب الإنصاف في هكذا أمور.
الإشكال الثاني: مسألة كأس الدم ، وهل يمكن للأستاذ أن يأمر بالحرام؟
ومن المسائل الأخرى المطروحة في هذا المجال، مسألة طاعة وليّ الله، حيث تُذكر هنا قضيّة قول المرحوم العلاّمة للسيّد الحدّاد: «لو كان هذا الكأس مملوًّا بالدم، وأمرتني أن أشربه، فإنّني سأشربه من دون تردّد!».. أجل، لقد حصلت هذه القضيّة، وكنت أنا بنفسي حاضرًا في تلك الجلسة، فلا مجال للإنكار أبدًا! فأنا كنت متواجدًا هناك، كما كان أخي الأكبر حضرة السيّد محمد صادق متواجدًا أيضًا، وقد قال المرحوم الوالد للسيّد الحدّاد ذلك الكلام في محضرنا، وعندما سمع ذلك، أطرق السيّد الحدّاد برأسه إلى الأرض؛ وكأنّ حالةً من الحياء والخجل قد اعترته ، ولم ينبس ببنت شفة، ولكن حينما خرج المرحوم السيد العلاّمة من المجلس، التفت السيّد الحدّاد إلى أخي وإليّ، وقال: «انظروا إلى والدكم! وانظروا إلى مستوى تواضع هذا الرجل! وإلى الكلام الذي قاله لي! إنّه يقول لي: لو كان هذا الكأس مملوًّا بالدم، وأمرتني أن أشربه، فإنّني سأشربه!»؛ فقد كان معجبًا جدًا بطريقة تعبير المرحوم العلاّمة عن هذه المسألة، ويبدو أنّ توجيهه إيّانا لذلك كان لأجل تربيتنا نحن، ولكي يقول لنا: «لقد كان والدكم هكذا، فعليكم أن تكونوا أنتم أيضًا بهذا النحو!».. حسنًا، لا يُمكن للإنسان أن يصير العلاّمة الطهراني صدفةً، فالواحد مثله لا يظهر، إلاّ من بين الآلاف والملايين من الناس!
لقد أثارت هذه المسألة مجموعة من الشبهات والإشكالات، شأنها في ذلك شأن بقيّة المسائل الأخرى؛ ومن بين هذه الإشكالات: هل يُمكن للأستاذ أن يأمر بالحرام؟ لأنّ الدم حرام ونجس، ونحن أيضًا، بل الجميع يقول: إنّ الدم من النجاسات المتّفق عليها، فيحرم بالطبع تناوله، واستعماله، من دون وجود أيّ شكّ أو شبهة!
وحينئذ، إذا أردنا أن ننظر إلى ملامح شخصيّة المرحوم العلاّمة قبل أن نلتفت إلى الكلام الذي يُطرح هنا وهناك، ما الذي سنكتشفه؟
أولاً: شخصية العلاّمة الطهراني لا تنسجم مع الجهل بحرمة الدم أو ارتكاب الحرام
أوّلاً: لقد كان المرحومُ والدنا العالمَ الأوّل في النجف، والذي لا يعلو عليه أحد حينما كان في الحوزة، حيث قال بنفسه للسيّد الخوئي رحمة الله عليه عندما دار بينهما حديث في أحد الأيّام (وقد ذكر لي ذلك بنفسه): «تعال لنتباحث في أيّة مسألة تختارها أنت، ولك مهلة أسبوع، لنرى بعد ذلك من الذي سيتفوّق فيها على الآخر!»، وقد كان يعتقد نفس علماء النجف بأنّه إذا بقي السيّد محمد حسين الطهراني في النجف، فإنّ المرجعيّة ستنحصر فيه، حيث إنّ بعضًا من الذين شهدوا هذه المسألة وكانوا يعلمون بذيوعها لا يزالون إلى الآن على قيد الحياة؛ فشخصيّته لم تكن معروفة بينهم بصفته عالمًا عاديًّا.
في أحد الأيّام، كنّا في طهران، فذهبنا إلى منزل صهر العلاّمة الطباطبائي رحمة الله عليه.. السيّد المناقبي، وكان المرحوم العلاّمة [الطباطبائي] متواجدًا هناك أيضًا، ومجموعة أخرى من الأفراد، حيث كان الحديث يدور حول مجلس الخبراء، وهل أنّهم يريدون حذف المذهب الحقّ أو لا، وكلام من هذا القبيل كان مطروحًا في ذلك الوقت، وكان الجميع متخوّفين. وفي تلك الأثناء، تكلّم أحد العلماء والخطباء العراقيّين والذي قال عنه ـ على ما يبدو ـ المرحوم العلاّمة أنّه كان يُلقي خطبًا في إذاعة بغداد ضدّ الشاه، وقد كان سيّدًا، وخطيبًا، ومحطًّا لنظر الجميع، فالتفت فجأةً إلى جميع الحاضرين، وقال: «يا أيّها السادة، لماذا أنتم متخوفّون إلى هذه الدرجة؟! فنحن لدينا بطل!»، حيث التفت إلى المرحوم العلاّمة وقال: «نحن لدينا بطل لا يستطيع أيّ واحد من هؤلاء أن يقف في وجهه!»، فطأطأ المرحوم العلاّمة برأسه إلى الأرض، وكذلك فعل العلاّمة الطباطبائي!! فكان ذلك الخطيب يقول: «نحن لدينا هنا بطل!».
وخلاصة القول أنّ العلامة الطهراني رضوان الله عليه كان ذا شخصيّة من هذا القبيل! وقد قال لي المرحوم آية الله السيّد أحمد الخونساري في لقاء جمعني به عندما زرته في بيته: «إنّ والدكم مفخرة من مفاخر العالم الشيعي»، أجل، لقد قال لي نفس هذه العبارة رحمة الله عليه. وخلاصة القول أنّه كان ذا شخصيّة من هذا القبيل! وحينئذ، هل يُمكن لهكذا شخصيّة أن تتحدّث بمثل ذلك الكلام؟! فما هو رأيكم؟ هل يُمكنه أن يقول: إنّ الدم طاهر؟! ألا يبعث ذلك على السخريّة؟!! هل يمكنه القول: إنّ الدم حلال؟!! فلو قال أستاذ من الأساتذة: إنّ الدم حلال، لكان ذلك باعثًا على السخريّة، والضحك! فحتّى العوامّ يُدركون هذه المسألة؛ هذا، مع أنّنا سنبيّن قريبًا حلّ هذا الإشكال.
ثانياً: السيّد الحداد رضوان الله عليه لا يمكن أن يأمر بالمكروه فضلاً عن الحرام!
ولكنّ كلامي ينصبّ الآن على أنّه كان تلميذًا للسيّد الحدّاد رحمة الله عليه لمدّة ثمانية وعشرين سنة، حيث قال لي بنفسه: «إنّ مدّة تتلمذي على يد المرحوم الحدّاد تساوي مدّة تتلمذه على يد السيّد القاضي»؛ وقد كان السيّد الحدّاد تلميذًا للسيّد القاضي لمدّة ثمانية وعشرين سنة، فتكون فترة تتلمذ المرحوم الوالد على يد السيّد الحدّاد تساوي بالضبط والتدقيق ثمانية وعشرين سنة. وحينئذ، أطرح عليكم هذا السؤال، وأنا لا أقصدكم أنتم، بل ذكرت هذا لأُعلِمكم فقط، فأنا أطرح السؤال على جميع هؤلاء: هل يوجد بينكم شخص واحد يستطيع أن يعثر على أمرٍ واحدٍ بفعل شيءٍ مكروهٍ أمر به السيّدُ الحدّادُ المرحومَ الوالدَ طيلة تلك السنوات الثمانية والعشرين؟ فإذا عثر عليه، فليأت ويخبرني! سواءً كان هذا الشخص من العراقيّين أو الإيرانيّين أو العلماء أو التجّار أو غير ذلك؛ فأنا أعلن الآن ـ وكلامي سيُذاع بطبيعة الحال في كلّ مكان ـ : أنا أتحدّى أن يأتي شخصٌ واحدٌ، ويُخبرني بأنّ السيّد الحدّاد أمر المرحوم الوالد بفعل مكروه فضلاً عن الحرام!
لقد كان المرحوم الحدّاد يُقلّد المرحوم الوالد [في المسائل الشرعيّة]، وذات مرّةٍ وضعوا إناءً فيه ماء فوق سطح المنزل، لكي يسخن بواسطة الشمس، فيستعملوه لأجل الاستحمام وغير ذلك، وكان المرحوم العلاّمة جالسًا هناك؛ وحينما علم بذلك... انظروا كيف لا يفرق الأمر في النية المغرضة بين من وضع عمامة على رأسه وبين غيره! أجل.. فاللبيب بالإشارة يفهم! لقد كان المرحوم العلاّمة جالسًا هناك، فالتفت إلى السيّد الحدّاد، وقال له: «يا سيّدي، إنّ تسخين الماء بواسطة الشمس مكروه»، فنادى السيّد الحدّاد أبناءه مباشرةً، وقال لهم: «اذهبوا، وافصلوا منبع الماء عن السطح، وانزعوا [ذلك الإناء]!»؛ وحينئذٍ، هل يُمكنه أن يأمر بفعل الحرام؟ فهل هذا إنسانٌ يُمكنه الأمر بالحرام؟!!
ذات يوم، كنت أتوضّأ، وكنت حينها يافعًا أبلغ السابعة عشرة من العمر، فتحرّكت رجلي قليلاً عند المسح، فقال لي السيّد الحدّاد: «لماذا مسحت بهذا الشكل؟ ضع قدمك على الأرض، ولا تمسح عليها، إلاّ حينما تصير ثابتةً وساكنة، حتّى يصدق أنّك مسحت على القدم»؛ فقد كان على درجة كبيرة من الدقّة والمراقبة، هل التفتّم؟!
الجواب الحلّي عن إشكال كأس الدمّ
حسنًا، والآن، ما هو حلّ الإشكال؟ ففي نهاية الأمر، يبقى أنّ المرحوم العلاّمة ذكر ذلك الكلام، فيجب أن نجد له حلاًّ، فما هو؟ وأنا أطرح عليكم هذا السؤال: افرضوا أنّكم أُصبتم بوعكة قلبيّة، أو وعكة صحّية مثلاً؛ فأحيانًا، قد يكون ذلك من قبيل ألم الرأس، فتحتاج لرفعه إلى بعض المسكّنات كالأسيتامينوفين، وأحيانًا أخرى، قد لا تنفع المسكّنات لرفع الألم، فتذهب إلى هنا وهناك، أو يكون المشكل في القلب مثلاً ، فتذهب عند ذلك الدكتور، وعند الآخر، فيقول لك: «ينبغي عليك إجراء عمليّة القلب المفتوح؛ لأنّك تعاني من انسدادٍ في شرايين القلب»؛ فهنا المسألة أخطر من قلع الأسنان، وتقليم الأظافر، واستئصال الزائدة الدوديّة؛ لأنّ موضوع العمليّة هنا هو القلب، أو الدماغ.. هل التفتّم؟! ففي هذه الحالة، سوف تبحث عن أفضل دكتور وأمهر متخصّص في القلب، فتذهب عنده، أو إلى متخصّص في الدماغ، فتذهب عنده، وهكذا في بقيّة التخصّصات، فتذهب عند الأفضل؛ وحينما تذهب عنده، تذهب وأنت واثق منه ومطمئنّ إليه؛ فيقول لك الطبيب: «حسنًا، هل أنت مستعدّ؟» فتجيبه: «نعم!»، فيقول لك: «كم هي درجة ثقتك بي؟»، فتجيبه: «لو تطلّب الأمر أن تنزع قلبي بشكل كامل، فانزعه، فأنا أثق بك!».. حسنًا، هل يُمكنه حقًّا أن ينزع قلبك، ويضعه في دلو؟! أو ينزع دماغك؟! كلّا! لأنّ مرادك من ذلك الكلام أن تقول له: «إنّني أثق بك بکافّة أرجاء وجودي»، لا أنّك تريده فعلاً أن ينزع لك قلبك!
كان هناك طبيب قلب، وكنت في السابق أقرأ عن سيرته، حيث إنّه كان ألمانيًّا، وكان ذا تخصّص كبير في القلب، ولكن، فجأة، أصابه خلل عقليّ؛ ففي إحدى العمليّات التي كان يُجريها، نزع قلب المريض، ورمى به إلى الأعلى! وقال لهم: أريد أن أمرّن القلب وأحرّكه قليلاً!!!! فأصاب الهلع المساعدين، وبدؤوا يتساءلون: ما الخبر؟! وهم يرونه يرمي بالقلب إلى الأعلى عدّة مرات وهو يقول لهم: أريد أن أمرّنه وأحرّكه قبل أن أرجعه! وهكذا مات ذلك المريض المسكين!! ولمّا ذهب أهله يشتكون عند الحكومة، قالوا لهم: «نعم، صحيح، يبدو أنّ الطبيب أصبح يُعاني من بعض المشاكل»، فأوقفوه عن العمل بطبيعة الحال، حيث خافوا أن يفقد هذا المجنون صوابه حين إجراء العمليّات!!!!
لكنّك حينما تذهب عند الطبيب، فإنّك تقول له: «أنا أثق بك، ولو نزعت قلبي»، غير أنّ ذلك لا يعني أنّك سنتزع قلبي فعلاً، لا! بل يعني: إنّني أثق بك إلى درجة أنّك لو أردت القيام بذلك الفعل، لعلمت أنّه عن حكمة ومصلحة، وأنّك لا تفعل عبثًا، وأنّك صاحب تخصّص، ورجل ملتزم ومسؤول!
فحينما قال [المرحوم العلاّمة]: «لو أمرتني أن أشرب هذا الكأس من الدم، لشربته»، فإنّه يقصد بذلك: «إنّني أعتقد بك إلى درجة أنّني سلّمتك كلّ وجودي»، لا أنّك سوف تأمرني بشرب الدم! فليس هذا هو المراد من ذلك الكلام! بل المراد منه: «لقد سلّمتك كلّ وجودي، ووضعت بين يديك علمي وفكري بأجمعه»؛ إذ كان له اعتقاد عجيب بالمرحوم الحدّاد، بحيث كان يذكر في حقّه عبارات لم أره طيلة فترة حياته يستعملها في حقّ الأولياء والعظماء والأفراد المحيطين به؛ نظير العلاّمة الطباطبائي رحمة الله عليه، والسيّد جمال الدين الكلبايكاني، والمرحوم الشيخ محمد جواد الأنصاري، مع أنّهم كانوا بأجمعهم من الأولياء والعظماء، وكذلك السيّد عبد الهادي الشيرازي الذي كان من [الأعاظم]، والشيخ عبّاس هاتف [القوجاني]، وغيرهم؛ فلا يُمكننا أن نقيس أبدًا العبارات التي كان يوردها المرحوم العلاّمة في حقّ المرحوم السيّد الحدّاد بالعبارات التي ذكرها في حقّ الآخرين؛ أي أنّه كان يستعمل عبارات تدفعنا نحو التأمّل والتفكير العميق؛ فما هي حقيقة الأمر؟! هذا، مع أنّه كان مجرّد حدّادٍ، يقتصر عمله على صناعة الأدوات الحديديّة؛ وقد أشرت سابقًا إلى أنّ شخصيّة كالمرحوم العلاّمة ذكرت في حقّه مثل ذلك الكلام، فما هي حقيقة المسألة؟
حسنًا، فمع ما كنّا نشاهده، وبالنظر إلى تلك السنوات الثمانية والعشرين الذي تتلمذ فيها المرحوم العلاّمة على يد السيّد الحدّاد، هل من الممكن حتّى تصوّر أن يأمره بفعل أمر مكروه؟! في حين أنّه أمرهم بقطع الماء المتّصل بالسطح [عندما علم بكراهة تسخينه بالشمس]! هل التفتّم؟! وعليه، فإنّ المراد من ذلك الكلام هو مجرّد إبراز الوثوق والاطمئنان الذي يُكنّه التلميذ تجاه أستاذه الخاصّ فقط، وليست هذه الثقة تجاه أيٍّ كان، ولا بشخصٍ مدعٍ وهم والحمد لله كثيرون!!
الجواب على إشكال ابتهاج السيّد الحدّاد رضوان الله عليه في عاشوراء
هذا بالنسبة للمسألة الأولى، وأمّا بالنسبة للمسألة المرتبطة بعاشوراء، فإنّ لدينا نوعين من الابتهاج والانبساط: فتارةً، يكون ذلك من باب السرور والفرح والضحك؛ نظير ما يحصل ليلة الزفاف، حيث يضحك فيها الحاضرون، ويتسامرون فيما بينهم، ويُصفّقون، ويرفعون أصواتهم بالصلوات؛ فهذا سرور! أو مثل ما يحصل لكم عندما تكونون جالسين مع رفيقكم تتحدّثون معه، وتضحكون معًا، أو أن يذكر أحدهم طُرفةً ونكتةً، فتضحكون؛ فكلّ هذا يُقال له ضحك وسرور، وموارده كثيرة؛ كما حصل حينما حدّثتكم عن تلك القصّة [قصّة الطبيب الذي جُنّ]، فضحكتم.
ولكن، تارةً أخرى، يكون عندنا ابتهاج، غير أنّه ليس من باب الضحك، بل لا يكون هناك أيّ مجالٍ للضحك؛ وسأضرب لكم مثالاً بسيطًا جدًّا على ذلك: لنفرض أنّ ابنكم يذهب إلى المدرسة، وحينما تنقضي السنة، ويأتي ببطاقة العلامات، وتنظرون إليها، تقولون: «ما شاء الله، لقد حصلت على علامة ٢۰!»؛ ففي هذه الحالة، هل ستضحكون؟! كلّا! لأنّه ليس هذا الموضع موضعًا للضحك، بل ستقولون: «بارك الله فيك! يا لها من علامة!»؛ فهذا هو الذي يُقال له ابتهاج، وهو مغاير للضحك والسرور الذي يختصّ بليلة الزفاف؛ ([يقول سماحته ممازحًا] ولا يخفى أنّ هكذا أمور [الزفاف] قد تجاوزتنا، فعلينا أن نضحك في ليلة زفاف الآخرين!! لا أعلم، فلعلّه لازال لدينا أمل!!! والطبيب المحترم يعلم بشكل أفضل!!!!! فعلينا أن نسأله هو!!!! وهو الذي عليه أن يوافق أو يرفض!!!) هل هذا واضح؟! فهذا يكون سرورًا؛ وهو يختصّ بالزفاف، والضحك، والفرح، أو أن يهب الله تعالى ولدًا للإنسان، فيضحك، أو أن يمزح أحدهم معه، فيضحك، لكن، حينما يعطونك بطاقة علامات ابنك، فإنّك لا تضحك، بل تتعجّب، وتقول: «يا للعجب، يا للعجب، بارك الله فيك!»، وتُرَبِّتُ على كتف ابنك على ما قام به؛ فهذا الذي يُقال له ابتهاج؛ وهو الذي كان لدى السيّد الحدّاد، لا أنّه كان يجلس، ويضحك، ويقول: «ما أحسن ذلك! ولقد أحسنوا ـ والعياذ بالله ـ حينما أوقعوا بالإمام الحسين عليه السلام وقتلوه!»، بل إنّ هذا الفعل هو ما كان يقوم به بنو أمّية: «إنَّ هذا يومٌ تَبَرَّكت بِه بَنو أُميَّةَ وابنُ آكِلَةِ الأكبادِ اللعينُ ابنُ اللعينِ»؛ فهؤلاء هم الذين كانوا يضحكون.!
رحم الله تعالى على جدّنا الحاج الشيخ معين الشيرازي، حيث قال لنا: «ذات يوم، صادف تواجدي في دمشق يوم عاشوراء، وكنت أشاهد بعض الناس يتسامرون فيما بينهم، ويضحكون، ويشترون الحلويات، ويذهبون بها إلى منازلهم»، وكان يقول أيضًا: «لقد رأيت بأمّ عيني كيف أنّهم يعيشون حالة من الفرح والسرور والضحك وغير ذلك!» لعنة الله على جميع أعداء أهل البيت عليهم السلام ومبغضيهم!
لقد كان السيّد الحدّاد يغوص كلّ يومٍ في حادثة عاشوراء؛ أي: كلّما انقضى يومٌ من أيّام عاشوراء، كلمّا غاص أكثر في هذه الحادثة، وفي تلك التفاصيل المرتبطة بحضرة علّي الأكبر، وأبي الفضل العباس، وتلك القضايا التي كانت تطرأ؛ فكان تعجّبه يزداد، ويقول: «يا للعجب، هل قام الإمام الحسين بهذا العمل! هل وصل به الأمر إلى هذا الحدّ؟!» هل التفتّم؟! وحينئذ، كان الدم يحتقن في وجهه، ويحمرّ؛ فتسيل الدموع من عينيه، حيث كنّا نراه على هذه الحالة، وأنا بنفسي شاهدٌ على ذلك، وعلى أنّ الدموع كانت تسيل من عينيه بذلك النحو؛ فأين هذا من الضحك والسرور والفرح؟! إنّ هذه الأمور ما هي إلاّ تُهمٌ واهية بأجمعها؛ ولو أراد أحدٌ بعد كلامي هذا الإصرار عليها، فسيتّضح أنّه يُعاني من مشكلةٍ خاصّة، وعليه أن يحلّها في مكان آخر!
لقد كنت شاهدًا بنفسي على أنّ حاله في عشرة محرّم كانت كلّها عبارة عن سيرٍ في حادثة كربلاء، ثمّ كان يقوم فجأةً من دون أن يتحدّث معه أحد، ويقول: «ما أعجب قصّة عليّ الأصغر، ما أعجبها!»، ثمّ يستمرّ في التعجّب ويقول: «أيّ سرّ تنطوي عليه هذه القصّة؟!»؛ ولا يخفى أنّني ذكرت في إحدى الجلسات السابقة أنّ قصّة عليّ الأصغر تُعدّ بذاتها وثيقةً على حجّية كربلاء وحقّانيتها؛ أي إنّها لا تدعُ المجال لأيّ أحدٍ لكي يشكّ بعد ذلك في طرفي الحقّ والباطل، بخلاف ما حصل مع البقيّة، حيث إنّ حضرة أبي الفضل مثلاً كان كبيرًا، وقد حارب، وقاتل و... ، وكذلك الشأن بالنسبة لسيّد الشهداء، وعليّ الأكبر صلوات الله عليهم أجمعين؛ فهذا هو حال الحرب: واحد يضرب، والآخر يُضرب! لاسيّما وأنّ الأعداء لم يكونوا معترفين بالإمامة. وأمّا بالنسبة لقصّة عليّ الأصغر، فإنها لا تدع المجال أمام أيّ أحد لكي يعترض؛ لأنّ الطفل ذي الستّة أشهر حتّى ذئب الصحراء يرحمه، ناهيك أن يصل أحد من أفراد الإنسان إلى هذه الدرجة من القسوة والشقاء، بحيث يُقدم على هكذا فعل! ويل لكم.. خذوه، واسقوه ماء، ثمّ أرجعوه! فما معنى رميه بالسهام؟! إذ لا معنى أن يأتي الإنسان، ويُقدم على مثل هذا الفعل.
وبعد ذلك، كان السيّد الحدّاد يشرع في الحديث لمدّة ربع ساعة عن هذه القصّة، وعن سرّ من أسرارها المكنونة؛ وهكذا أيضًا بالنسبة لشخصيّات كربلاء الأخرى؛ وحينئذ، نسأل: متى رأيتموه يضحك أو يقهقه؟! بل ومتى رأيتم أفعال كهذه تصدر منه، أو حتّى من المرحوم العلاّمة الذي كان على مرأى من الجميع، مع أنّه كان تلميذًا لذلك الأستاذ بعينه؟! فقد كانوا يقفون بكلّ احترام، والدموع تجري على وجوههم، ويلطمون على صدورهم في مجالس العزاء.
البكاء والعزاء صحيحٌ وفي محله، و لكنّ الأولياء يريدون منّا الارتقاء أكثر
وبهذا، يكون الجواب عن هذه المسألة قد تمّ، وتبيّن أنّ ما كان يقوم به مطابق تمامًا للواقع؛ غاية الأمر أنّنا نرجو من الله تعالى أن يوفّقنا لكي نفهم حقيقة هذه المسائل؛ فمراد المرحوم العلاّمة أنّنا غارقون تمامًا في حالة الحداد والعزاء: وا ويلاه، لقد هوى السيف على رأس عليّ الأكبر! وا ويلاه، لقد قطّعوا جسد عليّ الأكبر إربًا إربًا! وا ويلاه، لقد فعلوا مع حضرة أبي الفضل كذا! إنّ هذا كلّه صحيح! وهو باعث على الحداد والبكاء واللطم على الصدور بأجمعه؛ فلهذه الأمور مكانتها الخاصّة، غير أنّ العظماء يقولون: احتفظ بهذه المسائل، وارتق درجة إلى الأعلى، حيث عليك أن تلطم على الصدر، وتعيش حالة الحداد في يوم عاشوراء، وتُنظّم مواكب العزاء؛ لأنّها تدخل بأجمعها في الشعائر، وعلينا أن نحفظ لها مكانتها الخاصّة، لكن، عليك في الوقت ذاته ألاّ تتوقّف عندها، ولا تبق متسمّرًا أمام السهام والرماح والسيوف التي هوت على أجساد أولئك الأولياء، وانظر ما هي الأهداف التي كانوا يسعون إليها، وما هي الأمور التي كانت محطًّا لأنظارهم.
وأنا بدوري، حينما أفكّر أحيانًا في هذه المسائل، ولو بمقدار قليل، أصاب بالدوار، ولا أستطيع أمضي في تفكيري بل أقف متحيراً، وأقول مع نفسي: هل بلغت تضحية الإمام عليه السلام وحضرة أبي الفضل بنفسيهما هذا الحدّ وهذا المستوى؟! بل إنّ من بين الأسرار التي انكشفت لي: أنّ حادثة كربلاء قد حصلت بأجمعها لكي نهتدي نحن؛ أفهل فكّر أحد بهذا الأمر لحدّ الآن؟! أي إنّ كربلاء وُجدت حتّى يُفتح لنا الطريق إلى الله تعالى؛ فالإمام الحسين عليه السلام فتح لنا الطريق، وفتح الباب أمام السلاّك لكي يسيروا إلى الله تعالى، ورفع الموانع من أمامهم! نرجو من الله تعالى أن يُوفّقنا ـ بحوله وقوّته ـ لتذوّق بعض هذه المسائل، وفهمها. وحينئذٍ، سنُدرك لماذا كانت تحصل للسيّد الحدّاد حالة الابتهاج والانبساط العجيبة في يوم عاشوراء.
في أحد أيّام عاشوراء، كنّا جالسين ـ وانظروا بالله عليكم كيف ينسجم هذا مع الكلام الذي كان ينطق به أولئك! ـ ، فقال لنا السيد الحدّاد فجأة: «قوموا كلّكم، واذهبوا بأجمعكم لاستقبال موكب طويريج!»، حيث كان أعضاء هذا الموكب يأتون من عدّة فراسخ، وهم حفاة، فكان يقول لنا: «إنّ لسيّد الشهداء عناية خاصّة بهذا الموكب!» فكان يبقى هو جالسًا في البيت، وكنّا نتحرّك بأجمعنا: نحن والمرحوم العلاّمة، والأفراد المتواجدين هناك، والذي كان يبلغ عددهم عشرة إلى خمسة عشرة فردًا؛ فكنّا نذهب إلى هناك، ويأتي ذلك الموكب، فنتوقّف هناك لمدّة نصف ساعة، ونشاهد مراسم العزاء، ثمّ نُقفل عائدين إلى المنزل؛ أفهل بوسعنا القول: إنّه كان مسرورًا!
وخلاصة القول: إنّ على الإنسان أن ينتبه كثيرًا في هذه الأمور؛ لأنّ هذا المورد هو من الموارد التي يضع فيها الإنسان قدمه على ذيل الأسد! فوليّ الله تعالى هو حرم من حرماته تعالى، وداخل تحت حمايته، وهو عزّ وجلّ يحسب لأوليائه حسابًا خاصًّا؛ فعلى الإنسان أن يكون حذرًا ومنتبهًا؛ هذا، مع أنّه لدينا العديد من الروايات التي تدعوا إلى الحمل على الصحّة عند الشكّ والظنّ والاحتمال، لكن، يبدو أنّنا اكتفينا بقراءة هذه الكلمات، ودعوة الناس إليها، وأمّا حينما يأتي الدور علينا، فإنّنا نتجاهل وجودها.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد