المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسممباني الإسلام
المجموعةمحاضرات شهر رمضان 1439 هـ
التاريخ 1439/09/20
التوضيح
هو العليم
تأملات في دعاء الافتتاح
محاضرات شهر رمضان لعام ۱٤٣٩ هـ ق – الجلسة الثانية
ألقيت المحاضرة في الليلة ٢۰ من شهر رمضان المبارك
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد و آله الطاهرين
واللعنة على أعدائهم اجمعين
منذ عدّة ليالي وبعض فقرات دعاء الافتتاح تشغلني، تلك الفقرات التي تتحدّث عن حضرة وليّ العصر أرواحنا فداه حيث تقول: «استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله»
أي اجعله متمكّنًا في الأرض واجعل الأرض تحت اختياره. ولكن أليست الأرض الآن تحت اختياره؟!
يجب رعاية حريم الإمام والولاية في العبارات والألقاب
نعم لقد رأيت عبارة لأحدهم ـ نعوذ بالله نعوذ بالله ـ يقول فيها: إنّ الزمان هو زمان الغدير! وهناك الكثير من هذا النوع من الكلام، فقد قيل: (حسين الزمان) وأمثال ذلك، وهذا النوع من العبارات كثير جدًّا، وكان شائعًا سابقًا، [يقول سماحته ساخرًا] وإلى الآن لم يتناه إلى أسماعنا التعبير (نبيّ الزمان)، وإن شاء الله بعد أيّام سيظهر هكذا استعمال!
إنّ هذه التعبيرات مجرّد لقلقة لسان، وهي تكشف عن مستوى فهمنا لعلوم الدين والمعارف الإلهيّة كم يبلغ؟! فالقراءة والكتابة وجمع المعلومات في الصدور وحفظ هذه المعلومات لا ينفع، فالكتب موجودة في المكتبات، ولكن كم رسخت هذه المطالب في القلب واستقرّت فيه؟ وإلى أيّ حدّ وصل الإنسان إلى عمقها؟!
لقد سمعنا مرّة عبارةً لأحد الناس (وقد توفّي رحمه الله، كان رجلاً عالمًا وتقيًّا ومتهجّدًا، ولا يوجد له نظير في هذا الزمان)، كنت أستمع إليه يومًا حيث كان يلقي خطابًا على المنبر وقد سجّل كلامه على شريط، وذلك في عهد الشاه، فكان يقول: علينا أن نعرف اليوم مصاديق حسين الزمان ويزيد الزمان وشمر الزمان، فشمر الذي كان ما قبل ألف ومائتي عام قد مات وانتهى وصار ترابًا، أما شمر هذا الزمان فهو (موشيه ديان)۱.
نعم من هذه الجهة صحيح (موشيه ديان) هو شمرٌ أيضًا، وصدّام شمر أيضًا، فهناك عدد كبير من أفراد الشمر غيرهم، ولكن ماذا عن الحسين؟ من هم مصاديق حسين الزمان، وكم مصداقًا للحسين لدينا؟! لو كان هناك حسين في هذا الزمان فمن هو؟ لو كان فهو صاحب الزمان فقط! هل عندكم مصداق آخر له؟ أين هو الحسين الذي له ذلك الارتباط مع الله، وله تلك المعرفة بالله، و له تلك الولاية الكليّة الشاملة للملك والملكوت؟! (أما نحن فليست لنا القدرة على حكّ أنفنا حتّى)، والذي يجري على يديه رزق ما سوى الله، من جبرائيل وميكائيل والملائكة المقرّبين إلى أن تصل إلى الذرّات المعلّقة في الهواء.
إنّ الإمام هو الرابط لكافّة الموجودات بالله من الجماديّة و النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة والملكوتيّة، فالبعوضة التي تراها الآن تمرّ من هنا فهي بولاية الإمام وبإشراف الإمام تمرّ، هل رأيتم ما هي حقيقة المسألة؟! هل رأيتم؟! هذه الحشرة التي ترونها... فمن هو حسين العصر بعد ذلك؟! أرني نسبة واحد من مليار مليار مليار مليار من ذلك في غيره، حتّى ندرك الحقيقة في النهاية نحن أيضًا، فنحن لم نأت من الأدغال، وعندنا شيء من الاطّلاع على هذه المسائل.
ومن هو عليّ الزمان؟! وهنا الأمر أعظم وأعظم [ضحك وملاطفة]؛ فذاك الحسين وهذا علي...! فعليّ هو واسطة عالم الوجود، فتارة تلاحظ عليًّا الذي يأتي إلى مسجد الكوفة ليصلّي ويكتسي بعباءته ويسلّم على الناس ويعود إلى بيته، فهذا تجد مثله عشرة آلاف وعشرة ملايين، وتارة ترى عليًّا الذي خلف هذه العباءة، فمن هو عليّ؟! عليّ هو الذي يجب أن يستأذن منه جبرائيل ليدخل على رسول الله، فمن هو عليّ هذا؟! هل هو أنا؟ أنا الذي لا أملك القدرة على حكّ أنفي، بالله عليك قل لي هل أعلم من يجلس خلف هذا الباب ومن وضع كرسيًّا ليستمع إلى كلامي، والله لا أعلم، تالله لا أعلم، فهذا لعب بمعتقدات الناس، وهذا انحرافٌ في مسير معرفة الناس.
العلاّمة الطهراني ألّف كتبه ليعرّف الناس على الإمام
في إحدى السنوات، جاء المرحوم العلاّمة [الطهراني] لزيارة مشهد، وفي يوم من تلك الأيام ذهبنا برفقته لزيارة عمّي المرحوم السيّد محمّد علي، وكان يصلّي في مسجد لاله زار، وقد كانت العلاقة بينه وبين المرحوم العلامة جيّدة آنذاك، حتّى كانت علاقة تلميذ وأستاذ، ثمّ تبدّلت لأسبابٍ، فدار بينهما حديث قال فيه المرحوم العلامة: يا أخي العزيز هل تعلم لماذا جئنا إلى مشهد؟ لقد رأينا هؤلاء الناس ثاروا من أجل الإسلام، وبذلوا الدماء، وقدّموا الغالي والنفيس، وكان مقصودهم إسلام رسول الله ـ التفتوا إلى هذا الكلام فهذا هو ما يغضب لأجله الإنسان!! ـ لقد بذلوا دماءهم لأجل دين رسول الله ونزلوا إلى الشوارع ورمّلوا النساء وأيتموا الأطفال، وتحمّلوا بعد ذلك الحرب التي حصلت وهجوم العراق على إيران والمصائب التي رافقت ذلك ـ وطبعًا كلامه كان قبل هذه الأحداث ـ ثمّ بعد ذلك قدّم الله لهم هديّة، ورأينا أنّهم لا يعرفون من الإسلام شيئًا، وليس لديهم معرفة عن الإسلام وعن حقيقته، ولا يدركون الولاية، ولا يعرفون من هو الإمام، يعني عامّة الناس، بل كبارهم لم يكونوا يعرفون الإمام فكيف بالعوام؟!
رحم الله الشيخ نصر الله الخلخالي، فقد كان رجلاً فاضلاً وكان قد جاء إلى مشهد ونزل في نفس الفندق الذي كنّا فيه، لا عفوًا نحن تشرّفنا بالذهاب إلى مشهد في زمان الشاه، وكنّا أنا والمرحوم الوالد وأخي السيّد أبو الحسن، وكانت الأجواء يومها أجواء الثورة وربّما كان أيام تشكيل الحكومة العسكريّة أو أنّها كانت قد شكّلت قبل ذلك، وكانت الأيّام أيام عيد الأضحى، وكنّا جالسين بعد الظهر فقال المرحوم الوالد اقرؤوا دعاء يوم عرفة، ولا أذكر هل ساعدني على قراءته أخي السيد أبو الحسن، والنتيجة أنّا قرأنا دعاء عرفة بكامله متّجهين إلى القبلة يومها.
وفي ليلة من تلك الليالي كنّا جالسين فطرق باب الغرفة، وكان الطارق يدعى السيّد المرعشي، وكان له أخٌ يبدو أنّهما توفّيا كلاهما، فتحنا الباب فلمّا وقعت عينه علينا قال: عجيب السيّد محمّد حسين هنا!
وكان واضحًا أنه جاء لزيارة رجل آخر فأعطاه الموظّف العنوان خاطئًا فجاء إلى غرفتنا، وعلى أيّ حال دخل وجلسنا جلسة جميلة، وكان من بين كلامه، أنّه قال: كنّا في النجف عند السيّد روح الله (يعني السيّد الخميني) وكان عنده الشيخ نصر الله الخلخالي والذي توفّي هو الآخر، وجرى الحديث حول ما إن كان بإمكان الإمام عليه السلام أن يطلّق زوجة الرجل أم لا؟
فقال الشيخ نصر الله: إنّ مثل هذا الكلام لا يصدر حتّى من الحاجّ الفلاني بائع اللبن!!، حيث كان هناك بائع للبن عربيٌّ يقع دكّانه في أوّل زقاقهم؛ فكان يقول: إنّ هذا الكلام لا يصدر حتّى من بائعي اللبن!!، فضحك الآخرون.
لقد أصابنا نحن العجب من هذا الكلام، ولكن يبدو أنّه [السيد المرعشي] كان راضيًا بالأمر، وحينما خرج، قلت للمرحوم العلاّمة: ما هذا الكلام الذي ذكره هذا السيّد؟!، فأجاب: يا سيّد محمّد محسن، وأيّ فهم للدين يمتلكه هؤلاء!!، بحيث يقول ذاك: إنّ مثل هذا الكلام لا يصدر حتّى من الحاجّ الفلاني بائع اللبن! ولا يخفى أنّ الكلام هنا طويل، وتتفرّع عليه بالتدريج بعض المسائل الفقهيّة، بحيث تصير المسألة دقيقة جدًّا...
ذات مرّة، حينما كنت في قمّ، في تلك السنة التي بعثني فيها المرحوم العلاّمة إلى هناك، دعوني لاعتلاء المنبر في شهر رمضان، مع أنّه لم يكن لديّ رغبة في ذلك، وعندما شرعت في الكلام، ويبدو أنّه كان في شرح دعاء أبي حمزة، دخلنا في مسألة هل إنّ للإمام اطّلاع على كافّة أسرارنا الوجوديّة، فبدأنا البحث عن الحكم الشرعي لهذه المسألة؛ وهكذا، أردنا أن نلج بالتدريج في البحث، لكنّه، وقبل أن نفتح البحث في صلب المسألة، ارتفعت الأصوات من جميع الجهات، من الناس ومن الحضور، فلم أتمكّن بعد ذلك من الولوج في البحث أكثر؛ وقد كان من رحمة الله تعالى ولطفه أن بدؤوا في الإشكال، وإلاّ، فقد كنت أنوي الحديث عن بعض الأمور الأخرى! وحاصل الكلام أنّني أجبتهم عن إشكالاتهم، وانتهى الأمر؛ ثمّ وقعت بعد ذلك تلك الأحداث التي لديكم اطّلاع عليها؛ فحتّى قبل أن أدخل في صلب الموضوع، بدأ الاعتراض من الأعلام؛ وخلاصة القول: مَن هذا الذي تمكّن من معرفة الإمام؟!
هذا، مع أنّ هذه الأمور ليست بشيء، ولا علاقة لها بمرتبة الإمامة، بل هي من مستوى التلامذة المبتدئين في الطريق؛ فقولنا: «إنّ الإمام له اطّلاع على أمورنا» إهانة للإمام وأقلّ من شأنه؛ لأنّ إحاطته عليه السلام بنا إحاطةٌ عِلّية، لا مجرّد إحاطةٍ إخباريّة.
من باب المثال، هل تعلمون ما الذي أريد قوله الآن؟ فأنا الآن أريد أن أذكر جملة، لكن قبل ذلك فمي مغلق، ثمّ أعزم على ذكر تلك الجملة، لكنّني إلى الآن لم أنطق بها بعد! فقبل أن أفعل ذلك، فإنّ الإمام عليه السلام له اطّلاع عليها، لماذا؟ لأنّها كانت منتقشة في نفس الإمام قبل ذلك، هل التفتّم؟ فهو له اطّلاع على الأمر الذي لم أقله ولم أعلم به بعدُ؛ وهذا أقلّ شيء في حقّه عليه السلام! وحينئذ، نسأل: أيّ واحد من هؤلاء الناس تمكّن من معرفة الإمام عليه السلام؟!! ومن هنا كان المرحوم العلاّمة يقول: لقد أتينا إلى مشهد، لكي يتعرّف أولئك الناس الذين قدّموا دماءهم لأجل الإسلام على الإمام، ولكي نُعرّفهم عليه؛ ونقول لهم: الإمام هو بهذا الشكل، وهذا طريقه، فلا تضلّوا السبيل! هل التفتّم؟!
رحمة الله عليه، فقد كان حقًّا ـ وأقولها بضرس قاطع ـ هو العارف بالإمام، وأمّا الباقون، فنحن إنّما نعرف و نبيّن صورةً ونسخة فوتوغرافيّة عن تلك الأمور والمسائل التي بيّنها هو عن الإمام، مع أنّ النسخة الفوتوغرافيّة قد تبدو أحيانًا سوداء، وقد تسقط منها بعض العبارات.. هل التفتّم؟!
فمن هو عليّ الزمان؟ إنّه رجل واحد وحسب [يعني صاحب الزمان عليه السلام]! ومن هو حسين الزمان؟ إنّه رجل واحد وحسب! ومن هو الإمام الصادق في هذا الزمان؟ إنّه رجل واحد وحسب! ومع كلّ هذا، يذهب السيّد الفلاني في زمان الثورة وفي عهد الشاه إلى تبريز، ويعتلي المنبر، ويقول بلهجة تركية: «يا أيّها الناس، إذا أراد أحد منكم أن يرى الإمام جعفر الصادق في هذا الزمان، فإنّني سأزوّده بعنوانه: فليشتر تذكرة حافلة تُقلّه إلى طهران، وينزل في "شمس العمارة"، ثمّ ليستقلّ الحافلة التي تتوجّه إلى قمّ، وبعد أن يصل إلى قمّ، فليذهب إلى زقاق (أرك)، وليقف عند باب منزل آية الله العظمى شريعتمداري، ولا يدخل مباشرةً، بل عليه أن يقرأ أوّلاً إذن الدخول ـ وصدّقوني [هذا عين كلامه] فأنا لا أذكر لكم هذا الكلام من عندي، ولو كلمةً واحدةً منه!! ـ ، ثمّ يدخل بكلّ أدب إلى المنزل، ليجد هناك الإمام جعفر الصادق المختصّ بهذا الزمان» .
إنّ على هذا السيّد أن يقف للحساب على جميع هذه الكلمات. علمًا أنّه قد أتى بنفسه بعد ذلك عندما انقلبت الأمور، و [قال كلامًا عكس ذلك]... واويلاه على هذه الدنيا.. واويلاه على ما يقع فيها! انظروا إلى ما نفعله بدين الناس!
علينا ألاّ نضحك عندما نسمع هكذا كلام، فقد نكون نعاني من نفس الأمر، ولنحذر من أن يأتي يومٌ، ونكون نحن أيضًا على نفس هذه الشاكلة! فحينما تنقلب الأمور، قد يأتي الإمام جعفر الصادق، ويقطع تلك الفاصلة الزمانيّة، ويفضح المدّعي؛ هل التفتّم؟ وقد سمعت بأذنيّ هاتين تلك المسائل؛ حيث ذهب ذلك السيّد إلى تبريز مرّة أخرى، وقال: «يا أيّها الناس، اعلموا أنّه لو فُرشت أدراج هذا المنبر من أوّل درج إلى آخره بالقرآن، فإنّ هذا الرجل [يعني شريعتمداري] سيضع رجله على القرآن ويدوس عليه، لكي يرتقي إلى أعلى المنبر!» يا للعجب! ما الذي حدث؟! ماذا حصل لإمامك الصادق؟!! وأين ذهب؟!! هل التفتّم؟! إنّ هذه المسألة تستدعي التأمّل كثيرًا!
فقرات تحتاج إلى التأمّل من دعاء الافتتاح
أجل، لقد فكّرت كثيرًا في هذه الفقرات التي وردت بشأن الإمام (عجّل الله فرجه الشريف)، وفيما تحكي عنه:
ـ «اللهمّ اجعله الداعي إلى كتابك»: أوَليس الإمام عليه السلام بداع إلى الكتاب؟! فما معنى هذا الدعاء إذن؟! هذه مسألة!
ـ «والقائم بدينك»: وهذه مسألة أخرى تحتاج إلى كثير من البيان لو أردنا أن نلج فيها.
ـ «استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله، مكّن له دينه الذي ارتضيته له»: مكّن له ذلك الدين الذي ترتضيه أنت ويرتضيه هو، وليس ذلك الدين السائد في الحجاز، أو العراق، أو في تلك المنطقة، أو في المنطقة الأخرى، أو في جميع المناطق، بل ذلك الدين الذي يريده هو؛ فهذا هو الدين الذي نطلب منك أن تُقدره عليه، وتمكّنه منه، وتجعله مستوليًا ومسيطرًا ومهيمنًا عليه.
ـ «أبدله من بعد خوفه أمنًا يعبدك لا يشرك بك شيئًا»: فما المراد هنا من عبارة «يعبدك لا يشرك بك شيئًا»؟! فهل الإمام عليه السلام ـ والعياذ بالله ـ مشرك في عبادته، وفي توجّهه لله تعالى، وفي جهته الربطيّة؟! فمعنى «لا يشرك بك شيئًا»: لا يجعل لك شريكًا في العبادة؛ فصحيحٌ أنّ عبادتنا نحن كلّنا مشوبة؛ وهي على درجات مثل الذهب الذي يكون ذا واحد وعشرين قيراطًا، وثمانية عشرة قيراطًا، وأربعة عشرة قيراطًا، والباقي (عشرة قيراط مثلاً) يجعلونه من النحاس أو الفضّة.
عبادتنا مشوبة بالشرك بخلاف الأعاظم
إنّ عبادتنا ممزوجة كلّها بالشرك، حيث ترانا نذهب للمسجد الفلاني بنيّة أنّه قد يأتي يوم، ونحتاج إلى مساعدة إمام جماعة ذلك المسجد؛ كأن يُساعدنا في تمرير بضاعتنا من الجمارك!! ولا تتعجّبوا، فهذه الأمور موجودة، لكن ليس عند الجميع، بل عند البعض؛ فيُقال لك: صلّ خلف السيّد الفلاني، لكي تستطيع أن تحظى بمساعدة الحاج الفلاني الذي يعمل في الإدارة الكذائيّة!
أو يقال: دعنا نذهب إلى المسجد الفلاني ونصلّي خلف العالم الفلاني، لعلّه ينفعنا في حلّ أمورنا في الإدارة الفلانية! ولقد سمعت أنّ بعض الأماكن [المساجد] يُحجز فيها بعض المواضع المهمّة وتجري فيها صفقات عجيبة، ويتمّ فيها رتق الكثير من الأمور وفتقها، و يا لها من صفقات! فيقال مثلاً: أنت يمكنك الحضور، و أما أنت فلا يمكنك، أو يقال: أنت من حقّك الوقوف في الصفّ الأول، وأما أنت فقد حجزنا لك مكانًا خاصًا، و أمثال ذلك!
ومن الواضح أنّ مثل هذه العبادة ستكون عبادةً رفيعةً، و أنها ستكون عبادةً خالصةً لله تعالى! [يقول سماحته ساخرًا:] بل حتّى جبرائيل عليه السلام لا يمكنه أن يحملها؛ و ذلك أنّ جبرائيل إنّما يمكنه أن يحمل الأحمال العاديّة والخفيفة، و أما الأحمال الثقيلة فلا يقدر عليها، وأمّا هذه العبادة فإنّها تضاهي جبل اُحد في ثقلها، ولذا فإنّ جبرائيل لا يمكنه حملها، و لذا فإنّه يتركها على الأرض و يذهب بدونها!
أجل، هذا يذكّرني بما يحصل بعض الأحيان عندما يأتيني بعض الرفقاء بمبلغ من الحقوق الشرعية، و قد وضعه في ظرف، و الناظر للظرف يجد أنّه ظرفٌ كبير ملئان، و لكن عندما تفتحه تجد أنه قد ملئ بأوراق نقدية من الفئة الصغيرة مثل الألف تومان!
يا عزيزي، قد كان بإمكانك أن تحول هذا المبلغ إلى أوراق ذات فئة كبيرة وبدلا من هذا العدد الكبير من الأوراق ذات الفئة الصغيرة، كان يمكنك أن تحضر عددًا قليلاً من الأوراق ذات الفئة الكبيرة، [يقول سماحته ممازحًا]: وذلك أنّ الملائكة لا يمكنهم أن يعدّوا هذا العدد الكبير من الأوراق، لأنّهم يتعبون من ذلك، فلا داعي لأن تجعل الظرف كبيرا بهذه الطريقة، حتّى لا تتعب الملائكة من العدّ و تترك الأمر لأشخاص آخرين غير الملائكة ليقوموا هم بالعدّ! طبعًا كان هذا مزاحًا، أو ربما كان فيه بعض الجدية، لا أدري!
أجل إنّ عبادتنا بهذه الطريقة، فنحن نقول: دعنا نذهب إلى المسجد الفلاني فإنّ مريدي إمام الجماعة أشخاص متمكنّون ويمكنهم مساعدتنا، فلنذهب ونتعرّف عليهم، أو نقول: دعنا نذهب إلى مسجد السوق فإنّ الصنف الفلاني من الناس يذهبون إلى هناك، أو نسعى لنأخذ موعدًا من الشخص الفلاني ليساعدنا في المشاركة في صلاة الجماعة خلف فلان من الناس. إنّ جميع هذه الأعمال و العبادات مشوبةٌ بالشرك، كلّها فيه شركٌ؛ فمثل هذا الشخص يصلّي ، ولكن عندما يأتي يوم القيامة يقال له:
إنّ صلاتك في الليلة الفلانية لم تسجّل لك و لم تحسب!
فيجيب: أنّى ذلك؟! لقد سعيت جاهدًا و أنفقت مالاً، ووسّطت أشخاصًا حتّى سمحوا لنا بالحضور في هذه الصلاة، وقد أتيت من مكان بعيد إلى هذا المسجد...
فيقال له بكلّ حزم: لا يوجد شيءٌ في ملفّك!
رحمة الله على الشيخ المطهّري، فقد كان يأتي في أوقات إحياء ليالي القدر إلى مسجد القائم، وكان يأتي متأخرًا بعض الشيء لأنّه كان ملتزمًا بإقامة الأعمال في مكان آخرٍ، و لكنّه كان ينهيها هناك بسرعة، ثم يطلب من سائقه أن يوصله إلى مسجد القائم ليشارك في إحياء تلك الليالي هناك فيما بقي من الليل، وقد انتبهتُ لحضوره رغم أنّه كان يحضر بشكل خفيّ؛ حيث أنّ السيّد العلامة الطهراني ـ رضوان الله عليه ـ كان قد أمره بأن يأتي دون لفت نظر، وأن يحاول ألاّ يعرف أحدٌ بحضوره؛ ولذا كان يجلس في آخر المجلس، ثمّ كان ينصرف بسرعة فور انتهاء مراسم الإحياء. أجل، هذا يُسمّى إخلاصًا، وهكذا يكون الإخلاص.
كان يمكنه أن يأتي ويجلس في الأمام إلى جانب السيّد الوالد رضوان الله عليه، ويسأله عن أحواله، و يتحدّث معه ربع ساعة؛ ولكنّه لم يكن يفعل ذلك، بل كان يأتي بهدوء ويستفيد بصمت، ويأخذ نصيبه من المجلس ثمّ يغادر دون جلبة أو لفت نظر. هؤلاء هم الذين فازوا وربحوا، و هؤلاء عملهم صحيحٌ وصائبٌ.
إنّ عباداتنا بأجمعها بهذا الشكل، فلو دقّقنا النظر فيها لوجدنا أنّنا نصلّي لأجل كذا، و نذهب إلى المسجد الفلاني لأجل المصلحة الفلانية، ونفعل العمل الفلاني لأنّه يمكن أن ينفعنا يومًا ما. كلا، لا ينبغي ذلك، بل يجب أن تكون العبادة ـ وليس المقصود بالعبادة خصوص الصلاة فقط، بل تشمل كلّ عمل ـ خالصةً لوجه الله، فكلّ عملٍ يؤدّيه الإنسان و السالك يجب أن يكون الهدف منه هو الله تعالى، و هذا ليس بالأمر الهيّن، بل هو أمرٌ عسير ويحتاج إلى المجاهدة و العمل للوصول إليه، والله يمتحن الإنسان و يختبره. أجل يجب أن يجعل الإنسان هدفه الوحيد هو الله تعالى، و أن يطلب من الله العون على ذلك، و يسأله أن يساعده عليه.
ذات يومٍ في زمان الشاه (وقد كنت صغير السنّ حينها)، وكان السيّد الوالد رحمه الله قد عاد من زيارة كربلاء، فجاء بعض الأفراد الذين يصلّون في المسجد بانتظام لزيارة الزوّار، وفي وسط الكلام قام أحدهم وجاء إلى السيد الوالد حاملاً بيده رزمة سمينة من المال، و قدّمها لسماحته!
كيف تتصوّرون ردّة فعل السيد الوالد على ذلك؟ أنا قلت في نفسي: سوف يضربه الآن كفًّا على وجهه! ولكنّ السيّد العلاّمة رضوان الله عليه كان من أهل المراعاة والمداراة، فلم يفعل ذلك بل نظر إليه وقال بحزم:
ما هذا أيّها السيّد؟!
فأجاب: سيّدنا، هذا خمس و حقوق شرعية.
فقال له السيّد الوالد بحزمٍ: أرجعه إلى جيبك. حتّى الآن إلى من كنت تدفع الخمس؟ ومن كنت تقلّد؟
فقال: أقلّد فلانًا (والظاهر أنّه كان السيّد الخميني).
فأجابه السيّد الوالد: اذهب إلى السيّد محمّد صادق اللواساني۱، و أعطه المبلغ.
فاحمرّ وجه الرجل حتّى صار كالشمندر، وعاد إلى مكانه و جلس متأدّبًا، ثمّ بعد ذلك وعندما أراد هذا الرجل أن يغادر، همس السيّد الوالد في أذنه قائلاً: (و لا تذكر اسمي عنده!). أجل هكذا يكون الإخلاص، و علينا أن نتعلّم هذا الأمر، أجل يجب علينا أن نتعلّم هذا المنهج وهذا الطريق.
ولو كان شخصٌ آخر مكانه (و نحن نعرف هذه الأمور، فنحن قد عشنا في هذه الأوساط و نعرفها) لقال له: "عندما تذهب إليه فأرجو أن تبلغه سلامنا"، أجل "أبلغه سلامنا"!
أجل بهذه الطريقة صار سماحته السيّد محمّد حسين، ووصل إلى تلك المراتب، فالإنسان لا يستيقظ من النوم صباحًا ليجد نفسه قد صار عارفًا! كلاّ ليس الأمر بهذه البساطة، بل ذلك يحتاج إلى عمل و جهاد و حساب و كتاب.
ولا فرق بيني و بينكم في هذا الأمر، فأنا ابن العلامة الطهراني إذا عملت فسوف يعطونني كما أعطوه، و إذا لم أعمل فلن يعطوني أيّ شيء و سيعطونكم أنتم، وإنّ الله لا مزاح عنده في هذا الأمر، وجميع عباده عنده سواسية.
أعتذر من الإخوان فقد تعبت، ولذا نؤجّل بقيّة الحديث إلى وقت لاحق إذا أعطانا الله العمر والتوفيق للقاء الإخوان.
نسأل الله عزّ وجلّ أن يوفقنا إلى طريق الأعاظم، ونطلب منه أن يرزقنا المعرفة التي كانت عندهم، و أن يوفّقنا للعمل بسيرتهم والسير على نهجهم، و أن لا يخرجنا من طريقهم ومسيرهم الذي سلكوه فوصلوا من خلاله إلى الله.
اللهم صلّ على محمّد و آل محمّد.