المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمناسبات الإسلامية
المجموعةعيد الفطر
التاريخ 1429/10/01
التوضيح
خطبة العيد التي ألقاها سماحة آية الله الحاج السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني في يوم عيد الفطر من سنة 1429 هجرية قمرية ، و تناول فيها : تفسير آيات ثم أورثنا الكتاب... ، مبيناً الأمور التالية : 1 انقسام الناس إلى طوائف ثلاث. 2 أغراض دعوة أولياء الله، خصائصهم و منهجهم في التعاطي مع الدنيا. 3 حقيقة العلاقة مع القرآن. 4 السابقون بالخيرات جزاؤهم وأحوالهم. 5 الظالمون لأنفسهم: جزاؤهم وأحوالهم . 6 تكليف الإنسان أثناء طيّ الطريق (شاهد من حياة المرحوم العلامة في النجف). 7 من أيّ الطوائف الثلاث نحن؟ 8 شرح فقرات دعاء صلاة العيد. 9 كيف نحافظ على آثار شهر رمضان؟
هو العليم
تفسير آية (ثمّ أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا...)
خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲٩هـ ق
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمّد لله ربِّ العالمين
والصلاة والسلام على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائِهم أجمعين
مقدّمة الخطبة
الحمد لله الواصل الحمد بالنعم والنعم بالشكر، نحمده على آلائه كما نحمده على بلائه. و نستعينه على هذه النفوس البطاء عمّا أمِرت به، السراع إلى ما نهيَت عنه. ونستغفره عمّا أحاط به علمه و أحصاه كتابه، علم غير قاصر، و كتاب غير مغادر. و نؤمن به إيمان من عاين الغيوب، و وقف على الموعود، إيماناً نفی إخلاصه الشرك، و يقينه الشكّ. و نشهد أن لا اله إلاّ الله، و أنّ محمّداً رسول الله (اللهم صلّ على محمد و آل محمّد)، شهادتان تُصعدان القول، و ترفعان العمل، لا يخفّ ميزان توضعان فيه، و لا يثقل ميزان ترفعان عنه.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد و بها المعاد، زاد مبلّغ، و معاد منجح، دعا إليها خير داع، و وعاها خير واع، فأسمع داعيها و فاز واعيها.۱
بسم الله الرحمن الرحيم
{قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفواً أحد}۱.
[وقفة لمدة ۱۰ ثوان]
اللهمّ صلّ و سلّم وزد و بارك على رسولك، و خاتم رسلك، ومبلّغ رسالاتك، أبي الأكوان بفاعليّته، و أمّ الإمكان بقابليّته، الرسول النبيّ المكيّ المدنيّ التهاميّ القرشيّ، صاحب لواء الحمد و المقام المحمود، أبي القاسم محمّد الحميد المحمود، (اللهم صلّ على محمّد و آل محمّد)، و على أخيه و وصيّه، و صهره و ابن عمّه، و خليفته من بعده، قائد الغرّ المحجّلين، و يعسوب الدين، و إمام المتّقين، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، و على ابنته العذراء البتول الحوراء، و الشفيعة يوم الجزاء، فاطمة الزهراء، و على سبطَي الرحمة و سيدَي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين، و على عليّ بن الحسين، و محمّد بن عليّ، و جعفر بن محمّد، و موسى بن جعفر، و عليّ بن موسى، و محمّد بن عليّ، و عليّ بن محمّد، و الحسن بن عليّ، و الحجّة الخلف المنتظر المهديّ صلواتك و سلامك عليهم أجمعين.
اللهمّ عجّل في فرجهم، و سهّل منهجهم، واجعلنا من شيعتهم و مواليهم و الذابّين عنهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبيرُ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فيها حَريرٌ ، وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ، الَّذي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فيها لُغُوبٌ}۱
تفسير آيات "ثم أورثنا الكتاب..."
انقسام الناس إلى طوائف ثلاث:
في هذه الآيات الشريفة يقسّم الله تعالى الناس في دار الدنيا إلى ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: وهم المنغمسون في الشهوات ورغبات النفس والأهواء الدنيويّة والميول الشهوانيّة، لا يدركون شيئاً وراء هذا المتاع الدنيويّ ولا يطلبون سواه.
الطائفة الثانية: في مقابل أولئك، جماعة من الناس أفنوا إرادتهم ومحوا رغباتهم في الإرادة الإلهية فناء تاماً، وحملوا أمتعتهم من هذه الدنيا وحطّوا برحالهم في حريم كبرياء الحقّ.
والطائفة الثالثة: متوسّطة بين هاتين، لم يجعلون إرادتهم منصبّة على الدنيا وشهواتها، ولا جعلوها كالطائفة الثانية متمحّضة في رضوان الله ومسائل الآخرة.
ولكلّ من هذه الطوائف درجتها ومرتبتها الخاصّة في الدنيا التي أسكننا الله فيها وأنزلنا إليها؛ فرغبة كلّ إنسان ومبتغاه وغايته من قضاء هذه الدنيا تختلف عمّا عليه الآخرون، وذلك تبعاً لدرجة تعلّق النفس بالدنيا وظروفها المحيطة به، وتبعاً للخصوصيّات الفرديّة التي يحملها كلّ إنسان، فبعضهم يرى الدنيا مجرّد معبر أو جسر، لا مستقراً ولا مقاماً، فيستفيد منها للعبور والوصول إلى العقبى: «فخذوا من ممرّكم لمقرّكم»، وإنما يستفاد من المعبر للعبور؛ فقد جعِل الجسر للعبور لا للنزول والإقامة؛ فإذا أراد الناس العبور من إحدى ضفتي النهر إلى الأخرى جعلوا على النهر قنطرة يجتازونها، ولم يحدث حتى الآن أن اتّخِذ الجسر منزلاً؟! فأولياء الله يسمّون الدنيا بـ المعبر، فهم يرون الدنيا معبرا لا منزلا، وهم يسخّرون كامل قواهم وعزيمتهم وإرادتهم للعبور:
فهم طوال نهارهم وفي جميع أوقاتهم يفكرون في كيفية الاستفادة من عمرهم وحياتهم للوصول إلى نتيجة أفضل في عالم الآخرة؟
يفكرون في الليالي التي منِحت للإنسان كيف يقضونها لتكون ذخيرة للآخرة؟
أوقات ما بين الطلوعين كيف يقضيها؟
وقتا الزوال والغروب؟ أوقات معاشرتهم مع الناس...فكلّ ما يهمّ الأولياء من تلك الأوقات المهمّة هو العبور والسير لا التوقف والإقامة... أو الإطراق والانحناء..
هذه النظرة هي التي يدعوا إليها أولياء الله، فأولياء الله.. الأنبياء.. الأئمة والعرفاء بالله كلّهم يدعوننا إلى التعامل مع الدنيا كمعبر، لا مسكناً وموطناً،
لماذا؟ لأنّ الله تعالى عيّن لكلّ إنسان مهلة للوصول إلى تلك النقطة من الكمال، و وضع له برنامجاً خاصّاً وجعل له مدّة معيّنة ومهلة مؤقّتة، وكلّ من عمل في هذه المدّة وفي هذه المهلة أمكنه الوصول إلى الغاية، وأمّا إذا أضاع المرء هذه الفرصة وشغل نفسه بهذه الدنيا وركن إلى متاعها، فسوف لن تسنح له الفرصة ثانية، ولن تتفتّح تلك القابليّات ولن تصل إلى فعليّتها, ومهما عمل الإنسان في هذه الدنيا فإنّ رتبته ومنزلته مرهونة بتلك الرتبة والمنزلة التي يحوزها إلى حين موته، لا تزيد عنها ولا تنقص قيد أنملة، فلا بدّ أن يدرس الإنسان جيّداً ما ستكون عليه أفكاره في ذلك اليوم الذي سيفارق فيه الدنيا، عليه أن يدرس حالاته، مستوى شوقه إلى رضوان الله، درجة حبّه للانتقال من هذا العالم إلى ذاك، فهذا ما سيشكّل مرتبته، وهو ما ستكون عليه منزلته، وتلك هي مرتبته من المراتب الوجودية والكمال، فمن كان حين مفارقته للدنيا ذا أفكار سفيهة، وكان همّه البقاء في الدنيا، فلن يتجاوز في عالم الآخرة هذا المستوى، وحتى لو دخل الجنّة، فإنّ جنّته ستكون في ذلك المستوى الداني.
فلا نتوقعنّ إذا قصّرنا هنا أنّا سنعوّض هناك، وسنصل إلى مراتب الفعليّة والكمال في ذلك العالم، لا ليس الأمر كذلك، ففرصتنا الوحيدة للوصول إلى الكمال هي هذه الدنيا لا غير، هذا اليوم لا غير، هذا اليوم الخاص، هذا الشهر الذي ودّعنا، وهذا الشهر الذي يستقبلنا، والشهور الأخرى، لقد عيّنوا لنا هذه المدّة وحدّدوا لنا هذه المهلة فإن استفدنا منها فقد استفدنا، وإلا هلكنا، ولن تعود الفرصة ثانية.
نعم هناك فئتان من الناس يستمّرون في طيّ طريق التكامل ويتابعون سيرهم الطوليّ في مراتب الفعليّة في ذلك العالم، الفئة الأولى: الذين فارقت أرواحهم الحياة في سبيل الله واستشهدوا مجاهدين في الله. والثانية: الذين اختاروا السير إلى الله من خلال الرياضات النفسيّة والانجذاب والشوق إلى الله والهمّة في العبور من النفس، فلو أصاب الموت هؤلاء في وسط الطريق فسوف يشكر الله سعيهم ولن يتركهم في طور النموّ و في وسط طريق التكامل.
أماّ سائر الناس فمهما كانت المرتبة التي هم عليها من مراتب الإيمان، ومهما كانت رتبة إخلاصهم ورتبة عدم تعلّقهم بالنفس والدنيا، ورتبة تخلّصهم من الهوى، فإنّهم بمجرّد أن يأتيهم الموت يثبّتهم على تلك المرتبة ويختم عليهم، ويقول لهم: هذه رتبتكم، هذا نصيبكم، وما بذلتموه من جهد في الدنيا يوصلكم إلى هذه النتيجة، إلى هذا المستوى من الفهم، إلى هذا الحدّ من الشعور، ولا شيء لكم وراء ذلك.
أغراض دعوة أولياء الله، خصائصهم و منهجهم في التعاطي مع الدنيا
لقد جاء أولياء الله إلى هذه الدنيا التي خلقها الله لنا ليفتحوا أعيننا، ويلفتوا انتباهنا إلى حقائق ما وراء المادة وعالم الشهادة، وليقولوا لنا: ها نحن قد طوينا الطريق، وانتهينا إلى المقصد، ووصلنا إلى المطلوب، لقد بلغنا باستعداداتنا فعليّاتها، وفعلنا ما أمِرنا به، وانتهينا عمّا نهينا عنه، وبذلنا عمرنا وحياتنا في الوصول إلى ذلك العالم، وها نحن الآن نضع تجربتنا بين أيديكم، فانظروا ماذا أنتم صانعون؟ نحن طوينا هذا الطريق ولا يمكن لأحد أن يطوي غير هذا الطريق ويسير
فيه؛ فالسير إلى الله بغير طاعة وانقياد أمر محال، ولا سير إلى الله مع التعامي عن الحقائق، والاستخفاف بالمطالب المهمّة والتعامل معها بسطحيّة، كما لا سير إلى الله بغير التخلّي عن الميول والرغبات والأهواء الشيطانيّة، والسير إلى الله لا يتمّ بغير رمي التخيّلات بعيداً, ورفس التوهّمات بالأرجل, والعبور من عالم الخيال والوهم إلى عالم المعنى والعقل. صحيح أنّ جميع الناس في حركة، وليس فيهم متوقّف، ولكن ما هو اتجاه حركتهم؟ فهذا أمر آخر.
لقد جاء أولياء الله وأنبياؤه لتنبيهنا ولندرك مكانة أنفسنا؛ فلا نقف يوم القيامة بين يدي الله قائلين: ربّنا كنّا في الدنيا بغير هاد ونذير، كنا بغير قائد وعالم ومعين، لقد كنا في الدنيا نعيش الغربة والوحدة، ولم يكن بيننا من خبير أو بصير، كان بإمكاننا أن نسير، لكننا لم نكن نعرف الطريق، لقد كنا نشتاق إلى بلوغ الكمال ونيل مقام القرب والتجرّد، غير أنّا لم نكن على اطلاع بكيفيّة السير إليه، فيقول الله حينها: تفضّلوا هذا هو القائد وهذا هو الهادي والخبير البصير، وهذه أيضاً المطالب التي وضعناها بن أيديكم، ولكنّكم لم تلتفتوا إليها، واستخففتم بها، وأنتم لم تعملوا بما أوصاكم به هؤلاء، وقلتم هذه المسائل إنّما تتحقق بنفسها، وزعمتم أن ليس للعمل بهذه المسائل تلك الأهميّة وذلك المردود، وصرّحتم بأنّ على الإنسان أن يتفرّغ لأمور الدنيا، وذكرتم أنّ على الإنسان أن يقدّم مصالحه الخاصة على مرضاة الله، ألم تقولوا ذلك؟! ألم تصرّحوا بذلك؟! حسناً فانظروا الآن أيّ شيء خسرتم؟! وأيّ جوهر أضعتم؟! وانظروا إلى المقام الذي ناله أولئك الذين وصلوا وأصغوا وأجابوا دعاة الله؟ ثمّ انظروا يوم القيامة{يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن}۱يوم يرتفع عالياً نداء{يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله}٢، حيث سيرى الحقيقة من لهث وراء تلك التخيّلات و سيعرف رتبته من عدّ مطالب الحقّ لهواً ولعباً، وأشغل قلبه بهذه الحياة الدنيا، وأمّا من رأى هذه المطالب حقاً، وعمل بها جاداً، فإنّه سيرى نتيجة أعماله في هذه الدنيا، ولا ينتظر الآخرة في ذلك، نعم في الآخرة يزداد الأمر وضوحاً ويزاح الستار بنحو كامل.
إذن من هم أولياء الله؟ أولياء الله هم قوم لا يختلفون عنّا أبداً, فهم ليسوا أناسا بلا ميول، وليسوا بلا إرادة، ولا تختلف فطرتهم عن فطرتنا ولا تختلف أبدانهم عن أبداننا، وليسوا بغير عقل ومنطق، وليسوا مجرّدين عن الصفات والخصائص البشريّة، إنّهم يمتلكون كلّ ما نملك: تلك الميول التي عندنا موجودة عندهم، وذلك الحبّ للنفس والتعلّق بالذات الذي نشهده في أنفسنا كان موجوداً عندهم أيضاً في يوم من الأيّام، وربما كان يفوق ما هو عندنا، بيد أنّهم جاؤوا وكانوا أذكياء، كانوا يتّصفون بالكياسة فـ«المؤمن كيّس»٣المؤمن ذكيّ، المؤمن يتحيّن الفرص، المؤمن من الذين يستفيدون من كلّ فرصة للوصول إلى الهدف.
نحن أتينا وصرفنا هذه النعم الإلهيّة وأنفقنا رؤوس الأموال التي وهبنا الله في إقامتنا ها هنا. أمّا أولئك فكانوا أذكياء، وكانوا ذوي فطنة، فذهبوا وأنفقوا رؤوس أموالهم في سبيل تلك الناحية وبلوغ ذلك العالم؛ فنفس هذه المحبّة جعلوها لله، ووجّهوا ميولهم نحو الله، فتركوا رغباتهم و تجاوزوها في سبيل الوصول إلى الله، وداسوا على أنفسهم ابتغاء رضوان الله، وتحرّّكوا خلافاً لمشتهياتهم من أجل التخلّي عن الهوى، فكانت كلّ حركة منهم بدرجة، و كان كلّ ترك قاموا به بمرتبة، و كلّ معبر قاموا بعبوره كان مؤديا لطي مرحلة من مراحل التجرّد و القرب حتّى وصلوا إلى ما وصلوا. بینما أتينا نحن و أنفقنا في الدنيا.. أتينا وأنفقنا فكرنا في عمران الدنيا.. أنفقنا ميولنا في اللذّات؛ فأدّت الغفلة إلى ستر حقائق ووقائع عالم الغيب وما وراء المادّة.
هذه هي الحقيقة، لا أنّنا لا نملك ما يملكون، أو أنّهم لا يملكون ما نملك، لا ليس الأمر كذلك؛ فكلّ واحد منها لديه قابليّة الوصول إلى مقام الخلافة الإلهيّة، ولكنّنا لم نقم بترتيب الآثار على ذلك، و كلّنا يستطيع بلوغ تلك المرتبة التي صار أولياء الله مستغرقين بها في أنوار الحق وبهائه وجلاله، ولكنّ حقيقة الأمر أنّنا أخذنا الأمر باستخفاف، بينما هم لم يفعلوا ذلك.. هم لم يتصرّفوا مع الأمر على هذا النحو.
حقيقة العلاقة مع القرآن
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}۱؛ نحن أعطينا الكتاب للناس، كخطة للسير والعبور، ووضعنا القرآن باختيارهم، وعلّمنا الناس آياته. فكم مرّة قرأنا آيات القرآن بتدبّر، هل حصل حينما كنّا نقرأ القرآن أن وقفنا عند كلّ آية من الآيات وتدبّرناها؟ وهل وقفنا أنفسنا على مضامين تلك الآيات؟ هل نحن مصاديق لتلك الآيات أم لا؟ هل حصل حتّى الآن أن قمنا بذلك؟
ما هي الفائدة المتوقّعة من تلك القراءة التي نقوم بها في شهر رمضان حيث قرأنا كلّ يوم جزءاً من القرآن، وأرضينا أنفسنا بذلك لأنّنا أتممنا دورةً كاملة، وهو أمر جيّد طبعاً، ولا أقول أنّه غير صحيح، ولكن كيف يمكن لهذا النوع من القراءة و التلاوة أن يكون مفيداً لحال الإنسان؟ وما هي قدرته على جعله يتحرّك ويسير؟ إذا قرأنا آية من القرآن، وتأمّلنا فيها.. وتأمّلنا نصف ساعة في الآية.. تأمّلنا ساعة في تلك الآية؛ فإنّ ذلك التأمّل يدفعنا إلى الأمام بمقدار قراءة دورة كاملة من القرآن.
فلمن أرسِل الرسول الأكرم بهذه الآيات؟ هل من أجل قراءتها بهذا الشكل ثم المرور دون أن نُشرِف على معانيها ودون أن نفهم؟ أفهل انتهى الأمر بمجرّد نزول القرآن على النبيّ؟ وهل لم يعد لنا أيّ عمل نقوم به؟
لا ليس الأمر كذلك، إنّ هذا القرآن قد نزل علينا نحن، إنّ هذا القرآن نزل على نفوسنا، إنّ هذا القرآن قد نزل على كلّ واحد منّا بعینه، فكلّ الأفراد الحاضرين في هذا المجلس، نزل القرآن على كلٍٍ واحد منهم، وذلك من أوّل سورة الحمد إلى آخر سورة الناس، لقد نزل القرآن علينا آية آية، ولكنّ حقيقة الأمر أنّنا لم نلتفت
إلى ذلك. واعتقدنا بأنّ القرآن قد نزل قبل ۱٤۰۰ سنة و أن جبرائيل نزل به على النبيّ، وانطوى بعد ذلك ملفه و انتهى.
ثمّ بعد ذلك، يقولون اليوم: إنّ هذه الظهورات، تختصّ حجّيتها بأولئك الذين كانوا في زمن الخطاب، والذين كانوا مشافَهين بالخطاب، وحيث أنّ الزمان قد مضى عنهم، إذن ليس هنا أيّ معنى لهذه الظهورات، إلاّ أنّنا نقرأ القرآن بعنوان الاستحباب فقط.
هل وصل الأمر إلى هذا الحدّ؟ وهل هذا هو المقصود من الأمر بتلاوة القرآن؟
جيّد، إذا كان الأمر كذلك، فهناك الكثير من الأعمال، هناك الكثير من الأعمال التي يستحبّ للإنسان أن يقوم بها، فلماذا عليهم أن يأتوا ويقرؤوا القرآن؟ وكيف لهذه الآيات القرآنيّة بعد ذلك أن تكون مفيدةً لنا ومؤثرة في أحوالنا؟
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}۱، فهل کان الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ يفكّر كما نفكّر نحن!! وهو الذي تتغيّر أحواله عندما كان يقرأ سورة الحمد، و كان يكرّر آية{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}٢ حتّى يغشى عليه و يغيب عن الوعي فيقع على الأرض؟ وهل كان يقرأ القرآن كما نقرؤه نحن؟ هل كان كذلك؟ هل كان الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ يقول: إنّ ظهور القرآن مختصّ بمن كانوا مخاطبين به، أو كانوا مشافهين بالخطاب؟ أم أنّ الأمر لم يكن كذلك، والإمام الصادق ـ عليه السلام ـ كان يرى أنّ القرآن له، وأنّه عليه السلام ـ كان يرى أنّ القرآن نازل عليه، و أنّه كان يشعر عندما يتلو القرآن بأنّ الله يخاطبه.
ولذلك كان كبار العلماء والعرفاء يوصون بأنّه إذا قرأتم القرآن فتخيّلوا أنفسكم تسمعونه من الله وأنه هو القارئ؛ فعندما يجعل الإنسان نفسه في موقع المخاطب، و في موقع المتلقّي للوحي، تستقبل نفسُه هذه الآيات بشكل مختلف، وسيتقبّل الآيات بطريقة أخرى، وسيتفاعل مع هذه الآيات بنحو آخر؛ عندها ستلاحظون كيف أصبح فهمكم و إدراككم لتلك الآيات، وهل حصل اختلاف أم لم يحصل؟ وهل هناك فرق أم لا؟
لا بدّ من التدبّر في تلك الآيات التي تشكّل كلّ واحدة منها ضربة للنفس وللأنانيّة وآثارها، والتي تمثّل دليلاً على مسيرة الإنسان المستقبليّة.
يقول الله سبحانه وتعالى: لقد وضعنا هذا الكتاب بين أيديهم{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لفْسِهِ}۱، جاء فريق منهم وظلموا، ولم يعتنوا؛ بل أخذوا القرآن ووضعوه على ألواح المكتبات أو في الخزائن، ولم يمسّوه إلاّ في مجالس العزاء، أو حين الانتقال إلى منزل جديد، لينسوه بعد ذلك، هؤلاء هم الذين تقول عنهم الآية{ظَالِمٌ لنَفْسِهِ}هؤلاء الذين نتحدّث عنهم وعن أفعالهم أليس كذلك؟ أو إنّهم يعلّقونه على الجدار للحفظ والأمن؟ لمَ كلّ ذلك؟! ليس هذا هو الاعتناء بالقرآن، ولا هذا هو الاهتمام به!
{وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ}، الطائفة الثانية هي جماعة غير ظالمة، فهي لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
السابقون بالخيرات جزاؤهم وأحوالهم
الطائفة الثالثة: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} هذه المجموعة الثالثة هي عبارة عن الذين جاؤوا واقتلعوا جذور نفوسهم وأصولها من الدنيا بكل ما أوتوا من قوّة؛{سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} فقد كانوا هم السابقين، وفازوا بكأس البطولة من بين الجميع في مضمار السباق، و حطّوا رحالهم في الحرم الإلهيّ، ولم يعتنوا ولم يلتفتوا إلى الدنياً أدنى التفاتة؛ حتّى لا تشغل بالهم وأذهانهم ولو للحظة واحدة، أو تحتلّ من اهتمامهم ولو مثقال ذرّة؛{بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}، هذا هو الفضل الكبير، وهذا هو السبق بالخيرات؛{ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ}، إنّ فضل الله على الناس هو أن ينقلهم إلى حيث الأنبياء و المعصومون،{الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أن ينقلهم إلى تلك المرتبة ولا يتركهم في المراتب الدنيا،{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}٢فهم في تلك الجنّات التي يُدخلهم الله إليها {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} ٣. أما ماذا هناك؟ وما نوع تلك الحليّ التي عندهم؟ وكيف ستكون الجذبات الجمالية لله عزّ وجلّ في ذلك العالم؟ ففي الروایات أنّ المؤمن إذا حانت وفاته شملته الجذبات والنفحات والبوراق الذاتيّة الإلهيّةّ، بحيث لا يلتفت إلى سائر النعم الإلهيّة مما لا یخطر على قلوبنا نحن، نعم إنّه يصل إلى هكذا مراتب.
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}۱ ماذا يقول هؤلاء؟ ما هو ذكرهم؟ ذكرهم{الحمد لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}، فالحمد مختصّ بالله الذي أذهب الحزن عن ذواتنا وأخرجه منّا ومن أنفسنا ومن قلوبنا، فلم يعد لدينا أيّ غمّ أو حزن.
من هو الذي ليس لديه حزن؟ من هو الذي ليس لديه غمّ؟ من هو؟ إنّه من لم يبق في وجوده نقطة ممّا يجب أن یصل إلى الفعليّة إلاّ و قد أوصلها، عند ذلك لن يعود هناك من حزن؛ ألم یرد في الآية الشريفة: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}٢، فأولياء الله ليس لديهم أيّ حزن، ليس عندهم غمّ.
الآن، نحن جميعاً من أهل الحُزن، أيُّ حزنٍ لدينا؟ ليس حزننا على الدنيا، وإنّما حزننا من أجل الوصول إلى الكمال؛ أفلا نشعر بالحزن لوجود النقائص؟ أولا نشعر بآلام الفراق؟ ألا نحزن بسبب الهجران؟ ألا نشعر بحرقة أثناء الانتظار للوصول؟ ألسنا نسعى للوصول؟ ألا يوجد عندنا أيّ قلق؟ أليس لدينا اضطراب؟ ألسنا لا ندري هل سنواجه السخط الإلهي أم الرحمة الإلهيّة؟ أليس هذا هو حالنا؟! بلى كلّ ذلك متحقّق فينا! والجميع قلق، ويجب أن نكون قلقين، فالمؤمن يجب أن يكون قلقاً، يجب أن يسیطر علیه دائماً حال من القلق. الأمل بفضل الله وبرحمته جيّد وله قيمته، ولكن لا بدّ من الخوف والقلق من التوقف في مرحلة معيّنة؛ فلم لا نكون قلقين؟ ولم لا يسيطر علینا الحزن؟ هل أوصلنا كلّ استعداداتنا إلى الفعليّة؟ وهل أدّينا باهتمام كلّ ما أُمرنا به كما هو حقّه؟ وهل عملنا بما یحتوی بالنسبة لنا على الإكسير والدواء، وما تمثّل آثاره ضرورة من ضرورات الحياة؟!
نحن نستخفّ بهذه الأمور، ولا نتعامل معها كما ينبغي، أليس كذلك؟ إذاً فنحن أيضاً لدينا حزن.
أمّا أولياء الله فلم يعد لديهم أيّ حزن؛{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} الحمد هو فقط لله الذي أذهب عنّا الاضطراب، فلم تبق هناك مرتبة تبعث فينا الشوق إليها، ولم يعد في وجودنا نقطة خواء نطمع أن نملأها ونسدّها؛ فقد جعلنا الله في مكان وفي درجة وصلت فيها مراتب وجودنا إلى أقصى حدّ من الکمال {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ، الَّذي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فيها لُغُوب}٣؛ فليس لدينا حزن ولا قلق ولا خوف، ولم يعد ینتابنا شيء منها.
من هم هؤلاء؟ هؤلاءِ هم السابقون بالخيرات، هؤلاءِ هم الذين وصلوا إلى مقام الطهارة؛ هؤلاء هم الذين أوصلوا نفوسهم وثروتهم الوجوديّة نحو الفعليّة؛ هذه إحدى الطوائف.
الظالمون لأنفسهم: جزاؤهم وأحوالهم
في مقابل هؤلاء، قوم وجّهوا ذلك الشوق وتلك الرغبة والإرادة إلى الدنيا وبذلوها فيها ليقضوا أيّامهم، وليكونوا محبوبين بين الناس، و ليكونوا ذوي شأنٍ عندهم، ولتُحفظ مكانتهم بينهم؛ فيجتمع حولهم بعض الناس، ويعقدوا الاجتماعات، وتكون أوضاعهم على أفضل ما یرام، ولا تمسّ شخصيّاتهم ولا موقعيّاتهم.وكلّ ذلك هو من الدنيا كما ترون...
إنّنا نصرف ما يجب أن يُنفق لله في هذه الدنيا، إنّ كلّ ما عندنا هو لله ويجب أن نتركه لله، فالمکانة إن كانت فهي لله، ولكنّنا نأخذها وننسبها إلى أنفسنا، فنُلبس أنفسنا رداء الكبرياء ذاك، أليس كذلك؟
من هم هؤلاءِ؟ هؤلاءِ هم الذين غرّتهم الحياة الدنيا، والله يقول لنبیه في الآية الشریفة: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُون}۱، وفي آيةٍ أخرى یصفهم بأنهم هم الذين یرون أنّ الدنيا هي كل ما نحسّ به قائلاً: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}،٢ {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}، هذه الدنيا فقط، وفقط هذه الدنيا، فسنبقى هنا، لقد اختاروا السكنى هنا فقط؛ فنحن سنعيش هنا، وسنموت هنا،{وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}، لن نُبعث، وليس هناك شيء أمامنا، لا يوجد أيّ شيء يواجهنا بعد ذلك، لا وجود لعالم آخر أمامنا.
جيّد، ما نتيجة ذلك؟ النتيجة ستكون كالتالي: إنّ الله يقول هؤلاءِ اتّخذوا دينهم واعتقاداتهم لعباً ولهواً؛ فجعلوا دينهم ألعوبة: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}وهذه الآية عجيبة جداً، وواقعاً هذه الآية مما تقشعرّ منه الجلود؛ حيث لم يقل ليس لهؤلاءِ دين ـ فالبعض ليس لديه دين، و هؤلاء أمرهم سهل وحسابهم واضح ـ لا! بل قال هؤلاءِ اتخذوا من الدين ألعوبة، هؤلاء جعلوا دينهم لعباً
ولهواً، من أجل ماذا؟ من أجل الاطمئنان والإقامة في الدنيا؛ استفادوا من الدين للإقامة في الدنيا، استفادوا من الدين للوصول إلى ميولهم، إنّهم يطرحون من الدين ما يفيدهم في تحصيل دنياهم فيأتون و يبحثون في القرآن ليأخذوا منه كلّ ما وافق أعمالهم، وليغمضوا عن تلك الآيات التي تُظهر نقائصهم، وكذلك يبحثون عن تلك الروايات التي تثبّت مواقعهم، فإذا مرّوا بما يدعوهم إلى الإصلاح والكفّ عن تلك الأعمال، مرّوا كراماً.
من هم أولئك؟ إنّهم الذين اتخذوا دينهم لعباً، وهم أفراد يقولون: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}، فلو أنّهم كانوا يقولون: نحن مبعوثون؛ فهل كانت أفعالهم على هذه الشاكلة؟ وهل كانت تصرّفاتهم بهذه الطريقة؟ إذاً، هم قطعاً لا يؤمنون بالبعث، و لا يعتقدون بيوم القيامة؛ حتّى لو كانوا يدّعون ذلك ظاهراً. فأمثال هؤلاء يشكّلون 'طائفة أخرى في مقابل تلك المجموعة.
وفي مقابلهم أيضاً، نجد مجموعةً أخرى من الناس قضوا حياتهم في اتّباع أهوائهم و شهواتهم، قال تعالى: {وَ الَّذينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}۱، أولئك الذين كفروا بآياتنا.. ستروا الحقيقة و أغمضوا أعينهم، إذ أنّ{كَفَرُوا} تعني: أغمضوا أعينهم و أخفوا الحقّ، و ليس المقصود من الكفر هنا، ذاك الكفر الاصطلاحيّ، فهو أحد مصاديق الكفر؛ إنّ أولئك الذين أغمضوا أعينهم..{لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}، ما أعجب هذه الآيات! إنّها لآيات عجيبة جدّاً! يقول: لن نُميتهم في النار و في جهنّم، بل سنحافظ عليهم أحياءً، و سنجعل النار تحيط بهم من كل جانب،{لا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا}، فهم دائماً يستغيثون و ينادون أن: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}٢، يا ربّ، أخرجنا من هذه النار، وأعدنا إلى الدنياـ إنّ كلّ هذا الذي يصوّره الله سيحصل واقعاً ها! ونحن سنرى ذلك! يقولون: {أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أرجعنا إلى الدنيا و نحن نتعهّد بأن نعمل أعمالاً صالحة، غير الذي كنا نعمل؛ فقد رأينا الآن عاقبتها. يا للعجب! فيجيبهم الله سبحانه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نصِير}٣، أولم نعطكم في هذه الدنيا مهلةً كبيرةً تكفي لكي تفهموا؟ ألم نعطكم عمراً مديداً؟ ألم نمهلكم مدّة طويلة؟ ألم نعطكم مكاناً لتفكّروا و تتأمّلوا؟ ألم نعِظكم وننصحكم، و نقدّم لكم الكثير من العبَر؟{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم}، أفلم نعطكم المهلة بالمقدار الذي يكفيكم؟ ها..؟!{وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ}؛ و من ناحية أخرى، فقد أتاكم من ينذركم و يبيّن لكم الحق و يتمّ عليكم الحجّة.
ما المقصود بالنذير؟ هل هو النبيّ؟ لا! إنّما النبيّ أحد النُّذر، فالنبيّ قد جاء قبل ۱٤۰۰ سنة؛ المقصود بالنذير: القرآن الموجود بأيدينا، فهو "نذير".. آيات القرآن "نذير"، ذاك القرآن الذي نضعه في الخزانة ونقفل الباب عليه دون عناية أو اهتمام، سيأتي يوم القيامة ويقول: ألم أكن نذيراً؟ أولم يكن الأئمة نُذراً؟ ألم يكن الأولياء الإلهيّون، و العظماء، و تلك الكتب التي كتبوها، وكل تلك الصفحات نُذراً؟ إنّ
كلّ صفحة عبارةٌ عن "نذير".. و كل كتاب "نذير"، وكل موضوع صدر من شهودهم فدوّنوه في كتبهم.. كلّ واحدٍ منها هو "نذير".
ألم نضع كلّ هذه النُذر بين أيديكم؟ ألم تضعوها فی مکتبات النسیان؟ ها؟! هل فتحتم تلك الكتب؟ هل قرأتم ما فيها؟ لماذا لم تقرؤوا؟ و لماذا لم تعتنوا بتوصيات أولياء الله و نصائحهم؟ لماذا لم تقرؤوا و لم تتعلّموا ثمّ تطبّقوا ما تعلمتموه؟ {وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ}.
أمّا الآن، و بعد تقصيركم في ذلك كلّه؛{فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}، فالآن حيث أنّكم أضعتم كلّ الاستعدادات التي كانت عندكم، فليس هناك مجالٌ آخر للعودة، فهذا هو مستقرّكم الأبديّ.
لقد أتيتَ، واستهزأتَ بهذا الطريق مستهتراً ضاحكاً، و قضيتَ عمرك بقول "ليتَ و لعلّ "، ثمّ استهزأت أيضاً بأولئك الذين جاؤوا مذكّرين، وسخرت منهم ضاحكاً. كنتَ تقول: عند من ذهب فلان؟ و مع من يتعامل؟ وما هي قيمة هذا الطريق؟ إنّ هذه المسائل عاديّة.. لا أهميّة لها، فلا ينبغي للمرء أن يصرف عمره فيها و يضيع أوقاته في الأذكار و الأوراد و الاهتمام بهذه الأمور التافهة!!
لقد سخرت و استهزأت حتّى انتهى بك الأمر إلى هنا! جيّد جداً!{فذوقوا}، تفضّل و تذوّق نتيجة تصرّفاتك.
تكليف الإنسان أثناء طيّ الطريق (شاهد من حياة المرحوم العلامة في النجف)
على الإنسان في طيّه طريق الهداية، طريق رضوان الله و السلوك إليه، ألاّ ينظر أو يلتفت يميناً و شمالاً؛ عليه أن يراقب نفسه و يهتمّ بما يعنیه فقط، فـالاهتمام بـ"ما قال فلان، أو ماذا فعل فلان " لا یروي غلیل الإنسان، و لا ینفعه..{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}۱، التفتوا لأنفسكم.. ولا تسمعوا لمن يقول: إنّ هذا الطريق باطل و غير صحيح. فلعلّ هذا القائل لا يريد أن يسلك هذا السبيل، ولعلّه يريد أن يبقى على حاله دون ترقّ، قابعاً في الجهل و الخسران!! فلماذا نهتمّ نحن بكلامه؟! بينما لا نعتني بكلام أولئك الأولياء و العرفاء الذين جاؤوا وعرضوا الأمور صادقة حقّة! فلم لا نعتني بهم؟ لماذا؟
لماذا نهتمّ بالمواضيع التي يطرحها أو يكتبها البعض بسبب الجهل و عدم الاطّلاع وبسبب عدم الوصول إلى تلك المراتب؟! بينما لا نلتفت ولا نعتني بهؤلاء الذين نعلم قطعاً أنّهم أعلى وأشرف مرتبةً من حيث الصفاء و الصدق و الإخلاص؟! لماذا لا نلتفت إليهم؟
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}۱، إذا اهتدى الإنسان إلى طريق الحقّ و سار فيه، فلن يكون بمقدور التائهين أن يوسوسوا في صدره مهما قالوا أو فعلوا، و مهما زعموا أن: ليس في هذا الطريق و هذه المطالب من فائدة! ومهما قالوا: إنّ هذه المسائل هي مسائل قديمة، أكل الدهر عليها و شرب، فليقولوا ما يشاؤون، فليس ذلك إلاّ من ضلالهم و جهلهم؛ فمن يتذوّق طعم النعم الإلهيّة، ويتنعّم بنفحات عالم القدس، فعندها حتى لو فرضنا أنّ في الكتب وعلى ألسنة الناس اعتراضات، فلا ضير لأنه يعلم الحق{لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ}، فما دمتم قد اهتديتم وما دام الطريق واضحاً أمامكم، فأيُّ ضرر سيلحق بكم من كلامهم؟
{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَميعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُون}٢، فكلّكم ستعودون إلى الله.. ذاك الذي استهزأ بالله سيعود، كما أنّ ذلك الذي طبّق ما تعلّم، و عمل بما علم فوصل إلى مقصده سيعود إلى الله. و هناك حينما يصل الجميع إلى ذلك العالم، سيصبح من المعلوم أين مكان هذا وأين مكان ذاك! و هناك سيصبح معلوماً هل الحقّ مع هذا الذي استهزأ و استخفّ؛ أم مع ذاك الذي لم يعتنِ بالاستهزاء و الانتقاد، فأحنى برأسه إلى أسفل، ثمّ استمرّ في طريقه بثبات و استقامة.
كان أحدهم يتحدّث مع المرحوم الوالد ويشتكي من بعض أقاربه الذين يلومونه قائلين: لماذا تتّبع هذا السيّد؟ فهو صاحب أفكار عرفانيّة و صوفيّة، ألست أنت عالماً فاضلاً؟! أيصحّ أن يسلّم الإنسان نفسه لآخر و يتّبعه هكذا؟! أم هل يجوز أن يودِع إرادته في يد آخر؟! فلتقدْ نفسك بنفسك، فأنت عالم كبير و صاحب شأن عظيم!... و كلاماً من هذا القبيل، فالتفت إليه المرحوم الوالد و قال له: أخي العزيز، عندما كنّا في النجف، كانوا في كلّ يوم يسمعوننا الكثير من هذه الترّهات، و لكنّنا "وضعنا في أذننا قطعة كبيرة من القطن!"، بحيث لم نكن نسمح بورود ذاك الكلام إلى آذاننا أصلاً، فضلاً عن التفكير فيه؛ فقد ذهبنا و قضينا المدّة التي كان علينا أن نقضيها هناك، ثمّ عدنا سالمين غانمين، دون أن نتأثّر أيّ تأثّر بمثل هذا الكلام. وقلنا لهم: اجلسوا و انتقدوا، و قولوا ما شئتم و ما تريدون. أيّها المساكين، إنّما حرمتم أنفسكم من الانتفاع من هذا الطريق و الوصول إلى الفعليّة و الكمال!
طوطيان در شكرستان كامراني مى كنند | *** | و از تحسّر دست بر سر مى زند مسكين مگس |
اى مگس عرصه سيمرغ نه جولانگه توست | *** | عرض خود مى برى و زحمت ما مى دارى۱ |
لقد مضى هؤلاء العظماء في سبيلهم، فوصلوا إلى هدفهم، و نالوا مرامهم؛ و بعد ذلك يأتي بعض الأفراد مستنكرين معترضين، أن: ما هذه الادّعاءات و الأقاويل؟ إنّما هي أمور باطلة.. لا أصل لها و لا واقعيّة!!
يا عزيزي، لمَ تضِيع وقتك؟ و تتلف عمرك؟ فلتنظر إلى نفسك نظرة فاحصة، و لتدقّق في أفكارك، لتعرف مدى تطوّرها منذ ثلاثين عاماً حتى هذه الساعة، فسوف ترى أنّك لا زلت تراوح مكانك! صحيح أنّك لم تنحدر، ولكن من الواضح أنّك لم ترتقِ و لو قيد أنملة! انظر إلى آمالك و أمانيك ما حقيقتها؟! و إلى رغباتك
و تعلّقاتك الدنيويّة كيف هي؟! ثم قايس ذلك بما ورد من روايات عن المعصومين سلام الله عليهم، لكي تعرف بنفسك هل تقدّمتَ و ارتقيت؟ أم تخلّفت عن الركب و بقيت؟
فلمن كان الإمام الصادق عليه السلام يلقي كل تلك الروايات؟! و لمن قام الأئمة عليهم السلام ببيان كل تلك المطالب؟! هل هي لأقوام آخرين؟! أم لسكّان الكواكب البعيدة؟ أم أنّ الأئمّة عليهم السلام قد بيّنوا هذه المطالب لنا نحن؟! نحن الذين لا نستطيع أن نتنازل عن أدنى درجة من شأنيّتنا، أو نتسامح في أصغر مسألة تخصّنا، و لكنّنا في ذات الوقت ندّعي لأنفسنا أكبر الادعاءات!!
من أيّ الطوائف الثلاث نحن؟
حسناً، بعد أن اتضحت المسألة، فما هو تكليفنا نحن؟
ماذا ينبغي أن نقول لربّنا؟ و ماذا نقول لأنفسنا؟
من المسلّم أننّا لسنا من الطائفة الأولى؛ إذ أنّنا حتما لسنا ممن یقول عنهم تعالى {و منهم سابق بالخيرات}. نعم، نحن نأمل أن نكون منهم، كما ندعو الله سبحانه أن يوفّقنا لذلك، و لكنّنا واقعاً لسنا منهم.
و من ناحية أخرى، لسنا من الطائفة الثانية؛ فالحمد لله، قد وفّقنا الله لمحبّة هذا الطريق، و محبّة أوليائه، كما أودع فينا الرغبة في لقائه و الشوق إلى ذلك اللقاء؛ فهذا أيضاً لا يمكن إنكاره.
إذن فنحن نقول لله سبحانه: يا ربّ، مع أنّ محبّتنا ليست محبّة واقعيّة، لكنّنا نسألك أن تتقبّلها بكرمك و رحمتك. و بالتالي فنحن لسنا من تلك الطائفة أيضاً.
إذن، ما هو وضعنا؟ و ما حالنا؟ الجواب يأتينا من الآية الكريمة التالية، فهي توضّح لنا حقيقة حالنا: {وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيم}۱
فأفراد الطائفة الثالثة ليسوا من الكفار، بل هم قوم يريدون أن يتحرّّكوا و يتقدّموا، و قد تحرّكوا فعلاً؛ و لكنّ همتهم ضئيلة و عزمهم ضعيف، فهم ليسوا أعداءً، بل محبّون موالون، و عندهم ميل و شوق إلى الله و إلى هذا الطريق، و قلبهم طافح بمحبّة أولياء الله.. يوالون أولياء الله.. و يعادون أعداءه، و لكنّهم یعانون من ضعف همتهم، إذ ليس عندهم تلك الهمّة العاليةالتی نراها عند أولياء الله.
فمن هم هؤلاء و ما حالهم؟ إنّهم أفراد يعترفون أمام الله بذنوبهم و يقرّون بها. و نحن اليوم نقرّ و نعترف بذنوبنا... يا ربّ، نحن نعترف أنّنا من أهل المعاصي و الذنوب، و لكنّنا في الوقت نفسه، نحبّ أولياءك و نواليهم، و نحبّ هذا النهج و هذاالطريق الذي بيّنوه لنا و أرشدونا إليه.
{خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً} فهؤلاء خلطوا أعمالاً صالحة و أخرى سيئة.. قاموا ببعض المعاصي، كما أنّهم قاموا ببعض الطاعات؛ و عندما وفّقهم الله للطاعة شكروه، و حينما وقعوا في الذنب تابوا إليه و استغفروه. فما حال أمثال هؤلاء؟ و
ما هو مآلهم؟ إنّهم ـ إن شاء الله ـ من الذين ستشملهم رحمة الرب الرحيم و عفوه. و لذا، فإنّنا نتوجه إلى الله ونقول: يا ربّ، نحن من هذه المجموعة الثالثة، و نحن نطلب رحمتك، كما أنّ توقّعاتنا منك كبيرة، و أملنا في كرمك عظيم، فما سمعناه من أوليائك قد عظّم طمعنا في كرمك و رحمتك، فهم الذين أطمعونا في أن تشملنا يا ربّ رحمتك و كرمك و لطفك و عطفك.
شرح فقرات دعاء صلاة العيد
ألم نقرأ الدعاء في هذا اليوم في القنوت؟ لأيّ شيء صدر هذا الدعاء؟ (اللهم أهل الكبرياء و العظمة و أهل الجود و الجبروت) فهو هنا يقسم على الله سبحانه بصفاته و نعوته.. يقسم عليه بنعوته الجماليّة و صفاته الجلاليّة؛ ثم يستمرّ بالدعاء: (و أهل العفو و الرحمة و أهل التقوى و المغفرة، أسألك بحق هذا اليوم) حتى يصل إلى حيث يتوجّه إلى الله بطلبته، سائلاً إيّاه بحقّ هذا اليوم، يوم العيد، (الذي جعلته للمسلمين عيداً) و أيّ عيد هو؟! إنّه عيد قبول ضيافة الله سبحانه، عيدٌ نشكر الله تعالى فيه على أن جعل لنا شهر رمضان المبارك، و وفّقنا لإدراك هذا الشهر الذي دعانا فيه إلى ضيافته سبحانه، و أجلسنا على سفرته.
و ما أعظمها من سفرة! سفرةٍ خالصة من شوائب المادّيات.. خالية من الميول و الشهوات؛ فالأكل و الشرب في أيّام هذا الشهر ممنوعان، وإشباع الشهوة ممنوع، و إدخال الدخان الغليظ إلى الحلق ممنوع، و كذلك الغيبة ممنوعة و اتهام الآخرين ممنوع، و هذه الممنوعات ممرتبطة بالمراتب الأولى من الصوم.
أمّا حينما نرتقي إلى مرتبة أعلى من هذه، فالتفكير السيّئ ممنوع، و سوء الظنّ بالآخرين ممنوع. ما هذا كلّه؟ إنّها ضيافة الله سبحانه. أمّا في المرتبة الأعلى من هذه أيضاً، فالتخيّل، و التفكّر، و الأوهام ممنوعة. حتى نصل إلى أعلى مراتب الصوم، و هي المرتبة الخاصّة بالأولياء و الصالحين، فهناك نجد أنّ السماح لغير الله سبحانه بالحضور في الذهن أو القلب ممنوع!
هذه هي ضيافة الله التي دعانا إليها في أيّام هذا الشهر.. دعانا لكي نجلس على هذه السفرة المباركة لمدّة شهر كامل.. لكي نقف في وجه شهواتنا لمدّة شهر كامل.. لكي نواجه رغباتنا في الأكل و الشرب لمدّة شهر كامل.. لكي نضبط لساننا لمدّة شهر كامل.. لكي نراقب أفكارنا لمدّة شهر كامل؛ ثمّ في نهاية الشهر، بقول لنا: تعالوا و انظروا هل هناك نتيجة أم لا؟! هل هو عيد أم لا؟! هل وصلتم أم لم تصلوا؟ هذه هي ضيافتنا!!
بعد ذلك يستمرّ بالدعاء قائلاً: (... الذي جعلته للمسلمين عيداً و لمحمّد صلّى الله عليه و آله ذخراً و شرفاً و كرامةً و مزيداً)؛ ماذا جعلته للنبي؟ ذخيرة!! لقد جُعلت جميع أعمال عالم الوجود، الصادرة من البشر أو الملائكة أو غيرها، ذخيرةً في الوجود المبارك لرسول الله. فما معنى ذلك؟ ما معنى قوله: (ذخراً و شرفاً و كرامةً و مزيداً)؟ يعني أنّ كل عمل يصدر من أيّ فرد من أفراد عالم الوجود هو حاضرٌ في نفس النبيّ صلّى الله عليه و آله، فالنبيّ يأخذ ذلك العمل و يحفظه في نفسه و وجوده في تلك المرتبة.
إنّ صيامنا بتمامه موجود في نفس وليّ الله.. كلّ ذلك التجرّد و النور و اللطف و البهاء موجود في نفس وليّ الله، الوليّ الحيّ حضرة بقية الله أرواحنا له الفداء؛ إنّ جميع ذلك هو الآن ذخيرة في نفسه المباركة، و هو الذي يرفعه، فأعمالنا لا يمكنها أن تصعد بدون نفس وليّ الله، بل تتوقف في مكانها؛ لأنّ حركة الأعمال و صعودها، و طيّها مقام اسم العليم و القدير حتى تصل إلى الذات الإلهيّة إنّما يحصل من خلال وساطة الولاية و سببيّتها فی عالم الوجود، و بشفاعة نفس الإمام عليه السلام.
(...ذخراً و شرفاً و كرامةً و مزيداً، أن تصلي على محمد و آل محمد و أن تدخلني في كل خير) انظروا إلى ما يقوله هنا: أن تدخلني في كل خير! يا ربّ، لا تنظر إلى تقصيرنا، فقد مرّ علينا شهر رمضان، و لم نؤدّ فيه حقّك كما ينبغي.. نحن أردنا أن نكون صالحين.. لقد حاولنا و سعينا، و لكننا مع ذلك أذنبنا و أخطأنا، فأين عفوك و كرمك؟
(أن تدخلني...) انظروا ما هو مقدار أملنا بالله.. (أن تدخلني في كل خير أدخلت فيه محمداً و آل محمد)!! ما أعجب ذلك! واقعاً عجيب! كلّما أقرأ هذه العبارة ـ سواءً في هذا اليوم أو غيره من أيّام السنة، إذ كثيراً ما أتأمّل فيه ـ فإنّ رعشة تعتري كياني من شدّة تعجّبي و استغرابي لعظيم كرم الله سبحانه، فما أكرمه و أعظمه! إنّه لا يقول ذلك على سبيل المزاح، إنّه يدعونا: أن لا تنظروا إلى تقصيركم، بل انظروا إلى كرمي... انظروا إلى عظمتي و مجدي.. انظروا و تأمّلوا لكي تعرفوا من أنا!! واقعاً، في بعض الأحيان، يقول الأولياء و العرفاء كلمات و عبارات عجيبة عن رحمة الله سبحانه، عجيبة إلى درجة أنّ الإنسان يخاف أن يذكرها، فالمسألة رفيعة إلى هذا الحدّ!
(أن تدخلني في كلّ خير..) ما معنى ذلك؟ ما معنى أدخلنا في كلّ خير أدخلت فيه محمداً و آل محمد؟ كلّ خير!! الجنّة؟! بل أعلى!! المراتب العليا من الجنان؟!! بل أعلى!! و هكذا يستمرّ الأمر صعوداً حتى يصل إلى الاستمداد من الأسماء و الصفات الإلهيّة!! ثمّ أعلى و أعلى حتى تصل إلى مقام الذات الإلهيّة و الفناء و الاندكاك فيها و، حيث يقول سبحانه عن هذه المرتبة: {إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرا}۱حتى نصل إلى هنا، يا ربّ أدخلنا في كلّ ذلك، إنّك على ذلك قدير.
لأيّ شيء جاء النبيّ؟ ألم نسمع ذلك قبل عدّة ليالٍ؟ لمَ أتى النبيّ و الإمام؟ لقد جاؤوا لكي يأخذونا إلى حيث ذهبوا و لكي يوصلونا إلى حيث وصلوا، فما هو ذلك المقام؟ إنّه مقام الطهارة المطلقة، في ذلك المقام لا يوجد طريق لأيّ خيال أو خطور, فلا يوجد سوى الله سبحانه، لا أنّ الخيال يأتي فلا يلتفت له الإنسان، بل إنّه لا يأتي من الأساس، فذلك هو مقام البقاء بالله، حيث الحضور لله و البقاء بقاء الله، و الذات ذات الله.
(أن تدخلني في كلّ خير أدخلت فيه محمّداً و آل محمّد و أن تخرجني من كلّ سوء أخرجت منه محمداً و آل محمد) يا ربّ أخرجني من كل نقص و عيب، و من
كلّ مرتبة عار و نقصان، و من كلّ بُعدٍ عنك في أية مرتبة من مراتب الوجود، فيا ربّ أنت قد أخرجت محمّداً و آل محمّد من كلّ ذلك و حفظتهم من كلّ ذلك، فأخرجني و احفظني كما أخرجتهم و حفظتهم، إنّك على كلّ شيء قدير.
(اللهمّ إنّي أسألك).. ماذا يريد أن يطلب أيضاً؟.. (خير ما سألك به عبادك الصالحون و أعوذ بك ممّا استعاذ منه عبادك المخلصون).. يا ربّ، أطلب منك أن تعطيني أفضل ما أعطيته لخاصّة عبادك؛ لقد كان المرحوم الوالد كثيراً ما يوصينا أن: إذا دعوتم الله سبحانه و طلبتم منه، فلا تكونوا بخلاء في الطلب من الله؛ فإذا كنّا نرى ضعفاً في أنفسنا، و لا نجد فيها القدرة على الوصول إلى مقام الطهارة المطلقة، فهل نتخيّل أنّ ذلك عسير ٌعلى الله أيضاً؟! و من هنا، فلمَ نقصّر في الدعاء و نطلب القليل فقط؟ ولطالما أوصانا المرحوم الوالد ـ رضوان الله عليه ـ أن إذا طلبتم من الله فاطلبوا منه أعلى المراتب و أسمى الدرجات؛ اسألوه تلك الدرجة الرفيعة.. درجة الفناء في ذات الله.. و مقام جنّة الذات، تلك الدرجة ما كان الأولياء و العرفاء ليتنازلوا عنها أو ليرضوا بأقلّ منها، و هي الدرجة التي يقول فيها:
(اللهمّ إنّي أسألك خير ما سألك به عبادك الصالحون).. اللهمّ، قدّر لنا و أعطنا أفضل ما أعطيته لخاصّة عبادك، (و أعوذ بك مما استعاذ منه عبادك المخلصون) و أستعيذ بك من كل مرتبة من مراتب النقص التي استعاذ بك منها عبادك المخلصون.
ها قد انقضى شهر رمضان، و لقد كان شهراً طافحاً بالخير و البركة، فقد كان الأولياء و العرفاء يهتمّون بهذا الشهر، ويحرصون عليه أشدّ الحرص، بحيث كانوا يشدّدون المراقبة و التزكية في شهري رجب و شعبان استعداداً لهذا الشهر المبارك، و كلمات الأئمّة عليهم السلام كذلك تصرّح بهذا المعنى.
ألم تقرؤوا ما قاله الإمام السجّاد عليه السلام عن هذا الشهر في الصحيفة السجّادية؟ إنّه ليخاطب هذا الشهر قائلاً: «السلام عليك من ناصر أعان على الشيطان»۱.. فالكون في هذا الشهر سبب للانتصار على الشيطان.. «و مسهّل سبل السلام»٢السلام عليك يا من سهّلت لنا سبل السلام؛ ثمّ بعد ذلك يدعو الإمام الله سبحانه أن: يا ربّ، لا تجعلنا نتوقف عند هذا الشهر، بل ارزقنا الاستمرار في الحركة، و اجعل كل أيّامنا و شهورنا كهذا الشهر.
كيف نحافظ على آثار شهر رمضان؟
فلذا علينا أن نسعى للحفاظ على آثار هذا الشهر و استمرارها في نفوسنا، فعلينا أن نستمرّ بأداء تلك الأعمال التي كانت مفيدة و مؤثّرة؛ فنحن شئنا أم أبينا، قد قلّ كلامنا في هذا الشهر، و نقص تفكيرنا في الأمور الجانبيّة، كما ابتعدنا عن المواضيع المتداولة بين الناس، و قلّلنا من الأكل و الشرب، و حرصنا على
اجتناب الغيبة و اتّهام الآخرين و غيرها من الأمور التي كنا نبتلى بها في غير هذه الأيّام، و أحسسنا بنوع من التجرّد و القرب و البهاء في وجودنا؛ فيجب أن نحافظ على جميع هذه الأعمال و الخصوصيّات.
يُروى عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: «أفّ لرجل لا يجعل يوماً لمعاهدة نفسه» أو في رواية أخرى «في كل جمعة»٣، أي كم يقبح من الإنسان ألاّ يخصّص يوماً من كلّ أسبوع.. يوم الجمعة.. لمحاسبة نفسه و التدقيق في أعماله، بحيث يجلس و يتأمّل في تصرّفاته التي صدرت منه في ذلك الأسبوع: ماذا فعل في الأسبوع الماضي؟ ما هي الأعمال السيّئة التي فعلها؟ و ما هي الأعمال الحسنة التي صدرت منه؟ ثمّ يخطّط لما يريد أن يقوم به في الأسبوع التالي. لقد كان العظماء يؤكّدون على مثل هذه الأمور.
فبناء عليه، يجدر بنا أن نحافظ على آثار هذا الشهر، فلا ننسينّ الصوم بعد مضي هذا الشهر، و لنسمح لحال الصيام أن تستمرّ، فلنداوم على صوم يوم واحد على الأقل من كل أسبوع، أو بحدّ أدنى تلك الأيّام الثلاثة المعروفة من كل شهر، كما ينبغي أن نحافظ على قراءة القرءان الكريم طوال أيّام السنة، و ندرّب أنفسنا على قلّة الكلام، و نجعل التفكّر الصحيح برنامجاً لنا في سبيل نجاتنا و سلامة أنفسنا من الأمراض، و من أجل تجرّدنا.
نسأل الله ـ في هذا اليوم المتعلّق بصاحب الزمان عليه السلام ـ أن يغفر لنا خطايانا بواسطة تلك النفس القدسيّة، و يشملنا بعفوه و مغفرته، و أن يرزقنا سعادة الدارين في كنف مقام الولاية، و أن يقسِم لنا من كل ما آتى منه أولياءه، و أن يحفظنا من كل سوء حفظهم منه، و أن يعجّل ظهور وليّه صاحب الزمان و يجعلنا من المنتظرين الواقعييّن لمقدمه الشريف.
(اللهمّ كن لوليّك الحجة بن الحسن صلواتك عليه و على آبائه في هذه الساعة و في كل ساعة وليّاً و حافظاً و قائداً و ناصراً و دليلاً و عيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً و تمتًعه فيها طويلاً)
«اللهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام و أهله و تذلّ بها النفاق و أهله، و تجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك و القادة إلى سبيلك و ترزقنا بها كرامة الدنيا و الآخرة»
{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}۱
لتعجيل ظهور صاحب العصر و الزمان أرواحنا لتراب مقدمه الفداء صلوا على محمد و آله ثلاثاً.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.