المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1438
التوضيح
يتعرض سماحة آية الله الحاج السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني قدس سره تعالى في هذه المحاضرة الرابعة التي عقدها في الليلة التاسعة من شهر رمضان المبارك سنة 1438 هـ لشرح دعاء أبي حمزة الثمالي إلى بيان النقاط التالية: 1 تغيّر حال الإنسان عند الشعور بمن يراقبه 2 كيفيّة مشاهدة الأعمال يوم القيامة 3 معنى المراقبة التي كان الأولياء يوصون بها. 4 بعض الخصال المحبوبة في الصبيان 5 التغيير النفسي بحاجة إلى إعمال الجهد. 6ـ الاعتراف بالخطأ وعدم السعي للتبرير يُسرّعان السلوك.
هو العليم
السير السريع في السلوك النفساني
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۸ هـ ق - المحاضرة الرابعة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
«ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته لا لأنّك أهون الناظرين وأخفّ المطّلعين، بل لأنّك يا ربّ خير الساترين وأحكم الحاكمين وأكرم الأكرمين»
يشير الإمام السجّاد في هذه الفقرة إلى حالنا ووضعنا من جهة مخالفتنا لأوامر الله تعالى، واتّباعنا للميولات النفسانيّة وارتكابنا للأخطاء، حيث يقول: «لو كان لدينا خوف من إنزال عقوبتك علينا، لما صدرت منّا هذه الأخطاء والذنوب».
تغيّر حال الإنسان عند الشعور بمن يراقبه
ومن العجيب جدًّا أنّ المسألة تختلف كثيرًا عندما يعلم الإنسان بوجود مانع عن فعله أو عدم وجود مانع! كأن يعلم الإنسان بأنّ الفعل الذي يقوم به هل هو على مرأى ومسمع من أحد أم لا؛ إذ يختلف الأمر بينهما مائة وثمانين درجة! فهناك فرق بين أن أعلم أنّ هناك ناظرًا يشرف على الفعل الذي أقوم به الآن ويطّلع عليه، وبين أن أعلم أنّه لا يوجد أحد ينظر إليّ، وكذلك بين أن أعلم أنّه عندما أتحدّث، توجد كاميرا ومسجّلة تسجّل كلّ كلمة أتفوّه بها ـ كما هو الحال الآن ـ أو لا؛ إذ لو علمت أنّ هناك من يسجّل كلامي، فلن أقول كلّ شيء يجول في خاطري؛ لأنّي أرى أنّ هاتين الآلتين [يشير سماحته إلى الكاميرا والمسجل الصوتي] اللتين وضعهما الرفقاء أمامي كرقيب وعتيد تقيّدان الإنسان؛ فعلمي بوجود هذه الأمور يجعلني أنتبه حتّى لا أتكلّم بأيّ شيء؛ وهذا أمر طبيعي، والحال أنّه إذا لم يكن هذان الأمران موجودين، لكانت المسألة بشكل آخر؛ فقد يوسوس الشيطان، أو غير الشيطان... ينبغي ألّا نضع كلّ شيء في عنق الشيطان، فنقوم بما يحلو لنا، ونقول: «إنّ الشيطان قد أغوانا»؛ إذ يجيبنا الشيطان: «متى أغويتك؟! بل أنت الذي فعلت ذلك، فلماذا تضع المسألة في رقبتي؟!»، فنريد أن نتهرّب ولا نتحمّل مسؤوليّة ما نقوم به، ونقول: «إنّ الشيطان قد أغوانا!» كلاّ يا عزيزي! الشيطان لم يغونا، ولا علاقة له بنا أساسًا حتى يغوينا، بل الشيطان يذهب لإغواء الآخرين، أمّا نحن، فنمشي أمام الشيطان، وهو يأتي خلفنا! ما شاء الله! فالأمور التي تخطر ببالنا لا تخطر حتّى ببال الشيطان؛ فما نسمعه وما نراه وما يخطر في بالنا.. يقول الشيطان لنا: «ينبغي أن أتعلّم منكم، فأنا عندما تحمّلت مسؤوليّة إغواء الخلائق، ما كان يخطر في ذهني مثل هذه الأمور أساسًا! فمن أين أعلم بأنّه سيأتي في آخر الزمان أشخاص مثل هؤلاء لا يصل فهمي إليهم؟!» نستجير بالله من هذه الأمور العجيبة، بل التي تجاوزت حدود العجب! فأنّى لفهمنا وذهننا أن يصل إلى هكذا أمور!!
ومع ذلك، نضع المسألة في عنق الشيطان، ونقول إنّ الشيطان هو الذي أغوانا، وهو الذي وسوس لنا! كلاّ يا عزيزي، بل نحن الذين نريد، ونحن الذين نسعى، والشيطان واقف يتأمّل؛ أجل، عندما تكون الكاميرا تصوّرني، لو أتى الشيطان وأمرني أن أقول كذا وكذا، فهل كنت سأقبل منه؟! كلّا، بل سأجيبه: «اذهب إلى حال سبيلك، هل تريد أن تخدعني وتوقعني في المصائب؟! هل تعتقد بأنّي سأقع في وسوستك وخداعك وكلامك؟!» حينئذٍ سيقول: «يا عزيزي! إذا كنت تخاف من الكاميرا إلى هذا الحدّ، فلا أقلّ اخْشَ الله بهذا المقدار أيضًا!» فنجيبه: لا، فهنا يوجد خطر، بينما الله تعالى لا خطر فيه؛ لأنّه بحسب تعبير الإمام السجاد خير الساترين، أمّا هذه الكاميرا، فليست خير الساترين، بل تنقل الكلام والعبارات بشكل دقيق، وتحفظها عندها، والحمد لله صار الآن بإمكانها أن تنقل ذلك إلى كافّة أرجاء العالم في نفس اللحظة، لا أنّها تحتفظ بها في نفسها، ليمكنك أن تصلح الأمر فيما بعد، بل في هذه اللحظة التي تتحدّث فيها يسمعك جميع الأصدقاء الموجودين في أكناف العالم؛ فماذا عساك أن تفعل حينئذ؟!
وهكذا تأتي هذه الكاميرا وتمنع الإنسان! وبالتالي، فليس الشيطان هو الذي يأتي إلى هذا الجانب وذلك الجانب [ويغوي الإنسان]، بل نحن أنفسنا نفعل ذلك، حيث إنّ نفسنا هي التي تتصرّف في مختلف الموارد كما تريد، ولها ردّة فعلٍ مختلفة بحسب المواقف والظروف التي تكون فيها؛ فإن كانت ترى أنّ هذا الأمر يُلزمها بشيء وسيكون له تبعات، فإنها تتوقّف وتحتاط ولا تتحرّك، وأما إن كانت ترى بأنّ هناك مجالاً، فإنّها تتقدّم وتقتحم؛ وذلك حينما ترى بأنّه لا يوجد أحد، ولا أحد يراها، ولا توجد كاميرا، وإن كان هذه الأيام يوجد في كلّ مكان كاميرا.. في الشارع وفي كل مكان، وكلّ ما يقع يُصوّر.. هذه كلّها آثار ظهور الله؛ يعني أنّ هذه الكاميرات وهذه الأمور يقول الله عنها: أنتم ترون هذه الكاميرات وتهتمّون بها، ولكنّكم لا تلاحظون إشرافي وإحاطتي وسيطرتي ولا تلتفتون إلى ذلك! فكم أنتم متدنّون! وكم أنزلتم أنفسكم! وكم جعلتم أنفسكم محكومين لسلسلة العلل والعوامل الظاهريّة والمادّية والدنيويّة؟!
كيفيّة مشاهدة الأعمال يوم القيامة
يقول تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَديدٌ}۱
لقد كنت تتغافل في هذه الدنيا، وكنت تظنّ بأنّ هذه الأعمال وهذا الكلام الذي تقوله وهذا النهج الذي تتّبعه غائب عنّا، لكنّك لا تعلم بأنّك في هذه الحالة التي أنت عليها حينما تقوم بهذا العمل، وتتكلّم بذلك الكلام، وتُخطر في نفسك تلك الخاطرة.. في نفس هذه اللحظة كان سقوطك إلى الحضيض، وكان ذلك وقت حرمانك من الارتقاء، ومن رحماتنا وبركاتنا؛ وها قد أتيت الآن إلى هنا، فكشفنا الستار ووضعناه جانبًا، فانظر إلى نفسك، لترى جميع حركاتك وسكناتك وأفكارك بعينها، لا أنّهم يضعون أمامك فيلمًا وصورة!! فحينما يُصوّر الإنسان بالكاميرا، ويريد أن يُلق على ما صوّره نظرة أخرى، فإنّه يبدأ به من الأوّل؛ فيرى أنّه قال كذا، وفعل كذا، وهكذا إلى آخر الفيلم؛ فيرى أنّ جميع الأمور محفوظة بشكل جيّد؛ أليس هذا بصحيح؟ كلاّ، ليس الأمر كذلك هناك؛ ففي ذلك العالم، لا تشاهد فيلمًا ولا ترى صورة، بل ترى نفسك فعلاً.. كيف تشعر الآن أنت بنفسك؟ فهل تجلس الآن أنت هنا، أم صورتك؟ أنت نفسك جالس هنا، على يمينك فلان، وعلى يسارك فلان؛ فأنت الآن وفي هذا المجلس تشعر بوجودك بشكل حقيقي وواقعي، لا صورة وفيلم، أو تصوّر وخيال، وتعلم به حضورًا بوجود ذهني وبعلم حضوريّ، لا بعلم حصوليّ؛ بمعنى أنّ نفس المعلوم يحضر عند العالم؛ فأنت ترى نفسك في هذا المجلس وتشعر بها أيضًا بهذا العلم والإدراك.
ونفس هذا الشعور والإدراك الذي لديك الآن يحصل لك يوم القيامة؛ فنحن جلسنا في ليلة الأحد الساعة الحادية عشر وعشر دقائق في المجلس الكذائي في قمّ حرم السيّدة المعصومة سلام الله عليها، وفي يوم القيامة، سنشعر بنفس هذا الأمر تمامًا.
{فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَديدٌ} هناك لا يمكنك أن تقول للّه تعالى: «لقد لفّقت لي ملفًّا!!»، نعم، هنا يمكننا أن نقول ذلك، وذلك حينما نريد ـ مثلاً ـ أن نردّ دعوى الآخرين، فنقول: «لم نفعل ذلك!» أو «لم نقل هذا الكلام!»، ولكن، عندما ترى نفسك، وتشعر بما عملته وقمت به وبالخواطر التي خطرت على ذهنك، فماذا تريد أن تنكر؟! أوَهل يمكنك أن تنكر وجودك الآن، بأن تقول: «أنا لست حاضرًا، بل أنا في المنزل، وما تراه عينك فهو خطأ»؟! لأنّني سأقول لك حينئذ: «ها أنا أراك جالسًا أمامي، فأين الخطأ في المقام؟»؛ فنفس هذه الحالة موجودة في ذاك العالم.
وعند ذلك، سنعلم أنّنا قد خُدعنا، ونعلم أيّة خسارة حلّت بنا.. وهذا هو معنى {لقد كنت في غفلة}! يعني أنّك كنت غافلاً عن الخسران الذي يحلّ بك، وكنت تظنّ بعدم وجود أيّة مشكلة ما دامت لا توجد كاميرا تُصوِّر.. أيّها العبد المسكين، إنّ هناك أشدّ من الكاميرا تراقبك! بل حتّى لو فرضنا أنّه لا أحد يراك، فماذا عنك أنت؟ وماذا عن نفسك؟ وماذا عن حالة التهيّؤ والاستعداد التي جعلها الله فيك والتي ينبغي أن توصلها إلى الفعليّة؟ والحال أنّه لا علاقة لها بالكاميرا والأمور الأخرى، ولا علاقة لها بمَلَكي اليمين واليسار، بل لنفرض أنّه لا وجود لهما أساسًا، ولا يدوّنان شيئًا من فعلك، لكنّ هذا لا يغيّر من واقع الأمر شيئًا؛ إذ إنّ ذاك العمل المخالف الذي أقوم به سيكون سببًا في أن أسقط عن تلك الفعليّة، وتنتهي المسألة.
نعم، قد يتاح لك فصل آخر وملفّ آخر وصفحة أخرى لوقت آخر، لكنّك في هذه المرحلة، توقّفت، وتخلّفت عن الركب، ورسبت في هذا الامتحان.
معنى المراقبة التي كان الأولياء يوصون بها
والسبب الذي جعل العظماء من أهل المعرفة يوصون دائمًا تلامذتهم بالمراقبة هو هذا! فالله تعالى يسامح وهو أرحم الراحمين؛ نعم، والله ستّار العيوب، وهو العفوّ الغفور، لكن، من أين تحصل على ذاك الاستعداد الذي فاتتك فعليّتُه؟! فذاك لا يعود إليك! ونصيبك الذي كان لك الليلة قد ذهب عنك؛ أجل، غدًا الأحد لك فيه نصيب جديد، وغدًا مساءً ليلة الاثنين له نصيبه الخاصّ به، أمّا نصيب هذه الليلة، فقد ذهب! لذا، كانوا يقولون: «على السالك أن يكون في حالة مراقبة»، والمراد بالمراقبة هو هذا! المراقبة تعني انتباه الإنسان إلى فعله وكلامه وأفكاره وتصوّراته وخواطره الذهنيّة، حتى لا تكون موجبة لنزوله إلى الحضيض، وضياع ذاك الاستعداد؛ ممّا سيؤدّي إلى فقدان التوفيق للأمور الأخرى أيضًا؛ يعني مثلاً: إذا كان من المفترض أن ينزل عليك في الساعة الحادية عشر والنصف فيض ورحمة ورأفة من جانب الله تعالى، لكنّك في الساعة الحادية عشر والربع أسأت الظنّ بأخيك في ذهنك، وأخطرت على قلبك خواطر شيطانيّة، وأوجدت في الذهن ما هو خلاف رضا الله، أو خطّطت لذاك الذنب في ذهنك؛ كأن تخطر في ذهنك بأنّي غدًا سأقوم بهذا الذنب، فهو وإن كان لم يحصل بعد، لكن بمجرّد أن يخطر في الذهن، ترتفع تلك الرحمة التي ستأتي في الساعة الحادية عشر والنصف! وسيؤدّي ذلك إلى أن ترتفع تلك الرحمة التي كانت مقرّرة لك، وكانت تقف فوق رأسك، ثم تحطّ وتنزل على شخص آخر.
وهناك الكثير من الشواهد على هذه المسألة... في مرّة من المرّات، كنّا في مجلس، وكان فيه أحد الأصدقاء الذين انتقلوا إلى رحمة الله ـ رحمة الله عليه ـ وكان يحبّنا كثيرًا ويأنس معنا! فقد نقل لي مسألة حصلت في ذلك المجلس؛ علمًا أنني كنت حاضرًا فيه، لكنّني لم أر شيئًا؛ لأنّني لم أكن أدرك هذه الأمور؛ فقال لي: «حينما كنّا نقرأ الدعاء ـ ولعلّه دعاء الجوشن ـ، رأيت أنّ رحمة نزلت من الله تعالى، وشملت جميع الحضور في المجلس باستثناء شخص واحد لم تكن لديه في ذلك الوقت حالة جيّدة؛ إذ كان في ذهنه ونفسه ظنّ سيّء بأخيه ورفيقه، وكانت العلاقة بينهما مكدّرة، وكان الحقّ عليه في ذلك»، حيث إنّ كلّ شيء له حسابٌ خاصّ، وليست مسألة نزول الرحمة كالمطر الهاطل ـ وإن كان المطر له حسابه أيضًا ـ الذي يأتي ويصيب كلّ شيء ينزل عليه، لا بل عندما يأتي، يرى الوعاء المستعدّ لتلقّي تلك الفيوضات، ويأخذ حجمه؛ فذاك الوعاء المستعدّ هو الذي يتلقّى، وأما غير المستعدّ فهو هكذا [مقلوب على وجهه] لا يأخذ شيئًا! فالأوعية التي تكون من ذاك القبيل تنال نصيبًا، أمّا إذا كان الوعاء مقلوبًا، فأين ينزل الماء؟ إذ كلّما نزل الماء انساب من جوانبه؛ فقال صديقنا: «لقد نزلت الرحمة وأصابت الجميع باستثناء ذاك الرجل!» فحتّى لو افترضنا أنّه كان في ذلك المجلس وليّ الله، فإن كان وليّ الله موجودًا، فهل يعني ذلك أنّ المعادلات ستتغيّر؟! كلا بل إنّ المعادلات تبقى كما هي، حتّى في حرم الأئمّة عليهم السلام؛ أفلا تحصل أعمال مشينة هناك؟! حتمًا تحصل! ألا تحصل سرقات في تلك المقامات؟! نعم.. السرقة! وحتّى أنا تعرّضت لسرقة محفظتي في حرم الإمام موسى بن جعفر والإمام الجواد عليهما السلام ، وإن كنت قد حلّلت من أَخَذَها، ولعلّه في ذلك خير إن شاء الله، لكنّه لا دليل على أنّه لا سبيل للشيطان إلى ذلك الحرم ما دام أنّه حرم لوليّين إلهيّين! كلاّ، بل هو يأتي حتى إلى ذاك المكان! هذه مسألة، وهناك مسائل أخرى أيضًا؛ أفهل كلّ من يذهب إلى ضريح الإمام الرضا عليه السلام تكون أفكاره صافية وخيالاته جيّدة؟! كلاّ، بل هناك أيضًا قد يكون الأمر مختلفًا؛ بأن يكون بدنه عند الإمام، لكنّ باطنه في مكان آخر، فيكون وجهه متّجهًا إلى القبّة، لكنّ حاله في أسفل سافلين، وفي قعر جهنّم، لا في أعلى جهنّم! فكلّ شيء له حساب خاصّ، وينبغي أن تكون المسألة كذلك! وإلا فكلّ شخص يذهب إلى هناك، و... فكما هو معروف عن وادي السلام بأنّ كلّ من يدفن هناك [ينجو من العذاب].. فيأتي الشخص بكلّ ذنب ثمّ يقول: «ادفنوني في وادي السلام!» كلاّ، الأمر ليس كذلك، بل لكلّ شيء حسابه الخاصّ؛ فهم يأخذون الأرواح إلى مكان آخر؛ فالمؤمن في أيّ مكان دُفن، يأتون به إلى ذاك المكان، بينما يأخذون الأشرار إلى مكان آخر۱.. والحاصل أنّ هناك حسابًا دقيقًا؛ ولذا، على الإنسان أن يفكّر في هذه الدنيا أكثر، وعليه أن يفكّر أكثر في ذهابه وإيابه، هل التفتم؟!
فهذه الحالة هي التي ينبغي على الإنسان أن يكون مراقبًا فيها، والمراقبة تعني هذا: أن يكون الإنسان في وضعيّة بحيث يضع نفسه في طريق جلب الفيوضات والاستفاضة من الأنوار.
ذات يوم، نقل لي أحد الأصدقاء أنّه شعر فجأة بأنّ أحد الأشخاص صار وجهه مشوّهًا ومسودًّا، وتغيّر عن حالته العاديّة، وعندما سأله بعد ذلك عن حاله، واستفسر عن وضعه، التفت إلى نفسه، فتبيّن له أنّه في تلك اللحظة، حصلت له خواطر شيطانيّة ولعدّة ثوان لا أكثر! فهذه الثواني هي التي جعلت حاله يتغيّر، فشعر بذلك صديقي؛ إذ إنّ النفوس مرتبطة كالأواني المتّصلة؛ ولذا، شعر بما أصاب رفيقه، ثمّ التفت ذاك إلى نفسه، وتاب عن ذلك، ثم تغيّر واستقرّ حاله.. نعم، فإنّ النفس تتأثّر لعدّة ثوانٍ بما يحصل من أمور؛ وهذه مسائل واقعيّة، وليست من باب المزاح؛ فنأتي نحن إلى هذه الدنيا ونتصرّف كيفما كان، لكنّنا غافلون عمّا يحدث في ذلك العالم.
بعض الخصال المحبوبة في الصبيان
ذكرنا فی تلک اللیلة رواية، ثم التفتّ فجأة إلى أنّني لم أكملها، وهي أنّ النبي قال۱: إنّي أحبّ من الصبيان أربعة، إحداها أنّهم يبكون، والبكاء موجب للرحمة، والثانية أنّهم يلعبون بالتراب.. قبلها: أنّهم يصنعون ويخرّبون؛ يعني أنّهم يبنون، ثم يخرّبون ما بنوا بعد ساعة أو ساعتين؛ فهم أثناء لعبهم يبنون بيتًا من الخشب والطين والتراب، وبعد أن يبنونه، يضربونه بأرجلهم ويخرّبونه، ويُسوّونه بالأرض؛ فالنبيّ يقول إنّي أحبّ هذا العمل من الأطفال؛ يعني أنّه لا تعلّق لديهم؛ بأنّه قد صنعنا هذا، فينبغي أن نحافظ عليه، وأن لا يأتي أحد ويخرّبه، لا! بل إنّهم يتسلّون بهذه الأمور، ثم يهدّمونها؛ فهم لا يريدون أن يبقى لهم أيّ أثر ممّا صنعوا، وليس لديهم تعلّق بما فعلوا؛ فنراهم يُمارسون هذا العمل بدون تعلّق، وهم عند صنعهم لهذا البناء، لا يجعلون قلوبهم أسيرة لهذا الصنع؛ بأن يكون القلب رهن لهذا الأمر؛ فالتعلّق القلبي سيّء جدًا؛ وذلك بأن يجعل الإنسان قلبه أسير شيء ما؛ كالسجّاد مثلاً؛ فتراه إذا اشترى سجّادًا، تعلّق قلبه به؛ ولو فرضنا أن احترق جزء منه، تجده يقع على الأرض وقلبه يؤلمه! وهو يفكّر: لا أدري كم نقص من قيمة هذا السجّاد! فليحترق يا عزيزي، لكن، لماذا تحرق نفسك أنت؟!! فهذا ليس شيئًا ذا بال! لكنّ المسألة هي أنّه رَهن قلبه بهذا السجّاد عندما اشتراه؛ وهذا غير صحيح.
ينبغي على الإنسان أن لا يرهن قلبه بشيء أبدًا؛ فإذا كان بحاجة إلى سجّاد، فليشتره، ويستخدمه بشكل عادي وطبيعي، كما يتوجّب عليه في الوقت ذاته أن يراقبه ويحافظ عليه، بحيث لو قصّر في ذلك، فإنّه يكون مسؤولاً عنه ويحاسب عليه؛ لأنّه نعمة من نعم اللـه، فيجب الحفاظ عليه، لكن، افرضوا أنّ ولدًا جاء وأحرق جزءًا منه بالنار، أو أنّه مثلاً أُتلف بشيء آخر؛ فلو تأثّر في هذه الحالة، وحزن على السجّاد، وقال: لم صار هذا؟ ولم صار ذاك؟ سوف يتبيّن أنّ قلبه رهين وأسير للسجّاد، مع أنّه لا ينبغي أن يكون القلب كذلك، بل يجب أن يوضع القلب في مكان آخر، لا في السجّاد الذي هو عبارة عن صوف وبلاستيك؛ فنحن لسنا بلاستيك، ولسنا صوف، ولسنا كتّان ونسيج.
فالأطفال ليسوا بهذا النحو، بل على العكس من ذلك فإنهم عندما يحترق شيءٌ ما، تراهم يضحكون، ويصفّقون ويفرحون بالنار؛ والحال أنّ أباهم وأمّهم يضربون على رؤوسهم حزنًا وأسفًا على الحريق، بينما هم يضحكون؛ لماذا؟ لأنّه ليس لديه تعلّق، ولم يرهن قلبه هنا؛ يعني: في الحقيقة، ليس له قلب كي يرهنه بشيءٍ، بل هو في حالة من الصفاء؛ ولذا، تراه لا يبالي، ويقول: «دعهم يضربون على رؤوسهم، فما شأني أنا؟! فأنا لم أفعل شيئًا! هذا، مع أنّ منظر ألسنة النار وهي تتصاعد جميل جدًّا!»
يصنعون ويخربون؛ أي: يجب على الإنسان أن يسعى للوصول إلى هذه الحالة، وقال أيضًا: وبالتراب يلعبون؛ يحبّون التراب؛ فالتراب هو أكثر شيءٍ فاقد للتعيّن نعرفه في هذه الدنيا، حيث إنّ كل ما نرى من أشياءٍ حولنا لها تعيّنٌ وظهورٌ خاصٌّ، ولها اعتبارٌ خاصٌّ بها؛ فحينما ننظر إلى السجّاد مثلاً، نجد بأنّ له قيمة، وأنّه قد حيك، وفيه نقوش ورسوم وأمثال ذلك، وكذلك الأمر حينما ننظر إلى الحجر، فنجده شديد البياض، صافيًا، وقد قاموا بإحضاره من المنجم وصقلوه وما شابه ذلك، وهكذا بالنسبة إلى الجصّ وغيرذلك من الأمور التي لها تعيّن في هذه الدنيا، لكن، عندما ينظر الإنسان إلى التراب، لا يجد شيئًا أحقر وأرخص منه؛ لأنّه ليس له تعيّن، وليست فيه أيّة خصوصيّة تميّزه عن غيره وتفضّله عليه؛ فلا جماليّة له، ولا رائحة له، ولا ميزة لديه، بحيث تجلب نظر الإنسان؛ ولذلك، ترى الأطفال يلعبون بالتراب.. لماذا؟ لأنّ حالة عدم التعيّن، والصفاء، وفقدان القالب، وعدم الخصوصيّة والامتياز والافتراق الموجودة في نفس الأطفال تقتضي أن تتوجّه أنفسهم إلى ذلك الشيء الذي لديه نفس هذه الخاصّيات، ويتفاعلوا معه، ويلعبوا به، ويشغلوا أنفسهم به، ويوجدوا حالة من الارتباط والأنس بينهم وبينه؛ أي في الحقيقة، ليست المسألة أنّ التراب ترابٌ فحسب، بل المسألة أنّ للتراب بُعد معنويٌّ وروحانيٌّ يرتبط مع نفس الطفل؛ وهذا الارتباط هو الذي يحثّ الأطفال على أن يلعبوا بالتراب دائمًا؛ فبدلاً من أن يلعب بالبلاستيك والحديد وغيرها، يأتي ويلعب بالتراب؛ وهذه الحالة هي التي تحفظ لهم حالة البساطة والصرافة والصفاء؛ وبطبيعة الحال، فإنّ هذه المسألة جديرة بالاهتمام.
الأمر الآخر الذي ذُكر في الرواية: ومن غير حقد يتخاصمون، الرابع أنّهم يتشاجرون ويضرب بعضهم البعض بدون أيّ حقد وضغينة تجاه بعضهم؛ فتسألهم: لماذا تتخاصمون؟ فيجيبون: لا يوجد أيّ سبب! فكما يبدؤون الشجار من دون أيّ سبب، فإنّهم يُنهونه ويتصالحون من دون سبب أيضًا؛ ثمّ يُعيدون الكرّة... فلا شجارُهم يكون لسبب وجيه، ولا صلحُهم يكون لسبب وجيه أيضًا؛ إذ ليس لديهم أيّ حقد حتّى ينظّموا علاقاتهم على أساسه، حيث إن كلّ ما يحصل لنا من المصائب هو بسبب الأحقاد والضغائن، فتجدهم يتشاجرون حول شيء عادي؛ فهذا يقول: «اعطني هذه»، والآخر لا يعطيه ايّاها، فيبدؤون فجأة بالعراك، ثمّ تجدهم بعد قليل يرون أنّهم بحاجة إلى بعضهم، فيقول أحدهم: «تعال لنتصالح»، فيُجيب الآخر: «حسنًا فلنتصالح!» وينتهي الأمر كأنّ شيئًا لم يكن؛ فلا يعود أحدهم، ويقول: «لقد ضربني هذا قبل خمس دقائق، وهذا ضربني من ساعة، وهذا أخذ منّي الشيء الفلانيّ البارحة»، بل ينظر إلى الحال، وإلى الحالة التي هو فيها الآن.
إنّ الطفل يبني علاقته مع صديقه بناءً على الحالة الفعليّة التي هو فيها، لا على أساس استصحاب الحالات السابقة والمسائل التي حصلت سابقًا؛ فلا يقول: «هذا فعل الفعل الفلانيّ السنة الماضية، وهذا عمل العمل الفلاني من ستّة أشهر، وذاك فعل هذا الفعل البارحة»، ولا فرق لديه بين الفقير والغنيّ، ولا يفكّر بأنّ صديقي هذا الذي يريد أن يلعب معي، من أيّ عائلة هو، وهل عائلته من أهل العلم، أم من التجّار، أم عائلته فقيرة؛ فليس لديه أيّ فرق، بل محطّ نظره هو مجرّد وجود صديقه.. نفسه؛ وكم هي مهمّة هذه الصفة! وحقيقةً، كم نحن بعيدون عن هذه المسألة! وكم نحن عالقون في هذه المسائل!
التغيير النفسي بحاجة إلى إعمال الجهد
وكم نحتاج من جهد كي نتخلّص من هذه الأمور، فالمسألة تحتاج إلى جهد كبير، ولا تظنّوا بأنّها بهذه السهولة وبهذه البساطة.
ينقلون عن أحد الأشخاص أنّه زار أحدهم في منزله، فاكتشف أنّه متواضع جدًّا! ومع أنّ الزائر لم يكن رجلاً مهمًّا، ولم يكن ممّن يهتم الناس بأمره، فقد بدأ صاحب البيت يسأله عن أحواله و... فتحكي هذه القصّة عن مدى تواضع هذا الشخص.
فينقل أحد الأصدقاء أنّه ذهب إلى مكان، وكان يقول إنّ الرجل الذي رآه هناك كان ينصت إلى كلامه جيّدًا، وكان يقوم بأعمال من هذا النحو، وهذا يكشف عن تواضعه؛ فقلت له: «لا يا عزيزي! ليس هذا هو التواضع، بل التواضع أن يقوم بذلك مع مَن هو من أقرانه وطبقته؛ فحينها يُقال إنّه متسلّط على مسائل النفس والهوى، وأمّا أن يأتي، ويصنع ذلك معك أنت، فهناك الكثيرون يفعلون هذا، وسيسرّ طبعًا لكونه من أهل العلم ومع ذلك، فإنّه يسأل عن حال إنسان عاديّ؛ فهذا يسبّب السرور لنفسه أوّلاً، كما يسبّب لفت أنظار الآخرين (مثلما حصل فعلاً وبدأ ذلك الرجل يمدحه)، فيُقال عنه: «كم هو متواضع!»؛ فهذا ليس بالأمر الصعب.
وعلينا أن لا نتحدّث أكثر [عن هذه القصّة]، فقد كنت أريد أن أقول شيئًا، ولكنّي رأيت أنّ...، أجل، كما هو دأبنا دائمًا!!
أعان الله الإنسان عندما توضع أعماله الواحد تلو الآخر تحت المجهر؛ عندها يُعلم من هو صاحب التواضع، ومن هو الغارق من رأسه إلى أخمص قدميه في مخمصة الحقد والغضب والنفسانيّات والدنيا، وهو يُظهر للناس وجهًا مزيّنًا وظاهرًا مغريًا؛ وهذه هي المواضع التي لا يمكن الاعتماد فيها على هذه العين، لأنّها تحتاج نوعًا آخر من الأعين؛ وعندما تتوفّر عين الباطن هذه، وتخبر عن بعض الأمور، عندها يقول الإنسان: «يا للعجب! أيعقل ذلك؟!».
لماذا؟ لأنّنا نستعمل في حكمنا هذه العين وحدها؛ والحال أنّها لا تصلح للحكم، ولكن مع ذلك، فإنّنا نعتمدها؛ فهي تصلح للرؤية ليس إلاّ، وأمّا الحكم، فهو من مهمّة أداة أخرى، ولكن، نحن جعلنا الحكم والفكر وكلّ شيء في هذه العين ذات القزحيّة والصلبة والجسم الزجاجي والبؤبؤ والقرنيّة؛ والحال أنّ هذه الأمور تحتاج عينًا أخرى؛ وهي عين لا يُمكنها أن تخبرنا أنا وأنت بما ترى! لماذا؟ لأنّا لا نحتمل؛ فلو أخبرتنا لاعترضنا وقلنا: «لا! ماذا تقول يا فلان؟! ما هذا الكلام الذي تقوله؟»، ثمّ نسعى بعد ذلك للتبرير.
ومن غير حقد يتخاصمون: ليس لديهم حقد؛ ولو قمنا بالتفكير قليلاً في هذه المسائل، لأرانا الله وأفهمنا؛ ونحن لدينا آية شريفة تقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ واَلْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهٰا وهُمْ عنها مُعْرِضُونَ}۱؛ يقول الحقّ تعالى: إنّ آياتنا تأتي وتمرّ عليهم، فيأتون، وينظرون، ويطأطئون رؤوسهم إلى الأسفل: وهم عنها معرضون؛ والحال أنّ عليك أن تأخذ كلّ آية تقع، وتطبّقَها على نفسك؛ فإن رأيت قضيّة، فخذها وطبّقها على نفسك، وهكذا القضيّة الثانية والثالثة... فعلى الإنسان أن يتلقّف كلّ قضيّة من هذه القضايا كلّ يوم، وفي مختلف الأحداث والموارد التي تواجهه، ويطبّقها على نفسه؛ فعليك أن تقرأ الأحداث التي وقعت في زمان رسول الله، وتطبّقها على نفسك؛ فلو كنت في ذلك الزمان، ماذا كنت صنعت؟ وما كان موقفك؟
واقرأ الأحداث التي حصلت في زمان سيّد الشهداء، حيث يأتي المبلّغ والداعي لمسلم بن عقيل ـ والذي كان يلبس عمامة وجبّة وعباءة كما نلبس نحن ـ في يوم عاشوراء حاملاً بيده سيفًا، ويسدّ طريق الإمام الحسين! عجبًا! لقد كنتَ الداعي إلى مسلم! أنت من كان يذهب إلى الناس ويأخذ البيعة منهم لمسلم!
ما كلّ هذا؟! هذا كلّه عبرة لنا؛ فلا تنظر إلى ذاك الزمان الذي تبلّغ فيه، بل انظر إلى هذا التبليغ في أيّ موضع هو من قلبك.. إلى هذا فلتنظر! {وهم عنها معرضون} فهذا ما يجب على الإنسان [أن يفكّر فيه].
الاعتراف بالخطأ وعدم السعي للتبرير يسرّعان السلوك
هذا ما أوصانا به العظماء والأولياء، فقد كانوا يقولون لنا: انظروا إلى هذه المسائل، وهذه الأحداث التي تجري والتي تشاهدونها بأنفسكم، واعتبروا من كلّ واحد منها، واستفيدوا منها في مسيركم ومنهجكم، وطبّقوها على حياتكم؛ فما الذي علينا فعله؟ وما هي الطريق التي علينا أن نسلكها؟ أنسير في هذا الطريق؟ واويلاه!! أم نسير في ذاك؟ يا للمصيبة! فمن أين إذن؟! هو الطريق الذي دعونا إليه دون سواه؛ فلا هذا ولا ذاك، بل سر إلى حيث دعوك، وإلى حيث ساروا هم، ووصلوا، في حين أنّ الطرق الأخرى المتعدّدة لا توصل الإنسان، بل تنحرف به إلى أماكن أخرى.
ترسم نرسی به کعبه ای اعرابی | *** | کین ره که تو مي روی به ترکستان است |
يقول:
[أخشى أن لا تصل إلى الكعبة أيّها الأعرابي فالطريق التي تسلكها أنت تُؤدّي إلى بلاد الأتراك]
فكلّ تلك الطرق تؤدّي إلى بلاد الترك، وما الطريق إلاّ طريق أولياء الله التي بيّنوها لنا من جهة، كما أوضحوا [بأفعالهم] من جهة أخرى ما يجب علينا فعله، فقد أوضحوا ذلك [عمليًّا]، وقد رأينا بأنفسنا ولا زلنا نرى؛ فالحمد لله، لم يعد هناك شيء خفيّ، لنخفيه نحن، وهناك من الأشياء ما يعرفه ويخبره جيّدًا كلّ واحد بنفسه؛ فما أريد أن أقوله لكم أيّها الرفقاء هو أن لا نخدع أنفسنا، ولا ندسّ رؤوسنا في الرمال، ولا نطلب إلاّ رضى الله وحده، ولا نجعل شغلنا الشاغل هو التبرير، فإنّا لا نخدع حينئذ سوى أنفسنا، ولا يُمكننا خداع الملائكة ولا خداع الله تعالى:
گر جمله کاینات کافر گردند | *** | بر دامن کبریاش ننشیند گرد |
يقول:
[لو كفرَت كلّ الكائنات، لما تلوّث رداء كبريائه بالغبار]
فلا نبرّر ولا نؤوّل؛ ولا مشكلة في أن نخطئ، فالخطأ ليس مشكلة؛ لأنّنا لسنا بمعصومين، إنّما المعصومون أربعة عشر فردًا، والله سبحانه هو الذي خلقنا هكذا، ولو أراد، لجعلنا كالمعصومين، بينما المعصوم في دنيانا الآن هو واحد لا أكثر، والبقيّة... أجل الجميع دون استثناء، ولا حياء ولا مداراة في هذا، فالجميع يخطئون، والمهمّ في الأمر هو أنّنا إذا أخطأنا ثمّ التفتنا، فعلينا أن نتراجع ولا نصرّ على خطئنا، ولا نبرّر، ولا نهرب، ولا نبحث عن مخرج وتأويل.. هذا هو المهمّ!
إذا أخطأت فقل: أخطـأت، وبكلّ فخر قل: أخطأت وسأخطئ أيضًا، ثمّ سأخطئ، وعندما لا يريد الله، فلن أخطئ، ولكن عندما أخطئ وألتفت، فإنّني أعود؛ لنكن دائمًا هكذا؛ فهذا مريح للإنسان، فلا قلق من أنّك إذا أخطأت فيما مضى، فعليك أن تبرّر خطأك.. لا يا عزيزي! لقد أخطأتُ، وتكلّمتُ بكلام كان عليّ أن لا أقوله، وارتكبت هذا الخطأ الذي كان في غير محلّه؛ ولو حدثت لي نفس المسألة الآن، فلن أكرّر الخطأ ذاته؛ فهل عندك ما تقوله؟ فها أنا ذا أعترف بنفسي!
ـ عجيب أوهل تخطئ أنت؟!
ـ نعم أخطئ، ألا تخطئ أنت أيضًا؟! أفهل أنت معصوم؟! فهذا هو مقتضى كلامك!
لقد أخطأت وماذا بعد؟ لقد أخطأت، فما الذي تُريد منّي فعله؟! فإذا قيل لي: «بما أنّك أخطأت الآن، فلن يتسنّى لي الاطمئنان بكلامك اللاحق»، فسأقول: «أنت غير مجبر على الاطمئنان بكلامي، بل ومن قال لك إنّه عليك أن تسمع له من الأساس؟! فلماذا تُضيّع وقتك وتجلس للاستماع إلى كلامي؟!».
وبهذا، لن تبقى نفسك أسيرة للأخطاء السابقة، ومرتهنةً ومتعلّقةً بها، بحيث تمنعها من الحركة؛ وذلك لأنّك أرحت نفسك، وقلتَ: «يا إلهي، لقد خلقتني إنسانًا، والإنسان خطّاء؛ ولقد أخطأت في هذه المسألة». حينئذ، سيقول لك الحقّ تعالى: «صدقتَ، وأنا لن أفعل لك أيّ شيء، فإذا تُبت، فلن أتّخذ ضدّك أيّ إجراء، وأنا أعلم بأنّك أخطأت، وأنا الذي خلقتك على هذه الشاكلة!».. حسن جدًّا، فحينما يقول لك الله تعالى: «أنا خلقتك على هذه الشاكلة، بحيث إنّك تُخطأ»، فإنّه يقول لك أيضًا: « فقط أريد منك ألاّ تواجهني، ولا تُعارضني، ولا تستكبر، ولا تُنكر، وأمّا بقيّة المسائل، فليست ذات أهمّية؛ فلا تُواجهني وحسب، ولا تقل: أنا ندّ لك!».
وهكذا الأمر بالنسبة للمستقبل، فلا ينبغي لذهننا أن يتعلّق بشيء، ويُصبح أسيرًا له؛ فلو فرضنا مثلاً أنّني... كان هناك أحد الأصدقاء من الأطبّاء الماهرين جدًّا، ولعلّه فريد في مجال عمله، فقال لي: «حينما أقوم بإجراء العمليّات، [يُسجّلونني بالفيديو]»، مع أنّ ذلك كان يتمّ في تلك الأيّام، وقد تغيّر الوضع لاحقًا؛ لأنّ دأبنا عادةً هو الإفساد، وليس الإصلاح؛ فهكذا هو ديدنا عادةً!! فكان يقول: «عندما رأيت شريط إحدى هذه العمليّات، والذي عرضوه على التلفاز حتّى يراه الجميع، أصابتني حالة من القلق والتوجّس؛ فلعلّه كان عليّ حين إجراء العمليّة أن أدقّق أكثر في الموضع الكذائي»؛ لأنّ العمليّة كانت [دقيقة] جدًّا، وأنا لا أريد أن آتي على ذكر اسم الطبيب؛ لأنّ الرفقاء يعرفونه بأجمعهم، وقال: «فكنت أشاهد الشريط بهذه الحالة من التوجّس، إلى أن انتهى، فكنت أشكر الله تعالى على أنّه لم يحصل شيء؛ لأنّ الملايين من الناس كانوا يُشاهدونه».
فما هو السبب في ذلك؟ سببه أنّ كلّ إنسان له شخصيّته الخاصّة ويعيش في أجوائه الخاصّة؛ أي إنّ وجاهته وشهرته وسمعته وشعبيّته في كلّ مكان صنعت له أجواءً، فصارت نفسه أسيرة لهذه الأجواء، وصار همّه الدائم هو: أرجو ألاّ أكون قد أخطأت في هذا الموضع؛ لأنّ عشرة ملايين شخص سيُشاهدون العمليّة التي أجريتها هذه الليلة! ولكن، عندما انقضت مدّة من الزمان، تحسّنت أحواله!! فكان يقول: «أصبحت عندما أخطئ أضحك على نفسي!»؛ فما الذي حصل له؟ لقد تخلّص من ذلك القيد.. قل: «لقد أخطأت! فأنا عبد من عبيد الله تعالى»؛ فمع أنّك أفضل طبيب في العالم ـ وقد كان كذلك فعلاً ـ ، لكنّك قمت بهذا الخطأ، فما الضير في ذلك يا عزيزي؟! إنّ السماء لم تُطبق على الأرض، ولم يحصل شيء ذي بال، فلماذا عليك أن تظلّ أسيرًا لذلك؟! فلو كنتُ معصومًا، وكنت أرى هذه العصمة منّي وليس من الله تعالى ـ فهذا أيضًا شرط في ذلك ـ ، حينئذ فقط، يحقّ لي أن أنزعج، وينتابني القلق والاضطراب؛ لأنّه لا يُمكنني تبرير الخطأ مع امتلاكي لهكذا عصمة، لكنّني لست معصومًا، ولا أنا أتوفّر ـ فرضًا ـ على تلك القدرة والإرادة التي تخوّلني أن أتحكّم في كلّ شيء، فما الذي سيحصل لو قالوا عنّي: لقد ارتكب الطبيب الفلاني خطًا في الموضع الكذائي؟! فليقولوا ذلك! فما هي المشكلة في ذلك؟! وهكذا الأمر بالنسبة إلينا جميعًا مهما كانت ظروفنا والمكانة التي نحتلّها؛ فإذا استطعنا التخلّص من هذا التعلّق، فكم سنكون أحرارًا، وكم سنشعر بالراحة حينئذ! هذا في عين أنّه علينا الالتزام بالمراقبة، والتدقيق في الأمور.
فمع أنّ المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه كان وليًّا إلهيًّا ـ وهذه أعلى درجة يُمكننا تصوّرها، إلاّ أنّه حينما كان ينتهي من كتابة أحد مؤلّفاته، يأمرني بأن أقرأه، وأضع عليه إشكالاتي، فكنت أقرأ الكتاب، وأشكل عليه في بعض المواضع، فيقوم بتصحيحها.. حسنًا، أفهل كان الكتاب قرآنًا حتّى نكون ملزمين بعدم تغيير كلماته؟! لا! ولا يخفى أنّني تحدّثت سابقًا عن مثل هذه المسائل، وبيّنت هناك السرّ في صدور هكذا أفعال من أولياء الله تعالى؛ فلم ينزعج المرحوم العلاّمة ويقول: «يا للعجب، لقد طرح عليّ عدّة إشكالات! وحينئذ، كيف لي أن أتحدّث معه [حياءً]!»، فلم تكن مثل هذه الأمور لتأتي على ذهنه من الأساس، مثلما لم يأت على ذهني أنا أيضًا أنّني نجحت في الإشكال عليه! فما حدث هو أنّه كتب بعض السطور، فأشكلت عليه في بعض الموارد، فصحّحها، وانتهى الأمر! فلم يحصل أيّ شيء ذي بال، ولم تحدث أيّة مشكلة!
وحينئذ، يأتي أحدهم ويريد أن يُحاسبني على كلام قلته في أحد الأماكن، ويقول لي: «لماذا ذكرت هذا الكلام قبل ثلاثين سنة؟» فبغضّ النظر عن أنّه كان كلامًا صحيحًا، لكنّني أقول له: «كنت أرغب في ذكره!»؛
ـ لا، لقد كان كلامًا خاطئًا.
ـ فليكن ذلك، لقد أخطأتُ؛ هذا مع أنّني لم أخطأ هناك، لكن من باب التسليم فقط أقول إنّني أخطأت.
ـ لا، بما أنّك أخطأتَ هناك، فلا ينبغي لك أن تأتي وتتحدّث الآن.
ـ لماذا لا ينبغي عليّ الحديث الآن؟! وما معنى أنّه عليّ تجنّب الكلام؟! وما الذي تُريد منّي أن أفعله؟! هل تريدني أن أجلس في بيتي من دون عمل!
هل التفتّم؟! فهذا كلّه هراء! فنحن بأجمعنا بشر، وكلّنا يخطأ، وعلينا أن نتقدّم للأمام من خلال الشعور بهذه الحالة؛ فإذا امتلك الإنسان مثل هذا الشعور، فإنّه سيتقدّم بسرعة؛ وهذا الذي يُسمّى السير السريع في السلوك النفساني؛ أي أنّ النفس تتخلّص وتتحرّر من التعلّق بكلّ ما من شأنه أن يقف سدًّا أمامها؛ وهذا نظير ذلك الطائر الذي يتمّ تحريره فجأةً، فتجده يُحلّق بسرعة في السماء؛ وأمّا إذا بقي الإنسان أسيرًا لتلك الأجواء، فإنّه سيكون مثل الطائر الذي قُيّدت رجله بآلاف الحبال والخيوط، فيُريد أن يتحرّك هنا وهناك، لكنّها تصدّه عن الحركة، حيث إنّ ذلك التعلّق يحجز النفس عن التخلّص من الكثرات والتوغّل في الأهواء والشهوات، والتحليق في عوالم التجرّد؛ لأنّ تلك الأجواء متعارضة مع أجواء التجرّد؛ فهما فضاءان مختلفان، وعالمان متعارضان لكلّ واحد منهما قواعده وقوانينه الخاصّة؛ فكلّ من يدخل في هذا العالم [عالم التعلّقات]، لا يكون له أيّ اطّلاع على ذلك العالم [عالم التجرّد]، وكلّ من تمكّن من الولوج إلى ذلك العالم [التجرّد]، فإنّ هذا يعني أنّه تخلّص من جميع تلك التعلّقات، وتجاوز هذه الأمور.
نرجو من الله تعالى أن يُخلّصنا من هذه المسائل، وينجّينا من هذه المصائب، وأن يبيّن لنا الحقائق الإلهيّة، ويجلّيها لنا أكثر فأكثر، وأن يُوفّقنا سبحانه للحركة وتجاوز هكذا أمور.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد