المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1436
التوضيح
كيف يرى الإنسان نتائج عمله يوم القيامة؟ وهل للأمور تحقق وراء تحققها المادي؟ كيف يعلم النبي والإمام عليهم السلام بالوقائع قبل تحققها؟ أسئلة أجاب عليها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني قدس سره في المحاضرة الخامسة من شرح دعاء أبي حمزة، بالإضافة إلى بيانه ما ينبغي على السالك أن يطلبه من الله، وأنّ عليه أن يطلب طلب المستعطي لا طلب المستحق. فضلاً بيانه لأمور أخرى مهمة أيضاً.
هو العليم
تجسّم الأعمال يوم القيامة
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٦ هـ ق - المحاضرة الخامسة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
وَمَا أَنَا يَا رَبِّ ومَا خَطَرِي هَبْنِي بِفَضْلِكَ وتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ أَيْ رَبِّ جَلِّلْنِي بِسَتْرِكَ واعْفُ عَنْ تَوْبِيخِي بِكَرَمِ وَجْهِكَ فَلَوِ اطَّلَعَ الْيَوْمَ عَلَى ذَنْبِي غَيْرُكَ مَا فَعَلْتُهُ ولَوْ خِفْتُ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ لا لأَنَّكَ أَهْوَنُ النَّاظِرِينَ إليّ وأَخَفُّ الْمُطَّلِعِينَ عليّ بَلْ لأَنَّكَ يَا رَبِّ خَيْرُ السَّاتِرِينَ وأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وأَكْرَمُ الأَكْرَمِينَ.
يا إلهي، من أكون أنا؟! وما يكون قدري ومكانتي وشأني؟! فإذا كان الأمر بهذا النحو، اعف عنّي بعفوك، واغمرني بفضلك لا بعدلك! وهذا نظير تلك العبارة الواردة عن أمير المؤمنين عليه السلام والتي تُقرأ أيضًا في دعاء القنوت، حيث كنّا كثيرًا ما نُشاهد المرحوم الحدّاد (رضوان الله عليه) والمرحوم العلاّمة يقرآن هذا الدعاء: اللهمّ إنّك آنس الآنسين لأوليائك، وأحضرهم بالكفاية للمتوكّلين عليك... إلى أن يقول في الأخير: اللهمّ عاملنا بعفوك ولا تُعاملنا بعدلك؛۱أي: عاملنا بفضلك، لا بعدلك وحسابك، ولا بالمجازاة وفقًا لميزان الحساب.
هبني بفضلك؛ أي: اعف عنّي بفضلك، ومتّعني بآثار فضلك، واجعل لي نصيبًا من ذلك.
وكذلك تصدّق عليّ بعفوك؛ أي: فتلكن تلك الصدقة التي تُريد أن تمنحني إيّاها هي عفوك، وليكن ذلك العطاء الذي ترغب أن تهبني إيّاه هو فضلك وآثار فضلك..
ما أعجبه من دعاء! فكما ذكرنا للأصدقاء، فإنّ الفارق الذي يكمن بين كافّة الأدعية الواردة عن المعصومين عليهم السلام ـ بل وحتّى ما نشاهده عمومًا من عظماء الأولياء في مناجاتهم وأدعيتهم ـ وبين بقيّة الناس هو: صحيح أنّ كلتا الطائفتين ـ ولو كان بعضهم من الناس الصلحاء العاديّين ـ تطلب من الله تعالى وتعلم بأنّه تعالى هو وحده المعطي، وبأنّ حساب الجميع يرجع إليه فقط في عالم القيامة، وليس كما يحصل هنا، حيث يلجأ الإنسان إلى هذا الشخص وذاك، والأمور فيها تقبل التقديم والتأخير، بل يُمكن لها أن تنقلب رأسًا على عقب، فيصير ذاك الذي في الأعلى في الأسفل، وذاك الذي في الأسفل في الأعلى، وتتغيّر الحسابات من هذه الجهة إلى تلك.. فالأمر هناك ليس بهذا الشكل، بل إنّهم سيُخرجون الشعرة من العجين بنحو يظلّ معه الإنسان مبهورًا من شدّة التعجّب.
تجسّم الأعمال وحضورها يوم القيامة
ولدينا في الآية القرآنيّة الشريفة أنّه {وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا}۱؛ أي أنّ المشركين والكفّار سيرون جميع مع قاموا به حاضرًا بين أيديهم، وهي من الآيات القرآنيّة التي تدلّ على الوجود والبقاء العينيّين للأعمال، وأنّ الأعمال التي نقوم بها لها وجود خارجي، فهذا الكلام الذي أتحدّث به له وجود؛ بدليل أنّ جميع آلات التسجيل هذه تُسجّله، كما أنّ هذه الأجهزة المفصّلة التي وضعوها هنا لأجلنا تقوم بتسجيل صوتي وإظهار هذا المُحيّا غير المبارك وغير المحمود [ضحك].. فتجدنا نقف أمامها متسمّرين لا نُحرّك طرفًا ولا يُسمع لنا صوت.. فالأمر قد صار في هذا العصر بهذا النحو. ولطالما قلت: لو أنّ عُشر القيمة التي نُعطيها لهذا البلاستيك وهذه الأسلاك الكهربائيّة وهذا الخشب أعطيناها لله تعالى وملائكته، لانحلّت أمورنا!
وسنسعى إن شاء الله لبيان هذه المسألة في الفقرات الآتية إنّ وفّقنا تعالى لذلك؛ فحينما كنت أطالع هذه الفقرات، اكتشفت أنّه ما أعجبها من فقرات! وبحقّ، فإنّ الإمام السجّاد عليه السلام لم يُهمل في هذا المجال أيّ شيء.. {ويَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَلا كَبيرَةً إِلاَّ أَحْصاها}٢؛ فأيّ كتاب هذا؟! وما هي قصّته؟! وما هي حقيقته بحيث إنّ أيّ عمل أقوم به ـ قلّ أو كثر ـ سيُسجّل فيه؟ إنّ حقيقته ترجع إلى ما ذكرناه.. إنّها بكلّ بساطة الصورة العينيّة والواقعيّة للأعمال في يوم القيامة.. {وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا}؛ وكلمة (حاضرًا) مهمّة جدًّا هنا؛ لأنّها تعني أنّ كلّ ما نقوم به نراه حاضرًا يوم القيامة.
حسنًا، فأنتم تُشاهدون الآن بأنّهم يُسجّلون كلام أحدهم، وحينما يُنكر ما قاله، يأتونه بالشريط، ويقولون له: تفضّل يا سيّدي، هذا ما قلته في السنة الماضية.. قبل ستّة أشهر.. قبل ثلاثة أشهر! وعندما يرى الإنسان كلامه حاضرًا، لا يستطيع الإنكار، بل لا يُفسح له المجال للإنكار أبدًا، وحتّى لو أصرّ على إنكاره، فسوف يأتونه بنفس الفيلم، ويقولون له: انظر يا سيّدي إلى هذا الفيلم، فنحن قد سجّلناه من دون أن تشعر أنت بذلك، وإلاّ لو كان يشعر بذلك، لما فعل ما فعل! وعليه، من الواضح أنّه بالإمكان تسجيل فيلم بنحوٍ لا يشعر معه أيّ أحد بذلك، لكن يبقى أنّ هذا العمل هو عمل الملائكة! إلاّ أنّني لا أعلم هل يقدر الإنسان في هذا العالم على القيام بمثل هذا العمل أم لا، حيث ينبغي التحقيق في هذه المسألة لنرى هل بالمقدور تسجيل صوت شخص وصورته من دون أن يحسّ بذلك!! لأنّ هذا العمل هو عمل الملائكة، غير أّنه من الممكن للإنسان أن يرتقي إلى درجة تُمكّنه من إنجاز أعمال الملائكة، والظاهر أنّه وصل إلى ذلك! نعم، يُقال بأنّه وصل إلى حدّ صار بمقدوره أداء بعض أفعال الله تعالى! {وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا} فـ(حاضرًا) تعني أنّ ما نقوم به هنا نراه بعينه هناك. نحن الآن جالسون هنا، وأنا أتحدّث، بينما الرفقاء يُصغون إلى هذه المسائل التي أتحدّث عنها؛ فهل لهذا الأمر واقعيّة أم أنّه فيلم؟ حتمًا له واقعيّة! نعم، صحيح أنّ ما تُسجّله هذه الأجهزة عبارة عن فيلم وتسجيل وأمثال ذلك، إلاّ أنّ نفس هذه الواقعيّة الخارجيّة ليست فيلمًا، بل هي حقيقة وواقعيّة، وحينما يأتي يوم القيامة، سنرى بأجمعنا هذه الحادثة بعينها؛ عندما كنت جالسًا أتحدّث، وأنتم تصغون إلى هذه المسائل؛ أي أنّنا سنرى نفس هذه الواقعيّة الخارجيّة التي تحدث الآن، لا أنّهم سيرُوننا فيلمًا عنها؛ لأنّ هذه مسألة أخرى، وهي مسألة طبيعيّة؛ فلو أنّكم أرجعتم شريط الأحداث التي وقعت هنا، سترون أنفسكم، لكنّكم ستُلاحظون بأنّه عبارة عن فيلم عنكم، لا أنّه يُمثّل شخصكم وذاتكم، فتقولون: ذاتي أنا هي الجالسة في هذا المكان، وأمّا هذا الفيلم، فيُظهر صورتي فقط.. ألا تقولون ذلك؟ إنّه يُبرز صورتي وحسب، لا أنّه يُمثّل ذاتي وشخصي؛ لأنّ ذاتي هي الجالسة هنا والتي تُشاهد الفيلم، وتستمع إلى هذا الصوت.. هل التفتّم إلى الأمر؟ فحينما تُغادرون هذه الجلسة، وترغبون في مشاهدة الجهاز الذي سجّلها، تضغطون على الزرّ، وترون السيّد الطهراني يتحدّث، بينما أنتم جالسون وتستمعون. فهل ما ترونه في الفيلم هو ذاتكم أم صورتكم؟ فأنتم عبارة عن هذا الشخص الجالس هنا، وهو شخص واحد لا شخصين.. أفهل نحن شخصان: شخص يُمثّل ذاتنا وشخص موجود في الفيلم؟ فإذا كان الأمر كذلك، فسوف يضاف علينا هذا الشخص الذي يظهر في الجهاز الآخر فنصير ثلاثة، بل سنصير عشرة آلاف شخص بعدد الأجهزة التي تُظهرنا! كلا يا عزيزي، فأنا شخص واحد، لكنّ صوره متعدّدة، حيث من الممكن أن تظهر صورتنا في هذا الجهاز وفي ذاك، ومن الممكن أن تكون الأصوات متعدّدة، إلاّ أنّ شخصنا واحد، ووجودنا واحد؛ فوجودنا العيني واحد، إلاّ أنّ تلك الآثار ـ وهي عبارة عن صورنا وكلماتنا وحركاتنا ـ قد تكون متعدّدة، حيث قد تتكثّر الصور التي تُلتقط لآثارنا، فيُظهرها هذا الجهاز وذاك. ومن باب المثال، بمقدوركم أن تضعوا أمامكم ألف جهاز لاقط، فتُشاهدون ألف صورة عنكم، ففي هذه الحالة، لن تصيروا ألف شخص، بل صورتكم هي التي ستصير ألف صورة؛ فأنتم هو هذا الشخص الذي يُشاهد هذه الأجهزة. وفي يوم القيامة، سيُظهرون لكم أنفسكم عند قيامكم بهذا العمل، لا أنّهم سيأتون بجهاز وفيلم وتسجيل؛ أي سيُحضرون نفس حالتنا الآن والتي حصلت بشكل تدريجي؛ لأنّ تحقّق الحوادث المادية يكون في الزمان، وحينئذ، لا يُمكن للإنسان أن يشعر بالحضور العيني لهذه الحوادث في اللحظة السابقة، ولا في اللحظة اللاحقة؛ لأنّ الإنسان يعيش دائمًا في الحال، وفي نفس هذه اللحظة، وأمّا الثانية السابقة، فماذا صار لها؟ لقد انقضت، ولا يُمكنك الإمساك بها! فالساعة الآن تُشير إلى الحادية عشر وثلاث دقائق، فلِنَرَ هل بمقدورك أن تُحضر الساعة الحادية عشر ودقيقتين! لا يُمكنك ذلك؛ لأنّها انقضت، وخرجت عن قدرتي وقدرتك، فالزمان ليس بأيدينا وهو ينقضي شئنا أم أبينا. كما أنّه ليس بوسعكم أيضًا أن تُحضروا الساعة الحادية عشر وأربعة دقائق، لأنّها متأخّرة بدقيقة واحدة. بل إنّ دقيقة واحدة كثيرة، فلا يُمكنكم أن تُحضروا الساعة بعد خمسة ثوانٍ، لكن ما إن تمرّ هذه الثواني الخمس حتّى تتحقّق على رأسها تلك الساعة.
وبناءً عليه، فإنّ جميع الأعمال التي نؤدّيها تتحقّق في الآنات؛ أي في نفس تلك اللحظة، وما ذكرناه انقضى ولا يُمكننا الإمساك به، كما أنّ الكلام الذي لم نذكره إلاّ بعد ثانية أو ثانيتين لم يأت بعدُ وهو عدمٌ. وعليه، فإنّنا نعيش في الآن وفي الزمان الحالي، وفي نفس هذه اللحظة نشعر بالوجود. وأمّا بالنسبة للكلام الذي تحدّثنا به في الساعة الحادية عشر ودقيقتين، وفي الساعة الحادية عشر إلاّ بضعة دقائق، فهل كان له وجود أم أنّه أمر عدمي؟ من المحتّم أنّه كان أمرًا وجوديًّا، وإلاّ لما كنتم تنظرون إليّ وتصغون إليّ، ولما كنت أتحدّث معكم، فجميع تلك الأمور وجوديّة، إلاّ أنّها خارجة عن يدي، ولا أستطيع الوصول إليها؛ لأنّني أتقدّم بدوري مع تقدّم الزمان؛ فالساعة الآن هي الحادية عشرة وخمس دقائق، وأنا الآن أمشي مع الزمان، فتصير الساعة الحادية عشرة وستّ دقائق، ثمّ تصير الحادية عشرة وسبع دقائق، إذا بقي من العمر شيء؛ لأنّه من غير المعلوم أن نبقى على قيد الحياة أم لا؛ إذ العمر ليس بأيدينا نحن! رحم الله المرحوم خندق آبادي، وهو من الوعّاظ الصلحاء الذين رأيتهم، حيث كان يتحدّث في شهر رمضان، بينما كانت النساء تُثرن الضوضاء كما هي عادتهنّ.. وهنا نعلم كم عانى والدنا المظلوم في مسجد القائم من هؤلاء النسوة، وكم كان يقول: أيّتها النسوة اسكتن! من دون أن يُصغي إليه أحد. وأذكر في إحدى الليالي أنّها كانت ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك، وهي ليلة القدر، ومهما حاول إسكاتهنّ، لم يُصغن إليه، واستمررن فيما كنّ عليه؛ فكيف لهنّ أن يسكتن، وقد كنّ ينتظرن حلول شهر رمضان ومجيء مثل هذه الليلة، لكي يجتمعن ويقصصن همومهنّ على بعضهنّ!!! فبالنسبة لهنّ، لم يكن هناك أيّ معنى لهذا الكلام، بل إنّ المرحوم العلاّمة كان يُوجّهه للجالسين أسفل المنبر وليس إليهنّ!! وخلاصة الأمر، أنّ المرحوم العلاّمة تعب، وقال لهنّ: بالله عليكنّ، أليس من الخسارة أن يكون لدينا ليلة واحدة في السنة ـ بعنوان ليلة الثالث والعشرين ـ ، ثمّ تقضونها في الحديث العبثي؟! غير أنّ كلامه لم يُفد شيئًا، حيث بقين على حالهن، إلى أن أتى أحد الأشخاص من أهل المسجد، ولا أعلم هل هو حيّ أم لا؛ وعلى كلّ حال، أرجو من الله تعالى أن يحفظه إن كان حيًّا، وقد كان شخصًا ذا قبضة قويّة، فكان هو الوحيد الذي يستطيع مجابهة أولئك النسوة، وإلاّ فإنّ أمثال العلاّمة الطهراني لا يقدر على ذلك!! فصعد المنبر، وبدأ يصيح فيهنّ بكلّ ما خطر على باله: يا أيّتها النسوة، اخرسن! اذهبن إلى حال سبيلكنّ! و... فصمتن، ولم ينبسن ببنت شفة إلى أن انتهى المجلس! فمهما قال لهنّ والدنا المظلوم، لم يُفلح، لكن ما إن تدخّل ذلك الشخص حتّى أصلح الأمور في دقيقتين، ليعمّ المجلس السكوت وتنحلّ المشكل إلى الأخير.
تحقّق جميع الأمور ووجودها في عالم الملكوت وإحاطة الإمام بها
والكلام هنا هو: إنّ جميع هذه المسائل متحقّقة وموجودة، إلاّ أنّها خارجة عن أيدينا، ولا نستطيع الاطّلاع عليها بسبب نقصنا الوجودي؛ لأنّنا مقهورون بالزمان وبقوانين الزمان والمكان؛ ولهذا، لا يُمكننا تخطّي هذه القوانين، فلا نقدر على التقدّم للأمام ولا الرجوع إلى الوراء. وأمّا إذا عالجنا هذا الضعف، ووصلنا إلى درجة من الكمال والرشد، وتمكّنا من التغلّب على قوانين الزمان، وجعلناها تحت سيطرتنا ـ وهو بحث مفصّل ـ فإنّنا سنقدر على الإحاطة بالماضي والمستقبل إحاطةً حضوريّة، لا علميّة أو تصوّرية.
وهذا نظير ما لنا الآن من إحاطة عينيّة وإشراف حضوريّ بالنسبة لوجودنا وحضورنا المادّي والفيزيائي في هذا المكان، وإلاّ لو لم يكن لنا ذلك، لما كان بوسعنا أن نقول لمن قال لنا اذهب من هنا: لماذا أذهب أنا؟ اذهب أنت، وأمّا أنا، فأريد البقاء هنا! وأريد الكلام، وأرغب في الاستماع، وأحبّ كذا وكذا! فما الذي يعنيه قولي: اذهب أنت؟ يعني أنّ اختياري ـ أنا الموجود هنا ـ بيدي، ولديّ إشراف على نفسي ووجودي وبقائي والمكان الذي أشغله.. فلديّ الآن إشراف على جميع هذه الأمور، وهي عبارة عن حالة عينيّة، لا أنّها حالة تصوّرية أو علميّة أو توهّمية أو اعتباريّة، حيث إنّنا نحسّ بحالة عينيّة بالنسبة لوجودنا في هذا المكان. وفيما يخصّ الأشخاص الذين خرجوا عن حيطة قوانين الزمان والمكان، ووصلوا إلى مرتبة من الرشد والكمال، فيحصل لهم نفس هذا الإشراف العيني على الماضي والمستقبل.. دعك عن الماضي، بل كلامنا هو عن المستقبل؛ لأنّها مسألة مهمّة جدًّا، غاية الأمر أنّ هؤلاء الأشخاص لا يستطيعون بيان مثل هذه المسائل؛ بمعنى: حينما يُخبرنا الإمام عليه السلام عن المستقبل ويقول مثلًا: (غدًا، سوف يحدث في قمّ أمر معيّن، وستحصل حادثة مروّعة في الشارع الفلاني، حيث ستصطدم مجموعة من السيّارات ببعضها البعض)، فبأيّة طريقة يبيّن لنا عليه السلام هذا الأمر؟ إذ نقطع بأنّ تلك الحادثة ستتحقّق في الغد؛ لأنّه لا شكّ في أنّ ما يقوله الإمام عليه السلام صادق وصحيح، لكنّ كلامنا هو عن كيفيّة حصول ذلك العلم للإمام؟
فهل جاء ملك وأسرّ للإمام في أذنه بأنّ سيّارتين أو ثلاثة ستصطدم ببعضها بشدّة في شارع "صفائيّة"، وستحصل مجموعة من المسائل، فيُبلِغ الإمام بهذه الحادثة؟ يعني: ليس ثمّة شيء آخر غير هذا؟ فهذا أمر تافه ولا يستحقّ الاهتمام! أو هل الإمام يشعر بصورة تلك الحادثة؟ نظير ما يحصل معنا نحن حينما نعتبر في ذهننا صورة إحدى المسائل التي وقعت لنا أمس، حيث كنّا مثلًا نفطر في الساعة الثامنة والنصف أو التاسعة إلاّ ربع، وكنّا جالسين على المائدة، وكان هناك أيضًا مجموعة من الأشخاص، وكنّا نتبادل أطراف الحديث، فنحضر ذلك الآن؛ أي أنّنا أحضرنا في أذهاننا الآن صورة الإفطار الذي حصل البارحة، فلم نحضر الإفطار بعينه، بل أحضرنا صورته، وأمّا نفس ذلك الإفطار، فقد تحقّق البارحة.. فهل ما يحصل مع الإمام هو بهذا النحو؟ بمعنى أنّ الإمام عليه السلام لا علاقة له بنفس تلك الحادثة، ولا بحضورها العيني ووجودها الخارجي، وأنّ ما يعتبره هو صورتها وحسب؟! وحينئذٍ، يُطرح علينا هذا التساؤل: كيف حلّت صورة هذه الأشياء في نفس الإمام من دون وجودها الخارجي؟ فالأمر الذي لم يتحقّق بعدُ لا يمتلك أيّة صورة من الأساس، وحتّى الله تعالى لا يُمكنه أن يصنع له صورة لأنّ الفرض أنّه عدم! والشيء المعدوم ليس له وجود حتّى يكون بوسعك أن تجعل له صورة، وتصنع له قالبًا ذهنيًّا؛ فهو لم يمتلك الوجود بعد ولا زال معدومًا! فهل لديكم اطّلاع على ما سيحدث في هذا المكان بعد نصف ساعة؟ وهل تعلمون ما الذي سأقوله بعد عشر دقائق؟ فأنا لا أعلم بذلك فضلًا عنكم أنتم.. فهكذا هو الأمر!
رحم الله المرحوم دستغيب، فقد كان إنسانًا صالحًا جدًّا، نسأل الله أن يدخله في مغفرته، فقد كان يتحلّى بصفاء كبير، وفي بعض الأوقات، حينما يضيق صدري شوقًا لأولئك العظماء الذين كانوا من أصدقاء الوالد وكانوا يتردّدون على منزلنا وأحمل عنهم ذكريات جميلة، فإنّني أستمع إلى كلام المرحوم دستغيب [المسجّل] لخمسة دقائق، فتحصل لي حالة لا توصف من الصفاء والانبساط، فقد كان يتحلّى بصفاء كبير وكان إنسانًا بسيطًا جدًّا؛ أي أنّ ما يقوله يصدر حقيقةً من قلبه.. رحمة الله عليه، فيالهم من أشخاص فقدناهم.. يا لهم من أشخاص فقدناهم!
وفي الزمان السابق أيّام الشاه، جاء المرحوم العلاّمة إلى قمّ، حيث كنت قد اشتريت مجموعة من الأشرطة السمعيّة للمرحوم دستغيب، وكنت أستمع إليها، فكان كلامه يجذبني ويستقرّ في قلبي؛ وهذه المسألة مرتبطة بفترة زمنيّة قديمة تصل إلى ثلاثين أو خمسة وثلاثين سنة، حينما كان المرحوم دستغيب في شيراز، وكان مسؤولًا هناك عن مسجد يخطب فيه.. لقد كان شخصًا رائعًا ولطيفًا جدًّا! وفي أحد المجالس التي حضرها عند ذهابه إلى همدان، حينما خرج من الغرفة، التفت المرحوم الشيخ الأنصاري (رضوان الله عليه) إلى الحاضرين وقال لهم: سيُستشهد في آخر حياته. وقد نقل مجموعة من الأشخاص أنّ بعضهم سمع المرحوم الشيخ الأنصاري يقول: سيُستشهد هذا السيّد في آخر حياته، وحينئذٍ سيصل إلى مراده! أي أنّه سيبلغ مراده وهدفه المنشود عن طريق حصول هذه المسألة.. رحمة الله عليه.
فاشتريت الأشرطة، ووضعتها للمرحوم العلاّمة، فجاء إليّ وجلس ليستريح، وفي نفس الوقت أخذ يستمع لتلك الأشرطة، فكان مبتهجًا جدًّا، وقال لي: إنّه السيّد عبد الحسين! حيث كانا رفيقين وكانت بينهما علاقة حميميّة، فقال لي: يا سيّد محمد محسن، أنّى لنا أن نعثر على مثل هؤلاء! ثمّ ذكر هذه العبارة: أولئك والله نور الله في ظلمات الأرض! وقد سمعته بنفسي يقول عنه ذلك؛ فبطبيعة الحال، لم يكونوا كلّهم كذلك، وأمّا هو، فقد كان يتمتّع بالصفاء وسلامة النفس.
نقل أحد الأصدقاء يومًا أنّه كان يسجّل محاضراته، ففاته شيءٌ من إحدى المحاضرات، فقال له عصر اليوم التالي عندما جاء: كنت أسجّل المحاضرة ليلة أمس ولكنّ القسم الأخير منها لم يسجّل، فلو سمحتم اليوم تشرعون محاضرتكم من ذلك المقطع الذي فات بالأمس. فقال: يا عزيزي! أنا الآن لا أدري ماذا سأتحدّث على المنبر، وأنت تطلب منّي تتمّة محاضرة أمس! فقد مضى الأمس بما فيه وانتهى، وأنا الآن لا أدري ماذا سأتحدّث، أنا أرتقي المنبر وما يأتي فهو ما نتحدّث به، ومع هذا تقول لي تممّ لي تلك المحاضرة حتّى لا تبقى ناقصة!
حسنًا! فكم نحن غارقون في الخيالات! فأنا الآن في الساعة الحادية عشر وعشرون دقيقة لا أدري ماذا سأقول بعد عشر دقائق في الساعة الحادية عشرة والنصف إن بقيت حيًّا، فكيف بكم أنتم؟! لماذا لا أدري؟ لأنّ الدقائق العشر الآتية هي بالنسبة لنا عدم! لا أنّها هي عدم. بل نحن نشعر أنّها عدم إذا ما قيست إلى الوقت الحالي، إلى أن تمضي هذه الدقائق العشرة وتتقدّم وتتحوّل الساعة الحادية عشرة والنصف إلى وقت فعليّ.
حسنًا فما دام الآمر كذلك فكيف يقول الإمام: ستقول هذا الكلام في الساعة الحادية عشر والنصف؟ ومن أين علم ذلك؟ ثمّ إنّ ما قاله يتحقّق حتمًا؛ فما يقوله الإمام حقّ وصواب، بل حتّى أولياء الله الذين هم تحت ظلّ الإمام وتحت ولاية الإمام كلامهم هو عين كلام الإمام، فهل سمع الإمام بهذا من مكان؟ فمن أين سمع؟ وهل هو مجرّد أمر مسموع؟! بل حتّى هذا الذي أخبر الإمام ـ لو سلّمنا أنّه أخبرته الملائكة مثلًا ـ فمن أين تعلمه الملائكة؟ فما دام الأمر عدمًا فحتّى جبرائيل والملائكة من أين يعلمون أنّه سيتحوّل إلى وجود خاصّ في هذه الحالة؟ فهؤلاء أيضًا لا يمكنهم أن يدركوا ذلك! إلا أن يكون الأمر في نظرنا نحن عدمًا، ولكن في الواقع له وجود وحقيقة خارجيّة نحن لا علم لنا بها، تمامًا كمن يريد أن يتسلّق جبلًا، فهو لا يعلم بما وراءه، حتّى إذا ما وصل إلى القمّة يدرك ما هناك من أشياء ومروج خضراء فينظر إليها، لا أنّها ليست موجودة الآن قبل أن أصعد، ثمّ عندما أصل توجد وتُخلق، كلا إنّها لم تخلق بل هي موجودة، ولكنّي في الجانب الآخر من الجبل ولا علم لي بها، وعندما أصل إلى القمّة أكون مشرفًا على الجانبين، فإن التفت إلى هذا الجانب أراه، وإن التفتّ إلى الجانب الآخر أراه، فأدرك أنّ كلا الجانبين موجود وله تحقّق خارجي يحيا ويتحرّك ويقوم بأعماله، ولكنّي إذا لم أكن في القمّة لا اطلاع لديّ، وعدم اطلاعي لا يعني عدم وجود هذه الأشياء. الإمام عليه السلام مطّلع على ما وراء الجبل، لذلك لا حاجة لديه أن يرتقي قمّته، بل يخبر عنه حال جلوسه هنا، أي هو يحسّ بكامل ذلك المشهد ويراه، ولكن لا بهاتين العينين، فهاتان لا تريان سوى الأشياء المادّية، أما ما وراء المادّة فلا تراه، هاتان العينان تريان الظاهر فحسب، ولكنّ هذه الحالة التي تحصل بسبب انعكاس هذه المناظر في العينين لتنتقل إلى الدماغ والنفس، هذه الحالة يراها الإمام دون أن ينظر، ويجدها في نفسه وهو مغمض العينين. فأنتم الآن إذ تنظرون إليّ هل تنظرون إلى الفيلم المسجّل أم أنّكم تروني أنا بذاتي؟ أنتم تروني أنا وتشعرون بي أنا، تقولون: هذا فلان جالس هنا بهذه الخصوصيّات ويتحدّث ويتكلّم بهذه الكلمات، فأنتم لا ترون فيلمًا وصورة؛ نعم ما سترونه لاحقًا هو فيلم، أمّا الآن فأنتم تروني بذاتي، فهل هذه الحالة التي تحصل لكم الآن هي عين الحالة التي ستحصل لكم غدًا عندما تريدون أن تشاهدوا فيلم هذه الجلسة أو تصغوا إلى الصوت المسجّل أم أنّهما مختلفتان؟ لا شك، تلمسون أنّ ثمّة فارقًا بينهما، فالآن أنتم تشعرون بي أنا، أمّا غدًا فتقولون لقد تحدّث السيّد بالأمس بهذه الكلمات فانظر ماذا يقول، انظر هذا هو عين ما قاله بالأمس وقد سجّل. إنّ الإحساس الذي سيكون غدًا مغاير للإحساس الحاصل الآن في هذا المجلس: فإحساسكم الآن هو إحساس بحضور عينيّ [وبالحقيقة بذاتها كما هي في الخارج]، أما إحساس الغد فهو إحساس بحضورٍ علميّ لا أكثر. وهذا الإحساس العينيّ الذاتي الذي تمتلكونه الآن يمتلكه الإمام قبل أن يصعد إلى قمّة الجبل؛ أي لا يختلف الأمر بالنسبة إليه سواء صعد الجبل ونظر إلى تلك المناظر أم بقي جالسًا في أسفله، فالنتيجة سواء عنده، وهذا هو ما يسمّى بإحساس حضور الحقيقة الخارجيّة.
بناء على ذلك، فكلّ ما هو موجود هو عبارة عن حضور واحد، ونحن لا يمكننا أن ندرك ذلك، ولكّنا إذا ما خضعنا للتربية، وخضعنا للتزكية، فإنّ قوانا الباطنيّة وقوى أنفسنا التي تتصرّف الآن بواسطة أدوات ووسائل ظاهريّة، ستدع هذه الأدوات وستستخدم أدوات ووسائل أخرى، وبهذه الأدوات والوسائل سندرك أنّ ما هو آت موجود الآن ومتحقّق. غاية الأمر أنّنا لا ندركها بهذه الأدوات التي لدينا الآن؛ بهذه الأذن وهذه العين وهذا الحسّ، حاسّة اللمس، بهذه لا نحسّ إلا بما هو موجود في هذا الآن لا أكثر، لا ما قبله ولا ما بعده، نعم بالنسبة إلى ما قبل فإنّا نحتفظ في أذهاننا بصورة عن هذا الوجود الخارجيّ، وهذا يرتبط بقدرة ذاكرة كلّ إنسان وكونها قويّة أم ضعيفة، وأنّه ذو استعداد قويّ أم ضعيف، حدّة بصره قويّة أم ضعيفة، سمعه قويّ أم ضعيف، فهذا يرتبط بالخصوصيّات الظاهريّة لكلّ إنسان والتي تختلف من فرد إلى آخر، فبعضهم درجته عشرة من عشرة، وبعضهم واحد وبعضهم تسعة من عشرة، فدرجات الأعين تختلف، والأمر نفسه في المسموعات، ولكنّ كلّ ذلك يبقى في الذهن على نحو الحضور العلميّ ويتمّ الاحتفاظ به كذلك. لذا أنتم الآن تحتفظون في أنفسكم بالكثير من الحوادث، ولكنّكم لا يمكن أن تستحضروها دفعة واحدة الآن، أليس كذلك؟ أنتم الآن إذ تتحدّثون معي فإنّكم تلتفتون إلى ما أقوله لا أكثر، ولكن إذا قلت: أتذكر يا فلان أين كنت قبل شهر يوم كذا؟ فإنّكم تجلسون وتتأمّلون ثمّ تقولون: نعم التفتّ، أنا كنت في هذا اليوم في الشارع كذا، أو في المكان كذا أو في مكان آخر، أما الآن فلست في ذاك المكان! عليك أن تجلس وتفكّر وتعيد الفيلم المصوّر الذي في ذهنك والأحداث التي في ذهنك، وكلّ ذلك عليك أن تعيده إلى الوراء حتّى تصل إلى هذه النقطة، وهذا يرتبط بما للنفس من خصوصيّات وحدّة واستعداد وسرعة وذكاء وأمثال ذلك؛ فإنّها تختلف شدّة وضعفًا. فتارة تصلون بقليل من التأمّل والتفكّر، وتارة تجلسون تفكّرون حتّى اليوم التالي ولا تصلون إلى نتيجة في أين كنتم قبل شهر، وتقولون: اذهب يا عزيزي فأنت تسأل أسئلة صعبة، فلتسأل أسئلة سهلة، اسأل عمّا أكلته بالأمس أجبك، فما هذه الأسئلة التي تسألها؟!
أو مثلًا المعلومات التي لديكم، وأبيات الشعر التي حفظتموها، فهي كلّها غير حاضرة عندكم حضورًا عينيًّا، بل حضورًا علميًّا، وليس لدى أنفسكم منها سوى صورة، وهذه الصورة موجودة واقعًا لا اعتبارًا، وتحتاجون إلى إعمال للفكر والتأمّل والغوص في أعماق النفس لكي تستحضروها، بأن تقوموا بالرجوع بأذهانكم إلى الوراء حتّى تروا أنّكم عثرتم دقيقًا على هذا الموضوع، أو لتميّزوا صاحب هذه الأبيات الخاصّة من بين الأبيات التي تحفظونها؛ أنّها لحافظ أم لسعدي أم لمولانا؟ لأيّ من الشعراء هي؟ فأنتم تسيرون في هذه المجموعة من الأفكار حتّى تصلوا إلى الجواب الصحيح أو الخاطئ.
أمّا حينما يُسأل الإمام مسألة، وحين يأتي أبو بصير إلى الإمام الصادق عليه السلام ويسأله: يا ابن رسول الله ماذا تحكمون في كذا وكذا؟ ففلانة مثلًا ذات الأحوال والظروف المعيّنة ما هو تكليفها؟ لقد توفّيَ فلان وورثه فلان وفلان وفلان وهم على هذه الخصوصيّات، فكيف يجب أن يقسّم الإرث بينهم؟ فبمجرّد أن يسألوا الإمام لا يفكّر، بل يقدّم الجواب سريعًا بلا انقطاع، فلماذا هو لا يفكّر؟ أفهل يمكن أن يقول: انتظر قليلًا، ينبغي أن أنظر في الأمر، والآن لست مستجمعًا لقواي العقليّة والفكريّة، عليّ أن أفكّر قليلًا، أن أنظر في الكتاب، أو في شيء آخر..
لقد سمعت مثل هذه التفسيرات لعلم الإمام! كما أنّ هناك من كتب ذلك في الكتب، فهم يقولون: هذه الأشياء والأخبار التي يخبر بها الإمام كلّ يوم، فهو يقوم في الصباح فينظر في مصحف فاطمة عليها السلام الذي عنده، فيقرأ تلك الصفحة التي تتعلّق بهذا اليوم، فيقرأ كلّ ما فيها!! ـ وواقعًا ماذا يقول الإنسان عن هذه التفسيرات؟! الأفضل أن نقول... ماذا نقول؟! ـ فالإمام ينظر في الصحيفة ثمّ يأتي ويتحدّث إلى الناس، هل التفتّم؟! ولكن لا ندري هل سقط شيء من سهو القلم أم لا؟ ربّما كان هناك شيء منسيّ! ربّما نسي جبرائيل كتابته، أو أنّه ضاع بين السطور ولم يلتفت إليه، فهذا هو مستوى معرفتنا، هذا هو مستوى معرفتنا!
فعندما يُسأل الإمام مسألة هل يفكّر في جوابها؟ لا بل بمجرّد أن يُسأل يكون الجواب حاضرًا بلا أيّ تأخير. كما لو سألتموني مثلًا: هل أنت متختّم؟ فهل أحتاج أن أفكّر وأتأمّل هل أنا متختّم أم لا؟! فلو قمت بالتفكير والتأمّل لقلتم لي: لماذا تذهب بعيدًا؟ انظر إلى يدك لترى الخاتم! ثمّ أنظر وأقول: نعم نعم، وهذا هو الخاتم. ولو (لم أكن متختّمًا) و قيل لي: ماذا في يدك؟ أقول: لا شيء، وانظر هذه يدي خالية. فالأمر لا يحتاج إلى تأمّل، والإمام لا يحتاج أبدًا أن يتأمّل ويتفكّر ثمّ يبيّن بعد ذلك. وما ذلك إلا لأنّ كافّة الأحكام والتكاليف والشرع كلّه وكلّ الخصوصيّات موجودة وجودًا عينيًّا خارجيًّا في نفسه، لا وجودًا علميًّا على نحو الصور، فهي ليست صورًا علميّة حفظها الإمام أو أخبره بها أحد؛ كأن يكون قد حفظها عن الإمام السابق، ثمّ يعلّم السابق اللاحق مثلًا! كلا، بل نفس الحكم الذي جعله الله في مثل هذا المورد له نحو من الوجود العينيّ الخارجيّ، وهذا النحو من الوجود مخفيّ عنّا.
علمنا بالأمور هو علم بالصور العلميّة لا بالحقائق الواقعيّة
ما نعلمه نحن هو عبارة عن الوجود العلميّ للأحكام والتكاليف، وهو الموجود في الكتب ك"الخلاف" للشيخ الطوسي و"التذكرة" أو في وسائل أخرى؛ لذلك لا بدّ لنا لكي نطّلع عليها من مراجعة هذه الكتب، والناس كلّهم في ذلك سواء، فقد كانوا يأتون إلى المرحوم العلاّمة ويسألونه: ما هو نظركم في هذا الأمر؟ فكان يقول لهم: لا بدّ أن أراجع! وكان يذهب ويراجع وفي اليوم التالي أو بعد يومين أو ثلاثة كان يأتيهم بالجواب، فبعض هذه المسائل كان يستغرق البحث عنها بضعة أيّام حتّى ينتهي إلى نتيجة؛ لأنّ كثيرًا من تلك المسائل كانت مسائل مصيريّة تؤثّر على حياة الإنسان، فمثلًا قد تؤدّي إلى تدمير أسرة بسبب بعض الأمور، فلو قال هذا الكلام لوقع أمر محرّم، فلا يمكن للإنسان أن يتكلّم بكلّ بساطة بهذا الكلام أو بذاك، فهذه أمور لا يجرؤ الفقيه على أن يتكلّم فيها بأيّ كلام، بل عليه أن يشعر بأنّ كلامه قريب على الأقلّ من حكم الله وإن لم يحصّل فيه يقينًا، هل التفتّم؟ فقد كان يحدث كثيرًا أن يقوم بالمراجعة والتحقيق، وليس لدينا من يجيب هكذا بالبداهة عن أيّ سؤال يطرح حتّى ولو كان فقيهًا، فهذا أمر لا حقيقة له. نعم، ربّما كان تمرّس أحدهم أكثر، أو معرفته واطلاعه ودراسته أكثر، لكنّ هذا مجرّد زيادة في الاطّلاع.
فما نبحث عنه نحن هو الصور العلميّة للأحكام والتكاليف، لا الحقائق الخارجيّة، هل التفتّم؟ وما ذكرته ليلة أمس أو التي قبلها للرفقاء۱ يرجع إلى هذا الأمر.
فأولياء الله و ـ في مرتبة أعلى ـ الأئمّة يشاهدون الصور العينيّة للأحكام والتكاليف، لا الصور العلميّة. فما دام هذا هو الواقع الموجود، فلماذا يقولون ما يغايره؟ فهذا هو الواقع، وهذه هي ليلة القدر، وما دامت ليلة القدر هي هذه، فلا فائدة من جعلها يومًا قبلها أو بعدها، فلن تكون حينئذ ليلة القدر. فمثلًا لو كان يوم ولادة أحدكم هو السابع من ربيع الأول، فجاء وقال من الآن فصاعدًا يوم ولادتي هو العشرون من ربيع، فهذا ليس هو يوم ولادتك، أنت ولدت في يوم كذا لا قبله بثانية ولا بعده بثانية، وهذا أمر تكوينيّ لا اعتباريّ، هو أمر تكوينيّ خارجيّ لا يمكن التصرّف فيه، ولكن للأسف نحن نتصرّف فيه بالتقديم والتأخير رعاية للمناسبات وأمثالها، فمثلًا لو كان هناك عيد فنقدّمه أو نؤخّره كي نعدّل الأمور، كما لو كانت هناك ذكرى وفاة أو شهادة، فنقدّم ونؤخّر.. وكأنّما صارت لدينا القدرة على التصرّف في أمر التكوين.
ـ عزيزي لقد ولدتُ في هذا اليوم ولا يمكن تعديله وتقديمه وتأخيره.
ـ لا، أقسم عليك بالله إلا أخّرته.
ـ ليس الأمر بيدي؛ فأنا ولدت في هذه الدقيقة، وشئت أم أبيت فهي هي، سواء رضيت أنا وسرّني ذلك أم ساءني، فالأمر لا يخضع للاعتراض والسؤال.
ـ لا، لا بدّ أن تعدّله حتّى يصادف مع تلك المناسبة.
ومسألتنا هي من هذا القبيل، فليلة القدر الثالثة والعشرين هي ليلة خاصّة لا تتقدّم دقيقة واحدة ولا تتأخّر. أي أنّها حقيقة خارجيّة وواقع تكوينيّ له وجوده الخارجيّ، ليلة الثالث والعشرين لا تعني مجرّد ظرف للدعاء، إنّها حقيقة تعيشونها، هذه الحقيقة تتنزّل إلى هذا العالم في هذه الليلة؛ لذلك يقولون لنا: قوموا بهذا العمل، يقولون: اقرؤوا القرآن، يقولون: حسّنوا من مراقبتكم، يقولون: أحيوا الليالي السابقة عليها أيضًا، كلّ ذلك استعدادًا لهذا الزمان الخاصّ ولهذه الحقيقة الخارجيّة الخاصّة لكي يبلغها الإنسان.
فالأحكام والتكاليف الإلهيّة حاضرة عند الإمام عليه السلام بوجودها الخارجيّ العينيّ، لا بوجودها العلميّ؛ ولذلك عندما يُسأل الإمام الصادق عليه السلام أنّ لو وقع للمصلّي كذا، فإنّ عين تلك الصلاة التي جعلها الله في هذه الحالة وجعل لها أحكامًا وتكاليفَ هي حاضرة في نفس الإمام، فالإمام يقول هذا هو حكمها ولا يحتاج إلى إعمال فكر، كما لو قيل لي وأنا أنظر إلى إبريق الماء الذي أمامي: أين الماء؟ فالماء ههنا، ولا داعي لأن أفكّر وأنظر أين الماء هل هو ملتصق بالسقف أم وضع في مكان آخر، إنّه أمامي، والأمر كذلك بالنسبة للإمام، بنحو الحضور العينيّ الخارجيّ.
فإذن للأحكام حضور عينيّ أيضًا لا حضور علميّ فقط، الحضور العلميّ هو لنا نحن، والحضور العينيّ للأحكام والشرع مختصّ بالإمام عليه السلام. لذا فما تقولونه من أنّ الوحي انقطع بعد رسول الله فهو صحيح، إذ بعد رسول الله انقطع الوحي ولم يعد هناك شرع جديد، ولم يعد هناك أحكام جديدة، فقد جاء رسول الله بجميع الأحكام: حلال محمّد حلال أبدًا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدًا إلى يوم القيامة۱ فبعد رحيل النبيّ انقطع الوحي الذي هو جعلٌ للشرائع والتكاليف وتنزيلٌ لها؛ ولكن، أليس لهذه التكاليف التي كان النبيّ يجعلها ويبيّنها وينزّلها من ذلك العالم إلى هذا العالم ويجعلها بين أيدينا.. أليس لهذه الأحكام والتكاليف حضور عينيّ في عالمها؟ لا شكّ أنّ لها حضورًا عينيًّا في عالمها، والذي يعبّر عنه باللوح المحفوظ لا لوح المحو والإثبات! فكافّة هذه الأحكام والتكاليف لها حضور عينيّ في ذلك اللوح المحفوظ. كما أنّ تمام أحداث العالم ثابتة فيه على نحو الحضور العينيّ: {وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين}.٢ ومعنى ذلك أنّا جمعنا حقائق وذوات جميع الأشياء في نفس الإمام المبين، لا صورها فقط؛ كما نحفظ نحن صور أبيات الشِّعر التي عندنا، وصور الحوادث التي في نفوسنا وفي أذهاننا، وصور القضايا التي لدينا، لا بل تعني آية "وكلّ شيء" أنّ الصور الحقيقيّة والخارجيّة العينيّة للأشياء قد جمعت وأحصيت في نفس الإمام عليه السلام، وإحصاؤها يعني الإحصاء العينيّ، أي أنّ نفس الإمام هي التي تبقي وتعطي الاستمرار لهذه الأشياء والحوادث الخارجيّة. تمامًا كما أنّ وجود الأشياء يرتبط في هذا الزمان بوجود بقيّة الله أرواحنا فداه، فإنّ الوجود العينيّ للأحكام متحقّق في وجود بقيّة الله أرواحنا فداه على نحو الحضور العينيّ لا العلميّ؛ ولذلك إذا سأل أحد إمام الزمان عليه السلام سؤالًا فإنّ الإمام يجيبه على أساس الحضور العينيّ الذي عنده، لا أنّه يفكّر وينظر في حكمه ثمّ ينتهي إلى أنّ النبيّ قال في هذا الأمر كذا وكذا، لا بل هو يرى ذلك في نفسه، الوحي انقطع، ولكن هناك حضور عينيّ للأحكام في نفس الإمام، وعليه فنحن لا نحتاج بعد ذلك إلى الوحي، لماذا؟ لأنّ الإمام موجود، الإمام بحضوره العينيّ موجود، فكما أنّ الوحي الذي كان ينزل على رسول الله كان يكشف له الوجود العينيّ، ويجعل رسول الله في تلك المرتبة من الوجود العينيّ، وهذا المعنى هو معنى الوحي، لا أنّ جبرائيل كان يقول للنبيّ: قل هذا، فهذا في مرتبة الظاهر، أما في مرتبة الباطن فإنّ نفس رسول الله كانت تصل إلى الحضور العيني لتلك المسائل والآيات الإلهيّة والقرآن الكريم، ولا يخفى أنّ كافّة الخلائق والموجودات والتكاليف والشرائع هي من تلك الأمور التي كانت تتنزّل بهذا النحو.
كيفيّة تنزّل الوحي على قلب رسول الله
وبناء على ذلك، فالأعمال التي يقوم بها الملائكة الإلهيون وجبرائيل في مقام أعلى.. جميع هذه الأعمال من آثار نفس رسول الله، ففي الوحي عبارة عن إيجاد تلك الحقائق الشرعيّة وحقائق التكليف، وهذا قسم من التكاليف فضلًا عن المسائل الأخلاقيّة أيضًا. كلامنا بالنسبة إلى نفس الأحكام والتكاليف الشرعيّة.
وإيجاد هذه الحقائق من نفس رسول الله يعني: أنّه عندما يقول رسول الله: إذا أردت الطواف ابدأ من الحجر الأسود واجعل كتفك الأيسر إلى الكعبة، فإنّ جبرائيل يُوجد نفس هذا العمل في نفس النبي، لا أنّه يريه ذلك ويقول له: انظر هذه مكة وهذه الكعبة والحجر الأسود، وعندما تريد الطواف طف هكذا.. لا! فهذا عبارة عن فيلم! بل النبي يرى دفعة واحدة في نفسه أنّ العمل هو هذا، يعني ذاك الحضور العيني للتكليف يتجلّى في نفس النبي، وبعد ذلك ينظر إلى أصحابه ويقول: إذا أردتم الطواف فاشرعوا من هنا واختموا هنا وبهذه الشروط.
وعندما يأتي جبرائيل ويقول صلاة الصبح ينبغي أن تكون بهذه الكيفيّة، يرى رسول الله دفعة واحدة أنّ الصلاة هي هكذا، الصلاة التي يريدها الله تعالى تحضر في نفس النبي حضورًا عينيًا لا علميًا؛ يعني أنّ نفس هذه الصلاة.. ولذا لدينا في الروايات أنه في يوم القيامة تتجسّم الصلاة والأعمال بسبب ذلك؛ يعني أنّ هذه الأعمال تتجسّم بصورتها العينيّة للإنسان. لذا...
لقد تعبت، والظاهر أنني تكلّمت كثيرًا، لقد قلت لكم بأني لا أعرف ما الذي سأقوله، لذا انظروا أين صرنا بحديثنا.
ففي يوم القيامة يقول الناس: {يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَ لا كَبيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرا}۱. يعني أنّهم يجدونه بشكل عيني لا علمي؛ يعني أنّ نفس هذا المجلس بذاته يرونه، لكن إن كان فيلمًا، فقد يقال بأنّه أجري عليه تعديل ومونتاج؛ كما يفعلون اليوم بواسطة الفوتوشوب؛ حيث يضعون رأس الشخص في جسد آخر، أو يجعل ذيلًا في جسد إنسان وهكذا.. فقد يقال بأنّ هذا الفيلم معدّل وخضع لمونتاج، وبالتالي فلا نقبل به؛ لأنّ الصوت تبدّل والرأس تغيّر. أما هناك، فيقال هذا هو نفس المجلس، فهذا أنت بنفسك حاضر فيه، فعندئذٍ لا يعود لديه قدرة على الإنكار. هذا معنى "ووجدوا ما عملوا حاضرًا"، يعني أنت الآن تنظر إليّ، فهذا بنفسه سوف تراه في يوم القيامة حاضرًا بعينه، ويقال لك تفضّل هذا فعلك! وعندئذٍ ستقول نحن بالخدمة يا إلهي! فهناك لا مجال للإنكار.. ووجدوا ما عملوا حاضرًا..
ينبغي على السالك أن يوكل أمر وصوله إلى الله تعالى
لذا الإمام عليه السلام يقول هنا: إلهي بما أنّ لي مثل هذه الوضعيّة، فإن أردت أن تتعامل معي بعدلك فماذا سيكون مصيري في يوم القيامة، إذا أردت أن تعاملني بعدلك..
عندما ذهب المرحوم السيد جمال الدين إلى مقام أمير المؤمنين عليه السلام وطلب منه حالة الفناء بأي ثمن كان! ما هو الإحساس الذي كان لديه عندما دعا ذاك الدعاء، حتى أنزل عليه أمير المؤمنين ذاك البلاء؟! لقد سمعتم قصّته أليس كذلك؟ حيث إنّه عندما خرج من الحرم وجد نعله مسروقًا، هذا أولًا، فعاد إلى منزله حافي القدمين، ثم سُرق حذاء زوجته؛ حيث كانا معًا، وعندما ذهب إلى منزله، وجد ابنه مصابًا بجرح كبير عند تشييعه لجنازة ميّت، وصار طريح الفراش، وفي المساء قيل له بأن سارقًا سرق له بعض حاجاته.. الحمد لله. والحاصل أنّ وضعه وصل إلى أن ذهب إلى مسجد الكوفة لينام فيه، يعني لم يستطع البقاء في النجف.. وقصّته مفصّلة، حتمًا سمعتموها! أذكر أنّ المرحوم العلامة نقل عند ذكره لقصّته في ليالي الثلاثاء: بأنّ حالته وصلت إلى حدّ أنّه أخذ بيد زوجته وذهبا سويًا إلى الحرم، وقال: يا علي! لم أعد أريد الفناء، فليبقى الفناء لك أنت ولذريتك وللأئمة الإثني عشر فقط؛ فقد خربت معيشتنا ودمّرت، فهذا مرض وذاك عمي وذاك خرس وذاك لم يعد قادرًا على الخروج.. إلى حد أنّ صاحب المنزل الذي كان فيه أخرجه منه؛ لأنه لم يدفع أجرة المنزل، وغيرها من الأمور.. قال أعد لي حذائي وما كان عندي، فإن أحببتَ أن توصلني أوصلني، وإلا فأنت أدرى! عندما ذهب إلى الحرم وطلب من الإمام علي أن يهبه الفناء بأي ثمن ـ فقد كان ذلك في نفسه واقعًا، لا أنّه طلب ذلك على أن يجلس جانبًا فقط ـ أي إحساس كان لديه عندئذٍ؟! ولم يورد أمير المؤمنين هذا البلاء عليه اعتباطًا! كان إحساسه بأنّه صار لديه استعداد وقدرة على تحمّل هذه المطالب، لذا قال له أعطني، وأنا أتحمّل تبعاتها، أعدك بأنّي سأتحمّل.. حسنًا خذ الليلة واحدة وغدًا أمرًا آخر وبعد غد، وهكذا كان البلاء يصبّ عليه تباعًا، ولو لم يذهب ويعتذر من الإمام لاستمر عليه ذلك، فالابتلاءات جاهزة وملفاتها حاضرة، وهي إلى السقف، تفتح واحدة تلو الأخرى. إلى أن وصل به الأمر لأن يذهب إلى الإمام ويقول له لا أريد ذلك! بل افعل ما يحلو لك! ولو كان قد ذهب إلى الإمام وقال له أعطني الفناء، ولكن ليس لي القدرة على الامتحان وتحمّل الامتحان، لما كان حلّ به هذا البلاء! بل كان الإمام قد أعطاه الفناء دون أن ينزل على رأسه هذا البلاء. لكنّه طلب الأمر بحيث أراه الإمام بأنّ عليه أن يتأمّل قليلًا ويفكّر بالمسائل وبمقدار تحمّله.. لماذا قلت له "أنا أتحمّل"؟! وأنا قادر؟! من الذي يعطيك هذا التحمّل والقدرة؟! من الذي يرفع الموانع من طريقك؟! لكنّنا لم نرفع الموانع من طريقنا، لذا يأتي البلاء تلو البلاء. فحينما نرى أنّ البلاء لا يأتي، فهو يعني أنّه موجود، لكنّ الموانع ترفعه، لا أنّه غير موجود أساسًا! فأنت الآن عندما تنام براحة، هل تعلم بأنّ ألف مانع قد ارتفع من أمامك، حتى تذهب وتنام بهدوء، أو أنّك تظن بأنّه لم يكن هناك شيء وأنّ الملائكة لا دخل لهم! كلّا يا عزيزي بل الأمر مفتوح! لكن بما أنّك أوكلت أمرك إلى الله، وبما أنّك وضعت نفسك في هذا الطريق، وبما أنّك قلت إلهي لا اختيار لي، فخذ بيدي! يقول الله حسنًا: بما أنّك أوكلت أمرك إليّ، فسوف أساعدك! وهنا أقرّ أمامكم بأنّي بنفسي جرّبت هذا الأمر حديثًا؛ حيث حصل لي أمر لم يكن مقدورًا أبدًا! الله يقول: إذا كان الأمر بيدك، فلماذا لم تستطع طوال هذه المدّة القيام به؟ أليس الأمر بيدك؟! ألم تسعَ في هذه المدّة! فلماذا لم تستطع؟! لأنّه كان أمامك ألف مانع! فأنا لا أستطيع أن أرفع هذه الموانع، لذا فقد رفعت عنك الموانع، وهيأت لك الأمور والظروف، وقلت لك تفضّل! فما إن تبدأ حتى يحصل لك الأمر! بيد من كان النجاح الذي حصل لك؟! كان بيدي أنا! فلو لم يحصل ذاك الاستعداد، ولم ترتفع تلك الموانع، لما كنت وصلت إلى هذه النتيجة، حتى وإن فعلت هذا الأمر الذي فعلته! فجميع الأمور بيده هو؛ فإن أراد حصل، وإن لم يرد لم يحصل.
الإمام يطلب من الله طلب المستعطي لا طلب المستحق
الإمام يعلمنا بهذا الأمر؛ ويقول لا تطلب من الله طلب المستحق، بل اطلب منه طلب المستعطي.. هذا الذي كنت أريد قوله، فقد انقضى الوقت، نتركه للغد إن شاء الله وإذا بقينا أحياء..
الفرق بين أولياء الله وبين سائر الأفراد هو هذا، الآخرون يطلبون من الله طلب المستحق، بينما أولياء الله يطلبون منه طلب المحقوق، كلاهما يطلب من الله ويقول ربي أعطني من نعمك ـ طبعًا النعم مختلفة فيما بينهم وهذا الفرق محفوظ أيضًا ـ لكن نقول بأنّ الفرق هو أنّ غير الأولياء يقولون لله: لقد صلّينا فأين الثواب؟ لقد أمرتنا بصلاة ركعتين وقد صليناهما، بل نهضنا من نومنا في البرد القارس، فهل لديك أمر آخر!! هذا طلب المستحق.. إلهي لقد صمنا وتعبنا في هذا الصوم، فنريد الأجر عليه! لقد صمنا وتحمّلنا الجوع والعطش إلى الغروب لمدة ثمانية عشرة ساعة أو سبعة عشرة لا أدري! فماذا تريد بعد؟!
ـ يا عزيزي إن كنت عبدًا فينبغي أن لا يعلو صوتك..
ـ كيف ينبغي أن لا يعلو صوتي وقد تحمّلنا كل هذا الجهد!
هذا الطلب طلب المستحق.. هل التفتم؟! والله تعالى يقول بما أنّك تطلب كالمستحق فسوف أعطيك في ذاك العالم شيئًا ما، ولن أدخلك جهنم، بل سأدخلك الجنّة، لكن في مراتبها الأولى.
الأولياء يقولون: إذا كان صومنا بدل ثمانية عشر ساعة مائة وثمانين ساعة، ولو متنا من شدّة العطش؛ مثل الإمام الحسين عليه السلام وقُتلنا، نبقى نحن المقصّرين أمام الله. الإمام الحسين بقي إلى آخر رمقه يشعر بأنّه محقوق لا مستحق! إلهي كلّ شيء منك، التوفيق منك، البركة منك والنعمة منك، أشكرك على أنّك أوصلتني إلى هذه النعمة، أوصلتني إلى أن أتحمّل هذه الأمور، فمن الذي أعطاني هذا التحمّل؟! جميع ذلك منك! هو لا يجعل شيئًا منه، بل جميع المصائب التي تصيبه لا ينسبها إلى نفسه، فكل مصيبة تصيبه، يقول: إلهي لقد مننت عليّ وتلطّفت بي؛ إذ أخذت مني أخي! كم الفارق كبير بين طريقتي التفكير؟ الآن عندما أخذت مني أخي العباس، ووصلت بسبب ذلك إلى هذه الموقعيّة وهذه الحالة، لو لم تأخذه مني لما وصلت إلى هذه الحالة. لو بقي أبو الفضل في مكانه لما حصل شيء. وعندما أخذ منه علي الأصغر وبهذه الحالة، ليس فقط لم يعترض عليه، بل يشكره على هذا الأمر.. أمر عجيب حقًا، فقصة عاشوراء قصّة عجيبة جدًا، يعني أنّ أخذ علي الأصغر مني أوجب لي حالة ينبغي عليّ أن أسجد شكرًا على هذه الحالة، لو لم يحصل ذلك لما حصلت لي تلك الحالة. لذا كان الناس يتعجّبون من حالة الإمام تلك، فجيش عمر بن سعد رأى أنّه كلّما مضى على الإمام وقت كلّما كان وجهه يشتدّ ابتهاجًا ونورًا وبشاشة، وكان بهاء الإمام وعظمته تتجلّى وتتلألأ بشكل أكبر، ما القضية التي كانت تجري في نفس الإمام بحيث جعلت نوره وتلألؤه يتجلّى بشدّة؟! الكفار كانوا يرون ذلك، نعم حتى من كان في جيش عمر بن سعد كانوا يشخّصون هذه الحالة عند الإمام! فكل مصيبة كانت تحصل له كان يجري في نفس الإمام شيء، وكل قضيّة كانت تحصل كان الأمر كذلك. الإمام كان رفيقًا حميمًا لحبيب بن مظاهر، ويقول المرحوم العلامة: لقد أثّر رحيل حبيب بن مظاهر كثيرًا في الإمام.. هذه عبارة المرحوم العلامة، وكان للسيد الحداد عناية خاصة بحبيب بن مظاهر من بين أصحاب سيد الشهداء عليه السلام، وكان دائمًا بعد الزيارة يذهب إلى قبر حبيب لزيارته، ويزور هناك ويدعو، ولديه عبارات فيه، وهكذا كان المرحوم العلامة أيضًا. يقول المرحوم العلامة عندما استشهد حبيب بن مظاهر تغيّر الإمام كثيرًا، يعني حتى التعلقات الإلهية التي كانت بينهم، مع رحيل أحدهم ما الذي كان يحصل؟! كان هذا الأمر يوجب لهم التوجّه إلى المبدأ، بحيث ينبغي الانقطاع حتى عن الرفيق في الله، هذا الانقطاع عن التوجّه الظاهري وفقدان هذا الرفيق والحالة التي تحصل لهم.. فهم بشر ولديهم حبّ وتعلّق، فهذه الحالة التي تحصل لهم حالة عجيبة جدًا، وكانت تشتدّ كل ساعة.. فكلّما تقدّم به الزمن صار ابتهاجه أشد وأقوى، وكلّما كان يفقد شخصًا كانت نورانيّته وبهاؤه وعظمته وتلألؤه تشتد أكثر؛ حتى أنّ نفس هؤلاء المعاندين كانوا يتعجّبون من ذلك، فكانوا يقولون لم نرَ طوال عمرنا مثل هذا الأمر! إذ عادة عندما يُقتل ابن الإنسان ورفيقه وأخوه يبكي ويلطم رأسه وكذا.. لكن هذا الرجل مختلف؛ إذ كلّما كان يمضي عليه وقت كانت تزداد استقامته وثباته وتمكّنه وإتقانه وإحكامه، ويحصل لديه إشراف على العوالم أكثر فأكثر، فهو لديه عوالم خاصّة به، أما نحن فلا، فالإمام عليه السلام حين يقول: "رب زدني فيك تحيرًا" إنما هو لأجل هذا؛ لإبراز وانكشاف مراتب الأسماء والصفات. ما هي المراتب التي طواها الإمام عليه السلام في يوم عاشوراء بحيث جعل اشتياقه يزداد كلما تقدّم به الوقت، فالإنسان يكون لديه شيء في البداية ثم شيئًا فشيئًا.. أحيانًا يقول الإنسان حسنًا لا بأس، لقد رحل رفيقنا، فلماذا نبقى في هذه الدنيا، لكنّ هذا الرحيل ليس رحيلًا، هذا عبارة عن قطع علاقة ليس إلا، قد يحصل للإنسان ذلك أحيانًا؛ كأن يفقد الإنسان رفيقًا عزيزًا عليه، فيقول لقد ذهب فلنذهب بعده فما العمل! وواقعًا يقول ذلك لا يمازح.
أما الإمام فليس كذلك، بل يريد أن يذهب عالمًا مدركًا، لا أن يذهب يائسًا وفاقدًا، فهذا لا فائدة فيه، بل يريد أن يذهب بحالة من العلم والإدراك والبهجة والابتهاج. فما هي المسائل التي كانت تدور في نفس سيد الشهداء عليه السلام؟ تلك الأمور يعلمها الإمام نفسه، أما نحن فلا خبر لنا عنها.
إن شاء الله يوفقنا الله تعالى فيعطينا ذرّة مما أعطى خاصّة أوليائه، فالذرة تكفينا نحن، إذ أين نحن من هؤلاء! نحن لا نريد هذا الأمر من الأول، بل نقول إلهي يكفي أن تمنحنا قطرة من البحر الذي خصصتهم به على الأقل لنعلم ما الخبر، فالقطرة هي من ذاك البحر، فعندما يتذوّق الإنسان قطرة من البحر يعرف هل ماؤه مالح أو حلو، ما هو طعمه، وكيف هو. نحن يكفينا أن نُعطى قطرة واحدة فقط، غاية الأمر أنّنا نطلب من الله تعالى أن يأخذ بأيدينا ويجعلنا في ظلّ الولاية وأن يمنحنا ما طلبوه منا هم وأن يرزقنا ما دعونا إليه.
اللهم صل على محمد وآل محمد