المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةإكمال بحث حجية أولياء الله
التوضيح
تعرض سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني في المحاضرة الرابعة من سلسلة محاضرات حجية أولياء الله إلى أن الفرصة قد سنحت الآن لتناول هذا البحث بشكل علمي، وأن ما تم بيانه من مطالب حول العرفاء قليل جداً، وأشار إلى عدم احتياج اليقين إلى دليل لإثبات حجيته، وأنه لا بد من الاحتياط في مواجهة الأولياء لمجرد عدم فهم كلامهم أو الخطأ في فهمه، ثم ذكر قصة المرحوم الملا قربان علي الزنجاني وعلمه ودقته، وبعد ذلك تعرض إلى ضرورة مخالفة فتوى المرجع عند وجود يقين بخطئها، مشيراً إلى أنه قد يحصل خطأ في الحكم أحياناً. وبيّن أن حكم صاحب الزمان بحسب الواقع لا الظاهر والبينات، ثم أكّد على أن الله تعالى هو المشرّع والنبي كاشف عن التشريع، وعلى ضرورة اتباع الكاشف اليقيني عن الحكم الشرعي أياً كان هذا الكاشف، وأن كلام النبي هو الواقع والحق وإن لم نعلم بملاكه، وأن وظيفة الإمام الكشف عن التشريع عبر اتصاله بنفس رسول الله، ثم تعرض إلى إمكان مخالفة النبي والإمام لبعض الأحكام، وأنه لا بد من إطاعة النبي وإن كنت أعتقد أنّ أمره مخالف للشريعة، وأشار إلى نموذجين من ذلك هما: قصة زواج زيد من زينب بنت جحش، وقصة زواج جوبير من الذلفاء
هو العليم
عدم محدودية طاعة النبي والإمام بظاهر الشريعة
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱٩۱
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
تحقق الفرصة المناسبة لتناول هذا البحث بشكل علمي
كما يعلم الإخوة فإنّ المباحث التي كنّا قد شرعنا بها في شهر رمضان المبارك قد انحرفت قليلاً عن مسيرها الأصلي؛أي شرح دعاء أبي حمزة الثمالي، وانتهى بنا البحث إلى إثبات أنّ حجّية كلام وأفعال وليّ الله هي عيناً مثل الإمام عليه السلام، وحيث أنّ هذا البحث بحث عقائديّ، وأنّ الأصدقاء وغيرهم كانوا يطلبون منذ سنوات عديدة من الحقير أن أكتب مقالة عن هذا الموضوع أو أتحدّث عنه وأبيّنه بشكل علميّ وحوزويّ، فإننّا إنشاء الله وبحول الله وتوفيقه سنبيّن العديد من المطالب في هذا المجال للأصدقاء والإخوان ولأهل العلم والفضل، علماً أنّ هذا الموضوع قد تمّت الإشارة إليه في العديد من الجلسات والمحاضرات سابقاً، ولكنّه لم يُبيّن حتّى الآن بنحو مبسوط يستوفي جميع جوانبه بشكل فنّي وتخصّصي.
نعم، لقد قدّم الحقير في المجلّد الثاني من كتاب «أسرار الملكوت» العديدَ من التوضيحات المتعلّقة بهذا الموضوع، وكان الكثير من مطالب هذا الكتاب موضع إشكال في نظر العديد من الأفراد، وكانت هذه المطالب ومازالت باعثاً للعديد من الاعتراضات والانتقادات، ولكنّ الحقّ حقّ، ونحن ملتزمون به ولا نتنازل عنه بمقدار رأس إبرة. كما أنّنا تحدّثنا عن هذا المطلب مرّة أخرى ـ كما يعلم الإخوة ـ في كتاب «أفق الوحي». ولكنّني مع ذلك ما زلت أرى أنّ بعض الموضوعات والمسائل في هذا البحث تحتاج إلى مزيد من التوضيح والتفسير.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ حقيقة هذه المسألة ـ كما ذكرت لكم سابقاً ـ هي في الواقع أعلى وأرقى بكثير من المستوى الذي أبيّنه الآن.. إنّها أرقى بكثير من هذا المستوى، بنحوٍ يجعلني أقول بكلّ صراحة للأصدقاء والإخوة بأنّه: حتّى أصدقاؤنا من الإخوة الفضلاء وأهل العلم لا يستطيعون تحمّل سماع تلك المطالب! ! ولهذا فإنّنا سنصرف النظر عن بيان تلك الدرجة العالية من الموضوع بشكل كلّي؛ لأنّ الأمور مرهونة بأوقاتها. ولكن يوجد بين المرتبة التي نبحث فيها حالياً وتلك المرتبة العليا مراتبُ (لا مرتبة واحدة) متوسّطة أيضاً، فإذا انتهينا من بيان هذا البحث العلمي الذي شرعنا فيه، وكان عند الحقير فرصة ومجال فسوف أقوم ببيان تلك المراتب الأعلى أيضاً.
أمّا في بحثنا الحالي، ورغبةً منّا في توسيع دائرة الاستفادة من هذه المطالب خصوصاً للفضلاء من طلاّب العلوم الدينية والحوزات العلميّة، والأفراد الذين يبحثون في مواضيع الحكمة والعرفان، وكذلك أساتذة وطلاّب الجامعات الذين يعملون في حقل الفلسفة والعرفان.. فإنّنا سنسعى وُسعنا لإخراج هذه المطالب من شكلها الدرسيّ، وسنعمل على بيانها وتوضيحها بحيث تقع مورداً للدراسة والتأمّل والمراجعة والتقييم من قبل طالبي الحقّ والمنصفين، لا أهل العناد والغرض.
وبطبيعة الحال فإنّ هذه البحوث قد تطول قليلاً وتمتدّ لعدّة جلسات، ولكن إذا تحمّل الإخوة قليلاً، وصبروا على بعض الموارد التي لابدّ لنا فيها من استخدام بعض المصطلحات العلميّة مع الحرص على أن لا يكون هناك غموض في المطالب؛ فإنّنا نأمل إن شاء الله أن نصل إلى النتيجة المطلوبة بحول الله وقوّته ومدد أولياء الله ومساعدتهم.
وأنا بطبيعة الحال لا أستطيع أن أوضّح من خلال الكلمات والألفاظ كلَّ ما شاهدته بحقيقته وما حصل لي من التجارب والمشاهدات.. .
ما تم بيانه من مطالب حول العرفاء قليل جداً
ذات يوم تشرّف سماحة آية الله بهجت رحمة الله عليه بالمجيء إلى مدينة مشهد المقدّسة للزيارة، وأثناء إقامته هناك جاء سماحته إلى منزل المرحوم العلاّمة الطهرانيّ للقائه عصراً قبل الغروب بساعة، وكان الحقير حاضراً آنذاك، فدار الكلام حول كتاب «الروح المجرّد» الذي كان قد ألّفه السيّد الوالد، وقام في ذلك الكتاب بتعريف وتوصيف وتبيين مباني أستاذه في الأخلاق والسلوك حضرة السيّد هاشم الحدّاد رضوان الله عليهما، وعمل على توضيح أسلوب تفكيره ومنهجه، وباعتقادي فإنّ هذا الكتاب ينبغي أن يسمّى بـ «قانون السلوك»، (و كنت قد أفصحت عن ذلك لنفس السيّد الوالد فتبسّم وقال: هو كذلك.. هو كذلك)، وكان المرحوم الشيخ بهجت قد أبدى إعجاباً كبيراً بهذا الكتاب، وقال: ما أكثر المطالب التي أفصحت عنها في هذا الكتاب! وكم بيّنت من الأمور التي كانت خفيّة ! وكم أوضحت من المسائل المبهمة! فالتفت السيّد العلاّمة الطهراني إلى سماحة الشيخ بهجت، وقال له: كيف تقول أننّا كشفنا الكثير من المطالب وأوضحنا المسائل؟! فنحن لم نذكر إلاّ مقداراً قليلاً من المطالب الكثيرة.. الكثيرة.. الكثيرة.. الكثيرة.. التي رأيناها من سماحة السيّد الحدّاد، وشاهدناها بأنفسنا من خلال صحبتنا ورفقتنا له، فنحن لم نقدر أن نكتب ونبيّن أكثر من ذلك في هذا الكتاب، فكيف تقول أنّنا كشفنا المطالب وبيّنا المسائل؟!
ثم بعد ذلك أضاف سماحة السيّد العلاّمة قائلاً: لقد رأيت أنّه إلى متى ينبغي أن يبقى هؤلاء الأولياء الإلهيّون في بوتقة النسيان والاختفاء والإخفاء؟! . وحتّى متى يجب أن يبقوا أسرى من يسعى إلى إبقائهم مخفيين بحيث ينساهم الناس، ويحرص على أن لا يعرفوا ويظلّوا مغمورين، فإلى متى يجب أن يبقى هؤلاء الأولياء الإلهيون وكلماتهم وأفعالهم مخفيّة لا يعرفها أحد؟! أمّا في حياتهم، فهم أنفسهم لم يكونوا ليقبلوا بأن يتمّ نشر آثارهم وكلماتهم وهم على قيد الحياة. لكن الكلام بعد وفاتهم.. فنحن الآن شارفنا على الذهاب، فمتى إذاً يجب أن تصل هذه المطالب إلى أسماع الناس؟!
والملفت للنظر أنّه في الوقت الذي كان سماحته يقوم بتأليف كتاب «الروح المجرّد» هذا، كان شخص من أهل الاطّلاع.. (والهدف من كلامي هذا هو لفت النظر إلى مدى الاختلاف الموجود في الفكر والمنطق).. أجل، كان شخص من أهل الاطّلاع ممّن حصّلوا مراتب عليا في الجامعات، قد قال لي بنفسه: ما هو الهدف من تأليف هذا الكتاب؟ لماذا جاء سماحته، وأتعب نفسه إلى هذا الحدّ في كتابة هذا الكتاب، فهو لم يذكر فيه إلاّ مجموعة من القضايا والمسائل والأحداث التي حصلت بينه وبين أستاذه؟! فنظرت إليه فقط.. نظرةً موجّهة إلى شخصٍ عديم الاطّلاع، ثمّ قلت له: عن قريب سوف ترى أنّ هذا الكتاب سيحظى بأكبر اهتمام من بين كتب سماحته في المجامع العلميّة، كما أنّه سيكون أكثر كتب سماحته انتشاراً وشهرة بين الناس! ! وهذا ما حصل فعلاً.
وعندما كتب سماحة السيّد العلاّمة هذا الكتاب، كانت حالة الوجد والشغف قد بلغت به إلى حدٍّ أنّه أصيب على إثره بذلك المرض العجيب في قلبه، وكان سماحته قد دخل إلى البيت بعد إتمامه لهذا الكتاب، فتبعه الحقير بعد ذلك بخمس دقائق لأجده يتلوّى من ألم قلبه إلى درجة أنّه لم يتمكّن من الجواب على سلامي، يعني كان يتألّم بشدّة بحيث أنّه لم يقدر أن يردّ سلامي، وذات مرّة قال سماحته واصفاً ما حصل له: لقد حصل ذلك فجأةً.. حيث شعرت كأنّ خنجراً قد اخترق كتفي الأيسر بمحاذاة القلب (حيث أنّ مرض سماحته كان في القلب).. يقول سماحته: أحسست كأنّ هذا الخنجر قد اخترق كتفي الأيسر ثم تحرّك إلى اليمين ثم عاد شاقّاً طريقه إلى اليسار ليستقرّ في قلبي، وبقي هناك، حتّى أنّني شعرت أنّ الأمر قد انتهى، وأنّ حضرة عزرائيل قد حضر ليقول لي: أيّها السيّد محمّد الحسين، تفضّل معنا! (علماً أن سماحته قد ذكر هذه المطالب للحقير فقط، ولم يذكرها لأحدٍ آخر)، يقول سماحته: ومن شدّة الألم، لم أتمكّن من التلفّظ بالشهادتين، فالتفتُّ حينئذٍ إلى ملك الموت، وقلت له: لا أسمح لك بالاقتراب منّي طالما لم أتلفّظ بالشهادتين! ! [تبسم] وحتّى أفعل ذلك فليس لك الحقّ أن تمدّ يدك عليّ! ! وحضرة عزرائيل بدوره قد قبل بذلك وأذعن قائلاً: حاضر.. مولانا.. حاضر.
أفهل تظنّون أنّ أحداً يستطيع أن يستخفّ بوليّ الله؟ وهل يمكن ذلك والحال أنّ العالم يدور بإشارة منه؟! ما بالنا وماذا دهانا؟! ثمّ يقال: يجب أن نعرض أفعال وليّ الله ونحاكمها على القرآن والسنّة!
يقول سماحته: قلت له: أصلاً ليس لك الحقّ.. ثمّ فجأة رأيت أنّ المسألة قد تغيّرت، وأنّه قد اتُّخِذ القرار بأن أُعطى مهلةً إضافية! وقيل لي: إنّ مؤلّفاتك لم تكتمل، فاحرص على إتمامها بأسرع ما يمكن! !
لقد أخبرني سماحته بهذه المسألة عندما كنت معه في المستشفى، وذلك بعد أن أخرجوه من غرفة العناية المركّزة، حيث أنّني بقيت في خدمته لمدّة أسبوعين؛ فسماحته كان قد مكث لمدّة أسبوع في العناية المركّزة، ثم قضى أسبوعاً آخر تحت المراقبة خارج غرفة العناية المركّزة، وكنّا نجلس في الليل نتحدّث حتّى الصباح، فهو لم يكن يتمكّن من النوم، فكان يقول لي: ألم تنعس أنت؟ ألا ترغب في النوم؟! والحقيقة أنني كنت نعساناً ولكنّني كنت أقول له: كلاّ، لا أريد أن أنام، فكان يقول لي: إذا كان الأمر كذلك، فقم وأحضر كتاب "مثنوي" لجلال الدين الرومي واقرأ لنا منه، وكنّا قد أخذنا معنا ديوان "مثنوي" إلى هناك، فكنت أقرأ منه قليلاً، فكان يستوقفني أحياناً ويقول لي: كلاّ، إنّ قراءتك لهذا البيت فيها خطأ، إذ ينبغي أن تقرأه بهذا الشكل، وأن تمدّ صوتك في هذا الموضع بهذا الشكل.. وهكذا كان يعلّمني كيفية قراءته بشكل صحيح.. . ثمّ بعد ذلك كان الحديث يدور حول تفسير الأبيات التي قُرئت، فكان الأمر يطول حتّى أذان الصبح، وبعد أداء الصلاة وما يتبعها، كنت ألاحظ أنّ عينه قد أغفت وانّه قد نام، فكنت أضع الكتاب جانباً بهدوء، ولكن ما إن تمرّ بضع دقائق، كان يفتح عينيه ويقول: ها.. ألا تقرأ لنا المزيد من الأبيات؟ فكنت أجيبه: ولكنّنك كنت نائماً، سيّدنا! ! [تبسّم] فيقول: كلاّ لم أكن نائماً، بل عيناي قد أطبقتا قليلاً. فكان يتضّح أنّ سماحته لم يكن نائماً.
أجل.. لقد قضينا في تلك الفترة أيّاماً عشنا فيها في عوالم وأجواء خاصّة، وقد ذكر سماحته في تلك الفترة مطالب عجيبة لم أسمعها من سماحته طوال عمري، وكنت أقوم بتسجيلها في وقت استراحته على شكل ملاحظات في المسودّة، حتّى أنقلها لاحقاً وأبيّضها وأحفظها عندي. نعم.. إنّ إصابته تلك كانت إصابةً عجيبةً جدّاً.
حسناً.. قال سماحته في ذلك اليوم لسماحة الشيخ بهجت: لقد رأيت أنّه إلى متى ينبغي أن يبقى هؤلاء الأولياء الإلهيّون خلف ستار الخفاء والاختفاء والإخفاء، ولذا جئنا ورفعنا ذلك الستار قليلاً.. قليلاً جدّاً، وذلك بحدود استعداد الأفراد ومقدار فهمهم.
ونحن الآن نجلس في خدمة الرفقاء والأصدقاء وكذلك العلماء والفضلاء، والمطالب التي سوف نطرحها سنقوم بعرضها للإخوة بالطريقة التي أوضحناها قبل قليل، وإذا ما رأيتُ أنّ الظروف والأجواء مساعدة، وكان في ذلك مصلحة، فإنّني سوف أقوم ببيان مرتبة أعلى قليلاً من هذه، ولكن إذا رأيت أن هذا المقدار كافٍ، حيث أنّ هذا المقدار البسيط قد يكون صعباً ولا يمكن تحمّله بالنسبة لبعض الأفراد، فحينئذٍ سنكتفي بهذا المقدار فقط، وكما قلنا سابقاً، فإنّنا لن نخرج عن أفق البحث الفنّي التخصّصي الحوزوي.
عدم احتياج اليقين إلى دليل لإثبات حجيته
إذا كان الإخوة قد تابعوا المباحث التي طرحناها في شهر رمضان المبارك وراجعوها، فسيجدون أنّنا قد وصلنا إلى هذه النقطة؛ وهي أنّ حجّية عمل وكلام أيّ فرد تنحصر فقط في انطباق ذلك الكلام على متن الواقع، ففي هذه الصورة تكون حجيته ذاتيةً.. أي أنّ حجّيته لا تحتاج إلى دليل لإثباتها، فحكمها من هذه الناحية حكم حجيّة القطع والعلم كما هو مبيّن في محلّه من علم الأصول. فعندما يكون لديك يقين في مسألة ما.. يقينٌ لا يعتريه الشكّ ولا تناله الشبهة، فحينئذٍ يجب عليك أن تعمل طبقاً لهذا اليقين، يجب عليك اتّباع ذلك اليقين الذي حصل لك.
فمثلاً إذا كان عندك يقين بأنّ الليلة هي الليلة الأولى من شهر رمضان، بينما يقول مرجعك: إنّ الهلال لم يثبت عندي، وبالتالي فغداً هو آخر أيّام شعبان، أمّا أنت فتقول: ولكنّه قد ثبت عندي؛ حيث أنّني قد رأيته بعيني، وأنا قاطع بأنّ غداً هو أوّل أيّام شهر رمضان. ففي هذه الحالة يجب عليك أن تصوم ذلك اليوم، وإذا ما اتّبعت كلام مرجعك ولم تصم، فإنّك تكون قد ارتكبت فعلاً محرّماً ويجب عليك أن تدفع الكفّارة أيضاً! ! هذا في حالة العلم طبعاً، وأمّا في حالة الجهل بالحكم فإنّ الأمر يختلف.
أو افرضوا مثلاً أنّ المرجع الذي يقلّده الإنسان أفتى بحرمة أكل شيء معيّن، وذلك بناءً على المعلومات التي حصل عليها من بعض المصادر، فالمرجع ليس متّصلاً بعالم الغيب، هل هو متّصل؟ كلاّ! طبعاً ليس كذلك! بل هو فرد عاديّ كباقي الأفراد، ومصادر معلوماته كباقي الأفراد أيضاً، مثلاً يأتي إليه أحد الأشخاص ويخبره بحصول حادثةٍ ما، أو يبيّن له مسألة ما.. افرضوا مثلاً أنّه جاء وقال له: إنّ الجيلاتين الموجود حالياً في الأسواق مستورد من الخارج، وهو جيلاتين حيواني، مأخوذ من حيوانات غير مذكّاة أو أنّه مأخوذ من الخنزير مثلاً أو ما شابه ذلك.. افرضوا أنّ شخصاً جاء إلى المرجع وأخبره بأمر كهذا، ومن ناحية أخرى كان هذا الشخص موضع ثقة المرجع، وكان يراه مصدراً معتمداً لمثل هذه المعلومات، ولكنّه بطبيعة الحال لا يعرف شيئاً عن باطن هذا الشخص، فهو لا يدري هل هو واقعاً صادق في خبره أم كاذب؟ فكما ذكرت سابقاً إنّ الله تعالى بسبب رحمته الواسعة لم يضع عدّاداً على جبين كلّ واحد منّا بحيث يُعرف منه أنّ هذا الشخص يكذب! حسناً.. هل تعرفون مرجعاً لديه القدرة أن يشخّص الفرد الكاذب من مجرّد النظر في عينيه؟! أخبروني إن كنتم تعرفون مرجعاً كهذا! ! أما أولياء الله فليسوا كذلك، إذ هم يعرفون مثل هذا الشخص حتّى بدون أن ينظروا إليه، لذا هم يمتنعون حتّى عن استقباله! إذ الولي يعرف ذلك حتّى بدون أن ينظر إليه، فتجده يقول: ليس عندي مجال لاستقباله.. لا تفسحوا له المجال بالدخول! ثمّ بعد ذلك يتبيّن أنّه.. يا للعجب! يتبيّن أنّ أحوال ذلك الشخص كانت كذا وكذا! فأولياء الله يختلفون "قليلاً" عن الآخرين ! ! [تبسم]
ضرورة الاحتياط في مواجهة الأولياء لمجرد عدم فهم كلامهم أو الخطأ في فهمه
حسناً.. في كثير من الأحيان يأتي هؤلاء الأشخاص ويلقون أكاذيبهم على الإنسان، وهذا الإنسان بدوره يعمل طبقاً لذلك الكذب، بل يمكن أن يقوم القاضي بإصدار حكمٍ في إحدى القضايا بناء على الشهادات الكاذبة! وفي هذه الحالة، لا يعدّ القاضي مقصّراً؛لأنّه ماذا كان ليفعل؟! فهو ليس مطّلعاً على الغيب، ومن ناحية أخرى يجد أنّ هؤلاء الأفراد الذين أدلوا بشهادتهم هم من وجوه القوم.. .
لا أدري إن كنتُ قد نقلت لكم هذه القضيّة أم لا؟ ذات يوم كان المرحوم الحاج «بَيَات» نقل لنا هذه القضيّة، علماً أنّ الحاج «بَيَات» من رفقاء السيّد الوالد، ومن تلاميذ الشيخ الأنصاري رحمه الله، كما أنّه كان رجلاً سالكاً قد قطع الكثير من المراحل، وكان من أهل الفهم وأهل الرأي والاطّلاع، ومن ذوي المكاشفات والمشاهدات الكثيرة أيضاً. كان هذا المرحوم في أيّامَ الشاه يأتي إلى طهران أحياناً مسافراً من همدان، فكان يأتي إلى منزلنا، وفي صباح أحد الأيّام كان جالساً في منزلنا، وسمعته يذكر هذه القضيّة، قال: ذات مرّة ذهبتُ برفقة أستاذي سماحة الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه إلى زنجان، وقد كان الشيخ الأنصاري في ذلك الزمان على علاقة مع الملاّ آقاجان الزنجاني، وكانت بينهما علاقة وزيارات متناوبة، حيث كان الشيخ الأنصاري يزوره في زنجان كما كان يأتي هو لزيارة الشيخ الأنصاري في همدان.. ولكنّ علاقتهما انقطعت بعد ذلك، وكان سبب انقطاع العلاقة بينهما هو اعتراض الملاّ آقاجان على مسلك العرفان الذي كان ينتهجه المرحوم الشيخ الأنصاري، حيث صار يقول: من غير المعلوم أنّ هذا الطريق ينتهي إلى الولاية، وما شابه ذلك من الترّهات التي صارت كثيرة هذه الأيّام، وصرنا نسمع أمثال هذه الكلمات والعبارات بين الحين والآخر! كان يقول: من غير المعلوم أنّ هذا الطريق ينتهي إلى الولاية!
يا للعجب! هل بلغ بك الأمر أن تشكّك في سماحة الشيخ الأنصاري؟! يا عزيزي، إنّ كلّ شيء له حساب وكتاب، ويجب أن يضع الإنسان الأمور في مواضعها، فليس من حقّ الإنسان أن يلقي الكلام كيفما اتّفق، فالإنسان مسؤول عن الكلام الذي يقوله! أفكلّما خطر كلامٌ في ذهنك؛ تسارع إلى إجرائه على لسانك؟! إنّ هذا ليس صحيحاً! اجلس قليلاً يا عزيزي، وتأمّل في كلامك قليلاً، فهذا الكلام الذي تقوله له تبعات ثقيلة، ومسؤولية جميع التبعات الناتجة عنه ستقع عليك أنت! فهل يصحّ أن تقول الكلام بهذه البساطة؟! إنّك مسؤول عن أصغر شبهة تحصل في ذهن أيّ فرد من الأفراد، والله تعالى سيعاقبك بشدّة على ذلك، وسيلقيك في جهنّم على وجهك! أفهل كنت تظنّ أن اتّهام أولياء الله أمر سهلٌ يسيرٌ، وأنّ بإمكان الإنسان أن يقول عنهم ما يحلو له؟! وخلاصة الأمر فقد ابتلي هذا الشخص ببعض الأمور فصار يُبرز هذه المسائل أمام الناس، ويذكرها على الملأ.
في بعض الأحيان يحصل لدى الإنسان شكٌّ في قضيّة ما، فيحتفظ بالأمر لنفسه، ولا يذكر شيئاً من ذلك للآخرين، ولكن في بعض الأحيان تجده يظهر شكوكه للآخرين، ويتذرّع بالقول: إنّني أشعر بأنّ واجبي ومسؤوليّتي أن أفعل ذلك!
يا عزيزي، من تكون أنت حتّى تحسّ بالمسؤولية؟! أو أنتقول: لديّ تكليف إلهيّ بفعل ذلك! نعم.. لقد أوحي إليّ بأن عليّ أن أقوم بإفشاء هذه المسائل!
يا عزيزي، إذا تبيّن غداً أن جميع المطالب التي تقولها كانت باطلة، فما هو موقفك حينئذٍ؟! وإذا ثبت بالأدلّة العلمية وتبيّن بشكل تامّأنّ جميع كلامك باطل، فما هو جوابك حينها؟! وكيف يمكن للإنسان الإجابة على تلك الإشكالات والشبهات ؟! ولهذا فمن الأفضل للإنسان أن يراعي الاحتياط منذ البداية، فهذا هو محلّ الاحتياط وهذا هو موضعه!
نحن كذلك كنّا نبتلى في زمان المرحوم الوالد ببعض الشبهات، ولكنّنا لم نكن لنطرق أبواب الناس وننشر الشبهة في كلّ مكان وأمام كلّ الناس، بل كنّا نصبر قليلاً، لنلتفت بعد ذلك ببضعة أيّام أو بضعة أسابيع إلى جواب الشبهة، وكنّا نتعجّب كثيراً من الخطأ الذي كنّا قد وقعنا فيه! ! والسرّ في ذلك أنّنا لسنا قادرين على فهم وتقييم أفعال أولياء الله بعقولنا الناقصة هذه، فذاك الوليّ يتكلّم من أفقٍ عالٍ جداً.. إلى درجةٍ أنّني لا أجرؤ على ذكره لكم! ! أصلاً ليس عندي الجرأة لبيان ذلك، وربّما لا أذكره أبداً! ! ثمّ بعد ذلك نأتي نحن ونجعل هذا مثل ذاك بهذه البساطة! إنّ الأفراد الذين يأتون إلى الإنسان وينقلون له خبراً ما يُحتمل أن يكون عندهم ألف غرض مختلف؛ فبعضهم جاء ليكذب، وبعضهم الآخر يمثّل ويتحايل، وبعضهم يخطئ ويشتبه.. مجرّد اشتباه.. أوَليس الخطأ جائز الصدور منّا؟!
ذات يوم كنت في مشهد مع أحد الرفقاء، وقبل الغروب بساعة ونصف تقريباً شرع السيّد الوالد بالحديث، وكان هناك شخص جالس يقوم بكتابة المطالب التي يلقيها سماحة السيّد في دفتر، وبطبيعة الحال فإنّ هذا الشخص الذي يكتب سيكون جانبٌ من تركيزه موجّهاً لسماع كلام المتكلّم، والجانب الآخر موجّه للكتابة، ولهذا السبب قد لا يتمكّن ـ في بعض الأحيان ـ من التوفيق بين هذين الأمرين وإيفاء كلٍّ منهما حقّه.. ولهذا يقال: إنّ الطالب لا ينبغي له أن يكتب شيئاً في الدرس، وهذا ما كنتُ أفعله عندما كنت طالباً، فلم أكن أكتب شيئاً أثناء الدرس، بل كنت أحدّق النظر في الأستاذ، لأحاول أن أفهم ما يريد قوله؛ لأنّني إذا انشغلت بالكتابة فمن الممكن أن تفوتني بعض الدقائق والنقاط المهمّة التي قد يكون أحدها سبباً لحلّ الكثير من المعضلات، وهكذا كنت أستمع للمطالب والدروس، وبعد ذلك عندما أرجع إلى المنزل، كنت أقرّر المطالب التي في ذهني، وأتأمّل فيها وأراجع المصادر والمراجع التي لها علاقة.
حسناً.. انتهى ذلك المجلس [الذي تحدّث فيه السيّد العلاّمة]، وبعد مدّة من الزمان، قلتُ للرفقاء: من كان عنده أمور مكتوبة من السيّد العلاّمة فليحضرها، فأنا بحاجة إليها، وكان السيّد الوالد لا يزال على قيد الحياة حينذاك، وكان من ضمن الأفراد الذين أحضروا ما لديهم من مكتوبات هو ذلك الشخص الذي كان يكتب في ذلك المجلس، وبينما كنت أتصفّح الأوراق وقع نظري على ورقة مكتوب فيها: تقرير المطالب التي ألقيت في الجلسة الفلانية في اليوم الفلاني في منزل فلان، وما إن شرعت بقراءة المطالب، حتّى تفاجأت.. يا للعجب! إنّ السيّد الوالد لم يقل هذا الكلام، فأنا كنت بنفسي حاضراً في ذلك المجلس، ووجدت أنّ هذا الشخص كان قد ذكر اسم أحد الأشخاص بشكل خاطئ، فالشخص الذي كتب اسمه لم يكن له علاقة بالقضيّة التي كان قد بيّنها السيّد العلاّمة في ذلك اليوم، واللطيف بالأمر أنّني كنت حاضراً في نفس تلك القضيّة التي نقلها وأعرف ما جرى فيها بدقّة، فمعرفتي بحقيقة الأمر لم تكن بسبب استماعي لكلام السيد الوالد فقط، بل كنت أنا نفسي حاضراً شاهداً على ما جرى في تلك القضيّة، وهذا الشخص الذي كان يدوّن المطالب قد اشتبه في اسم هذا الشخص. حسناً.. لو لم أكن مطّلعاً على حقيقة الأمر، ثمّ قرأت ما كتبه هذا الشخص، لكنت صدّقت ما فيه، ووثقت بما ذكره؛ لأنّ هذا الشخص إنسان جيّد، وشخص متديّن جدّاً، لكنّه مع ذلك اشتبه في نقل الكلام وكتابته، ولحسن الحظّ فقد كنت حاضراً بشخصي في تلك القضيّة فضلاً عن أنّني كنت أستمع بدقّة لما ذكره السيّد العلاّمة في ذلك اليوم! ! هل رأيتم كيف تجري الأمور؟ حسناً.. لو لم أكن مطّلعاً على حقيقة الأمر، لأخذت هذه الأوراق كمدرك ومصدر موثوق، وربّما ألّفت كتاباً على أساس هذه المعلومة الخاطئة! والواقع أنّ هذا المطلب كان خاطئاً.. بهذه البساطة كان خطأً واشتباهاً.
حسناً.. فهؤلاء الأفراد الذين يذهبون إلى المراجع وينقلون لهم المطالب هم من هذا القبيل أيضاً، فهم ليسوا من نوعٍ آخر، وليسوا على درجة أعلى من الإيمان والضبط، فهذا الشخص كان فاضلاً عالماً، لم يكن معمّماً، لكنّ تخصّصه كان يجعله على علاقة بعلوم اللغة والفلسفة وما شابه ذلك، فهو لم يكن شخصاً جاهلاً على كلّ حال. ولكنّه مع ذلك يخطئ ويشتبه.. فهو في النهاية بشر، والبشر بطبيعتهم يخطئون، فماذا يمكن أن نفعل حيال ذلك؟!
جيّد.. قال المرحوم الحاج «بيات»: ذهبنا ذات مرّة مع سماحة الشيخ الأنصاري إلى زنجان، ودخلنا إلى منزل المرحوم الشيخ ملاّ آقاجان، وقضينا ليلة هناك، وفي تلك الليلة وأثناء تناولنا للعشاء دار الحديث حول المرحوم الملاّ قربان علي الزنجاني. والمرحوم الحاج الملاّ قربان علي الزنجاني كان رجلاً من الأعاظم، وكان مرجع التقليد في زنجان، وكان عنده ذاكرة عجيبة جدّاً.. كانت حافظته عجيبة وغريبة جدّاً، كما أنّه كان دقيق النظر ومن أهل العلم والفضل، حيث أنّه كان قد ذهب إلى النجف الأشرف للدراسة، ومن ناحية أخرى فقد كان من أصحاب الكرامات، وفي آخر عمره ابتلي بمسائل وأحداث الحركة الدستورية، ممّا أدّى إلى نفيه وإبعاده إلى النجف، والظاهر أنّهم قد قتلوه بالسمّ أيضاً على حسب ما أذكر، كما أنّه قد أصيب بالعمى في آخر عمره، ويقال أنّه كان يأتي باكراً فيجلس على باب الصحن للحرم المطهّر بانتظار أن يفتحوا باب الصحن، وخلاصة الأمر فقد كان رجلاً عظيماً.
فرار العلماء من مسؤولية والمرجعية
وكان اطلاعه على المباني العلمية وتسلّطه عليها إلى درجة أنّهم ينقلون أنّ المرحوم الشيخ محمد حسن النجم آبادي، الذي كان من كبار علماء طهران، وكان يعيش في منطقة "سنگلج" في طهران، وكان من تلاميذ المرحوم الشيخ الأنصاري.. كان من نخبة تلاميذ الشيخ الأنصاري الذين قاموا بانتخاب الميرزا حسن الشيرازي لمقام المرجعية، حيث أنّه بعد أن توفي الشيخ الأنصاري اجتمع ستّة أو سبعة من تلاميذه؛ كالمرحوم الميرزا حبيب الله الرشتي (الذي كان بحراً من العلم)، والمرحوم الشيخ الميرزا حسين خليل، والمرحوم الشيخ محمّد حسن الآشتياني (الذي كتب حاشية على كتاب الرسائل، وهي أقوى الحواشي التي كتبت على الرسائل، وهو كتاب علمي جدّاً)، والمرحوم الشيخ محمد حسن النجم آبادي [الذي نتحدّث عنه] والذي يقال أنّه لم يكن أقلّ من الناحية العلمية من نفس أستاذه الشيخ الأنصاري، وكان معهم أيضاً في ذلك المجلس نفس الميرزا حسن الشيرازي. لقد جلس هؤلاء وبحثوا المسألة وأصدروا حكمهم بمرجعيّة الميرزا حسن الشيرازي، وحيث أنّ الميرزا الشيرازي كان قد رفض اقتراحهم في البداية بقبول المرجعية رغم إلحاحهم عليه في الطلب، فإنهم انتظروه حتّى خرج لتجديد الوضوء، فاستغلّوا فرصة غيابه، وأصدروا حكمهم بمرجعيّته، وقالوا: دعونا نصدر الحكم في غيابه قبل أن يرجع ويعترض على ذلك، فيحسم الأمر، ولا يعود هناك مجال للتغيير! (انظروا ما أعظم هؤلاء الأفراد الذين كانوا موجودين حينئذٍ! )، وعندما رجع المرحوم الميرزا حسن الشيرازي (وهو المرجع المعروف صاحب فتوى التنباكو المشهورة، والمدفون في سامراء).. عندما جاء سماحته ودخل إلى المجلس، قال جميع الأفراد معاً: حكمنا بمرجعيتكم! (وحكم المجتهد واجب الإطاعة! ). يقال: إنّه لما رأى ذلك وسمع كلامهم، جلس وصار يبكي كالثكلى! جلس وأخفض رأسه وصار يبكي كالثكلى! إنّه لم يكن يمثّل! ! لم يكن ذلك منه تمثيلاً! ! بل إنّه (حسب ما ورد في ترجمة أحواله) جلس يبكي كالثكلى دون توقّف بسبب هذه المسؤولية الكبيرة التي ألقيت على عاتقه!
حسناً.. فقد كان أحد هؤلاء العلماء المجتمعين هو هذا الشيخ محمد حسن النجم آبادي، بل إنّه هو الذي نصحهم بفعل ما حصل، إذ يروى أنّه التفت إلى الأفراد الحاضرين، وقال: أيّها الرفقاء، هل تقبلون كلامي؟ فقالوا جميعاً: نعم، نقبل! فقال: لا أحد منّا غير الميرزا حسن الشيرازي يستطيع أن يحفظ مفتاح الجنّة والنار في جيبه! ! إنّنا لا نقدر على تحمّل مثل هذه المسؤولية، ولكنّه يستطيع ذلك. فاتّفقوا على أن يصدروا حكمهم إجماعاً بمرجعيّته عندما يرجع ويضعونه تحت الأمر الواقع.
قصة المرحوم الملا قربان علي الزنجاني وعلمه ودقته
جيد.. ينقل عن هذا الميرزا محمّد حسن النجم آبادي هذه القضيّة: يقال أنّ بعض طلاّب العلم كانوا جالسين عنده وقالوا له:لقد ذهبنا عند الشيخ الملاّ قربان علي الزنجاني، وقد أجاب سماحته عن هذه المسألة بهذا الجواب. فقال متعجّباً: هو أجابكم بهذا الجواب؟! فقالوا: نعم. فقال: كم احتاج من الوقت ليجيبكم؟ فقالوا: لم يطل الأمر كثيراً.. لقد تأمّل للحظات ثمّ أجاب. فقال: إنّ هذا الشخص الذي تتحدّثون عنه إمّا مجنون، أو أنّه نابغة زمانه! فهو لا يخرج عن أحد هذين الأمرين، فالشخص العاديّ لا يستطيع أن يأتي بمثل هذا، هو إمّا مجنونٌ قال كلاماً اعتباطيّاً فصادف الواقع، أو هو نابغة وعبقري. ولهذا سوف أقوم بامتحانه.
فكتب مجموعة من الأسئلة على ورقة، وأعطاهم إياها قائلاً: اذهبوا إلى زنجان وأحضروا إجابات هذه الأسئلة منه. وسبب هذا التصرّف من الميرزا محمّد حسن النجم آبادي هو أنّه كان عنده أمر مهمّ مع الملاّ قربان علي الزنجاني، ولكنّه أراد أن يتأكّد من حاله قبل أن يُقدم على شيء، حيث أنّه كان قد سمع عنه سابقاً، ولكن ليس بهذا الشكل، حيث أنّ الملاّ قربان علي الزنجاني كان من تلاميذ المرحوم صاحب «الجواهر».
وهكذا فقد سلم الرسالة لهذين الشخصين، فذهبا إلى زنجان، وجاءا إلى منزل الملاّ قربان علي الزنجاني، وأعطياه الرسالة، وكان من دأب المرحوم الملاّ قربان علي الزنجاني إذا جاءه استفتاء مكتوب أن يأخذ الدواة والقلم فوراً ويكتب الجواب على ظهر ورقة السؤال فوراً، فكان يقرأ السؤال الأوّل مثلاً، فيكتب جوابه فوراً، ثمّ يقرأ السؤال الثاني فيجيب عنه فوراً دون أن يتأخّر لثانية واحدة، وهكذا كان يجيب عن السؤال الثالث والرابع حتّى تنتهي الأسئلة. ولكن عندما جاءته هذه الرسالة التي أرسلها الميرزا محمّد حسن النجم آبادي مع هذين الشخصين، وضع القلم في الدواة حتّى يملأه حبراً ويكتب الإجابة، ولكنّه توقّف قليلاً ليفكّر.. توقّف ثانيتين أو ثلاث.. ثمّ كتب الجواب، ثمّ وضع القلم في الدواة ليجيب عن السؤال الثاني، لكنّه توقّف مرّة أخرى لمدة ثانيتين أو ثلاث ليفكّر قليلاً، ثمّ كتب الجواب.. واستمرّ بهذا الشكل حتّى أنهى الإجابة على جميع الأسئلة وأعطاهما الورقة، فأخذا الورقة وعادا إلى المرحوم الشيخ محمّد حسن النجم آبادي، فطرقا الباب عليه، فذهب ليفتح الباب فإذا بهذين الرجلين على الباب، فقال لهما:ماذا تفعلان هنا؟ ألم تذهبا إلى زنجان؟ فقالا: بلى.. لقد ذهبنا ورجعنا أيضاً! فقال: رجعتما؟! إنّ هذه الأسئلة التي أعطيتكما إيّاها تحتاج إلى ستّة أشهر للإجابة عليها! أعطياني الورقة لأرى! فأخذ الورقة، وبدأ يطالع الأجوبة ليتفاجأ بأنّ جميع الإجابات صحيحة! ! فقال: أقسم بالله إنّ هذا الشخص مؤيّد من عند الله دون شكّ.. لأنّ شخصاً عاديّاً لا يستطيع أن يفعل هذا. وبطبيعة الحال فالشيخ محمّد حسن النجم آبادي كان عالماً، وبالتالي كان قادراً على التقييّم، وهكذا حال كلّ شخص خبير بالنسبة إلى تخصّصه وفنّه. أجل.. لقد قال: لا شكّ ولا ريب أنّ هذا ليس عالماً عادياً؛ لأنّ هذه الأسئلة تحتاج إلى ستّة أشهر تقريباً للإجابة عليها، فهذه الأسئلة تحتاج إلى مراجعة المصادر والتأمّل والتحقيق، وكان عدد تلك الأسئلة اثني عشر سؤالاً تقريباً، ولو أراد أن يخصّص لكلّ سؤال أسبوعاً أو اثنين لكان قليلاً!
جيّد.. المرحوم الشيخ الأنصاري قال للملاّ آقاجان الزنجاني: أودّ أن أذهب لأرى منزل المرحوم الملاّ قربان علي الزنجاني.. . وذلك أنّه في زمان الحركة الدستورية، كانوا قد جاؤوا إليه، وطالبوه بالانصياع لما يريدونه، ولكنّه لم يكن يستجيب لضغوطهم، وهذا هو ديدن الأشخاص الذين عندهم اتّصال [بعوالم الغيب] لم يكونوا لينصاعوا لضغوط هذه المسائل السياسيّة، فهم يفهمون جيّداً خطورة قبول هكذا مسؤولية، ويعرفون حجم التبعات التي تترتّب على الكلام الذي يقوله الإنسان، فقول مطلبٍ ما أمرٌ سهلٌ، ولكنّ متابعتَه إلى النهاية، وتحمّلَ عواقبه غير المنتظرة التي يمكن ـ لا قدّر الله ـ أن تحصل هو أمرٌ آخر تماماً، ولهذا كلّما كانت مسؤولية الإنسان أكبر وأكثر حساسيّة، ينبغي أن يكون احتياطه بالنسبة للمطالب أكبر، ولكنّنا نرى أنّ الأفراد يقولون كلامهم بكلّ بساطة وتساهل، ثمّ بعد ذلك يقومون بتغيير كلامهم! ! فلماذا ينبغي أن تكون المطالب بهذا النحو؟! لكن عندما لم يرضخ الملاّ قربان علي الزنجاني لما يريدون، قاموا بطرده ونفيه من البلد، كما قاموا بإحراق منزله أيضاً، ولم يبق منه إلاّ أثره.
وهكذا فقد طلب الشيخ الأنصاري أن يذهب إلى ذلك المنزل ليشاهده، يقول الحاج بيات: ذهبنا برفقة المرحوم الشيخ الأنصاري والملاّ آقاجان إلى موضع ذلك المنزل، فقيل لنا: إنّهم قد أحرقوا المنزل، ولم يعد صالحاً، ولا أحد يسكن فيه. فقلنا لهم: إن كان بالإمكان أن تعثروا على مفتاحه أو المسؤول عنه، فنحن نرغب بإلقاء نظرة عليه، فعثروا على أحد أقارب الملاّ قربان علي، وكان معه المفتاح فأحضره وفتح المنزل، فلمّا دخلنا وجدْنا أنّ المنزل مهجور، فجلسنا فيه لمدّة من الزمن. يقول الحاج بيات: عندما جلسنا هناك وجدنا أنّ المنزل فيه نورانية عجيبة، وحتّى سماحة الشيخ الأنصاري أظهر تعجّبه من نورانيّة المنزل وأجوائه. وأثناء جلوسنا هناك جاء خادم المرحوم الملاّ قربان علي الزنجاني، والظاهر أنّه قد أُخبر بمجيئنا، فطلبوا منه أن يأتي هو أيضاً ليحدّثنا بالمسائل التي يعرفها، فجاء وجلس، وحينئذٍ التفت إليه الملاّ آقاجان وسأله قائلاً: هل عندك اطّلاع على بعض مطالب الملاّ قربان علي الزنجاني؟ فقال: أجل.. لقد اطّلعت على الكثير من مسائله والعديد من الكرامات، ومن ضمن ذلك هذه القضيّة؛ يقول:
كنت ذات يومٍ من أيّام الشتاء الباردة جالساً في غرفتي، وكان سماحته في القسم الداخلي من المنزل، وكنت سأشرع بعد قليل بإعداد المجلس الخارجي المخصّص لاستقبال الناس والمراجعين وأصحاب الحاجات، حيث كان من عادتي أن أقوم بإعداد الشاي وإشعال المدفأة، وبينما أنا أفعل ذلك فإذا بشخص يطرق الباب، ففتحت الباب لأرى أنّ الثلج يتساقط بشدّة، ورأيت امرأة عفيفة تقف خلف الباب وفي يدها طفل رضيع، فقالت: أريد مقابلة الملاّ قربان علي! فقلت لها: لم يحِن بعدُ موعد الاستقبال، حيث أنّ سماحته لا يستقبل الناس عادة إلاّ بعد ساعتين. فقالت: اذهب وقل له: إنّ فلانة قد جاءت، وكانت مضطرة [ولكنّك لم تستقبلها]، فأنت تتحمّل المسؤولية! في أمان الله. فقلتُ لها: انتظري.. انتظري لحظة! فذهبت إلى القسم الداخلي من المنزل، وأطلعت سماحته أنّ امرأة محجّبة عفيفة قد جاءت في هذه الجوّ البارد تحمل طفلها، وتقول إنّ لديها أمراً ضرورياً، وإذا لم تستقبلوني فسوف أذهب، ولكن عليكم أن تتحمّلوا المسؤولية! فقال لي: أدخلها. فجاءت مع طفلها وجلستْ، وكان عند الملاّ قربان علي رداء طويل مصنوع من الفرو فلبسه، ووضع عمامته البيضاء على رأسه، وجاء وجلس، ثمّ التفت إلى المرأة، وقال لها: أيّتها المرأة المحترمة، ما هو الأمر الذي جاء بك في هذا الوقت؟ قال لها ذلك بأسلوب حادّ نوعاً ما، وكان طبع سماحته فيه شيء من الحدّة. فقالت له: جئت لأخبرك بأن سند الملكية الخاصّ بالمزرعة الفلانية الذي أمضيتَه بالأمس، هو في الواقع ملك لهذا الطفل الرضيع اليتيم، وأنّ هؤلاء الشهود الذين جاؤوا وشهدوا على المسألة كانوا شهود زور، وأنت قد قضيتَ بإمضاء السند بناء على شهادة الزور تلك! فقال لها: أيّتها المرأة المؤمنة المخدّرة، ماذا تقولين؟! لقد كان هؤلاء الشهود من «عدول المؤمنين»؟! (ولا ندري ما هو سرّ كلام سماحته؟! فلعلّه كان مأموراً بهذا الظاهر، ثمّ هو نفسه قام بإحداث هذه المسائل والأحداث لحكمةٍ ما، وها هنا أسرارٌ خفية، ونحن قد اتّفقنا أن لا نخرج عن حدود بحثنا) حسناً.. قال لها: إنّ هؤلاء من «عدول المؤمنين» ومن الأفراد المعروفين! فقالت: لقد قلت ما عندي! ! في أمان الله.. أنا ذاهبة! وحملتْ ابنها لتغادر. فقال لها: كلاّ.. انتظري.. لا تذهبي، لا تذهبي. ثمّ قال لهذه المرأة: اتركي الطفل واخرجي من الغرفة، كما أمرني أنا كذلك أن أخرج من الغرفة أيضاً.. .
وهنا لا بدّ أن ألفت نظر الأخوة إلى مسألة مهمّة، وهي أنّ المرحوم الملاّ قربان علي الزنجاني ليس من ضمن أولياء الله الذين نبحث في أمرهم الآن، فرغم أنّه كان من الأعاظم ومن أهل الكرامات والمشاهدات، والأمور غير العادية، ولكنّ أولياء الله الذين نقصدهم شيءٌ آخر، ومقامهم أعلى بكثير، فالسيّد العلاّمة الطهراني والسيّد القاضي والسيّد الحدّاد لهم مرتبة أعلى بل هم في أفق آخر تماماً، وكما قلت لكم، فإنّ مرتبتهم فوق تصوّراتنا وخيالاتنا. ولكن مع ذلك فقد كان الملاّ قربان علي الزنجاني رجلاً عظيماً جدّاً، ومن أهل التهجّد وأصحاب الكرامات. إنّ موقعيّة كلّ شخص يجب أن تُحفظ في مكانها الصحيح وفي حدّها وحريمها الواقعي، وينبغي لنا أن نبذل أقصى جهدنا لكي نحافظ على الحريم والحدود، وأن لا نتجاوزها أبداً.. نعوذ بالله من تعدّي الحدود وتجاوز الحريم، فهناك تتحرّك الغيرة الإلهية.. فإذا حاول الإنسان أن يضع نفسه في مقام إمامِه أو في مقام أولياء الله فإنّ الغيرة الإلهية لن تتركه أبداً، وسيحاسبه الله أشدّ الحساب، أجل لا ينبغي أن يدوس الإنسان على ذيل الأسد!
حسناً.. يقول الخادم: التفت الملاّ قربان علي إلى هذه المرأة وقال لها: اخرجي من الغرفة، فخرجنا أنا وهي، ووقفنا نراقب من النافذة ما سيحصل في الغرفة. فرأيتُ سماحته وقف وصلّى ركعتين، ثمّ جلس ووضع الطفل في حضنه ثمّ أخذ يقرأ دعاءً لم أتمكّن من فهم كلماته، ومهما سعيت أن أعرف ما هو الدعاء وبأيّ لغة هو.. هل هو فارسي أم عربي أم تركي، إلاّ أنني لم أتمكن من تشخيص ذلك، ولم أفهم الأصوات التي كنت أسمعها، وفجأة سمعته يقول للطفل باللغة التركية (حيث أنّ لغته الأم تركية): قل ما تعرفه! ووضع يده على جبهة الطفل وحرّكها إلى الأسفل، فإذا بالطفل ينطق بلغة تركية واضحة (الظاهر أنّ هذا الطفل قد ولد وهو يعرف لغة أمّه! ! [ضحك]) لقد نطق الطفل وقال: إنّ جميع الشهادات التي قدّمها أولئك الأفراد كانت زوراً وكذباً، والشخص الذي أخذ هذا السند المزور يحتفظ بالسند الأصلي في منزله، وقد أخفاه في الخزانة الفلانية من منزله الواقعة في الغرفة الفلانية، في الصندوق الفلاني! فذلك السند هو السند الأصلي، وأمّا السند الذي أحضروه لك فإنّه مزوّر! ! فقال الملاّ قربان علي: جيّد جدّاً، ووضع يده على أنف الطفل وحرّكها بالاتّجاه المعاكس نحو جبهته، فرجع الطفل إلى حالته الأولى وصار يبكي كما يبكي الأطفال، فنادى أمّه وقال لها: خذي طفلك، واذهبي إلى بيتك، وأعطنا عنوانك، وسوف نستدعيك عندما ينتهي الأمر.
يقول الخادم: وعندما جاء اليوم التالي، أرسل في طلب جميع أولئك الأشخاص المتورّطين في هذه القضيّة، وأحضر بعض أصدقائه أيضاً، فلمّا حضر الجميع قال لهم: هيّا بنا.. فلنذهب جميعاً إلى منزل فلان! وبمجرّد أن قال ذلك تغيّر لون ذلك الشخص (صاحب المنزل الذي أخفى السند)، ولكنّه لم يتمكّن من قول شيء إلاّ أن يرحّب بهم، فذهبوا ووصلوا إلى المنزل، فقال له الملاّ قربان علي: افتح لنا البيت.. ألا تريد أن تقدّم لنا بعض الشاي؟! فقال: تفضّلوا .. أهلاً وسهلاً، قال ذلك مجبوراً حيث أنّ الملاّ قربان علي كان قاضياً حاكماً، فلمّا دخلوا المنزل، قال له الملاّ قربان علي: خذني إلى الغرفة الفلانيّة، فلي فيها حاجة! فاصفرّ لون صاحب المنزل، وعندما دخلوا الغرفة قال له: افتح هذه الخزانة، ثمّ هذا الصندوق! فقال له: للأسف إنّ مفتاح الصندوق ضائع، فقال: لا بأس أحضروا نجاراً الآن ليفتحه، فأحضروا نجاراً، وفتح الصندوق.. وأخرج السند الأصليّ من الصندوق ثمّ أخذ منهم السند المزوّر ومزّقه، ووقّع على السند الأصلي بالإمضاء والاعتماد، وأرسله إلى أمّ ذلك الطفل اليتيم، وبعد ذلك قام بتعزير جميع أولئك الشهود الزور.. أجل لقد جلَدهم جميعاً!
من كان أولئك الأشخاص؟ إنّهم كانوا من كبار القوم.. أصحاب اللحى البيضاء والذين يواظبون على الصلاة في الصفّ الأوّل من الجماعة! هكذا كان الملاّ قربان علي الزنجاني، ولكن لو كان في مكانه شخص آخر، فماذا كان سيحصل؟! وها هنا نفهم معنى قول الإمام عليه السلام بأنّه لا ينبغي أن تؤخذ الفتوى إلا من شخص قد اتّصل قلبه بالملكوت، فهو يأخذ حقيقة المطلب من هناك، لهذا السبب قال الإمام الصادق ذلك(۱)، بل لأمور أعلى من هذا أيضاً.
ضرورة مخالفة فتوى المرجع عند وجود يقين بخطئها
حسناً.. لو كان هناك فرد مطّلع على المسائل مثلاً [وسمع بالحكم الذي أصدره المرجع]، وقام بالتحقيق في المسألة بنفسه ليكتشف أنّ ما قيل من أنّ المادة الفلانية (الجيلاتين بحسب مثالنا) ليست مستوردة من الدول الكافرة كما نقلوا، بل هذه الموادّ مستخرجة من النبات، أو أنّها حيوانية مستخرجة من عظام الحيوان، ولكنّها مستوردة من بعض الدول الإسلامية وقد ذبحت بالطريقة الشرعية. فلو أصدر هذا المرجع فتواه بنجاسة هذه المادّة، فباستطاعة هذا الشخص الذي اطّلع على حقيقة المسألة أن لا يعمل بهذه الفتوى، لأنّ عنده اطّلاع ويقين. وكذلك الأمر لو كانت المسألة بالعكس؛فلو جاء المرجع وأفتى بحلّية أمر ما، ولكن كان عند هذا الشخص يقين بأنّ ذلك المرجع قد اشتبه في فتواه بناء على ما نُقل له، وبأنّ تحقيقه في المسألة لم يكن كافياً ووافياً، وعلم هذا الشخص بأنّ هذه المادّة الفلانية مأخوذة من ميتة.. أي من حيوانٍ غير مذكّى؛ ففي هذه الصورة يحرم عليه العمل بفتوى مرجع تقليده رغم أنّه يفتي بالحلّية! لماذا؟ لأنّ عنده يقين! ويقينه أعلى عند الله من الفتوى التي أصدرها المرجع، والتي يعلم هذا الشخص بأنّها خطأ، وسوف يُحاسب يوم القيامة على عمله هذا، فيقال له: لماذا عملت خلافاً ليقينك؟! والحديث عن اليقين طبعاً.. لا عن الظنّ والاحتمال. فالكثير من الناس يقول: أنا عندي يقين، بل كلّنا نقول: أنا عندي يقين، ولكن عندما نناقشه قليلاً، تجده يقول: أجل معك حقّ! يا عزيزي، كيف تزعم أنّ عندك يقين في هذا الأمر ثمّ تقول ببساطة: أجل معك حقّ، فأين اليقين إذاً؟! كلاّ نحن لا نتحدّث عن هذا اليقين المزعوم، بل عن اليقين والعلم والاطّلاع الكافي الذي لا يداخله شكّ أبداً، وذلك كعلمنا بأنّ هذا المصباح أمامنا منير ومضيء، فإذا كان عند الإنسان يقين كهذا، فمثل هذا اليقين له حجّية، وحجّيته ذاتيّة، ولا أحد يقدر على سلب هذه الحجّية. حسناً.. لن نطيل البحث في هذا الموضوع أكثر من هذا المقدار حتّى لا تتشتّت الأذهان، ولا داعي لبحث جميع الفروع والشقوق الآن.
على كلّ حال، فكما ذكرنا سابقاً للإخوة الأعزّاء، فإنّ كلام الأنبياء حجّة، وحجّيته نابعة من انطباق كلامهم مع متن الواقع؛أي لأنّ النبيّ يخبر عن متن الواقع، لا لأنّه مجرّد نبيّ، فليكن نبيّاً.. ما هي علاقتي أنا، يعني لو أنّ النبي (والعياذ بالله.. والعياذ بالله) قال كلاماً كاذباً، والنبيّ لا يكذب طبعاً، ولكن لو كذب فهل يجب علينا إطاعته واتّباعه؟! كلاّ.. لا يجب ذلك. لكن بما أنّ كلام النبي والرسول مطابق للواقع تماماً، فإنّ لكلامه في حقّ المكلّف حجّية ذاتية، ولا يحقّ له أن يخالفه.
حصول خطأ في الحكم أحياناً
ولذا في قضيّة النبيّ داوود عليه السلام التي حكم فيها حكماً خاطئاً.. . حيث كان عليه السلام يصلّي في المحراب، فإذا باثنين من الملائكة في شكل شخصين من البشر قد تسوّرا المحراب، أي دخلا إلى محرابه من خلال الصعود على سوره لا من خلال الباب، جاؤوا فجأة فقال أحدهما: يا داوود {إِنَّ هذا أَخي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً وليّ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنيها وعَزَّني فِي الْخِطابِ}۱، وقوله: {عَزَّني فِي الْخِطابِ} يعني أنّه ضغط علي وأصرّ عليّ وهدّدني ليحاول إلزامي بإعطائه هذه النعجة أيضاً، فأيّ ظلم هذا؟! فقال له داوود عليه السلام: أجل الحقّ معك.. {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِه}٢، ولو أنّ هذا الشخص كان قد أضاف لتظلّمه بعضاً من البكاء والعويل، فربّما قام داوود عليه السلام بضرب ذلك الشخص الآخر دفاعاً عن هذا، فداوود عليه السلام كان جسيماً وقويّاً. لكن الأمر لم يصل إلى هذا الحدّ، فسرعان ما تبيّن الأمر للنبي داوود عليه السلام، وإلاّ أمكن أن يضرب هذا الشخص الظالم؛ كما فعل النبي موسى عليه السلام مع ذلك الرجل الذي ضربه فسقط و{قالَ يا مُوسى أَتُريدُ أَنْ تَقْتُلَني كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالأمْس}٣.
حسناً لو كنّا نحن هناك فماذا كنّا سنفعل؟ كنّا سنقول: الحقّ مع هذا الشخص، فالطرف الثاني عنده تسع وتسعون نعجة، وهذا ليس عنده إلا نعجة واحدة، وذاك يحاول أن يضغط عليه ليأخذها منه، فهو طمّاع يريد أن يستغلّ ما عنده من مال وقدرة ليضغط على هذا المسكين!
أجل، فداوود عليه السلام قال لهذا الشاكي: الحقّ معك {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِه} فلا تعطِه النعجة ودافع عن حقّك، {وَ إِنَّ كَثيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض} فهؤلاء الشركاء كثيرٌ منهم ظلمة يأكلون أموال الناس بالباطل، ويخدعون شركاءهم.. فلا تعطه النعجة، وحافظ على حقّك. وفجأة رأى داوود عليه السلام أنّ هذين الشخصين قد اختفيا من أمامه بالكلّية! يا للعجب! فهذان الشخصان اللذان كانا يتخاصمان أمامي الآن قد اختفيا بشكل مفاجئ! عند ذلك علم أنّهما لم يكونا من البشر، وهناك حصل ذلك التغيير والتبدّل النفساني في وجود النبي داوود، جاء وقال لنفسه: أنت بأيّ حقٍّ أصدرت هذا الحكم؟! فهل كون الشخص الثاني عنده تسع وتسعون نعجة دليلٌ على أنّه ظالم؟! فربّما كانت المائة نعجة كلّها له، وهذا الشاكي قد سرق منه هذه الواحدة، وادّعى أنّها له! وهنا يجب أن ينتبه الإنسان ويكون دقيقاً، فلا ينخدع بالظاهر، فظاهر المسألة كان أنّ هذا الشخص مسكين وعنده نعجة واحدة، وأخاه عنده تسع وتسعون! وهنا قد يتعجّل الإنسان بالحكم.. .
وهذا مثل قضيّةٍ سمعتها من أحد الأشخاص، يقول هذا الشخص الذي كان حاضراً في أحداث القضيّة: كان هناك شخص في ذلك الوقت يريدون أن يصادروا ما يملكه من منازل، فقال أحد الحاضرين في ذلك المجلس: إنّ هذا الشخص عنده ستة منازل في طهران، فأجاب شخص آخر (وقد توفّي هذا الشخص الآن وكان من المشهورين، وهو الآن عند ربّه وهو أدرى كيف يحاسب عبيده).. أجاب هذا الشخص: كلاّ بل عنده سبعة منازل، فهو عنده ستّة منازل في طهران كما ذكرت، ولكن عنده منزل آخر في منطقة «شمران»! ! [ضحك من سماحة السيّد والحاضرين]، وبالتالي فهو عنده سبعة منازل، فعليكم أن تصادروها جميعاً وإذا لم تجدوا المنزل السابع فعليه أن يدفع ثمنه! ! هل يصحّ أن يحكم الإنسان بهذه الطريقة؟!
هذا بعينه ما حصل مع النبي داوود عليه السلام، حيث إنه لمّا رأى أنّ هذا عنده تسع وتسعون نعجة، فقد حكم بأنّه ظالم ويريد أن يغصب حقّ الشخص الثاني، والحال أنّه ما يدرينا.. فلعلّ صاحب النعجة الواحدة هو الكاذب، وجميع النعاج المائة هي لذاك الشخص، فلا ينبغي للإنسان أن يستعجل بالحكم. ما سبب حصول هذا الأمر؟ إنّه الوقوع تحت تأثير الإحساسات والمشاعر، سببه أنّ الإنسان يتأثّر في حكمه على الأشياء بأحاسيسه ومشاعره، ولكنّ الصواب هو أن يحكّم عقله وتفكيره.. ينبغي عليه أن يتأمّل ويدقّق؛ فلا يسمح للأمر الذي له مظهر برّاق وخادع أن يسخّر قلبه ويستوليّ على لبّه.
إنّ أغلبنا يقع في هذا الخطأ وهذه المشكلة؛ حيث تجد أنّ جانب الإحساسات يأتي فجأةً ويتغلّب على عقلنا، ويسخّره في خدمته، وذلك بدلاً من أن نجعل أحاسيسنا مسخّرة لعقلنا، فمثلاً يأتي شخص وينقل قضيّة للإنسان، وقد حصل ذلك للحقير فعلاً، فقد جاءتني قبل بضعة أيّام امرأةٌ مصونةٌ إلى المنزل بحالة من الاضطراب والتأثّر الشديد، وبدأت تتحدّث وتشتكي في حالة من البكاء والتألّم الشديد، بحيث أنّ الدموع بدأت تنزل من عينيّ أنا أيضاً! ! [ضحك]، وفجأة قلت لنفسي: ربّما كانت هذه المرأة كاذبة! فلعلّها تريد أن تنتزع بدموعها هذه حكماً منّي على زوجها المسكين، ثمّ تذهب إليه وتقول له: إنّ سماحة السيّد قد أمر بكذا! ! فقلت لها: حسناً.. سوف أحقّق في الموضع! فتضايقتْ وقالت: يا سيّد، لو تعلم ماذا فعل وكيف تصرّف و.. . فقاطعتها قائلاً: لقد قلت لك إنّني سوف أحقّق في الموضوع، فماذا تريدين أكثر من ذلك؟! فأنا لا أعلم الغيب لأحكم دون تحقيق! فقالت: ولكن يا سيّد، ألم يكفِك ما سمعته؟! هل تحتاج إلى مزيد من المعلومات؟! فقلت لها [بحزم]: أيتها السيدة المحترمة.. الزمي حدودك! ولا تتدخّلي فيما لا يعنيك. وبمجرّد أن قلت لها ذلك، اختفت كلّ تلك الأدوات والحيل التي كانت تستخدمها، فقامت دون أن تتفوّه بكلمة وصارت تنظر إليّ، فقلت لها: انصرفي الآن، فانصرفت. أرأيتم، إنّ اختباراً واحداً كان كافياً لتظهر حقيقتها، فأنا لم أقل لها سوى كلمتين: سوف أحقّق في الأمر، وهذا ليس كلاماً سيّئاً أو خاطئاً. وعندما ذهبت بعد ذلك وحقّقت في المسألة: أوه.. أوه.. ألف رحمة على الممثّلين في التلفزيون! ! فقلت [في نفسي]: يا لك من ممثّلة بارعة! ينبغي أن تدخلي سلك التمثيل فعلاً، فمن الحيف أن تضيّعي هذا الاستعداد الذي أعطاك الله إيّاه! [ضحك] إنّ جميع الممثّلين أقلّ قدرة منك، لقد استطعتِ أن تجعلي الدموع تنزل من عينيّ أنا فكيف بباقي الناس؟! ! يعني بعض الناس واقعاً يمثّلون.. وتمثيلهم متقنٌ إلى درجة أنّهم يقلبون حال الإنسان من هذه الجهة إلى تلك الجهة! لقد وجدتُ بأنّها كانت تكذب في كلّ شيء، وأنّها قد ظلمت زوجها أشدّ الظلم وآذته أسوأ الأذى! ! ولهذا قلت لهم: لا أريد أن أرى هذه المرأة ثانياً! أصلاً لا أريد أن أقابلها بعد الآن. فيا أيّتها المرأة: ألا تصلّين؟! ألستِ مسلمة؟! فكيف تأتين وتكذبين بهذه الوقاحة؟! ثمّ من أين جاءت كلّ هذه الدموع؟! هل أخفيتِ عصارة البصل بجانب غدد الدموع في عينيك؟! وإلاّ فمن أين جاءت كلّ هذه الدموع التي تقلب حال الإنسان وتجعله يتعاطف ويتأثّر؟!
واضح؟! حسناً.. لقد ابتُلي حضرة داوود بأمر مشابه، ثمّ فجأة انتبه وتعجّب، وعاتب نفسه: أن لماذا استعجل في إصدار أحكامه، ولماذا سمح لنفسه أن تقع تحت تأثير المشاعر والأحاسيس؟! وهنا لابدّ أن ألفت نظر الأخوان إلى أنّ هذا الأمر كان بتدبير من الله تعالى لحضرة داوود؛ لسوقه إلى الكمال، فالأنبياء عليهم السلام لهم مراتب مختلفة، وليسوا على حدٍّ سواء في مراتب المعرفة، وقد بيّنت هذا الأمر سابقاً. ومن هنا فإنّ الله تعالى ـ من باب لطفه بهم ـ يقوم بإطلاعهم على المطالب والأمور في عوالم أخرى، ولكنّهم لا يخطئون أبداً في علاقتهم وتعاملهم مع الناس، بل الكلام الذي يقوله الأنبياء والرسل مصونٌ ومحفوظ، (والمعصومون عليهم السلام كذلك إلاّ أن المعصومين مرتبتهم أعلى كما هو معلوم)، فكلام الأنبياء والرسل محفوظ ومصون، وهو حجّة دائماً لأنّه مطابق للواقع، فالنبي داوود عليه السلام عندما كان يقضي بين الناس ـ طبقاً للروايات الصحيحة التي وصلتنا ـ لم يكن يطلب البيّنات والأدلّة من المتحاكمين، بل كان يبادر للحكم بينهم قائلاً: إنّ الحقّ معك أنت، أمّا أنت فالحقّ عليك.. هكذا كان يصدر أحكامه، وقد نقلت لنا العديد من القضايا عن حكمه عليه السلام.
حكم صاحب الزمان بحسب الواقع لا الظاهر والبينات
وقد ورد عندنا في الروايات أنّ صاحب الزمان أرواحنا فداه عندما يظهر فإنّه سوف يقضي بقضاء داوود عليه السلام؛ فهو لن يطلب بيّنة وشهوداً، بل سيستدعي الطرفين ويقول لصاحب الحق: الحقّ معك، ويقول للثاني الحقّ عليك! ثمّ يقول لهما: قضي الأمر فانصرفا. ثمّ ينادي مَن بعدهما.. . وهكذا يحسم أمر القضايا واحدة بعد أخرى، فلا ملفات، ولا محضر جلسة، ولا إمضاء من الشهود، ولا إجراءات طويلة كما هو المعهود، بل إنّ صاحب الزمان سيقضي بينهم بشكل سريع جدّاً، فحتّى لو كان هناك مائة قضية فإنّه سيحسم أمرها خلال عشر دقائق لا أكثر! ! فهو سينادي كلّ اثنين متخاصمين، وبدون أن يسمع من أيّ منهما سيقول لصاحب الحقّ: الحق معك.. ولا داعي للبيان والتوضيح، فما فائدة التوضيح؟! هل تريد أن تضيّع وقتي بشرح يطول نصف ساعة؟! (وذلك مثل بعض الأشخاص الذين يأتون إلينا ويقولون: سيّدنا، أريد بضع دقائق لأسألكم عن مسألة مختصرة، ثمّ يجلسون ساعتين كاملتين [ضحك]) ولهذا فإنّ صاحب الزمان سيقول لهذا الشخص الذي يريد أن يتحدّث ويبيّن: لا داعي لأن تضيّع وقتي! ! وهكذا فإنّه بمجرّد أن ينظر إلى المتخاصمين فإنّه سيقول لصاحب الحقّ: الحقّ معك أنت.
نسأل الله أن يوفّقنا ويمنّ علينا بإدراك زمان حضرته، ومشاهدة طلعته البهيّة، فحينئذٍ سوف نفهم في أي مرتبة تقع حكومة الإمام عليه السلام وولاية الإمام المعصوم! أجل.. في ذلك الوقت سنضحك كثيراً، حيث سنرى أنّ هناك فرقاً صغيراً بين حكومة الإمام وولايته وحكومة غيره وولايتهم! ! [ضحك]. وحينئذٍ سوف نعرف المنبع الذي كانت تنشأ منه كلمات الأولياء الإلهيين في هذه الأمور.
ومن هنا، وطبقاً للآيات الشريفة التي ذكرناها للرفقاء الكرام، فإنّ كلام الأنبياء الإلهيين وأوصيائهم وكلام المعصومين عليهم السلام أجمعين له حجّيةٌ ذاتيّةٌ؛ يعني هو حجّة بذاته، والمكلّف الذي يقع مورداً لخطابهم يجب عليه أن يقبل أوامرهم ويطيعهم.. كائناً من كان هذا المكلّف، وذلك بشرط أن يكون ذلك الشخص الآمر هو أحد الأنبياء الإلهيين أو أن يكون معصوماً. ومن الواضح أنّ هذه المسألة سارية بحقّ رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ وذلك أنّ الله تعالى يقول عن رسوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى}۱ .. إنّ كلام النبيّ صلى الله عليه وآله ليس نابعاً من الهوى، وليس فيه خلط بين الحقّ والباطل، وليس ناشئاً من الشعارات ولا من الأحاسيس والمشاعر، وليس مبنياً على شهادة عدول المؤمنين، ولا يتأثّر بالقصص المختلقة وتمثيل الأدوار الخادعة.. . {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى} ليس مبنياً على كلّ هذا، بل هو مبنيٌّ على أساس انكشاف الواقع، فهو يرى الواقع كما هو : {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى}، وبالتالي فالنبيّ صلّى الله عليه وآله لا يتدخّل في أيّ مسألة من عند نفسه.
كون الله تعالى هو المشرّع والنبي كاشف عن التشريع
في الجلسة السابقة عندما قلنا للرفقاء: إنّ النبيّ ليس بمشرّع، فإنّ بعض الفضلاء من الأصدقاء طرحوا إشكالاً، وكان ذلك استجابةً لما طلبناه من الإخوة الذين يحضرون هذه الجلسات أن يكتبوا أيّ إشكال يخطر في ذهنهم، وهذا الأمر سارٍ في هذه الجلسة وخصوصاً في الجلسات القادمة أيضاً؛ لأنّ المطالب ستصبح أدقّ بكثير في الجلسات القادمة وأصعب، ولذا فإن حصل إشكال عند الإخوة فيرجى منهم أن يكتبوها ويعطوني إيّاها قبل الجلسة حتّى أطرحها وأجيب عليها فوراً في نفس تلك الجلسة دون تأخير؛ وذلك حتّى لا يبقى أيّ إشكال، ولكي نتمكن من المضي في البحث دون أيّ إبهام أو إشكال. وهذا الكلام يشمل الجميع سواء طلاب العلم والفضلاء أو حتّى باقي الإخوة، فالمطالب التي نطرحها هنا هي للعموم وليس لفئة خاصّة، وبالتالي فإنّ من حقّ الجميع أن يظهروا رأيهم في الموضوع.
حسناً.. ذكرنا في الجلسة السابقة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله ليس بمشرّع، فالشارع والمشرّع هو الله تعالى فقط ولا أحد غيره. قال تعالى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً والَّذي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهيم...}۱، فهذه الآية تنصّ على أنّ الله تعالى هو الذي شرّع الدين، فقوله {شَرَعَ} عائد إلى الله تعالى، ثمّ إنّ الله تعالى يقول في هذه الآية أنّ الدين الذي شرعه الله لنا هو نفسه الذي أوصى به نوحاً وإبراهيم، وهو نفسه الذي أوحينا إليك، فيتضّح من هنا أن الدين دين واحد، أجل يمكن أن يختلف نوعه، وأن يكون هناك فرق في التكاليف بين شريعة وأخرى، ولكن ما هو مصدر التشريع؟ من أيّ جهة صدر هذا التشريع؟ يعني من الذي وضع القانون؟ هذا هو الذي أريد بيانه: هل النبي هو الذي يضع قانون الحلال والحرام، أم أنّ الله تعالى هو الذي يقول: هذا حلال وهذا حرام، ودور النبي هو الإبلاغ فقط؟ أيّ منهما؟ من الواضح أنّ الجواب هو الله تعالى؛ فالله هو الذي يجعل القانون ويضعه، ثمّ يأمر النبيّ أن يسير طبقاً لذلك القانون.. قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَريعَةٍ مِنَ الأمْر}٢، فالله تعالى يقول هنا لنبيّه: إنّنا وضعناك على تلك الشريعة وسلّطناك وثبّتناك عليها.. على تلك الشريعة وذلك الدين الذي يجب أن تبلغه للناس؛ بلّغهم أنّ تعاملاتهم التجارية يجب أن تكون بهذا الشكل وطبقاً لهذه القواعد، وأنّ الربا حرام، وأن معاوضة عملٍ بعمل حرام، وكذلك الدَّين مقابل الدين، وأمّا الربا بين الأب وابنه فلا إشكال فيه، وكذلك بين الزوج وزوجته.. . وهكذا بقية الأمور.
حسناً.. من الذي وضع هذه الأحكام؟ الله أم النبي؟ الله سبحانه هو الذي وضعها، وقال للنبي: يجب عليك أن تبلغها للناس.. قال تعالى: {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبين}٣، وبالتالي يظهر أنّ الشريعة وأحكام الحلال والحرام موضوعة من قبل الله تعالى، فمثلاً كم عدد ركعات صلاة الصبح؟ الجواب: ركعتان. من الذي قال ذلك: الله تعالى قال ذلك. بواسطة من؟ بواسطة النبيّ صلّى الله عليه وآله. وكم عدد ركعات صلاة الظهر؟ أربع ركعات. من الذي جعلها بهذا الشكل؟ الله تعالى أمر بذلك. بواسطة من؟ بواسطة النبيّ. ولهذا يقول الله تعالى عن النبي: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى} إنّه وحي! ! فهو ليس مجعولاً من عند نفس النبي حتّى يكون النبيّ هو المقنّن، بل هو {وَحْيٌ يُوحى}.. فمَنْ هو الذي يرسل الوحي؟ الله، ومن هو المستقبل للوحي؟ الرسول الأكرم. من هو الموحي في قوله:{وأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وإِقامَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ وكانُوا لَنا عابِدين}٤، الله تعالى يقول: نحن الذين أوحينا إلى هؤلاء الأنبياء أن افعلوا هذا الأمور ولا تفعلوا تلك.. أقيموا الصلاة وصوموا، وحافظوا على العدل، واتركوا الظلم.. لا تظلموا اليتيم، وأوصلوا كلّ مال إلى صاحبه، وأعطوا كلّ ذي حقّ حقّه.. . وهكذا. فمن الذي فعل كلّ ذلك؟ الله تعالى يقول: نحن {أَوْحَيْنا}، فهذه الـ (نا) على من تعود؟ من الواضح أنّها تعود على الله تعالى لا على الأنبياء.. {وأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وإِقامَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ وكانُوا لَنا عابِدين} فهؤلاء كانوا عبيداً لنا، كانوا عبيداً مطيعين فقاموا بإبلاغ رسالات الله للناس.. أيها الناس! هذا هو وحي الله وأحكامه، يجب عليكم تطبيقها. والسلام! إذاً فوصف (الشارع) يختصّ بالله تعالى وحده، فهو الذي قام بوضع التكاليف والأحكام.. غاية الأمر أنّه قد جعل واسطةً بينه وبين الناس في إبلاغ هذه الشريعة، وهذه الواسطة في شريعتنا هي شخص رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأما في الشرائع الأخرى فقد كان الأنبياء الآخرون هم الواسطة. واضح؟
فالله تعالى هو (الشارع)، وأمّا الرسول فهو (متشرّع) أيّ هو الشخص الذي يقبل الشرع، فالرسول يقبل الشرع كذلك نحن نقبل الشرع، فنحن أيضاً متشرّعون، فعندما يلقي النبيّ علينا مطلباً ألا نقبله منه؟ بلى، نقبله. فنحن أيضاً متشرّعون إذاً.
ضرورة اتباع الكاشف اليقيني عن الحكم الشرعي أياً كان
حسناً، والآن فلنفرض أنّ الرسول لم يقلْ لنا ذلك المطلب، بل رأينا مناماً، أو حصلت لنا مكاشفة بحيث يحصل لنا يقين بأنّ هذا الأمر قد جاءنا من تلك الناحية، أفلا يجب علينا أن نعمل به؟ بلى يجب. ولكن بشرط أن يحصل عندنا «يقين».. يقين ها! وليس كلّ من رأى مناماً يذهب ويعمل به متذرّعاً بأنّ السيّد قال: علينا أن نعمل بما نراه بالمنام! ! كلاّ يا عزيزي، فليس الأمر فوضى، بل يجب أن يحصل عند الإنسان يقين بالأمر، واليقين له أدوات وأسباب ومقدّمات، وليس من السهل أن يصل الإنسان إلى اليقين.. كلاّ ليس سهلاً. فإذا وصل الإنسان إلى مثل هذا اليقين بأنّ النداء الذي وصله قد حمله إليه ملاك من عالم الغيب، وأنّ هذا هو تكليفه من الله، فرغم أنّ الأمر هنا لم يكن عن طريق النبيّ صلّى الله عليه وآله، إلاّ أنّ هذا الأمر واجب الإطاعة. ومن هنا يتبيّن أنّ الواسطة [في إيصال الأحكام والتكاليف] يمكن أن تكون شخصاً غير النبيّ.
وطبعاً هذا الكلام يجري في هذا المستوى من البحث، ولكنّ حقيقة المسألة أعلى من هذا بكثير كما ذكرنا سابقاً، وإذا وفّقنا لاحقاً لبيان تلك المطالب الأعلى والأرقى، فسنثبت أنّه حتّى الوحي الذي كان يصل إلى الأنبياء السابقين.. كان يوحى إليهم من قبل رسول الله، وأنّه هو الواسطة؛ وذلك بناء على سلسلة العلّية في عالم التشريع. وبيان هذا الأمر موكول إلى وقت لاحق، أما في الوقت الحالي فلن نطرح هذا الموضوع.
أمّا الذي عندنا الآن فهو أنّ الشارع [هو الله]، وهو الذي أصدر هذه الأوامر، ولذا كان النبيّ يقول: ليس الأمر بيدي، ولا هذا الحكم من عندي، بل الله تعالى هو القائل، والحكم صادر من عنده، فعندما كانوا يشكلون على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم [كان يجيبهم بهذا الجواب]. ذات مرّة جاء الخليفة الثاني عمر وقال للنبيّ: هل هذا الكلام من عندك أم من عند الله؟! (انظروا إلى أيّ حدّ كانوا يتجاسرون على النبيّ) فكان النبيّ يجيب: متى كنت أقول كلاماً من عند نفسي؟! متى؟! بل إنّ أوامر الله وأحكامه تُلقى إليّ وتوحى إليّ، وأنا بدوري أبلّغكم إيّاها كما وصلتني! وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله يتعرّض كثيراً لمثل هذه المسائل، فرسول الله كان مظلوماً واقعاً.. واقعاً كان مظلوماً.
أجل.. ذات يوم قال لنا السيّد الوالد رضوان الله عليه: يظنّ أكثر الناس أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو أوّل مظلوم في العالم وأشدّ من وقع عليه ظلم بين الناس، ولكن برأيي أنّ النبيّ كان أشدّ مظلوميّة من أمير المؤمنين! ! أجل.. لقد سمعتُ هذا الكلام من سماحته.. إنّ رسول الله كان مظلوماً جدّاً.
كلام النبي والإمام هو الواقع والحق وإن لم نعلم بملاكه
حسناً.. فقد تبيّن أنّ هذا الكلام وهذه الأحكام وحيّ يوحى، وأنّه مطابق للواقع.. مطابق للشرع الذي شرّعه الشارع المقدّس، وبالتالي فإذا جاء رسول الله وأمرنا بأمرٍ ما؛ بأن قال: قمْ وأدّ هذا العمل الفلانيّ، فشككنا بأن هذا المطلب الذي قاله رسول الله هل هو منطبق مع الشرع أم لا، فماذا ينبغي أن نفعل؟ الجواب: إنّ الشكّ من أساسه خطأ ولا ينبغي أن يحصل! ! فبمجرّد أن يقول رسول الله: افعل! فقد انتهى الأمر! ولكن أنا رأيت أنّ رسول الله قد استيقظ لتوّه من النوم، فقد كان قبل قليل نائماً هنا، واستيقظ منذ لحظات، وقبل أن يغسل وجهه أمرني بهذا الأمر، فربّما كان بين النوم واليقظة عندما أمرني بذلك! فكيف لي أن أتأكد؟! إنّ التأكد وكلّ هذا الكلام باطل لا معنى له، وليس إلاّ كلاماً مزخرفاً لا واقع له، فعندما يقول لي رسول الله: افعل هذا العمل، فماذا يعني الشكّ حينئذٍ؟ الشكّ حينئذٍ معناه الشيطان.. لماذا؟ لأن القائل هو رسول الله، وهو {مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى}، فلو أنّ رسول الله أمرك بأمر ثمّ تبيّن أنّ الأمر خاطئ، فما هو معنى ذلك؟ ومن الذي يتحمّل المسؤولية؟! إنّ معنى ذلك أنّ رسول الله قد سقط عن درجة العصمة.. تلك العصمة الملازمة لبعثة الأنبياء، وعلى أساس تلك العصمة تم إثبات حجّية ذاتية لكلام الأنبياء بالنسبة للمخاطبين.. هذه العصمة ستسقط، ومن هنا يثبت بأنّه سواءً كان النبي نائماً أو مستيقظاً، وسواء غسل وجهه أم لم يغسله، وسواء كان قد تناول طعامه أم لا، وسواءً كان صائماً أم مفطراً.. فبمجرّد أن يقول كلاماً للمخاطب فإنّ الأمر ينتهي ويجب عليه الطاعة دون تردّد! لماذا؟ لأنّه {مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى}.
واضح؟ حسناً.. ماذا عن الأئمّة عليهم السلام؟! ما هو دورهم في هذه المسألة؟ لقد ثبت بما مرّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يجعل الشريعة من عند نفسه، بل جاعل الشريعة هو الله سبحانه، والنبيّ هو الواسطة الأولى في إلقاء الأحكام التشريعية على نفس الإنسان المادّي. وبسبب ذلك الإلقاء يطلق على نفس الواسطة الأولى لقب "المشرّع" بالعناية والمجاز، وأمّا "المشرّع" الحقيقي فليس إلاّ الله سبحانه. هل اتّضح الأمر؟ يعني لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان هو الواسطة الأولى، وكان هو أوّل من تلقّى الأحكام الكلّية؛كوجوب الصلاة ووجوب الصوم ووجوب الحجّ والزكاة والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحكام المعاملات، والمحرّمات والمباحات.. . الخ (علماً أنّنا قد بيّنا في الجلسة السابقة أنّ جميع هذه الأحكام مبنيّ على أساس الملاكات).. أجل بسبب أنّ هذه الأحكام الكلّية الموجّهة إلى جميع الأفراد قد ألقيت أوّلاً على نفس النبيّ صلّى الله عليه وآله، وبسبب أنّ النبي قد تلقّى هذه الأحكام وقَبِلها وتعهّد بإبلاغها للناس وإيصالها إليهم.. صحّ أن يُطلق على النبيّ لقب "المشرّع" أيضاً ولكن بالعناية والمجاز، فالنبيّ هو الذي قد شقّ هذا الطريق وفتحه، وهذا الدين قد جاء بواسطة النبيّ، أمّا دين موسى فكان له هو، وكذلك دين عيسى فقد كان خاصّاً به، ودين نوح أيضاً، ولكنّ دين رسول الله.. أي هذا الدين المتمثّل بهذه الصلاة الخاصّة، وهذه الزكاة الخاصّة، وهذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي له حكم خاص. مجموع هذه الأمور الخاصّة قد جاء بها رسول الله، ولهذا تُنسب هذه الشريعة إلى رسول الله؛ لأنّها تختلف عن باقي الشرائع، ولذا يقول تعالى {والَّذي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} ويقول قبلها {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً} وبعدها يقول:{وَمَا وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهيم}. ويقول تعالى في آية أخرى: {ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهيمَ حَنيفا}۱، يعني أنا أتّبع ملّة حضرة إبراهيم عليه السلام وشريعته، فأنا لم آتِ بشيء من عند نفسي، بل الله هو الذي أنزل شريعة إبراهيم هذه، أنا أتبع ما جاء فيها. نعم، قد أغيّر بعض الأمور الجزئيّة أيضاً، وهذا طبيعي. هل اتّضح الأمر؟
وبهذا البيان يتّضح جواب الإشكال الذي تقدّم به بعض الأصدقاء بأنّكم ذكرتم بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله ليس مشرّعاً، والحال أنّ السيّد العلاّمة الطهراني قد ذكر في أحد كتبه (ظاهراً في معرفة الإمام، وعلى الإخوة مراجعة الأمر)۱.. حيث ذكر هناك صريحاً بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله مشرّعٌ، ولكنّ الأئمّة عليهم السلام ليسوا مشرّعين. ولهذا أردت أن أوضّح المسألة، وأبيّن بأنّ ما قصده المرحوم العلاّمة الطهراني من المشرّع هو هذا الذي بيّناه هنا بمعنى أن المشرّع الواقعي هو الله تعالى، والنبي دوره إبلاغ ذلك التشريع للناس. ولكن حيث أنّ النبي هو الواسطة الأولى في إبلاغ الرسالة، ولوقوع النبيّ في سلسلة التنزيل كونه يتلقّى التشريع من الذات الإلهيّة المقدّسة ويقوم بإبلاغها للنّاس.. من أجل هذا الأمر صحّ إطلاق لفظ "الشارع" والمشرّع" على النبيّ أيضاً، ولكن مع شيء من العناية والمجاز.
وظيفة الإمام الكشف عن التشريع عبر اتصاله بنفس رسول الله
حسناً، فما هو دور الأئمّة في هذه العمليّة إذاً؟ ليس الإمام شارعاً ولا مشرّعاً هنا، بل الإمام يقوم بدور المبيّن؛ وذلك أنّ النفس الملكوتيّة للإمام متصلة بنفس رسول الله، وهو يأخذ ما يوجد في نفس رسول الله كما هو، وبهذا يكون الإمام هو المبيّن، لا أنّه مثل النبيّ. هل فهمتم؟ يأتي الإمام (أي الإمام المعصوم! ).. يأتي الإمام المعصوم ويأخذ ما هو في نفس رسول الله ثمّ يبيّنه للناس، ولهذا يصير اسمه "الإمام"، ولهذا أيضاً صار الإمام هو "القرآن الناطق". لماذا كان أمير المؤمنين [وسائر الأئمة] عليهم السلام القرآن الناطق؟ لأنّ عليّاً فقط هو الذي عنده إشراف على القرآن والعوالم التي يحكي القرآن عنها، وكذلك الإمام الحسن عليه السلام هو المطّلع على حقيقة القرآن والعوالم التي يحكي عنها، أمّا أنا فلا. ولذا لم يكن "القرآن الناطق" اسماً لي، أمّا الإمام الحسن فهو "القرآن الناطق"، والإمام الحسين عليه السلام قرآن ناطق، والإمام السجّاد كذلك قرآن ناطق، وإمام الزمان عليه السلام هو القرآن الناطق. لماذا؟ لأنّ نفسه فقط متّصلة بنفس النبي صلّى الله عليه وآله. ولهذا صار لكلام الإمام عليه السلام حجّية ذاتيّة مثل كلام النبي دون أدنى تفاوت، فليس هناك أيّ تفاوت بينهما؛ لأنّ كلامه عين كلام النبي كما تبيّن. ولهذا يقول تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللَّهَ (وهذا الأمر يفيد الوجوب) وأَطيعُوا الرَّسُولَ وأُوليّ الأمْرِ مِنْكُمْ}٢، يعني إطاعة الله واجبة، وإطاعة الرسول واجبة، وإطاعة أوليّ الأمر واجبة. فمن هم أولو الأمر؟ الحقير، وأمثال الحقير، وهذا وذاك؟! هؤلاء هم أولو الأمر؟! كلاّ. من هم أولو الأمر إذن؟ هم المعصومون الأربعة عشر؛ رسول الله، والمعصومون الثلاثة عشر المتمثّلون في الأئمّة الاثنا عشر والسيّدة الزهراء، فالصديقة الكبرى من ضِمنهم أيضاً، فهي تمتلك مقام العصمة المطلقة أيضاً، ولأنّها حائزة على مقام العصمة المطلقة لذا فهي حائزة على مقام الولاية أيضاً، وهناك تصريح من الأئمة بامتلاكها لمقام الولاية، حيث ورد عن الأئمّة أنّهم قالوا أنّ ولايتنا نأخذها من ولاية أمّنا! وهذا موجود في الروايات، والروايات عديدة، وإذا أردنا أن ندخل في هذه المباحث سنحتاج إلى جلسات عديدة جداً؛ فالروايات في هذا المجال عديدة، فحتّى الأئمّة يقولون أنّ اتصالنا بالله هو عن طريق أمّنا فاطمة الزهراء.
ومن هذا المنطلق أليس لكلام السيّدة الزهراء حجيّةً ذاتيّة؟! لقد تبيّن أنّها في مقام أرفع من الأئمّة عليهم السلام، فكيف لا يكون لكلامها حجّية ذاتية؟! غاية الأمر أنّ السيّدة فاطمة الزهراء، ظهرت في جهة الانفعال والأنوثيّة، ولذا فإنّ مقتضى الأدب هو أن لا يتمّ التداول باسمها الشريف، وأن لا يتمّ إدخالها في المسائل الاجتماعية، وأن يُبرَّز سائر الأئمّة عليهم السلام لذلك، فهو لمجرّد الأدب ولرعاية العفاف ولرعاية حجاب وخدر نفس السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام.
إذاً نجد هنا أنّ الله عزّ وجلّ جعل طاعة أولي الأمر ـ وهم الأئمّة المعصومين ـ بجانب طاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وجعل طاعة رسول الله إلى جانب طاعة الله عزّ وجلّ: {أَطِيعُوا اللّه} ، {أَطِيعُوا الرَّسُوْلَ} ، {أُوْلِي الأَمْرِ} ، وحجيّة هذه الثلاثة ما هي؟ هي حجيّةٌ ذاتيّة، أليس كذلك؟ وكذا كلامهم حجّة أيضاً.
إلى هنا صار الأمر واضحاً إلى حدٍّ ما، وصارت المسائل واضحة شيئاً ما، ولكن من هنا، نريد أن نزيد من تعقيد المسألة قليلاً لندخل في الإشكال، حسناً، نحن ألم نقل: إذا كان لدى الإنسان علمٌ.. .
(كم الساعة الآن؟ الساعة الحادية عشر إلى ثلث ليلاً.. هل نكمل أم لا نكمل؟! .. لا أدري.. ؟! نكمل؟ .. [يُطلب منه الإكمال].. المسألة لم تنتهِ بعد.. وكما ذكرت الوقت صار متأخراً.. لكن على كلّ حال سأذكر هذه النقطة، وسأتحدّث لمدّة أربعة دقائق أخرى، وإن شاء الله نتحدّث ببقيّة المسائل في الجلسات اللاحقة، فمسألتنا لم تنتهِ مع الأصدقاء والرفقاء بعد.
إمكان مخالفة النبي والإمام لبعض الأحكام
نعم.. ألم نقل أنّ علم الإنسان حُجّةٌ، وأن حجيّته ذاتيّةٌ؟ ألم نقل أنّ الأنبياء فقط هم الذين يقع على عاتقهم مسؤوليّة الإبلاغ؟ قال تعالى: {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبينُ} ، وقال عزّ من قائل: {طَه* مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى* إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى}؛ فالقرآن الذي أرسلناك به، ليس لأجل أن تتأذّى به! بل قل ما عندك، وامضِ لسبيلك، ولا شأن لك إن عملوا بما أمرتهم أم لم يعملوا، {إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى}، إذاً هل يمكن لرسول الله الذي يتلقّى ذلك الحكم، ويبلّغه ويبيّنه للأفراد.. هل يمكن له أن يأمر بأمرٍ منافٍ لذلك الحكم الذي أبلغه للناس أم لا؟
في ليالي شهر رمضان [عند شرح دعاء أبي حمزة] بيّن الحقير المسألة بشكل إجمالي، وسلّط الضوء على الموضوع؛ وذكرت هناك بأنّ العديد من الأعاظم.. من أعاظم العلماء ممّن حضر الحقير مجالس درسهم، وممّن تتلمذت على أيديهم لسنوات.. (لكن بالطبع لن أتعرّض للأسماء ولن أذكرها، وهذا مراعاةً للأدب مع أساتذتي، فليس من الجيد أن أذكر أسماءهم في هذا المقام).. بلى، لقد كان بين الحقير وبينهم مباحثات مفصّلة حول هذه المسألة، حتّى إنّه في سفرٍ من الأسفار الذي كان بين قم وطهران، والذي ذهبت فيه من أجل علاج أحدهم بأمرٍ من المرحوم الوالد العلامة قدّس سرّه، وعندما كنّافي الطريق وداخل السيّارة، فتحنا هذا الموضوع مرّة أخرى: هل يمكن للإمام عليه السلام أن يأمر بأمرٍ مخالفٍ لذلك الحكم الظاهري ولذلك الحكم الكلّي الذي يتعلّق بعموم الأفراد؟
مثلاً: معلومٌ أنّ طلاق المرأة بيد الرجل، ولا يمكن للمرأة أن تطلّق نفسها من تلقاء نفسها.. (لكن بالطبع لهذه القضيّة فروع وتفاصيل مختلفة لسنا في مقام بيانها).. أو مثلاً: الزواج لا يكون بالإكراه، وإلا بطل، فالزواج يجب أن يكون مع الاختيار، وينبغي أن تتزوّج الفتاة بملء إرادتها واختيارها، ولو أنّ الأب أجبرها وأكرهها على الزواج، فعقد الزواج باطل من أساسه.. يُصبح العقد باطلاً من الأصل! لماذا؟ لأنّ الاختيار من حقّ المرأة، بل إن كانت الفتاة في الزواج رشيدةً، يمكنها أن تتزوّج بدون إجازة من والدها أيضاً.
حسناً، وصل الكلام مع أستاذي إلى هنا: هل يمكن للإمام عليه السلام أن يأمر أحداً، ويقول له: اذهب وطلّق زوجتك؟! عندها غضب هذا الأستاذ كثيراً! وقال: ما هذا الكلام الذي تتفوّه به؟! لقد خرجت عن الحدود! [يبتسم] بعدما درست كلّ هذه المسائل عندي، تأتي الآن وتقول هذا الكلام؟!
حينها رأيت أنّ قلبه لن يحتمل أكثر، فأنا كنت ذاهباً معه إلى طهران من أجل علاج مشكلته في القلب، وإذا أكملت فسيقع أرضاً بين يدي! [يبتسم]..
وحينها سيأتي العلامة ويقول لي: لقد أرسلتك معه لكي تذهب معه وتعود به، لا لكي تذهب به من غير رجعة [يبتسم]، فلماذا تفتح المباحثة وسط الطريق؟! (نعم بالطبع ينبغي على الإنسان أن يقدّر الأمور بقدرها، وعليه أن يتأمّل ويفكّر في تصرّفاته قليلاً. ) قال: بماذا تتفوّه أنت؟! قلت له: بلى، أنا أعتذر منكم، فنحن تجاسرنا عليكم، لذا أعتذر منكم.. .
وكما بيّنت لكم في الجلسات السابقة، فإنّ هذه المسألة غير واضحة وغير جليّة حتّى الآن لتسعة وتسعين بالمائة من أهل العلم! ! فهل يمكن للنبيّ صلّى الله عليه وآله، أو للإمام عليه السلام أن يحكم حكماً مخالفاً للحكم الكلّي وللحكم الظاهري أم لا؟
ضرورة إطاعة النبي وإن كنت أعتقد أنّ أمره مخالف للشريعة
ولكن الآن سأعرض بمحضركم آيةً من القرآن، وهي تشكّل دليلاً على ما نقول! قال تعالى: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً}۱.
آية عجيبةٌ جداً! ! فليس من حّق المؤمن أو المؤمنة ، فقوله: {مَا كَانَ..} يعني: لا يحقّ له .. أصلاً لا ينبغي له.. أصلاً لا ينبغي أن يخطر بذهنه ولو خطور، فعندما يحكم الله ورسوله بحكمٍ لا ينبغي للمؤمن ولا المؤمنة {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، فمن أنت هنا لكي يصبح لك اختيار؟! حينما يقول النبيّ شيئاً، ينتهي الأمر! ومن يقف في قبال الله والنبيّ ويعصي أمرهما {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينَاً} مسألته صارت منتهيةً! فقوله تعالى: {ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينَاً} ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ أمره انتهى! صار ساقطاً!
وسؤالي لكم هو: إذا كنتُ أعلم أنّ الحكم الذي حكم به الرسول كان حكماً موافقاً للشرع، فأي معنى يبقى للعصيان بعد ذلك؟!
[ولتوضيح النقطة نضرب هذا المثال:] لو كان هناك اختلاف بيني وبين فردٍ آخر..
(لكن ألفت النظر من الآن إلى أنّ هذه الآية تتعلّق بأمرٍ معيّن، وسأذكره لكم بعد قليل!)
لو كان بيني وبين شخصٍ خلافٌ على مِلكٍ من الممتلكات، فذهبنا إلى الرسول، وإذا كنت أعلم أنا أنّ الحقّ معي، ففي مثل هذا الفرض، لو أنّ الطرف الآخر زوّر سنداً للمِلك.. ثمّ ذهبنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكان هذا الرجل قد أخذ الملك منّي غصباً.. شهر السلاح عليّ وأمثال ذلك ثمّ أخذ الأرض منّي، فلو أنّ النبيّ قال: لا أبداً! ينظر نظرة إلى الباطن ويقول: لا أبداً! هذا الملك لكَ أنت، ثمّ كتب وأمضى على القضيّة، وأعاد الأرض لي.
حسنٌ جداً! هنا عندما أقبلُ بحكمه، فهذا ليس مدعاة للفخر! فهذا ليس بالأمر المهمّ أبداً! لأن النبي لم يقل إلاّ ما أتوقعه وما علمتُ به، وبالتالي هذه الآية لا تتعلّق بحالتي أنا.
بمن تتعلّق إذاً هذه الآية؟ تتعلّق بذلك الشخص الذي يعتقد أنّه على حقّ، يعني: عندما آتي إلى هذا المجلس ورسول الله صلّى الله عليه وآله جالسٌ، فآتي وأقول: لقد أخذ هذا منزلي غصباً، فيقول النبيّ صلّى الله عليه وآله: نعم هذا المنزل له! هنا سينقلب حالنا ونقول: كيف ذلك يا رسول الله! ثمّ أقول له: ألم تقل أنت يا رسول الله أنّ الغصب حرام، ولا يحقّ لأحد أن يغصب مال الآخر، وهذا سند الملك وهذا الملك جاءني بالإرث، وكذا وكذا.. وكيف يحقّ لك أن تحكم بحكمٍ مخالف للحكم الذي أتيت به أنت؟ فلو قال النبيّ: حكمي هو هذا! هنا ما هو التكليف؟
لاحظوا أنا هنا أقطع! أنا لا أشكّ! لا أحسب وأعتقد! بل أقطع بأن هذا المنزل الذي أخذه هذا الشخص ويدّعي بأنّه له، هو ملكي، وليس لدي شكّ حتّى واحد بالمليار. ومع ذلك يأتي النبيّ ويقول: أعطِ المنزل لفلان، بل قد يقول النبيّ: المنزل هو ملك لفلان.
هنا ماذا ينبغي على الحقير أن يفعل؟ ماذا تقول هذه الآية في القرآن؟ ممنوع عليك أن تعترض! {وَ مَا كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ..} فلو أنّني كنت أعلم بأنّ الملك له، ثمّ أتى النبيّ وقال لي: لماذا تكذب؟ عندها لن تكون هذه الآية متعلّقة بي! فأنا هنا أعلم أنّني ظالمٌ في هذه المسألة، وأنا نفسي أعلم أنّ الحقّ مع فلان، والنبيّ يقول: إنّ الحق مع فلان، ولذا لم يحصل أمرٌ غريب.. وليس هناك مسألة تستحقّ الوقوف؛ لأنّني أعلم بنفسي أنّ الحقّ مع فلان، والنبيّ يقول: إنّ الحقّ مع فلان، ولكن الكلام حينما أعلم وأقطع أنّ الحقّ معي أنا! !
كثيراً ما تقع هذه المسألة.. وكثيراً ما تحصل هذه القضايا.. فإذا كنت أعلم أنّ الحقّ معي، وأتيت إلى النبيّ، وقال: الحقّ معه! فهل يمكنني أن أقول للنبيّ: عليك أن تعيد النظر فيما حكمت به؟ هل يمكن لي أن أطلب من النبيّ استئناف الحكم الذي حكم به؛ فأذهب إلى محكمة الاستئناف مثلاً؟ هل يمكن لي أن أتفوّه بكلامٍ كهذا؟ أم لا؟ كلاّ.. لا حقّ لي بذلك، والأمر منتهٍ! إذا قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: المنزل لفلان، انتهى الأمر! هذا ما تقوله الآية! ألا تقول ذلك؟! هذا سند مدّعانا، وهو: {وَ مَا كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فليس بيدكم حتّى الاختيار. لا أنّه تعطيهم الحقّ ليتأمّلوا ويفكّروا بالأمر: هل أفعل؟ لا أفعل؟ أعطيه؟ لا أعطيه؟ لا ليس هناك كلام من هذا القبيل، بل عندما يحكم رسول الله بحكمٍ، فهنا: {َمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً}! أي إذا أراد أن يتوقّف هنا، ويقول: الحقّ معي، وأنّ النبيّ ـ نعوذ بالله نعوذ بالله ـ حكم من دون تروٍّ.. نعوذ بالله! إنّ ذلك عناد وعصيان لرسول الله {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً}.
قصة زواج زيد من زينب بنت جحش
حسناً ما هو سبب نزول هذه الآية؟ وما هي القصّة التي تتكلّم عنها؟ إنّها تتكلّم عن قصة زينب [بنت جحش] ابنةَ عمّة النبيّ، وكانت امرأةً جميلة جداً، وجاء الأمر بأن تتزوّج من زيد بن حارثة.. (الشيعة والسنّة ينقلون هذه القصّة) وطبقاً للحكم الذي ذكرته قبل قليل سيكون الزواج مع إكراه الفتاة باطل! وهذا هو الحكم الشرعي، لكنّ النبيّ جاء وأمر زينب: يجب عليكِ أن تتزوّجي زيداً!
كيف يفعل النبيّ ذلك؟ أليس فعله هذا مخالفاً للحكم الشرعي؟ أليس فعله مخالفاً للحكم الكلي الذي بلّغه؟ وهو أنّه يجب أن تتزوّج الفتاة مع كامل الرضا والاختيار والميل والرغبة. لذا قامت زينب وأخبرت النبيّ مخالفتها للأمر بشكلٍ رسميّ: أنا لن أتزوّج من فلان. فنزلت الآية: {وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ...}، وعند ذلك كيف يحقّ لكِ، أن تقولي ما قلتيه بعدما جاء الأمر من النبيّ؟! عندها لم تقل زينب: يا رسول الله إنّ ما قلته باطلٌ! لم تقل له: أنت قلت بأنّ الزواج من الفتاة ينبغي أن يكون برضاها، فكيف نزل الاستثناء على رأسي أنا؟! لا تستطيع أن تتكلم بذلك! لماذا؟ لأنّ الحكم هو حُكم الله! هنا بدأنا نصل قليلاً قليلاً إلى أصل القضيّة!
لدينا حكمان: حكمٌ كليٌّ، ولدينا حكم آخر: هو حكم فرديّ، ولا فرق بين الحكمين؛ لأنّ الحجّة والحجيّة هي للحكم الصادر عن الله، سواء أكان الحكم كليّاً أم جزئياً، لا فرق بين الاثنين، وبالتالي لا تنافي بينهما، فذلك الحكم يتعلّق بسائر الأفراد، أمّا هذا الحكم فبمن يتعلّق؟ بفردٍ آخر.
قصة زواج جوبير من الذلفاء
دليلٌ ثان! كان رسول الله جالساً في المسجد، وإذا بشابٍ جاء، وكان هذا الشاب فقيراً، كان يريد أن يتزوّج، لكنّه لم يكن يملك المال، لم يكن أحدٌ ليقبل به ويعطيه ابنته، فأرسله النبي إلى فلان الفلاني الأنصاري، (نسيت اسمه الآن، من الجيّد أن يستخرج الأصدقاء والرفقاء اسمه)۱.. قال له اذهب إلى فلان الأنصاري، وقل له: رسول الله يخطب ابنتك لي. فذهب ذلك الشاب إلى ذلك الرجل، وقال له: رسول الله يقول: زوّجني من ابنتك.
عندها قال الأب: أنا أزوّج ابنتي وأعطيها لهذا الرجل.. (بعبارتنا نحن: هذا الذي لا يملك فلسين في جيبه؟! ) أنا أعطيها لهذا؟!
عندها، قالت البنت: يا والدي! كيف يمكنك أن تقول ما قلت في قبال كلام رسول الله؟! .. ما أعجبها من فتاةٍ ذات فهم! ما أعجبها من فتاة في فهمها، إن شاء الله يوجد الكثير منهنّ! ما أعجبها من فتاة ذات فهم! !
(كنت أريد أن قول: اللهم اقسم لنا.. [ضحك] لكن رأيت أنّه: لا، ذلك خطر! ! ثمّ إن الله قسم لنا مثلها ولله الحمد، نعم قسم لنا.. أليس كذلك؟! ونحن مجبرون على القبول والتسليم! وعلى الإنسان أن لا يرفض ما يقوله الله! وقد قرأنا الآية التي تتحدّث عن ذلك الآن، أليس كذلك؟! {وَ مَا كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ..})
قالت: يا والدي! كيف يمكنك أن تقول قولاً في قبال كلام رسول الله؟! قال: فماذا أصنع؟ قالت: انهض الآن واذهب خلف هذا الشاب وأرجعه.. والحال أنها لم تكن قد رأت الشاب أصلاً، لم ترَ من أتى لخطبتها، ولا تعرف من هو، ولا كيف شكله، لا تعرف إن كانت سترغب به أم لا، فعلى الأقل ينبغي أن ترى الفتاة الشاب.. مع ذلك قالت: لا! فعندما يقول النبيّ ما قاله، انتهى الأمر! وهؤلاء هم أهل السعادة! هؤلاء هم!
فجاء وروى للنبيّ ما حصل (وفي بعض الروايات، ذُكر أنّ عيني رسول الله دمعت، نعم ورد في بعض الروايات، أنّ حال النبيّ تغيّرت، وتأثر وبارك لها فِعلها)، وقام النبيّ صلّى الله عليه وآله بإجراء العقد بنفسه، وحيث أنّ ذلك الرجل الأنصاري كان ثرياً، لذا حضّر بنفسه منزلاً وأعطاه لصِهره، ووهبهم مِلكاً ومزرعةً، وأموراً من هذا القبيل، (يا له من والد زوجة ممتاز! ).. وخلاصة الأمر، أن أوضاعه تبدّلت رأساً على عقب!
حسناً، على أيّ أساس جاء النبيّ صلّى الله عليه وآله هنا وقال ما قال؟ أليس كذلك؟ لكن، لأنّ النبيّ قال ذلك؛ فقد رضيت به. ألم يكن من اللازم على النبيّ صلّى الله عليه وآله أن يأتي إلى تلك الفتاة ويسألها هل أنت راضية؟ لكنّه لم يفعل ذلك! لا! بل قال: اذهب واخطب، وقم بهذا العمل. إذاً هذا من الأحكام التي تخالف الحكم العام.
وكلامي هنا: أنّ ذلك الرجل الذي قال: إنّ الإمام عليه السلام لا يحقّ له أن يأمر رجلاً بطلاق زوجته، وأنّ بائع اللبن لا يقول بذلك! ! ذكرت لكم القصّة في السابق.. في ليالي شهر رمضان ذكرت الأمر، حيث قال ذلك الرجل: أيّها السيد الفلاني! حتّى بائع الألبان هذا، لا يصدر منه كلام كهذا الكلام، أقول: ما الفرق بين الطلاق والزواج؟ كيف أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله بالزواج، والحال أنّ زينب كانت مكرهة، ولم تقبل إلاّ بالإكراه، والأمر بالزواج هنا مخالف للحكم العام وللشرع! ! وكيف أمر النبيّ بالزواج مع أنّ والد تلك الفتاة كان غير راضٍ، والشرع أجاز للوالد هذا المقدار من المخالفة، نفس الشرع أجاز للوالد ذلك، لكن الفتاة قالت: طالما أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله أمر، فلا يمكن الوقوف في وجه أمر النبيّ. إذاً كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله مخالفٌ للشرع؟! مخالفٌ لظاهر الشرع.
حسناً، أنا هنا عرضت بخدمتكم نموذجين من باب المثال من أجل أن نصل إلى أصل المسألة توطئةً للنقاط التي نريد طرحها لاحقاً، فنحن أردنا أن نهيّئ ذهنيّة الأصدقاء والرفقاء ومعلوماتهم لكي يتقبّلوا المسائل الأكثر دقّة التي ستطرح لاحقاً.
إذاً وجدنا هنا أنّ النبيّ قام ببيان حكمٍ مخالفٍ لحكم آخر كان قد بيّنه سابقاً، فهل هناك مخالفة بين الحكمين؟ هل هناك تنافي بين هذين الحكمين الذين قد نعتقد أنّهما مخالفين لبعضهما البعض؟ لا! ولماذا لا تنافي بينهما؟ لأنّه {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الهَوَى} ، فهذا إبلاغٌ عن الله، وذاك إبلاغٌ عن الله؛ ومن هنا فلا مخالفة بينهما، وأين المخالفة؟! مثلها مثلما لو قلت: يا فلان صلّ هذا العدد من الركعات، وأقول للآخر: أنت لا تصلِّ؛ أنت لك هذا الحكم، أمّا فلان فله ذلك الحكم، أين التناقض هنا؟ فلأنّ كلا الأمرين صادرٌ عن نفس الشخص، وكلا الحكمين جاءنا من فردٍ واحدٍ، فيستطيع أن يحكم بحكمٍ لمجموعة من الأفراد، ويأتي بحكمٍ آخر لفردٍ لوحده، إذاً لا يوجد هنا تناقض.
أقوم الآن بتهيئة المسألة للجلسات التالية، أرسل لكم الإشارات من بعيد، أريدكم أن تتهيّؤوا لما سنقوله ولما سنصل إليه بعد جلستين أو ثلاثة جلسات، حيث أنّ كلا الحكمين جاء من نفس المكان، فلا تنافي بينهما، لا يوجد أيّ منافاةٍ أو تعارض بينهما. الآن هذه المسألة لا تتعدّى مسألة الزواج والطلاق، ولكن سنصل لاحقاً إلى قضايا أخرى في المجالس التالية إنشاء الله وبحول الله وقوّته.
اللهم صلِّ علی محمّد وآل محمّد