المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةإكمال بحث حجية أولياء الله
التوضيح
هو العليم
ما هي الوظيفة عندما يبدو أمر النبيّ مخالفاً للمصلحة؟
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱٩٤
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
انقسام الأحكام إلى عامّة وخاصّة
تتمّة لما تقدّم في المحاضرات السابقة ـ والتي كانت تتناول حجيّة فعل وليّ اللـه وكلامه، وعدم استناد هذه الحجيّة إلى الكتاب والسنّة ـ وصلَ بنَا الكلامُ إلى الموارد التي نشاهد فيها صدور بعض الأفعال المخالفة للشرع قطعاً، عن أولياء اللـه من الأنبياء أو الأئمّة المعصومين عليهم السلام، والتي وردت في الكتب، سواء السماويّة منها أو كتب الروايات والتاريخ؛ كقضايا الخضر على نبيّنا وآله وعليه السلام، وقصّة النبيّ إبراهيم عليه السلام، وقصّة موسى، وكذلك الموارد التي شوهدَت من الأئمّة عليهم السلام حول الموضوعات المخالفة للحكم القطعيّ ولضرورات الدين.
وقد ذكرنا، أنّ هناك الكثيرُ من هذه الموارد، وسنذكر بعضاً آخر منها، لنأتيَ بعد ذلك إلى حلّ المسألة، وإن كان أسلوب الحقير في الكلام هو أن أشير إلى الحلّ ضمن طرح الإشكال؛ وذلك إيناساً للذهن، وإعداداً للفكر لتلقّي المطلب؛ فالمطلب حسّاس جدّاً، ومهمّ جداً، وربّما يسيء الكثيرون الاستفادة من طرح هذه القضيّة في كثير من الموارد، وقد حصل ذلك، حيث قام هؤلاء بطرح بعض المسائل بما يناسب أذواقهم الخاصّة. وهناك الكثير من القضايا التي يرجع أصلها إلى هذه المسألة كالمسائل الاجتماعيّة، وما يتعلّق بالمسائل السياسيّة، وحكم الحاكم ونفوذ حكم الوليّ الفقيه في بعض الموارد سواء الموارد الخاصّة أو العامّة، ونحن لحدّ الآن لم نبلغ إلى مغزاها ومضمونها كما ينبغي.
ولذلك فأنتم ترون أنّ هناك مسائل مشهودة ممّا لا يمكن أن نعثر لها على مبرّر شرعيّ، ولا معنى يستند إلى الفقه. وبالطبع محلّ هذه القضيّة هو بحث ولاية الحاكم وكذلك ولاية الفقيه، وإن شاء اللـه سنبيّن ذلك في الرسالة المعروفة للمرحوم الوالد رضوان اللـه عليه، وبالطبع سيكون بيانها هناك بنحو أكثر دقّة وتخصّصاً.
ما يستفاد من مجموع المطالب السابقة هو أنّ أساس التشريع وأساس الفقه بصورة عامّة ـ وفق ما هو مدوّن في الكتب ـ هو أحكام بتيّة شرعيّة موجودة في عالم الإنشاء، ولا يختلف فيها العالم والجاهل، فكافّة الأفراد متساوون أمام هذه الأحكام سواء كان المكلّف عالماً أو غير عالم، إماماً أو مأموماً، مجتهداً أم مقلّداً، فلا فرق بينهم في ذلك، فهي أحكام يعبّر عنها في التعابير الفقهيّة والأصوليّة بقولهم: "إنّ لله أحكاماً يشترك فيها العالم والجاهل. "وهناك أدلّة على ذلك، وقد ميّزوا بين القاصر والمقصّر في بعض الموارد، وفي الجاهل يمكن أن يكون قد فصّل بين الجاهل غير العامد أو الجاهل البسيط والجاهل المركّب، فيستفاد من هذه المسائل أنّ هذه الأحكام هي بتيّة قطعيّة، مثل الصلوات الخمس، والصوم والحجّ والخُمس والزكاة والمعاملات، كالمعاملات الربويّة والمعاملات المحرّمة والمحلّلة، فهذه أمور ضروريّة وبتيّة لا بدّ للجميع أن يتواضعوا أمامها، ويخضعوا لها، وخصوصاً نفس الإمام، فعلى الإمام أن يكون أكثر تعبّداً والتزاماً بالأحكام من سائر الناس، فهذا أمر بديهيّ، وكلّما كانت معرفة الإنسان بالحكم الواقعيّ والحكم الإلهيّ أكثر، فإنّ اهتمامه والتزامه لا بدّ أن يكونا أشدّ.
ضرورة الفلسفة والمعارف الحكميّة لتفسير الموارد الخاصّة والمعاني الرفيعة
حسناً، فهذا مطلب معروف، ولكن ما إن يُنقل أنّ الإمام الباقر عليه السلام أو الإمام الصادق عليه السلام قد حكم بحكم معيّن [مغاير لهذه الأحكام العامّة] حتّى يقال: نحن لا نفقه ذلك.. ولا اطلاع لدينا على حقيقة المسألة، والقضيّة ليست واضحة، وليست يقينيّة والخبر خبر واحد... فكيف يمكن ذلك؟! فلنفترض أنّا جئنا وقمنا بمثل هذه التوجيهات الرافعة للمسؤوليّة... فتارة نحن نأتي ونفسّر الأمر ونحلّ الإشكال، وتارة نأتي ونرفع عن أنفسنا مسؤوليّة ذلك، فهناك نوعان من التعاطي!! يقولون: لا حاجة إلى هذه العلوم.. لا حاجة إلى العلوم الإلهيّة.. لا حاجة إلى الفلسفة!! فالفلسفة جاءت من اليونان، أو لا ندري من أين جاءت!! وما دمنا نمتلك علوم أهل البيت عليهم السلام فلا حاجة إلى هذه المطالب ـ ويعبّرون عن ذلك بعبارات في غاية السخافة ـ فما دام هناك أهل البيت عليهم السلام فلا حاجة إلى أن نقصد علوم اليونان! نعم، ما دام لدينا أهل البيت فلا حاجة لنا إلى الاستفادة من مسائل الرياضيّات وأمثالها! فلنترك الرياضيّات إذن، ولنترك الفيزياء، ولنترك الكيمياء، ولنترك الطبّ أيضاً!! لنترك كلّ ذلك!! إنّ عمليّة القلب المفتوح الجراحيّة لم تردنا عن الإمام الصادق عليه السلام، فلنتركها جانباً! وكذلك عمليّة العين وأمثالها لم ترد عن الإمام الرضا والإمام الصادق عليهما السلام. فهناك مسائل عديدة ساذجة وعاميّة يطرحها من لا يتوقّع منهم ذلك، فالمتوقّع منهم هو أكثر من ذلك بكثير، ولكن دائماً كان هناك إثارة للضوضاء والشغب، ودائماً كان هناك تمسّك بأمثال هذه العبارات لرفع المسؤوليّة، وليس هذا مختصّاً بزماننا، فمنذ سالف الزمان والأمر على هذه الحال، فعُمَر ماذا كان يقول؟ ما معنى "حسبنا كتاب اللـه"؟ هو نفس معنى هذا الكلام، يقال له: اتّبع عليّاً! يقول: لماذا أتّبع علياً؟! حسبنا كتاب اللـه، فكتاب اللـه موجود. لا بأس، فكتاب اللـه هذا من الذي ينبغي أن يفسّره؟! من الذي يوضّح معناه؟ من الذي ينبغي أن يفسّر متشابهات كتاب اللـه ويبيّنها؟ ولو قبلنا بشعار حسبنا كتاب اللـه، فقط كتاب اللـه يكفينا، ففي كتاب اللـه لم ترد كافّة الأحكام، عدد ركعات صلاة المغرب الثلاث لم ترد في كتاب اللـه، لم ترد صلاة الظهر بركعاتها الأربع في كتاب اللـه، صحيح؟ فلماذا إذن كان هناك شعار "حسبنا كتاب اللـه"؟ كان للفرار من المسؤوليّة، فلو قبلنا بضرورة أن يكون عليٌّ هو المفسّر لكتاب اللـه، فسيقال لهم: لماذا نحيّتم علياً؟ فيحارون، وللفرار من الجواب ولعدم المواجهة يقولون: حسبنا كتاب اللـه.
فهذه السنّة كانت موجودة، والآن هي موجودة أيضاً. يقولون روايات أهل البيت تكفي، ولا حاجة بنا إلى الفلسفة، فما دامت الروايات كافية فلماذا لا تكفي في سائر المسائل؟ فلماذا لا تأتون إلى مرجع التقليد فتطلبون منه أن يمسك بيده السكين ويقوم بعمليّة جراحيّة للقلب، فأنت أيها المرجع من أهل البيت..!! أنت تعمل في دراسة الروايات..! فتفضّل وقم بإنجاز العمليّة وشق البطن فأنا جاهز!!
أما حينما نصل إلى المسائل العقليّة والمسائل الاعتقاديّة، ودقائق الرؤى الكونيّة يقولون: روايات أهل البيت كافية! هل يمكنكم أن تجيبوا بروايات أهل البيت على الشبهات التي يطرحها الماديّون والملحدون والكافرون باللـه؟ تفضّلوا إن كنتم تقدرون على ذلك فأجيبوا، لماذا لا تجيبون؟ لماذا تمدّون يد الاستغاثة إلى الحكماء والفلاسفة، فهؤلاء مغايرون لأهل البيت! هؤلاء جاؤوا بعلومهم من اليونان، فالملاّ صدرا جاء بعلمه من اليونان، فلماذا نستعين ببرهانه برهان الصديقين لنردّ شبهة ابن كمّونة؟ ولماذا يقول كبار الفقهاء: ليس لنا طريق للجواب عليها؟ فكيف نرمي بثقل هذه المسائل هنا على كاهلهم؟ فما هذه الازدواجيّة؟ وما هذا التمايز في النظر؟ وكيف يمكن أن نبرّر ذلك؟ فهذا لا يمكن قبوله.
وإضافة إلى ذلك، هل الروايات التي وردت عن أهل البيت عليهم السلام مختصّة بأحكام الظاهر؟ وبأيّة مسألة فقهيّة يمكن أن تحلّ المطالب والآثار التي وردتنا عن أهل البيت؟ والأحاديث التوحيديّة للإمام الرضا والإمام موسى بن جعفر والإمام الجواد وأمير المؤمنين والإمام الصادق عليهم السلام والمسائل التي في نهج البلاغة... ففي يوم من الأيام كنت أقول للمرحوم العلاّمة يبدو أنّ أمير المؤمنين... ـ ويرجع ذلك إلى زمن بعيد ـ لم يتحدّث بالكثير من المطالب حول التوحيد وأنّ الأئمّة ... فقال: كلّ المسائل ذكرها أمير المؤمنين والأئمّة فسّروها، فالإمام الرضا في توحيد الصدوق والإمام الصادق وكلّ الأئمّة جاؤوا وفسّروا الخطب التوحيديّة لأمير المؤمنين، والتي وردت في نهج البلاغة، وقد قمت ذات يوم بمراجعتها فرأيتها عجيبة جدّاً، سواء ما في نهج البلاغة أو في غيره.
الاستشكال على الشريف الرضي في عدم جمعه كافّة كلمات الأمير عليه السلام
وأحد إشكالات الحقير على السيّد الرضيّ هو هذا، بل الإشكال الأوحد لا أحد الإشكالات فليس لديّ إشكالات، والشريف الرضي كان من الأعاظم، ولكن إشكال الحقير هو أنّه لماذا فصلها؟ ما المشكلة فيما لو كان جَمَعَ كافّة ما ورد عن أمير المؤمنين من الكلمات، ولو أنّه جمعها في ذلك الحين فربّما كانت تفوق ما وصل إلينا الآن في مستدركات نهج البلاغة، فلماذا نظر بطريقة انتقائيّة إلى كلمات أمير المؤمنين؟ وفي وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام في حاضرَين، والتي وفّقني اللـه وعملت على ترجمتها بحسب ما بوسعي وبضاعتي المزجاة، وكان ينبغي أن يقوم المرحوم العلاّمة بنفسه بذلك كما وعد، ولكن كان التقدير شيئاً آخر أدّى إلى تغيّر المسائل، فهذه الوصيّة كان لها تتمّة كبيرة لم أكن ملتفتاً إليها فلم أوردها، وإن شاء اللـه في الطبعات اللاحقة لديّ نيّة في أن أضيف ما جاء في مستدركات نهج البلاغة وأسقط من النهج، وهو يبلغ حدود الصفحتين. فلماذا تكون الأمور على هذا النحو؟! ثمّ نظرت إلى هذه المطالب فوجدتها لا تقلّ أهميّة عمّا ذكر من حيث معناها ومفهومها ومضمونها، فتأسّفت كثيراً! ولو كنت أعلم منذ البداية بوجودها لما كنت ترجمت ما ورد في نهج البلاغة، بل لترجمت ما في سائر المصادر، أو لأضفتها في الهوامش بنحو ما، ولكنت أوردت هذه المطالب بأيّ نحو من الأنحاء، وإن شاء اللـه لديّ نيّة أن أورد هذه التتمّة وأترجمها مع بعض الإضافات والبيانات وألحقها بالأصل، أو أن أدخلها في أصل المتن؛ لأنّ هناك بعض المطالب الأخرى التي أودّ إضافتها في النسخ اللاحقة. فكلمات أمير المؤمنين هذه من يوصلها إلينا؟ فنحن لم نكن في تلك العصور، إنّها وظيفة العلماء.. فقد كان على الذين عاشوا في ذلك الزمان منهم أن يبيّنوا لنا، كما هي وظيفتي الآن في نقل ما سمعته من المرحوم الوالد والتجارب التي رأيتها منه، وبيانها لكم أنتم الذين لم تلتقوا به، فأنتم الحاضرون لم تلتقوا به، نعم بعضكم التقى به كالدكتور مثلاً وبعض آخرون ممن التقى به ورأى المسائل، ففي النهاية لا بدّ من أحد يبيّن المسألة والمنهج، خصوصاً في حال احتمال التحريف في مسائل هؤلاء الكبار، وهو ما نراه بأعيننا، أن كيف تحرّف كلماتهم وتصرف عن حقيقتها ويُتصرّف بها رعاية للمصالح اليوميّة والمصالح المؤقّتة، فوظيفتنا هي أن نبيّن المطالب كما رأيناها وسمعناها، ثمّ من أراد أن يرضى بها فليرض! ومن أراد أن يرفضها فليرفضها، فهذه ليست وظيفتنا:
حافظ وظيفهء تو دعا گفتن است وبس | *** | در بند اين نباش كه نشنيد يا شنيد |
يقول: وظيفتك يا حافظ هي الدعاء فقط *** فلا تكن أسير أنّه سمِعَ أم لم يَسمَع
هذه هي المسألة، وهذه الوظيفة نفسها كانت ملقاة على عاتق العظماء، وعلى عاتق السلف ممّن كانوا قريبي عهد من زمان الأئمّة عليهم السلام، فمن كان في ذلك الزمان كان عليه أن يقوم بذلك، وقد قاموا بذلك وجزاهم اللـه خيراً، حيث بذلوا الكثير من الجهود. ولكن لا يمكن للحقير أن يقبل بهذا الأمر، بأن تأتي شخصيّة بذلك الجلال من أمثال السيّد الرضيّ فينظر إلى الخطب بطريقة انتقائيّة، فهناك خطب في نهج البلاغة حينما كنت أقابلها كنت أجد سطرين منها قد سقطا أو ثلاثة أسطر أو فقرة، فلماذا يكون الأمر على هذا الحال؟ وما المشكلة فيما لو كان نقل جميع ما اشتهر وعرف عن أمير المؤمنين؟ لقد اهتمّ هو بالمسائل البلاغيّة وأمثالها، فالبلاغة تأتي في الرتبة الثانية، أفهل المعيار في قبولنا كلمات أمير المؤمنين هو بلاغتها؟ فلو فرضنا أنّ أمير المؤمنين لم يكن يمتلك هذا الإنشاء وهذه الكلمات وهذا النحو من تركيب العبارات لما كان عليَّ أن أهتمّ بكلامه؟ هل يجب على الإمام أن لا يتكلّم إلا الكلام البليغ؟ لا فالإمام يتكلّم بالكلام العادي، فالرواية التي يبيّنها الإمام والمطالب التي يبيّنها في الأحكام والأخلاق والتاريخ لا علاقة لها بالبلاغة، فالإمام لا يريد أن يرتقي منبر التبليغ [مثلنا] ليقوم بتحضير الكلمات الموزونة للناس وفق السجع والقافية وأمثال ذلك قبل أن يتكلّم، بل هو يهتمّ بالمطلب، غاية الأمر أنّ أسلوب الكلام يختلف، ففي الخطبة أسلوب، وفي غيرها أسلوب آخر، وفي مجلس الدرس، أسلوب وفي المحاورات اليوميّة أسلوب، فالأئمّة كانوا هكذا، وكذلك العظماء فلكلّ مقام مقال، ولكلّ موضع لباسه، ففي المنزل لباس مختصّ به، وللخروج منه لباسه وللحرب لباسها، وهكذا، فلباس العمل يختلف... فالحقير إذا أراد أن يتسلّق الجبل فلا أتسلّقه بهذا اللباس وإلا لسقطت على رأسي منذ الخطوة الأولى، فلا بدّ أن أضع هذه العباءة جانباً، ولا بدّ أن ألبس ثوباً مناسباً ولا يقيّد الأيدي والأرجل، ولا يمكن أن أذهب بهذا اللباس إلى ساحة القتال، فلها لباسها الخاص من الخوذة والدرع وأمثال ذلك. والأمر في الكلام هو كذلك، ففي الكلمات التي بين أيدينا عن الأئمّة لم تكن المسألة الوحيدة هي مسألة البلاغة، ولا أدري ماذا كان الدافع الذي جعله يخصّ كتابه بالخطب والرسائل التي تمتاز بأنّها...؟ فهناك الآن العديد من الرسائل التي لم ترد في نهج البلاغة مع أنّها في غاية الأهميّة، مهمّة جدّاً.. والخلاصة أنّ المسألة هي من هذا القبيل.
كيف نفهم معنى" داخل في الأشياء لا بالممازجة" بعيداً عن الفلسفة؟
هل اتّضح الأمر؟ فهذه الكلمات الواردة عن أمير المؤمنين، هذه الكلمات التوحيديّة.. هل نحن ندرك معناها؟! داخل في الأشياء لا بالممازجة. أيّها السادة الذين يقولون أنّ هذه العلوم يونانيّة ولا تنفع وكلّ ما هو موجود فهو عن الأئمّة، ففي أيّة رواية تمّ توضيح وبيان هذه العبارة: "داخل في الأشياء لا بالممازجة". بيّنوا لنا في النهاية معنى قوله: "خارج عنها لا بالمباينة"، فهذا الخروج ليس خروجاً بالبعد وبالمباينة بحيث ينفصل هذا عن ذاك، فهذا الماء مثلاً في هذا الإبريق، فإذا سكبته في الكوب فلن يكون في الإبريق، بل سيكون خارجاً عنه، فأمير المؤمنين يقول أنّ اللـه ليس فينا، ولكن ليس مثل هذ الماء الذي إذا خرج عن شيء آخر فلن يعود بينه وبينه أيّة صلة وارتباط. وفي نفس الوقت الذي هو ليس بخارج عنّا فإنّ ارتباطه مع الأول محفوظ، فكيف تفسّرون ذلك أيّها السادة؟! كيف يكون الماء في هذا الإناء وفي نفس الوقت في هذا الكوب، أليس هذا تناقضاً؟! أليس هذا تضاداً؟! لماذا علينا أن نردّ الفلسفة، لماذا علينا أن نرفضها كونها جاءت من اليونان؟ فهذه أمور تنشأ من الجهل وانعدام المعرفة، والتدخّل في المسائل التي هي خارجة عن دائرة اطلاع الإنسان أياً كان هذا الإنسان، فعلى كلّ إنسان أن يعرف حدّه فلا يتجاوزه، فليتكلّم ضمن حدود اطلاعه، فكما لا نجيز للناس أن يتدخّلوا في حريم وضع القوانين والأحكام والتشريعات والفقه لعدم اطلاعهم، كذلك ينبغي أن لا يسمح لمن كان من أهل الفقه والفقاهة أن يتدخّل في الفلسفة والعرفان بما يسبّب إراقة ماء الوجوه، بسبب عدم اطلاعه عليهما.
على كلّ حال، فهذه مسائل ومطالب لا بدّ من التعرّض لها. المهمّ في هذه المطالب التي طرِحت هو أنّا نشاهد ذلك، فهناك في الأحكام مسائل ضروريّة وبتيّة، وعلى الجميع أن يطيعوها، فهذه إحدى المسائل التي تمّ الحديث عنها، ومن جهة أخرى هناك مطالب أخرى، فحين نصل إلى هذه الموارد نجد هذا الفعل وهذا الكلام متنافياً مع ذاك، فنقول: نحن لا نعلم، وهذا ليس ثابتاً!! الأمر نفسه الذي نقوم به مع الروايات التوحيديّة. عندما نصل إلى أنّ أمير المؤمنين قال ذلك ماذا تقولون؟ داخل في الأشياء لا بالممازجة خارج عنها لا بالمباينة، فماذا تقولون في ذلك؟
ـ نحن لا نفهم ذلك! وليس من المعلوم أنّه من نهج البلاغة!
وإذا أرادوا أن يزيدوا من جسارتهم يقولون: ليس لنهج البلاغة سند! عجباً أيّ كلام هذا؟! سائر المواضع منه مسندة وفقط هذه الصفحة لا سند لها؟ وصيّته لمالك الأشتر مسندة، وصيته في حاضرَين مسندة، أو رسالته إلى معاوية... إذا كان الأمر كذلك فمن قال أنّ رسالته إلى معاوية صحيحة؟ من قال؟! فلنقل أصلاً أنّها ليست صحيحة! لا فهي مخترعة! فإذا كان للإنسان أن يتكلّم هكذا بغير ضوابط فلنقل أنّ كلّ ما في نهج البلاغة ليس صحيحاً. إنّ من أورد لنا هذه وجعلها بين أيدينا هو نفسه الذي أورد لنا تلك وجعلها بين أيدينا، نعم هذه الرواية. ولكن عندما نصل إلى هذه الموارد نقول: لا نفقه! لا علم لنا!
هذا صحيح وحقّك أن لا تفهم! فأنت لم تدرس ذلك ولهذا لا تفقه منه شيئاً! فأنت ما لم تفهم مسألة وحدة الوجود فلن تفهم معنى "خارج عن الأشياء لا بالمباينة" والمراد منها، وأنّ هذا الماء رغم أنّه جاء من هذا الإبريق إلى هذا الكوب إلا أنّه متّصل به؛ فلا بدّ أن تدرس، وما لم تدرس فستقول: لا أفهم.. لا أدري.. هذا غير صحيح!!
وروايات الإمام الرضا هي الأخرى لها سند فماذا تقول في شأنها؟ وروايات موسى بن جعفر التوحيديّة ليست هي من نهج البلاغة، فهي ذات سند.
ـ لا، نترك علمها إلى أهلها، فنحن نرجع هذه العلوم إلى أصحابها.. نحن لا نفهمها...
فإذن لمن قال موسى بن جعفر هذه الروايات، هل لي أنا وأنت اللذين لا نفهم؟! لمن قال الإمام الرضا هذه الروايات؟ ولمن ذكر أمير المؤمنين هذه الروايات وهذه المسائل؟ أهكذا قالها لنفسه؟! فلماذا قالها بين الجمع وفي الخطب، هل ليظهر علمه وفضله وأنّه يعلم هذه المسائل مثلما نصنع نحن؟! وكما في المثل الشائع يريد أن يعرض عضلاته ـ والحمد لله نحن لا نملك عضلات لنعرضها ۱ـ هل يريد أن يعرض عضلاته أنّي أعلم بأشياء لا تعلمونها، فما هذا الكلام؟ ولماذا نوجّهه بهذه التوجيهات؟
والأمر نفسه بالنسبة لتلك المسائل، فهذه المطالب التي وردت عن الأئمة نحن لا نعلم تفسيرها، أو مسألة الخضر، فنحن لا نعلم حقيقتها، فلو كنّا لا نعلمها لماذا ذكرها اللـه؟! أفهل كانت ستنقص كلمات اللـه لو لم يذكر قصّة الخضر؟! فكم وكم لدينا من القصص!؟ فلماذا تعمّد اللـه ذكر قصّة الخضر في القرآن؟ لماذا؟! لماذا ذكر اللـه قصّة النبيّ إبراهيم في القرآن؟ ماذا كان غرضه من ذلك؟ هل صار الأمر واضحاً؟ غرضه هو أن يرفع من درجة فهمنا، فلا نعود ندخل المطالب إلى أذهاننا بشكل تكراري كالطباعة والنسخ، لا نكرّر مطالب الماضين التي سبقت، أن ينفتح أفقنا على مطالب جديدة، فنفهم من الفقه والشريعة مطلباً جديداً، هذا هو المهم، لا أن يقوم الجميع بشنّ حملة على القرآن: أن هذا هو قرآن المسلمين... لأنّه ذكر قصّة الخضر، فيأتي ابن الستين ويأخذ بابن العشر سنوات ويقتله ثمّ يضعه جانباً، هذا هو القرآن، ألا يقال ذلك؟ فقد ورد هذا في القرآن في النهاية، {فقتله} ما معنى قتله؟ هل تعني تحنّن عليه؟ قتله وسلب الروح من جسده، بأيّ ذنب قتل هذا الطفل ابن السنوات العشر؟
ـ نحن لا نعلم
ـ لماذا لا تعلم؟! يجب أن تعلم، وقد آن أوان أن نعلم ذلك هذه الليلة، فلنأت ونبيّن أصل وأساس الشريعة، وملاكات الأحكام.. عالم الإنشاء والتنجّز والفعليّة، وبالطبع سيتمّ بيان ذلك ضمن الليالي القادمة لا هذه الليلة وحدها.
ما هي الوظيفة عندما يبدو أمر النبيّ صلّى اللـه عليه وآله مخالفاً للمصلحة؟
وكما ذكرت للإخوة، نظراً لدقّة المطالب التي تطرح وحساسيّتها وأهميّتها، يمكن أن تنشأ مع كلّ جلسة بعض الإشكالات والأسئلة، وقد أجبت عن بعضها، ويأتي الجواب على الآخر، فالأسئلة التي تصلني تكشف عن أنّ الإخوة يتابعون ويحقّقون في هذه المطالب ثمّ يسألون، وسأجيب عن بعضها بشكل مجمل، كما أسعى إلى الإجابة عن بعضها الآخر في الجلسة اللاحقة.
وفي الجلسة السابقة سأل أحد الإخوة ـ وهو حاضر الآن ـ سؤالاً، وفعلاً كان السؤال في محلّه، فقال: تمّ الحديث فيما سبق عن مسألة أسامة بن زيد حيث قال رسول اللـه قبيل وفاته:" جهّزوا جيش أسامة. " اخرجوا واذهبوا معه نحو منطقة حداد واخرجوا من المدينة. ويبدو أنّ رسول اللـه كان يهدف إلى إخلاء المدينة من المنافقين، من هؤلاء المتربصّين ليشهدوا وقوع حدث ما فيقوموا بشيطنتهم، فهؤلاء لم يخرجوا، فأبو بكر وعمر لم يخرجا، فقد اختبئا وكانا يتردّدان ذاهبين عائدين، وقد جاء أبو بكر إلى النبيّ، فقال له صلوات اللـه عليه وآله: ألم آمرك باللحاق بالجيش؟ فقد صرّح رسول اللـه بذلك.
ـ يا رسول اللـه! أنا لا أريد أن أسمع خبر مرضكم ـ ويعني خبر موتكم فهذا هو مراده ـ لا أريد أن أسمع خبر مرضكم من أحد، يعني أنا منتظر لأن تموتوا وأشرع في العمل مع فريقي الخاص وفق الخطّة المقرّرة ضدّ خليفتك، أن ننفّذ ذلك المخطّط ضدّ خليفتك بالحق!!
جيّد، قال رسول اللـه ذلك... وقد قلت للإخوة في ذلك المجلس أن الأحكام النازلة من الشرع للإنسان لا بدّ أن تكون ذات ملاك شرعي، فلا يمكن مثلاً أن يأمر النبيّ باتباع صبيّ ابن خمس سنوات، لا يمكن ذلك ولا مبرّر له، فالطفل ابن السنوات الخمس لا يدرك شيئاً، ولا يعي شيئاً، غاية ما يفكّر به هو رقائق البطاطا والبسكويت وأمثال ذلك، ولا يعي أن يقوم ويتابع أمراً، لا يفهم معنى هذا الأمر؛ فلا بدّ أن يحصل أحد أمرين: إما أن يقوم رسول اللـه أو ذلك الوليّ وذلك الإمام بتصرّف معيّن يجعل ابن السنوات الخمس ابن خمسين، أو أنّه يبدّل إدراكه بحيث يمكنه أن يتلاءم مع ذلك الحكم وذلك التكليف المتوجّه إليه. وإلا فلو أمر باتباعه بغير هذا التصرّف فإنّ أمره هذا سيكون لغواً، ولا وجه له.
جيّد هذه مسألة، والمسألة الأخرى هي أنّ المطلب الذي ذكرناه يبدو أنّه يخالف ذلك، ويلزم هنا نوع من التضاد، وهو أنّا هنا نقول: إنّ الوليّ عندما يقوم بفعل فلا معنى للكلام، ولا معنى للاعتراض، فأصلاً عندما يقول رسول اللـه جهّزوا جيش أسامة فلا ينبغي أن يقال: يا رسول اللـه! هل أسامة مؤهّل لتقول لنا قوموا واخرجوا معه؟ فأسامة هذا مراهق، هو شاب، وما أكثر هؤلاء الرجال المجرّبين في المدينة! إنّهم محاربون، فلماذا جعلت قائد الجيش شاباً يدعى أسامة؟
لقد كان أسامة شاباً، ولم يكن ذا تجربة، لم يكن كبير السنّ، فمن المناسب أن نسأل في النهاية، يجب أن نسأل، والحال أنّا نقول أنّ علينا أن لا نسأل، فعندما يقول رسول اللـه جهّزوا جيش أسامة، أو جهّزوا جيش خالد بن الوليد، أو أيّ رجل آخر، فالكلام الذي يخرج من فم رسول اللـه يسدّ الطريق أمام هذا الكلام والاعتراض والبحث. وهذا خلافاً لما إذا كان الكلام صادراً عن آخرين مهما كان شأنهم من الرفعة وعلوّ المقام، فعندما يتحدّث أمثال هؤلاء فمن المناسب أن يسأل الإنسان: ما دليل ذلك يا سيّد؟ هل هذا هو الدليل أم ذاك؟ صحيح؟ يمكن للإنسان أن يسأل عن دليل المسألة ما هو؟ ما هو دليل هذا المطلب؟ أما الكلام الصادر من فم أحد العظماء، سواء كان رسول اللـه أو ولياً أو أحد المعصومين أو نبياً فلا مجال حينئذ للنقد، وليس هذا فحسب بل يسدّ الطريق أمام البحث، فعندما يقول رسول اللـه: اقبلوا بقيادة أسامة، فلا معنى بعد ذلك لأن أجلس وأفكّر هل أسامة مؤهّل لذلك أم ليس مؤهّلاً؟ أو ما هي المصلحة التي أمر رسول اللـه على أساسها؟ فلا شأن لي بذلك، فالمصلحة التي يراها رسول اللـه هو يعلمها، فأنا قد لا أطّلع على شيء منها، وقد أطّلع على شيء منها، فالمطالب التي كنّا نشاهدها في الزمان السابق من المرحوم العلاّمة لم تكن كلّها واضحة لدينا، بل كنّا نعرف قسماً منها لا كلّها، واحدة منها اثنتان ثلاثة أو مثل هذا المقدار، والحال أنّه كان من الممكن أن تتضّح بعض المطالب الأخرى لاحقاً أو لا تتّضح.
على أيّ حال فجواب هذا السؤال هو أنّ المطلب صحيح وهو كما ذكر، ولا منافاة بين القولين، فالمسألة ترجع كما ذكرت إلى هذا المبدأ: وهو أنّ كلّ حكم يأتي من اللـه سواء كان بلا واسطة من ذات اللـه أو بواسطة ولي اللـه، أو بواسطة جبرائيل أو سائر الملائكة، إذا أحرز استناده إلى ذات اللـه، وهذه المسألة مهمّة جدّاً أن يحرز استناد الكلام إلى ذات اللـه، فإن أبرزت المسألة فهي قطعاً توجب صلاحنا وفلاحنا، ولا يمكن أن تؤدّي إلى ضررنا، أن تؤدي إلى هلاكنا، أن تؤدّي إلى خسارتنا، أن تؤدّي إلى ذهاب استعداداتنا أن تؤدّي إلى تمزّقنا، أن تؤدّي إلى الظلمة والكدورة، أن تؤدّي إلى الابتعاد عن الحقّ وعن التقرّب إلى الحق، وعن ذلك التجرّد. فما يفاض إلينا من ناحية اللـه مباشرة أو بواسطة فهو قطعاً باعث على السعادة والتكامل والرشد ووصول الاستعداد إلى الفعليّة، وهو باعث على تغيّر الأحوال، مهما كان هذا الأمر الصادر، فنحن لا نعلم، ومعنى أنّا لا نعلم أنه لا علاقة لنا بذلك، وينبغي أن يكون الأمر كذلك، فما يصلنا من اللـه عن طريق نبيّه أو إمامه أو الوليّ، والولي هو الذي تحدّثت عنه في الجزء الثاني لا أيّ وليّ، فهناك الآن من يعترض قائلاً: كلام الوليّ الفلاني كذا... فأنا لم أتحدّث عن مطلق الوليّ، بل عن الوليّ في تلك الخصوصيّات التي تمّ ذكرها في الجزء الثاني من أسرار الملكوت، وأقوم الآن بذكر تتمّتها في الجزء الثالث، هذا هو مرادي، أمثال المرحوم القاضي رضوان اللـه عليه، المرحوم الحدّاد رضوان اللـه عليه، المرحوم الوالد رضوان اللـه عليه، الآخوند الملا حسينقلي الهمداني رضوان اللـه عليه، هؤلاء، أما سائر العظماء فهم على عظمتهم ومراتبهم الرفيعة إلا أنّهم ليسوا هم المرادون. فهؤلاء... نعم بالطبع قد يكون هؤلاء أقل خطأً من سائر الناس، إلا أنّ الحجيّة الذاتيّة المترتّبة على كلام الولي لن تثبت لهم. [بل هي تثبت] لخصوص ذلك الذي تجاوز عن مرتبة النفس، وبلغ مرتبة الفناء الذاتي، ثمّ بعد ذلك رجع إلى مرتبة البقاء، وحكم للإنسان بحكم، فهذا الحكم الصادر عن الوليّ وفعله له حجيّة ذاتيّة.
سيرة الأئمّة عليهم السلام في تحقيق المصالح من خلال مظاهر مختلفة من نصر وهزيمة ظاهريين
بعد كلّ هذا هل يمكن أن يقول هذا الإنسان مطلباً يخالف مصلحتنا؟ لا يمكن بعد كلّ هذا! فأساساً طرح هذه المسألة هو غلط من أصله. فإذا كان المفروض أن النبيّ قال: جهّزوا جيش أسامة، فلو كان أسامة فاقداً للأهليّة والتجربة في الحرب، فلا بدّ أن يوجد النبيّ فيه هذه القابليّة، فإن لم يوجدها وكان مراده الواقعي هو الحرب، وكانت هذه الحرب سبباً للهزيمة، وكانت هذه الهزيمة غير مسبّبة للضرر ـ لأنّ الإنسان قد يهزم في كثير من الأحيان ولكن هزيمته لا توجب الضرر ـ فلا بدّ أن يهزم، وليس هناك أيّ دليل على أنّ الإنسان أينما سار فلا بدّ أن يكون مثلاً [بعيداً عن الضرر والأذى من حيث الظاهر]... فأصحاب سيّد الشهداء هم الآخرون قتلوا وفق الحسابات الظاهريّة، فهل نسمّي ذلك هزيمة؟! هل الإمام الحسين مضى إلى كربلاء وهزم؟! هل هزم أمام جيش يزيد؟! هذا كلام في منتهى البعد عن الصواب، ما معنى الهزيمة هنا؟ فالإمام الحسين مضى إلى كربلاء برفقة أهل بيته وأصحابه قياماً بالمسؤوليّة وبالتكليف وقد بلغ إلى أداء تكليفه، وهذا البلوغ إما أن يظهر بالنصر وإبادة جيش الكفر وجيش الشيطان وفراره، أو بغلبة هذا الجيش ظاهراً والقتل والشهادة، ولا فرق بين هذين الأمرين فكلاهما أمر واحد، نعم كلاهما شيء واحد.
وقد مضى أمير المؤمنين عليه السلام إلى معركة صفّين وكان هدفه الوصول إلى الشام وإزالة معاوية والقضاء عليه، ولم يحقّق الإمام ذلك، نعم هو لم يحقّق ذلك في النهاية، وقد رأينا أنّه لم يحقّق، ولكن هل هزم عليه السلام؟ لا لم يهزم، فقد سار عليه السلام ليؤدّي وظيفته، وكان تكليفه أن يصل إلى هذه النقطة، ولم يكن أكثر من ذلك، لم يكن أكثر من ذلك؛ ولهذا كان عليه السلام يقوم بأعمال تمنع من تحقّق ذلك الهدف الظاهريّ، تمنع من تحقّقه. وكنت قد ذكرت بعض الأشياء لو أنّه عليه السلام قام بها ـ كقائد عسكري ومصمّم للخطط العسكرية ـ في معركة صفّين لكانت نتيجة الحرب لصالحه، إلا أنّه عليه السلام لم يقم بها، فلو كنّا نحن مكانه ماذا كنّا صنعنا؟ لكنّا قمنا بها بلا شكّ، لأقدمنا على فعلها، ومن هذه الموارد منع الماء، فحينما منعوا الماء أمر أمير المؤمنين بإباحتها فأباحوها، فلمّا أباحوها لعدوّهم... ولو كان الماء ممنوعاً عنهم لحرموا من الماء، ولما تجاوز أمرهم أكثر من ليلة ليقضيَ عليهم، فكافّة الخيول ستهلك وسيغلبها العطش، وكذلك الرجال، فهم بغير ماء، وحملة واحدة تقضي عليهم ويقتلَعون من جذورهم، ولوصل أمير المؤمنين إلى الشام، فلماذا لم يصنع ذلك؟ فعلى الأقل ما كانوا قاتلوا ولاستسلموا، فالقتال هو ... فعلى الأقل كانوا استسلموا، فلماذا لم يقم أمير المؤمنين بذلك؟ فإذن لم يكن الهدف هو السيطرة على الشام، هل التفتّم؟ ولكنّ المقصد هو السير نحو هدف رفيع، وهذا الهدف هو إجراء وتنفيذ تلك المشيئة الإلهيّة في هذا العالم، وفي إجراء هذه المشيئة الإلهيّة نحن يمكننا أن نعثر على طريقنا. ولو أنّ هناك التفات إلى هذه المسائل لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، لو كان هناك اهتمام بهذه القضايا، لما كنّا نقول: كلّ عمل يوصلنا إلى هذه النقطة فهو جائز شرعاً، لما نطقنا بمثل هذا الكلام. لقد كنّا في غفلة عن هذه المطالب فسقط على رؤسنا من المصائب ما سقط، هل كلّ عمل جائز؟ فواعجباً! كلّ عمل جائز! جيّد، لمَ كان كلّ ذلك؟ لأنّا لم نلتفت إلى هذه الرسائل، ولم نهتمّ بهذه اللطائف. لقد سمعنا بحرب تسمّى حرب صفّين، وأنّ علياً قضى في ليلة واحدة على خمسمائة رجل، ما المهمّ في قضائه على هذا العدد؟ ما معنى ذلك؟ فلنفرض أنّ هناك رجلاً قويّاً مثلاً كان مكان أمير المؤمنين، فنحن في النهاية لا نقول أنّ الإمام يجب أن يكون دائماً أقوى الناس، فهؤلاء الأبطال الموجودون الآن هم بحسب الظاهر... نعم تارة يقوم الإمام بإبراز إمامته كأن يضع السهم في القوس ويقوم ـ كما فعل الإمام الباقر أمام هشام بن عبد الملك ـ برمي تسعة أسهم فيأتي كلّ منها في طرف الآخر، حسناً فهذا نوع من الأفعال، ومن الواضح أنّ أيّ رامٍ لا يمكنه أن يقوم بذلك، ومن المعلوم هنا أنّ المسألة هي مسألة الإمامة، ولكن متى قام الإمام الباقر بالرمي؟ فافرضوا أنّ كلّ سهم أصاب طرف السهم الآخر، أما أن تكون تسعة أسهم فلا بدّ للسهم الثاني أن يقع على الأرض، ولكن الإمام رمى التسعة فاتصل بعضها ببعض فصارت كالسكّة الحديديّة، لقد حفظها كلّها، متران أو ثلاثة أمتار، فكلّ سهم هو بمقدار كذا، فكم سيكون المجموع؟ ستّة أمتار واقفة في وسط الفضاء! فمن المعلوم أنّ المسألة هي ليست وفق المعايير الطبيعيّة، فهي لم تسقط على الأرض أيضاً، واضح؟ ولكن تارة أخرى تجري الأمور وفق القوانين الطبيعيّة، فإن كانت كذلك، فهل كان الإمام الجواد عليه السلام والإمام الهادي أقوى من "رستم" وهما في سنّ التاسعة؟ فهذا ليس بالأمر المهمّ... نعم إعمال الولاية وإعمال الإمامة هو أمر آخر، وهو لا يحتاج إلى تمارين، فبنظرة واحدة وبإرادة واحدة تطبق السماء على الأرض ويختلط الملك بالملكوت، ولكن لا دليل على ضرورة أن يكون الأمر كذلك من حيث الظاهر. وكان هناك قائل يقول: بما أنّ الإمام هو الإمام فلا بدّ أن يكون أكثر حسناً وجمالاً من الجميع!
قلت له: فلماذا لم يكن النبيّ يوسف إماماً حيث كان معروفاً بالجمال والحسن وأمثال ذلك؟! فما هذا الكلام؟ لقد كان الأئمّة وفق الهيئات المتعارفة، وكانت صفاتهم مختلفة، فالإمام الحسن عليه السلام كان أجمل من الإمام الحسين. لا! بما أنّ الحسين خرج إلى كربلاء فلا بدّ أن يكون هو الأقوى والأجمل من جميع أفراد البشر! ليس لدينا شيء من هذا الكلام، لا شيء من أمثال هذه المسائل، فقد كان الأئمّة وفق الأشكال والهيئات المتعارفة حتّى أنهم متفاوتون فيما بينهم في ذلك، فوجه الإمام الصادق من حيث ظاهره يختلف عن وجه الإمام السجّاد ومظهره، وكذلك سائر الأئمّة من حيث لون الأعين وأمثال ذلك، هم مختلفون في كلّ ذلك. ألأنّ الإمام السجّاد كان ابن شهربانو ابنة يزدجرد والإمام الصادق لعلّة أخرى أيضاً لا بدّ أن تكون له...؟ فهذه مسائل طبيعيّة ومتعارفة يريد الإنسان أن يعرف إمامه من خلالها! يريد أن يعرف هذه المسائل! لقد كانت شمائل الأئمة كشمائل سائر الناس، تماماً كما هم الأفراد الجالسون في هذا المجلس متمايزون في شمائلهم ومزاياهم، في وجوههم وهيئاتهم، لقد كانوا كذلك ولا معنى لذاك الكلام.
إمكان أن يأمر الوليّ بما يخالف الرغبات والميول ويستحيلُ أن يأمر بما يفسد ويبعد عن اللـه
جيّد، بناء على هذا، فما أودّ أن أقوله هو أنّا لو فرضنا أنّ هناك أمر يؤدّي إلى الإضرار بالإنسان، فالإمام لا يأمر به، الإمام لا يفعل مثل ذلك، وإنّما كانت أوامر الإمام نافذة لأنّها في طريق إصلاح الإنسان، فهو لا يأمر بما يخالف المصلحة... نعم، يمكن أن يأمر بما يخالف الرغبات والميول، فلا إشكال في أن يأمر الإمام بما يخالف رغبة الإنسان. والأحكام الإلهيّة إنّما هي أحكام في سبيل القرب، لا في سبيل الابتعاد عن مقام الربوبيّة. فـ (اثنان زائد اثنان) تساوي أربعة، ومهما صنع الإمام فلا يمكنه أن يجعلها خمسة، لا يمكن! هل يمكن للإمام أن يقول أن حاصل جمع اثنين مع اثنين هو ثلاثة؟ إما أن يحذف واحداً من هذين الاثنين فتصبح المعادلة: واحد زائد اثنين يساوي ثلاثة، أو أن يركّب الاثنين بحيث يبدّلهما إلى واحد فيصبح حاصل اثنين زائد واحد ثلاثة. مثلاً هذا كوب وهذا إبريق وهذه صينيّة تحتهما، فهذه ثلاثة أشياء، فاثنان زائد واحد تنتج ثلاثة. فهل بإمكانكم الآن أن تقولوا: إذا كان الإمام إماماً فهو يجعل اثنين زائد واحد تساوي أربعة؟! أين كان ذلك الواحد؟! ومن أين جاء؟! نعم يمكن للإمام أن يضيف كوباً مثل هذا، فهذا بإمكانه أن يقوم به، الإمام يمكنه أن يضيف إبريقاً مثل هذا، فهذان اثنان هنا يضاف إليهما اثنان فيصبح المجموع أربعة. هذه هي المسألة، أي أنّ نفس هذا الإبريق، ونفس هذا الكوب، هما اثنان يضاف إليهما هذا الواحد فماذا تكون النتيجة؟ هل تكون أربعة مثلاً؟ كيف ستكون كذلك؟ فحتّى الإمام لا يمكنه أن يستنتج هكذا نتيجة. أمّا أن يقال: لا فبما أنّه إمام وبما أنّ قدرته أعظم... لقد قلت لكم أنّ الإمام تارة يوجِد، فالإمام الرضا عليه السلام بدّل الأسد المرسوم على الستار إلى أسد حقيقي، أسد يبلغ ثلاثمائة كيلواً! وثب بمخالبه وثبة فانتزع رأس ذلك الوغد وابتلعه إلى جوفه! نعم ذلك الرجل الذي كان هناك وكان المأمون قد أمره. كما أنّ هذه الحادثة حصلت مع الإمام موسى بن جعفر وقد رويت. فالإمام هنا أوجد أسداً، فالأسد لم يأت من الغابة، فلم يتحرّك أيّ أسد من أسود الغابات من مكانه، فلو أنّكم جلتم في ذلك الوقت كافّة غابات الدنيا لرأيتم أنّ أياً من الأسود فيها لم ينتقل من مكانه، لو كنتم ذهبتم إلى غابات إفريقيا والهند وهذه الناحية وتلك لرأيتم أنّ الأسود لم تكن قد تحرّكت من أماكنها، فلو أنّ عدد الأسود التي كانت في هذه الغابة كان خمسة عشر فهو الآن كذلك، فالإمام الرضا لم يحضر واحداً منها، مثلاً أين كان؟ كان في مرو وتلك الأماكن؟ لا، بل هو ذلك الأسد الذي كان مرسوماً على الستار، قال له الإمام: يا أسد اللـه خذ عدوّ اللـه! يا أيّها الأسد القائم في مقام العبوديّة لله ومتواضع أمام حكم وليّ اللـه ـ الذي هو أنا ـ فهذا هو معنى أسد اللـه في النهاية، يا أيها الأسد خذ عدوّ اللـه!
عندما تبدّل الستار إلى أسد، لم تعد صورة الأسد منقوشة عليها بل صارت بيضاء، لم يعد عليها صورة أسد، لقد أعطى الإمام لتلك الصورة وجوداً. تلك الصورة... الصورة لا وجود لها، لا وجود لغرام واحد. ولنفرض أنّ لذلك اللون الذي صبغت به تلك الصورة وزن فهو لن يتجاوز الغرام الواحد. فمن أين جاءت هذه الكيلوّات الثلاثمائة؟ ثلاثمائة كيلواً! فالغرام الواحد لا يمكنه أن يأكل ذلك الرجل. لقد مضى ذلك الأسد البالغ ثلاثمائة كيلواً ونظر إلى الإمام نظرة قائلاً: هل ننهي أمر المأمون أيضاً؟! فأغمي على المأمون، لقد سقط! قال الإمام: لا، فهذا يجب أن يبقى، ولله شأن سيجريه عليّ بواسطة هذا الرجل، فهذا الرجل ينبغي أن يقتلني، لقد قال عليه السلام للأسد: لا. صحيح؟
لقد نظر الأسد نظرة واحدة، وقد ورد في الروايات أنّه نظر نظرة واحدة وكأنّه يسأله: هل أنت بخير؟! هل فهمت حقيقة الأمر أم لا؟ لقد فهمتها! فهمت حقيقة الأمر! على كلّ فقد أوجد الإمام هذا الأسد.. أوجده. ثمّ قال له: عد من حيث أتيت! فعاد إلى تلك الصورة، وتبدّل إلى ذلك اللون الذي صبغ به الستار والذي لا يبلغ سوى غرام واحد. أما أين ذهب ذلك الأسد؟ وماذا حصل؟ فهذه مسائل دقيقة جدّاً وتفوق مستوى هذه الجلسة، وكيفيّة مجيئه وكيفية ذهابه، فهذه مطالب ترجع إليهم أنفسهم عليهم السلام، وإن شاء اللـه نحن أيضاً نصل إلى هذه المطالب، أي نصل إلى فهمها وفهم معرفة الإمام وفهم الولاية، سنصل وإن شاء اللـه هو يوصلنا، فنعرف أنّ الإمام عليه السلام هو واسطة الفيض، وأنّ وساطته في الفيض هي على هذا النحو، فإيجاد عالم الوجود هو من نفس الإمام، والإمام الرضا حين بدّل صورة الأسد إلى أسد لم يأت به من الحديقة.
والنبيّ عيسى كان يأخذ التراب، نعم يأخذ التراب ويمزجه ويصنع منه طيناً ويصوّر منه صورة {وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْر} تأخذ الطين لا طائراً ميّتاً، فذاك شيء آخر، {وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْني}، فهذا إحياء للموتى وهو أمر آخر. {وَ تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَ الأَبْرَص}، تشفي المريض بداء البرص ومن ولد أعمى، ولد أعمى يا عزيزي! فشبكيّته فاسدة! يابسة، خلاياها وأعصابها قد تيبّست...
وهناك قصّة عن الإمام الرضا في ذلك، فقبل مدّة كنّا في مكان وكان هناك رجل يحكي قصّة عن أصدقائه، يقول كان أحد أصدقائي قد أصيب بالعمى منذ مدّة بعيدة، وكان عصب عينه قد تيبّس وتعطّل عن العمل وفسد، فذهب إلى الإمام وحظي بالشفاء والعافية، ثمّ ذهب إلى الطبيب، فأخذ الطبيب يضحك ويقول: لقد كنّا رأينا أنّ الإمام يشفي ولكن لم نكن قد رأينا حتّى الآن أنّ عصباً متيبّساً يبصر! لم نرَ مثل هذا، لم نرَ شفاء على هذه الطريقة!
فقلت: جيّد فالإمام الرضا يقول نحن نعرف هذه الطريقة أيضاً! نعرف تلك الطريقة بأن نجدّد العضو الفاسد ونهبه الحياة ونبدّل خلاياه ونصلح أمره، ونجدّد حياته، كما نعرف هذه أيضاً، حيث تكون الأعصاب والخلايا العصبيّة ميّتة ومع موتها هو يبصر! هذه هي المسألة فما شأنك أنت!؟ منبعها من هنا! أنت ما شأنك؟! نحن الآن ماذا نصنع فهذه الأمور مرتبطة بنا، والعلوم الحديثة لا تبلغها، وكما يقول العوام: ليست على مقاسها.
هذا فعل الأولياء، فهو على هذا النحو. مثل... والإمام الرضا أمره واضح ولا شكّ فيه! ولكن رجلاً من العظماء كالمرحوم الشيخ حسن علي النخودكي كان يقوم بمثل هذه الأفعال، فرغم أنّه لم يكن من العرفاء، إلاّ أنّه كان رجلاً عظيم الشأن، كان رجلاً وقوراً، من أصحاب النفوس، ومن أصحاب القلوب، وهذه القصّة التي نذكرها أنا بنفسي سمعتها في مجلس المرحوم العلاّمة في السنوات الأخيرة من حياته ـ والآن نحن نتحدّث عن هذه التفاصيل الدقيقة ولكن سنعود إلى أساس الموضوع ولن نبتعد عنه ـ فقد جاءه مجموعة من أطبّاء مشهد في إحدى المناسبات، إما في عيد أو ذكرى شهادة، وهم الآن ممن بينهم وبيننا علاقة حميمة وصداقة وأخوّة، ومن الأطبّاء ذوي الشهرة، فلم يكونوا كسائر الناس، وكلّ واحد منهم كان يعتبر الأول في اختصاصه، ولا يزالون الآن في مشهد. وبعد أن حضروا واستقرّ بهم المجلس ـ وكان جلوسهم في الغرفة الداخليّة من المنزل ـ تحدّث أحدهم فقال: تزوّج أحد أقاربي ممن لا يزالون الآن على قيد الحياة، [وولده هو موجود الآن أيضاً]، فقد كان يقول أنّ هذا الرجل لا يزال موجوداً لحدّ الآن. ولما تزوّج والد هذا الرجل من أمّه، أصيبت ببعض الأمراض المشكلة، وخضعت لعمليّات جراحيّة، فلم تعد تقدر على الحمل، وأصلاً لم يعد هناك إمكان للحمل عندها، فقد صارت بلا رحم أصلاً، وكان زوجها يحبّ حباً شديداً أن يكون له ولد، وكان يفكّر في الزواج الثاني، وكانت الأوضاع في غاية السوء، فذهبوا إلى المرحوم الشيخ حسن علي النخودكي وقصّوا عليه الحال، فأعطاهم حبّة من التين قرأ عليها شيئاً ما، وأمرهم أن تأكل تلك المرأة هذه الحبّة وقال: إن شاء اللـه بعد تسعة أشهر ستنجب طفلاً ذكراً، قالوا له: لا رحم لها. قال: أتريدون منّي رحماً أم طفلاً؟! فلتكن بلا رحم [ضحك من سماحة السيّد] قال لهم أنتم تريدون طفلاً فخذوا هذه الحبة من التين ليأتي الطفل بعد تسعة أشهر... الآن كيف حصل ذلك نحن لا نعلم، فهؤلاء تلامذة الإمام الرضا في النهاية، فإن كان الإمام الرضا يقوم بتلك الأعمال على ذلك النحو، فلا بدّ أن يكون لتلامذته شيء ما في النهاية، هذا رغم أنّهم لم يكونوا من العرفاء، نعم هم من أهل المعنى وأهل الباطن وأرباب القلوب، ولكنّ العارف شيء آخر، فهو في فضاء آخر. لقد قال لهم آنذاك: هل تريدون ابناً أم بنتاً لنعرف من الآن تكليفنا ونعرف ما ينبغي أن نصنع؟ فقالوا له: نريد ابناً، فقال جيّد بعد تسعة أشهر سيأتيكم صبيّ صحيح وسالم. وكان الطبيب يقول أنّ هذا الصبي الذي ولد بكرامة المرحوم الشيخ حسن علي هو موجود الآن وحيّ يرزق.
وعلى كلّ حال، المسألة هي هاهنا، فالجمع بين القضية ورفع الإشكال هو هذا، فما قلناه من أنّه لا بدّ من أن يكون كلام الإمام مطابقاً للمصلحة علّته أنّ الإمام أو النبيّ أو وليّ اللـه ـ فلا فرق بينهم من هذه الجهة ـ إذا أرادوا أن يجيزوا مطلباً للإنسان، أن ينشئوا مسألة، أن يكلّفوا الإنسان تكليفاً، فلا بدّ أن يكون في سبيل مصلحة ما، وفي سبيل تقرّب الإنسان إلى اللـه، ومن أجل تحقيق الرقيّ والإصلاح، فهذه المسألة محفوظة وثابتة.
ضرورة التعامل مع الأوامر على أنّها جادّة لا شكليّة وامتحانيّة
وبناء على ذلك إذا رأى الإنسان أمراً من أحد هؤلاء العظام سواء كان نبيّاً أو إماماً أو ولياً ـ وهنا ينبغي أن تلتفتوا جّيداً ـ إذا رأى الإنسان أمراً يخالف الموازين التي لديه، مثل جهّزوا جيش أسامة، قوموا واتبعوا أسامة، ومن هم الذين سيتّبعونه؟ أمثال خالد بن الوليد الذي كان قائداً عسكرياً، وأسامة إذا قيس إلى خالد فإنّه لا يساوي أمامه مقدار فرخ طير صغير، فهذه من الموارد التي يمكن أن يخطر في بال الإنسان فيها أن كيف يأمر النبيّ بأمر كهذا أن اتبعوا جيش أسامة؟ فهل مراده هو مجرّد أمر شكليّ، بحيث أن يخرجوا قليلاً من المدينة حتّى إذا سمعوا بموته يعودون؟ هل هذا هو مراد النبيّ؟ لو كان الأمر كذلك فإنّ هذا الشكّ يسري إلى جميع الأوامر، فهذا الأمر الذي أمرت به الآن من أين أعلم أنّه جادّ وليس شكلياً؟ وحينئذ لن يبقى حجر على حجر، فتمام المطالب التي يسمعها الإنسان من هؤلاء الرجال العظام يمكن أن يقول فيها أنّها ليست جديّة لمجرّد أن يرى فيها نقطة مخالفة لما في ذهنه، فيقول أنّه يريد أن يمتحنني، أو يأمر لمصلحة ما أو لغاية ما، فهذا غلط لا معنى له. فإذا أمر الإمام أو الوليّ بأمر فلا بدّ أن يكون فيه مصلحة للإنسان، نعم لو عطّل ذلك الأمر يتوقّف الإنسان. فلو أنّ أسامة كان قد مضى وشرع في الحرب، فدعواي هي أنّ أسامة الذي جاء من قبل رسول اللـه لن يكون "أسامةً" عادياً، بل رسول اللـه هو الذي سيلقي إليه المطالب، ولو كان أسامة هو نفس أسامة الذي نعرفه والذي يمكن أن يشتبه في فكره، وأن يشتبه في عمله، ويشتبه في سلوكه وفي قراراته، لو كان أسامة كذلك لكان كلام رسول اللـه لغواً وبدون مبرّر، ولو كان أسامة رجلاً عادياً ولم يكن هناك أيّة مصلحة في تعيينه كذلك، ومع ذلك عيّنه رسول اللـه فبماذا سيختلف فعل رسول اللـه عن أفعال سائر الناس؟ لن يكون هناك أيّ فارق، فما يقوم به سائر الناس هو يقوم به!
ما قلته فيما سبق شرطه هو أنّ رسول اللـه إذا أمر أمراً، فعلى الإنسان من جهة أن لا يتدخّل ويقول: لماذا أمرت بذلك؟! ومن جهة أخرى، عندما يأمر الرسول بأمر فإنّه قطعاً لصالحنا؛ فإمّا أن يقوم بتغيير ذلك الرجل مثلاً ويحوّله إلى آخر، مثل قضية أنّ اثنان زائد اثنان تساوي ثلاثة فلو أراد النبيّ أن تكون النتيجة أربعة فلا بدّ أن يضيف عليها واحداً جديداً، فلا يمكن لرسول اللـه مع هذه الحال التي عليها هذه الأواني الثلاثة (الكوب والإبريق والصينية) أن يجعل مجموعها أربعاً، لا بدّ أن يضيف كوباً مثلاً، وإلا فهذا محال، [وإما أن يكون هناك مصلحة في صدور أفعاله منه على النحو المعتاد وبالتالي الهزيمة الظاهريّة مثلاً].
فبناء على ذلك كلا الأمرين صحيح، فعندما يقول الرسول اتبعوا أسامة فإنّ في ذلك مصلحة، أو أنه سيقوم بتحويل أسامة هذا إلى "أسامة" آخر، فإذا بدّله سيكون رجلاً آخر. ولهذا الأمر نظائر، فهذا المطلب نجده في الروح المجرّد، ذلك الكتاب المليء بالمطالب، ففيه يشير المرحوم العلاّمة إلى قصّة زيارة مشهد، والتي لا زلت أذكرها فقد كان عمري اثنتا عشرة سنة، فهو يقول أنّ المرحوم الحدّاد طلب منّي في هذه الزيارة أن أقوم بتفسير سورة قل هو اللـه أحد، فاستمرّ ذلك التفسير إحدى عشرة ليلة، ولا زلت أذكر، فقد كان المريدون يأتون من كلّ ناحية وكان المجلس عامراً، وكانت المجالس عجيبة جداّ، يقول: شرعت بتفسير سورة التوحيد، واستمرّت إحدى عشرة ليلة، وكنت أدرك بعد انتهاء كلامي أنّ كلمة واحدة منه لم تكن منّي، فقد كان مصدرها من هناك، فمن أين كانت تأتي؟ من هناك، مصدرها من هناك وخروجها من هنا، فهي ترد هذا القلب وتصدر عنه، كان يقول: لقد التفتّ إلى أنّ هذه الكلمات لم تكن منّي، فأنا لم أكن قد فكّرت بهذه الكلمات حتّى ذلك الحين، جيّد بما أنّك لم تكن قد فكّرت فمن أين أتت؟ والعجيب أنّها استمرّت إحدى عشرة ليلة، لا ليلة واحدة، فكم هو عدد آيات سورة قل هو اللـه أحد؟ ثلاث أو أربع آيات، ومع ذلك تحدّث حولها إحدى عشرة ليلة ولم ينته المطلب، بل بقي منه الكثير، فما معنى ذلك؟ معناه أنّ هناك شيء يأتي من مكان آخر. ونفس هذا الأمر جار في مسألتنا هذه فعندما يقول رسول اللـه اتّبعوا أسامة، فما هي القضيّة؟ إما أن يبدّل أسامة أو إن لم يبدّله وبقي على ما هو عليه فإنّ الأحداث التي ستقع لا بدّ أن تكون في صالح الفرد [المأمور]، ونحن لا يمكننا [أن نعترض]... فإذا أمرنا النبيّ بأمر، وكانت المسألة على خلاف تشخيصنا، ثمّ عُلِم لاحقاً أنّ المسألة كانت مسبّبة لضررنا، واتضح ذلك جيّداً، وواقعاً علمنا ذلك لا بحسب الظاهر، فهذا الأمر محال أن يصدر عن رسول اللـه، هذا لا يمكن، وهذه القضية إن شاء اللـه تبقى إلى الليالي اللاحقة، حيث سيصل بنا الكلام إلى أنّ الإنسان قد يجد في بعض الأحيان أنّ كلام وليّ اللـه كان مخالفاً في الواقع، فما معنى ذلك؟ وسنبيّن هناك أنّه ليس في البين من مخالفة، وإنما نحن نتخيّل أنّها مخالفة، ولكن في الواقع لم يكن هناك مخالفة، فعلاً لا بدّ أن نصبر قليلاً كي نصل إلى هذه المسألة لنرى أنّه كيف يمكن أن نفسّر صدور كلامين، ففي العام الماضي كلام وهذا العام كلام آخر، أو المطالب التي تبدو للإنسان أنّها خلاف الظاهر ومع ذلك يقوم بها الولي؟ أو حتّى يمكن أن يشاهد الإنسان تغييراً للفتوى، فهذه مسائل فنيّة لا بدّ من التعرّض لها بعد الانتهاء من هذه المسألة، فلا بدّ أن يتّضح المطلب أولاً ثمّ نأتي على ذكرها.
نماذج من مخالفة ظاهر الشرع: تعطيل بعض الحدود، قصّتا إبراهيم والخضر عليهما السلام، الإرث على أساس الأخوة في الدين
ومن جملة الموارد التي نشاهد الأئمة عملوا فيها على خلاف الحكم الشرعيّ الضروري مسألة الحدّ، فهناك الكثير من المواقف التي وقعت بحيث يترتّب الحدّ على فرد معيّن ومع ذلك نجد الإمام قد عفا عنه، فمثلاً لو ارتكب شخص معصية معيّنة من المعاصي التي حدّها الرمي من شاهق أو الإحراق أو قطع الرقبة لشدّة قبح ذلك العمل، فلدينا في أقضية أمير المؤمنين المسلّمة أنّ شاباً قد جاء وقال له ارتكبتُ معصية فطهّرني يا علي قبل أن تحرقني النار يوم القيامة، فقال له الإمام: لا بأس فهذا الحكم من اللـه ولا بدّ أن ينفّذ، فاستجاز الرجل أن يصلّي ركعتين وورد النار بنفسه، وقد ذكِر ذلك في الكتب، كتب أقضية وأحكام أمير المؤمنين، وما إن ورد النار حتّى ضجّ الناس وتغيّرت الأحوال، فأخرجه الإمام وقال له: إنّ حالتك وبكاءك أبكيا ملائكة السماء، فاخرج فقد عفا اللـه عنك. فلماذا؟ لماذا كان ينبغي أن لا يطبّق الحكم الشرعيّ هنا؟ فالحكم الشرعيّ هنا يقضي باحتراقه، فلا بدّ أن يحترق، فلماذا سائر الأفراد يحرقون إذا عصوا أو تقطع رقابهم؟ لماذا صنع أمير المؤمنين ذلك؟ فمن المعلوم أنّ الحكم هنا مخالف للشرع، ونحن نجد الكثير من الموارد والأحكام، وهذا أحد أهمّ العلل التي تدفعني إلى كثرة التأكيد على ضرورة أن يكون الفقيه مطّلعاً على حقائق رموز الأحكام، وماذا يقول في كلّ موضع موضع؟ وفي جوّ آخر بأيّ كلام يتكلّم؟ ومع كلّ فرد من الأفراد ينبغي أن يتعامل بنحو خاص، كلّ ذلك من أجل هذه المسألة، فالحكم ليس للجميع.
تأتي امرأة وتقول لأمير المؤمنين يا عليّ طهّرني، فيقول الإمام ماذا صنعت؟ تقول: عصيت، يقول: قومي وامضي فما هذا الكلام، فأنت مشتبهة فلعلّك أكثرت من الطعام ليلة أمس حتّى أصبحت تهجرين، فتقول: لا لا أنا أقول الحق، فيقول لها اخرجي من هنا. لماذا يصنع أمير المؤمنين ذلك؟ هذا سببه أنّ الأحكام لا ينبغي أن تجرى على الجميع كما هي وعلى ظاهرها، فلكلّ حالة حكمها، فبعضهم يقوم الإمام بإلقاء القبض عليه وإقامة الحدّ عليه، في حين أنّ هذه المرأة التي جاءت على تلك الحال أو ذاك الشاب لهما حكم آخر، فكلّ حالة من الحالات تختلف عن الأخرى، ولا يمكن إجراء الحكم على عمومه.
وهناك الكثير من الموارد الأخرى، منها إحدى الحوادث التي لن أصرّح بتفاصيلها مراعاة لعموميّة المجلس، ويرجى من الإخوة أن يقوموا بمراجعتها بأنفسهم، ولا أذكر في أيّ جزء من أجزاء معرفة المعاد أو معرفة الإمام وردت، حيث يتحدّث المرحوم العلاّمة حول عائشة وكيفيّة الرضاع، فراجعوا ذلك الموضع، فهو من هذه الموارد، وأكتفي بذكر المسألة بنحو الإجمال، ولا أذكر في أيّ أجزاء معرفة الإمام۱ أورِدَ الإشكال على عائشة أن كيف تتكلّم بمثل هذا الكلام وأن أيّ رجل يريد أن يصبح من محارم أيّة امرأة فإنّه يأخذ من حليبها مدّة ما ومن المعلوم أنّ المدّة مهما طالت فسيكون الأمر أفضل!! وعندما يصل الأمر إلى أيدي أمثال هذه النساء ويحصل ذلك فمن المعلوم إلى أين ستنتهي الأمور! نعم هنا يمكن التعليق وكتابة الحواشي المفصّلة [على نحو المزاح]! وهنا يذكر المرحوم العلاّمة كلاماً وقد ذكرت في تعليقة لي أنّ كلامه هذا لا إشكال فيه، حيث يقول أنّ هذا المورد هو من باب حكم الوليّ في مورد خاصّ، فهذا من قبيل هذه الموارد.
والموارد في ذلك كثيرة، فمثلاً لدينا حول إمام الزمان أنّه في زمان ظهوره لا يعود التوارث على أساس النسب بل على أساس الإيمان، والحال أنّ الآية خلاف ذلك، فالآية تدلّ على أنّ الإرث هو على أساس النسب فالابن يرث من الأب والأب من الابن، أما الأخوّة في الدين فلا توجب إرثاً، فلو مات أحد الإخوة في الإيمان لا يرثه أخوه الإيماني، ولو كان الأمر كذلك لكان رائعاً جداً...!! فيذهب الإنسان ويؤاخي أحد الأثرياء ناظراً إلى سنّه ومقاربته على الرحيل، فيقول له: أنا أريد أن أكون أخاً لك، ففي الخارج يفعلون ذلك، واتفاقاً قبل أيام سمعت قضيّة من ذلك، فهناك يرث الزوجان من بعضهما، وإذا لم يكن للرجل أولاد فإنّ كافّة أمواله تنتقل إلى زوجته ولا تصل إلى إخوته، فهناك امرأة ذهبت وتزوّجت من أحد الأثرياء المشارفين على الرحيل، ثمّ ادعت أنّ دافعها فقط هو محبّتها له، فما هذا الكلام!؟ وقد رضيت المحكمة بكلامها، فهي تحبّه نعم! قال [أحد الشعراء]:
عاشق شدم به گبری، گبری که دين ندارد | *** | اين کار کار عشق است، ربطی به دين ندارد! |
والمعنى:
لقد عشقت مجوسياً، والمجوسيّ لا دين له *** فهذا الفعل هو فعل العشق، ولا شأن له بالدين.
فهذا أثر الحبّ والغرام وهذه المسائل، فحكمت المحكمة لهذه المرأة المحزونة على فراق زوجها بكامل الثروة لتنفقها في سبيل الخير... [ضحك]
فحين ظهور الإمام الحجّة يصبح الإرث على أساس الأخوّة، ولدينا في الروايات أنّه على أساس الأخوّة الإيمانيّة، فكيف ينسجم ذلك مع مسائل الدين؟!
أو كما لدينا في الروايات أنّ الإمام يحكم بطلاق المرأة والحال أنّ الأمر للزوج، أليس شرط الطلاق أن يكون برضا الزوج فكيف يقوم الإمام بأمر الرجل بطلاق زوجته فيجب عليه ذلك، وكذلك الأمر في مسألة الزواج، فهذا خلاف الشرع، خلاف الشرع الظاهري، واضح؟ وكلّ هذا موجود، كلّ هذه الموارد موجودة، ما الذي يبرّرها؟ أنّ الأمر هو أمر الوليّ، وفي زمان الظهور لا يمكن لأحد أن يعترض أنّ هذا الأمر خاطئ وهذا كذا، فالحكم حكم الإمام، وهو يحكم وفق مصلحة كلّ شخص، فلو كانت مصلحته في الطلاق فلو كان قد ربط نفسه بها بألف سلسلة وزنجير لا بدّ أن يطيع، فعندما يأمر الإمام فلا بدّ من الطاعة، ولو كان الأمر على خلاف رغبته، أما على أيّ أساس حكم الإمام بذلك؟ فلا ندري، أو أن ندري إذا ارتفع مستوى معرفتنا، والنتيجة لا تختلف، ولا بدّ من الطاعة، فلا بدّ أن تتزوّج من هذه المرأة، ولا بدّ أن تتزوجي من ذاك الرجل، ولا بدّ أن تطلّق فلانة، ويقول للمرأة لا بدّ أن تنفصلي عن زوجك، فالأمر تام وواضح ولا معنى للسؤال فيه، لماذا؟ لأنّ الأمر هو أمر الإمام، وما دام الأمر أمر إمام فنفس الكلام الخارج من الإمام هو كلام اللـه. وفي المحاضرات السابقة كان الكلام هكذا، فإذا كان كلام اللـه هو الشرع فكلام الإمام ماذا يكون؟ هو شرع أيضاً، هل كلام الإمام غير كلام اللـه؟ لا، ألا يختلف كلام اللـه نفسه؟ لقد رأينا في قصّة النبيّ إبراهيم أنّ كلام اللـه قد اختلف، فنفس اللـه الذي يحرّم قتل الابن هو يوجبه على النبي إبراهيم، لا أنّه يرفع حرمته، {إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ}، فنفس هذا الحكم الذي هو الآن محرّم على النبيّ إبراهيم في كافّة الموارد، ومحرّم على جميع الناس، نفس هذا الحكم هو واجب في خصوص إبراهيم وإسماعيل لا لغيرهما، فمن الذي حكم بهذا الحكم؟ اللـه هو الذي حكم، فهذا أيضاً حكم به اللـه، فما دام اللـه هو الذي حكم ... أليس فعل حضرة الخضر فعل اللـه؟ فعندما يقوم حضرة الخضر بهذا الفعل المحرّم على غيره فإنّه واجب عليه، فالخضر لم يكن يقوم بعمل مستحبّ، أو عمل مباح.. يستخير اللـه في شأن هذا الغلام هل نقتله أم لا نقتله؟ لنرَ! لا بل كان فعله فعل اللـه ويجب أن يفعله، يجب عليه أن يخرق تلك السفينة ويعيبها، ويجب عليه أن يقيم ذلك الجدار ويبنيه، فهذه أفعال واجبة، وما دامت واجبة، فهي فعل اللـه بواسطة، وأما {إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُك} فهي حكم اللـه بلا واسطة، أما هنا فهي بواسطة الوليّ؟ والولي هو حضرة الخضر، فكلا الفعلين هما حكم اللـه، كلاهما فعل اللـه، فعل اللـه في سائر الموارد حرام، ونفس فعل اللـه في هذا المورد هو واجب.
جيّد، لحدّ الآن صار الأمر واضحاً، فبالاستناد إلى الآيات والروايات اتضح أنّ فعل الوليّ، وليس أيّ وليّ بل النبيّ والمعصوم عليهما السلام، وكذلك العارف باللـه الواصل إلى مقام التشريع، والواصل إلى مقام الملاكات، هذا الوليّ، أما من كان في مراتب أدنى فلا، هذا العارف باللـه الذي وصل إلى مقام البقاء باللـه، فهذا العارف والذي بيّنت لكم مصاديقه، هذا العارف والوليّ حكمه حكم اللـه وفعله فعل اللـه وتصرّفه تصرّف اللـه، ونحن نشاهد ذلك في الأئمّة عليهم السلام، فالإمام الصادق عليه السلام قال لذاك الرجل: ادخل التنّور، لمن؟ لذلك الرجل الخراساني، فالدخول في التنّور، هو إهلاك، والإهلاك حرام في نظر الشرع، فكان ينبغي أن يعترض أن يا بن رسول اللـه! أنت تحكم عليّ بالإهلاك وهذا محرّم شرعاً، وأنا عليّ أن لا أطيع أمرك، ولا بدّ أن أعرض أمرك هذا على الكتاب والسنّة لأرى هذا الأمر وأعرضه...[تبسّم ومزاح] فـ {وَ لا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فلا يمكن أن أطيع، جيّد! فلنفترض... فماذا على الإنسان أن يصنع؟ عليه أن يطيع، فالإمام الصادق حكمه حكم اللـه، ولا بدّ أن تطيعه، وإن لم تطع خسرت وهلكت.
عدم إمكان تعميم هذه الموارد من قبل أيّ إنسان
جيّد! الكلام الآن هو أنّا هل يمكن أن نقوم بأنفسنا بتسرية هذا الحكم وتعميمه؟ فمثلاً لو جئنا غداً إلى منزل الإمام الصادق ووجدنا التنّور ملتهباً فهل نقول لفلان تفضّل وادخل التنّور؟ يا عزيزي لقد كان القائل هو الإمام الصادق، لا أنّه... فتنّور الإمام الصادق هو كغيره محرق ولا يختلف، والإمام الصادق هو الذي يجب أن يأمر، فما نقوله من عدم جواز التعميم هذا هو المراد منه، فكلام الإمام عليه السلام لا بدّ أن يختصّ بذلك المورد الخاصّ، فنفس هذا الكلام يمكن أن لا يقوله الإمام لكثيرين، فمثلاً لنفترض أنّ شخصاً يجلس قرب الإمام فيأتي رجل ثالث ويشرع بأمره أن ادخل التنّور، يقول له لماذا؟ يقول: الإمام الصادق أمَرَ الخراساني فلم يطع، أما هارون المكّي حين وصل وأمره الإمام امتثل، [فعليك أنت أن تدخل التنّور أيضاً]، فليقل ما شاء! فهذا ليس دليلاً على أنّ عليّ الدخول، نعم لو أمرني الإمام لدخلت، هل لأنّ الإمام أمر هذين الرجلين، والتنّور ملتهب الآن، هل على كلّ من يأتي أن يقع في التنّور؟ لا يا عزيزي ليس الأمر كذلك فهذا لا عموم له ولا سراية، هذا هو موضع التسرية والتعميم الخاطئين، أما حجيّة كلام المعصوم فهي ثابتة دائماً، ففي كلّ مورد وجدنا كلام المعصوم كانت الحجيّة الذاتيّة، ولا يمكن للإنسان أن ينقص أو يزيد من عنده.
لقد وصلت المسائل إلى هنا، والحمد لله صارت واضحة. أما الإشكالات المبتنية على هذه المطالب، فهي لا تقلّ أهميّة عمّا طرحنا من مطالب لحدّ الآن، ولرفع هذه الإشكالات والمسائل التي ترد في أذهان الأفراد وخصوصاً أهل العلم المتخصّصين فإن شاء اللـه إن وفّقنا اللـه تبقى للجلسات اللاحقة.
اللـهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.