المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةإكمال بحث حجية أولياء الله
التوضيح
هو العليم
المدار في اتباع النبي والإمام هو العلم بالواقع
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱٩٢
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
المدار في الاتباع هو موافقة المصلحة الواقعية للإنسان
تقدّم في الجلسات السابقة أنّ الملاك في اتّباع ما سوى الله؛ سواءً كان نبيّاً أو إماماً أو أيّ إنسان آخر.. هو مطابقة كلام الآمر مع المصلحة الواقعيّة والحقيقة التي يرضاها الله تعالى. وهذه النقطة تؤدّي بنا إلى مسألة فطريّة وعقلائيّة. فهي مسألة عقلائيّة وفطريّة بغضّ النظر عن التعبّد الشرعيّ، وعلى الإنسان أن يطبّقها على واقعه، وعليه أن يُطابق نفسه مع المصلحة الواقعيّة التي قدّرت له.
وبناءً على المسلك الصحيح والمُمضى من قبل الإماميّة؛ وهو مسلك العدل، فإنّ الأفعال التي يقوم بها الإنسان لا بدّ أن تكون مطابقة لأمر الآمر ومطلوب الشارع، ولا بدّ أن تكون مطابقة لمصلحته. فليس الأمر اعتباطياً؛ بحيث يأتي أحدهم ويطرح أمراً ما بعنوان أنّنا لا نطيع إلاّ الإمام أو النبيّ. كلاّ، فالأمر ليس كذلك. فالأمر الذي يأتي به النبيّ من عند الله ليكون الإنسان ملزماً بامتثاله ينبغي أن يكون مطابقاً للمصلحة الشخصيّة للإنسان.
وما يقال من أنّه على الإنسان أن يتنازل عن مصلحته الشخصيّة فداء للمصلحة العامة للمجتمع فهو كلام واهٍ بأجمعه، إذ لكلّ إنسان ملفّه الخاص وحسابه الخاص ومسؤوليّته الخاصّة. فعلى أيّ إساس إذاً يقدّم الإنسان نفسه قرباناً للمصلحة العامّة للمجتمع، دون أن يكون هناك مصلحة ونفع يرجعان إليه؟ فما معنى ذلك؟ ولأيّ داع يقوم به الإنسان؟ لماذا أفدي المجتمع بنفسي مع عدم رجوع شيء إليّ؟
عدم جواز الإضرار بالنفس إلا مع وجود مصلحة أعلى تعود عليه
فتارة يقوم الإنسان بذلك ويعود عليه نفع ما، فيصل إلى درجة معيّنة، ويختصّه الله تعالى بلطفه ويتغمّده برحمته، ويحصل على رقيّ في المراتب والدرجات. فحينها لا إشكال في ذلك، وكثيراً ما يحصل ذلك للإنسان؛ كأن يقوم بالدفاع عن الإمام المعصوم عليه السلام فيعرّض نفسه للخطر.. والدفاع عن الإمام المعصوم واجب، فإن تعرّض الإمام للخطر، وجب على جميع من كان معه أن يفديه بحياته وبروحه، وهذا لا إشكال فيه. فهنا يقدّم الإنسان نفسه فداء للإمام ويصل إلى تلك المرتبة التي كان ينبغي أن يصل إليها. وهذا من سعادة الإنسان، ماذا يريد الإنسان أكثر من ذلك؟ ما يريده هو الوصول إلى تلك المرتبة المقدّرة، فيا لها من سعادة، ويا له من نصيب وافر يناله الإنسان بفداء الإمام المعصوم!!
أمّا إن كان الآمر غير الإمام المعصوم، كأن يقال لك: تفضّل وقدّم نفسك فداء لنا! لماذا؟ لماذا أقدّم نفسي فداء لكم؟ فاذهب أنت أيها الآمر وقدّم نفسك إن كنت صادقاً، فلماذا يقدّم الإنسان نفسه فداء عن شخص آخر؟ وبدون أيّ سبب ومبرّر؟ وبدون جزاء وعوض، وبدون أيّ مقابل؟ يقولون تفضّل يا سيّد وقدّم نفسك فداء يغفر الله ذنوبك. فمن أين تعلم أنّه يغفر ذنوبي؟ من أين لك أن تتفوّه بهذا الكلام؟ أهكذا اعتباطاً تتكلّم؟ لا بدّ لكلام الإنسان أن يكون مرتكزاً إلى دليل وحجّة شرعيّة. ففيما يتعلّق بالإمام المعصوم هناك دليل.. نعم هناك دليل! أما في غير الإمام المعصوم فلا دليل حتّى لو كان المعرّض للخطر هو أبوك؛ فلا يمكن للإنسان أن يقوم بفداء الأم أو الابن أو الصديق، لا يجوز له شرعاً أن يقوم بذلك، وهناك مسؤوليّة شرعيّة عن ذلك، ولا يحقّ لنا أن نتّخذ قراراً بشأن وضعنا وسلامتنا وصحّتنا ودوامنا واستمرار حياتنا؛ كأن أتخذ قراراً بالموت هذه الليلة، فحينها أكون قد ارتكبت حماقة، لماذا أقوم بذلك؟ بعضهم يقول: أنا قررت أن أنتحر، لقد ارتكبت عملاً باطلاً وقتلت نفساً محترمة، فقتل النفس المحترمة لا يختصّ بقتل الغير، وأن يأتي الإنسان ويقتل غيره، وإن كان قتل الإنسان غيره بغير قصاص ولا رعاية للموازين الشرعيّة جزاؤه جهنّم، وهو خلود في جهنّم بحسب هذه الآيات، فليست أرواح الناس كأرواح الطيور أو الحشرات، أو ما شابه ذلك. فأرواح الناس محترمة وكلّ إنسان له قيمته واحترامه، ودمه محترم، ولا بدّ من الحفاظ على استمرار حياته، ومن يستهن بذلك فعليه أن يتحمّل عواقب استهانته، بل حتّى لو قتل نفساً واحدة فجزاؤه جهنّم، بغير تردّد أو انتظار، وأيّاً كان القاتل، ومهما كانت صفته ومهما كان موقعه.. لا فرق في ذلك، فهو مشمول لقوله تعالى {مَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}۱ وأمثالها من الآيات، صحيح؟ من هنا لا يمكن لأيّ إنسان أن يقوم من تلقاء نفسه بهكذا أفعال، لا يمكن للإنسان أن يتّخذ قراراً بهذا الشأن، تماماً كما لا يمكن له اتخاذ هكذا قرار بشأن سائر الأمور؛ فلا يمكنه أن يجعل ماله في معرض التلف والهلاك بغير داع، فهذا عمل محرّم، لا بدّ أن يُصرَف المال في المورد المناسب، وفي الموارد المحدّدة والمتّفق عليها. فمن المحرّم عليّ أن أرمي المال في البحر أو في البئر، وأتلفه، كلّ ذلك محرّم، ومعاقب عليه، صحيح؟ أما بالنسبة إلى الإمام المعصوم عليه السلام فلدينا سنّة قطعيّة وروايات مقطوعة الصدور تفيد وجوب حفظ حياة الإمام المعصوم عليه السلام. وعليه، فالذين خرجوا في ليلة عاشوراء من أرض كربلاء بأمر من الإمام الحسين عليه السلام وتركوا نصرته قد ارتكبوا محرّماً، لماذا؟ لأنهم تركوا الإمام في بحر من الأعداء واختاروا السلامة والعافية، فعملهم حرام، أما ماذا يصنع الله تعالى بهم يوم القيامة وكيف يعاملهم الإمام في ذلك اليوم؟ فلا علم لنا بذلك. ولكن من حيث ظاهر الشرع، عندما يقول الإمام عليه السلام: هل من ناصر ينصرني؟ فقد وجب شرعاً على جميع من سمع بذلك أن يقفوا ويقدّموا دماءهم فداء له، ولا شكّ في هذه المسألة. هذا فضلاً عن كون المسألة من المسلّمات، والأمور الواضحة التي تلتفّ حولها العديد من القرائن والشواهد، فالمسألة هنا تكون منتهية وتحتلّ مرتبةً عالية من الأهميّة. بل حتّى لو لم يأمر الإمام، تبقى النصرة واجبة. ففي بعض الموارد يكون لدى الإمام عليه السلام مانع ما من حياء أو عزّة نفس أو مناعة طبع وكرامة نفس، فلا يقول للناس: تعالوا وابذلوا دمكم في سبيلي، فالإمام لا يقول ذلك أبداً، ولكن على الإنسان أن يفعل ذلك من تلقاء نفسه عندما يرى ضرورة، تماماً كما فعل حبيب بن مظاهر؛ فقد وقف مع رجل آخر من الأصحاب كالدرع ليقيَ الإمام الحسين عليه السلام أثناء صلاة الظهر، فجعل وجهه إلى الجيش وظهره إلى الإمام الحسين حتّى يكون مراقباً للسهام القادمة، وقد نُقِل أنّه كان إذا ما رأى سهماً آتياً أدنى جبينهم منه كي تصيبها ولا تصل إلى الإمام، وكان من الواجب عليه أن يفعل ذلك، وبهذه الأعمال صار حبيب بن مظاهر.. حيث صار حارس الإمام، ومن الذي يستطيع أن يصل إلى هذا المقام؟ أفهل يُمكن لأيّ شخص أن يصل إلى ذلك المقام وتلك المرتبة؟ الإمام واقف يصلّي وعليه أن يحميه ويحفظه ويحرسه.. نعم عليه أن يحرسه.
وفي المقابل كان هناك رجل ـ كما ينقل، والظاهر أنّ هذه القصّة صحيحة ـ يقول: يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً. فرأى في عالم الرؤيا أنّه في صحراء كربلاء والإمام يقول له: تفضّل وقف هنا لنصلّي، لكنه بمجرّد أن رأى السهم متّجهاً نحوه فرّ من أمامه فأصاب الإمام، ثمّ جاء السهم الثاني إلى ناحية أخرى فتركه، ثمّ جاء الثالث والرابع والخامس، ثمّ في النهاية، بدلاً من أن يسقط هذا الرجل سقط الإمام.
فلمّا أفاق من نومه قال: حسناً لقد عرفت تكليفي، فليست المسألة أن أقول يا ليتني ويا ليتني، هذا كله كلام فارغ.. لقد اطلع على حقيقة الأمر، وفي النهاية:
كار هر بز نيست خرمن كوفتن | *** | گاو نر مي خواهد ومرد كهن |
[ليست دراسة أكوام القمح بالعمل الذي يقوم به أيّ كبش، فهو بحاجة إلى ثور كبير ورجل مجرّب].
فهذه المسألة هي من المسائل التي لا بدّ أن نلقّنها لأنفسنا. وعلى أيّ حال، فحفظ نفس الإمام هو من أوجب الواجبات، وليس في هذه المسألة أيّ شك، أما غير الإمام فليس الأمر كذلك، إذ الحكم يختلف بين الإمام وغيره، وعلى كلّ إنسان أن يقوم بوظيفته.
حقيقة الفرق بين النبي والإمام وبين سائر الناس هو بالاتصال وعدمه
وكلام النبيّ والإمام المعصوم عليهما السلام إنّما كان حجّة، وكانت طاعتهما واجبة.. فلأنّ كلامهما يحكي عن المصلحة الملزمة للإنسان. وقد قلت للإخوان وأكرّر الآن أنّه ينبغي أن لا يغيب عن الأذهان أنّ ما أقوله ـ فعلاً ـ هو الحدّ الأدنى من بيان المطلب؛ وذلك لكي لا يُطرح عليه أيّ إشكال من أحد، وإلاّ فما نذكره يلزم منه العديد من النقائص، باعتبار أن المسألة أرفع من هذا المستوى من الكلام، ولكن لكي يكون المطلب علميّاً ولا يستطيع أحد أن يستشكل عليه، فإنّا نسوقه وفق هذا المستوى من الاستدلال والاحتجاج. فلماذا علينا أن نطيع الإمام، لماذا علينا أن نطيع النبيّ؟
أفهل الكريّات الحمراء والبيضاء التي يحملها النبيّ تختلف؟ هل يفوق دماغ النبيّ دماغنا بأضعاف ثلاثة؟ هل هذا هو وزنه؟ كلاّ، فهذه الأمور لا دخل لها في ذلك. {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}۱، فمن حيث البدن ومن حيث إعمال الفكر ومن حيث المسائل الاعتياديّة و الظاهريّة أنا شبيه لكم، أليس كذلك؟ غاية الأمر أنّ الجانب المهمّ يرجع إلى الشقّ الثاني من الآية والذي هو: {يُوحَىٰ إِلَيَّ}، فلماذا نطيع النبيّ نحن؟ هل لأنّ أباه كان عبد الله؟ جيّد، فلو كان الأمر كذلك، فالكثير من آبائنا يحملون اسم عبد الله. هل نطيعه لأنّ اسمه محمّد وأحمد؟ فهذه أسماؤنا هي كذلك أيضاً. هل لأنّ له خصوصيّة معيّنة، لا فهذا كلّه لا يتفاوت من شخص لآخر، فلماذا إذاً نطيع النبيّ؟ من الذي قال بأنّ علينا أن نطيع النبيّ؟ ولماذا تقودنا فطرتنا إلى طاعته، ولماذا يلزمنا عقلنا بطاعة رسول الله؟ لماذا؟ لأنّه يوحى إليه، بينما نحن لا يوحى إلينا، هذه هي المسألة؛ فلأنّه يوحى إليه، تكون طاعته واجبة.
كيفية ثبوت كل شيء في اللوح المحفوظ
ما معنى الوحي؟ يعني الإخبار عمّا وقع.. الإخبار عمّا في اللوح والقلم، وعمّا أمضته المشيئة الإلهيّة. فقبل أن يخلق الله النبيّ كانت الشريعة مُعدّة، أليس كذلك؟ قبل أن يخلق النبيّ، لماذا؟ لأنّ الصفات والأسماء هي من لوازم الله تعالى، وهي من اللوازم الذاتيّة للذات، واللوازم الذاتيّة للذات لا تنفكّ عنها.
فوجود الله تعالى ملازم للعلم، وملازم للقدرة، وملازم للحياة، فهو منذ الأزل مدرك وشاعر. وعندما نتحدّث عن وجود الله تعالى، فهو مقدّم على وجود النبيّ ومقدّم على حياة النبيّ، هل هما في عرض واحد؟ نعوذ بالله.. فوجود رسول الله مخلوق للذات، ووجود رسول الله ناتج عن الذات، ووجود رسول الله معلول للأسماء اللامتناهية للذات.
ومن هنا، فإنّ ذات الله تعالى علمها معها منذ الأزل الذي لا أوّل له، وقدرتها معها؛ فهي متحقّقة معها منذ الأزل. صحيح؟
هل حصل يوماً أنّ طفلاً وُلد من بطن أمّه ومع أنّه يرى ويسمع بعينه وأذنه ولكنّه مع ذلك يكون من الأموات؟ السمع والبصر يتنافيان مع الموت، فما دام يفتح عينه ثمّ يغمضهما فهذا يدلّ على حياته، أما إذا وُلد من بطن أمّه ميّتاً، فحينئذ لن يفتح عينيه ولن يبكي ولن تصدر عنه ردّات فعل.
وأمّا أن يولد وتسمعوا بكاءه وتصدر عنه ردّات فعل ويحرّك يده، فكلّ ذلك يكشف عن أنّه يتّصف بالحياة حين ولادته، يتّصف بالقدرة، ويتّصف بالإرادة، وبالطبع المراد بالإرادة هنا هو الإرادة الفعليّة لا الفاعليّة؛ فالحركة يمكن أن تكون بغير إرادة، صحيح؟ فلا يمكن أن يولد الطفل ميتاً وتصدر عنه هذه الأفعال، أفهل يمكن أن تكون الذات الإلهيّة موجودة ولا تتّصف بالعلم؟ هذا محال، أو تكون ولا تتّصف بالقدرة؟ محال، فعلى أساس العلم والقدرة ـ القدرة المطلقة والعلم المطلق والحياة المطلقة ـ تظهر آثار من الذات إلى خارجها، ولا نعني بالخارج الخارج المنفصل والمستقلّ، بل نعني به المرتبة الأدنى من الذات، أي دون مرتبة الهوهويّة، والتي هي نفس مرتبة الذات التي يعبّر عنها بمرتبة الأحديّة، فلا ينبغي الاشتباه في ذلك، فهناك من يرى أنّ مرتبة الأحديّة دون مرتبة الذات والهوهويّة، وأطلقوا اسم الأحد على مرتبة دون مرتبة الذات، تماماً كاسم الواحديّة، وقد نبّهت على ذلك في أحد الكتب: ربّما في أفق الوحي، أو في توحيد علمي وعيني حيث كتبت عليه تعليقة، وأشرت إلى أنّ مرتبة الأحديّة ليست دون الذات، بل هي مرتبة الذات بعينها ومرتبة الهوهويّة. أمّا مرتبة الواحديّة، فهي تختلف حيث تعني مرتبة ظهور الأسماء والصفات في عالم الخارج. فذات الله تعالى في مرتبة الأحديّة هي ذات علم، ما معنى العلم؟ وهذا العلم بماذا يتعلّق؟ العلم الذي عندكم ألا يتعلّق بشيء؟ فهل يصحّ أن أقول أنا عندي علم، وإذا سألتموني بأيّ شيء أنت تعلم؟ أقول لا أعلم، فأيّ علم هو هذا؟ لا بدّ له من معلوم، سواء كان خارجياً أم نفسيّاً، فتارة أنا أعلم بصفاتي، فهذا معلوم نفسي، وتارة أعلم بالأفراد الذين يجلسون هنا، فهذا معلوم خارجي ومعلوم بالعرض، هذا العلم الذي لدى الله تعالى بأيّ شيء يتعلّق؟ هو علم بالشرائع، وعلم بمخلوقاته، هو يعلم بمخلوقاته قبل أن يكون هناك مخلوق خارجي، فالعلم في ذات الله تعالى هو في مرتبة متقدّمة على المعلوم الخارجي. فنحن الآن في هذا الزمان وُجدنا في هذا العالم، وقبل مائة سنة لم يكن أيّ منّا في هذا العالم بحسب الظاهر وكما أرى الآن، قبل مائة عام لم نكن، قبل خمسين عاماً لم نكن، لا بل أنا كنت قبل خمسين عاماً (مزاحاً)، أو قبل مائتي عام لم نكن، فنحن يجب أن نكون في هذه البرهة من الزمان، وآخرون بعد عشر سنوات، وآخرون قبل عشرين، وهكذا كلّ الخلائق لا بدّ أن تتحقّق في ظرف خاصّ حسبما تقتضيه المشيئة الإلهيّة القاهرة. فما قلناه هو أنّ علم الله تعالى مساو للذات ولا يمكن أن نتصوّر الذات في آن من الآنات منفصلة عن علمها، فهذا معناه الجهل، ولا يمكن أن نقبل بالجهل في الله. إذاً ما هو متعلّق علم الله في ذاته؟ ما هو هذا المعلوم؟ من المعلوم أنّه خلائقه، فليس سوى الله وخلائقه، الله وآثاره، الله ومعلولاته، فعلم الله تعالى تعلّق بالمخلوقات، وحين تعلّق بالمخلوقات فقد تعلّق بأعمالهم وآثارهم وحركاتهم وأطوارهم وما ينبغي أن يقوموا به، طبعاً هذا بالنسبة للمخلوقات التي يمكن أن يتعلّق بها تكليف، وهناك الكثير من المخلوقات لا تكليف لها، كالجمادات وأمثالها، ولا حديث لنا عنها.
ومن جملة المخلوقات الإنسان، فمتى تعلّق علم الله تعالى بالإنسان وبتكليفه؟ منذ الأزل، وقبل أن يكون هناك نبيّ ولا إمام ، فهؤلاء كلّهم مخلوقون وليسوا والعياذ بالله خالقين، فهم ليسوا في عرض الله تعالى، بل في طوله، وكلامنا هو في هذه الرتبة الطوليّة التي يقع الله تعالى في رأس هرمها، وبقيّة ظهوراته في المراتب الأدنى والأدنى إلى أن تصل إلى قاعدة الهرم. فما هي الحقيقة التي تقع في تلك الرتبة الأولى في رأس الهرم؟ إنّها ذات الله تعالى وعلمه، علمه بماذا؟ علمه بكلّ تلك السلسلة التي تترشّح عن الذات في العوالم الربوبيّة وعوالم الغيب والعوالم المجرّدة إلى أن تصل إلى أدنى العوالم والذي هو عالم المادّة وعالم الملك الذي نحن فيه. فقبل أن نكون نحن كان الله تعالى يعلم بأنّنا سنكون. وقبل أن تكون هناك شرائع كان الله تعالى قد قدّر الشرائع في اللوح المحفوظ ، وليس المراد بهذه القبليّة وقت معيّن؛ لأنّ الزمان معلول، والزمان هو في نفسه ليس أمراً خارجياً كما هو شائع، فالزمان أمر اعتباري، وليس هو بشيء سوى إحساس المرور، وإحساس العبور، لذلك فهو يختلف في حالات الإنسان.
كون التكاليف والشرائع موجودة قبل الوجود المادي للإنسان
إذن المطلب المهمّ هو أنّا قبل أن نوجد في هذه الدنيا كانت التكاليف التي ينبغي أن نقوم بها مكتوبة، وقبل أن نضع قدمنا في عالم الوجود، كانت الشرائع التي أرسلها الله إلى البشر مكتوبة، أين؟ في اللوح المحفوظ، فقبل أن يظهر النبيّ في عالم الوجود الظاهريّ كان معلوماً متى ستظهر شريعته، وأنّه سيولد وسيتوفّى والده قبل ولادته، ثمّ تتوفّى أمّه، ثمّ يتكفّله أفضل الملائكة المقرّبين، كما بيّن ذلك أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، ثمّ عليه أن يطوي مراتب تزكيته وتكامله لسنوات طوال خارج محيط مكّة الاجتماعي في غار حراء، كلّ ذلك كان مكتوباً من قبل، وكلّ ما يؤدّيه النبيّ مكتوب بتفاصيله لا يختلف عنه قيد أنملة، فأنتم الآن إذ تجلسون هنا وتنظرون إليّ وتسمعون هذا الكلام، فهذه الجلسة كانت مكتوبة هناك عند الله منذ الأزل، وأنتم كان عليكم أن تأتوا مهما صنعتم ما دام مقرّراً هناك أن تأتوا، ولا شكّ في ذلك.
الآن، نقول هل ذاك العالم هو قبل الزمان؟ لا معنى لهذا الكلام، والبحث في ذلك دقيق جداً وهو مطلب فلسفيّ لا يحتمله المجلس، وقد طُرح مع الإخوان في درس الفلسفة، حيث بيّنا كيفيّة العلم العنائي، وهل هو مجرّد صور أم هو نفس المعلوم الخارجي؟ كلّ ذلك تمّ بحثه، ولو أردنا أن نطرحه الآن فهو يفوق مستوى الجلسة بمراتب. فهل هذا العلم الذي يعلمه الله تعالى بالمخلوقات وأفعالهم وأطوارهم وشرائعهم وتكاليفهم هو مجرّد تصوّر كما نتصوّر نحن في ذهننا رجلاً معيّناً والحال أنّ بيننا وبينه أمتار تفصلنا عنه، فهو يجلس في مكان وأنتم في مكان آخر، وهو لم يدخل إلى ذهنكم، فوزنه سبعون أو ثمانون كلغ، ولا يمكن أن ينخرط في هذا الرأس. إذاً صورته هي التي حصلت في الذهن، فهناك فاصلة بيننا وبينه، فأنتم الآن تتصوّرون جبل "دماوند"۱، فما الصلة التي تحصل بينكم وبينه، هي مجرّد صورة، لأنّه لن يأتي ويدخل إلى دماغكم، فهل علم الله تعالى هو كذلك؟ هل لله ذهن تنطبع فيه صور الأشياء الخارجيّة كافّة كالفيلم، ثمّ يقوم الله تعالى بإعطاء هذه الصور حقائق خارجيّة؟ أم لا، بل علم الله بمخلوقاته هو عبارة عن نفس المخلوقات في ذاته تعالى؟ وأمّا كيف يكون ذلك وكيف تجتمع، فهذه مسائل أخرى ليس مجالها الآن.
وعلى كلّ حال، فالقدر المسلّم الذي نحتاجه في بحثنا هو أنّ النبيّ قبل أن يُخلَق؛ لأنّه مخلوق من مخلوقات الله، فهل رسول الله خالق والعياذ بالله أم مخلوق، والإمام عليه السلام خالق والعياذ بالله أم مخلوق؟ مخلوق، فهو بالنسبة إلى الله تعالى مخلوق، وبالنسبة إلى المخلوقات له مرتبة أخرى وهذا أمر آخر، أما بالنسبة إلى ذات الله وعلم الله وقدرة الله فهو مخلوق. وما دام مخلوقاً فإنّ علم الله تعالى متقدّم على وجود أمير المؤمنين عليه السلام، وهذا تقدّم رتبيّ لا زمانيّ؛ لأنّا قلنا أنّه لا معنى للزمان وهو أمر اعتباري لا وجود له، فالتقدّم رتبيّ.
إذن، قبل أن يكون للنبيّ صورة خارجيّة وعينيّة خارجيّة، كانت شريعته مكتوبة وتكاليفه مكتوبة. وقبل أن يُولد النبيّ موسى من بطن أمّه كانت شريعته مكتوبة، وكان دينه مكتوباً، وقبل أن يولد النبيّ نوح كانت تكاليفه وشريعته وعمره والناس الذين سيكونون معه مكتوبة كلّها، ثمّ بعد أن يبلغ النبيّ نوح مرتبة النبوّة ماذا يصنع؟ هل يأتي بتكاليف من عند نفسه؟ لا، بل يبيّن للناس ما هو مكتوب، يبيّن للناس ما كُتب في علم الله العنائي ساعة بساعة ولحظة بلحظة؛ هذا هو عمل النبيّ نوح لا أكثر. عندما يبلغ النبيّ موسى مرتبة النبوّة، تُلقى إليه المطالب المتعلّقة به، وهذا الإلقاء هو الوحي، فيلقى في نفسه أنّ عليه الآن أن يقوم بهذا الأمر، وما يحسّ به النبيّ موسى في نفسه هو ما يسمّى بالوحي، من أين أتى؟ من ذلك اللوح المحفوظ، فهو يأتي من اللوح المحفوظ ويستقرّ في نفس النبيّ موسى ليبيّنه للناس، فعندما يقوم من نومه عليه أن يقوم بهذه التكاليف الأربعة مثلاً، وعند العصر عليه أن يتحدّث بهذا الموضوع المعيّن، وكذلك الأمر بالنسبة للنبيّ صلّى الله عليه وآله، فعندما يذهب إلى غار حراء وينزل جبرائيل ويبلّغ الرسالة يشرع العدّاد بالتسجيل؛ فأولاً تُشرّع الصلاة، أمّا الخمر فلم تنزل حرمته بعد، ثمّ يأتي تشريع الصيام، ثمّ تكليف آخر وآخر وهكذا... وفي السنوات الثلاثة الأولى لا بدّ أن تكون الشريعة غير معلنة والدعوة سريّة ثمّ تأتي آية {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}٢، فلا بدّ أن تعلن بعدها الشريعة إلى الناس، وهكذا تضاف شيئاً فشيئاً أوراق جديدة إلى هذا الملفّ: اليوم هذه المطالب، وغداً مطالب أخرى، وبعدها شيء آخر، والشهر التالي مسائل أخرى، وهكذا... فعندما تقتضي المشيئة الإلهيّة إفشاء مطلب معيّن، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله يُعلنه في ذلك الوقت لا قبله ولا بعده، وإن كان على علم به.
أولم يولد أمير المؤمنين عليه السلام في الكعبة؟ فالسنّة ينقلون ذلك. لقد أمسك أبو طالب بيد أمّه [أمّ أمير المؤمنين عليه السلام] فاطمة بنت أسد وجاء بها إلى المسجد الحرام، فانشقّ جدار الكعبة، ودخلت فاطمة بنت أسد إليها، وأولدت عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وبقيت فيها ثلاثة أيّام، وقصّتها في ذلك مفصّلة. وبعد أن خرجت، وأخذ النبيّ بعلي، شرع عليّ بقراءة آيات سورة المؤمنين: {بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}۱ وغيرها من آيات هذه السورة، والحال أن القرآن لمّا ينزل بعدُ على النبيّ! فمن أين قرأ الإمام عليّ ذلك؟ من أين؟ لم ينزل القرآن على النبيّ ولم يبعث النبيّ بعدُ، حيث كان النبيّ في الثلاثين من عمره، ولا بدّ أن تمرّ عشر سنوات لكي يبعث، فعندما بعث النبيّ كان عليّ بن أبي طالب ابن عشر سنوات، وأوّل من آمن به هو أمير المؤمنين ابن السنوات العشر، فمن أين قرأ أمير المؤمنين سورة المؤمنين؟ فلو لم تكن موجودة لما أمكن له أن يقرأها، من هنا نعلم أنّ سورة المؤمنين والقرآن الكريم ثابتان في اللوح المحفوظ ومسجّلان ومضبوطان، وبواسطة اتصال نفس الوليّ التي هي نفس أمير المؤمنين ـ فقد كان ولياً منذ ولادته ـ وبواسطة اتصال نفس الوليّ باللوح المحفوظ، يخبر عمّا في هذا اللوح، هل رأيتم ماذا يجري؟ فمن يقرأ سورة المؤمنين يُمكنه أن يقرأ من أول الحمد إلى آخر سورة الناس أيضاً، وليس الأمر انتقائياً كما هي أفعالنا نحن؛ حيث ننتخب ونختار، فعنده لم يكن الأمر كذلك، وإن شاء الله لا يكون كذلك عندنا أيضاً. يمكنه أن يشرع من أول سورة الحمد إلى آخر سورة الناس، غاية الأمر أنّ وقت النبيّ سيضيع بذلك، فيقتصر على بضع آيات يدفعها على الحساب ليخبره بأنّ له اطّلاعاً عليها [ضحك]، فصحيح أنّك نبيّ ولكن نحن أيضاً قرأنا، فنحن قرأنا سورة المؤمنين التي ستنزل عليك بعد عشرين سنة أو عشر سنوات، فسورة المؤمنين مدنيّة على ما أذكر إن لم أكن مشتبهاً، فهي ستنزل بعد عشر سنوات أو عشرين سنة، ومع ذلك أنا أقرأها الآن، ما معنى ذلك؟ هذا يعني أنّ شريعة رسول الله والكتاب المبين الذي يبيّن الله فيه كلّ شيء كان مكتوباً، وكانت آياته مكتوبة قبل أن يوجد النبيّ، وقبل أن يوجد أمير المؤمنين كذلك. متى كُتب هذا الكتاب إذاً؟ لا بدّ أن يلتفت الإخوة إلى ذلك، لقد كتب القرآن منذ الأزل، فلا حدّ لتدوين وإنشاء القرآن الكريم؛ لأنّ الله أزلاً وأبداً غير متناه، فالله لا ابتداء له، وحياته لا ابتداء لها، وقد كان القرآن مع الله، ومنذ الأزل كان الوجود الحقيقيّ للنبيّ، لماذا؟ لأنّه كما أنّ القرآن مخلوق لله فكذلك النبيّ هو مخلوق لله، وعلم الله تعالى قد تعلّق بهذا المخلوق، متى تعلّق به؟ لا معنى لكلمة "متى" هنا؛ لأنّه لا يمكن تصوّر ابتداء لذلك، فهل يمكنكم أن تتصوّروا بداية لوجود الله؟ بالنسبة لنا نحن، يكون الأمر مختلفاً. ففي بطاقتنا الشخصيّة مكتوب اليوم الفلاني، الشهر الفلاني، السنة الفلانيّة.. وكلّ شخص مكتوب ذلك في بطاقته الشخصيّة. أمّا بالنسبة لوجود الله تعالى، فمتى يُمكننا ذلك، وما هو الزمان الذي باستطاعتنا تقديره؟ مليون سنة من قَبل، مليار سنة من قبل، عشرة مليارات! هذا يصدق على الأشياء التي تُحيط بنا. فما قيمة المليار؟ وما قيمة المليون؟ لا قيمة لها أصلاً، والزمان لا معنى له من الأساس، فالله تعالى قديم، والزمان مترتّب على الأمر الحادث، ولا معنى له بالنسبة للمجرّدات، بل هو مرتبط بالمادّيات والتي تُعدّ بحدّ ذاتها اعتباريّةً. حسناً، هل هذا واضح؟
وبناءً عليه، ماذا سيكون الملاك في اتّباع كلام رسول الله؟ هو مطابقة كلام رسول الله لتلك المصلحة الواقعيّة، والتي هي عبارة عن رضا الله تعالى عن ذلك العمل بالنسبة لذلك الشخص، وهذه هي المصلحة الواقعيّة. ومن المهمّ للفضلاء وأهل العلم والاجتهاد والاستنباط أن يعلموا بأنّ التكليف يتعلّق بالموضع الذي توجد فيه مصلحة للإنسان. وأمّا إذا لم توجد فيه مصلحة، أو كانت فيه مفسدة، وكانت على خلاف المصلحة، فلا يتعلّق تكليف بإيجاد الفعل وأدائه.
عدم توجه تكليف غير مقدور أو خال عن المصلحة
من هنا ينبغي في جميع التكاليف التي تتوجّه للإنسان من قِبل الله تعالى أن تكون ذات مصلحة بالنسبة للإنسان؛ سواءً على مستوى الفعل أو النهي. ولهذا لا يُمكن لله تعالى أن يُقدّر ويفرض على الإنسان فعلاً يكون على خلاف المصلحة، وفي نفس الوقت يكون مُلزماً؛ فهذا أمر غير ممكن. فإذا أمر الله تعالى بوجوب صلاة ركعتين في الصبح، فمن المحتّم أن توجد مصلحة في هاتين الركعتين. لكن لا بمعنى أنّ الله تعالى يُشرّع الأفعال على أساس المصلحة، لا، لا، هذا خطأ. بل الأمر الذي يكون موضعاً لرضا الله تعالى، هو عين المصلحة. والمصلحة تُنتزع من فعل الله وإرادته ومشيئته. فلا يُمكننا تصوّر شيء خارج عن ذات الله تعالى ـ يكون مغايراً لإرادته ورضاه ـ حتى تتعلّق إرادته تعالى به. وهذا على العكس من إرادتنا وتفكيرنا المصلحي؛ حيث ينبغي علينا أوّلاً أن نأخذ بعين الاعتبار تلك القضيّة الخارجيّة، وتلك المصلحة الخارجيّة والمفسدة الخارجيّة، وتلك القرائن والمسائل والأحداث، وحينما نصل في أذهاننا إلى ذلك الهدف المطلوب، عندئذٍ نتخذ القرار. وأمّا بالنسبة لذات الحقّ تعالى، فالأمر مختلف تماماً؛ فما يأمر به الله تعالى، ماذا يكون؟ يكون عين المصلحة. هل هذا واضح؟ حسناً، هل يُمكن لله تعالى ـ والحال هذه ـ أن يأمر الإنسان بكلّ شيء؛ ولو كان على خلاف المصلحة والقُدرة؟ بمعنى أن يقول الله تعالى ـ فرضاً ـ عليكم أن تقفزوا لمسافة كيلومتر.. ألف متر، اصعدوا إلى الأعلى كلّ يوم لمسافة كيلومتر، ثمّ طيروا مثل الحمام وانزلوا إلى الأسفل! هل يُمكنه أن يُصدر مثل هذا الأمر، أم لا؟ لا يُمكنه ذلك! لماذا؟ لأنّه خارج عن قدرتنا. فهذا الأمر خارج عن القُدرة، وهو لا يُصدر مثل هذا الأمر، وسيكون إصدار هذا الأمر من قِبل الله تعالى لغواً وعبثاً. وعليه فجميع الأوامر والنواهي التي تتوجّه نحو الإنسان من قِبل الله تعالى ينبغي أن تكون خاضعةً لقدرة المكلّف واستطاعته. فلو لم تكن كذلك، فلا الله تعالى يُمكنه أن يأمر بها، ولا الرسول ولا الإمام. لماذا؟ لخروجها عن قدرة المكلف. وهذا من قبيل أن نفترض أنّ الله تعالى يأمر مريضاً مشلولاً بأن يقوم ويُصلّي واقفاً وبوضعيّة مستقيمة! حسناً، اشفه أوّلاً.. ثمّ بعد ذلك يُصلّي من قيام. لكنك لم تُشفه، فكيف تتوقّع منه ذلك؟ هل يُمكن حصول مثل هذا الأمر؟ هل يُمكن أن نتصوّر من الأساس أن يأمر الله تعالى شخصاً مريضاً مغمىً عليه ـ بحيث لن يشعر حتى لو طعن بالسكين ـ بأن: قم وصلّ! انهض للصيام! إنّه مغمىً عليه! وهو مستلقٍ على سرير غرفة العمليّات، فلو تفتح بطنه بالسكين، ولو تفعل به أي شيء لن يلتفت أبداً. فكيف يُمكنه في هذه الحالة أن يُصلّي.. ماذا! انهض، فصلاة العصر ستصبح قضاءً! يا عزيزي، إنّه مغمىً عليه! إنّه لا يشعر بنفسه حتى يفهم، فكيف يريد الله تعالى في هذه الحالة أن يُكلّفه... يريد منه مثل هذا التكليف.. فالله تعالى لا يُريد أن يُكلّفنا بالصلاة في حالة الإغماء. وهذا لا يعني أنّه لا يلزم القضاء بعد ذلك، فالقضاء مجعول لتدارك مصلحة معيّنة، فتدارك المصلحة لا تُعدّ مترتّبةً على أمر. الأمر هو إلزام يترتّب عليه العقاب، ويُؤخذ بعين الاعتبار في المحاكم. هل هذا واضح؟ إذا كان هذا الحقير يقول بأنّ الفتاة ذات التسع سنوات ليست بالغ، فالسبب في ذلك هو هذا الأمر. من حقّ الفتاة ذات التسع سنوات أن تلعب بالدمى، أو بالكرة. وتعلّق الأمر بها عبث ولغو. فهي لا تفهم معنى التكليف حتى تقع مصبّاً للأمر وتكون مأمورةً. هل هذا واضح؟ وهكذا بالنسبة للمسائل الأرقى والأعلى. ونفس الأمر يُقال بالنسبة للجرائم التي يُمكن أن يرتكبها حتى الأشخاص الذين تتجاوز أعمارُهم الخمسة عشرة سنة، إذ لا يُعلم بأنّهم مكلّفون وغير ذلك. فينبغي التدقيق كثيراً في مثل هذه الأمور. فلكلّ من التكليف والبلوغ في كلّ مورد شروط تختصّ به. وبناءً عليه، إذا وُجد شخص قد سقط مغشيّاً عليه، هل من الممكن تكليفه؟ يقول الأشاعرة: نعم، يُمكن ذلك! فالله قادر، وقدرته تقتضي أن يتعلّق تكليفُه حتى بالشخص العاجز. إنّ هذا عَبث! وهو مخالف للفطرة. حسناً! نحن بدورنا نسألكم: لقد قام الله تعالى بأمر شخص فقد وعيَه بالصلاة، وهو لا يستطيع أن يُؤدّيها، فتفوته الصلاة، ماذا سيفعل له يوم القيامة؟ هل سيعذّبه؟ يقولون: نعم، سيعذّبه! نقول: حسناً، فكيف سينسجم ذلك مع العدل الإلهي؟ يقولون: لا ينبغي الحديث عن الله، وعندما يصل الأمر إلى الله ينبغي السكوت. حسناً، لكن هذا لم يعُد إلهاً! يقولون أيضاً: يُمكن لله تعالى أن يأمر، ويُمكنه أن يُعذّب الإنسان بسبب عجزه! فماذا يصير هذا؟ هذا خطأ! يصير هذا مذهباً خاطئاً! واضح؟
أمّا الإماميّة، فلا يقولون بهذا الكلام، والشيعة لا يتفوّهون بمثل هذه الكلمات، بل يعتقدون بأنّ فعل الله غير عبثي. فما هو الأساس الذي يعتمد عليه الفعل الإلهي؟ يعتمد على أساس الحكمة. فعندما يكون الإنسان مغمىً عليه، أو مشلولاً، ينبغي عليه أن يُصلّي مستلقياً وراقداً فقط، وإلاّ فلا يُصلّي. والله تعالى لا يأمر الشخص الذي يُعاني من آلام في المعدة بالصيام، فإذا صام، فإنّ صومه باطل. إذا قال الطبيب يحرُم عليه الصوم، ومع ذلك صام هذا المكلف، فإنّ صومه باطل. حينئذٍ يكون قد صام، وتحمّل العناء الكثير، ثمّ يلزم عليه القضاء بعد ذلك. فماذا يكون هذا إذن؟ هذه هي الشريعة الحقّة.. الشريعة المبتنية على أساس العدل.. على أساس الفطرة، وما ينسجم مع الفطرة هو الشريعة، هل هذا واضح؟
ضرورة وجود مصلحة واقعية في أمر النبي والإمام وإن لم نعلم بها
وعليه، فإنّ الملاك في طاعة رسول الله هو مطابقة كلامه مع تلك المصلحة التي تتوجّه إلى الإنسان. ومن هنا، لو أمرنا الرسول بأمر مخالف للمصلحة ـ على سبيل الافتراض، وإلاّ فنحن لا نقول أنّه حصل فعلاً والعياذ بالله ـ فعلينا أن لا نمتثل لذلك، ولا نطيعه فيه. لماذا؟ لأنّه على خلاف المصلحة. إذا كان من الواجب طاعة رسول الله في أمر مخالف للمصلحة، فإنّه يجوز حينئذٍ أن يتعلّق الأمر الإلهي بالمحال، ولا يوجد أيّ فرق بين الحالتين. وإلاّ فما هو الفرق؟ هل هذا واضح؟ يبقى نفس الشيء؛ لأنّ الأمر يكون على خلاف المصلحة. فالأمر الذي يأمرنا به رسول الله وينزل بنا إلى الأسفل عوض أن يصعد بنا إلى الأعلى هو أمر لا فائدة فيه، ولا ينبغي علينا امتثاله. أو أن يأمرنا الإمام عليه السلام بأمر يطرحنا أرضاً عوض أن يرتقي بنا إلى الأعلى، حينئذٍ لا يلزم علينا طاعتُه! هذا مع أنّ الإمام معصوم، فما معنى أنّه معصوم؟ يعني أنّه لا مجال لتسلّل الخطإ إليه. والرسول معصوم، فما معنى أنّه معصوم؟ يعني أنّ الخطأ لا ينفذ إليه. وعليه، فالسبب الذي جعل الرسول معصوماً ويمتلك عصمةً مطلقةً، هو عينه الذي جعل أمره ذا مصلحة كذلك. هل هذا واضح؟ فلا يُمكن بعد ذلك أن يكون أمره خاطئاً، أو مخالفاً، أو موجباً لضررنا. ولا يُمكنه أن يكون بعد ذلك عبثيّاً أو لغويّاً. ولنفس السبب الذي يجعل الإمام معصوماً.. التفتوا! لنفس ذلك السبب يكون الشيء الذي يأمرنا به معصوماً أيضاً، لا يكتنفه الخطأ، ويكون ذلك الأمر موافقاً لمصلحتنا؛ سواءً علمنا في هذه الحالة بمصلحتنا أم لم نعلم. إذ من الممكن أن لا نعلم، فليكن ذلك! وما هو الإشكال فيه؟ فما الذي نعلمه نحن؟ ما الذي ندُركه من مصالحنا؟ وبما أنّنا نعلم بأنّ هذا الإمام معصوم، نقول له سمعاً وطاعة، وانتهى الأمر.. سمعاً وطاعةً! لأنّ حقيقة كلامه، ما هي؟ أنّه كلام معصوم ولا يكتنفه الخطأ. والعقل يحكم والفطرة تدلّ على أنّ طاعة كلّ شخص ـ سواءً كان نبيّاً أو إماماً ـ يكون كلامه مؤدّياً إلى تحقّق مصلحتنا ـ بأيّ طريقة علمنا بذلك ـ هو أمر واجب كيفما كان ذلك الشخص. فما هو الملاك؟ هو المطابقة للواقع.
ضرورة اتباع العالم والأعلم
ما الذي قاله النبي إبراهيم لعمّه آزر؟ قال: {إِنِّي قَدْ جاءَني مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأتِكَ فَاتَّبِعْني}! وحينئذٍ، {أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا}۱ قال أنا أمتلك حقيقةً أنت محروم منها، والله حباني بعلم لم يُعطك إيّاه. حينئذٍ يقول له عمّه أنت ابن أخي، وعندما كنتَ فرخاً صغيراً أنا الذي ربّيتك! فتأتي الآن لتأمرني؟ فيردّ عليه: سواءً كنت فرخاً أم صرت ـ فرضاً ـ ديكاً! أو صرت شيئاً آخر! لكن يبقى أنّه أنا الذي أمتلك هذا العلم فعلاً. وأنا الذي أمتلك هذا الاطّلاع، وأنا الذي أحسّ بوجود مصلحة معيّنة، ووجود واقعيّة معيّنة، وأنت فاقد لذلك الإحساس، وذاك الاطّلاع والعلم. حسنٌ جدّاً، فالعقل والفطرة وماذا أيضاً؟ الضمير الجماعي.. يقول: عليك أن تمتثل، ولا فارق في الأمر، وإلاّ فما هو الفارق؟
لنفترض من باب المثال أنّ شخصاً وصل إلى مرحلة الاجتهاد وإصدار الفتوى، فماذا يكون موقف أبيه بالنسبة إليه؟ تقليده. حينئذٍ، إذا قال له: أنت من الأساس قد وُجدت منّي أنا! وتأتي الآن لكي تُعلّمني التكاليف؟! يا أبي، مسألة أنّي قد وُجدتُ منك في محلّها، ولا كلام لي حولها! إنّما الكلام هو حول الاطّلاع والعلم بمسألة يعتريك النقصان والضعف تجاهها. فإظهار الاحترام لك في محلّه، ويدك أقبّلها، إذ ينبغي تقبيل يد الأب وإبداء الاحترام تجاهه أيضاً، لكن في نفس الوقت يلزم إطلاعه على تكليفه. تكليفك هو هذا، فما هو الإشكال في الأمر؟ نظير أن نفترض أنّ أحد الآباء أُصيب بالمرض، وابنه طبيب أو جرّاح وأمثال ذلك... فيقول له: ماذا! أنت وُجدت منّي أنا، وتُريد الآن إجراء عمليّة لي أنا؟! حسناً، إذا لم تكن ترغب في إجراء العمليّة، فما الذي سيحصل لك؟ ستموت! في هذه الحالة، هل لأنّني ابنك يجعلك ذلك لا تُرتّب الأثر على علاجي؟ أنا تعلّمت شيئاً لم تتعلّمه أنت. هذه المسألة هي كذلك! ولا فرق بينهما أصلاً؛ سواءً كان ابناً أو أيّ شيء آخر. هل هذا واضح؟ {إِنِّي قَدْ جاءَني مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ} إنّني أنهل من علم لا تنهل منه أنت. {فَاتَّبِعْني}، ولهذا السبب {فَاتَّبِعْني}، عليك أن تتّبعني. وعليه، ما هو المسوّغ في الاتّباع؟ هو الإحساس والشعور، وليس بسبب أنّني ابن أخيك. فإذا كانت مسألة ابن الأخ هي لاختلفت المسألة؛ نظير مسألة أبي بكر، حيث كتب رسالة إلى أبيه مفادها: لقد بايعني الناس ووصلت إلى سدّة الخلافة لأنّني أكبرهم في السنّ، وأسنّ الصحابة. فردّ عليه قائلاً: أنا أسنّ منك! أنا أبوك، وإذا كان المدار في الأمر على الكبر في السنّ وغير ذلك، فينبغي أن أكون أنا الخليفة لا أنت! لنفترض أنّك أتيت وقمت بكذا وكذا! وأخذت الخلافة غصباً وقمت بكذا! فهذا الكلام لا ينسجم مع العقل والفطرة. وقد ردّ عليه أبوه، وقال له: إذا كان المدار في الأمر على السنّ، فأنا أبوك! ينبغي أن أكون أنا الخليفة! هل هذا واضح؟ فأُسقط بين يديه وأُدين في نفس تلك اللحظة. وقد جاء النبيّ إبراهيم بنفس هذه المسألة العقليّة والفطريّة وطرحها على عمه. يقول: أنا لا شغل لي بالرسالة، ولا شغل لي بالنبوّة، غير أنّني أمتلك اطّلاعاً أكثر منك.
والآن تذكّرت أمراً، ومن الجيّد أن أقوله للرفقاء. عندما كان المرحوم العلاّمة يكتب حول معرفة الإمام، وأنّه ينبغي على الناس أن يتّبعوا الإمام بسبب أعلميّته، فقد استدلّ بهذه الآية الشريفة ـ في كتاب معرفة الإمام، لكنّي لا أعلم في أيّ مجلّد بالضبط، فليراجع الرفقاء ذلك ـ بنفس هذه الآية المرتبطة بحضرة النبيّ إبراهيم: {إِنِّي قَدْ جاءَني مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْني أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا}. من هنا يُعلم أنّ مرجع التقليد يجب أن يكون هو الأعلم لكي يستطيع الإنسان تقليده، وأنّ تقليد المرجع غير الأعلم حرام.. من نفس هذه الآية.. يجب أن يكون هو الأعلم. وقد كتب هذه المسألة على شكل رسالة، وبعثها إلى المرحوم العلاّمة الطباطبائي رضوان الله عليه عندما كان على قيد الحياة. ثمّ ضرب مثالاً بعد ذلك.. نعم ضرب بعض الأمثلة.. غير أنّي لا أتذكّرها، ويوجد مثال أو مثالان في نفس تلك الرسالة. قام المرحوم العلاّمة الطباطبائي بإيراد إشكال على هذا البيان الذي قدّمه المرحوم العلاّمة الطهراني، وقد اطّلعت على رسالته، فكان استدلاله يبتني على مسألة أنّ هذا المطلب لا ينسجم مع ما هو متعارف بين الناس. فنحن نرى بأنّ الناس لا يتعاطون مع مسألة الأعلميّة بنفس الحساسيّة التي تُبدونها أنتم، ويرون بأنّ مجرّد العلم يكفي في الاتباع. ثمّ ضرب مثالاً بعد ذلك، فقال: لنفترض أنّ أحد الأشخاص أُصيب بالمرض، فحينما يُصاب الإنسان بالمرض، يذهب إلى الطبيب الذي يعرفه، ولنفترض أنّه طبيب جيّد وقابل للاعتماد وموضع ثقة، فإنّه يقوم بمراجعة نفس هذا الطبيب، ويأخذ منه وصفة الدواء، لا أنه يُضيّع وقته في البحث عن أفضل طبيب أخصّائي في المدينة، لا! أو لنفترض أنّ شخصاً يُريد أن يضع أبواب ونوافذ لمنزله، فلن يلجأ إلى التجوال في كافّة أرجاء مدينة طهران هذه لينتخب النجّار الأفضل والأدقّ والأمهر من الجميع، بل يكتفي في بحثه بذلك المقدار الذي يعثر فيه على شخص عملُه جيّد وسليم وأمثال ذلك، فيرجع إليه ليُنجز له عمله. وعليه، لا نستطيع أن نستدلّ بهذه الآية على وجوب رجوع الإنسان إلى الأعلم في التقليد والمرجعيّة.
حكم العقل باتباع الأعلم يشتد كلما كانت المسألة أهم
والظاهر ـ بحسب ما أذكر ـ أنّ المرحوم العلاّمة الطهراني قد أورد مسألة المرحوم العلاّمة الطباطبائي في حاشية أحد أجزاء معرفة الإمام. غير أنّنا إذا دقّقنا في الأمر، سنكتشف بأنّ كلام المرحوم العلاّمة الطباطبائي لا يخلو من إشكال. لماذا؟ لأنّه حينما يقول بأنّ الإنسان لا يُبدي درجة عالية من الحساسيّة والتردّد عند مراجعته للطبيب، فإنّه من اللازم علينا أن نرى في أيّ مرض، وفي أيّ مرتبة من المرض والألم يُراجع هذا المريضُ الطبيب. فأحياناً، قد يُصاب الإنسان بألم الرأس، فيحتمل أن يكون ذلك بسبب التعب، أو ـ فرضاً ـ من الإفراط في الأكل ـ لأنّ الإفراط في الأكل يُسبّب أيضاً ألماً في الرأس، فأحد الآثار التي تنتج عن الضغط الوارد على الحجاب الحاجز من المعدة هو ألم الرأس ـ أو من الزكام، أو أيّ شيء آخر، فيقوم ذلك الشخص بمراجعة أحد الأطبّاء. وأحياناً أخرى، لا، حيث تُطرح احتمالات أخرى في المسألة، ويكون مستوى المرض مختلفاً، ومرتبته مختلفة، وكيفيّته مختلفة. فإذا فرضنا أنّه ذهب عند ذلك الطبيب الذي أمره بالتقاط صور أشعّة، فالتقطها له، واحتمل وجود بعض الأشياء الخطيرة، فهل سيقوم في هذه الحالة أيضاً بمراجعة طبيب الحيّ؟ أم أنّه سيبحث هناك ويسأل: يا سيّدي، من هو أفضل أخصّائي في هذا القسم؟ من هو أفضل أخصّائي في أمراض الدماغ والأعصاب؟ فيقولون له: يا سيّد، عليك أن تنزع هذه الكتلة الورميّة والغدّة السرطانيّة وأمثال ذلك. ففي تلك الحالة، لن يذهب ـ من باب المثال ـ عند طبيب جراحة عامّة ليقول له: تعال يا سيّدي لكي تجري لي عمليّة جراحيّة في الدماغ، بل يذهب عند الأخصّائي في ذلك المرض. فيقولون له إنّ السيّد الفلاني هو أخصّائي ـ مثلاً ـ في أمراض الدماغ والأعصاب، فيقول: لا، هذا لا يكفي، بل أريد ذلك الطبيب الأفضل والأكثر كفاءة.. أليس الأمر كذلك؟ وهل لناس يتصرّفون خلاف ذلك؟ لا، بل يعملون وفقه. وهذا هو عين كلام المرحوم السيّد الوالد، والمسألة ـ إذن ـ هي بهذا الشكل. لذا ينبغي علينا أن نرى في أيّ مورد يصدق ما قاله المرحوم العلامة، فنحن على هذه الشاكلة أيضاً، والكلّ كذلك أيضاً.
فحينما يقوم الإنسان بالرجوع إلى شخص معيّن، فإنّ أداءه لذلك العمل يكون من أجل رفع حاجاته الخاصّة، علماً أنّ الحاجات متفاوتة في حدّ ذاتها أيضاً، فلا يوجد لدينا حاجيات متساوية، بل الاحتياجات مختلفة، كما أنّ مستوى الحاجة يختلف. فمن باب المثال، قد ترغبون في بعض الحالات باقتراض عشرة آلاف تومان أو مائة ألف تومان من أحد البنوك, فتستطيعون أن تأخذوا هذا المبلغ من المصرف الموجود على رأس الشارع. بينما قد ترغبون في حالة أخرى في اقتراض مائة مليون تومان, فتقولون لا، عليّ أن أراجع ذلك البنك المتواجد في منطقة أبعد شيئاً ما. وفي حالة ثالثة، قد ترغبون في اقتراض مائة مليار تومان من أحد البنوك! ففي مثل هذه الحالة، لا ينفع الذهاب إلى بنك الحيّ أو البنك المتواجد داخل الشارع، بل يقتضي الأمر أن تذهب إلى المقرّ الرئيسي وتصحب معك جميع الوثائق اللازمة. فلكلّ مقام مقال، وعليك أن تعرف مقدار حاجتك. فإذا كان مقدار حاجتك هو مائة ألف تومان، يكفيك حينها الفرع المتواجد على رأس الشارع.
أمّا إذا كان احتياجك ـ ما شاء الله ـ غير محدود! أي أنّه لا حدّ لحاجتك؛ نظير إطلاق الحقّ سبحانه! وتكون حاجتك مطلقة.. فحينئذٍ، ما الذي عليك فعله؟ عليك أن تتعلّق بأذيال الكرام الكاتبين! حسناً، هذه المسألة تكون أيضاً بهذا النحو، حيث أنّ درجة احتياج الإنسان إلى المعالجة تكون مختلفة، وتمتلك عدّة مستويات مختلفة. ومسألة ائتمان شخص معيّن على الدين والدنيا ليست مسألة ألم ووجع في الرأس.
هذا ما أراد المرحوم الوالد أن يقوله للعلامة الطباطبائي، وأنّه إذا ما أراد شخص أن يقلّد شخصاً آخر, فإنّه يأتمنه على دينه. وهذا ليس مجرّد ألم في الرأس ينقضي بالذهاب إلى أوّل الشارع وإحضار قرصي استامينوفين أو تناول قرصي بروفين، وانتهى الأمر! فهذه المسألة هي مسألة حيويّة.. هي مسألة حياة أو موت.. هي مسألة الخسارة أو الفلاح الأبدي. وليست المسألة بهذه البساطة! يا سيّدي، ممّن نأخذ؟ اذهب عند ذلك السيّد، فهو لا يتشدّد كثيراً! اذهب عند ذلك الشخص وقم بالأمر الفلاني، اذهب عند الآخر، وعند الآخر! إنّ السعادة الأبديّة رهينة بهذا الأمر، كما أنّ الخسران الأبدي رهين بهذه المسألة. فالدين والتكاليف التي يقوم بها الإنسان ليست هراءً وأمراً هيّناً. وعلى كلّ حال، بالنظر إلى هذه المسألة، يكون الكلام الذي يقوله رسول الله والإمام المعصوم عليه السلام هو عين المصلحة بالنسبة للإنسان. هل هذا واضح؟ وعندئذٍ، ليكن ذلك الكلام ما شاء أن يكون، فلا فارق في الأمر بعد ذلك؛ لأنّ محلّ الكلام هو في أنّ النبي معصوم والإمام أيضاً معصوم. وأمّا بالنسبة لبقيّة الأشخاص، إذا أمروا الإنسان بشيء، هل يجب عليه طاعتهم في ذلك؟ كلاّ! فذلك ليس لازماً! بل عليه أن يُفكّر، ويرجع إلى أهل الخبرة. يا سيّد تعال وألق بنفسك من قمّة الجبل إلى الأسفل! كلاّ المسألة ليست كذلك! من قال هذا؟ لو كنتَ صادقاً في ما تقول، فألق بنفسك أنت إلى الأسفل! لماذا أُلقي بنفسي أنا؟!
ينبغي إطاعة من يوصل إلى الله فقط
لقد قام الحسن الصبّاح بتربية مجموعة من الأشخاص، ولكنّ تربيته لم تكن تربية إنسانيّة, بل كانت تربية حيوانيّة. كانوا حيوانات! حيوانات بكل معنى الكلمة! كان يربّيهم مستعيناً ببعض الآداب الخاصّة والشروط الخاصّة والمسائل الخاصّة. فبإشارة واحدة منه فقط، كان يقوم [التلميذ] باستلال الخنجر ثمّ يطعن به نفسه. لقد كانوا فدائيّين، أي فدائيّون للإسماعليّة والصباحيّة. ذات يوم، جاء رسول خليفة بغداد إلى قلعة ألموت. وخلاصة القول، أنّه شرع بالتهديد واستعراض القوّة، وأنّنا سنقوم بالأمر الفلاني وينبغي عليك أن تستسلم وغير ذلك. فأمسك الصباح بيده وذهب به إلى أعلى الجبل.. إلى قمّة جبل ألموت ـ ففي سالف الأيّام والزمن السابق، ذهبت ذات مرّة إلى قلعة ألموت تلك. وقد كانت تقع على شفا واد سحيق.. فقلاع ألموت وقلاع الصباحيّة مشهورة جدّاً ـ أخذه إلى هناك، وقال له تعال لأُريَك شيئاً. بعد ذلك، أشار إلى عضوين من فدائيي الإسماعيليّة، فجاء اثنان من هؤلاء الفدائيين، ثمّ أشار إلى أحدهما, فألقى بنفسه من الأعلى، فانفجر رأسه ومات. هذا بالنسبة للأوّل. ثمّ أشار بعد ذلك للثاني، فرفع خنجره وطعن به نفسه, وسقط بدوره في الجانب الآخر. ثمّ قال للرسول: امض إلى خليفة بغداد وأخبره بأنّي سآتيه بمثل هؤلاء الأشخاص! حسناً، ماذا كان يفعل ذلك الشخص [الحسن الصبّاح]؟ كان يحمل الناس على طاعته، ولكن هل كانت هذه الطاعة طاعة واقعيّة؟ هل كانت لمصلحتهم؟ وهل كانت بنفعهم وصلاح أمرهم؟ كلاّ! كانت طاعة حيوانيّة! فقد سخرّ عقلوهم وأدمغتهم لخدمته، وكانوا يقومون بهذه المسائل أيضاً لأجله. وكانت مثل هذه القضايا موجودة على الدوام.
لكن الطاعة يجب أن تكون للإمام عليه السلام بدل أن تكون للحسن الصبّاح، هذا في حالة ما إذا كان الإمام عليه السلام موجوداً، أو كان النبيّ موجوداً. ففي هذه الحالة، ماذا على الإنسان أن يفعل؟ عليه أن يقفز برأسه للأسفل. المسألة حينئذٍ تكون مختلفة, فمن هو هذا؟ هذا إمام. فكلاهما فعل واحد.. كلاهما قفز إلى الأسفل، إلاّ أنّ هذا في طاعة الحسن الصبّاح، وذاك في طاعة من؟ في طاعة الإمام الصادق! هذا حرام ويستوجب دخول جهنّم والخلود فيها، وذاك ماذا؟ جنّة ورضوان ومراتب التجرّد والخلود في الأنوار الإلهيّة. نظير حادثة كربلاء.
ما الذي جرى في كربلاء؟ ماذا فعل حبيب بن مظاهر؟ وهل قام بغير هذا؟ لقد جعل صدره درعاً واقياً في مقابل السهام والسيوف. وكذلك أبو الفضل العبّاس, ما الذي قام به؟ لقد قام بهذه الأعمال أيضاً. وماذا فعل مسلم بن عوسجة؟ لقد قام بنفس هذه الأعمال. لقد قدّموا أنفسهم فداءً للإمام, في الوقت الذي كانوا متيقّنين بدرجة مائة بالمائة بأنّه لا يوجد احتمال ولو بدرجة واحد بالمليون ببقائهم على قيد الحياة. هذا مع أنّ الإمام كان قد أراهم جميعاً في الليلة السابقة درجاتهم ومقاماتهم، وأين يكون هذا وأين يكون ذاك؟ وفي أيّ حالة وفي أيّ منزلة يكون كلّ واحد منهم؟ لقد كان لديهم قطع ويقين بأنّهم سيهلكون جميعاً، فلماذا ذهبوا وأهلكوا أنفسهم؟ ألا يُعدّ ذلك حراماً؟ ألم نقرأ في القرآن: {ولا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة}۱ وغيرها من الآيات؟ لماذا إذاً؟ لأنّه أمر الإمام! فالمحافظة على الإمام أمر واجب.. فهذا لم يعُد يصدق عليه أنّه تهلكة! وعلى حدّ قول مولانا: هذا ليس تهلكة..
*** | ………………………نهي لا تلقوا نگيرد او بدست٢ |
وهو لم يعُد يصدق عليه أنّه تهلكة، بل هذا هو عين النجاح والفلاح. فبدل أن يأتي الفيروس ويطرحه أرضاً, فإنّه يستشهد في سبيل الإمام عليه السلام. وعوضاً عن أن يأتيه الميكروب والطاعون فيقضيا عليه, يأتي ليصل إلى هذا الفلاح والنجاح بواسطة السهام والسيوف. وبدل أن يسقط الطوب من السقف على رأسه, يُؤدّي هذا العمل من خلال طاعته لأمر الإمام ولأجل الحفاظ على أهل بيت رسول الله. فأيّ سعادة تكون أعلى من ذلك؟ هل هذا واضح؟ عندئذٍ، لو كان الأمر كذلك، هل نستطيع القول بأنّ الأمر الذي يُصدره النبي ولا يكون الإنسان قادراً على امتثاله.. لقد ذكرنا سابقاً بأنّه عبث. فهذا عبث ولغو، ولم يقم الرسول ولا الإمام ولا الله سبحانه وتعالى في أيّ وقت من الأوقات بإصدار أمرٍ لا يكون داخلاً تحت قدرة واستطاعة الإنسان، ولن يُقدموا على فعل ذلك أبداً. حسناً، هذا الأمر محفوظ في محلّه.
ضرورة اتباع النبي والإمام وإن كان كلامهما مخالفاً لظاهر الشريعة
لكنّ الكلام الآن هو حول: لو أقدم رسول الله على إصدار أمر أو نهي، وفي نفس الوقت كانت شريعتُه وديانتُه بنفسها قد خالفته في هذا الأمر أو النهي, فهل يلزم علينا امتثاله أم لا؟ ماذا؟ حسناً، علينا أن نمتثل! لماذا؟ لأنّ محلّ الكلام هو أنّ كلّ ما يأمر به رسول الله هو عين المصلحة.. وكلّ ما يأمر به الإمام عليه السلام هو عين المصلحة. وعندما يصير الأمر هو عين المصلحة, ماذا تُصبح طاعته؟ تصبح واجبة. وأمّا إذا لم يوجد أمرٌ في البين، فينبغي علينا أن نعمل بذلك الحكم الكلّي. ولكن عندما يُصدر الإمام أمراً, فما الذي يعنيه ذلك؟ يعني ـ باصطلاح أهل الفنّ ـ أنّ هذا الأمر "يَرِد" على ذلك الحكم الشامل والعامّ للجميع، فيُنحّيه جانباً, ليستقرّ هو في هذا الموضع. فماذا يكون هذا إذاً؟ يكون "وروداً". فلا يكون "حكومة", بل يكون "وروداً". يعني أنّ تلك المصلحة التي تقتضي ـ من خلال ذلك التكليف والحكم الكلّي ـ أن أقوم أنا المكلّفُ بذلك الفعل تتنحّى جانباً، لتعوّضها مصلحة أخرى بالنسبة لي، وتكون هذه المصلحة فوق تلك المصلحة الأولى.
وحينما يصير الأمر ذا مصلحة، فإنّ الإنسان يصير مُلزماً بامتثاله؛ لأنّه واجب. ومحلّ الكلام هو أنّه ما الذي ينبغي فعله قبال الأمر الذي يكون ذا مصلحة مُلزمة؟ حتماً يجب امتثاله. وهنا نُشاهد في العديد من الموارد صدور عدّة أحكام من الرسول والأئمّة تتعلّق بالأشخاص، والحال أنها تكون مخالفةً للحكم العامّ.
نماذج من مخالفة النبي لظاهر الشريعة: تزويج زينب بنت جحش من زيد بغير رضاها
ومن بين هذه الموارد ـ وكنت قد أشرت إليها في جلسة سابقة ـ هناك مسألة زواج زينب بنت عمّة الرسول.. زينب بنت جحش. وقد ذكرت في ذلك المجلس بأنّ الزواج يجب أن يكون عن طيب خاطر وبرضا البنت، أما إذا كان عن إكراه، فإنّ العقد باطل. وهذا حكم عام، فالزواج عن إكراه هو زواج باطل؛ بمعنى أنّه إذا جاء شخص ـ مثلاً ـ وزوّج ابنته لشخص آخر بالإكراه، فإنّ العقد يكون باطلاً، ولا كلام حول هذا الأمر. فإذا كان العقد في هذه الحالة باطل. إذاً كيف يأتي الرسول ويأمر زينب بالزواج من زيد، وتنزل ـ على أساس ذلك ـ آية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَة}۱. أفليس الزواج هو حقّ قانوني وفطري وعقلي وشرعي واجتماعي ـ سمّوه كما يحلو لكم ـ للإنسان! فقد أرغب في الزواج، وقد لا أرغب فيه، وأنا أملك الحريّة في الاختيار بالنسبة للزواج، ولا أحد يُمكنه إجباري في ذلك. وحريّة الزواج هو حقّ قانوني، فطري، شرعي، عقلي، ثابت بالمحكمة والقضاء ـ ما شئتم فعبّروا ـ وهو حقّ ثابت لكلّ شخص. لماذا إذاً يقول الله بأنّ هذه الحريّة يجب أن تُسلب هنا؟ {وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ}. لا يحقّ لك ذلك! لا يحقّ لك ذلك من الأساس، وهنا لا يوجد موضع للسؤال والتساؤل. فحينما يقوم الرسول بأمر.. {إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ}.. الله والرسول، لاحظوا! الله والرسول.. عندما يقوم الله والرسول بإصدار هذا الحكم، فلن يبقى لكم أيّ اختيار بعد ذلك. وبناءً عليه، مثلما أنّ الله تعالى جعل ـ في ذلك الحكم الكلّي ـ الاختيارَ شرطاً لصحّة الزواج، فإنّ هذا الإله بعينه، وبنفس هذه الخصوصيّات، وبنفس هذا العلم والقدرة والحياة والرأفة والرحمانيّة والخالقيّة وجميع الأمور المرتبطة به.. نفس هذا الإله ـ وليس إله آخر ـ قد سلب هذا الاختيار في هذا المورد. حسناً، ما هو الإشكال في ذلك؟ لا إشكال فيه. فما الذي سيحصل إذن؟ كلاهما يصير شرعاً وتشريعاً؛ فذلك التشريع يُعطي الاختيار، وهذا التشريع يسلب هذا الاختيار، وكلاهما يصدران عن الله. وعليه، كيف يقولون بأنّه لا يستطيع؟ وقد أشرت إلى ذلك في الجلسات السابقة.. يا سيّدي، أفهل يُمكن للإمام ـ فرضاً ـ أن يُجبر شخصاً على الزواج؟ أفهل يستطيع الإمام أن يُجبر شخصاً على تطليق زوجته؟ لقد ذكرت ذلك في المرّة السابقة! حيث كان يقول ذلك الشخص: يا سيّدي، إنّ الشيخ الفلاني بائع اللبن لا يُمكنه التفوّه بمثل هذه الكلمات، فما بالك بالإمام المعصوم أن يأتي ويقول طلّق زوجتك؟ أجل! ما المانع من ذلك؟ فنفس الإله الذي يقول بأنّ الطلاق يجب أن يكون عن رضا واختيار وليس عن إكراه، وبأنّ كل طلاق وقع عن إكراه ـ كأن يتم تهديد الإنسان (فرضاً) بأن طلق زوجتك، وإلا سنفعل لك كيت وكيت.. وإلاّ فإنّنا نُهدّدك بفعل الأمر الكذائي ـ فهو طلاق باطل، ولا يُمكن لأيّ أحد أن يُقدم على الزواج من هذه المرأة، وإذا ما أقدم على ذلك، سيُعدّ زنا، بل زنا محصنة. لماذا؟ لأنّها لا زالت في حبالة وطوق زواج آخر، ولم يحصل أيّ انفصال، ولم يُجر أيّ عقد، ولم يتمّ أيّ طلاق؛ لأنّه محرّم. هل هذا واضح؟ حينئذٍ، إذا كان حراماً، فإنّ العقد الجديد الذي يُبتنى عليه سيكون بدوره محرّماً. وعليه، فإنّ نفس ذلك الذي يقول بلزوم أن يكون الطلاق عن رضا (وإلاّ فهو باطل)، فإنّه يأتي ويقول بنفسه: يا عزيزي، أنا هو الذي يقول.. لا أعلم كيف أعبّر عن ذلك.. يا عزيزي، أنا الله ـ الذي يقول بأنّ هذا الطلاق باطل ـ أقول بنفسي بأنّه صحيح في هذا الموضع، وانتهى الأمر! تقول: ما هو السبب في ذلك؟ يقول: السبب في ذلك لا يرتبط بك! ولا علاقة لك به! فقد تقرّر أن لا يكون لنا اطّلاع على المصالح والمفاسد، وإلاّ لو كان لنا اطّلاع عليها، لكنّا أنبياء، بينما نحن ماذا؟ نحن مكلّفون وعبيد. فإذا قال الله تعالى في هذا المورد: طلّق، فلا مانع من ذلك.
أمر النبي إبراهيم ابنه إسماعيل بطلاق زوجته
يا سيّدي، وهل حصل فعلاً نظير لهذا الأمر؟ نعم، حصل! فقد ورد في الروايات بأنّ حضرة إبراهيم عليه السلام أمر ابنه إسماعيل بأن يُطلّق زوجته، وينتخب بدلها زوجةً أخرى؛ وهذا هو الدليل على ذلك. وبناءً على أمر النبي إبراهيم، قام النبي إسماعيل بتطليق زوجته الأولى. لماذا؟ لأنّ إبراهيم نبيّ، ولا علاقة للمسألة بكونه أباً. ففي هذه الحالة، إذا قال الأب لابنه ـ لقد حصل ذلك فعلاً! وهي من المسائل المبتلى بها كثيراً، حيث يقوم الأب بإجبار ابنه على تطليق زوجته ـ إمّا أن تُطلّق أو لا تأتي إلى منزلي أبداً.. فلا يجوز للابن أن يُطلّق. ولماذا يُطلّق؟ من قال ذلك؟ من قال بأنّه مجبور على الطلاق؟ من قال أنّه مُلزم هنا بالامتثال لكلام أبيه؟ أو أن تقول الأمّ ـ وقد شاهدنا الكثير من هذه الحالات ـ سوف أَعُدُّك عاقّاً لي إن لم تُطلّق زوجتك هذه. لقد أخطأتي بكلامك هذا أيتها المرأة! هل الدنيا فوضى؟! لقد تزوّج، وأجرى العقد، وضمّ مظلومةً تحت حباله، وهما يُحبّان بعضهما البعض، ويعشقان بعضهما البعض، وقد قاما ببناء حياة مشتركة، فلماذا تأمرينه بالطلاق؟ لا يوجد أيّ مبرّر لأن تقولين له: طلّق وإلاّ اعتبرتك عاقّاً. اعتبريه كذلك! اعتبريه ما شئتِ، فإنّ المطر لا يهطل عند دعاء ناكر الجميل! لكن لا يجوز لها ذلك؛ لأنّ الله تعالى جعل حدّاً للمسألة، وينبغي التحرّك في إطار ذلك الحدّ، من دون الميل إلى هذا الجانب ولا إلى ذلك الجانب. وإذا ما تحدّثتُ حول هذه المسائل، فلأنّني مبتلى بها! هذا يقول هذا الأمر، وذاك يقول ذلك الأمر، مع أنّ هذا الكلام بأجمعه مخالف للشرع ومحرّم. فلا يحقّ للأب أو الأمّ ذلك. نعم، عندما يكون ذلك مبتنٍ على بعض المسائل والقضايا والمطالب غير المشروعة، فإنّ الأمر هنا يختلف. أو بالعكس، أن يقولوا للبنت ـ مثلاً ـ عليك أن تحصلي على طلاقك من زوجك.. لا يُمكن التفوّه بمثل هذه الكلمات! أمّا إذا أمر النبي إبراهيم بذلك، فماذا يكون الموقف حينئذٍ؟ يجب الامتثال! إذا قال الرسول ذلك، يجب الامتثال، فلا يفرُق الأمر عندئذٍ. فهنا يوجد نبيّ، وهنا يوجد إمام، وكلام الإمام هو كلام رسول الله، وكلام رسول الله هو كلام الله. وبالنسبة إلى كلام الله، تكون الطاعة واجبة ولازمة. هل هذا واضح؟ فهذه المسألة هي إحدى موارد الآية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ...}.
التفتوا، فهذه المطالب هي مطالب دقيقة جدّاً، وتحلّ كثير من المسائل بالنسبة للإنسان؛ حيث تفتح له هذه المسائل وهذه المطالب، وتُحرّر الفكر الإنساني ـ بالنظر إلى الدين والشريعة ـ من هذا التحجّر والجمود والتظاهر بالقدسيّة! تُحرّر الإنسان وتُطلق سراحه، وتُحلّق به في السماوات. فيُدرك ـ ويا للعجب ـ كم هو حرّ، لكنّه وضع القلادة في عنقه وسلّمها من دون مبرّر إلى شخص غبيّ! فنحن قد وضعنا القلادة في أعناقنا، وبلونا أنفسنا، وقضينا على حرّيتنا وفكرنا واختيارنا. وأمّا إذا سلّم الإنسان إرادته واختياره إلى الإمام الحسين، وسلّم إرادته واختياره إلى الإمام الصادق، فهل يعني ذلك ممارسة الضغط وتضييق الخناق؟ إنّه يعني التحرّر! فإن كنت صادقاً فيما تقول، فخذ اختيارك بيدك، ولا تُسلّم إرادتك إلى من هو مثلك! لا تُسلّمها إلى من يفرضون أمورهم على أساس الذوق الشخصي، بل سلّمها للإمام المعصوم، وأودعها بيد وليٍّ يكون كلامه كلام حقّ ومطابق للواقع ومتّصل بالغيب. هذا يكون تحرّراً واختياراً حقيقيّاً. هذه هي حقيقة المسألة.
قصة أمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل
من بين الموارد التي نُلاحظ فيها صدور أمر من الرسول أو النبيّ يكون مخالفاً لذلك الحكم الكلّي والتكليف الشامل هي قصّة إبراهيم على نبيّنا وآله وعليه السلام. عجيبةٌ هي آيات القرآن.. لماذا يُبيّن لنا القرآن هذه المطالب؟ هل يريد أن يقصّ علينا ذلك؟ لماذا يذكر لنا القرآن بأنّ النبي إبراهيم قال لابنه: {إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}۱؟ يذبح من؟ يذبح النبي إسماعيل، لا أحد المجرمين أو القتلة أو مهدوري الدم. فما هو الذنب الذي ارتكبه النبي إسماعيل حتى يكون النبي إبراهيم مُلزماً بذبحه؟ فهو لم يقُل بأنّي رأيت في المنام بأنّي أتظاهر بالذبح، بل أذبحك! أقطع رأسك! فما معنى هذا الكلام؟ يضع رأسه في هذه الناحية، ويضع بدنه في الناحية الأخرى! هكذا تفيد كلمة {أَذْبَحُكَ}. حينئذٍ، نأتي ونأوّل ونبرّر.. لا يا عزيزي، أذبحك بالسكين! وأنتم تعرفون بالطبع ما هو السكين! فلا يوجد أيّ توافق وانسجام بين السكين والرقبة. ومن باب الاتّفاق، فإنّهما ينسجمان مع بعضهما البعض!
هذا هو السكّين، وهذه هي الرقبة. أنّي أذبحك. ومن تراه يقوم بذلك الفعل؟ إنّه رسول الله الذي يقوم به.. رسول الله الذي ينبغي عليه أن يفوق الجميع في الالتزام بالواجبات، واجتناب المحرّمات، وعدم الإتيان بالمكروهات، وأداء المستحبّات..
في أحد الأيّام، ذهبت مع المرحوم العلاّمة لزيارة أحد علماء قمّ المعروفين ـ وهو لا يزال على قيد الحياة إلى الآن ـ. كنّا جالسين ـ وكان من تلامذة العلاّمة الطباطبائي ـ فقام بمدحه بهذا الشكل: لم يكن يصدر عنه ترك الأولى لا في السرّ ولا في العلن. يعني أنّ العلاّمة الطباطبائي لم يكن يقتصر فقط على الواجبات. لقد كان يسعى ذلك العالم لمدحه بحسب ما يراه، فجزاه الله خيراً. فهو لم يكن يكتفي بأداء الواجبات، وترك المحرّمات، وترك المكروهات، والقيام بالمستحبّات، بل حتّى عندما كان يتعلّق الأمر بالأولويّة بين مسألتين، فإنّه كان يأخذ بالطرف الراجح. وخلاصة القول، أنّه بلغ في المقام والمنزلة والتقوى والجدارة إلى ذلك الحدّ من العلوّ والرفعة. ولمّا خرجنا من هناك، قال لي المرحوم العلاّمة الطهراني: هل هذا يُعدّ مدحاً في حقّ العلاّمة الطباطبائي؟! هل هذا مدح؟! إذا كان العلاّمة الطباطبائي يمتلك مثل هذا الوضع، فما هو الموقف الذي يمتلكه النبي إبراهيم؟ وفي أيّ وضع كان هو؟ وما هي علاقته بذلك؟ أفلا ينبغي أن يكون بنفسه هو أوّل شخص يعمل بالشريعة التي جاء بها؟! ماذا؟ أفلم يكن قتلُ النفس المؤمنة والمحترمة حراماً في شريعة النبي إبراهيم؟ لقد كان ذلك محرّماً منذ البداية. وبحسب ما لدينا في الآيات القرآنيّة، فإنّ هذه المسألة موجودة منذ زمن آدم، وقد كان هذا الحُكم حكماً دائميّاً. لماذا رأى النبي إبراهيم في المنام بأنّه يقوم بالذبح، واعتبر هذه الرؤيا بمثابة حُكم إلهي؟! لأنّه إذا لم يكن حكماً إلهيّاً، فإنّه لم يكن ليُمسك بيد ابنه. إذا كانت تلك الرؤيا شيطانيّةً، وإذا كانت تلك الرؤيا مسبّبةً عن تصاعد بخار المعدة، وإذا كانت تلك الرؤيا مصدرُها الخيالات وغير ذلك.. لما أمسك بيد ابنه وأتى به إلى المذبح في منى. وعليه، فما هي حقيقة هذه الرؤيا؟ لقد كانت وحياً. فلا يخفى أنّ الوحي يحصل في المنام أيضاً ـ كما بيّنت ذلك سابقاً ـ كما يحصل في اليقظة أيضاً. كيف يكون الوحي؟ يكون واجب الطاعة. فلماذا إذن قال الله تعالى بأنّه ينبغي قتل هذا؛ أي النبي إسماعيل؟! فهذا حكمٌ مخالف للشرع. مخالف.. أليس كذلك؟ مَن يمتلك جواباً، فليُعطينا إيّاه! تعالوا إذن وأعطونا جواباً! أفلا يكون قتلُ نفس محترمة ـ فضلاً عن كون هذه النفس هي النبي إسماعيل ـ عملاً محرّماً؟ إنّه عمل محرّم حتماً! لماذا إذن بادر النبي إبراهيم للقيام بهذا العمل المحرّم؟! ولماذا لم يقل لله تعالى: يا إلهي! أنت تقول لنا من جهة بأنّ قتل النفس حرام، ومن جهة أخرى تقول لي ـ فرضاً ـ احمل ابنك واقتله.. فكيف يمكن لهذه المسألة أن تحصل؟ هذا أوّلاً، تعالوا الآن لنتوجّه نحو النبي إسماعيل. أفلم يكن النبي إسماعيل مطّلعاً على شريعة أبيه؟ أفلم يكن عالماً بأنّ قتل النفس حرام؟ لماذا لم يقُل لأبيه ـ والحال هذه ـ بأنّ هذا العمل يتنافى مع ذلك الأمر الذي أتيت به؟ لماذا لم يقل ذلك؟ ماذا قال؟ قال: {يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ}! أنعم به وأكرم، لمثل هذا يُقال له حضرة إسماعيل! ففضلاً عن أنّه لم يقُل أيّ شيء، ولم يُفكّر في الأمر، فقد أحضر إلى ذهنه آية: {وما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ..} يقول له النبي إبراهيم: لقد رأيت في المنام بأنّني أذبحك، أي أنّه قد أُوحي إلي.. {مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}. لا خيار لك! لاحظوا، فأنا أتقدّم شيئاً فشيئاً.. وإلاّ لقال له النبي إسماعيل بأنّ حكمك هذا يتنافى مع ذلك الحكم الكلّي، وبما أنّ يتنافى معه، فهو مردود ومرفوض. وبناءً عليه، فإنّ وحيك هذا ليس وحياً إلهياً، فلو كنّا نحن الفضلاء والطلبة مكان النبي إسماعيل، لحَكَمنا بذلك الشكل.. نعم، لو كنّا نحن في مكانه، لما قال الله تعالى في حقّه: اقض عليه، اقطع رأسه! بل قال ذلك في حقّ إسماعيل الذي يمتثل للكلام.
فالله تعالى يعلم إلى أيّ حدّ نحن متمرّدون، ونأتي في كلّ شيء بالآلاف من التأويلات والتوجيهات، أوه أوه أوه! وهي تأويلات لا تخطر ببال الجنّ، ولا تصل إليها عقولهم، نستنبطها نحن ونضعها للأحكام. فنأوّلها اليوم بشيء، وغداً بشيء آخر. وأمّا النبي إسماعيل، فبمجرّد أن استمع إلى كلام أبيه، حتى قال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ}، أي قم بذلك الشيء الذي أُمرتَ به. ولم يقل: ما رأيتَه في المنام، بل قال: ما أُمرتَ به. افعل! قم بذلك، بل من الواجب عليك أن تقوم به. {قالَ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرين}. فإن شاء الله، لن أعترض عليك، ولن أهرب، ولن أُفلت من بين يديك، وسأصبر، وأتحمّل الألم.
أمر النبي إبراهيم بذبح ولده أمر امتحاني حقيقي لا شكلي
فإذا كان هؤلاء لا يعدّون هذه المسألة بمثابة أمر، وكانوا يعتبرونها مجرّد فيلم سينمائي ـ فلنسمّها في حالتنا هذه فيلماً ـ أو كانوا يحسبونها نوعاً من التظاهر، فلن يكون النبي إبراهيم وإسماعيل قد قاما بشيء مهمّ يستحقّ المدح، ولن يكون للامتثال أيّ معنى! يقولون بأنّ هذه الأوامر هي أوامر امتحانيّة، بمعنى أنّه في الأوامر الامتحانيّة، لا يكون مُراد الله تعالى ـ أو المولى أو أيّ شخص آخر، أو الشخص الأعلى ـ هو القيام بذلك الأمر، بل يكون مراده هو اختبار مدى امتثال ذلك الشخص للأمر. لا يوجد أيّ فارق في المسألة، فالأوامر الامتحانيّة متّحدة مع الأوامر الواقعيّة من ناحية الآثار المترتّبة عليها، ولا يوجد أيّ فارق بينهما من هذه الجهة. لماذا؟ لأنّه إذا كان المخاطَب يعلم بأنّ ذلك الأمر المتوجّه إليه هو شكليّ فقط ولا واقعيّة له، فلن يكون في هذه الحالة للامتثال أيّ معنى. فأي شخص ـ حتى "عمّتي" ـ يمكنه القيام به، والجميع يُمكنهم القيام به، فلن يكون أمراً مهمّاً يستحقّ المدح عندئذٍ. حسناً، إذا كان يُمكنهم القيام به، فإنّه سيخرج عن كونه أمراً امتحانيّاً، ونقع في التناقض. وعليه، فإنّ الأمر الامتحاني إنما يكون بشكل الأمر الواقعي... يقولون بأنّ هذه الأوامر هي أوامر امتحانيّة، فلتكن كذلك! فهل كان النبي إبراهيم على علم بأنّ الله تعالى قد جعل هذا الأمر امتحانيّاً؟ كلا لم يكن يعلم بذلك، وإلاّ لو كان يعلم، فلن يكون قد أتى بفعل يستحقّ المدح. حسناً، فحتى أنا أستطيع أن أخرج السكين وأذبح به عندئذٍ؛ لأنّني أعلم بأنّ الأمر امتحانيٌّ، وأنّ السكين لن يذبح. حيث سيقول السكين: الخليل يأمرني والجليل ينهاني، أي أنّ الخليل يقول لي اذبح، والجليل تعالى يقول لي لا تذبح. وعليه، إذا كنت أنا عالماً بالأمر، فإنّني أستطيع أن أحمل السكّين آلاف المرّات وأسحبه وأقوم بالأمر الكذائي، وأصبح بنفسي مثل النبي إبراهيم.. فالقرآن يقول: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}.. إماماً! غير أنّ هذا الإمام لن يكون إماماً حقيقيّاً. فالإمام الذي يقوم انطلاقاً من الأوامر.. ويعلم أنّ هذه الأوامر شكليّة وأنّ السكّين لن يذبح، فإنّه في الحقيقة لم يمتثل. وعليه، حتى لو افترضنا بأنّ هذه الأوامر هي أوامر امتحانيّة، فلن يوجد بينها وبين الأوامر الواقعيّة أيّ فارق من ناحية ترتّب الآثار. ولو كان النبي إبراهيم على علم بأنّ هذا الأمر امتحانيٌّ وأنّ السكّين لا يذبح، فلن يكون في هذه الحالة قد أتى بشيء جديد، ولن يكون قد فعل ما يستحقّ عليه المدح. إذ جميع الناس في العالم يقومون بهذا الفعل، وهو ليس بالأمر المهمّ. تفضّل! فأنا أيضاً أحمل هذا وأفعل هكذا وهكذا، فهل أصير أنا بذلك النبي إبراهيم، وأصير إماماً؟! ومخاطباً بالآية {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}. فهذا لا يذبح، وكذلك الآخر لا يذبح.
ومن ناحية أخرى، لو كان النبي إسماعيل يعلم أنّ هذا الأمر امتحانيٌّ وأنّ السكّين لا يذبح، فلن يقول {يَا أَبَتِ افعَل ما تُؤمَر}، ولن يحصل على رقيّ في المقامات والدرجات، ولن يتبيّن مقدار تسليمه. وعليه، فإنّ هذا الموضوع مهمّ جدّاً بالنسبة للأوامر الامتحانيّة. ولا يوجد أيّ فارق في المسألة بين الأوامر الامتحانيّة والأوامر الواقعيّة. ونفس الإشكال الذي يرد في الحالة التي يكون فيها الأمر واقعيّاً، يرد بعينه هنا لو كان الأمر امتحانيّاً. هذا أوّلاً، وثانياً، مع التسليم بأنّ الأمر هنا معلوم كونه امتحانيّاً.. فما هو رأيكم في مسألة الخضر؟ فقد أخذ الطفل وقتله حقيقةً وواقعاً! يا عزيزي، لقد طرح رأسه في هذا الجانب، وبدنَه في الجانب الآخر، فهل كان الأمر هنا أيضاً امتحانيّاً؟ لقد كان حقيقيّاً. هل تأمّلنا حقّاً في هذه الآيات؟ هل تدبّرنا إلى حدّ الآن في هذا القرآن الذي نقرؤه، أم اكتفينا بالقول: إنّه قرآن، وقد قاله الله تعالى، وهو سبحانه الذي أنزل هذه الآيات. ففي هذا العصر، ما هو حكم هذه الآيات من وجهة نظر المنظّمات الدوليّة؟ وكيف يُنظر إليها بحسب مباني حقوق الإنسان؟ وماذا سيُقال حولها؟ سيُقال: كيف يُمكن لحضرة الخضر أن يقتل طفلاً له عشر سنوات؟ ماذا سيُقال حولها؟ وبماذا يُمكن تبريرها؟ {لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَه} قتله! فأيّ امتحان هذا؟ وهل هذا أمر امتحانيٌّ؟ لقد قطع رأسه! فسال منه الدم، وسقط رأسه في تلك الناحية، وفي هذا الموضع، تعالت صرخات النبي موسى: ماذا تفعل؟ يا للهول! أخذت الطفل وقتلته! فالطفل لم يُصبح مكلّفاً بعد! بأيّ دليل قتلت الطفل الذي لم يكلّف بعدُ، ولم يُذنب إلى حدّ الآن؟ حسناً، ما هو الجواب الذي يُمكننا تقديمه حيال ذلك؟ فهذه آية قرآنيّة، وليست رواية حتى تقولون إنّ سندها كذا. كما أنها ليست أمراً امتحانيّاً، ولا شكليّاً، فهنا لم يقُل السكّين: «الخليل يأمرني والجليل ينهاني»، بل قال: «الجليل يأمرني والخليل ينهاني!». فموسى يقول لا تفعل، وذاك يقول افعل. ولا فائدة في ذلك، فهو لا يمتثل لكلام لموسى؛ لأنّه من المقرّر أن يمتثل لكلام الجليل. فالسكّين كان بيد الخضر، إذ ذبحه وانتهى الأمر، ثمّ دفنه وذهب لحاله. وهنا نقول: كيف لم يكن هذا الحكم مخالفاً للشرع؟ وعليه، فالذي يقول بأنّ هذه المسألة لم تقع، نُجيبه: لا يا عزيزي، لقد وقعت هذه المسألة وبكثرة، ويُمكنها أن تقع. فقد قام حضرة الخضر بهذا العمل. أفلم يكن حضرة الخضر نبيّاً؟ لقد كان نبيّاً، ومع ذلك قتل نفساً محترمة بكلّ يُسر وسهولة، ومن دون تفكير أو تردّد. أخذه وهو يبلغ من العمر عشر سنوات. ففضلاً عن كونه ذا نفس محترمة، هو طفل بريء لم يرتكب أيّ ذنب بعد. «قتل غلاماً»، والغلام يعني الطفل. فالطفل الذي لم يبلغ سنّ التكليف يُقال له غلام. أخذ طفلاً بريئاً وذبحه..
جهلنا بالمصلحة الواقعية هو الموجب لاعتراضنا على فعل الأولياء
لو كنتم هناك ما الذي كنتم ستفعلونه؟ كنتم ستقطعون رأس الخضر بدلاً عن ذلك الغلام! وتقول: ماذا تفعل أيّها السيّد! ما الذي تفعله بهذا الغلام؟ ماذا سيقول لكم عندئذٍ؟ لا علم لكم بالمسألة! وانتهى الأمر! أنا متّصل! وبما أنّني متّصل، فأنا أعلم بوجود مصلحة هنا؛ وهي مصلحة يعود نفعُها حتى على الغلام نفسه. فتلك المصلحة المرتبطة بالأب والأمّ محفوظة في محلّها، ولا علاقة لها ـ كما ذكرنا سابقاً ـ بالطفل. فكلّ شيء له موضعه الخاصّ به، وكلّ واحد له حسابه الخاصّ به. وعليه، توجد مصلحة بالنسبة لذلك الطفل، فلو بقي في هذه الدنيا، لأصبح منحرفاً بسبب طروّ بعض الأحداث، وتأثير البيئة والأصدقاء. فماذا يصير بعد ذلك؟ سيصير جهنّمياً. والآن قد تمّت الحيلولة دون وقوع هذا الأمر، ليسلك الغلام طريقه إلى ذلك العالم ويُصبح من أهل الجنّة. والحال أني لا أعلم بهذا الأمر، بينما الخضر يعلم به. فإذا ما اتّضحت لنا حقيقة المسألة، أفلا نقبل؟ لنفترض أنّنا نريد أن نستقلّ السيّارة من أجل السفر، فنركب السيّارة ـ لو قدّر الله لنا ذلك ـ وحينما نُريد أن نخرج من المنزل، نكتشف بأنّ إطار السيّارة قد انفجر. أو أنّنا أردنا أن ندور فاصطدمنا بشدّة بعمود الكهرباء، وتحطّمت السيّارة من الأمام والخلف! يا ويلي، انظر إلى هذا! لقد أخذنا إجازة لمدّة يومين، فحصلنا على ثلاثة أيّام عطلة ـ نعم، غداً وبعد غد ـ ونُريد من باب المثال أن نأخذ الزوجة والأولاد في رحلة، فانظر ماذا حصل؟ لقد اصطدمت السيّارة بهذا العمود، وهذا من سوء حظّنا! هذا من سوء طالعنا! هذا من الأمر الكذائي.. فنشرع في لعن الزمان والمكان، ونرى أنفسنا مظلومين، ونشعر بالظلم. هل هذا صحيح؟ فجأةً، نرى بأنّهم قد أزاحوا عنّا الستار: وأنّك في أعلى منعرج طريق جبلي تتحدّث مع ذلك الشخص، وفجأةً ينحرف المقود، وتهوي السيّارة في قعر الوادي. هل هذا واضح؟ فلو سافرت لحصل لك ذلك. لكن حينما يُزاح عنك الستار ماذا ستفعل؟ ستقول شكراً يا إلهي! أنا أشكرك مائة ألف مرّة! وتعمد إلى أن تذبح للجميع خروفين أو ثلاثة خراف ـ الواحد تلو الآخر ـ وتقول: لا يهمّ ذلك، فلنذبحها فداءً لنا ولأرواحنا! هذا مع أنّه قد أُزيح ستار واحد فقط...
في أحد الأيّام، ذهبنا إلى تلك المنطقة الجبلية، وكانت توجد هناك لوحة، فسألنا السائق عنها.. فقال: في الزمن السابق، كان عروسان في طريقهما إلى طهران من أجل إقامة حفل العرس هناك.. وخلاصة القول، حينما وصلا إلى الأعلى، هوت سيارتهما وسقطا ـ بسبب الثلوج وغير ذلك ـ في قعر الوادي، فذهبا ليُقيما حفل العرس في ذلك العالم! وحينئذٍ، لو كانا على علم بأنّ هذا مصيرهما لما ذهبا.. وقد تمّ وضع لوحة هناك في أحد تلك المنعرجات، ولا أعلم هل رأيتموها من قبل أم لا... فلو كانا على علم بالأمر، هل سيقومان، ويُشغّلان السيّارة ويتّجهان نحو طهران؟ لا يا عزيزي! سيقولان: سوف نبقى هنا. وخلاصة القول أنّ حفل العُرس يُمكن إجراؤه في أيّ مكان، وقد أجراه بعضُهم بالفعل! فيُمكن إقامته في كلّ مكان، ولا داعي للانتقال في سبيل ذلك من هذه المدينة إلى تلك المدينة. فما هو سبب ذلك؟ سببه الجهل. لكن حينما يُزاح الستار، فإنّ الإنسان يقول: يا للعجب! شكراً يا إلهي! سلمت يدُ وليّ الله من كلّ سوء! سلمت يد الإمام من كلّ سوء! من الجيّد أنّه جاء واصطدم بالسيّارة. صحيح أنّ السيّارة تحطّمت، لكن هذا لا يهمّ، سوف نقوم بإصلاحها.. فداءً لأرواحنا! وقضيّة حضرة الخضر هي على نفس هذا المنوال. فحضرة الخضر مطّلع على وجود مصلحة بالنسبة للأب والأمّ، وبالنسبة لهذا الطفل أيضاً؛ بحيث لو بقي ذلك الطفل حيّاً في هذه الدنيا، لساق أباه وأمّه نحو الانحراف، فضلاً عن نفسه أيضاً. حينئذٍ، يأتي حضرة الخضر ليمنعه ويصدّه عن ذلك، ومن دون أن يُحدث أيّ صوت. وعندما قتله حضرة الخضر، ماذا فعل؟ هرب بالطبع. وإلاّ لو بقي هناك، لقبض عليه الأب والأمّ وقتلاه. ولهذا فقد تركه وانسلّ هارباً؛ لأنّه إذا جاء أبواه في اليوم التالي ورأياه سوف يبدءان في البكاء والعويل: يا ويلنا، من الذي جاء البارحة وقتل ابننا، ويصرخان ويشتمان و.. من كانت له مسألة معه، من الذي أراد أن يُصفّي حساباته معه، من كان عدوّاً له، من كان... فيشرعان في السبّ واللعن وغير ذلك، بينما حضرة الخضر واقفٌ يضحك ويُقهقه! ويقول افعلوا ما يحلو لكم! اشتموني كما تشاؤون! فأنا قد أدّيت تكليفي. وهذا بسبب ماذا؟ بسبب وجود الاتّصال. هل هذا واضح؟
من جُملة الموارد... كم الساعة الآن؟ لقد صارت الساعة الحادية عشر يا سيّدي. فلنترك بقيّة المسائل إلى فرصة لاحقة إن شاء الله تعالى؛ فقد انفتح البحث هذه الليلة على مصراعيه، ولنترك بقيّة المطالب للجلسة القادمة إن شاء الله ـ إذا وفقّنا سبحانه وتعالى لذلك ـ لكي نكتشف بالتدريج كم هي عجيبة المسائل التي لدينا، وكم هي عجيبة المباني التي نمتلكها، وكم هي عجيبة العلوم والمعارف التي نتوفّر عليها! وأنّ هذه المطالب بأجمعها موجودة في نفس هذا القرآن، غير أنّنا لم نطّلع عليها لحدّ الآن. فالتساؤل المطروح هو أنّه إذا كان الأمر بالطلاق يطرح إشكالاً بالنسبة للإمام، فماذا تقولون حول قطع رأس غلام؟ وما هي علاقته بهذه المسألة من الأساس؟ فهذا إذا طلّق، فإنّه سيعمد إلى الزواج من امرأة أخرى، وهي أيضاً ستعمد إلى الزواج من رجل آخر. هو سيسلك طريق سعادته، وهي بدورها ستسلك سبيل سعادتها! وأمّا الآخر، فسيُقطع رأسه! فهو لن يصل إلى أيّ شيء، وسيُقضى عليه! لقد انتهى أمره! هل هذا واضح؟ فما هي العلاقة القائمة بين المسألتين؟ كلّ هذا بسبب ماذا يا عزيزي؟ بسبب أنّنا لم ندقّق في الأمور، ولم نتدبّر في هذه المباني، ولم نتأمّل في هذه المعارف، واقتصرنا في نظرنا إلى الدين كأمرٍ سطحي، وظنننّا بأنّ ما نفهمه لا يتجاوز هذه المسائل الظاهريّة والمتعارفة التي لم نتعدّاها أبداً.
نسأل الله تعالى أن يُوفّقنا للحصول على الفهم في الدين والبصيرة في الدين وفي المعارف والمسائل حتى يُمكن لتلك العناية الإلهيّة أن توصلنا ـ بواسطة صاحب مقام الولاية ـ إلى ذلك الهدف المنشود.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.