المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالطعام و التغذية
التاريخ 1431/12/27
التوضيح
تمتاز دراسة العرفاء الشامخين لأحداث عاشوراء بالشموليّة لجميع الجوانب، وبالعمق والاقتراب من روح الإمام عليه السلام، وفي هذه المحاضرة كشف سماحة آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الطهراني عن بعض حقائقها من خلال كلمات أولياء الله وحالاتهم فيها، ملفتاً بالخصوص إلى المرحوم السيّد هاشم الحداد رضوان الله عليه، وحالات البهجة والفناء ومرافقة قافلة كربلاء والتحليق تحت جناح سيّد الشهداء في هذا اليوم الذي يمثّل التجلّي الأكمل لله سبحانه وتعالى في وجود سيّد الشهداء. وهي محاضرة ألقيت باللغة الفارسيّة في 27 ذي الحجّة عام 1431هـ ضمن سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري، غير أنّها تختصّ بموضوع عاشوراء، وقد تضمّنت الكثير من الفوائد والأبحاث القيّمة، حيث تشير إلى ما يلي: تفاصيل إحياء المرحوم الحدّاد رضوان الله عليه لذكرى عاشوراء، حديثه عن اهتمام الإمام الحسين عليه السلام بموكب الطويريج القادم هرولة من مسافات بعيدة، ما هو نوع البهجة التي كانت لدى السيّد؟ مراعاة كتاب الروح المجرّد للقراء في بيان أحواله، أداء مولانا في أشعاره حقّ قضيّة كربلاء، قول الحداد: اطلبوا الحسين من الله واطلبوا الله من الحسين، عاشوراء حادثة وتر يديرها معصوم، لماذا يتأذّى الإمام عند شهادة الأهل والأصحاب؟ تفسير قول الإمام عليه السلام: بأبي أنتم وأمي للشهداء، حادثة عاشوراء ليست اتفاقية، أحوال مسلم ولماذا لم يقتل ابن زياد؟ لماذا سقى الحسين الحرّ وجيشه؟ لماذا قدّم الإمام الحسين عليه السلام نفسه للقتل؟ هل عاشوراء حدث أهدافه سياسيّة فقط؟ ما المعيار في إقدام الأئمة وإحجامهم؟ وتصعيدهم وتهدئتهم؟ لماذا أفطر الإمام الصادق عليه السلام بدعوة من المنصور؟ ولماذا سكت الإمام الحسين عليه السلام في عصر معاوية؟ ملاحظات حول آداب محرّم ومجالسه ومواكبه: ضروريّة الحزن وبهجة السيّد الحداد مختصّة بمقامه، وظائف المنبر الحسيني والخطباء، وجوب إقامة الحدّ على المغالين (الحسين اللهيين)، عدم ذكر غير الإمام من العلماء في مجلسه، احترام الناس للخطباء وتعفّف الخطباء في المال (قصص ومواقف من السيّد معين الشيرازي).
هو العليم
أسباب خلود عاشوراء
شرح حديث عنوان البصريّ _ المحاضرة ۱۸٤
ألقاها
ألقاها : آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني قدس سره
في يوم ٢۷ ذي الحجة عام ۱٤٣۱ هـ ق
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلّى الله على سيّدنا و نبيّنا أبي القاسم محمّد و آله الطيبين الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى يوم الدين
اهتمام العلاّمة الطهراني رضوان الله عليه بقضيّة عاشوراء وكتاب "الروح المجرّد"
كنت أنوي في هذه الليلة و قبل دخول شهر محرّم الحرام أن نقوم بإتمام الحديث في المواضيع السابقة، ثمّ نردف ذلك بذكر بعض ما يخصّ شهر محرّم الحرام و مجالس عزاء سيّد الشهداء عليه السلام... و بطبيعة الحال فالإخوة على اطّلاع كافٍ بالمباني والموازين المتعلّقة بذلك، و إنّما حديثنا فيها من باب التأكيد و التذكير.
و لكنّني قلت في نفسي: لعلّ من الأفضل والأنسب أن نؤجّل الكلام في البحث السابق مؤقّتاً، ونخصّص هذه الجلسة للحديث عن سيّد الشهداء عليه السلام، وعن مجالس العزاء وكيفيّة إقامتها، وعن الموازين التي بيّنها الأئمة عليهم السلام والأولياء العظام، تلك المباني والموازين التي كثيراً ما نبتعد عنها ولا نراعيها..
يمكن الحديث عن مسألة عاشوراء و قصّة سيّد الشهداء من طرق مختلفة ومن زوايا متعدّدة، وقد سعى المرحوم العلاّمة ـ رضوان الله عليه ـ سعياً بليغاً لبيان هذه القضيّة فقام بأداء المطلب كما هو حقّه، وأنا لم أرَ أحداً من العلماء العظام الذين كانوا مطّلعين على قضيّة سيّد الشهداء عليه السلام ومبانيها قد قام بالكتابة عنها وتبيّين المطلب فيها بشكل واف كالمرحوم العلاّمة..
وحتّى عندما ألّف سماحته كتاب "الروح المجرّد"، قال لي: خذ هذا الكتاب وطالعه و انظر ما رأيك فيه... هذا، ومن الجدير بالذكر أنّ الأزمة القلبيّة التي أُصيب بها سماحته وقعت بعد انتهائه من تأليف هذا الكتاب.. فبعد نصف ساعة من إنهائه لهذا الكتاب دخل سماحته إلى القسم الداخلي من البيت، وجاء إلى الوالدة بحالة من البهجة والشغف والانبساط الشديد ـ بحيث إنّها تقول إنّني نادراً ما رأيته بمثل هذه الحالة من البهجة في طول حياتي معه ـ فقال لها سماحته و هو بهذه الحالة: "البشارة.. البشارة۱! ! لقد أنهيت الكتاب وقد بيّنت فيه ما أعتقده وأراه في سماحة السيّد الحدّاد".
و هذا يدلّ على أنّ سماحته كان له عناية خاصّة بكتاب "الروح المجرّد" بحيث أنّه تحدّث عنه بهذه الطريقة، وأنا أستطيع أن أقول مؤكّداً أنّ الأزمة القلبيّة التي أصابته وأدّت به إلى أن يدخل المستشفى و يبقى فيه لمدّة أسبوعين على إثر هذه الأزمة وتمزّق الشريان الأبهري (الوتين) عنده، كان لها علاقة مباشرة وارتباط وثيق بتأليف هذا الكتاب، وأنّ ثواب و جزاء تأليف هذا الكتاب كان الإصابة بهذه الأزمة!! إنّ أهل المعنى يفهمون جيّداً ما أريد الإشارة إليه! نعم، وقد ألمح سماحته في آخر حياته بشكل عابر إلى هذا الأمر..
حقيقة ابتهاج السيّد الحدّاد رضوان الله عليه في أيام عاشوراء ومرافقته لقافلة كربلاء وتحليقه مع سيّد الشهداء
لمّا طالعت هذا الكتاب، ووصلت في قراءتي إلى ما تفضّل به سماحته عن قضيّة عاشوراء، وكيفيّة نظر سماحة السيّد الحدّاد ـ رضوان الله عليه ـ إليها ونظرته إلى سيّد الشهداء عليه السلام، غمرتني حالة من البهجة والسعادة عجيبة جداً، كما أنّي رأيت أنّ ما ذكره كان منطبقاً بشكل كامل مع ما شاهدته بنفسي من السيّد الحدّاد، حيث أنّني قضيت شهر محرّم في خدمة السيّد الحدّاد مرتين؛ الأولى منهما في عمر الثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة، و الثانية في حدود السبع عشرة سنة عند رجوعنا من أداء فريضة الحجّ، حيث تشرّفنا بزيارة المراقد المطهّرة مع السيّد الوالد وأقمنا لمدّة شهر تقريباً في العراق ثمّ عدنا بعد أيام عاشوراء إلى إيران..
لقد كانت حال السيّد الحدّاد في عشرة محرّم تدعو للتأمّل بشكل كبير، وكلّ من كان يلاحظ ويتابع حالات سماحته منذ اليوم الأوّل من محرّم، كان يفهم بشكل جليّ أنّ سماحته كان يقضي أيّام عاشوراء يوماً بعد الآخر مصاحباً لقافلة كربلاء؛ شروعاً من اليوم الأوّل من محرّم، إلى اليوم الثاني والمسائل التي واجهت سيّد الشهداء عليه السلام فيه من وروده إلى كربلاء، ونزوله فيها وموقفه من جيش الكفر، إلى اليوم الثالث وما وقع فيه من أحداث، ثمّ اليوم الرابع... و هكذا... لقد كنت أحسّ أنّه ـ وهذا الإحساس لم أذكره في ذلك الوقت لأحد، و لكنني بعد ذلك عرضته على السيّد الوالد فتبسّم سماحته ولم يقل أيّ شيء ـ كنت أحسّ أن سماحة السيّد الحداد في اليوم الخامس والسادس مثلاً كان متّحداً مع نفس سيّد الشهداء عليه السلام في قضيّة عاشوراء، وكان سماحته كلّ يوم يأمر أحد الأفراد الحاضرين بعد صلاة الصبح بين الطلوعين أن يقرأ زيارة عاشوراء، وبعد الانتهاء من قراءة الزيارة كنّا نصلّي ركعتين ثمّ يذهب كل واحد من الحاضرين في سبيله.. و هكذا كان ديدنه حتّى يصل اليوم العاشر من المحرّم، فتصير حالة سماحته عجيبة جدّاً، إذ كان الهيجان والوجد في حالته القصوى، وأنا أذكر جيّداً أنّه كان يأمرنا في يوم عاشوراء أن اذهبوا و شاركوا في مواكب العزاء، فكنّا نذهب ونشارك، إمّا مع بعضنا البعض وإمّا بشكل متفرّق، حيث كان يذهب كل واحد مع أحد المواكب التي تصل إلى الحرم... وكان سماحته يؤكّد علينا بشكل خاصّ على المشاركة في الموكب الذي يأتي هرولة من "طويريج" إلى حرم سيّد الشهداء عليه السلام ويصل في ظهر عاشوراء قاطعاً أربعة فراسخ.. كان يقول: اذهبوا و شاركوا في "ركضة طويريج"، وكان يقول: إنّ سيّد الشهداء عليه السلام له عناية خاصّة بموكب "طويريج" هذا، فهو يحمل في يده عند ظهر عاشوراء جرّة من الماء أعدّها لهم، وهي مخصّصة للأفراد المشاركين في "ركضة طويريج" هذه!!
انتبهوا.. فهذه الكلمات ليست كلماتي أنا ولا كلمات أمثالي، بل هي كلمات العظماء الذين لهم حساب خاصّ يختلف عن حساب الآخرين، ولذا ينبغي أن نفكّر بهذه المسألة ونتأمّل فيها جيّداً: أنّه ما هي الحالة وما هو الجوّ الذي كان يعيشه هؤلاء؟!
عندما طالعت كتاب "الروح المجرّد" وقرأت ما كتبه سماحته عن المرحوم الحدّاد، وأنّه كانت تحصل له حالة عجيبة من البهجة والوجد، وكانت هذه الحالة قويّة جدّاً إلى درجة أنّ الدموع كانت تنحدر من عينيه كالميزاب، فلم يكن أحدٌ ليقدر على الكلام معه وهو في هذه الحالة، بل إنّه لم يكن ليعطي مجالاً لأحد أن يكلّمه.. [رحت أتساءل] ما هي تلك الحالة من البهجة؟ و ما هو سرّها و حقيقتها؟ هل كانت من قبيل الضحك والفرح؟! ينبغي أن نسأل أولئك الأشخاص الذين انتقدوا هذه المسألة بسبب الجهل وعدم الاطلاع.. ينبغي أن نسألهم هذا السؤال: هل كان مراد المرحوم السيّد الحدّاد عندما تستولي عليه حالة من البهجة العجيبة بحيث تنحدر قطرات الدموع من عينيه هو الضحك والفرح والسرور؟!
إنّ الفرح لا يجعل الإنسان يبكي بهذا الشكل... نعم، بعضهم عندما يضحك بطريقة معينة تدمع عينه، و لكن هل كان السيّد الحدّاد سعيداً مسروراً كما نُسرّ نحن عادة.. هل كان مسروراً و سعيداً لأنّ هذه القضيّة قد وقعت وجرى فيها ما جرى؟! هل كانت هذه هي حقيقة الأمر؟! كلاّ بالتأكيد لم يكن الأمر كذلك، و ادّعاء ذلك إنّما هو اتهامٌ باطل وتهمة لا حقيقة لها.
ما هي إذاً حقيقة هذه الحالة من البهجة؟ وهل من اللازم أن تقترن حالة البهجة بالسعادة وإظهار السرور والتصفيق؟! أم أنّ البهجة هي بمعنى انبساط النفس وانبساط القلب، و الإحساس بلذّة خاصّة لا يمكن الحصول عليها من آلاف مظاهر اللذّات.. لا يمكن الحصول عليها..
إذ عندما يشعر الإنسان العادي باللّذة فمن أين يحصل عليها؟ لابدّ من وجود مظهر لهذه اللذّة؛ فإمّا أن يكون الإنسان عطشاناً جدّاً إلى درجة أنّه إذا وجد الماء طار فرحاً، فإنّه حينما يرى إبريقاً من الماء البارد أمامه سوف يرمي نفسه عليه دون وعي ليرتوي منه، فتحصل له بذلك لذّة الارتواء؛ وإمّا أن تحصل اللذّة من تناول طعام شهيّ، أو من مظاهر اللذّات الأخرى الموجودة في هذه الدنيا والتي نرى الناس منشغلين في طلبها والتنعّم بها.
فهل تلك اللذّة والبهجة والانبساط التي كانت تحصل لمثل أولئك العظام هي من هذا القبيل من اللذّات؟ كلاّ، لم تكن كذلك، وما رأيناه منهم هو خلاف ذلك تماماً، والقول بأنّها كانت كذلك هو مجرّد اتهام لا أساس له!
وقد تفطّنت في ذلك الوقت إلى أنّ سماحة السيّد الحدّاد في يوم عاشوراء كان متعلّقاً بجناح سيّد الشهداء عليه السلام، ليصعد به ويرتقي من عالم إلى آخر، فذلك الصعود والترقّي هو الذي كان يوجد عنده تلك الحالة العجيبة من الوجد بحيث لم يكن أحدٌ ليقدر على الكلام والتحدّث معه، يعني كنت أحسّ في ذلك اليوم بأنّ سيّد الشهداء عليه السلام قد صعد بسماحته وأخذ بيده كما صعد بالكثير من أصحابه ومن كان معه في يوم عاشوراء و ارتقى بهم إلى حيث "لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر".. و لو جلسنا من الآن إلى يوم القيامة لنتصوّر جانباً منه فقط فستذهب جهودنا سدىً ولن نصل إلى شيء... (حلواي تنتنائى تا نخورى ندانى)۱ لقد كنت أحسّ أنّ مثل تلك الحالة من الصعود والارتقاء كانت تحصل له، واللذّة التي كانت تحصل له منشؤها هذا الصعود والارتقاء، وهذه اللذّة كانت شديدة بحيث إنّها كانت تؤدّي إلى انحدار الدموع من عينيه كالميزاب.. هذه هي المسألة!
مراعاة المرحوم العلاّمة القرّاء في بيان حالات السيّد الحدّاد في الروح المجرّد
حسناً؛ قرأتُ الكتاب، ثمّ بعد مدّة وعندما تمّت طباعته نظرت فيه ففوجئت بأن الصفحة التالية لهذا المطلب لم تكن موجودة؛ يعني الصفحة التالية لهذا المطلب في الكتاب المطبوع لم تكن موجودةً في تلك النسخة الأولى التي أطلعني عليها سماحته قبل الطباعة، ولاحظت أنّ المسألة قد تمّ عرضها وتوجيهها في هذه الصفحة التالية للمطلب بحيث صار الموضوع قابلاً للتوجيه والقبول بشكل أكبر، فذهبت إلى السيّد الوالد وسألته قائلاً: سيّدنا، هذا المطلب الموجود هنا لم يكن موجوداً عندما طالعت الكتاب في المرّة الأولى! فتبسّم سماحته وقال: أجل، في ذلك الوقت لم يكن هذا المطلب موجوداً، فقد اتّصلوا بنا وقالوا: إنّ هذه المطالب لا يمكن للأفراد أن يستوعبوها ويتقبّلوها ـ شخص اتّصل بنا وقال ذلك ـ ومن المحتمل أن تسبّب تصوّرات خاطئة لبعض الأفراد، فيتخيّلون أنّ السيّد الحداد لم يكن يحزن لقضية عاشوراء، ولم يكن يهتمّ كثيراً بها ويمكن أن يتصوّروا أنّه لم يكن يعتني بها أو يتأثّر لما وقع فيها، ويفهمون ما قيل بشكل عادي وسطحي!
ونحن ـ مراعاةً لهذه المسألة ـ قمنا بكتابة هذه الإضافات، حتّى تساعد أولئك الأفراد الذين يُحتمل ألاّ يستوعبوا الكلام الأوّل لكي يتقبّلوه من خلال قراءة المطالب اللاحقة. ولكنّ حقيقة المسألة هي نفس ذلك الذي ذكرته أوّلاً، والمسألة في الواقع هي ما أوضحناه في تلك الصفحات.
يوم عاشوراء يوم تجلّي الله سبحانه بكلّ أسمائه وصفاته الكليّة في وجود سيّد الشهداء وبلوغ العطاء الإلهي لعالم الوجود ذروته
وواقعاً هنا يجب أن نقول أنّ "مولانا" رحمة الله عليه قد أدّى المطلب حقّه، وأخرج تلك المطالب وبيّن تلك الحالات بصورة الشعر، فبيّن أنّ واقعة كربلاء ليست واقعة حزن.. ليست واقعة بكاء ونواح.. ليست واقعة همّ وغمّ وحزن، أصلاً هل عندكم اطّلاع على المسائل التي وقعت في عاشوراء؟ وهل تعلمون حقيقة ما وقع هناك؟ هل تعرفون ما هو العطاء والكرم الذي بذله الله سبحانه في هذه الواقعة؟! وفي جملة واحدة يمكن أن نقول: في أرض كربلاء قد أكمل الله سبحانه الأمر لجميع عالم الوجود، فلو نظرنا من أوّل خلقة عالم الظاهر إلى أبديّة الله سبحانه لوجدنا أنّ الله تعالى قد بلغ الذروة في عطائه يوم عاشوراء.
إنّ ما ذكرته للإخوة ليس من عندي، بل نحن ننقل لكم الليلة بعض ما سمعناه.
فلو نظرنا في خلقة آدم عليه السلام، وفي خلقة إبراهيم عليه السلام، وفي خلقة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله، وفي خلقة أمير المؤمنين عليه السلام، وفي كلّ المسائل والأحداث التي وقعت.. فسنجد أنّ الله سبحانه و تعالى قد تجلّى يوم عاشوراء بتمام معنى الكلمة بكلّ صفاته وأسمائه الكلّية في وجود سيّد الشهداء عليه السلام.
إنّ هذه القضية لقضيّة يجب علينا أن نطلب من الله.. و أن نطلب من نفس الإمام الحسين أن يبيّنها لنا إلى حدٍّ ما؛ إذ كيف لنا أن نفهم حقيقة المسألة ونصل إلى عمقها؟ وأنّى لنا ذلك؟! فعلى الأقلّ فلنطلب منه أن يفهّمنا طرفاً منها.
ولذا كان السيّد الحدّاد رضوان الله عليه يقول للأفراد الذين كانوا يتشرّفون بزيارة الإمام الحسين عليه السلام و يأتون لزيارة سماحته: اطلبوا الإمامَ الحسينَ من الله، واطلبوا اللهَ من الإمام الحسين! إنّ هذا لكلام عجيبٌ جدّاً.. اطلبوا من الله الإمامَ الحسين!
أجل! ماذا يمكنني أن أبيّن هنا؟! فنحن دورنا أن ننقل الكلام و نرويه لكم، وأنتم أقدر منّا على فهمه والوصول إلى كنه هذه المسائل [ضحك من سماحة السيد]، فنحن إنّما ننقل الكلام فقط، وإن شاء الله لم نشتبه في النقل.
وعلى هذا الأساس يتبيّن لنا أنّ قضيّة عاشوراء ليست قضيّة عادية، فهي لم ولن تتكرّر، يعني ليس لها شبيه، فقضية عاشوراء ليس لها نظير أبداً كما نسمع من البعض أنهم يقولون: عاشوراء المكان الفلاني! و عاشوراء المكان الكذائي! فالآن تفهمون لماذا كان المرحوم الوالد رضوان الله عليه شديد الحساسيّة تجاه التعبيرات المستخدمة! من الذي استطاع أن يفهم الإمام الحسين عليه السلام؟ من الذي فهمه؟ من؟!
يقول أحدهم: يا حسين، إن كنتَ قد قدّمت عليّاً أكبر واحداً، فنحن قد قدّمنا آلاف "عليّ الأكبر"، يا حسين، إن كان عندك حبيب بن مظاهر واحد، فنحن قد قدّمنا آلافاً مثل حبيب بن مظاهر! !! ها؟
و نحن لا نقول أنّ هذه المطالب ـ لا سمح الله ـ قد قيلت وتقال عن عمد وقصد، بل هي بسبب الجهل وعدم الاطلاع، ونحن نطلب من الله سبحانه المغفرة والرحمة للجميع، ونطلب من الله الفهم للجميع!! وهذا خير ما يطلب.. يا ربّ ارزق جميع الناس الفهم، وارتقِ بأفهامهم جميعاً. أصلاً نحن من أين لنا هذا الفهم؟ وأساساً لولا هؤلاء العلماء العظام فمن أين لنا الوصول إلى هذه المطالب؟ فلماذا نفتخر على الناس؟! بل يجب أن نسأل الله ذلك للآخرين.. يا ربّ ارزق جميع الناس فهماً وإدراكاً! أفهل ينقص ذلك من خزائن الله، أوَهل يقللّ العطاء من بحر جوده؟! حاشا وكلاّ.
ومن هنا فعلى الإنسان أن يدقّق في مسألة الإمّام الحسين عليه السلام كثيراً، وعليه أن يتأمّل كثيراً، ويجب ألاّ يمرّ الإنسان على ذلك مرور الكرام، فقضيّة سيّد الشهداء عليه السلام يمكن الحديث عنها والبحث فيها بشكل موسّع وكبير.
أوّلاً: ما هي شاكلة سيّد الشهداء عليه السلام؟ وما هي خصوصيّات الإمام الحسين عليه السلام؟ وما هو الفرق بينه وبين الإمام الحسن المجتبى عليهما السلام؟ إذ يوجد مطالب عديدة قد نقلت في هذه القضية، كما أنّ الآراء المطروحة فيها متعدّدة.
مقامات أهل بيت الحسين عليه السلام وأصحابه وشدّة ما أصابه لفراقهم
أمّا الموضوع الذي يجب الاهتمام به أكثر من بقيّة الأمور، وأنا كما يعلم الإخوة قد أشرت إليه وذكّرت به مرّات عديدة، وكذلك صرّحت به في كتاباتي ومؤلّفاتي هو هذا الأمر: أنّ إدارة وتدبير يوم عاشوراء كانا بيد إمامٍ معصوم. هذه هي النقطة التي ينبغي أن نجعلها أساساً ومداراً لجميع المطالب الأخرى، يعني في يوم عاشوراء الأفراد الذين كانوا في خيمة أبي عبد الله عليه السلام كانوا في مرتبة "تالي تلو المعصوم"! و كانوا يتّبعون المعصوم قدماً بقدم؛ فحضرة عليّ الأكبر سلام الله عليه كان تالي تلو المعصوم، والجُمَل والتعبيرات التي قالها سيّد الشهداء في حقّه إنّما تقال في حقّ الإمام، نعم، فالأمر عجيب إلى هذه الدرجة.. هكذا كانت حقيقة الأمر.
فسيّد الشهداء يأتي إلى مصرع عليّ الأكبر ويقول: على الدنيا بعدك العفا.. فلتخسأ الدنيا بعد فراقك ولا معنى لها من بعدك، لقد انتهى كلّ شيء، لمن يقال ذلك؟ لمن؟! وبعد ذلك تجد من يقول: نحن لدينا الآلاف من عليّ الأكبر، ما شاء الله!!
أو يأتي الإمام إلى بدن أخيه المقطّع وعلى تلك الحال التي يجده عليها.. إمام معصوم.. الإمام الذي يتمّ تقدير الإرادة والمشيئة الإلهيّة من خلال نفسه الولائيّة.. الذي تتنزّل المشيئة الإلهيّة عبره، فكلّ عوالم الملك والملكوت وما سوى الله هي بيد هذا الإمام وإرادته.. يأتي هذا الإمام إلى جوار بدن أخيه أبي الفضل ويقول: الآن انكسر ظهري، فماذا كانت حقيقة المسألة؟! ولماذا يقول الإمام: انكسر ظهري، ولم يعد الآن لديّ ذاك السند والملجأ؟ ليست المسألة بتلك البساطة والسهولة، فأبو الفضل ليس مجرّد ساقي عطاشى صحراء كربلاء، نعم كان سقاءً صحيح، وكان كلّ شيء في قصّته توأماً لبذل الروح، ولكن هل القضيّة هي هذه فقط؟ ماذا كانت حقيقة الأمر؟ وأيّة مرتبة كانت له بحيث يأتي المعصوم ويقول: الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي، الآن لم يعد عندي أمل في الحياة، هذه لعليّ الأكبر وتلك لأبي الفضل؟ أو ما يقوله لحبيب، وهل تعلمون من هو حبيب بن مظاهر؟ حبيب بن مظاهر هو شخصيّة يقول المرحوم العلاّمة عنها: عندما سقط حبيب على الأرض ـ وكان ذلك عندما وقف أمام الإمام الحسين عند الصلاة فهو لم يقاتل ـ أحسّ الإمام الحسين بالضعف، وليس ذلك بالضعف البدني، لا بل كأنّما خسر إنساناً وفرداً يعتمد عليه ويحسب له حساب، فهكذا كان حبيب، ولم تكن مسألة حبيب مسألة عاديّة لنقول: نحن قدّمنا آلافاً من أمثال حبيب! نعم، وأما عابس بن شبيب الشاكري فمن هو؟ لقد كان عابس شخصيّة من مزاياها أنّه عندما مضى نحو المعسكر كانت حاله عين حال أمير المؤمنين عندما نزعوا السهم من قدمه بغير أن يشعر، أي أنّه كانت تدخل النبال في جسده وكانت السيوف تمزّقه فلا يشعر، وهي مرتبة من الفناء بحيث أنّ النفس تقطع صلتها بشكل كامل [عن هذا العالم]، وقد كان بطلاً عظيماً لا يجرؤ أحد على مواجهته، وبحسب تعبير المرحوم العلامة: كان عابس في تلك اللحظة في حالة فناء. وتشير إلى ذلك تلك العبارة الواردة عن الإمام الباقر: لا يجدون مسّ ألم الحديد۱، وهي مختصّة ببعضهم ومنهم عابس بن شبيب الشاكري، وليست لجميعهم، لقد كان الأمر هكذا، فلأيّ رجل من هؤلاء نجد نظيراً لنجعل لعاشوراء ثانياً وثالثاً ورابعاً؟ ولنجعل كلّ يوم عاشوراء وتاسوعاء؟ أرونا مثل هؤلاء! لا أقول مثلهم، بل أروني بمقدار عُشْرِهم، أروني من يشبههم بنسبة واحد إلى المائة! دعونا نرى! ففي النهاية نحن بشر ونريد أن نرى ونعلم ونختبر ونمتحن لنعرف ما هي حقيقة الحال. هل تعرفون قدر هؤلاء؟ ومن هم هؤلاء؟
تفسير السيّد الحدّاد قول الإمام "بأبي أنتم وأمّي" للشهداء: فناؤهم في الحسين
كنّا ذات يوم جلوساً في محضر المرحوم الحدّاد في اليوم السابع أو الثامن من المحرّم، بل قبل عدّة أيام من المحرّم، وكان المرحوم جدّنا السيّد معين الشيرازي حاضراً ـ حيث كان في كربلاء وعاد قبل محرّم ـ فالتفت السيّد معين وقال للسيّد الحدّاد: هناك فقرة في زيارة أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام لا أدري كيف يمكن أن تُفهم؟ أية فقرة؟ ألا نقرأ في زيارة سيّد الشهداء عليه السلام: بأبي أنتم وأمّي؟ أتعرفون ماذا تعني هذه الفقرة؟ أبي وأمّي فداء لكم، ومن قالها؟ لقد قالها إمام الزمان عليه السلام، ونحن نقرأها، وهناك بعد أن ننتهي من زيارة سيّد الشهداء ـ رزقنا الله جميعاً ـ نقف أمام قبور الشهداء ونقرأ: السلام عليكم يا أولياء الله وأحبّاءه.. السلام عليكم يا أصفياء الله وأودّاءه...إلى آخر الزيارة وهذه الزيارة هي الزيارة التي رويت عن الإمام الصادق عليه السلام وإمام الزمان عليه السلام سيأتي ويقرؤها ولا شكّ في ذلك، يأتي إمام الزمان ويقول: بأبي أنتم وأمي. قال السيّد معين للسيد الحدّاد: كيف يأتي إمام الزمان ويقول ذلك أمام هؤلاء الأصحاب؟ فهذا عجيب.. عجيب جداً، وأنا الآن إذ أنقل لكم الكلام أتعجّب والجميع يتعجّب من ذلك!!! أتدرون ما هو الجواب الذي أجاب به السيد الحدّاد؟ ومثله لديه معرفة بالمسائل والقضايا.. نعم مثله، قال: وهل أنتم ترون فرقاً بين الأصحاب وسيّد الشهداء، هل ترون فاصلة وافتراقاً بينهم ليأتي إمام الزمان ليفرّق بينهم وبين الإمام الحسين عليه السلام؟ هناك شيء واحد، ومفهوم واحد وحقيقة واحدة هي الحاكمة هناك، هي الإمام الحسين عليه السلام وحده، إنّ الذي في مزار حبيب بن مظاهر هو الإمام الحسين عليه السلام، ومن في مزار عليّ الأكبر المدفون عند أقدام الحسين هو الإمام الحسين عليه السلام، وهو الإمام الحسين عليه السلام وحده في مزارات كافّة أصحابه المدفونين من حوله، هذه عين عبارة السيّد الحدّاد، وهذا هو الذي عرف الإمام الحسين. أما نحن فنقول: لا.. الإمام الحسين في طرف والأصحاب في طرف آخر، وليس مهمّا سواء زرناهم أم لم نزرهم، أما هو رضوان الله عليه فلم يكن كذلك، بل كان كلّما تشرّف بزيارة سيّد الشهداء يأتي ويقف أمام الشهداء ويقول تلك العبارة نفسها: بأمي أنتم وأمّي، ثمّ يأتي إلى مزار حبيب بن مظاهر... نعم السعة الوجوديّة تختلف فيما بينهم من شهيد لآخر، ويقول المرحوم الحدّاد: كلّما ذهبت إلى مزار حبيب بن مظاهر فإنّه يجذبني بنحو يجعلني للحظات عاجزاً عن التحرّك من مكاني، نعم قد يكون عبّر بتعبير آخر غير التحرّك من مكاني ولكن مراده أنّه يجذبني بحيث يجعلني ألتفت إليه بتمام شراشر وجودي، وهذا الكلام لم أسمعه من السيّد الحدّاد في حقّ أحد من العظماء سوى حبيب بن مظاهر، وهو مع ما نعرفه من خصوصيّات السيّد الحدّاد ليس بالكلام البسيط. والآن بعد ذلك كم حبيباً عندنا؟! عشرة آلاف؟! مائة ألف؟! عشرون ألفاً؟! كم حبيباً عندنا؟! علينا أن نُعمِل فكرنا أكثر، علينا أن نتأمّل أكثر، علينا أن نلتفت أكثر ونعي ولا نستخفّ بالمسائل.
هناك حول قضيّة سيّد الشهداء أنظار كثيرة مختلفة، فبعضهم قالوا أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يكن له غرض معيّن، وواقعة عاشوراء كانت حادثة اتفاقيّة، حتّى أنّ بعض أهل المنبر في أيام ما قبل انتصار الثورة الإسلاميّة كانوا يقولون أنّ الإمام الحسين فرّ من المدينة فراراً، وهم يستدلّون بتلك الآية التي كان يقرأها عند خروجه من المدينة {فخرج منها خائفاً يترقّب}۱ فهم يرون أنّهم كانوا يلاحقون الإمام ولو بقي في المدينة لكانت حكومة يزيد قتلته، لذا خرج إلى مكّة وحينما سمع أنّهم عازمون على اغتياله فيها بدّل إحرام الحجّ إلى عمرة مفردة وانطلق، ثمّ شيئاً فشيئاً ظهرت قضايا واقعة كربلاء. وهذا كلام خاطئ ويتنافى مع كلمات الإمام الحسين عليه السلام وخطبه حيث يقول: إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي٢، وسائر كلماته ووصيّته لأخيه محمّد بن الحنفيّة، وكذا إرساله مسلم بن عقيل سفيراً إلى الكوفة، فمن يريد الفرار لا يرسل سفيراً، فهذا الكلام واضح البطلان.
أحوال مسلم بن عقيل وعلّة عدم قتله لابن زياد
وفي رحلتي الأخيرة إلى كربلاء قبل أسبوعين كنت أفكّر في أحوال مسلم بن عقيل، وكان الأمر عجيباً جداً بالنسبة إليّ، فهنا نجد ما كان يقوله المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه مراراً من أنّ المتّصل بالإمام وبالولاية تُلقَى إليه أموره من ذلك المَنبع، انظروا إلى أعمال مسلم بن عقيل وتصرّفاته وأقواله وتأمّلوا، ففي النهاية لا بدّ أن يكون لنا درس في كلّ سطر من تاريخ واقعة عاشوراء، لا أن نكثر من اللطم على الرؤوس والصدور، لنجلس ونفكّر فيما وقع، فالإمام الحسين عليه السلام لم يستشهد كي نضرب على رؤوسنا ونبكي، ولكّنه استشهد لكي نستعمل عقولنا شيئاً ما، فعندما أرسل هاني بن عروة لمسلم بن عقيل أن تعال إليّ وأنا أتمارض حتّى إذا جاء ابن زياد لعيادتي فاقض عليه، فيختبئ مسلم في خزانة من البيت، وقد كان مسلم رجلاً شجاعاً، وابن زياد كان شجاعاً أيضاً كما كان عنده غلام جثّته كجثّة الجمل، ولكن في المقابل كان مسلم بن عقيل رجلاً لم يكن أحد ليصمد أمامه، وقد أرسل محمد بن الأشعث إلى ابن زياد يقول له: أتظنّ أنّك أرسلتني إلى حرب رجل بقّال، ففي النهاية لم يستطيعوا التغلّب على مسلم إلاّ بالخداع والمكر، فحفروا حفرة وغطّوها بالعشب فوقع فيها، وإلاّ لم يكن من الممكن السيطرة عليه، نعم قال له: أتظنّ أنّك أرسلتني إلى قتال بقَّال من بقّالي الكوفة؟! يقف مسلم بن عقيل في المخبأ وهو يعلم ـ وليس فقط هو من يعلم بذلك بل نحن نعلم والطفل ابن الثلاثة عشر عاماً يعلم ـ أنّ هذه هي فرصته الأخيرة ولو فاتته فلن تسنح له فرصة أخرى، ولا بدّ أن يغتنمها ويقضي على ابن زياد بكلّ سهولة، رجلان اثنان بغير سلاح.. عدوّان كافران من أعداء أهل البيت، وبذلك يعيد الأمور لصالح سيّد الشهداء، فنحن الآن إذ نفكّر في الأمر نرى أنّه لا شكّ فيه، ألم يكن مسلم آنذاك يفكّر في ذلك؟! هذه هي الموارد التي ينبغي أنْ نُعمِل النظر فيها، أَليسَ قتل المعاند وعدوّ الإمام واجباً؟ نحن لو كنّا آنذاك وعلمنا بأنّ عبيد الله بن زياد قد جاء وشرع في الفتنة وسيطر على الكوفة وجمع الناس لمساعدته أما كنّا أدركنا أنّه سيذهب إلى الإمام الحسين؟ هذا أمر واضح، فلو كنّا نحن مكانه لقمنا بأيّ فعل للقضاء عليه، أليس ذلك واجباً؟ بلى هو واجب بحسب الظاهر، صحيح؟ ألم يكن حضرة مسلم يحبّ سيّد الشهداء عليه السلام؟ إنّه رجل كان بتمام وجوده فانياً في سيّد الشهداء، وهذه مسلّمة أيضاً، وكان يقطع أنّ الأحوال قد تغيّرت، والمصير قد تبدّل، وأنّ مسير الأحداث يجري على خلاف ما يريد، ولم يكن يشكّ في ذلك أيضاً، فلماذا لم يقدم على ذلك؟ هذه الأمور واضحة بمثابة وضوح القضية الرياضية البسيطة (۱+ ۱ = ٢) فلماذا لم يقدّم حضرة مسلم على ذلك إذاً؟ لماذا؟ ولو كنّا نحن في موقفه ماذا كنّا نصنع؟ لكنّا أنهينا الأمر، ولكن أتدرون لماذا لم يفعل هو ذلك؟ أتدرون ما الفارق بيننا وبينه؟ الفارق هو أنّه سفير الإمام الحسين عليه السلام وممثّله، ونحن سفراء أنفسنا وممثّلوها، لقد كان هو يفكّر في نفسه بأنّي لو فعلت ذلك ألا يقول الناس أنّه فعل فعلاً مخالفاً للشهامة والمروءة حيث غدره غدرا ًوغيلة، الآن فعل ذلك من أجل إمامه أو من أجل أيّ شخص آخر ليس مهماً، لو أنّي عرضت هذا العمل على الإمام فهل يستحسنه أم ينتقده؟ لماذا فعلت ذلك؟ فالطرف الآخر لم يفعل شيئاً بعد، ويده لم تلامس سيفه بعد، إنّه لم يرسل الجيوش والعساكر، وإضافة إلى ذلك لقد كان جالساً في البيت وبكلّ هدوء، أهكذا تُستقبَل الضيوف؟ نعم لو شِئتُ قتله في الخارج أمام الناس فجيّد.. تأتي وتعاتبه أن لماذا فعلت كذا ولماذا ولماذا فيرفع سيفه عليك وأنت تقتله، لا بأس بذلك، فالإمام الحسين ينتقده هنا ويعنّفه، لا أنّه يُسَرّ منه ويرضى. فمن الذي ألقى هذه الأفكار في قلب مسلم بن عقيل؟ إنّه الإمام الحسين عليه السلام، لماذا؟ لأنّه نائبه، وعلى النائب أن لا يخالف المنوب عنه، وإذا ما خالف فسيقف أمام المنوب عنه، أمام سيّده ومالكه.
الإمام الحسين يسقي الحرّ وجيشه
إنّ هذا الموقف من مسلم هو نفس موقف الإمام الحسين من الحرّ بن يزيد، ماذا صنع مع الحرّ بن يزيد؟ قال بعضهم للإمام الحسين: يا مولانا نحن بضربة واحدة نقضي عليهم الآن؛ فهم عطاشى الآن وقد وصلوا متعبين لتوّهم، فإن منعناهم الماء فسيموتون عطشاً بغير قتال، قال الإمام عليه السلام: لماذا لا نسقيهم؟ هؤلاء جاؤوا ليحاربونا ولكنّهم لم يشرعوا بعد، وهم عطاشى، وعلى أساس قانون الإنسانيّة وقانون الشفقة وقانون الأخوّة وقانون وحدة النوع، فإنّ هؤلاء عباد الله ولو كانوا خاطئين، فلماذا نريد نحن أن نخطئ أيضاً؟ انظروا [إلى هذا الموقف]، والحال أنّ الجميع يقولون له: يا مولانا اغتنم الفرصة، اقض عليهم وانهِ المسألة.. بدِّل المصير وغيّر مجرى التاريخ.. باغتهم واغتنم الفرصة، يقول الإمام الحسين: المباغتة والغدر ليسا من مبادئنا، هدفنا هو تطبيق المبادئ والقيم. الآن التفت الإخوة إلى حقيقة المطلب؟ نحن نريد أن نطبّق نظاماً تُرى فيه القيم: "ولكن لنرى المعالم من دينك"۱، أنتم تريدون منّي أن أمارس الإرهاب والاغتيال في نظامي هذا؟! لا، بل أنا أعطي "الحرّ" الماء، وأنا أسقي جيشه الماء، لكي تَبقى القِيم بما هي قِيم محفوظةً دائماً، لتبقى إلى يوم القيامة وما بعد القيامة حيث تبقى ببقاء الله، لكي يبقى الحقّ والصدق محفوظين دائماً، فلا يقع له استثناء أبداً.. لكي يبقى الصفاء محفوظاً دائماً وباقياً كما هو؛ لا أن نعمل به اليوم ثمّ نستثني غداً، ثمّ نعود في اليوم التالي إلى ما كنّا عليه، فهذا ليس من الصفاء في شيء بل هو خداع واحتيال. و لكي يبقى الكذب قبيحاً دائماً، لا أن يكون قبيحاً اليوم أمّا غداً فهو استثناء وهكذا. هذا هو سرّ بقاء عاشوراء، و هذه هي رسالة عاشوراء التي يجب أن نوصلها إلى أسماع الأمم جميعاً!! لا أنّهم قتلوا الإمام الحسين عليه السلام، فالقتل قد مضى منذ ألف وأربعمائة سنة، والموت والقتل يقع للجميع، ألم يقتلوا غيره؟ بلى، لقد قُتل الكثير من الناس، ومات الكثير من الناس، فبعضهم مات بالطاعون وبعضهم مات بحمّى التيفوس، وآخرون ماتوا بمرض الخُناق (الدفتيريا)، ففي النهاية لا بدّ أن يرحل الجميع من هذه الدنيا بسبب ما وبوسيلة ما، وقد يرحل بعضهم مقتولاً بضربة سيف، فهل نجلس ونبكي ونضرب على رؤوسنا لأنهم ضربوا الإمام الحسين بالسيف، أفَهل هذا بحدّ ذاته مدعاة للبكاء؟! أم لا، نأتي وندقّق ونتأمّل ونفكّر في أنّه من أجل أيّ شيء قد قُتل الإمام الحسين؟ من أجل أيّ أمر؟
لقد كان الإمام الحسين عليه السلام قادراً على أن يجعل سفيره يغتال عبيد الله ابن زياد لكي يبقى هو سالماً، كان يستطيع أن يفعل ذلك، ولكنّه لم يفعل، ها! و بالتالي فهو قد قُتل لكي لا يسمح بوجود الغيلة، هل ترون؟! يمكننا أن نرتّب القضايا بجانب بعضها ثمّ نستنتج منها.
لماذا قُتل الحسين؟
لقد كان الإمام الحسين عليه السلام قادراً ألاّ يسقي الحرّ وجيشه ماءً حتّى يموتوا من العطش فينجو هو من القتل، ولكنّه أعطى الحرّ الماء وسقى جيشه الماء، ثمّ انتهى بهم الأمر إلى نينوى فتوقّفوا هناك وحدث ما حدث، وبالتالي فالإمام الحسين قد قُتل لكي يحافظ على المروءة والإنسانية!! لكي لا يستغلّ الفرص بشكل سيّء!! لقد قتل الإمام الحسين عليه السلام لكي يبيّن لنا ويعلّمنا القيَم الرفيعة والأخلاق الكريمة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق، لقد جئت و بعثت لكي أعلّمكم أعلى درجات الأخلاق؛ كيف يعلّمنا ذلك؟ بواسطة ابنه: الإمام الحسين عليه السلام .. يعلّمنا عن طريق ولده أنّه عندما تصل إلى موضع في معاملاتك وارتباطاتك، وترى أنّ الظروف صارت مؤاتية وصار الطرف المقابل لك مجبوراً أن يطيع أوامرك، هاهنا فبالرغم من أنّ الحقّ معك أنت ... إذ بعض الأحيان لا يكون الحق معك، فلا بحث لنا في ذلك أصلاً، بل كلامنا عن الحالة التي يكون الحقّ مع الإنسان، فالحقّ دون شكّ كان مع الإمام الحسين، فقد جاؤوا ليجبروه على أن يبايع يزيد وإلاّ قتلوه! فمَن يزيدٌ هذا حتّى أبايعه؟! ما هذا الكلام؟ وما هذا الباطل والظُلم؟ إنّ من يريد أن يجبرني على مثل هذه البيعة لمخطئ، فالحقّ كان مع الإمام الحسين عليه السلام قطعاً، ولو قتلهم الإمام الحسين لكان ذلك من حقّه ولم يكن في ذلك إشكال، فهو الذي جاء ليقاتل الإمام الحسين أو يجبره على هذه البيعة المحرّمة، وبالتالي فإنّ أحداً لن يلوم الإمام الحسين لو قتله، بل كان بإمكانه أن يفعل أمراً أفضل وهو أن يترك الحرّ وجيشه ليموت من العطش لوحده دون قتال أو حرب ودون أن يموت أحد من طرف جيش الإمام!
فجميع الناس يرون ذلك حقّا لسيّد الشهداء ويصلون إلى هذه النتيجة، ولكنّ سيّد الشهداء عليه السلام يقول: لقد قدّمت نفسي للموت حتّى أوصل هذا الخُلُق .. خُلُق عدم استغلال الفرص بشكل سيء، و لكي أوصل هذه القيمة إلى أسماع الناس جميعاً وإلى الأمم جميعاً!! هذه هي المسألة!
فأنت عندما ترى أنّ الحقّ معك في خلافك مع الطرف المقابل، ولكنّه الآن قد وقع في حرج، وتورّط في ضائقة تلزمه أن يطيع أوامرك، فتستغلّ الفرصة وتُحكِم قبضتك عليه، وتفرض عليه أمرك قائلاً: يجب أن تذهب و تؤدّي العمل الفلاني من أجلي حتّى أقوم بدوري بحلّ مشكلتك وإنقاذك من ورطتك! فأنت بهذا ماذا تكون قد فعلت؟ إنّك بهذا قد انضممتَ إلى جيش يزيد! نقولها بصراحة ووضوح دونما شكٍّ أو تردّد؛ فنحن عندنا الإمام الحسين وعندنا يزيد، ولا ثالث في البين، لاحظ أنّ هذا بالرغم من أنّ الحقّ كان معك، أمّا لو كنتَ على باطل فهذا أصلاً لا نتحدّث عنه!!
من الذي علّمنا هذا؟ لقد علّمنا إياه الإمام الحسين عليه السلام، فهو يقول لنا: أنا هكذا فعلت، والتزمت بهذه الأخلاق فقدّمت روحي من أجل ذلك .. هيّا تفضّل .. الأمر واضح ومجموع اثنين مع اثنين أربعة .. فأنا قد قدّمت نفسي و و و ...
ما الذي جعل عاشوراء عاشوراء؟
فبالتالي، وبناء على هذا، ما الذي يجعل عاشوراء عاشوراء؟ ما هو؟ إنّه كون مدير عاشوراء إماماً معصوماً، هذا فقط هو السبب، فالشخص الذي كان يدير عاشوراء، وكان يجري المسائل ويدبّر الأمور، كانت نفسه نفساً طاهرة معصومة، فمنشأ الأمور والمسائل التي وقعت في عاشوراء هو هذه النفس المعصومة، لا نفس ملوّثة، أو نفس غير ملوّثة ولكنّها ليست في مرتبة الطهارة المُطلقة التي عند الإمام، فحتّى لو كانت كربلاء صادرة عن مثل هذه النفس لاختلفت عمّا هي عليه.
ولكن عندما يكون الإمام موجوداً ومديراً للأمور، فإنّ عمل حضرة عليّ الأكبر سيحصل على الدرجة الأولى، وسيحصل حضرة أبي الفضل العباس على الدرجة الأولى، و كذلك هاني و مسلم بن عقيل و ... ماذا ستكون علامتهم؟ ستكون علامة الجميع عشرون من عشرين.
أمّا لو لم يكن الإمام موجوداً، فإنّ العلامات ستنزل وتصبح أقلّ من ذلك، فبعض الأفراد سيحصل على ثمانية عشر، وبعضهم على سبعة عشر، هذا لأنهم أفراد جيّدون ولكن ... و بعضهم يحصل على أربعة عشر، ولا نقول أنّهم سيرسبون، فحديثنا ليس عن هؤلاء، وإلاّ فإنّ بعض الأفراد الذين يحصلون على علامة متدنيّة بل إنّه يرسب في الامتحان .. أمّا بعضهم: أوووووه ... فإنّه يحصل على "ما لانهاية" و لكن بالسالب!! فسيّد الشهداء هو "ما لا نهاية" بالموجب، أمّا هؤلاء فـ "ما لا نهاية" بالسالب!! ! فهؤلاء ليسوا موضع بحثنا أصلاً.
حسناً، لقد تبيّن أنّ هذه النظرة إلى هذه القضيّة غلط ومجافية عن الصواب.
هل عاشوراء كلّها تحرّك سياسيّ؟ وما المعيار في الإقدام والوقوف والتصعيد والتهدئة؟
و من ناحية أخرى هناك من يرى جميع الأمور من المنظار السياسي، فكلّ حركة من حركات الإمام وسكناته عندهم يجب أن تكون ذات غاية سياسيّة، ويجب أن تكون مبنيّة على أساس الثورة ومواجهة الظلم .. طبعاً ذلك الظلم الذي يشخّصه هؤلاء أنفسهم! هناك الكثيرون يعتقدون ذلك، وهم يفسرون جميع حركات الإمام على هذا الأساس والمعيار، وهم بالتالي لا يصدّقون بكثير من الأحداث ولا يقبلونها بناء على نظرتهم تلك.
إنّ هذه النظرة أيضاً خاطئة؛ فالإمام عليه السلام إمام، و هو يؤدّي أعماله بناء على أفكار الإمامة، فبعض الأحيان يرى لزوم الإقدام بقوّة، وفي بعض الأحيان يجب أن تكون الحركة هادئة، وفي أحيان أخرى يرى لزوم التوقّف وعدم الحركة أصلاً.
في إحدى السنوات من زمان الإمام الصادق عليه السلام، كان المنصور الدوانيقي ـ سلطان ذلك الزمان ـ قد حكم بيوم العيد وألزم الجميع بالإفطار مع أنّ اليوم كان آخر أيام شهر رمضان، فقد كان حاكماً ظالماً جائراً يفرض ما يريده بالقوّة، وكلّ من يخالفه أو يعترض عليه، ماذا يحصل له؟ الإعدام طبعاً، فالقضاة ما شاء الله كثيرون، والملفّات جاهزة ومعدّة، وسرعان ما يصدر حكم الإعدام عليه.
أعلن المنصور أنّ ذلك اليوم هو يوم عيد الفطر، ودعا الإمام الصادق عليه السلام ليفطر معه، فذهب الإمام الصادق فعلاً وأكل معه .. فالإمام الصادق قد أفطر في نهار اليوم الثلاثين من شهر رمضان! ولا داعي للتعجّب، فأنا ألاحظ أنّ الإخوة قد تعجّبوا من ذلك، و لكن لا عجب فيه، حيث سيأتي جوابه وتوضيحه. لقد أفطر الإمام و كسر صيامه .. الإمام فعل ذلك .. الإمام نفسه!
وعندما خرج من هناك، فكما تعجّبنا نحن، تعجّب أصحاب الإمام الذين كانوا معه، إذ توقّعوا من الإمام أن يواجه المنصور قائلاً: كلاّ! اليوم هو آخر أيّام شهر رمضان، و أنت قد أخطأت واشتبهت بادّعائك أنّ اليوم هو العيد، أفَهل تظنّ أنّ بإمكانك أن تأتي بالأحكام من عندك فتزيد وتُنقِّص ما شئت؟! بل اليوم هو آخر أيام شهر رمضان! هم تَوقّعوا منه أن يقول ذلك وإن بلغ الأمر ما بلغ.
قالوا له: يا بن رسول الله، كيف أفطرت وكسرت صومك وأنت الذي قلت لنا أن اليوم آخر أيام شهر رمضان؟! فقال لهم: أجل اليوم آخر أيّام شهر رمضان! فقالوا: إذاً كيف أفطرت؟!
فقال: لأَن أفطر يوماً وأقضي يوماً أحبّ إليّ من أن تُضرب عنقي! ۱
وإلاّ فمتى ينبغي استخدام التقيّة ولماذا شرّعها الله؟! لأَن أفطر يوماً و أقضي يوماً أحبّ إلي من أن تضرب عنقي! فعندما يكون المنصور ظالماً وسفّاحاً بهذا الشكل، وهو ينتظر مثل هذه الفرصة ليقتل الإمام الصادق و يرتاح منه، فما الذي ينبغي للإمام المعصوم أن يفعل في هذا الوضع؟ هل يتيح له الفرصة ليضرب عنقه؟! يوجد بعض الناس الذين يجيبون: نعم، ينبغي أن يواجهه حتّى لو أدّى ذلك إلى أن تُضرب عنقه! ما المشكلة في ذلك؟! إذا كان هذا رأيك فلماذا لا تذهب أنت لتُقتل؟! لماذا على الإمام الصادق أن يقتل أمّا أنت فلا؟! إذ لو كنت مكانه لكنت على استعداد لأن تأكل مع المنصور سنة كاملة لا يوماً واحداً! أمّا عندما يصل الأمر إلى الإمام الصادق فتقول: لا! بل ينبغي أن يواجه حتّى لو ضُربت عنقه! نعم، للأسف فهذه الأفكار الحمقاء موجودة فعلاً .
إنّ الإمام الصادق يقول لنا: إنّ وظيفتنا هي إطاعة الأمر والتكليف الإلهيّ. وما قام به الإمام الصادق عليه السلام ليس بأسهل ممّا قام به سيّد الشهداء عليه السلام. بل هما عمل واحد، فالإمام الصادق عليه السلام يريد أن يعلّمنا أنّ الإنسان يجب أن يكون مسلّماَ ومطيعاً لأمر الله؛ فإنّ الله يقول: أنا أوجبت عليكم صيام في يوم الثلاثين من شهر رمضان، ولكن متى ذلك؟ عندما لا يكون هناك ضررٌ يصيب النفس أو العرض، أمّا في حالة وجود الضرر المعتدّ به على النفس، فلا ينبغي عندئذٍ الصيام، كما لو كان الإنسان مريضاً مثلاً، إذ نرى بعض الأشخاص الذين يبالغون في إظهار التقى والورع يفعلون ذلك؛ مثلاً يكون مصاباً بمرض في المعدة، أو تكون المرأة ذات حمل، ولو صامت لأدّى ذلك إلى الإضرار بجنينها، وهي مع ذلك تقول: إنّ قلبي لا يطاوعني في أن أترك الصيام في شهر رمضان! إنّ من يقول ذلك هو مخطئ جدّاً، أفَهل تظنّ أنّ الأمر بيدك؟! ما معنى "إنّ قلبي لا يطاوعني"، فإذا كانت معدتك مصابة وجب عليك أن تفطر ولا تصوم، وهذا هو ما يريده الله منك، أفَأنت الذي شرّعت وجوب الصيام من عندك؟! رغم ذلك فهؤلاء يصومون ويقولون: لم أستطع أن أفطر؟! هل تُشرّع الأحكام من عندك يا هذا؟! إنّ الأمر والتكليف الذي أُمرنا به هو ما يجب علينا أن نؤدّيه، فلا نتقدّم على أهل البيت، ولا نتأخّر عنهم. فالله سبحانه قد حدّد لنا عمراً معيّناً، و نحن يجب علينا أن نقضي هذا العمر وهذا الوقت الذي أعطانا إيّاه بالطاعة والامتثال، لا أن نؤدّي ما يحلو لنا ونفعل ما يعجبنا؛ فإن قيل: افعل فافعل، وإن قالوا: لا تفعل فلا تفعل .. إن قالوا: قم فقم، وإن قالوا: اجلس فاجلس! هذه هي رسالة سيّد الشهداء في يوم عاشوراء، ولكن نرى أنّ هؤلاء لم يفهموا ذلك، بل فهموا الأمر بشكل خاطئ.
إنّ سيّد الشهداء نفسه ـ مع وجود تلك الروحيّة التي عنده، ومع وجود نفسه الأبيّة، ومع وجود تلك العزّة والحريّة التي عنده ـ نجده قد سالم معاوية ولم يواجهه لمدّة عشر سنوات! رغم أنّه لم يكن راضياً لحظة واحدة من لحظات حكومة معاوية ولم يكن ليتحمّل دقيقة منها، ولكنّه إمام! ولذا فهو لا يقول: أنا لا ألتزم بما جرى بين أخي وبين معاوية ولا علاقة لي به، إذ أنا لستُ بأخي، فهو قد رأى أن الصلاح في إمضاء الصلح مع معاوية فأمضاه ( رغم أنّ معاوية قد خالف ذلك العهد ووضعه تحت قدميه)، ولكنّ الزمان قد مضى، والآن أنا الإمام، فالأمر بيدي والحكم لي، وأنا لن ألتزم بما أمضاه أخي، وسأقوم وأواجه بناء على تكليفي أنا ...
لم يقل الإمام الحسين عليه السلام ذلك؛ بل ماذا قال؟ قال: إنّ ما تعهّد به والتزم به أخي بعنوانه إماماً معصوماً، فأنا كذلك ألتزم به وأؤدّيه لأنني إمام معصوم! لأنني إمام معصوم! هذه هي رسالة سيّد الشهداء عليه السلام.
فالإمام المجتبى لم يقل في عهده مع معاوية أنّ هذا العهد ممضى طالما أنا بقيت حيّاً، بل طالما أنّ معاوية حيّ، ومعاوية الآن حيّ. فلو أنّ العهد كان مربوطاً بحياة الإمام الحسن فقط، لكان بإمكان الإمام الحسين أن يقول: حسناً، إنّ العهد كان مربوطا بحياة أخي، ولكنّه قد استشهد وارتحل من الدنيا، وقد وصَلت الولاية لي ووصل الحكم إليّ، وبالتالي فأنا سأعمل طبقاً لتشخيصي وسأنهض لإسقاط هذا النظام الظالم الجائر...
ولكن لم يكن الأمر كذلك حيث أنّ الإمام المجتبى عليه السلام قد أناط المسألة بحياة معاوية، ومعاوية ما يزال حيّاً؛ فبالتالي لا يمكن للإمام الحسين أن يخالف عهد أخيه، لأنّ ذلك العهد قد أمضاه و التزم به إمام معصوم!
وأما بعد أن مات معاوية وحشِر إلى الدرك الأسفل من النار، فقد انتهى ذلك التعهّد معه، فتبعاً لنفس ذلك العهد الذي أمضاه معاوية نفسه فإنّ الحكومة والخلافة يجب أن ترجع إلى مكانها الأصليّ، ولكنّ معاوية احتال وخادع وخان العهد ليأتي بيزيد ابنه ويجعله خليفة وحاكماً؛ فهاهنا يأبى الإمام الحسين عليه السلام ذلك ويرفضه ولا يقبل به ... لا، فنحن لم نتّفق على ذلك وليس هذا موجوداً في العهد المتفق عليه، ههنا نجد أن الإمام عليه السلام يرفض ذلك وإن بلغ الأمر ما بلغ.
ما زلت أذكر أنّه في الزمان السابق بعد انتصار الثورة، عندما حلّت أيّام عاشوراء كنت أرى أنّ بعض الأفراد كانوا يدعون الناس: أن انزلوا إلى الشوارع و تظاهروا! تظاهروا! يجب على الجميع أن ينزلوا إلى الشارع ويشاركوا في المظاهرات سواء كانوا رجالاً أم نساء، وكان حديثهم بهذا الشكل: نحن لا نقول لكم لا تقيموا العزاء، بل أقيموا العزاء ولكن فليكن ذلك من خلال التجمّعات والمظاهرات. ما هو هذا؟ هذا نفس ما كنّا نقوله قبل قليل بعينه؛ أي النظر إلى المسائل من الجانب السياسي فقط، أي إنّ كلّ ما فهمناه من واقعة عاشوراء هو السياسة فقط ولا شيء آخر! السياسة فقط ولا شيء آخر!
والحال أنّ الأمر المهمّ والهدف المنشود في واقعة عاشوراء هو اتّباع الولاية، وهو المعرفة، أي أنّ معرفة الإمام عليه السلام هي الأمر الذي يُهدف إليه من وراء ذلك.
وعلى ضوء ذلك، لا بدّ أن تختلف رؤيتنا إلى عاشوراء، وأن يكون لنا قبالها موقف آخر.
ضروريّة الحزن في عاشوراء وبهجة السيّد الحدّاد تختصّ بمقامه
حسناً، لقد انصرم الوقت، لكنّني سأعرض على الرفقاء ـ من باب التذكير ـ بعض المسائل المرتبطة بالطريقة التي يُقام بها العزاء، وما يتعلّق بالمستمعين، وبإقامة هذه المجالس، وذلك ممّا سمعته من العظماء وشاهدته من خلال تجربتي الشخصيّة. فعلى كلّ حال، تعلمون بأنّ شهر محرّم هو شهر الغمّ والحزن، وقد ترافقت هذه المسألة مع المصائب. وتلك القضايا المختصّة بالمرحوم الحدّاد رضوان الله عليه والمرتبطة بتلك العوالم وبتلك الحالات لها مقامها الخاصّ بها، فنفس هذه المسائل تؤدّي بالإنسان إلى أن يتقرّح قلبه عندما ينظر إلى قصّة سيّد الشهداء وقصّة حبيب وقصّة أبي الفضل وإلى أولئك الأسرى والسيّدة زينب وأمثال هؤلاء، وكذلك عندما يُشاهد تلك الأحداث، فلا يتمكّن بعد ذلك من إبراز تلك البهجة والسرور والفرحة التي كانت موجودة في غير هذه الأيّام والأوقات. ولهذا، فقد كان يقول العلامة بدوره حينما كانوا يسألونه عن إجراء العقد [عقد النكاح] في أيّام محرّم وصفر بأنّه لا مشكلة في ذلك لأنّ إجراء العقد عبادة، لكن لا تُحضروا الحلوى، ولا تضحكوا، ولا تصفّقوا؛ فلا تقوموا بهذه الأعمال لأنّها مرتبطة بالأفراح المتعارفة. وكان يقول أيضاً: على الرفقاء ألاّ يشتروا الحلوى والمكسّرات في أيّام محرّم وصفر، ولا يأتوا بها للضيوف، وينبغي أن تكون مظاهر العزاء واضحة، فتوضع الرايات السوداء في المنازل، بحيث يظهر حدوث تغيير على أجواء المنزل، لكن ليس إلى تلك الدرجة التي يعمّ فيها السواد، بحيث تتخذ الستائر وغيرها شكلاً مفرطاً نوعاً ما، بل يكفي ذلك المقدار الذي يُعلم معه بأنّ أجواء المجلس هي أجواء عزاء؛ إذ أنّ استعمال السواد بصورة زائدة لا يُعدّ بدوره أمراً جيّداً.
وظائف المنبر الحسينيّ والمواكب الحسينيّة
وفي الأحاديث التي يتمّ يتداولها في مجلس العزاء، ينبغي التعرّض لهذه المطالب، وللعبارات التي وردت عن الإمام الحسين، حيث من اللازم أن يدور الحديث حول هذه العبارة. كما ينبغي قراءة المقتل، وتبيين الأمور الدقيقة التي حدثت في التاريخ فيما يخصّ الحركة التي قام بها سيّد الشهداء وأصحابه، من أجل أن نُدرك في الأخير ماذا يجب علينا أن نفعله نحن، ولكي نتمكّن بواسطة هذه التعاليم من رسم معالم سلوكنا وتحديد أسلوبنا في العمل. ففي نهاية الأمر، من اللازم علينا امتلاك وسيلة للتعليم، وأيّ معلّم يكون أفضل من حادثة كربلاء؟! وما هي وسيلة التعليم تلك التي تفوق كلماته عليه السلام وكلمات أصحابه؟! ومن هو المعلّم الأفضل بالنسبة لنا؟! ولهذا ينبغي أن تكون الأشعار المستخدمة ـ سواءً في مواكب العزاء أو في المجالس ـ أشعاراً باعثة على الحياة، لا محزنة فقط بحيث تقتصر على إبراز جانب المأساة فقط، وخصوصاً بالنسبة لمواكب العزاء التي تقصد الخروج إلى الشوارع، حيث ينبغي عليها أن تختار أشعاراً موصلة لرسالة عاشوراء. ويُعدّ القيام ببعض أنواع النواح عملاً مُهيناً ومُسقطاً لمقام العظماء ومنزلتهم، وقد يكون حراماً من الأساس. فمن باب المثال، متى كان واجباً على الإمام الحسين ـ مع النظر إلى تلك المنزلة والعظمة التي هو عليها ـ أن يقوم بذلك الالتماس وذلك النوع من المسائل؟! كما أنّ سير المواكب ينبغي ألاّ يكون مرافقاً للضرب على الطبول والنفير وأمثال ذلك، فلا نُقرّ باستعمال الطبل في مراسم العزاء؛ إذ أنّ القرع على الطبول حرام، وتوجد حالة واحد فقط يجوز فيها استعمال الطبل وهي حالة الحرب، حيث لا يوجد إشكال في استعمال الطبل في الحرب، لكن ما هو الداعي لاستخدام الطبل في المواكب؟ وكذلك الناي والمزمار والطنبور؟ فلأيّ شيء يتمّ استعمال كلّ هذه الأشياء؟ هناك إشكال في كلّ ذلك. والرايات التي يحملونها موضوعٌ عليها علامة الصليب، وهي محرّمة بأجمعها. كما أنّ مراسم العزاء التي تُقام يجب ألاّ تكون مقوّضة لراحة السكان، فلا ينبغي الخروج إلى الشارع في وقت متأخّر، والضرب على الطبول، والتنقّل مع استعمال هذه الأبواق ورفع الأصوات وسلب الهدوء عن المجتمع والناس. فقد يكون هناك مرضى في تلك المنازل الموجودة على أطراف الشوارع وكذلك في المستشفيات، والإمام الحسين لم يأت لكي يُثير الفوضى في المدينة ويقلبها رأساً على عقب. حسناً، ماذا حصل؟! لقد وقعت حادثة كربلاء وعاشوراء، وماذا بعد! ما هو السبب الذي يدفعكم إلى أن تثيروا الفوضى، لماذا ينبغي عليكم أن تبقوا في الأحياء تتحدّثون وتضحكون وتصرخون إلى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. يجب الالتفات إلى وجود مرضى وأطفال رضّع في هذه المنازل، فالإمام الحسين أتى من أجل إحياء القيم، وليس لكي نأتي نحن ونضرب ونحطّم كلّ شيء. وقد حدث يوماً أن جاء المرحوم العلاّمة الطباطبائي إلى طهران، وقد كان مجيئه بسبب الضجيج الذي يثار قرب منزله في قم، بحيث سُلب الهدوء عن الناس في ذلك الزقاق. وقد ذهبت برفقة المرحوم العلامة [الطهراني] لزيارته في منزل صهره المرحوم القدّوسي ـ الذي استشهد على يد المنافقين ـ فقال له المرحوم العلامة [الطهراني]: ماذا حصل يا سيدي؟ فأجابه قائلاً: لقد تمّ طردنا.. لقد تمّ طردنا.. فقد كانت الأجواء بنحو أدّى به إلى حدوث ارتجاف شديد في بدنه وقال: لقد رأيت بأنّه لم يعُد في إمكاني البقاء هناك. وقد أبلِغ أحد السادة الذين كانوا يشرفون على الأمر ويتردّدون على ذلك المكان بأنّ هناك الكثير من الضجيج. فقال: من لا يرغب بهذا الجوّ فليذهب! دعوه ليذهب. بنفس هذا التعبير: دعوه ليذهب. أيُقال للعلامة الطباطبائي: من لا يرغب فليذهب! يا سيدي، لقد جاء الإمام الحسين من أجل إحياء القيم، ولم يأت من أجل أن يقلب كلّ البلاد رأساً على عقب. تضربون وتعبثون وتثيرون الفوضى وتصرخون.. ما الخبر؟ وماذا يعني ذلك؟ إنّ الناس تريد أن تعيش [حياتها الطبيعيّة]، وبينهم الأطفال الرضّع، والمرضى، ونحن غير مكلّفين بالقيام بمثل هذه الأمور.
وجوب إقامة الحدّ على المغالين (الحسين اللهيّين)
كما ينبغي ألاّ تكون الأشعار التي تُقرأ موهنة، ولا مُغالية ومُبالَغ فيها. فما معنى أنا "حسين اللهيّ" وما شابه ذلك؟ هذا كفر كلّه، وينبغي تعزير من يتلفّظ به.. لا بدّ أن يُجلد، وعلى هؤلاء أن يلزموا حدودهم، وأن يراعوا المراتب! فلا ينبغي أن يطرحوا أيّ هراء وخزعبلات تخطر في بالهم، يقولون نحن نؤلّه الحسين (حسين اللهي) وكلّ إنسان يختار ما يحلو له! أنت مشتبه في أن تكون كذلك، وأنت ممن يجب إعدامهم إن كنت تريد ذلك، ما هذا الهراء الذي يصدر عنك؟! والعجب أنّ هؤلاء يتمتّعون بالحماية من بعض الجهات!! انظروا مثلاً إلى الأشعار التي تقال في أمير المؤمنين عليه السلام، وتلك الكلمات التي يقولها الناس كما يحلو لهم، يقولون: قال الله للنبيّ: "يا رسولي إن شئت أن لا تكون فهذا شأنك ولا إشكال فأنا عندي عليّ"!!، من هم هؤلاء؟ ومن أين جاؤوا؟ من أيّ غار فرّوا وجاؤوا ليطرحوا هذه المسائل، لقد كان فخر أمير المؤمنين كما كان يصرّح أنّه عبد من عبيد محمّد (اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد)، وهؤلاء الذين يقولون هذه المزخرفات لم يشمّوا رائحة التشيّع. يأتي أحدهم ويقول: هذا كلام الإمام السجّاد ونحن لا نقبل كلامه. أنت ترتكب جريمة في عدم قبولك كلام الإمام السجّاد عليه السلام، فمن أنت لكي تردّ كلام الإمام السجّاد؟ أخزاك الله بقولك هذا! أنت تظنّ أنّ هذا الصراخ والضجيج والغوغاء التي تثيرها تزيد من حبّك لأهل البيت عليهم السلام؟! يا أيّها الأحمق! ماذا تقول؟! لا تقبل كلام الإمام السجّاد! فيا للعجب! لا بدّ من الوقوف أمام هذا الكلام.. لا بدّ من منع هذا الغلوّ! لا بدّ أن تمنع بشدّة هذه الإهانات لمدرسة أهل البيت عليهم السلام!! يقولون: إن لم نقم العزاء على هذه الطريقة فإنّ جيل الشباب لن ينجذب! فليكن! أنت تحطّ من رتبة الإمام لكي يأتي شابّان اثنان، إن تكلّمت بنحو صحيح فإنّ الشباب يأتون أيضاً، فأنت أصلح منطقك وقوّم طريقة العزاء واللطم التي أنت عليها! وإلاّ فما هذا الكلام؟
طرف من آداب المجالس، انحصار انتسابها إلى صاحب الزمان وهدايا الخطباء
ينبغي أن يكون الجميع في مجالس أهل البيت سواسية، إن كان من المقرّر أن يكون هناك جلوس على الأرض فالجميع ينبغي أن يكونوا جلوساً، لا أن يجلس بعض على مقاعد خاصّة في جانب معيّن من المجلس وبينما يكون الآخرون على الأرض، إنّ تقسيم مجلس الإمام الحسين بهذا النحو هو اشتباه، وينبغي أن لا يكون، إنّه ابتعاد عن الإمام الحسين، إذا أنت جئت إلى مجلس الإمام الحسين وجلست جانباً في مكانك الخاصّ بينما يجلس الآخرون في جانب آخر فإنّك تكون قد فصلت نفسك بنفسك عن الإمام الحسين عليه السلام، فهذه الجماعة هي للعزاء أما أنا فأجلس جانباً. من هنا لا بدّ أن يكون المجلس على نسق واحد كأسنان المشط ليس فيه طويل وقصير، ومدّ وجزر، إن كان لا بدّ من أن يلطم الجميع فليلطم الجميع معاً، فليس هناك أحد مستثنى من اللطم على الإمام الحسين، ولا معنى لأن يجلس بعضهم في المجلس ولا يلطموا بينما يلطم الآخرون، ولا معنى لأن يلطم بعضهم بضعف وبعضهم الآخر بشدّة، إن كان لا بدّ أن يقف الجميع فليقف الجميع معاً، فما المشكلة في أن يقفوا جميعاً ويلطموا؟! لماذا نشاهد مثل هذه المظاهر؟ في زمان الشاه كان بعضهم يقيمون مجالس العزاء ويجعلون في أطراف المجلس مقاعد فيأتي بعض الناس ويجلسون عليها يميّزون بذلك أنفسهم عن سائر الناس الجالسين على الأرض في الوسط، وقد ذهبت ذات يوم برفقة المرحوم العلاّمة إلى أحد هذه المجالس، وكان لأحد جيراننا في شارع "صفي علي شاه" وكان صاحبه رجلاً صالحاً ولكن مراعاة لبعض شؤون والده وبسبب مجيء بعض موظّفي الحكومة فقد جعلوا على جوانب المجلس مقاعد، إلا أنّ المرحوم العلاّمة وأنا برفقته قدم إلى وسط المجلس وجلس على الأرض، فجاء المؤسّس وكان من المعمّمين وأصرّ علينا بالقيام، لكن لا، {إنّا ها هنا قاعدون}.. {إنا ها هنا قاعدون}۱، وكان هناك الكثيرون من موظّفي الحكومة وأساتذة الجامعة ممّن يخجلون من الجلوس إلى جانب الناس، فانتحوا جانباً وجلسوا {على الأرائك ينظرون}٢، حتّى رأيت بعضهم وقد دخل المجلس بحذائه٣، وعندما خرجنا من المجلس كان هناك خطيب واعظ ـ رحمة الله عليه أعتقد أنّه انتقل إلى رحمة الله ـ فعندما خرجنا التفت إلى صاحب المجلس وقال له: ليس في مجلس سيّد الشهداء مستويان من الحضور، بل فيه مستوى واحد، فأخرج هذه الكراسي! فقال صاحب المجلس: حاضر حاضر وأخرجها، رحمة الله على صاحب المجلس هذا فقد سمعت أنّه توفّي أيضاً، ثمّ أرسل إلى المسجد من يخبر بأنّ الأمر قد امتُثل، فقال المرحوم العلاّمة للرسول: بلّغوه سلامي وقولوا له: إن شاء الله مجلسك هو مورد قبول سيّد الشهداء، فهذا مجلس يقبله الإمام، لا المجلس الذي فيه مستويان وثلاثة وأربعة، لا، ليس هذا هو المقبول.
في مجلس الإمام الحسين عليه السلام لا بدّ أن يكون العزاء بنحو لا يخرج عن الوضع الطبيعي، ينبغي أن لا يكون الصراخ تصنعيّاً، كما أنّه لا داعي إلى الصراخ أساساً، نعم لو فرضنا أنّ أحداً خرج عن ضبط نفسه وكان يبكي وينوح بشكل تلقائي فارتفع صوته، فلا إشكال في ذلك، والإمام الصادق عليه السلام يقول في حديث معاوية بن وهب: اللهم.... ارحم هذه الصرخة التي كانت لنا۱ ولكن هل كان الأئمّة أنفسهم يصرخون في كافّة مجالسهم؟ لا، بل كانوا يبكون وفق النحو المعتاد والمتعارف، وأحياناً كان صوتهم يرتفع بحيث يسمعه الآخرون، أما أن يصرخ الإنسان ويرفع بصوته [متعمّداً] فهذا ليس صحيحاً، لا بدّ من حفظ المتانة والرزانة لكي يتمكّن الإنسان من تحصيل قدر أكبر من الاستفادة، وعلى الوعّاظ والخطباء أن يعلموا أنّ علاقتهم هي مع الإمام الحسين، فلا يأتوا على ذكر أحد سواه، بعضهم يقول: نعم السيّد الفلاني يحضر في مجلسنا، فليحضر أين الغريب في الأمر، ولماذا يذكَر اسمه، فصاحب مجلس الإمام الحسين عليه السلام هو إمام الزمان، رحم الله المرحوم الشيخ الحلبي، فقد كان يرتقي المنبر في عشرة محرّم في مسجد القائم صباحاً، وكان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يدعوه كلّ عام، وكان الشيخ الحلبي ـ رحمة الله عليه ـ يقرأ المجالس، وبالطبع لا يريد هذا العبد أن يقول: إنّ جميع ما طرحه كان صحيحاً، لا بل كان هناك اشتباه في بعض أحاديثه، ومن هو الذي لا يشتبه، وحتّى المرحوم العلاّمة كان يوجّه له بعض الملاحظات في بعض الأحيان.
في اليوم الأوّل، جاء إلى المجلس وصفّى حسابه كاملاً [وقال كلمته التي يريد] فقال: أيّها الأعزاء لا يحسب المجلس بالعدد ولا بالعدّة، وليس بالأفراد ولا بالكميّة، وأمّا اللازم في المجلس... طبعاً لم يكن يحضر الكثير من الأفراد، خمسون شخص، أو ستون شخص، أو سبعون شخص، ثمّ في الأيام التي في وسط العشرة قليلاً قليلاً يبدؤون بالتزايد، كما أنّ المحلّة التي كان فيها مسجد القائم لم تكن بالأساس محلّة مسلمين، والأغلب كانوا سكّان مسيحيّين، وهم كذلك، لذا لم يكن المشاركون من نفس تلك المحلّة، بل كانوا يأتون من أمكان أخرى، وكانوا كسبة وتجاراً ومنازلهم في أماكن أخرى، لكنّهم كانّوا ذوي همّة فيأتون عند الصباح بإخلاص وبصدق وصفاء، وكان من مما قاله [حول ما ينبغي في المجلس] وهو كلام مهمّ جداً: إنّ صاحب المجلس ليس الحلبي، ولا حضرة آية الله الطهراني، بل صاحب المجلس هو بقيّة الله عليه السلام ابن سيّد الشهداء. وكان كلامه صحيحاً فصاحب مجلس الإمام الحسين هو إمام الزمان، لا ذلك الشخص الذي أقيم المجلس في بيته، ولا المؤسّس، ولا من وضع الأعلام والرايات، لا ليس هؤلاء، هؤلاء ليسوا أصحاب المجلس، هؤلاء كغيرهم.. هؤلاء وسيلة وواسطة من أجل عقد المجلس.
أمّا صاحب المجلس فمن هو؟ إنّ صاحب المجلس هو شخص واحد فقط، وهو إمام الزمان أرواحنا فداه وفقط، وبالتالي فلا داعي لأن يذكر اسم شخص ما كمصداق.
الآن افرضوا أنّ الشخص المحترم الفلاني أقام مجلس عزاء، فما معنى أن نقول اللهم افعل كذا و كذا للمؤسس، أو زِد من عزّة و مقام فلان، أو اجعل ظلّ فلان....، وهذه العبارات ...، ما هذا الكلام؟ ما هذه الأمور؟
لقد كان هناك أحد الأفراد في مكّة وكان يوم السابع من ذي الحجّة، فصعد المنبر، وكان في بعثة أحد المراجع الذين توفّوا، فصعد وتكلّم، وزبدة القول: تكلّم بأمور كثيرة عن الإمام الباقر، ثمّ بعد ذلك قال: اللهم احفظ الظلّ المبارك لفلان ...، وعبارات من نوع المجاملات المحفوظة والمنسوخة.. نعم تلك العبارات التي يوجد في جيب كلّ واحد صفحة أو صفحتين منها، وفي كلّ مكان يقول منها ما يطابق مقتضى الحال. نعم ثمّ أتى بعد المجلس وقال: نحن نسعى بجدّ لأن نكون مخلصين. نعم!
ولكن هل هذا هو إخلاصك؟!! أهذا هو إخلاصك؟!! ما علاقة مجلس الإمام الباقر بسماحة السيّد فلان؟! نعم الآن بعثته هي التي أقامت المجلس، جيد! وأنت ذهبت وتكلّمت. ولكن لمَ أوردت اسمه؟ ولمَ لمْ تذكر اسم سماحة الشخص الفلاني الآخر؟!
حسناً، البعثات ولله الحمد ـ وما شاء الله ـ كثيرة جداً، أربعين أو خمسين هنا وهناك، لذا بدلاً من أن تذكر اسم السيّد فلان من باب المثال وتقول اللهمّ ارفع درجة فلان ـ عفواً لقد كان ذلك السيّد لا يزال على قيد الحياة ـ اللهمّ أطل في عمر السيّد الفلاني... كان ينبغي أن تقول: اللهم أطل عمر سماحة السيّد الفلاني الآخر الموجود في مكان آخر.. فلمَ لمْ تذكر اسمه؟ هل لأنّ نقود محفظتك الآن ستأتي من هذا الطرف [دون ذاك]؟! حسناً غداً يذهب الخطيب إلى ذلك السيّد فيبدأ بالدعاء لعلوّ درجات ذلك السيّد الآخر! وعندما يذهب بعد غد إلى مجلس آخر يدعو بعلوّ درجات شخص ثالث، وتلك الدرجات هي نفسها بالأخير.
كلّ هذه المسائل خطأ، وغير صحيحة، فإن كنت تريد أن تذكر اسماً ينبغي عليك أن تذكر اسم إمام الزمان؛ فالمجلس مجلس جدّه، وصاحب المجلس هو إمام الزمان والسلام وانتهى.
عندها ماذا يصبح هذا المجلس؟ يصبح المجلس مجلساً حرّاً ومجلساً صادقاً، وليس عندما يصعد ذلك الشخص ويتكلّم يفكّر كيف ينبغي أن يربط المواضيع بعضها ببعض حتّى يختمها بذكر أصحاب السماحة، لا أبداً حينها لا يكون هناك أيّ نور في ذلك المجلس، ولا يعود صاحب المجلس عندها هو إمام الزمان، يصبح صاحب المجلس هو هذا العبد، نعم نصبح أنا وأمثالي أصحاب المجلس فيدخل في هذه المسائل.
ومن الأمور التي ينبغي للخطيب أن يعرفها هي أن يعرف من هو طرف المعاملة؟ إنّه إمام الزمان، فإذا ما كان هناك هديّة، فلا ينبغي أن يتكلّم من أجل العوض، وإذا أخذ عوضاً ينبغي أن يعلم أنّ هذا العوض جاء من ناحية الإمام، ولذا ينبغي أن لا يعدّها، وهل يعدّ الإنسان هديّة الإمام؟ سواء كانت ألف تومان أم تسعمائة تومان؟
رحم الله جدّنا المرحوم الحاج السيّد معين ـ وهذه الأمور والأخلاق ممّا ينبغي لنا أن نعجن بها أنفسنا ـ فقد كان خطيباً حسينياً، وفي يوم من الأيام أوصاه المرحوم الحاج هادي الأبهري، وهو معهود لدى الرفقاء والأصدقاء، ولديهم من الأخبار الكثير والقليل عن حالاته، فقال له: إذا قرأت في مكان و أعطوك مبلغاً من المال فلا تعدّه، وعليك أن تضع كلّ النقود في جيب واحد، مثلاً إذا ذهبت إلى المجلس الفلاني، فأعطوك هديّة معيّنة هناك، وفي نفس اليوم ذهبت إلى مجلس آخر أيضاً ثمّ آخر ثمّ آخر ...، عندها ستختلط النقود مع بعضها، وفي المساء لن تعرف مقدار ما أعطي في كل مجلس.
هذا الكلام كلام مهمّ جداً ها!! لن تعرف.
كان المرحوم السيّد معين ينقل لنا هذه القضايا وفجأة كان يضحك، بالطبع كان هناك وصيّة أخرى أوصى بها وأنا لم أكن أفعلها وهي بالطبع لا تستحقّ الذكر، كان يقول: أنا كنت أذهب إلى منزل إحدى النساء المؤمنات وكانت امرأة عفيفة تجمع مجموعة من الجيران في اليوم الخامس من كل شهر أو اليوم الثالث وتقيم مجلس عزاء أبي عبد الله، وأنا كنت أذهب عبر مستديرة الإمام الحسين ثمّ (كأنّني ذكرت هذا الأمر للأصدقاء سابقاً، لا بأس أذكرها مرّة أخرى، وأكرّرها) وفي نفس الموقع السابق ( هذه القضيّة تعود إلى أربعين سنة ماضية أو خمسة وأربعين سنة، نعم نعم أربعين سنة) فكان عندما يأتي ويقرأ المجلس تقدّم له توماناً واحداً مع الشاي الذي تحضره، في صينيّة الشاي، كانت تضعه هناك مع الحلوى وهذه الأمور، وخلاصة الأمر كنت آخذه وأضعه في جيبي وأعود. كان يقول: وقد مضى على هذه المسألة سنوات متمادية، وصرت في بعض الأوقات عندما أذهب أدفع لسيّارة الأجرة حوالي مائتين أو ثلاثمائة تومان، ومع ذلك كانت تضع نفس ذلك التومان الواحد، ولم يكن ليتغيّر من مكانه، نفس تلك الألف تومان التي كانت تعطيه في البداية بقيت تعطيه، وأنا كنت أدفع مائتين أو ثلاثمائة تومان لسيّارة الأجرة، وكنت آتي وأذهب... [ضحك من قبل سماحة السيّد]. وواقعاً هذه الأمور فيها دروس لنا، هذه الأمور بالنسبة لنا فيها درس و عبرة. أليس كذلك؟
والشخص الذي يريد أن يذهب الآن ـ الأمر لا يختصّ بمحرّم فقط، حتّى من يريد أن يذهب في شهر رمضان ـ لا ينبغي أن يقول بعد التبليغ: لقد كان هذا المقدار قليلاً، كان هذا المقدار كثيراً. لماذا؟ لأنّك أنت ذهبت إلى التبليغ! وفي صفر كذلك، فهذه القضيّة لا تختصّ بعاشوراء فقط، بل ترتبط بالأئمّة.. بالتبليغ، بل هي أعمّ من الأئمّة فهي ترتبط بتبليغ الدين، وبإحياء الدين، وبإحياء الذكر، فينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو؛ وعندها ستختلف الأمور اختلافاً كبيراً! ستختلف كثيراًً! سيكون وقع الكلام مختلفاً! وهذه الوصايا هي التي ذكرها الأعاظم. وفي المقابل ينبغي على صاحب الدعوة أن يحترم المبلّغ الذي يدعوه، لا أن ينظر إليه كأيّ إنسان، بل ينبغي أن نحترمه بعنوانه مبلّغاً للدين يؤدّي واجبه و تكليفه، فينبغي أن ننظر إليه من هذه الناحية والحيثيّة، فنرسل له سيّارة ونحضره. لا أن نقول له: تعال إلينا أيها الشيخ المحترم.. لا، بل مع كامل الاحترام، ومع كامل اللياقة ينبغي دعوته، طبعاً يمكن للإنسان أن يوكل هذه المسألة لشخص آخر، فيذهب شخص آخر ويحضره، ولكن ينبغي أن لا نقتصر على مجرّد الدعوة، لا! بل ينبغي عليه أن يعدّ مقدّمات حضوره.
حسناً! لقد ذكرنا للإخوة والأصدقاء الأحبّاء بعض ما يرتبط بكيفيّة مجالس العزاء وكيفيّة إحياء الذكر في شهر محرّم.
وقد كان المرحوم العلاّمة يقول: الأفضل أن تكون المجالس بين الطلوعين؛ لأنّ أثرها أكبر، ولكن بالطبع من لا يستطيع يمكنه أن يجعلها بعد الظهر أو في الليل، فلا إشكال في ذلك، ولكن لمجالس العزاء التي تكون بين الطلوعين أثر آخر، أو مثلاً يمكن لمن كان لديه مجلس عزاء في الليل ـ على سبيل الفرض ـ أن يحضر مجلساً آخر بين الطلوعين، فهذا له أثره الخاص، أصلاً بشكل عام وقت ما بين الطلوعين له أثره الخاصّ، حتّى أنّنا بينّا بالأمس في تلك الجلسة (الأمس المصطلح) أنّه كان يقول لهذا العبد: إذا ذهبت إلى الزيارات فلتكن زيارتك بين الطلوعين فهي أفضل من زيارة الليل، إلاّ إذا كان الزائر يريد أن يذهب للزيارة يومين أو ثلاثة أيام، نعم حينها ينبغي أن يذهب أيضاً في الليل لأن الفرصة محدودة. أمّا بالنسبة للذين يسكنون الأعتاب المقدّسة والمباركة فينبغي أن يزوروا بين الطلوعين، وخلاصة الأمر ينبغي معرفة قدر مجالس العزاء التي تكون بين الطلوعين.
نسأل الله أن يكتب لنا جميعاً توفيق العمل بتعاليم ومبادئ علمائنا الأعاظم، وأن يجعلنا من زمرة شيعة حضرة بقيّة الله أرواحنا فداه، وأن لا تقصر أيدينا عن التمسّك بأذيال ثوبه في الدنيا والآخرة، إنشاء الله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.