المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسممباني الإسلام
التوضيح
هو العليم
العقلانيّة في ثقافة عاشوراء
ألقيت في العشرين من محرّم الحرام من عام ۱٤٣٢ هـ ق
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطاهرين
واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
هناك نقطة في غاية الأهميّة خطرت في بالي حينما كنت في طريقي [إلى مجلس الدرس]، فقلت في نفسي أنقلها للإخوة؛ فالاطلاع عليها أمرٌ مفيد. وهي تأثّر الإنسان بالظروف والأجواء والأحداث المختلفة التي تحيط به وتخضعه لنفسها، وسواء أراد أم لم يرد يؤدّي ذلك إلى تغيير وجهته ومساره.
أثر ترتيب وسائل المنزل وآداب الجلوس عند الطعام على حالات الإنسان
من هذه المسائل التي كانت مطروحة في الزمان السابق كيفيّة الحياة وترتيب وسائل المنزل والأسرة؛ فرأي الأولياء العظام في ذلك هو أنّ على الإنسان أن يجلس على الأرض، فالجلوس على الأرض له خصوصيّاته، وليست خصوصيّات اعتباريّة أو تخيّليّة وتوهّميّة، بل هي واقعيّة، فأنا الآن إذ أجلس على الأرض وأنتم كذلك فإنّي أتكلّم بنحو معيّن وأنتم تستمعون ما أطرحه بنحو معيّن وتدركونها وتحلّلونها...، ولو كنّا الآن نجلس على الكراسي بدلاً من الأرض لتغيّر نحو كلامي ولتغيّرت كيفيّة فهمكم. وربّما اعتبر الناس ذلك مبالغةً لأنّهم لم يجرّبوا ذلك بأنفسهم، ولكن لهذا الأمر حقيقةٌ وواقعٌ، ولم يكن النبيّ معتبطاً إذ قال: «أنا عبد مثل العبيد أجلس جلسة العبيد».( ) ألم يكن يصيب النبيّ آلام في الظهر مثل سائر الناس؟! أم أنّه لم يكن في ذاك الزمان هذا النوع من الآلام؟! فاليوم يتذرّعون بآلام الظهر، فأحياناً يسألونني ويقولون: إنّا مصابون بآلام في الظهر، فأقول لهم: لا بأس إن كنتم مصابين بآلام فاجلسوا على الكرسيّ، وهذا ضروريّ إذا كان الإنسان مريضاً، ولكن هناك من يقول ذلك للوقاية من المرض قبل أن يصاب به، فالوقاية يمكن أن تتمّ بآلاف الوسائل، ولا تنحصر الوقاية بالجلوس على الكنب قبل أن نصاب بثلاثين سنة! فهل سنعمّر نحن عمر نوح لنشرع بالوقاية من آلام الظهر قبل سبعين سنة فلا نجلس إلاّ على الأرائك؟! فعندما خرجت من بطن أمّك كان ينبغي أن تصحب معك أريكة تجلس عليها كي تكون من البداية مستغنياً عن الجلوس على الأرض.
هذه الأمور هي مما تقوم النفس بالوسوسة فيه وتتّجه بالإنسان شيئاً فشيئاً نحو اتجاه آخر، وقد كان المرحوم العلامة أرسلني إلى أحد الإخوان في مشهد لأبلّغه أمره بردّ الكنب التي في بيته، فردّها ونقلها إلى مكان آخر. والحال أنّ المرحوم العلامة كان يزور العديد من منازل أصدقائه ومعارفه ممن كانوا يمتلكون مثل هذه الكنب غير أنّه لم يكن ليأمرهم بإزالتها، بل كان يأمر بعضهم بوضعها فأنا كنت شاهداً في بعض الموارد حيث قال لبعضهم: أنتم منزلكم يختلف، أنتم ضعوا فيه الكنب. فهؤلاء الأولياء والعرفاء ليست مبانيهم مثل العصا ذات اتجاه واحد فقط، بل هي مرنة وقابلة للتغيير بحسب الظروف.
وكان المرحوم العلامة قد حدّثني حول ذلك أنا شخصياً عندما جاء إلى منزلي في يوم من الأيام حينما كنت أسكن في مشهد فوجد عندي طاولة أجلس أمامها للكتابة، وكنت قبل ذلك بشهرين قد أُصبت بآلام الديسك، وإلاّ فقبل ذلك كانت كلّ كتاباتي حين جلوسي على الأرض، فقد كنت أملك طاولة صغيرة والآن لديّ واحدة منها أيضاً، ثمّ ابتليت بالديسك وكان قاسياً جداً حيث لم أستطع الحركة لمدّة أسبوعين، فرأيت أنّي لو أردت أن أجلس على الأرض فسأبتلى مرّة ثانية به وسيستمرّ، فذهبت واشتريت طاولةً وكرسيّاً، والمرحوم العلاّمة كما ذكرت لكم [يميّز بين الحالات المختلفة] ولكن كان يجب أن يقدّم لي نصيحته فقال: هذه الكتابات لا بركة فيها، البركة هي في الجلوس على الأرض. فما معنى أنّها لا بركة فيها حين الجلوس على الطاولة؟ هذا عين ما أقوله لكم، فمن يجلس على الطاولة فإنّ نسبة معيّنة من قدرته ستزول، فالسيارة التي صنعت وفق نظام أربع «سيلندر» أو خمس أو ست أو ثمان وبعضها كالشاحنات ذات اثني عشر «سيلندر»، فإذا تعطّل واحدٌ منها تضعف الآليّة عن حمل الأوزان التي كان بإمكانها حملها، مما يؤدي إلى الضغط على سائر «السليندرات» الموجودة وخرابها.
فكيفيّة الربط الخاصّ، الذي يتحقّق به نزول اسم العليم إلى ذهن الإنسان، هذا الربط يتأثّر ويخضع لهذه العوامل، هذا الربط الخاص.. الربط الذي يأتي بالنِكات الظريفة إلى الذهن.. الربط الذي يأتي بالدقائق التي لم تكن ليتصوّرها من قبل فيراها فجأةً ماثلةً في ذهنه، هذه اللطائف والحقائق والنقاط الأساسيّة والمفتاحيّة تختلّ، وأنا حتّى الآن أسعى بقدر الإمكان أن أجلس على الأرض إلاّ حينما أشعر بأنّ هناك احتمال لعودة الألم، لأنّي في هذا الصيف أصبت من جديد بمرض الديسك، نعم لم يكن بتلك القسوة، ولكنّي لم أتمكّن من التحرّك لثلاثة أيام، وكنت مسافراً، وقد كان ذلك بسبب عدم احتياطي، فقد عمدت إلى حمل شنطة السفر متصوّراً أنّي لا زلت على شبابي، فرأيت أنّ الأمر لم يكن كذلك فقلت لنفسي لا يا عزيزي:
در جوانى به خويش مى گفتم | *** | شير شير است اگرچه پير بود |
چون به پيري رسيدم ديدم | *** | پير پيراست اگرچه شير بود |
[تبسّم من سماحة السيّد]
[يقول: لقد كنت في أيام الشباب أقول لنفسي: الأسد أسد ولو كان هرماً. ولما بلغت سنّ الهرم أدركت أنّ الهَرِم هَرِمٌ ولو كان أسداً]
[ على سبيل الملاطفة و الضحك] فأحياناً ينسى الإنسان أنّه صار عاجزاً.. طبعاً أنا لحدّ الآن لم أبلغ عمر الشيوخ!! ولا قدّر الله أن أكون كذلك!! فهذا الشعر كلّه أسود وأنتم تظنّون أنّه أبيض.. نعم هكذا نخدع أنفسنا، وعلى كلّ حال هذه هي القافلة والجميع سائر فيها، وشئنا أم أبينا هم يسيّروننا فيها، وعندما يصل الإنسان إلى هذا العمر يصدّق بعض المسائل، ويرى أنّ ما يحدث لغيره يحدث له أيضاً، وليس من المعلوم ما الذي كتبوه في ملفّه وفي كلّ ورقة ورقة من صفحاته، ولا استثناء لأحد من ذلك.
نعود إلى مسألة الجلوس أمام الطاولة، فهذه المسألة مهمّة جداً ومثيرة لدهشة الإنسان وتعجّبه، فالأمر الذي يأمر به الأولياءُ الأفرادَ هو ليس على أساس حالة متعارفة تعمّ البلوى فيها عامة الناس، بل على أساس مصلحة هؤلاء أنفسهم.. مصلحتهم الشخصيّة.
وعندما كنت في لبنان قلت للإخوان هناك ـ تقريباً منذ سنة ـ ما هذه الثقافة التي تعتمدونها في تناول الطعام؟! فأحياناً كنّا ندعى إلى بعض الأماكن حيث يدعون الناس من أجل قدومنا، فنجد أنّهم يضعون الطعام في مكان، وكلّ مدعوّ ينتخب الطعام الذي يريده ويحمله في صينيّة ويجلس على الكرسيّ في مكان آخر. ما هذا؟ وأيّ احترام في أن يكون صاحب البيت جالساً في مكان بينما يأخذ المدعوّ طعامه ويجلس جانباً يأكله وحده ثمّ ينصرف، فما هذه الدعوة؟ فلو أنّ الإنسان لم يجبها لكان خيراً له. فقلت لهم هناك: لتضعوا ما شئتم وضعه من الطعام على سفرة على الأرض نجتمع حولها عملاً بسنّة رسول الله في الجلوس على الأرض، فيحصل اجتماع واحد، فالبركة هاهنا، والخير هاهنا، أما تناول الطعام على أساس ثقافة مجرّد تناول الطعام [دون ملاحظة حالة الاجتماع] وكلّ من أراد أن يأكل يأخذ طعامه ثمّ يمضي فليس فيها شيء من البركة.
وحتّى قد يحصل في بعض الدعوات أن يتناول الناس طعامهم وقوفاً، فقد دعينا يوماً مع المرحوم العلاّمة إلى أحد احتفالات الزفاف وكان لرحم من أرحامنا، فقالوا له: سيّدنا هناك طاولة كبيرة جداً و...، فنظر إليّ المرحوم العلاّمة وقال أين هي؟ قلت له يقولون أنها في الخارج يقفون حولها ويتناولون الطعام، فقال: ماذا؟ نقف؟! فنحن نختلف عن الحيوانات شيئاً ما! لا فالحقير يبقى جالساً هنا، فاذهب وأحضر لنا الطعام، فبقينا جالسين وبقي معنا عشرة أو عشرون ممّن يشعرون بالفارق بينهم وبين الحيوانات. والخلاصة جئنا وأتينا بالطعام وتناولناه هناك، نعم كُنّا جالسين على الكراسيّ وكان الطعام في أيدينا.
مشكلة الاختلاط بين الجنسين
فهذا النوع من المسائل ينحرف بالإنسان شيئاً فشيئاً، فهي تتحوّل ببطء إلى عادة ونمط، ثمّ تتحوّل من نمط إلى ثقافة، لأنّ النمط يحصل ـ أوّلاً ـ كعمل ثمّ يتحوّل إلى رسم من الرسوم وعادة ثابتة ثمّ إلى ثقافة راسخة، فهذه ثلاث حالات متتالية يمرّ بها كلّ عمل من الأعمال قبل أن يثبت كنمط، ثمّ يصير ثقافة خاصّة، فكما أنّ العرس هو ثقافة، فإنّ كيفيّته وخصوصيّاته تتحوّل إلى ثقافة هي الأخرى، فمثلاً يصير من ثقافة الأعراس أن يقف الجميع ويتناولوا الطعام على حالتهم هذه، وأن يؤتى بالطعام في الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل، ثمّ يركبوا العروس في سيّارة ويشرعون بإطلاق أصوات السيّارات ويجولون في تمام شوارع المدينة، فما معنى هذا وماذا يراد منه؟ وأيّ حدث سيحدث هذه الليلة لكي تعلن عنه بأبواق السيّارات؟ يجولون كافّة شوارع المدينة!! كلّ ذلك لشدّ انتباه الناس، وأوّل ما يخطر في أذهان الناس أن ينظروا ما في هذه السيّارة، أليس كذلك؟ هل هي محجّبة أم لا؟ جميلة أم لا؟ فيقومون بتقييمها وكم تعادل من القيمة، وذلك لأنّهم يعلنون عنها ويروّجون لها بهذه الطريقة، أن تعالوا وانظروا إلى متاعنا وسلعتنا وبضاعة سوقنا، فتعالوا يا أيّها الناس وانظروا!!! لا يا عزيزي فلا معنى للنظر هاهنا!
هذا يصبح ثقافة راسخة، حتّى أنّ بعضهم كان يأتي إلى المرحوم العلاّمة ويسأله لماذا لا نطلق الأبواق؟ أليس في ذلك ترغيباً لسائر الشبّان بأن يقدموا على الزواج؟ لا يا عزيزي هذا لا يرغّب الشبّان، فالأمر لا يحتاج إلى ترغيب، وهذه الأصوات لا ترغّب، في حين نراهم يخرجون حتّى في مدينة قم هذه حرم أهل البيت عليهم السلام فيجولون في الشوارع ويترجّلون من السيّارات في بعض الباحات ويشرعون بالرقص والتصفيق وسائر ما إلى هنالك، ويبدو أنّ هذا لا إشكال قانونيّاً فيه ضمن هذه الحدود، فهم يقومون بذلك أمام الملأ العام!!!
وفي ليلة من الليالي كنّا في أصفهان فأضعنا الطريق المؤدّي إلى قم، وانتظرنا سائر الإخوة قرب أحد الفنادق لنسير برفقتهم، وكان ذلك في أيّام المرحوم العلاّمة وكانت الليلة ليلة جمعة، ويا لها من ليلة فاتتكم...!! فقد شاهدنا خمس مواكب زفاف!! ويا لها من حفلات ومواكب...!! فقد شهدنا من حيويّة ونشاط الأصفهانيين ما يبعث الحياة والنشاط فينا وفي جميع الحاضرين، فقد كان المتاع يعرض بسخاء، وكان المشهد جميلاً جدّاً ومهمّاً [على نحو السخرية والتأسُّف]!! وعلى كلّ حال كلّ إنسان يتّبع آثاره وخصوصيّاته، وأحياناً أقول ما الفرق بين هؤلاء وبين الخنزير؟ فالخنزير يتميّز بأنّه يعرض متاعه أمام الآخرين وأنظارهم، ومن يأكل لحم الخنزير تنتقل إليه هذه الخصوصيّة شيئاً فشيئاً، فلأكل لحمه أثرٌ من هذه الناحية.
فمن العجيب جداً أن يتمكّن الإنسان من أن يقنع نفسه بذلك، لأنّ هذه المسألة ستتفاقم في نفسه، وإن شاء الله سأوضّح الأمر في شرح وصيّة أمير المؤمنين في «حاضرَين» والتي أعمل الآن على ترجمتها( )، وذلك في الفقرة المتعلّقة بالمرأة، والتي حذفها الكثيرون من الذين ترجموها فارتكبوا خيانة وجريمة في حقّ الإمام عليه السلام وفي حقّ العلم والأدب والتاريخ، وسأقول هناك أنّ هذه الوصيّة إنّما هي لهذا العصر أكثر من غيره من العصور، وقد كنت يوماً في الأهواز أو في مكان آخر من سائر المحافظات فذكرت للإخوان أنّ هذه الوصيّة هي لهذا العصر أكثر من سواه، وأنّها متعلّقة بهذا العصر بشكل مباشر، فهي معجزة أمير المؤمنين في القرن الحاضر، ولا تختصّ بألف وأربعمائة عام حيث لم يكن هناك شيء، أما الآن بعد أن وجدت هذه الوسائل فتعرف قيمة كلام أمير المؤمنين عليه السلام القائل: «وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل»، وقد ذكرت لهم هناك أنّي اطلعت بحسب معرفتي البسيطة وضمن الدائرة التي أتعاطى معها من الناس أنّ هناك أكثر من عشر حالات إلى خمس عشرة حالة أدّت فيها هذه العلاقات إلى دمار البيوت والأسر، وإذا ضربنا الخمس عشرة باثنين فإنّ النتيجة ستكون مضاعفة، لأنّ المشكلة من الطرفين غالباً، هذا ما اطلعت عليه أنا، أما ما يجري في المجتمع وبأيّ كم وكيف؟ فنحن نسمع أشياء من بعض المصادر تحيّر العقول..!! ولا أقول أنّ هذه الحالات لم تكن موجودة في زمان الشاه، فقد كانت ولكن بنحو محدود ومعدود، فلم تكن تحدث إلاّ عند أهل الفساد، فالمرأة التي تصلّي صلاة الليل لم تكن لتصاب بهذه المشكلات، ولا أدري كيف يعبّر الإنسان؟! المرأة المسلمة التي تصلّي الصلاة في أول وقتها ولا تؤخّرها... فالشيطان هو الشيطان ولا يترك الإنسان، ولا تتخيّلوا أنّ كلّ من جاء وصلّى صلاة الليل فـ {إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، هذا لا يكفي بل لا بدّ من المراقبة إلى جانب ذلك، فعندما أقول: يجب أن لا تتكلّم المرأة مع رجل عبر الهاتف؛ فلأنّي على علم بما يجري، فليبق جرس الهاتف يدقّ حتّى يملّ وينقطع ما المشكلة في ذلك؟! فأنا أعرف أنّ هناك أشياء وراء ذلك تدفعني إلى النهي، وعندما أقول: على المرأة أن تختصر الكلام إذا تكلّمت مع رجل اتصل يريد زوجها فلم يكن في البيت، فلا معنى للتطويل في الكلام والأخذ والردّ لتقول بصوت مرخّم: عفواً انتظروا قليلاً لأرى أين هو.. انتظروا لأتّصل به.. اسمحوا لي قليلاً من فضلكم...؛ فهذا هو الذي يؤدّي إلى ما يؤدّي، نعم يؤدّي. وأنا أعرف امرأة من الذين لم أكن لأصدّق ما قالت!! وكانت في زمان المرحوم العلاّمة حيث لم يكن هناك كمبيوتر ولا شيء من وسائل الاتصالات الموجودة الآن ولا موبايل، وقد قالت لي بنفسها وهي امرأة عفيفة، قالت: أنا لا أريد بعد الآن أن أستمع إلى محاضرات فلان ـ وكانت امرأة عفيفة جداً، ولم تكن لتتعمّد أفكار السوء كما أنّ المتكلّم لم يكن ملتفتاً ـ وذلك لأنّ لحن كلامه يترك فيّ أثراً سيّئاً، لقد كان يتكلّم بكلام حقّ ويروي عن الصادق والباقر عليهما السلام ولم يكن ينقل عن مواضع أُخرى، ولم يكن ليتكلّم بالكلام الذي يعرف الجميع كيف يلقونه وكيف يصطادون من خلاله.
قد يقال: لا يا سيّد فهذه حالة خاصّة ومرض في القلب، جيّد إذا كنتَ مريضاً فهل ينبغي أن تستمرّ حتّى النهاية؟! ماذا على المريض أن يفعل؟! إذا كان الإنسان مريضاً فجيّد... علماً أنّ هذا ليس مرضاً بل هو سنخيّة وحالة روحيّة ونفسيّة تصاب في مثل هذه الظروف وهذه الحالات بهذا النوع من الفساد، وهذا الأمر ليس مختصّاً بفرد من الأفراد. وقد تعجّبت من ذلك كثيراً، وقلت لها: أنت تعانين من هذه المشكلة؟! قالت: نعم، ولم تعد تستمع إلى محاضرات ذاك الرجل ولم تستمرّ على ما كانت عليه. وهذه هي المراقبة، فعندما أحسّت بأنّ هناك أثر سيّئ رغم أنّ هذه المحاضرات هي في الدين والأخلاق، ولكنّ الشيطان لا ينظر إلى نوع الكلام بل ينظر إلى أشياء أخرى ويوسوس من خلالها، فهذا يقول: «قال الصادق... » وتلك تفكّر في طلعته وشمائله، فماذا يجب أن تفعل هنا؟ ما إن أحسّت بذلك حتّى توقّفت وحفظت نفسها. وفي المقابل كان هناك من استمرّ ثمّ بعد ذلك صارت تقول: ادعوا فلاناً ليلقي المحاضرات ولا تدعوا غيره، فإنّ كلامه هو الوحيد الذي يدخل إلى القلب، جيّد فهناك الكثيرون الذين يتكلّمون بنفس كلامه، فلماذا لا يدُعى إلاّ فلان؟! فهذه المسألة ممّا يجب الاهتمام به، وهنا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: يجب على المرأة أن لا تسمع صوت الرجل ويجب على الرجل أن لا يسمع صوت المرأة، وما قاله إلاّ حرصاً على هذه المسألة، ولكن الآن يُقال: إنّ هذا الكلام هو لألف وأربعمائة عام خلت، جيّد، فانظروا إلى النتائج، هذه هي النتائج، فبمقدار ما نتراجع عن المبادئ فإنّا نخسر!!
نعم، استثنوا موضع الضرورة الطبيّة فقط، وفي حالات خاصّة فقط..، أمّا ما الذي يحصل في هذه المواضع؟ فالمطلعون هم الذين يعلمون ما يجري في المستشفيات!! وواقعاً يجب الالتفات إلى هذه المسألة، وليعلم كيف أن الشيطان يأتي شيئاً فشيئاً، ويقضي على حالة الهدوء النفسيّة التي تكون لدى الإنسان، ويستبدلها بحالة من الانحراف تدريجيّاً.. إلى أن يجعلها مكان حالة انبساط الروح والاطمئنان وراحة النفس. هذا هو عين ذلك، غاية الأمر أنّه يأتي من هذا الطريق، ويوصل الإنسان إلى هذه الأمور. لذا على الإنسان أن يكون لديه مراقبة، وبالمراقبة يمكنه أن يحفظ نفسه، لا بالذكر وسائر الأمور.
لماذا الحسين عليه السلام هو سفينة النجاة؟
من جملة هذه المسائل، كيفيّة إحياء الشعائر الدينيّة، فالشعائر الدينية يجب أن تكون بالشكل الذي بيّنه العُظماء، وبما حصل للإنسان من خلال التجربة أيضاً، وقطف ثماراً بذلك. نشاهد اليوم أن هذه «الهيئات»( ) عَمِلت على تبديل الإمام الحسين عليه السلام من «الصِراطيّة» إلى حالة «الموضوعيّة»، فالإمام الحسين طريق إلى الله.. جسر موصل إلى الله.. سفينة النجاة.. ماذا تعني سفينة النجاة؟ سفينة النجاة تعني: أن يركب فيها الإنسان، ثمّ تتحرّك لا أنها تبقى راسية في المرفأ، السفينة لا تبقى في المرفأ، بل تتحرّك وتطوي البحار والمحيطات إلى أن تصل إلى المقصد.
والسباحة في المحيطات المتلاطمة مع عدم وجود سفينة النجاة يعني: الهلاك؛ لأنّ الإنسان لا يمكنه التخلّص من هذه الأمواج المتلاطمة، ولا يمكنه الاستمرار مع ملاحظة طول المسير، إذ كيف يمكن للإنسان أن يطوي هذه المسافات سِباحة دون سفينة؟ فحتّى لو فرضنا أنّه استطاع السباحة ومقاومة الجوع والعطش مدّة خمسة أيام.. لكن ماذا يأكل في وسط البحر وماذا يشرب؟ فالماء المالح يزيد من عطش الإنسان.. وبعد خمسة أيّام يضعف الإنسان ويغرق في البحر.. أو بعد عشرة أيام.. في النهاية سيكون طعاماً للحيتان والأسماك.. بل لا حاجة إلى أن تأكله الحيتان، حيث يكفي في القضاء عليه ضعفه.. فكيف يمكنه أن يطوي هذه المسافة من شاطئ إلى آخر والحال أنها ستطول هذه الرحلة شهوراً وسنيناً؟ سفينة النجاة هي ما يركب فيها الإنسان ويطوي عبرها المسافات بهدوءٍ وراحةٍ ودون التعرّض للهلاك والانحراف، ويكون في مأمن مع رُبّان السفينة الذي يجنّبها الأماكن الخطرة ويستطيع التعامل في حالات العواطف والمخاطر، ويختار الطريق الآمن ليوصلها سريعاً إلى المقصد.. هذه السفينة هي سفينة الإمام الحسين، وعلينا أن ندخل هذه السفينة ونتوسل بها، ونطلب من الإمام الحسين المدد للوصول إلى المقصد. وعلى الإنسان أن يجعل ولاية هذا الإمام وشفاعته هي الزاد للوصول؛ لأن الإنسان لا يمكنه الوصول دونها.
حسناً، كيف هي سفينة الإمام الحسين؟ وما الذي ينبغي علينا أن نقوم به لنركبها؟
علينا أن نجمع الدستورات والكلام الذي ذكره الإمام والأعمال التي قام بها.. علينا أن نأتي بها جميعاً ونتأمل في كلِّ واحدة منها ونعمل بها. هكذا تكون سفينة النجاة.. التأمُّل في أعمال الإمام الحسين هو سفينة النجاة، النظر في حركة الإمام الحسين هو سفينة النجاة؛ معرفة الأماكن التي وقف فيها الإمام لنقف، والأماكن التي تحرك فيها لنتحرك.. فالسفينة لا تتحرّك في أيّ مكان، بل الكثير من السفن التجارية والكبيرة تتوقف في بعض الأماكن، وإلاّ فيمكن أن يغرقها الموج.. حيث نرى أن بعض السفن التي يبلغ طولها مائة وثمانين متراً تتوقف أمام الموج، ثم تتحرّك عندما تهدأ الأمواج. بينما في بعض الحالات ينبغي أن تعمل المحركات جميعها حتّى تستطيع التغلُّب على الأمواج.. أين ينبغي التوقف وأين ينبغي التحرك بسرعة؟ أنا لا أعلم! بل ذاك الربان هو الذي يعلم بأنّ هذه الموقعيّة تقتضي أن تشغّل جميع المحرِّكات وتمشي السفينة بأقصى سرعتها، وفي أحيان أخرى يرى بأن الظرف يقتضي الوقوف وعدم التحرّك، وأنّه إذا تحرك فسوف يُغرق السفينة، خصوصاً عندما تكون حمولة السفينة كبيرة، وهذه الأمور يجري حسابها بشكل دقيق.
الإمام الحسين لم يكن يتحرّك في بعض الموارد، بل كان يتوقّف، وكان في بعض الموارد يتكلّم.. كلُّ ذلك كان محسوباً بدقة؛ سواء قيامه أو قعوده.. ذكرت بأنّه بقي عشر سنوات لم يقاتل معاوية، لماذا؟ والحال أنّه كان يمكنه أن يقول بأن الصلح أمضاه أخي ولا دخل لي به. وهو يعرف تكليفه، وأمّا أنا فمختلف عن أخي، كان بإمكانه أن يقول هذا لمعاوية. ولو قال له معاوية أخوك كان إماماً وأنت إمام فعليك أن تنقاد له، لقال له الإمام: إذا لماذا جلست مكاني؟ فهناك مجال للكلام، لكن الإمام احترم صلح أخيه بصفته إماماً لا بصفته أخاً له. والحال أنّ >الإمامة كلمةٌ واحدةٌ، والإمام نورٌ واحدٌ يتشكل بأشكال مختلفة في الأزمنة المتوالية<. فكلٌ من هؤلاء الأئمة له ظهور، لكن النور واحدٌ والحقيقة واحدةٌ، والمبدأ واحدٌ. علينا أن نحصل على هذه الواقعية في الإمام الحسين. واللطيف أن جميع هذه الأمور موجودة عند الإمام الحسين؛ يعني: إنّه كان لدى الإمام الحسين صلح، وكان هناك حرب، وكان هناك كلام، وحركة.. وكان لديه طرق مختلفة في التكلم مع أشخاص مختلفين. إذ قلما نجد عند غيره من الأئمّة أن الإمام قد مرّ في جميع حالات الحياة، لكن هذه الأمور كلُّها كانت موجودة عند الإمام الحسين.
التشخيص الخاطئ لإحياء الشعائر الحسينية
ما هي سفينة النجاة هذه؟ هل هي أن نأتي إلى «الهيئات» ونلطم رؤوسنا؟ هذه الأمور لا تنفع حالنا.. حيث نظن بأنّه كلّما علا صياحنا أكثر كلّما كنّا في الدرجة الأولى من السفينة.. فالسفينة لها مراتبٌ ودرجاتٌ؛ درجةٌ أولى.. درجةٌ ثانيةٌ.. وثالثةٌ.. كالقطار. فالدرجة الأولى يكون بمقاعد راقية والثانية مقاعد خشبيّة.. فكلُّ من علا صوته وارتفع صراخه كان له درجة أعلى وضيافةٌ أرقى..!! أو عندما نضع الطين على رؤوسنا، نرى أنّنا صرنا من محبي الإمام الحسين أكثر.. وأننا تأثرنا كثيراً بعاشوراء حتّى وضعنا الطين على رؤوسنا..!!
هذه الأمور ـ يا عزيزي ـ كلّها تمثيل! هذا استهزاء بالإمام الحسين! فالشخص الذي يضع الطين والتراب على رأسه ينبغي أن يكون في مسيره كالإمام الحسين؛ مثل: حبيب بن مظاهر، لا أن يكون قد أتى بألف معصيةٍ واحتيالٍ.. ثمّ يدخل إلى مجلس الإمام الحسين واضعاً الطين على رأسه.. بل عليه أن يضعه في فمه لا على رأسه فقط...!!
ماذا يعني وضع الطين؟! تعال وأصلح نمط تفكيرك.. لا تفترِ على صديقك ولا تغتبه.. هذه الأمور هي التي يريد الإمام الحسين أن يعلّمنا إيّاها فيجعلنا نركب في سفينة النجاة، لا وضع الطين على الرأس والمشي حافياً يوم العاشر. هذه الأمور التي يقوم بها العوام، ويتصوّر الإنسان بذلك أنّه يُحيي ذكرى الإمام عليه السلام.
أحياناً عندما أنظر إلى هذه الصور والمشاهد التي تُأخذ عن بعض المجالس، أرى أن أكثرها تصنّع؛ يعني: إنّ الخطيب يقرأها بشكل يُسيطر فيه على إحساسات المخاطب لكي يُبكيه بأيِّ شكلٍ من الأشكال. لكن في أيّ روايةٍ أُمرنا بأن نحيي العزاء بهذا الشكل؟ إنّ ما لدينا في الروايات هو أن نقرأ المقتل، وما وردنا عن الإمام الصادق عليه السلام هو: «من بكى أو أبكى أو تباكى وجبت له الجنة». فمن يُريد قراءة المقتل لا ينبغي عليه أن يأتي ويقرأ بأيِّ نحوٍ من الأنحاء، بحيث يُبكي الإنسان انطلاقاً من الإحساسات، بل عليه أن يُبكي بفهمٍ. إذ بكاء الإحساسات يتبدّل بعد قليل إلى ضحك إحساسات، فهؤلاء الذين يبكون بهذا الشكل ويصيحون بصوت عال ويضربون رؤوسهم ويضعون الطين عليها.. انظر بعد ساعة عن ماذا يتحدّثون؟ وبأيِّ مزاحٍ يمزحون؟ هؤلاء هم الذين كانوا قبل نصف ساعة يضربون رؤوسهم. هذه الحالة من البكاء التي كانت لديهم هل تستمرّ معهم إلى الليل؟ وهل يبقون في حالة حزن؟ أو أنهم يتسابقون بعد قليل على قطعة اللحم ويتنازعون لأخذها؟ هذا النحو من التحرك وهذا النحو من إقامة العزاء يُخرِج الإنسان من سفينة النجاة، لا أنّه يُدخِلهُ فيها. هل الذي يفيد الإنسان هو اللطم والبكاء والعزاء والصياح؟ هل وردنا في الروايات أنّ مجالس العزاء التي كان نفس الأئمّة يُقيمونها كانت بهذا الشكل؟ وأنّهم كانوا يصيحون هكذا، وأنّ الإمام السجّاد أو الإمام الرضا أو الإمام الصادق عليهم السلام الذين كانوا يقيمون المجالس.. هل كانوا يصرخون بهذا الشكل ويضربون رؤوسهم ويطرحون أنفسهم أرضاً؟
كلاَّ! بل كان الإمام يجلس جانباً ويستمع إلى ذكر المصيبة.. نعم، قد يغمى عليهم أحياناً، لا إشكال في ذلك، أن يغمى الإنسان لعظم المصاب لا ضير فيه.. وإذا فقد الإنسان توازنه من شدّة المصاب، وعلا صراخه نتيجة ذلك بشكل لا إرادي لا إشكال فيه. إنّما الإشكال في التمثيل والتصنّع.. دون أن يَخرج من عينيه دمعةً واحدةً ولو بمقدار جناح بعوضة!!!
في إحدى المرّات رأيت أحد الأشخاص: كان يتحدّث مع صاحبه، وعندما رأى أن «الكاميرا» توجّهت إليه شرع بالبكاء.. وأخذ يبكي كأمٍ فقدت ولدها.. هل رأيتم مثل ذلك أم لا؟ إلى اللحظة التي تسبق توجيه «الكاميرا» إليه كان يتحدّث مع صاحبه.. ولعلّه التفت متأخراً إلى ضرورة التباكي على الإمام، ولو توجهت الكاميرا إليه قبل ذلك لالتفت مباشرة.
هذه المسألة يجب الالتفات إليها، لقد لفت الحقير النظر إلى هذه المسألة في كلامٍ سابق، وأنّ المراد من هذه المجالس ليس الصياح.. إذ يمكنه الصياح في الأودية وعلى أعالي الجبال.. أمّا في هذه المجالس فيجب أن تقرأ فيها القصائد التي تتحدّث عن تلك الواقعة مع المحافظة على القيم السامية الموجودة فيها. لا القصائد التي يذكر فيها خصوص المصاب والتي تقلل من قيمة الإمام وتوهن به، بحيث إذا نظر إلينا الآخرون لقالوا لماذا يبكي هؤلاء؟ فمثل هذه القصائد والأشعار لا ينبغي قراءتها في هذه المجالس، بل يجب قراءة القصائد التي تكشف عن هدف الإمام وتبيّن مدرسته.. القصائد التي يشعر الإنسان بعد الانتهاء من المجلس أنّه تغيرت حالته نتيجتها، إذ مجالس الإمام الحسين عليه السلام إنّما هي لتغيير النفس.
الإمام الحسين قدم نفسه وأولاده للدين فماذا قدمنا نحن؟
سمعت جملة من المرحوم العلامة وكانت عجيبة جداً بالنسبة إلي، وكانت في عيد الفطر في زمن الشاه، كان يقول فيها: إذا جاء سيّد الشهداء يوم القيامة حملاً جسد ولده عليّاً الأكبر الذي كان مقطعاً إرباً إرباً، فقال: لقد قدمت ابني هذا لأجل الإسلام ولأجلكم، فماذا قدّمتم أنتم لأنفسكم ولدينكم ولصلاحكم؟ فبماذا نجيبه عند ذلك؟
هذا الأمر عجيب جداً! إذ قد يأتي امتحان يعرف الإنسان من خلال ذلك أن جميع الدروس التي درسها وجميع الجلسات والخطب حول معرفة الإمام وغيرها.. كلّها هباء منثوراً...!! كلها كانت باسم الإمام الحسين، كانت لأجل التنوّع فقط لا أكثر! وهذه العبارة عجيبة جداً، حيث يقول الأمام الحسين: أنا قدّمتُ عليّاً الأكبر لإحياء الدين، وقدّمتُ عليّاً الأصغر لإحياء الدين.. لأجل مواجهة الظلم.. لإقامة العدل.. لمواجهة الكذب والظلم والخداع.. قدمتهم لأجل ذلك.. أنتم الذين تدّعون اتباعي والتبليغ لي، وتتزعّمون الناس باسمي.. ماذا قدّمتم؟! هل هيّأتم أنفسكم لتنالوا الأذى مثلي.. أم أنكم فضلتم السكوت؟ أنت الذي كنت تقول بأني كذا وكذا، وعلى الناس أن يأتوا إلينا وأمثال ذلك.. أنت الذي نشرت رسالتك العملية في كلّ مكان، ولو أمكنك إرسالها إلى القمر لأرسلتها.. ماذا قدمت؟!
إحياء مجالس الإمام الحسين تكون باتباع الحق لا بالافتراء على الأولياء
أحد العلماء في مشهد قال بأنّ العلامة الطهراني ذكر في كتابه الروح المجرد بأنّ أستاذه كان مسروراً في يوم عاشوراء وأنّه كان يضحك!! وأنّ هذا انحراف عن الدين وشرك.. لكن هذا الرجل لم يكلّف نفسه حتّى عناء تصفّح الكتاب، ومع ذلك يدعي المرجعيّة.. إلى أين نحن متوجهون؟ وبأي مصيبة مبتلون؟! وبعد انتهاء المجلس قام إليه أحد الجالسين وأتاه بالكتاب وقال له انظر! هنا يقول: كذا...، وهنا يقول: كذا! فقال له: عجيب! لم يقولوا لي هذا الأمر!!
لم ينقل لك هذا الأمر؟! لكنّك الآن رأيت بعينك.. فقم وقل الحقّ.. إلاّ أنّه مع ذلك لم يقل شيئاً حتّى الآن!!! ونحن نأتي وندّعي أنّ هذا المجلس مجلس الإمام الحسين، ونلطم فيه، وندعو الناس إليه.. لكن الإمام الحسين عليه السلام يأتي يوم القيامة بعليٍ الأصغر ويضعه أمامك، ويقول لك عليك أن تتحمّل مسؤوليتك.. أنت لديك ولد وأنا كذلك، مع أنّ ظِفر ولدي أشرف من ألف شخص مثلك ومن يمشي على ممشاك، أنا قدمت هذا الشاب للإسلام.. بينما أنت تكلّمت بكلام سيئ واتهمت ولياً من أولياء الله، وحتّى الآن لم تتراجع وتوضّح الأمر، والحال أنّك ذكرت في رسالتك العملية بأنّ الذي يفتري على الآخرين عليه أن يتوب ويتراجع.. فلماذا لا تتراجع؟!
وكذا ذاك الذي يكتب كتاباً باسم «تزكية النفس» وطهارة النفس، ويذكر بأن المرحوم العلامة من جملة العرفاء الكذابين.. أليس هو مرجع تقليد؟! يوم القيامة سيأتي المرحوم الوالد ويطالبه: أين كذبت أنا؟ أليس في رسالتك أنّ الكذب حرام؟ وأنّ الافتراء حرام؟ لماذا لم تقبل المناقشة مع ابني أمام الملأ؟!! وعندما قدّم لك جواباً على ذلك، لماذا لم تقبل مجلتك بنشره؟!! يوم القيامة تأتي هذه الأمور! (وأنا أقول لكم: بأنه إن كان أيّ أحدٍ على وجه الأرض يدّعي وجود مخالفةٍ أو كان له اعتراض على مباني أو على كلمةٍ من كتب المرحوم الوالد.. فإنّي على استعداد لإجابته ومناقشته وأعلن هذا الأمر الآن..) فلماذا لم تقبل بذلك؟ ولماذا قلت نرى؟ لماذا قلت: أعطنا المقالة لنرى الوقت المناسب لها؟ لماذا؟! يوم القيامة سيأتون بهذه الأمور وسيضعونها أمامه. ففي جميع هذه المدّة التي كنت تدعو الناس إلى الإمام الحسين.. كانت كلّها كذباً. نعم، الله تعالى لا يترك الأمور كما هي، بل يختبر الناس حتّى يُخرج كلُّ شخص ما في باطنه:
... | *** | تا سيه رو شود هر كه در او غش باشد |
(يقول: حتّى يسودّ وجهُ كلِّ من كان في قلبه غش)
الناس كلّهم فهموا الأمور والتفتوا إلى حقائق المسائل، باستثناء أولئك الذين اعتادوا أكل التبن والعلف. وهذه الأمور يجب أن تظهر وتتضح للجميع.
تحرّك الإمام الحسين ليكون سفينة النجاة هكذا؛ يعني: إنّك عندما تكذب على شخص عظيم عليك أن تصحّح ذلك سريعاً، فعند ذلك تكون قد ركبت في سفينة النجاة، عليك تقول: لقد أخطأت! نقول: نعم، فأنت لست معصوماً، ولا تصل إلى تراب أقدام المعصوم، فما بالك بنفس المعصوم.. لكن يمكنك أن تصحّح خطأك.. هذا يمكنك بلا شكّ. وهذه الأمور قد تحصل لنا أيضاً، فقد نقع بخطأ في مسألة معينة، وبعد ذلك عندما نفهم الحقيقة علينا أن نذهب ونطلب العذر، ونقول بأنّه نُقلت إلينا الأمور بشكلٍ خاطئٍ، ولكن المسألة لم تكن كذلك، لذا نحن نعتذر عن فعلنا، وإنشاء الله سندقق أكثر في المرّة القادمة.. وهذه الأمور تحصل لجميع الناس، حتّى العظماء تحصل معهم مثل هذه الأمور، لكنهم عملوا بذلك. بل أحياناً ـ كما ذكرت لكم سابقاً ـ قد يوقع الإنسان نفسه في خطأ لكي يستطيع العبور من نقطة إلى أخرى، وإلا لما كان يعبر.
ركوب سفينة الإمام الحسين يكون بالتأمل والعمل بما قام به الإمام
كون الإمام الحسين سفينة النجاة هو أن يأتي الإنسان وينظر إلى عمل الإمام وطريقه وسبيله ويدقّق فيها واحدةً واحدةً، ويرى نفسه إلى أيِّ حدٍّ يعمل بها ويطبقها على نفسه ويلتزم بها. عندما توضع المائدة أمام الإمام الرضا يُنادي جميع الأشخاص الذين حوله، حتّى سائس الخيل.. هكذا كان الإمام الرضا، لم يكن على مائدته درجات؛ درجةٌ أولى يجلس فيها الرؤساء والوزراء في مكانٍ منفصلٍ، وسائر المدراء ومن تحتهم في مكان آخر. بل كان الإمام الرضا يضع المائدة ويجلس عليها جميع الأشخاص. وبعد أن يجلس الجميع يجلس هو آخرهم.. الجميع يأكل نوعاً واحداً وبنفس المقدار. هذا الأمر هو الذي ينبغي علينا أن نفهمه، وفي نفس الوقت إذا كان قد أمر غلامه بأمر ولم ينفذه، لم يكن يعاتبه أمام الناس، إذ كلُّ أمرٍ له مكانه الخاصّ. لا أنّه يقول: بما أنّي أنا الإمام فلا بد من المسامحة، ليس الأمر كذلك.. فقد نقل أنّ أحد غلمان الإمام قام بفعل دون إذنٍ منه، فعاتبه الإمام؛ لماذا لم تستأذن؟ هذه الأمور ينبغي أن تكون بأمرٍ، وكل شيء له حساب، وكل شيء له محله الخاص.. وقد يقال: ينبغي أن تعفو عن كل شيء، لا ليس الأمر كذلك، في بعض الموارد تعفو، لكن ليس دائماً، إذ قد يُساء الاستفادة من العفو أحياناً؛ فيقال: لقد احتلتُ على فلان وضحكت عليه وأخذت منه أكثر ممّا أستحق وأمثال ذلك... كلاَّ! بل يجب التعامل مع مثل هؤلاء بصلابةٍ وأخذ الحقِّ منهم حتّى آخر مقدار منه. نعم، أحياناً قد يغض النظر إذا رأى الأمور بشكل آخر.
لذا إدراك هذه المسألة وتشخيصها إنّما هو بعهدة نفس الأشخاص، ففي بعض الأحيان يقول: الآن أنا لا أرى أيّ إشكال في هذه الكيفيّة والوضعيّة، وقلبي يميل إلى هذا النوع من العزاء وهذا النوع من المجالس، وهذا النوع من الإحياء.. إذا كان كذلك، فما المشكلة في ذلك، ونحن لم نقل بأنه يجب أن نقوم بهذا الأمر، بل نقول: هذا النمط خاطئ، لكن مع ذلك لا ندّعي لأنفسنا العصمة، إذ قد نكون مخطئون في تشخيصنا هذا، وقد يأتي يوم نقول فيه بأن الأمر ليس كما نقول الآن.. بل الحقّ أن يضع الإنسان الطين على رأسه... لكن حتّى الآن لم نصل إلى هذه القناعة، وما دمنا لم نصل إلى ذلك فنحن مكلّفون بالعمل طبقاً لشعورنا ولإدراكنا وما نشخِّصه.. طبعاً المسألة أدقُّ من هذا الأمر، لكن لست مستعداً لبيانها بالدقة المطلوبة وبيان السبب الأساسي في هذه المسألة..
والحاصل أنّ كلّ من يرغب في إحياء المجالس بهذا الشكل أمكنه ذلك، ما الإشكال في ذلك؟ إذا أراد أن يحيي عاشوراء بالضرب واللطم والصراخ والضرب على الحائط وتمزيق الثياب و...، ويرى أنّ كلّ ذلك يزيد عنده من حبّ الإمام الحسين والتعلق به فليفعل!! بعضهم لا يعجبه هذا النوع من إقامة المجالس، بل يعجبه نوع آخر؛ كأن يكون المجلس هادئاً وعادياً.. فهؤلاء لا موجب لحضورهم هنا، من قال بأن عليهم أن يحضروا في هذا المجلس؟! كلاّ بل يُقيموا مجلساً مختصاً بهم، ويكون كلٌّ في مجلسه دون أن يحصل افتراق في المجلس أو خلاف أو أي شيء آخر.. ولا إشكال في ذلك أصلاً. لكن إذا كان المجلس ينعقد في منزل معيّن، يكون صاحب هذا المنزل هو المسؤول عن هذا المجلس وتنظيمه وتدبيره، ولا يمكننا رفع المسؤولية عن صاحب المنزل في ذلك.
كنّا نرى مراراً أنّ بعض الأشخاص في زمن المرحوم العلامة يريدون أحياناً أن يقوموا بأعمال خارج البرنامج الموضوع، فكان يُنبهِّهم. أو أنّ بعضهم كان يريد أن يعلو المنبر ويبدأ بقراءة العزاء، فكان يمنعهم من ذلك ويقول: إنّ القارئ معيّنٌ مسبقاً والخطيب محدّدٌ كذلك، ولا يحقُّ لأيِّ شخصٍ أن يتجاوزهم في هذا الأمر؛ لماذا؟ لأنّ المجلس كان في منزله. ولو كان المجلس في منزل شخصٍ آخر، فيمكنه أن يطلب من الخطيب أن يقتصر في كلامه على العزاء فقط.. وهذا النوع من المجالس موجود، إذ يوجد بعض الهيئات التي يُدعى للقراءة فيها كلّ من يأتي إليها... وقد ذهبنا إلى بعض تلك المجالس، ورأيتُ كيف أنّ البعض ممّن أخذ الميكروفون لا نعلم هل كان راعي بقر أو قارئ عزاء؟!! وإن كان شكله يشبه الأوّل... حيث لم نرَ حتّى الآن قارئ عزاء بهذا الشكل، إذ كان يقول: لقد قدم السيد فلان فصلوا على محمد وآله... حتّى أنه لم يقرأ ولو بيتين من الشعر!! بعض الأشخاص يأنسون بمثل هذا النوع من المجالس، أمّا نحن فلا نأنس بهذا النوع بتاتاً.
وفي المجالس التي تقام في منزلنا نتصدّى لهذه الأمور، ومن يريد أن يدخل بهذا الشكل نطرده، والأشخاص الذين يريدون الصياح وإعلاء صوتهم بأكثر من الشكل الطبيعي نخرجهم من المجلس. لكن هؤلاء يمكنهم أن يقيموا مجالس في أماكن أخرى. لدينا مجلس في اليوم العاشر في منزلنا بهذا الشكل [الذي ذكرت]، وكلُّ من يرغب بالمشاركة فيه بهذا الشكل فليتفضّل! وكذا في الليالي، إذا رأى بعضهم أنّ الأماكن الأخرى قد يكون فيها إشكال بالنسبة إليهم ولا يمكنهم الحضور فيه، فلا إشكال، إذ الإمام الحسين لا يجبر أحداً ولا يمنع أحداً من الحضور، بل كلُّ يعمل وفقاً لتشخيصه. وفي هذه الحالة لا يكون هناك أيّ كلام وأيّ مطلب، وعندئذٍ يمكن لكلا الطرفين أو الأطراف أن يصلوا إلى ما هو في بالهم وفي نظرهم. وهذا الأمر كان في السابق أيضاً، حيث كان البعض يشعر بأن المشاركة في مجالس الصباح التي يقيمها المرحوم العلامة كان اللطم فيها قليلاً، بل كان يعجبهم أن يلطموا ساعتين أو ثلاث لطماً شديداً حتّى ترتاح أنفسهم بذلك.. إذ لم يكونوا يرضون باللطم ربع ساعة أو عشرين دقيقة.. فالطباع مختلفة فيما بينها.
ضرورة احترام مجالس الإمام الحسين والالتزام بالضوابط التي ذكرها العظماء
على كلِّ حال، هذا ما أحببت أن أبينه للإخوة، حتّى يطّلع الجميع على هذه المباني، ولا يقول أحد: بأني لا أعلم بها، وإظهار الإنسان نفسه بعدم العلم بذلك، إذ ادعاء عدم العلم هو إظهار للرأي المخالف. والإمام الحسين للجميع، ليس مختصّاً بفئةٍ خاصّةٍ أو نحلةٍ أو شخصٍ كذلك، فإذا فرضنا أن شخصاً شعر بأنّه قد يستفيد أكثر من مكانٍ آخرٍ، فليذهب! وقد ذكرت ذلك من أوّل الأمر.. وهذه المسائل التي أطرحها على الإخوة هي عبارة عن تشخيص الحقير نفسه، ومن الممكن أن أكون مشتبهاً في ذلك، لكني أتحمّل كامل المسؤولية عن هذا الكلام، أما الآخرين فإن أرادوا العمل بهذه المطالب، فعليهم هم أن يتحمّلوا مسؤوليتهم يوم القيامة، يعني: إذا أتى شخص يوم القيامة وقال: أيها السيِّد الطهراني لقد ذكرت هذه المطالب ونحن عملنا بها، أقول له: كان بإمكانك أن لا تعمل! إذ الحقير يتحمّل مسؤوليّة كلامه يوم القيامة.. أما الآخرين فلا يمكنني أن أتحمّل مسؤوليّتهم، فلست إماماً حتّى يأتي الناس ويتّبعوني في كلّ كلمةٍ قلتها، ويحتجوا بها عند الله. ذلك الأمر مختصٌّ بالمعصومين الأربعة عشر، حيث إطاعتنا للمعصومين الأربعة عشر تحتوي على حجيّة ذاتيّة، وإذا أراد شخصٌ العمل على طبق ما أمر به المعصومون، يكون قد عمل بما يشتمل على حجيّة ذاتيّة.
أمّا الحقير فأقول ـ وقد قلت مراراً ـ : بأني لست معصوماً ولا متصفاً بالعناوين التي يتم تداولها هنا وهناك، بل أنا كسائر الإخوة، غاية الأمر عندي مباني وهذه المباني حصلت عليها من خلال علاقتي بالعظماء لمدّةٍ طويلةٍ، ولا يمكنني تجاوز هذه المباني، لكن مع ذلك لا ألزم الأشخاص الآخرين بهذه المباني أيضاً، إذ قد يرى بعضهم أن ذاك العمل أفضل.. وأن وضع الطين على الرأس جيّد.. وأنّ قراءة الشعر بهذا الشكل حسنٌ.. وكذا سائر الأمور الأخرى... وأن هذه الأمور هي التي تولّد حالة المحبّة والعشق بين الإخوة، وأنّه لا بدّ من إعمال التسامح في هذه الأمور.. أمّا الحقير فلا يمكنه أن يتسامح بذلك أبداً. وإذا رأى أحدٌ أنّ هذه الأمور هي الحجّة فكلُّ شخصٍ يعلم تكليفه.
أمّا المجالس التي تقام في المنزل (المستعار) للحقير.. فيجب أن تكون طبقاً لهذه الموازين، كما هو المشاهد لدى الإخوة جميعاً، إذ عندما شعرت بأنّ حضور بعض الأشخاص مضرٌ في المجلس منعتهم عن التردّد إليه، وقلت: لا أجيز لهم المجيء، وإذا جاءوا فسوف يتم التعامل معهم بجدّية. وقد اعترض الكثير على هذا العمل من الحقير، وسمعت بأنّه ينبغي أن يكون مجلس الإمام الحسين مفتوحاً أمام الجميع. بل على العكس من ذلك تماماً، فمجلس الإمام الحسين يجب أن يكون مقيّداً ومنظّماً أكثر من غيره. هل تُدخلون على مجلس الإمام الحسين الوباء والمرض؟ حتّى يفتك بالجميع؟ أم أنّكم تخرجونه؟ إذ عندما تُدخل الوباء فأوّل من يمرض هو أنت! هل ندخل إلى مجلس الإمام الحسين مريضاً بمرضٍ معدٍ؟ هل تدخلون على مجلس الإمام الحسين رجلاً بذيء اللسان؟ هل تدخلون إلى مجلس الإمام الحسين إنساناً معادياً؟ أو أنّ مجلس الإمام الحسين يجب أن يكون بأفضل ضوابط وأفضل الأشخاص. أي فرق بين هذا المجلس ومجلس الذكر؟ فهل يمكن لأي شخصٍ أن يدخل مجلس الذكر؟ هل هناك فرق بين مجلس الإمام الحسين ومجلس الله تعالى؟ المجلس الذي يذهب إليه الإنسان لقراءة دعاء السمات عصر الجمعة، لماذا لا ينبغي للجميع أن يشارك فيه؟ فإذا أتوا وقالوا لك: نريد أن نستمع إلى دعاء السمات، فما تقول لهم؟ أو أي مجلس خاص من هذه الجهة. هذه المسائل لا بدّ من الالتفات إليها.
لذا من الآن فصاعداً سوف يتعامل الحقير مع هذه الأمور بشكلٍ جادٍّ.