175

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

8520
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالطعام و التغذية


التوضيح

لماذا نحتاج إلى الرياضة؟ لماذا يجب أن يكون طريق السلوك شاقاً إلى هذه الدرجة ؟! ولماذا لا يكون طريق الله طريقًا سهلا يسيرا؟ أسئلة يطرحها الكثيرون، وقد تعرّض سماحة آية الله السيد محمد محسن الطهراني قدس سره في هذه المحاضرة لبيان الجواب عن هذه الموضوع في إطار شرحه لحديث عنوان البصري، ثمّ ختم الكلام ببعض التوصيات القيمة حول شهر محرّم الحرام وكيفية إقامة مجالس العزاء فيها.
و أهمّ عناوين هذه المحاضرة التي ألقيت يوم الثالث و العشرين من ذي الحجة كالتالي:
1- بين الزهد الظاهري والزهد الحقيقي.
2- شبهة وجواب: لماذا كان طريق الله هو طريق الصعوبة و المشقّة؟
3- التشريعات الإلهية منسجمة مع التكوين؛ تشريع الزواج نموذجا.
4- الآثار التكوينية للزواج الدائم ليست موجودة في الزواج المؤقت.
5- طريق الله هو الطريق المطابق للتكوين: الغذاء نموذجاً.
6- طريق السير والسلوك هو طريق السعادة و العافية.
7- توصيات خاصّة بشهر محرّم ومجالس العزاء.

/۲٦
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱۷٥

  •  

  • ألقاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

2
  •  

  • أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم

  • بسم اللـه الرحمن الرحيم

  • الحمد لله ربّ العالمين

  • والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد

  • وعلى آله الطيبين الطاهرين

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام في حديث عنوان البصري "وإياك أن تأكل ما لا تشتهيه".

  • كان الكلام عن رياضة النفس، فالرياضة تعني التهيئة والانتقال من حالة إلى حالة أخرى، "راض" "يروض" بمعنى التغيير والتحرّك والجولان.

  • يبيّن الإمام عليه السلام لعنوان البصري في هذه الفقرة دستورًا عمليًّا جادًّا للوصول إلى تلك المباني والمفاهيم التي أُشير إليها سابقًا، ومن الآن فصاعدًا سيشرع الإمام بذكر كيفيّة الوصول إلى هذا المقصود والمطلوب، إذ لا يمكن للإنسان الوصول إلى ذلك الهدف هكذا ومن دون اهتمام، فالمسألة لها كتاب وحساب، فكلّ من يريد الوصول إلى تلك المسائل فليتوكل على الله وليمشِ في هذا الطريق! أجل ينبغي أن يعمل بهذه الأمور، وإذا ما قصّر في ذلك، فلن تتحقق تلك المباني وتلك المعاني عنده، ولن يحصل على تلك المراتب العالية، فحتى لو بقي يسير عشر سنين أو عشرين سنة أو خمسين سنة أو خمسة آلاف سنة فلن يضاف إليه شيء، وهذا ما نشاهده بأنفسنا، وقد جرّبنا هذه الأمور ورأينا أنّ المسألة كذلك.

  • بين الزهد الظاهري والزهد الحقيقي

  • طبعًا يمكن للنفس أن تختار أمورًا تتوافق مع ميولها وأهوائها، كما ذكرنا سابقًا للإخوة، فإنّ مجرّد ارتداء لباس قديم لا يدلّ على الزهد، وكلّ تناول لطعام غير متعارف لا يعني الابتعاد عن الدنيا. الزهد يعني الابتعاد عن هوى النفس! فأحيانًا قد تكون النفس ذاتها ـ لسببٍ من الأسباب التي لا تعدّ ولا تحصى ـ لا تميل إلى الحياة المتعارفة، بل تريد أن ترتدي زيًّا آخر، وتريد أن تظهر بشكلٍ آخر، وتميل إلى أن تُظهر نفسها بين الناس بشكلٍ مختلف، وتحصل من ذلك على لذّةٍ كبيرة، لا تحصل عليها من خلال اتباع السيرة المتعارفة، فالنفس تريد الالتذاذ بعملها هذا، غاية الأمر أن هذه اللذة (وهي لذّة دنيوية) ، باعتبار أنها لا تحصل لها بذاك القالب، فإنّها تحاول الإتيان بها بهذا القالب وبهذا الأسلوب. 

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

3
  • فلو ارتدى هذا الشخص المتظاهر بالزهد لباسًا عاديًّا كسائر الناس، فسوف يقال: هذا كالآخرين، وإذا كان طعامه كطعام سائر الناس، سيقال: هذا مثل بقيّة الناس، لا يختلف عنهم. وإذا قيل بأن ذهابه وإيابه ومنزله ومكانه كسائر الأشخاص، فلن يختلف حاله عن الآخرين، فماذا لديه [من الخصوصيات] لكي يُظهر نفسه أمام الناس بأنّه أكبر منهم، ويجعل نفسه موردًا لتعلق الناس به ويجذبهم إليه! لا يجد طريقًا لذلك إلا هذه المسألة [أي التظاهر بالزهد]. ومن هنا، تجده يستغلّ قصور الناس وقلّة معرفتهم وقصور إدراكهم وعدم اتباعهم للعقل! 

  • إنّ الشخص الذي يسعى إلى الحقيقة وإلى الهدف لا ينظر إلى هذه المسائل؛ لأن هذه المسائل تقع في الجهة المقابلة لمسيره، إنّ هذه الأمور مرتبطة بأهل الدنيا وبالناس العاديين، مرتبطة بالأمور العادية.. 

  • إنّ هؤلاء المتظاهرين يسعون للنفوذ إلى قلوب الناس من خلال الزهد غير الواقعي، ومن خلال الحياة غير الطبيعية.. بهذه الأمور يمكن للإنسان أن ينفذ إلى قلوب الناس ويجذبهم. أما إذا تطوّرت معرفة الناس، وترقّت درجة اطّلاعهم ومعرفتهم، وتصحّحت لديهم ملاكات التشخيص، فلن يبقَ حينئذٍ لهؤلاء الأشخاص أيّ مجالٍ لجمع الناس حولهم؛ لأنه إذا أراد أن يعيش حياته كما يعيش الناس، فمع التفات الناس إلى خوائه وعدم أهليته، لن يكون له محلٌّ من الإعراب، وإذا أراد أن يتّخذ لنفسه زيّا ظاهريًا مختلفًا، فسيفشلون أيضًا في جمع الناس حولهم من خلال الاعتماد على هذه الملاكات ، وحينئذٍ سوف يقوم المجتمع بفضح مثل هؤلاء الأشخاص وسيرفض مثل هذه الأمور بشكل مطلق وسيسقطها من عين الاعتبار؛ لأنّ مستوى معرفة المجتمع قد ارتقى، وبات بإمكان الناس تشخيص الملاكات، وأمسوا يفهمون جيّدًا مسألة اتّباع الحقّ، ويمكنهم التمييز جيدًا بين الكلام الصادق وغيره. وأضحى مستوى معرفة الأشخاص هو الملاك في قبول المجتمع لهم أو عدمه، هذا هو الملاك الوحيد.

  • ومن هنا، نرى أنّ الدستورات التي تعطى في مسألة السير والسلوك بخصوص موضوع التغذية، كثيرًا ما لا توضع في محلها الواقعيّ والحقيقّي، والفهم الذي يحصل عنها لا يكون صحيحًا دائمًا؛ إذ يتصوّر الجميع أو الأغلب بأنّ مقتضى السير والسلوك بالنسبة إلى اللباس والطعام والمسكن والعلاقات الاجتماعية هو أن يتّبع الإنسان النمط غير المتعارف بين الناس، وعليه أن يكون بنحوٍ آخر حتى يستطيع طيّ هذا الطريق، وكأن طيّ هذا المسير لا يتحقّق إلّا من خلال التشديد على النفس والتضييق عليها، وأن يجعل نفسه متمايزًا عن الآخرين.

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

4
  • شبهة وجواب: لماذا كان طريق الله هو طريق الصعوبة و المشقّة؟

  • يوجد إشكالات لدى البعض في هذا المجال، وقد يحصل لهم شبهات أحيانًا؛ ومن جملة المطالب التي وصلت مرارًا إلى مسامعي هو أنه لماذا ينبغي أن يكون طريق الله بحالة من المشقة والرياضة ـ كما ذكره الإمام عليه السلام ـ فلماذا هذه الصعوبة والمشقّة؟ وما الضرورة التي تجعل العلاقة بين الله وبين عبده بهذا الشكل؟ ألا يمكن للإنسان أن يصل إلى الله بالطريقة العادية والحياة الطبيعية؟ أم أنّه لا بد له من المشقّة وأن يحرم نفسه من النعم؟! هل المسألة بهذا الشكل؟ وهل الوصول إلى الله يحصل من خلال الإغماض عن كل لذّة؟! فإن كان الأمر كذلك، فلماذا خلقنا الله بهذا الشكل من أوّل الأمر؟! لماذا خلقنا الله كذلك، ولماذا جبلنا على هذه الخصوصيات؟! ولماذا جعل النفس هي المدبّر لهذا البدن؟ ولماذا أوجد فينا هذه التعلّقات؟! فمن أين أتت هذه الأمور؟ من أين أتت محبة الوالدين للولد؟ وهل طريق الله متوقف على قطع هذه المحبة بين الوالدين وولدهما؟ وهل يجب أن تكون العلاقة بين الزوج والزوجة بشكلٍ آخر حتّى يتمكّن الإنسان من إيجاد ذاك التعلق الواقعي في نفسه بينه وبين الله، وحتى يوجد في نفسه تلك المحبة الواقعية ؟! 

  • بعضهم يتصوّر المسألة بهذا الشكل! ويعتقد أنّ المسألة تتحقق من خلال هذا الأمر المخالف؛ يتصوّر أنّ حب الله لا يجتمع مع محبّة الزوجة والأولاد! فمن يريد أن يسير في طريق الله ينبغي عليه أن يتخلّى عن علاقته بالصديق والرفيق والأستاذ والمعلم والجار والأهل والعشيرة.. وأن يتعامل معهم على أساسٍ مختلف، وأن يركّز توجّهه نحو أمرٍ واحدٍ فقط، بل عليه أن يشدّد على نفسه في النعم الظاهرية، وعليه أن يقلّل من الاستفادة من النعم الإلهيّة إلى الحدّ الأدنى! فالفاكهة التي يشتريها للمنزل ينبغي أن تكون أرخص الفاكهة، والطعام الذي يريد إعداده ينبغي أن يكون طعامًا غير مرغوب فيه. هذه المسائل من الأمور التي فُهمت بشكل خاطئ، ووُضعت في غير محلها، جميع هذه الأمور مجانبة للصواب.

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

5
  • إنّ التوجّه إلى الله والاعتماد عليه يعني التوجّه إلى نظام الوجود، فلو أراد الإنسان أن يتوجّه إلى الله تعالى وأن يجعل نظره منحصرًا بذاته تعالى، وأن يجعل ميله وحبه لله فقط، وأن يغفل عن تمام مظاهره، فإنّ هذا سيكون تعطيلاً للأسماء والصفات الكليّة! وإلاّ فهل كان إيجاد أسماء الله الجماليّة و الجلالية لهذا النظام في العالم عبثًا و لغوًا ؟! وهل كان إيجاد هذه المظاهر المرتبطة بالأسماء و الصفات الإليهية بلا فائدة؟! فإن كانت ذات الباري تعالى تقتضي أن يتوجه الإنسان إليه فقط وأن يغفل عن سائر المظاهر، فلماذا كان الله واجدًا لاسم العطوف والرؤوف والرحيم والرحمن وسائر الأسماء الجمالية؟! فلماذا كان اسم الرؤوف، ولماذا جاء اسم الرحيم والعطوف واللطيف، ولماذا ورد اسم خفي الألطاف؟! لماذا وردت هذه الصفات والأسماء التي كل منها منشأ لظهور تلك الحقائق الوجودية في عالم الإمكان؟ فهل كانت عبثًا وبلا طائل، أم لها أساس وقصد وهدف؟ 

  • فهل يمكن لله أن يخلق شيئًا ثم يقول: لا علاقة لك به، فلماذا خلقه من أول الأمر إذن؟! وهل يمكن لله أن يجعل في الإنسان محبّة وأنسًا ولطفًا وإحساسًا، ثمّ يقول له: لا ترتّب عليها أيّ أثر؟! إن كان يبغي ألاّ يرتب الإنسان عليها أثرًا فلماذا وضعها فيه من أول الأمر؟! ما الفائدة التي تحصل من هذا الأمر في الإنسان؟! وما الهدف من هذه المسألة؟! فهل يمكن أن يفعل الله تعالى أفعالاً عبثية؟ هل يمكن أن يمنح الله ولدًا للإنسان، ثم يقول له: لا تحبّه؟! لو لم يرد هذه المحبّة لكان ينبغي أن يأخذ المحبة من قلبه من الأساس. 

  • إنّ الله تعالى نفسه يقول في القرآن: {وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِم‌}۱، فمن أين حصل هذا التأليف بين القلوب؟! ويقول النبي صلىّ الله عليه و آله و سلّم: إذا أحببت شخصًا فأظهر له هذا الحبّ ولا تبْقِه في قلبك، ومن الخطأ أم تقول: (سأبقي المحبّة في قلبي ولن أخبره بذلك لأنّ ذلك معيب، وهذا سيضعني في موقفٍ محرجٍ ، وليس كل شيء يقال). 

    1. . سورة الأنفال، الآية ٦٣.

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

6
  • لا، بل المحبة الموجودة بينك وبين صديقك هي محبّة إلهية أتت من هناك، لم تأت منك؛ وإلاّ فلمَ لم تكن هذه المحبة بالأمس؟! لذا عليك أن تظهر له هذه المحبة، فهي موجبة للألفة والأنس بينكما، وجميع المسائل إنّما تحصل من خلال المحبة! 

  • وإذا كان الرجل يحبّ زوجته، فعليه أن يظهر ذلك لها؛ لأنّ هذه الزوجة لا تعرف بأنّ زوجها يحبها أم لا، إذ أنّها لا تعلم الغيب، بل هي تنظر إلى ظاهر عمل زوجها، فترى أن زوجها لا يلتفت إليها ولا يهتمّ بها، وتراه عندما يدخل المنزل، يذهب مباشرة إلى غرفته ويغير لباسه دون أن يلقي عليها السلام، ودون أن يتكلّم معها بشيء أو يسألها عن أحوالها! 

  • ياعزيزي، إنّ هذه المرأة كانت في منزلها لعدة ساعات، وأنت حتّى الآن كنت في الخارج، فعليك أن تبرز لها الاهتمام و المودّة عندما ترجع؛ وإلا فهذه الأمور من أين ينبغي أن تأتي؟! إنّها حتمًا لن تنبع هكذا من الأرض، بل ينبغي أن يكون هناك أمور وأعمال ومُظهِرات لها، هذه المظهرات تحكي ما في الضمير، تحكي عن تلك الواقعية الموجودة في القلب.

  • إنّ هذه الدستورات ـ وإن شاء الله سوف نتحدث عن هذه الموارد لاحقًا ـ متوافقة مع نظام العالم، والتكوين هو المبدأ والأساس لهذا التشريع ولهذه الأمور.. 

  • ما المشكلة في أن يبادر الرجل زوجته عندما يدخل إلى المنزل ويسلّم عليها ويبرز حبه لها؟! فهل هذا العمل ينقص من رجولته؟! هل من الصحيح أن يقول: بما أنّني أنا الرجل فعليكِ أنتِ أن تأتي إليّ! كلاّ ليس الأمر كذلك! والبعض عندهم تصوّر خاطئ عن هذه المسألة، أو أنهم لا يريدون أن يفهموا المسألة بشكل صحيح كما ذكرها العظماء، وإلا فالمسألة واضحة جدًا.

  • ولقد شاهدنا أن الكثير من المسائل عندما نحقّق فيها نرى أن منشأ الاشتباه هو أنّ الشخص يريد أن يطبق نفسانياته على السلوك، وهذه خيانة! فأنت إذا كان لديك مشكلة في نفسانيّاتك، فلماذا تأتي وتلقي بها على عاتق السلوك وتنسبها إليه؟ فتقول: لا ينبغي أن أسلم على زوجتي، بل زوجتي هي التي ينبغي أن تأتي وتسلّم عليّ! ليس لدينا أنه يجب على المرأة أن تسلّم على الرجل! نعم، إن سلّمت عليه فقد قامت بأمر حسن جميل، وسوف تحصل على أجر عظيم! ولكن ليس لدينا إلزام بذلك، بل الرجل ينبغي أن يأتي ويسلّم على زوجته! عندما يدخل الرجل هو الذي عليه أن يبادر بالسلام. 

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

7
  • نعم، بالمقابل، عندما يريد الرجل الخروج من المنزل ينبغي على الزوجة أن ترافقه إلى الباب وتودّعه إلى هناك، هذا أيضًا موجود! أما أن ننظر من جهة واحدة إلى الأمور، فهو خلاف الإنصاف، وعلينا ألاّ ننسب ذلك إلى السلوك، كل من نسب هذا الأمر إلى السلوك فقد خان رسالة العظماء والعرفاء ورسالة الأئمة عليهم السلام. 

  • إن كان بينك وبين زوجتك مشكلة فذاك أمر آخر، وإذا لم ترد أن تخضع للحقّ فذاك مطلب آخر، وإذا أردت أن تعمل بما يحلو لك فذاك أمر آخر، لكن عليك أن لا تنسب هذا إلى السلوك؛ فطريق الأعاظم لم يكن بهذا الشكل، ولا هذا كان منهجهم، وقد شاهدت ذلك بنفسي؛ سواء في حياة المرحوم الوالد أوفي حياة سائر الأساتذة، فهؤلاء لم يكونوا كذلك! 

  • أجل، كان كلّ شيء محفوظًا في مكانه الخاص؛ فإطاعة الزوجة لزوجها في محلّها، ولا يجوز لها الخروج من المنزل بدون إذن زوجها، ولا يجوز لها الاتصال هاتفيًا بأحد بدون إجازة زوجها، ولا تُدخل أحدًا المنزل بدون رضا زوجها، ولا تعمل خلاف ما يرضيه.. هذه كلها في محلها. ومن جهة أخرى، الحبّ والتربيةمحفوظة أيضًا، والتربية لا تعني العبوس والقسوة، ولا أن يقول لها: افعلي كذا ولا تفعلي كذا، وهكذا ينبغي أن يكون لا غير.. لا ليس الأمر كذلك، بل عليه أن يتعامل معها بما يرضي الله وبما يليق بها، وبشكل إنساني، وبشكل يكون فيه رضا الله ورضا أولياء الله، وأن يكون سيره ضمن المسير المعيّن من قبلهم. 

  • أما لو كانت المسألة من جهة واحدة ودون توازن فذلك خطأ، ونفس الطرف المقابل ستتعب و ترفض حينئذٍ، فكما أنه إذا أراد أحد أن يتعامل معنا نحن بهذاالشكل القاسي فإنّنا نأخذ منه موقفًا ونواجهه، وستكون نظرتنا من هذا الشخص سلبية؛ فكذلك الأمر في علاقة الزوج مع زوجته ، إذ ما الفرق بينهما؟ فالإنسان إنسان وله نفس. 

  • فعلى الإنسان أن يتعامل مع الطرف الآخر بما يناسب الطبيعة و الشاكلة التي عيّنها الله تعالى لكلّ واحدٍ من الطرفين؛ فالطبيب لا يكتب دواء واحدًا لمريضين! بل كل منهما يأخذ دواء مختلفًا، وإلاّ فإن أراد كل منهما أن يأخذ دواء الآخر فلن يشفى أيّ منهما!

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

8
  • بناء على ذلك، فما شاهدناه من أسلوب العظماء في هذه المسائل.. وطبعًا سوف نتحدث فيما بعد بشكل مفصل حول هذه الأمور في محلها إن شاء الله.. ما شاهدناه هو عبارة عن رعاية ذاك المسير والطريق المنسجم مع التكوين بحيث يكون التكوين هو المنشأ والمبدأ لهذا الطريق. 

  • التشريعات الإلهية منسجمة مع التكوين؛ تشريع الزواج نموذجا

  • ينبغي أن يكون التشريع على أساس التكوين ومنسجمًا معه، وهذه مسألة واقعية؛ ولذا لا نرى أيـًّا من الأنبياء أمر الناس بأمرٍ مخالف للتكوين؛ لأن ذلك الأمر سيكون متعارضًا و متناقضًا مع الواقع! 

  • فمثلاً عندما يحتاج البدن إلى الراحة، فهل يأتي النبي ويقول: لا، عليك أن تتحرك؟! لا يمكن ذلك! أو يكون البدن بحاجة إلى حركة، ومع ذلك يقول النبي اجلس؟! لا يصح ذلك! أو تكون نفس الإنسان وروحه بحاجة عمل معيّن، فيقال له: لا تفعل! لا يصح ذلك! إنّ الإنسان بحاجة إلى الزواج عندما يصل إلى سنٍّ تتحقّق فيه قابليّة الزواج، وتحصل لديه الصفات والغرائز والخصوصيات [التي تستدعي ذلك]، ويصل إلى مرتبة بحيث تصل حالة الاستقلال التي لديه والتي كان يتمتع بها إلى الآن... فالمسألة ليست مسألة ظاهرية فقط، بل الملحوظ هو الجهة الباطنية.. فهو كان يعيش حالةً من الاستقلال وكان لوحده حتّى الآن؛ فهو لم يكن يفرق الأمر عنده سواء كان لديه رفيق أم لا، وسواء كان وحيدًا أم لا، وسواء كان مع والديه أم لا، لم يكن يهتمّ لذلك كثيرًا، ثمّ يتوفر له محيط وجوّ بحسب حياته وظروفه وثقافته، فتبدأ هذه الحالة بالتغيير، ويبدأ بالخروج شيئًا فشيئًا عن تلك الحالة من الاستقلال، فهذه الشخصية المستقلة التي كانت حرة وكان ذهابها وإيابها بيدها وقيامها وقعودها بيدها، وكانت جميع قرارتها شخصية وفردية، وكان هذا الإنسان مختارًا في اختيار الطريق الذي يريد.. هذه الحيثية تبدأ بالتغيّر الآن، حيث يرى أنّ عليه من الآن فصاعدًا أن يخرج عن حياته الشخصية ويعيش إلى جانب شخصية أخرى ويستمر في حياته معها؛ هذه الحالة هي حالة الزواج. 

  • يعني أن يضع الإنسان إلى جانب شخصيته شخصية أخرى، وكأن حياته وحيدًا وحياته مع والديه وحياته مع إخوته وأصدقائه وأقاربه وشركائه وزملائه لا يمكنها أن تلبّي الحاجة التي يشعر بها في قلبه، وأن ترمّم ذلك النقص الذي يشعر به في نفسه، ولا تقدر أن تملأ ذاك الخلاء الذي يحسّ به. هذه الحالة تعني أن النفس ـ لا البدن ـ قد وصلت إلى حالة من الفعليّة بحيث لا يمكن للإنسان معها أن يكمل حركته التكامليّة وحيدًا، ولا علاقة لنا بالبدن، فالبدن له مقتضياته الخاصّة أيضًا، فالبدن عندما يعطش بحاجة إلى ماء، وعليه أن يشرب الماء، والبدن بحاجة إلى طعام وإلى أوكسيجين، كما أن البدن بحاجة إلى مسائل أخرى أيضًا، وهذا محفوظ في محله؛ إلاّ أنّ كلامي في خصوص النفس، فالنفس في طريق كمالها تصل إلى فعلية تصير العبادة لا حياة فيها طالما هو أعزب، فهذه النفس لا تستطيع تحمّل المسير وحدها، لا يعود البنزين يصل إلى المحرك، يكون الكاربرتور بحاجة إلى صيانة وإصلاح، لا يمكن أن يعمل، فيقطّع في عمله، وتصير السيارة بحاجة إلى دفع.. لا يمكن لتلك الروح أن تمشي وحدها، بل يصير بحاجة إلى فرد آخر ليحصل له حركة. 

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

9
  • ولو لم تكن هذه المسألة كذلك لما شرّعت الأديان السماوية الزواج! هذه هي القضية، فالحاجة إلى الزواج ليست مقتصرة على الحاجة الجنسية فقط، بل مسألة الزواج ترجع إلى الحاجة الروحية! نعم، في هذه المسائل البدن بحاجة إلى أمور أخرى أيضًا، وهذا محفوظ في محله، وهاتان القضيتان [الحاجة الروحية والبدنية] مترافقتان في الزمان تقريبًا، أو تتأخّر إحداهما عن الأخرى قليلاً.

  • بناءً عليه، إنّ الأمر الذي ينبغي أن نعلمه في المقام هو أنّ الزواج ليس عبارة عن ارتباطٍ ظاهريٍّ فقط.. وسوف نتحدث عن هذه المسألة في بحث المعاشرة، وسيتبين أيّ أمورٍ وأسرارٍ كامنةٌ وراء هذه المسائل والقضايا؛ بحيث لا تحصل تلك الأمور من دون زواج واقعي لا زواج مؤقّت، بل لا بدّ لها من زواج واقعي! يعني إذا فرضنا أن شخصًا بقي يتزوّج زواجًا مؤقتًا إلى آخر عمره مائة مرة أو مائتي مرة أو ألف مرة أو مائة ألف مرة ـ إذا استطاع ذلك ومنحه الله قوّة ـ فلن تحصل له تلك المسألة ما لم يتزوج زواجًا دائمًا! 

  • الآثار التكوينية للزواج الدائم ليست موجودة في الزواج المؤقت

  • وهذا هو السرّ في ما ذكرته لكم سابقًا من أنّنا نرى أن الأصل في شريعة الإسلام هو الزواج الدائم لا المؤقت، الزواج المؤقت إنما هو للضرورة فقط، يعني أنّه شُرّع لمن لم يستطع الزواج ـ لأي سببٍ من الأسباب ـ زواجًا دائمًا مثنى وثلاث ورباع، وتعيين ذلك [أي عدد الزوجات]مرتبط بظروف الشخص نفسه؛ وعلى كلّ حال سواء تزوّج واحدة أو اثنين أو ثلاث أو أربع فالمقصود هو الزواج الدائم، هذا الزواج هو الذي يُحقّق هذه الحالة في الإنسان، أمّا في الزواج المؤقت فلا يحصل ذلك، 

  • [فالزواج المؤقّت قد شُرّع] من باب التخفيف في بعض المسائل، ولحلّ بعض المشاكل، أو للضرورة التي لا يستطيع الإنسان معها ضمن ظروفه وخصوصياته؛ سواء ظروفه الشخصية أو الاجتماعية لا يمكنه أن يفعل ذلك [الزواج الدائم]، فهنا الإسلام قد شرّع أحكامًا وتكاليف أخرى. 

  • وأما ما نسمعه من أشخاص غير عالمين من أنّ تشريع الزواج المؤقت كان مسألةً سياسية، وأنه يمكن أن يكون في وقت دون وقت آخر، وأنه في زمن قد يُجعل وفي زمن آخر قد يُرفع الحكم.. فهذا الكلام خلاف ما أنزل الله وخلاف الشرع، الزواج المؤقت ليس زواجًا سياسيًا، بل حكم من أحكام الإسلام، مثل الزواج الدائم ومثل سائر المحلّلات، ومثل سائر المحرمات، ومثل الأحكام الدائمة، لكنّ الخليفة الثاني أتى وحرم هذا الأمر من تلقاء نفسه ووضعه تحت قدمه، فقد كان الزواج المؤقّت في سُنّة رسول الله، بل كان أيضًا في زمان الخليفة الأول، وعندما تولى الثاني الحكم صرّح قائلاً: متعتان كانتا محللتين في زمن رسول الله وأنا أحرمهما.. إحداهما متعة عمرة التمتع، والتي كانت في زمن رسول الله للذين يتشرفون بالذهاب إلى الحج بعد شوال، فتكون عمرتهم عمرة تمتع (طبعًا هذا بالنسبة إلى بعض الأشخاص، أما البعض الآخر فحكمهم القران [أو الإفراد])، فعمرة التمتع تعني أنّه بعد أن يأتي المعتمر بأعمال العمرة يمكنه أن يخرج من إحرامه إلى وقت الحج، غاية الأمر لا يمكنه الخروج من مكة. وعندئذٍ لا إشكال في التمتع بالنساء أيضًا، لكنّ الخليفة الثاني وبسبب أفكاره الخاصّة والشخصيّة، قام بتحريمها وتغيير حكم الله، وتجاوز على رسول الله، وتخطى مقام الرسالة والنبوة، (وأحيانًا يحصل هذا الأمر من البعض)، أجل لقد فعل هذا الأمر فعلاً، ولا شكّ أنّ السبب هو أنّه قد عرف حكم الله أفضل من رسول الله، حتى فعل ذلك!!! والعجيب هو أن الكثير من أفراد السنّة يتّبعونه في ذلك، هذا هو الموجب للتعجب! 

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

10
  • والمسألة الأخرى هي متعة النساء وهو الزواج المؤقت، فالزواج المؤقت شُرّع في الإسلام مع الزواج الدائم، وورد حكمه معه، والحال أن "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة"۱ ينطبق على هذه المسألة أيضًا، لكنّه على كل حال تخطّى هنا الحكم الإلهي وتجاوز كلام الوحي وصار كلامه أعلى من كلام رسول الله! وعمل على التشريع معتبرًا نفسه مساويًا لرسول الله! وحرّم هذه المسألة فعلاً. واللطيف أنه قال: أنا أحرمهما! ليته قال أنا أمنع منهما فقط، أو قال أنا أخالف ذلك! لا ينبغي له أن يقول: أحرمهما! يعني كما أن رسول الله حلّلهما، أنا أحرّمهما، إذ لا فرق بيني وبين رسول الله في ذلك! حسنًا، هو الآن يحاسب على ذلك.

  • [وقال بعد ذلك:] وأعاقب عليهما.. يعني إذا فعل شخص المتعة فسوف أقيم عليه الحدّ! هذا يعني العقاب! فإذا أقدم شخص على الزواج المنقطع فسوف أقيم عليه حدّ الزنا! أرأيتم إلى أيّ حدّ يصل الإنسان؟! بحيث يقوم بإجراء حدّ الزنا على من يعمل بحكمٍ شرعيّ! يعاقبه لعمله بدستور الله ودستور الشرع! نعوذ بالله من ذلك.. هذه الأمور عبرة لنا، والعجيب أن التاريخ يحدّثنا بكلّ شيءٍ ويبيّن لنا كلّ شيءٍ، ويضع كلّ شيءٍ في يد الإنسان.. نعم يحدّثنا عن كل شيء.. فهذا النبيّ صلّى الله عليه و آله قد جاء وبيّن و قال ما قال، وفي مقابله جاء أولئك، وهذا أمرٌ حصل سابقًا، وسيحصل دائمًا، ولكنّ المهمّ هو أنّنا أي الطريقين سنختار فعلى الإنسان أن يختار بين هذين الطريقين، ويتمسّك بأي منهما، ليرى أين يأخذه الطريق الذي اختاره.

  • أجل هذا الأمر [تأمين الحاجة النفسية من الزواج] يحصل من خلال هذه المسألة [الزواج الدائم]، فهذا الأمر إنّما يتمّ تأمينه من خلال ذلك، ولذا نشاهد أنّ المرحوم العلامة رضوان الله عليه كان يوصي باستمرار بالزواج الدائم، إنما كان ذلك لأجل هذه النقطة والمسألة، لا أن رأيه في هذه المسألة... فقد سمعت أن بعضهم ينقلون مطالب سمعوها منه وأوجدت لديهم شبهات.

  • طريق الله هو الطريق المطابق للتكوين: الغذاء نموذجًا

    1. الكافي، ج ۱، ص ٥۸، علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن حريز عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الحلال والحرام فقال: حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجئ غيره، وقال: قال علي عليه السلام: ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة.

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

11
  • حسنًا ، كان الكلام في أنّه هل ينبغي أن يكون طريق الله من خلال الرياضة فقط، وبدون الرياضة لا يمكن المسير، وهل ينبغي أن يكون السير و السلوك دائمًا ضمن مشاكل وصعوبات؟ وأجبنا بأنّه لا ليس بالضرورة أن يكون كذلك! بل طريق الله هو الطريق المطابق لتكوين الإنسان، المطابق لسعة الإنسان واستعداده، فأحيانًا يكون الإنسان بحاجة إلى هذا النوع من الغذاء، وعليه أن يوصل هذه المواد إلى بدنه، فجسمه بحاجة إلى هذه الأمور وإلى هذا الغذاء للاستمرار في عمله ووظيفته، وأحيانًا أخرى لا يكون بحاجة إلى ذلك؛ فإذا أفرط واستمرّ ، فقد يؤدّي ذلك إلى إيجاد مشاكل له، مثل الأشخاص الذين ليسوا بحاجة إلى شيء، فيمكنهم أن يؤمّنوا حاجات بدنهم الطبيعية من خلال الغذاء العادي والطبيعي ومن خلال الفاكهة وغيرها، لكنهم بدلاً من ذلك يذهبون إلى الصيدليات ويستخدمون الأدوية والفيتامينات المكمّلة التي لا تفيد شيئًا سوى أذية الكبد والكلية، والحال أن البدن يمكن أن يؤمّن حاجاته من الطعام الطبيعي، لكنهم يستخدمون المكمّل والأقراص والعقاقير التي لا أثر لها إلا تعطيل الكبد والكلية وكذا سائر الأعضاء الأخرى، فهذه من الأمور المضرّة، ومع ذلك يتناولونها ويقولون هذا مفيد لنا! كلا لا ضرورة لذلك أبدًا، نعم في بعض الموارد تكون ضروريّة، أما في الكثير من الموارد لا تكون ضروريّة.

  • بناء على ذلك، فالملاك للقيام بأيّ عملٍ هو الوضعيّة الخاصّة لكلّ شخص، هي الملاك للعمل، فمن جهة التغذية والطعام الذي ينبغي أن يصل إلى البدن [هو ما يحتاجه الإنسان لتكامله]. 

  • إنّ لدينا روايات عن الإمام الصادق عليه السلام مذكورة في كتاب طبّ الصادق تتعلّق بكيفيّة التغذية، كما توجد روايات في هذا المجال عن الإمام الرضا عليه السلام، وسأشير إلى بعضها. وبشكل عامّ، هنالك الكثيرة من تلك الروايات في هذا المجال، لذا سأعمل على وضع خلاصتها بين أيدي الأصدقاء إن شاء الله، ولكن لماذا يقوم الإمام الصادق ـ بصفته إمامًا ـ بالتكلّم عن موضوع الطعام؟ ولماذا يقوم الإمام الرضا عليه السلام وهو المسئول عن بيان الأحكام والتشريع بالتكلّم عن أنواع الأطعمة والمشروبات التي على الإنسان تناولها، وبتقسيم الأمزجة إلى أربعة أمزجة، وتوضيح ملائمة تلك الأطعمة والمشروبات مع كلّ واحد من تلك الأمزجة، والتي يكون لكل واحد منها جهازه الخاص به؟!

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

12
  • علمًا بأنَّ الطبّ الحديث والذي كان ينكر على القدماء تقسيم الأمزجة إلى عدة أمزجة وهي: السوداء والصفراء والبلغم والدّم، بدأ اليوم بالتوصّل إلى صحة ذلك، وإن كان تقسيمه لها مبنيًّا على أساس فصائل الدم، فالمعتَقد اليوم هو: أنَّ لكلّ فصيلةٍ من فصائل الدّم ما يلائمها بشكل خاصّ من حيث نوع الأطعمة أو الأدوية التي يمكن لحامل تلك الفصيلة تناولها؛ فطريقة استفادة الجسم من الفيتامينات، أو نوع البروتينات التي تُعطى لأصحاب الدّم من فصيلة "O" تختلف عن تلك التي تُعطى لأصحاب الفصيلة "A"؛ كما أنّ توقيتات تناول الطعام، تختلف من فصيلة إلى أخرى، فكمية اللحم التي يتناولها أصحاب إحدى الفصائل يجب أن تكون أقلّ من تلك التي يجب أن يتناولها الأفراد من حملة الفصائل الأخرى. 

  • وهذه ـ في واقع الأمر ـ نفس تلك التوصيات التي كانت مبنيّة على أساس الأمزجة الأربعة في زمان الأئمة عليهم السلام، فبدأ الطبّ الحديث بقبول هذه الحقيقة وبالتوصّل إلى نفس النتائج التي توصّل لها السابقون، حيث أنّهم بدؤوا بالتوصّل إلى أنَّ نوع الدواء الذي ينبغي وصفه يختلف من مريضٍ لآخر بحسب فصيلة دمه، على أنَّ هذا الأمر لا يزال في بداية طريقه، إلاّ أنَّهم سيُوفقون إن شاء الله في التقدّم في هذا المجال الذي بيَّنه لنا الأئمة وأولياء الله والعظماء.

  • وسنتناول بالبحث في المجالس القادمة إن شاء الله بإيجاز وبما يسمح به وقت المجلس كيفية دمج برنامجي التغذية حسب مبادئ كلّ من الطب القديم والحديث، كما سيتم الحديث عن التفاوت بينهما؛ وسنتكلّم عن التأثير الذي يتركه الطعام على الروح والنفس وكيف ستتغيّر طبقًا لذلك حالات الإنسان وتوجّهه إلى الله ومكاشفاته؛ وهو ما يعتمد بالأساس على الأمزجة الأربعة؛ وهذا ما قام بتوضيحه الأطباء القدماء، والذي غفل عن بيانه الطب الحديث.

  • فعلى المرء أن يتحرّك وفقًا لما رسمه له نظام التكوين؛ حيث لا وجود للصعوبات في هذا المسير؛ إذ الصعوبة تتمثّل في الحركة في الطريق المخالف لما فيه مصلحة الإنسان وبخلاف ما يفيده وينفعه حقيقةً ، فإن أُمرتَ بمتابعة برنامجٍ خاصّ في التغذية [يتناسب مع حاجتك الواقعيّة]، فهل في ذلك مشقّة؟ وإن أُمرت بالحركة أو التوقف وفقًا لبرنامجٍ معين، فهل يوجد في ذلك صعوبة؟ وإن أُمرت بتنظيم أمورك الشخصيّة والاجتماعية وفقًا لبرنامج محدّد ، فهل في ذلك صعوبة؟ أم أنّ الصعوبة تكمن في خوض هذه الأمور من تلقاء نفسك، ثم تعرّضك لألف مشكلّة من جرّاء ذلك؟ فأيّ الأمرين يكون أشقّ على الإنسان؟ 

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

13
  • على المرء الانتباه إلى هذا الأمر المهم، وهو أنّ الطريق إلى الله وطريق السلوك النفساني الذي بيّنوه لنا، يعتبر أسهل الطرق وآمنها وأكثرها خلوًّا من الأخطار، فلو لاحظنا العوائق والعقبات والتبعات التي يترتّب عليها سلوك الطرق الأخرى، لوجدنا هذا أفضل الطرق وأسهلها.

  • على أنَّ ذلك لا يعني الإهمال واللامبالاة والكسل؛ بل يعني كمال الدقّة والتفحّص في جميع القضايا التي تعترض مسير الإنسان، والتعامل معها وفقًا للملاك ومناط الحكم الموضوع بين يديّ سالكي هذا الطريق، فطريق الإهمال واللامبالاة وعدم الاعتناء وعدم مراعاة الدقّة، هو طريق الجهلة وعوامّ الناس الذين يميلون مع كلّ ريح ويسلمون أمر قيادتهم لأيٍّ كان. أمّا في طريق الله، فلا بدّ للسالك المتّبع لمسير العظماء من أن يحسب لكلّ خطوة يخطوها حسابًا، فلا يجب عليه الحركة في الموقف الذي يتطلّب القعود، ولا القعود في ذلك الموقف الذي يتطلب القيام. 

  • طريق السير والسلوك هو طريق السعادة و العافية

  • فبناءً على هذا، يكون هذا الطريق الذي رسمه العظماء هو أسهل الطرق وأكثرها اعتدالاً واتّزانًا وأبعدها عن القلق والاضطراب، ولقد جرّبنا ذلك بأنفسنا ورأينا نتائجه بأعيننا، فلقد رأينا ما حصل في الماضي وما يحصل الآن وفي المستقبل، نعم، لقد جرّبنا ذلك بأنفسنا لعشرات السنين ورأينا كيف أنَّ متابعة الملاكات التي وضعها بين أيدينا أولياء الله، والاستفادة من تجاربهم الشخصية التي جعلناها نصب أعيننا، والسير وفقًا للبرامج التي كانوا يوصون بها، يقود إلى طريق السعادة والعافية، تلك العافية الواقعية، العافية النفسية، والعافية الروحية. 

  • ألم تقرؤوا في الأدعية المأثورة عن الإمام السجّاد أو الإمام الصادق عليهما السلام حين يقولون: الّلهمَّ إنِّي أسألك العافية، فما هو معنى العافية؟ إنَّ العافية تعني: حفظ النفس من الأخطار ومن تلك الأوهام والتخيّلات التي يحسبها الناس تعقّلاً؛ فهذه هي العافية. فعندما يسلك المرء طريقًا، فعليه أن يسلكه وهو مرتاح البال ومتأكّد من صحّة طريقه، بحيث لا يؤول به الأمر لأن يقول: آخ، لماذا قمتُ بعمل كهذا؟ وليتني لم أقم بهذا العمل! أو ليتني كنت قد قمت بذلك العمل. فالعمل المقترن بـ "يا ليتني لم أفعل" لا يتلائم مع العافية.

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

14
  • فما هو ذلك المسير الذي رسمه العظماء للسير بموجبه إذن؟ أيتمثّل بطريق آخر غير طريق متابعة الحق؟ فهل كان أولئك العظماء غير حريصين على هدايتنا؟ وما الذي يجنوه لأنفسهم عندما يقومون بنصيحتنا بالسير في هذا الطريق وعدم السير في ذاك الطريق؟ أو بمتابعة هذا وعدم متابعة ذاك أو عدم متابعة كليهما؟ ما الذي سيجنوه لأنفسهم من جرّاء هذا؟

  • متى يستطيع الإنسان معرفة ذلك؟ إنَّ ذلك سيحصل متى ما تغيَّرت الأمور وتطوّرت الأحداث، حيث سيقول عندها: يا للعجب! ليتني كنت قد استمعت للنصيحة! ليتني كنت قد انتبهت لهذا قبل فوات الأوان! [فإن سرنا على الطريق الصحيح] فسوف لن يقوم ضميرنا عندها بتأنيبنا وملامتنا؟!

  • ومن هنا يظهر أنّ طريق الله هو أقرب الطرق وأسهلها؛ فما يكون مفيدًا لأجسامنا في أيّ ظرف من الظروف، نجد طريق الله يأمرنا بالقيام به؛ فإن أصابنا مرض ، نجده يأمرنا بمراجعة الطبيب المتخصص بذلك المرض، أفيكون هو أصعب الطرق والحال هذه؟! وإن أردت صنع شيء، فعليك صنع أفضل ما يمكن؛ فهل يوجب طريق الله هذا صعوبة في العمل والحال هذه؟ وإن أردت اختيار عمل لك، فعليك اختيار أفضل الأعمال؛ وإن أردت دراسة علوم آل محمّد في إحدى الحوزات العلمية، فعليك الوصول إلى درجة الاجتهاد، وعدم الاكتفاء بما هو دونه؛ فهل في ذلك صعوبة؟ أتوجد صعوبة في الوصول إلى أعلى المستويات؟ وإن أردت الدراسة في الجامعة، فعليك نيل أعلى المستويات العلمية؛ فهل في ذلك صعوبة؟ فأين هو الضير في الوصول إلى أعلى المراتب وأكمل الدرجات التي تستطيع النفس الوصول إليها؟ وهل في ذلك صعوبة؟ وهل يُعدّ هذا مخالفًا لمسير عالم الخلق والتكوين؟

  • ففي ذلك اليوم الذي يكون فيه جسمك محتاجًا لذلك المقدار من الطاقة، وذلك النوع من المواد الغذائية، فعليك إمداده بها. وفي اليوم التالي، وعندما لا يكون محتاجًا لها، يقول لك طريق الله: عليك أن تتخلّى عن إحدى الوجبات الغذائية هذا اليوم؛ فهل في ذلك صعوبة أو مشكلة؟ أم يكون ذلك هو عين الواقع والحقيقة وعين التطابق مع مسير عالم التكوين؟ فكلّ أحد يكون هو طبيب نفسه؛ وهو يعلم الحال الذي هو عليه، فيقوم بتحديد مقدار الطعام اللازم لجسمه بناءً على هذا، ومتى يجب عليه تناول الطعام، ومتى يجب عليه رفع يده عنه، ومتى يتوجّب عليه الكفّ عن تناول الطعام.

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

15
  • فعندما كان المرحوم العلاّمة يوصي البعض بصيام أربعة أيام في الشهر، أو عندما كان يوصي البعض الآخر بصيام يومين في الأسبوع، فهل كان يُحمّلهم أمرًا شاقًا؟ أم كان ذلك من أجل صحّتهم وسلامتهم؟ فإن شئت ألاّ تصوم، فلا تصم خلال أربعة أشهر ولا ليوم واحد، وكُلْ ما شئت أن تأكل؛ فما الذي سيترتب على ذلك حينئذٍ؟! فعندما يُوصي العظماء تلامذتهم بعض الوصايا بشأن الطعام، فمن سيكون المستفيد من ذلك؟ إنَّ ذلك النفع سيعود على التلميذ بكلّ تأكيد، من منافع ذلك ألاّ يأتي التلميذ في الغد ليقول: لم أتمكّن من أداء صلاة الليل؛ فعندما يُسأل حينها، وماذا كنت قد أكلت في وجبة العشاء؟ سيكون جوابه: كنت مدعوًا لتناول العشاء في بيت أحدهم، فأكلت كذا وكذا نوع من الطعام! يا عزيزي، لو أنَّ فيلاً قد أكل مثل ما أكلت، لما تمكّن من النهوض، فكيف الحال بك؟

  • إنَّ الله خلق بدن الإنسان بكيفيّة خاصّة وهي تقتضي أمورًا ينبغي مراعاتها، ومن هذه الأمور أن أن يتناول الإنسان عشاءً خفيفًا، وألاّ يقوم بالإثقال على بدنه بالطعام، وأن ينام مبكرًا، أي أن يجعل فترة نومه قبل منتصف الليل؛ فساعة نومٍ واحدة قبل منتصف الليل تُعادل أربع ساعات نوم بعده؛ فإن أخَّر الإنسان نومه إلى ما بعد منتصف الليل، فسيكون المخ قد تعرّض إلى ذلك الضغط الذي لم يكن ليتعرّض له لو كان الإنسان قد نام قبل منتصف الليل؛ فلا فائدة من النوم بعد منتصف الليل، ولا يستطيع الجسم في هذا الوقت أن يعوّض تلك الخلايا التي فقدها. 

  • ولكن الإنسان لا يستمع إلى النصيحة، فيبقى مشغولاً بالحديث ويذهب لزيارة أصدقائه أو يقومون هم بزيارته، أو يمضي وقته هكذا بهذه الأمور الملهية المتداولة هذه الأيام، فإذا الساعة قد أصبحت الثانية عشرة، أو الواحدة، أو الثانية بعد منتصف الليل، فينام عندها؛ وهذا يتسبّب بألف مرضّ ومشكلةّ عصبيةّ ومسائل أخرى.

  • إنَّ موضوع النوم، موضوع مهمّ للغاية ـ و سنتحدّث عنه فيما بعد إن شاء الله ـ إذ إنَّ سبّب الكثير من الأمراض التي تصيب جسم الإنسان يعود إلى عامل عصبي.

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

16
  • عندما كنت أرافق المرحوم العلاّمة في المستشفى عندما كان يعاني من مشكلة قلبية (ألا وهي تمدّد الشريان الأبهر۱)، كان رحمه الله يكشف اللثام عن بعض المسائل أحيانًا، ولقد كان يخصّني بها. 

  • وكان الأطباء قد اختلفوا في تشخيص الحالة التي كان يُعاني منها، فكان لكل واحد منهم رأيٌ لا يتّفق مع رأي الآخر؛ فكلّ ما توصّلوا إليه من تشخيص هو أنّ عنده ألمٌ في الصدر، أو ذبحة صدرية خفيفة؛ ولم يكونوا ليقولوا شيئًا غير هذا، وخلاصة الأمر فقد كان تشخيص الحالة مبهمًا بالنسبة لهم. وذات يومٍ، كنت جالسًا إلى جانبه، فالتفتُّ إليه قائلاً: دعنا الآن من تشخيص الأطباء، فما هو المرض الذي تعانون منه؟ فقال: إنَّه تمزّق الشريان الأبهر، غير أنَّهم لم يتوصّلوا إلى تشخيصه لحد الآن، ثم قال لي: ولكن لا تخبر أحدًا بذلك، وهكذا فقد كان يسرّ لي ببعض الأمور، غير أنَّ ذلك لم يكن ليحصل بشكل دائم.

  • وذات يومٍ قلت لسماحته: سيّدي، يبدوا بأنَّ سبب تسعين بالمائة من الأمراض التي تصيب الناس هو عامل عصبي، فقال: بل قل: إنَّ ذلك هو سبب تسعة وتسعين بالمائة منها، وواحد بالمائة منها فقط يعود إلى عامل غير عصبي، غير أنَّ المرضى لا يدركون ذلك ويراجعون الأطباء من ذوي الاختصاصات الأخرى؛ ثم قال: (سيتوصّل علم الطب إلى هذا الأمر مستقبلاً)، فموضوع الأعصاب موضوع مهم.

  • لذا فإنَّ تأكيد أولياء الله على النوم المبكّر، والاستيقاظ قبل الفجر يعود إلى هذا الأمر؛ فالنوم يلعب الدور الأساسي في صحّة الجهاز العصبي ومزاج الإنسان، ولا فائدة في نوم ما بعد منتصف الليل، بل يجب أن يكون قبل منتصفه لكي يعطي ثماره؛ فانظروا إلى ما يوصي به طريق الله في هذا المجال؛ إنَّه يقول: يجب أن يكون عشاؤك خفيفًا، ويجب عليك أن تنام مبكّرًا وتستيقظ مبكّرًا. 

  • ولقد قال لي المرحوم الحدّاد: "إنَّ من لم يكن مستيقظًا في فترة ما بين الطلوعين، فسوف لن يكون له نصيب من الرزق في ذلك اليوم". والمقصود من ذلك الرزق هو ليس الخبز والماء بالطبع، بل هو ما يُكتب له من نصيب في الحياة والتكامل وبقاء الروح والحالات المعنوية؛ فذلك ممّا يتم تقسيمه في فترة ما بين الطلوعين. 

    1. aneurysm

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

17
  • فإن كان أحدهم مريضًا، فيستطيع أن ينام بعد طلوع الشمس، أو بعده بمدّة، أو في فترة ما بين الصبح والظهر إن وجد الوقت لذلك، فذلك هو نوم القيلولة وهو مستحبّ جدًا؛ أمّا أولئك الذين ينامون في فترة ما بين الطلوعين، فأولئك محرومون من الرزق المعنوي لذلك اليوم، حتّى إنَّه كان يقول لوالدي، وكنت أستمع لكلامهما: أيقظوا حتّى الصغار والأطفال، فقال له المرحوم الوالد: إنَّ إيقاظهم من نومهم، سيتسبب في حصول ضوضاء، فأجابه: يمكن إيقاظهم بهدوء. هكذا كان يؤكّد على أمر الاستيقاظ، لكي ينالوا نصيبهم المعنوي لذلك اليوم.

  • كان ما عرضته هو عبارة عن مقدمة من أجل الدخول في موضوع التغذية؛ فإن حالفني التوفيق فسأقوم إن شاء الله بعرض ما سمعته وما وصل إلينا في الأخبار عن الأئمة عليهم السلام في هذا المجال.

  • توصيات خاصّة بشهر محرّم ومجالس العزاء

  • ألقيت نظرة على الساعة، فوجدت أنَّ الوقت قد تأخّر، ولمّا كان شهر محرّم على الأبواب، فقد ارتأيت أن أبيِّن للإخوة، ومن باب التذكير، بعض المسائل المتعلّقة بشهر محرّم وكيفيّة إقامة مراسم العزاء في هذه الحادثة الفريدة من نوعها في التاريخ.

  • فموضوع سيِّد الشهداء ليس بذلك الموضوع الذي يمكن المرور عليه مرورًا عابرًا، ولا يجب خلطه مع غيره من المواضيع، ولا المقارنة بينه وبين غيره، كما يحرم تشبيه سائر الأحداث بحادثة عاشوراء. لأنَّ واقعة عاشوراء حادثةٌ فريدة وما حصل فيها والأسرار التي ظهرت فيها من سيِّد الشهداء وكذلك ما جرى بعدها هي شيء آخر لا يمكن أن تحيط به أفكارنا. 

  • وقد تطرقتُ إلى بعض جوانبها في أحاديثي، وقلت بأنَّ للعظماء في هذه الحادثة وفي كلا جانبيها الظاهريّ والباطنيّ رأيٌ آخر؛ فهم يولون كلا الجانبين اهتمامًا كبيرًا. إنّ لقضية كربلاء وأيّام محرّم من الأهميّة ما يجعل العظماء وأولياء الله والعرفاء يمتنعون عن مطالعة حتّى الكتب العلمية في تلك الأيام؛ فالنفس يجب أن تركّز في هذه الأيام على أمرٍ واحدٍ وأن تتوجّه إلى سيِّد الشهداء فقط لكي يكون نصيبها من الفيض أكبر، ولا يجب أن يتشتّت الذهن ويلتفت إلى هذا الأمر أو ذاك، على أنَّ المقصود ليس هو النهي عن تلك المسائل اللَغْوية والعبثية وغير المجدية، فالاجتناب عن هذه بديهي و لا يشملها هذا الحديث، بل يجب عدم شغل الذهن حتّى بالمسائل العلمية، فأحد الأسباب التي من أجلها تعطّل الدراسة في الحوزات العلمية في هذه الأيام العشرة في الوقت الحاضر هو هذا الجانب، أي إنَّ هذا الإجراء لم يتّخذ فقط بسبب ذهاب الواعظين لغرض الخطابة في هذه المناسبة وحسب.

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

18
  • لقد أولى العظماء أهميّة خاصّة لقضية عاشوراء في السابق ، فقد كانوا يمتنعون عن إلقاء الدروس، رغم أنّها تتمحور حول علوم أهل البيت، وكانوا يتوجّهون بدلاً من ذلك نحو قراءة المقاتل والقضايا التأريخية المتعلّقة بهذه الواقعة.

  • فمن الناحية الظاهرية: إنّ ما جرى في تلك الواقعة معروفٌ، كما أنّ تأثيرها على التكامل الديني وعلى شريعة رسول الله ومذهب التشيّع واضحٌ وبيّنٌ؛ ويمكن القول وبدون أيّة مبالغة بأنَّه لولا قضية عاشوراء، لما بقي للإسلام اسمٌ ولا رسمٌ وبأيّ شكل من الأشكال، أي لما كان للإسلام في هذا الوقت وجود. 

  • فما هو الشيء الذي عمل على بقاء الإسلام والتشيّع على طول الزمان في مظاهره المختلفة وفي البلدان والمجتمعات المتعدّدة؟ إنَّه واقعة عاشوراء؛ أو بكلمة أخرى، إنَّها روح ونفس وحقيقة سيِّد الشهداء، فهي التي حافظت على استمرارية بقاء شريعة جدّه، ولولاها لما بقيت هذه الشريعة؛ وها نحن نشاهد بأنفسنا كيف إنَّ إحياء مجالس عزاء الأئمة عليهم السلام وبالخصوص مجالس عاشوراء هو الذي عمل على بقاء الإسلام وبقاء مذهب التشيّع؛ فما إن تحلّ أيّام محرّم، حتّى تنتفض الأجواء وتتبدّل الحالات وتنقبض القلوب، وإنَّه لأمر عجيب حقًا، حيث لا يتأثر بها الإنسان فقط، بل إنّ التغيِّرٌ والتبدّلٌ يطال كلّ العالم، ولا يقتصر هذا الأمر على الإنسان والشيعة أو فئة خاصة من الناس. 

  • لقد ولد في هذه الدنيا ورحل عنها أُناس كثيرون لهم أوضاعهم وشخصياتهم المختلفة، ولم يخلّد ذكرٌ لأحدٍ منهم سوى سيِّد الشهداء؛ فهو الوحيد الذي بقي ذكره خالدًا لحدّ الآن، فقد عاش في هذه الدنيا شخصيات معروفة كثيرة ـ وإن كان بعض تلك الشخصيات شخصيات كاذبة غير أصيلة ـ فقد وضعت قدمها في هذه الدنيا واكتسبت في فترة حياتها صيتًا وشهرةً، ثم غادرت [وانمحى ذكرها]؛ أمّا الشخصية الباقية والخالدة فهي شخصية سيِّد الشهداء ولا غير. 

  • فبناءً على هذا لا يحتاج سيِّد الشهداء إلى أن تُعمل له دعاية ولا إلى دعوة الناس وتحفيزهم [للمشاركة في إحياء ذكراه]، و لا إلى استخدام تلك الوسائل التي يستخدمها الآخرون في دعاياتهم؛ فسيِّد الشهداء موجود في قلوب الناس وله معيّة مع نفوسهم، ولا يحتاج إلى راية ودعاية، [فما دام موجودًا في النفس]، فهل تحتاج نفس الإنسان إلى تحفيز والحال هذه؟!

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

19
  • هذا ما يتعلّق بالأمر من ناحيته الظاهرية، فيجب الاهتمام بالحفاظ على ظاهر المسألة؛ فإحياء مراسم عزاء سيِّد الشهداء، هو واحد من أهمّ الأمور التي يجب على الشيعة القيام بها. فالقضية، قضية حقيقية وواقعية. [ومن الأمور التي يجب مراعاتها] في إقامة هذه المراسم، هو التوجّه نحو سيِّد الشهداء، لا نحو تلك المسائل الجانبية والمتعلّقة بكثرة عدد المشاركين أو قلتهم، أو بثّ المراسم من عدمه؛ فيجب أن يُعقد المجلس وإن حضره اثنان، ويجب ألاّ يكون هنالك فرق فيما إن حضره مائتان من الناس أو مائتا ألفٍ منهم.

  • أتذكّر كيف أنّ الحديث كان يدور في فترة ما بعد انتصار الثورة في إيران حول الحاجة إلى زجِّ أكبر عدد ممكن من الناس للمشاركة في المظاهرات، وذلك من أجل عكس هذا الأمر للعالم الخارجي؛ وذلك لكي يعلم العالم الخارجي بأنَّ إسقاط النظام السابق، واستحداث النظام الجديد الذي يحمل اسم الإسلام لم يتمّ بالقوة والفرض، بل كانت تلك هي رغبة الشعب، وأنّ الشعب هو الذي أزاح النظام السابق وهو الذي جاء بالنظام الجديد وهو مستعدّ للدفاع عن هذا النظام، فكان الحديث يدور في تلك الأيام عن ضرورة نزول الناس إلى الشوارع بأعداد كبيرة من أجل المشاركة في التظاهرات.

  • فقال أحدهم في ذلك الوقت والذي كان يتصادف مع أيّام محرّم: (أنا لا أقول لا تُقيموا مراسم العزاء، بل ليكن ذلك على شكل تظاهرات). فإن أمعنَّا النظر في هذا الكلام، نجده يختلف كثيرًا عمّا تحكم به الثقافة الشيعية؛ فما معنى هذا القول: "أنا لا أقول لا تُقيموا مراسم العزاء، بل أقيموها، ولكن ليكن ذلك بشكل تظاهرات"؟ إنَّه يعني بأنَّ مرسم عزاء سيِّد الشهداء، تأتي هنا في الدرجة الثانية؛ فالأمر الأكثر أهميّة هنا هو ليس مراسم العزاء، بل هو رؤية العالم للشوارع وهي تغصّ بالمتظاهرين! أليس كذلك؟! فهذا الكلام هو كلام خاطئ، نعم هو كلام خاطئ، وهو يدلّ على أنَّنا لم نعرف سيِّد الشهداء، ولم نعرف معنى الولاية ولم نعرف معنى التشيّع، بل لم نعرف حقيقة الولاية والدين؛ ولم نعرف لحدّ الآن بأنَّ جوهر شريعة رسول الله يتمثّل في ولاية الإمام الحسين عليه السلام؛ فإن سُلب هذا الجوهر من الشريعة، فماذا ستكون الشريعة عندها؟ ستصبح كالإنسان الآلي! فما هو الفرق بين الإنسان الآلي والإنسان الحقيقي؟ 

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

20
  • ما هو التمايز الذي ترونه بين الإنسان الآلي و الإنسان؟ إنَّه كالفرق بين الصفر وما لا نهاية؛ فالإنسان غير محدود، ولا يمكن لكم أن تُعطوا الإنسان درجةً معينةً؛ ولكن ماذا عن الإنسان الآلي؟ إنّكم تستطيعون أن تمنحوه درجة الصفر أو الواحد أو الاثنين بناءً على الأعمال التي يستطيع أن ينجزها، وبناءً على البرنامج الذي يعمل بموجبه، ولا غير.

  • إنّ الفرق بين ذلك الدين الخالي من سيِّد الشهداء، والدين المتضمّن لسيِّد الشهداء، هو كالفرق بين الإنسان الآلي والإنسان الحقيقي، فهنا يكمن السرّ؛ ولهذا نرى الأولياء والعرفاء يؤكِّدون كلّ ذلك التأكيد على إقامة مراسم العزاء في محرم. أمّا ذلك الذي لا يُقيم لعزاء سيِّد الشهداء في نفسه وزنًا، فذلك إنسان آلي؛ فهو يحبّ سيِّد الشهداء، لظهوره بهذا المظهر، لا أكثر، فتراه لا يحب الإمام الحسن أو الإمام السجّاد؛ أمّا ما يتعلّق بالإمام الباقر والصادق، فهو لا يحبّهم أبدًا، لماذا؟ لعدم ظهورهم بذلك المظهر! ولكن هل كان ذلك البلاء الذي ابتلي به الإمام السجّاد أقلّ من تلك المحن التي حصلت في واقعة عاشوراء؟! فهل يجب أن يرحلوا كلّهم عن الدنيا بنفس تلك الكيفية؟ فهل حصل في يوم عاشوراء من المصائب ما يوازي ما عاناه الإمام السجّاد من قضايا الأسر، وما جرى له في الكوفة والشام، وتكبيله بالسلاسل والأغلال، والتي بقيت آثارها على ظهر الإمام إلى آخر عمره، ولم يعلم بها أحد؟! فهذا هو الأمر الذي تخلو منه أيدينا.

  • ففي الوقت الذي يقول فيه المرحوم القاضي: "لقد نمتُ في صحن سيِّد الشهداء شبرًا شبرًا"، انظروا ماذا يقول بعض الناس عن العرفاء؟ إنَّهم يقولون عنهم: إنَّهم لا يعتقدون بولاية أهل البيت! وليسوا من المتابعين لطريق الأئمّة تلك المتابعة! ولا ينسجم مسيرهم مع مسيرهم! هذا في الواقع هو قمّة عدم الإنصاف؛ فهل يكون الأمر بهذا الشكل فعلاً؟

  • ففي أيّ مكان نستطيع أن نشاهد مثل ذلك الاهتمام الذي يصدر عن المرحوم العلاّمة بالنسبة إلى مراسم عزاء سيِّد الشهداء وبقيّة الأئمّة؟ أين يمكن مشاهدة مثل ذلك؟ فما الذي قام بتبيينه في كتاب الروح المجرّد فيما يتعلّق بنظرة أستاذه إلى قضية عاشوراء؟ فلقد قرأتم ذلك بأجمعكم، وتعلمون أنّ ذلك أثار انتقاداتٍ كثيرةً، ولكنّ هذه الاعتراضات كانت ـ والله وبالله وتالله ـ عن عناد ولجاجة وإنكار! لأنّ سماحته قد أوضح هذا الأمر كثيرًا؛ فهل كان أستاذه لا يُعير مجالس عزاء سيِّد الشهداء اهتمامًا؟! فإن كان الأمر كذلك، فلماذا كان يوصينا بقراءة زيارة عاشوراء بعد صلاة الصبح في كلّ يوم من الأيّام العشرة الأولى لشهر محرم؟ وذلك عندما كنَّا نتشرّف بزيارة كربلاء في ذلك الوقت، ولماذا كان وضعه في هذه الأيام العشرة، يختلف عن وضعه في غيرها من الأيام؟ إنَّ ذلك لأمرٌ عجيبٌ حقًا.

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

21
  • كنَّا جالسين حوله في يوم عاشوراء، إذ سمعنا أصواتًا تتعالى، فكان معلومًا عندها بأنَّ مصدر الصوت هو ذلك الموكب الذي ينطلق من مسافة عدة فراسخ صوب كربلاء، ألا وهو الموكب المعروف بموكب ركضة طويريج، فهم يقطعون مسافة أربعة فراسخ هرولةً، فقال لنا المرحوم الحدّاد: (قوموا جميعًا وشاركوا في هذا الموكب، إنّ لإمام الزمان عنايةً واهتمامًا خاصًّا بهذا الموكب!) ، ومع كلّ هذا تراهم يقولون عنهم:إنَّهم ليسوا ممن يؤمنون بالولاية ومراسم العزاء والتوسّل! 

  • ولقد نهضنا بأجمعنا وكان معنا المرحوم العلاّمة وسرنا مع الموكب لمسافة محدّدة، فقد كانت حركة الموكب سريعة، ولقد قال السيِّد الحدّاد: (إنّ لسيِّد الشهداء عليه السلام عنايةٌ خاصّة بالمعزّين له في هذه العشرة، غير أنَّه قد اختصَّ موكب طويريج بجرّة ماء خاصّة بهم في يوم عاشوراء!) ، كلام منْ هذا؟ إنَّه كلام ذلك العارف الذي ذكر المرحوم الوالد تلك المواضيع العالية والراقية فيما يتعلّق نظرته لتلك الواقعة. 

  • والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل نستطيع نحن أن نفهم من زيارة عاشوراء، ما يفهمه العظماء منها؟ أم أنَّ فهمنا منها يقتصر على ظواهر الأمور فقط؟! نحن لا نعرف من تلك الواقعة سوى ما جرى فيها من مصائب، ولا نعرف سوى ما استُخدم فيها من أسلحة كالسيف والرمح والسهم؛ فهل نستطيع الصعود بمستوى أفكارنا لكي نتمكّن من فهم ما يفهمه العظماء من زيارة عاشوراء؟ أم أنّ مستوى فهمهم أرقى بكثير؟ إنّ ذلك هو ما أشار إليه المرحوم العلاّمة في كتاب الروح المجرّد.

  • ما الذي يقوله مولانا جلال الدين الرومي في هذا المجال؟

  • اين چه مى گويم به قدر فهم تست***مُردم اندر حسرت فهم درست۱
  • [يقول: ما أقوله، إنَّما هو بمقدار فهمكَ أنت، و لقد متُّ متحسّرًا لأجل الفهم الصحيح‌]

  • فإن كان بعض الناس لا يستطيعون التسامي بمستوى فكرهم إلى تلك الدرجة؛ فلماذا يقومون بإنكار ذلك؟ لماذا علينا أن ننكر؟! ولماذا نكون على هذه الدرجة من عدم الإنصاف، بحيث نغفل أعمال العظماء وتصرفاتهم [التي تبرز اهتمامهم بعزاء سيّد الشهداء عليه السلام]، ونخوض في تلك المواضيع التي لا تصلح إلاّ أن تكون غذاءً لمجموعةٍ خاصةٍ من غير المطّلعين؟

    1. المثنوي، ج ٣، ص ٤٤٦.

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

22
  • على كلّ حال، فالأمر في غاية الأهميّة، ولا بدّ من أن يكون تبدّل الجو في المنزل محسوسًا، على أنَّه ليس من الضروري ـ وكما قلت سابقًا ـ أن يُنشر السواد في جميع أرجاء البيت، بل يفترض أن يكون ذلك بالمقدار الذي يعكس بوضوحٍ حالة الحزن والعزاء المهيمنة عليه، ويجب الامتناع عن جلب الحلوى وأمثالها إلى المنزل في هذين الشهرين، كما يجب المشاركة في مجالس العزاء في جميع الأيام العشرة الأولى من محرم، فتلك هي وصيّة العظماء، فإن لم تستطع المشاركة في المجالس التي تُعقد صباحًا، فشارك في تلك التي تُعقد ظهرًا، وإن لم تستطع، فبعد الظهر أو ليلاً، وليكن الأمر بالشكل الذي لا يمضي عليك يومٌ دون أن تكون قد حضرت مجلسًا من مجالس عزاء الإمام الحسين عليه السلام، فيجب المشاركة في تلك المجالس بالكيفية التي أوصى بها العظماء.

  • ويجب الابتعاد ـ وكما أوصى بذلك العظماء ـ عن قراءة تلك الأشعار التي تتضمّن أمورًا باطلة، وتلك الأشعار الركيكة والأشعار التي تعتبر موهنة بحقّ الإمام عليه السلام. فلا يجب إدخال تلك المسائل التي لا تتلاءم إلاّ مع منهج أولئك الممثّلين؛ فتلك مسائل تتسبّب في تعكير الجو وتلويثه، بل يجب التركيز على مباني واقعة عاشوراء. 

  • وعلى الخطباء والمتكلمين أن يكشفوا اللثام عن تلك الحقائق الكامنة في كلمات الإمام وسيرته، ولا يجب المرور عليها مرورًا عابرًا، وما دمنا نمتلك مثل هذا الرصيد، فلسنا بحاجة إلى شيءٍ آخر معه، فيجب الخوض في بيان سيرة وكلمات الإمام للناس، فالموضوع واضح وطريق الإمام واضح، ولا حاجة مع هذا إلى الخوض في تلك المسائل الجانبية والتي لا تحتوي على الكثير من الفائدة للناس، فإن كان لا بدّ للمرء من إدراك شيء عن الواقعة، فلا يمكنه إدراك ذلك إلاّ من خلال كلمات الإمام وسيرته.

  • لا أنسى ذلك اليوم الذي زار فيه المرحوم المطهّري ـ رحمة الله عليه ـ المرحوم العلاّمة في منزله ودار فيه الحديث عن ذكر مصيبة سيِّد الشهداء؛ فقد كان يتحدّث عن كتاب معرفة المعاد للمرحوم العلاّمة، وكان وصولي في منتصف الحديث الذي كان يدور بينهما، حيث كان المرحوم المطهّري يقول: إنَّ تلك المجالس الواردة في كتاب معرفة المعاد جيدةٌ جدًا، غير أنَّ إدراجكم لمقاطع العزاء والكلام المتعلّق بذكر مصيبة سيِّد الشهداء في ضمن الأبحاث يقطع استمرارية البحث وتسلسله، فكم يكون من المناسب والحال هذه أن تقوموا بحذف ما يتعلّق بذكر المصيبة لكي يحافظ البحث على تسلسله، ولا يتشتّت ذهن القارئ يمينًا وشمالاً.

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

23
  • فتبسّم المرحوم العلاّمة وقال: إنَّ كلّ ما نطرحه في هذه المجالس، تُجنى ثماره بواسطة ذكر المصيبة هذا؛ فكيف تقترح عليّ والحال هذه حذف هذه المواضيع، إنّ حذف ذكر المصيبة من خاتمة البحوث والمجالس، تجعلها كالطعام الخالي من الملح ـ وهذا هو نصّ عبارته ـ فذكر المصيبة هو الذي يبعث على ترسيخ هذه المواضيع في الذهن والنفس وليس في المخّ.. 

  • إنَّ الإضافة الأخيرة هي منِّي أنا، فالمرحوم العلاّمة إنّما قال: "تترسّخ في الذهن"، وأنا الذي أقول: وليس في المخّ ؛ فأنت تستطيع الاحتفاظ بالكثير من المعلومات في ذاكرتك ولكنّها ستكون مثل تلك المعلومات التي يتمّ تسجيلها على شريط التسجيل، فهذه المعلومات تبقى في الذاكرة ولا تنفذ إلى النفس والذهن وإلى حقيقة النفس التي تتلقّى المطالب، وحينئذٍ، فسوف لن تكون سوى مجموعةٍ من المعلومات التي حفظت في الذاكرة ليتمّ استدعائها عند الحاجة إليها، ولن تنفذ إلى النفس لتأخذ مكانها وتترك أثرها فيها وتعمل على تغييرها.

  • إنّ تلك الحقائق التي نذكرها في خاتمة البحث والتي هي عبارة عن بعض ما جرى في عاشوراء ـ وهذا الكلام للمرحوم العلاّمة ـ تنفذ إلى النفس وتعمل على تثبيت معلومات البحث في النفس بل تجعلها ممزوجةً مع النفس ومتحدةً معها، فعندها سيعطي البحث ثماره.

  • فمن يستطيع إدراك هذا الأمر وفهمه؟ ولا أدري إن كان المرحوم المطهريّ قد استوعب كلام المرحوم العلاّمة في ذلك الوقت أم لم يستوعبه؟ لا أدري، ولكن يمكنني أن أقول: إذا تمّ استيعاب هذا الموضوع وهضمه بشكلٍ جيّد، فسيكون له الأثر الكبير في تحديد مصير الإنسان.. أجل سيكون له أثرٌ عظيمٌ وعجيبٌ؛ فعندما يقف المرء في مفترق طرق، ويرى أنّ نفسه تميل للسير في إحداها، فدعوة النفس تلك هي ناتجة عن هذا الأمر. هل تفطّنتم لما أقول؟! في ذلك الوقت يأتي الإمام الحسين ليأخذ بيده، ولا يدعه يأخذ هذا الطريق أو ذاك، فهذه الهداية ناتجة عمّا تحدثنا عنه وهو رسوخ تلك المعلومات في النفس وتوجيه النفس إلى الوجهة الصحيحة، ووضع النفس والقلب في إطار ذلك الحصن الحصين، بحيث أنّ الإنسان عندما يصل إلى مفترق طرق، سيترك جميع الطرق الباطلة وينتخب الطريق الوسط، فعلامَ يدلّ هذا الانتخاب؟ إنَّ هذا يدلّ على أنَّ تلك الآثار التي ترسّخت في النفس، لا تسمح لها بسلوك الطريق الذي لا يتوافق معها، فالنفس التي ترسّخت فيها تلك المبادئ لن تميل إلى الطريق المخالف لها؛ لأنَّ سلوك أيّ طريق لا يمكن أن يتمّ، ما لم يكن هنالك تمايل نفساني لسلوكه، وإلاّ لما كان سيسلكه ولبقي في مكانه.

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

24
  • يُلاحظ بأنَّ البعض وعندما يرى في نفسه الرغبة للقيام بعمل ما، فهو يستجيب لتلك الرغبة، ثم يقوم بعد ذلك بإقامة الدليل على صحّة عمله، فعمل الناس هذا على خلاف ما يقتضيه المنطق، فهم يختارون طريقًا معينًا وفقًا لأهوائهم، ثم يقومون بالبحث في الكتب أو ما شابه عن دليل يبرّر لهم فعلهم، يا عزيزي، بدلاً من أن تقوم بهذا العمل، عليك أن تقوم بتشخيص الحقّ أوّلاً، وذلك عن طريق البحث في الكتب، وحقّق في الملاكات الصحيحة، والتوصيات، والأوامر والنواهي أو تجارب الآخرين؛ فإن توصّلت إلى التشخيص الصحيح، فستحصل لديك الرغبة طبعًا للسير في طريق الحق؛ أمّا إن لم تحصل لك تلك الرغبة، فاعلم عندها بوجود عيبٍ ما في الأمر.

  • فمن أين يستمدّ المرء هذه الروح؟ إنَّها تحصل لديه من خلال التمسّك بسيِّد الشهداء؛ فعندما يتوغّل المرء في قضية كربلاء، ويلصق نفسه بحرم سيِّد الشهداء، ويجعلها في خيمته، فسيأتي عندها ذلك الحال ويضمّه إليه، نعم، ذلك الحال وذلك الجو النقي عن كلّ شائبةٍ أو هوىً، فلقد قلت لكم: إنَّ الخلوص في واقعة كربلاء تامّ لا يعتريه النقص، أمّا الحروب التي خاضها رسول الله، فلم تكن كذلك، فقد كان فيها كلّ من المخلص والمنافق؛ ألم يشارك فيها [المنافقون] ؟! وهل كان جميع من قاتل مع أمير المؤمنين من المخلصين؟ كلاّ، وإلاّ لما حصل ما حصل في صفّين والنهروان. ولو كانوا خالصين، لما قالوا له في حرب الجمل: نحن لسنا معك، ولو كان جميع من قاتل في ركاب رسول الله من الخالصين، لما ترك أولئك الخمسون مقاتلاً مواقعهم على جبل أُحد ونزلوا عنه خلافًا لما كان الرسول قد أمرهم به؛ فيُعلم من هذا بأنَّهم لم يكونوا من المخلِصين، وإلاّ لما برحوا مواقعهم، ولو كان ذلك الرجل مُخلصًا لما قال عنه رسول الله بأنَّه شهيد الحمار، ذلك الرجل الذي رأى أحدَ المشركين في إحدى الحروب راكبًا حمارًا أبيضًا، فأراد قتل المشرك من أجل غنيمة حماره، فضربه المشرك وقتله. فقال رسول الله عنه: لقد قُتل هذا من أجل الحمار.

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

25
  • ولكنّنا لا نشاهد حالة عدم الخلوص في قضيّة عاشوراء؛ فقد انصرف جميع غير المخلِصين في ليلة عاشوراء، حتّى أنَّ أحدهم كان قد قال لسيِّد الشهداء: سأبقى معكم ما دمت أرى بأنَّ النصر سيكون لكم، فقال له سيِّد الشهداء: لك ما تشاء، ولم يُقتل ذلك الرجل في عاشوراء، ففي عاشوراء لم يكن الأمر ليجري بشكل عشوائي، وذلك بأن يقبَل الإمام كلّ من يأتي ويسمح له بالاشتراك في المعركة والاستشهاد فيها، فما دمت قد قلت: أنا معكم ما دام النصر حليفكم، فأنا [سيّد الشهداء] أقوم بتكليف الملائكة بحفظك من ضربات السيوف والرماح؛ فهل تعتقد بأنَّ إصابة أحدهم وعدم إصابة الآخر تتمّ هكذا بشكل عشوائي؟! لا يا أيّها السادة، فسوف أقوم بإعطاء الأمر لجميع الملائكة بحفظك وبألاّ يسمحوا لسهم واحد من ضرب جسدك المبارك، لكي لا يمسّك أيّ ألم؛ هذا في الوقت الذي لا أسمح به لجميع الملائكة من الوقوف بوجه ذلك السهم الذي تمّ تصويبه نحو رقبة عليّ الأصغر، بل أنا الذي أسمح له بضربه. فهل عرفتم الفرق بين الحالتين؟ فلقد اجتمعت جميع الملائكة من أجل الحيلولة دون ضرب ذلك السهم لرقبته، لعلمهم بأنَّ السماء ستنطبق على الأرض إن ضرب السهم رقبته؛ فحالَ الإمام دون جهودهم وسمح للسهم بضربه.

  • إنّ هذا هو الفرق بين قضية عاشوراء وغيرها من القضايا، فلا وجود للخلط بين المسائل، بل يأخذ كلّ شيءٍ محلّه المناسب وبشكل دقيق؛ فهل يمكننا حينئذٍ أن نخلط بين هذه القضية وغيرها؟ وهل يمكن تشبيهها بغيرها من القضايا؟ هل يمكن لنا ذلك؟ كلاّ.

  • يجب ـ والحال هذه ـ الفصل بين هذه القضية وغيرها، وترك ما سواها والاتجاه نحو سيِّد الشهداء صلوات الله عليه؛ فماذا كان يريد؟ وكيف كان تصرّفه مع الحرّ؟ ذلك الحرّ الذي فعل ما فعل! أرأيتم كيف تعامل معه؟ وكيف تصرّف مع عبيد الله بن الحرّ الجعفي، ومع زهير بن القين؟ وكيف كان تعامله مع غلامه، ومع أولاده؟ فكيف تصرّف مع علي الأكبر والذي كان أول من برز للقتال من بني هاشم؟ 

طريق السير والسلوك هو الطريق المنسجم مع التكوين

26
  • لقد كان سيِّد الشهداء يمنع كلّ من جاءه يطلب الإذن للقتال، فلمّا طلب علي الأكبر الإذن منه سمح له فورًا، ولو لم يسمح له الإمام بالنزول في تلك الساعة، لتأخّر ساعة من الزمن، ثم لا بدَّ له من أن ينزل إلى ساحة المعركة في نهاية الأمر؛ فلماذا أذِن له الإمام بالنزول؟ ولماذا لم يقل له: لا تنزل الآن؟ لا بدّ من التفكير بشأن هذا الموضوع، ويجب على من له علم بذلك أن يبيّنه للناس، فلا بدّ من نقل ما تمّ سماعه من العظماء إلى الآخرين، لكي يعلم الناس بأنَّ طريق الهداية في هذا العالمِ المليءِ بالهرج والمرج منحصرٌ في متابعة سيِّد الشهداء ومدرسة عاشوراء فقط وفقط ولا غير؛ أمّا بقية الطرق الأخرى فلا تقود إلى الهداية، وما لم يُدرك الناس وجوب اتّباعهم لسيرة الإمام الحسين والتخلّص من جميع الشوائب، فسوف لن تُحلّ عقدهم في الحياة؛ فيجب الاقتداء بسيِّد الشهداء ولا غير، وعند إقامة مراسم عزاء سيِّد الشهداء، يجب التركيز على مراسم العزاء نفسها وعدم مزجها بما سواها من المسائل الأخرى، فيجب أن يتركّز التفكير على سيِّد الشهداء ومراسم عزائه فقط لكي يؤخذ بيد الإنسان في طريق الهداية؛ أمّا إن أراد الإنسان مزج القضية بمسائل أخرى، فستفقد القضية روحها وحقيقتها ولا يبقى منها سوى ظاهر الأمر.

  • نسأل الله أن يمنَّ علينا بالتوفيق لكي نكون محطَّ لطف الأولياء وعناية العظماء وسادة الدين وأركانه وبأحسن ما يمكن.

  • اللهمَّ صلِّ عَلى محمَّد وآلِ محمَّد