المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالطعام و التغذية
التوضيح
وهي المحاضرة 180 من سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري ألقاها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني قدس سره مساء يوم الجمعة الرابع من شهر شعبان المعظّم في مدينة قم المقدّسة وذلك باللغة الفارسيّة وقد تعرّض فيها إلى مسائل ذات أهّمية واضحة في سير الإنسان وسلوكه من قبيل : ضرورة اجتناب الإفراط و التفريط في الأكل و الشرب و نحوهما , و دور الغفلة و المراقبة في هويّ الإنسان ورقيّه , وسيرة أولياء الله تعالى في الاستفادة من نعمه تعالى وموقفهم تجاه ما أحلّه الله لبني البشر, ورؤية العارفة الموحّدة السيدة زينب عليها آلاف التحيّة والثناء وموقفها تجاه أحداث عاشوراء وما بعدها.
هو العليم
الطعام بين الإفراط و التفريط
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱۸۰
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
تمهيد
تقدّم في المجالس السابقة حول حديث الإمام الصادق عليه السلام أنّ للإمام ـ كما يذكر الإخوة الكرام ـ وصايا حول المراقبة في المأكل والمشرب والغذاء، وإن شاء الله سنبيّن لهم كيفيّة التغذية وميزان رعايتها وذلك بالاستفادة من سائر وصايا الإمام الصادق عليه السلام في هذا الباب الصادرة عنه وعن سائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام، وبالاستفادة من سيرة أولياء الله في التعامل مع هذا الأمر، من خلال ما لاحظناه طيلة حياتهم وما شهدناه منهم في الظروف المختلفة والأحوال المتفاوتة، لكي يتسنّى لنا بعد ذلك العمل بوصاياهم و إرشاداتهم.
لزوم الابتعاد عن حالتي الإفراط والتفريط
وكما تقدّم آنفاً، هناك من اتّخذ طريق الإفراط في المسألة، وهناك من اتّخذ طريق التفريط؛ فهمّ كثير من الناس هو المبالغة في أنواع المأكولات والاستفادة غير الصحيحة والإسراف وبذل الأموال في الموارد غير اللازمة، بحيث يعرّضون سلامتهم للخطر ظاهراً وباطناً. وفي المقابل نجد من اتّخذ التفريط مسلكاً له، فحرّم على نفسه نعم الله، وحرَمها من ذلك القسم من الملذّات السليمة، وهو يتوهم أنّ هذه النعم والمواهب الإلهيّة لفئة خاصة خارج دائرة المؤمنين والصلحاء، وأنّ عليه أن يستفيد من نوع خاص يشكّل الحدّ الأدنى من الحياة، وأما تلك الملذّات فهي مختصة بالآخرين. فمثلاً لو كان هناك فاكهة في مجلس ما وأريد إعطاؤه منها، فإنّه يسعى أن يأخذ من النوع الأدنى، وربّما لا يتأذّى إذا رآه الآخرون يفعل ذلك!! وكذلك إذا كان هناك في مكان وفيه متّكأ أو فراش فإنّه يحبّ أن يجلس بعيداً عنه، أو كما ينقل عن بعضهم أنّه كان يصلّي في الشتاء في الأماكن الباردة وفي الصيف في المواضع الحارّة، وكان يقول: إذا رأوني في الظلّ ربّما كان عملي رياءً، فقلت: اذهبوا وقولوا له: نعم صحيح، لعلّه وقف تحت الشمس مدّة طويلة حتّى أثّرت على عقله فغيّرت نحو تفكيره..!!! الآن صارت الصلاة تحت السقف رياء! إذا خرج الإنسان عن سواء السبيل والمسير جاءته الوساوس من شتّى الطرق وسيطرت عليه إفراطاً وتفريطاً، والسالك هو الإنسان الذي يتحرّك وفق المسير الصحيح.
هذا التعارض الذي يبدو لنا كيف يمكن حلّه؟ فمن جهة يقول الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْق}۱ ، الرزق الطيّب هو الرزق الذي لا شبهة فيه، ولا إشكال في أنّ الرزق نعمة إلهيّة، وهل ما نشاهده الآن هو غير ما جاء من الله؟ هل شجرة التفّاح التي تثمر بقدرة الله ولطفه وتظهر قدرة الله تعالى هي غير ما يأتي من عند الله، تلك الشجرة التي تربّي الثمرة وتظهر قدرة الله في التفاحة هل يختلف الحال فيها بين التفاحة الكبيرة و الصغيرة؟! أليس الذي صنع الكبيرة هو الذي صنع الصغيرة؟ إذا كانت التفاحة كبيرة فلا إشكال في تناولها بالنسبة لنا، ولكن فيها إشكال عند ذلك النوع من الناس ذوي التفكير البسيط والمتحجّر والجاهل، والناشئ عن عدم الفهم وعن ضيق الصدر، فهؤلاء الأفراد عادة يمتازون بضيق الصدر، ومستواهم الفكري متدنّ.
و هكذا كلامهم.. مسلكهم.. طريقة إنفاقهم على أنفسهم، وهم لا يريدون أن يكونوا كذلك وحدهم بل يحاولون أن ينشروا هذا المنهج ويفرضوه على الآخرين، يعدّون حياة من سواهم حياة الملوك.. حياة الجهلة.. المستكبرين.. المتكالبين على الدنيا.. فما الفرق بين هاتين التفّاحتين؟! فهذه الشجرة تعطي هذه التفاحة وتعطي تلك، وكلاهما من الله وكلاهما من منشأ واحد، فلماذا تكون هذه جائزة وتلك غير جائزة؟! لا يختلفان سوى في الوزن، فإذا أردنا أن نشتري لا بدّ أن نشتري هذه الرديئة دون تلك! كلاهما من الله، كلاهما هبة الله، وكذا في سائر الأمور؛ في كيفيّة المركب والملبس والمسكن، كيف يمكن توجيه ذلك؟ الله يقول: من الذي حرّم هذا، ومن قال: إنّ هذا الرديء هو المطلوب؟! نحن نرى مثل هذا النوع من الناس، وهم يعتقدون أنّ من كان يريد الآخرة عليه ألا يلتفت إلى لذّات الدنيا، من كان يريد التوجّه إلى الآخرة فعليه ألا يلبس ثياباً نظيفة مرتّبة، عليه ألا يضع على بدنه العطور الجميلة؛ لأنّها لأهل الدنيا، من كان يريد الآخرة عليه أن لا يتناول من الطعام الذي يرغبه الناس، لا بدّ أن يأكل طعاماً لا يرغب به الناس، عليه أن يعيش في الدنيا بهذا النحو ليتمكّن من تقوية الجانب الأخرويّ، ولا بدّ أن يتجاوز عن هذه المسائل.
هناك نوع من الناس يفكّرون بهذا النحو، وقد كنت أعرف الكثيرين منهم، وكنت ألمس منهم ذلك، وإذا أردنا أن نبحث في تفاصيل ذلك فإنّ هذا المنهج يشمل عندهم جميع المجالات ولا يختصّ بالأكل والشرب فقط. فمثلاً في الزواج لا بدّ من تطبيقه أيضاً، مع أنّه أهمّ!! والحال أنّا نجد أنّ ذوق هؤلاء الناس في هذا الموضوع أفضل من ذوقنا!! ولديهم أمور مهمّة ينبغي الالتفات إليها، بل يمكن أن يكون لديهم آراء وأذواق لم نلتفت إليها ولم ننتبه لها أصلاً. لا يمكن أن يكون الأمر بهذا الشكل وبهذه الكيفيّة، فهذه مسألة موجودة ـ باختلاف ـ في أذهان هؤلاء (المقدّسين)، حتى أنّهم طرحوا هذه المسألة بعنوان كونها ثقافة وأمراً مشهوراً، وقد لاقت رواجاً وقيمة بين الناس؛ حيث يقال مثلاً بأنّ حياة فلان حياة بسيطة، وهو يعيش حياة زهد، وأنّه ينبغي أن يكون الإنسان كذلك، وأنّه ينبغي أن يعدّ المثال والقدوة في ذلك.
موقف المعصوم والوليّ تجاه نعم الله تعالى
و الحق أنّ هذا الأمر هو جهة من جهاته، فمن جهة أخرى نرى أنّه لم يكن في حياة الأئّمة عليهم السلام مثل ذلك، كما لم يكن ذلك بين الأولياء، وإذا كنّا نشاهد هذا الأمر في بعض الحالات، ففي المقابل هناك أمور أخرى أيضاً، وقد شاهد الحقير السيّد الحدّاد رضوان الله عليه ـ وكنت حينئذٍ صغيراً ـ عندما كان يذهب إلى السوق.. أو عندما كان أحد الأشخاص يريد أن يقوم بفعل مخالف كان يعترض عليه، فيقول : لماذا تفعل هذا الأمر، ولماذا تقوم بأمر مخالف؟ أو عندما كنّا في منزل المرحوم الحدّاد ـ الآن تذّكرت هذه المسألة ـ وأتى أحدهم وكان يحمل نوعين من التفّاح (والتفاح هناك كان يأتي من لبنان؛ إذ لا أعتقد أنّه من العراق، حيث كان التفّاح قليلاً في العراق أو لم يكن يوجد أصلاً، وعلى كلّ حال كان التفّاح من لبنان في ذلك الحين وكان جيداً جداً، بخلاف هذا الوقت الذي لا يختلف التفاح فيه من مكان إلى آخر، خصوصاً مع وجود الأدوية والأسمدة الكيماويّة التي تعطى لها حيث أفقدتها طعمها ورائحتها، وكان تفّاح لبنان في ذلك الوقت ذا رائحة عطرة، فعندما يوضع في غرفة كانت تفوح رائحتها وتتعطّر الغرفة بأسرها، لكن للأسف لم يعد ذلك الأمر كالسابق بعد الأدوية الحديثة والأسمدة وسائر الموادّ الكيماويّة. نعم، في الفترة الأخيرة حصل التفات إلى ضرورة العودة إلى كيفيّة الإنتاج السابق، بل يُلاحظ أنّه حصل التفات إلى هذه المسألة حتّى في أوروبا والغرب، حيث صار من الرائج الآن الاهتمام بالفواكه الطبيعيّة التي لا يستخدم فيها الأسمدة والموادّ الكيماويّة، وهذا النوع من الفواكه يباع بأضعاف ثمن غيره، وهذا يكشف عن وجود تحول آخر على هذا المستوى، والعودة إلى النمط القديم والتقليدي في التغذية، حيث التفتوا إلى الخطأ الكبير الذي وقعوا فيه من هذه الجهة، وأيقنوا بضرورة العودة إلى طرق الإنتاج التقليديّة القديمة). وكان يحمل هذا الشخص معه نوعين من التفّاح: تفّاح أحمر وتفّاح أصفر، وحين قدّمها إلى السيّد الحدّاد تناول من التفّاح الأصفر وقال: هذا التفّاح ألطف من التفّاح الأحمر، وعند ذلك عرفنا أنّه يفضّل التفّاح الأصفر على الأحمر. حسناً، ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنّ لدى السيّد الحدّاد ـ كسائر الأشخاص ـ طبيعة وذوقاً خاصّاً.. فقد يكون لدى شخص آخر طبع مختلف، ما العيب في ذلك؟ وهنا نلاحظ أنّه لم يتناول ما هو سيئ في نظره، ولم يقل: يجب أن أتناول ما لا ترغب فيه نفسي وأدع ما ترغب فيه، وكنت أرى منه ذلك دائماً. فعندما كنّا نذهب لنشتري الفاكهة والتفّاح كان المرحوم الوالد يقول: إنّ السيّد الحدّاد يحبّ التفّاح الأصفر، وكنّا نشتري منه. وهكذا كنّا نلاحظ المرحوم الوالد كان يفضّل بعض الفاكهة على بعضها الآخر، وكذا الحال في الزهور و الورود، فأيّ من العرفاء كان ينزعج من عطر الورد المحمّدي، أو ينزعج من شكلها ولونها؟ فمتى رأينا عارفاً ينفر من رائحة العطور الجميلة، أو يفرّ منها؟ ما شاهدناه من سيرتهم مختلف عن ذلك تماماً؛ حيث كانوا يظهرون رغبتهم، فقد رأيت من بعض الأفراد الذين كان لديهم شبهة كبيرة يقول: إنّ وليّ الله... ـ لا أستطيع أن آتي بالعبارة التي استخدمها فقد استخدم عبارة غير مناسبة ـ لكن هل الأمر لا يختلف بالنسبة إلى وليّ الله بين الرائحة الجميلة والقبيحة؟ قلت له: يا مغفّل! إنّ وليّ الله وإن كان في حالة التوحيد، لكن الأُمور لا تختلف واقعاً بالنسبة إليه، فما هذا الكلام التي تقوله؟ فالإنسان عندما يصل إلى مقام الولاية والتوحيد ويلتفت إلى أنّ كلّ ما هو موجود في هذا العالم هو من الله تعالى.. نعم يعلم أنّ الميكروب من الله والجرثومة من الله، يعلم ذلك، لكن لا يعني ذلك أن يتناول الجراثيم والميكروبات، ويقول : إذا كان الميكروب من الله فليحصل ما يريد؛ لأنّه من الله. إذا كان الأمر كذلك فالسكّين أيضاً من الله، فهل يمكن لك أن تدخله في بطنك؟ والرصاصة من الله فهل يمكن أن تطلقها على رأسك؟ لا ليس الأمر كذلك، جميع الأمور من الله، لكن كلّ شيء له موقعه الخاصّ ومكانته المحدّدة، فأنا الآن في هذه الحالة الصحيّة، إذاً هذا الطعام جيّد لي، بينما إذا تناولت ذاك الطعام سيكون سّماً لي، إذا تناولته سأموت. فالطريق الذي جعله الله لتكاملي هو هذا الطريق، وإذا أردت أن أتجاوزه سأقع وأموت، وعندما يشقّ طريق أمامي عليّ أن أمشي فيه، والذهاب يميناً وشمالاً موجب لضياعي، وهذا القانون هو قانون الله تعالى، وهذا الطريق أيضاً من الله. فهل الله هو الذي أمرني أن أمشي بشكل خاطئ لأنّه هو الذي جعل هذا القانون؟ بل عليّ أن أمشي في طريقي، وهذا الأمر مهمّ جدّاً ودقيق؛ إذ أنّه يفيد في العديد من الموارد والمطالب ويفتح الطريق للإنسان.
رؤية العارف غير رؤية الجاهل
فالموحّد يرى كلّ شيء من الله، كلّ شي يراه من الله، ولكن عليه في الوقت ذاته أن يعمل بالنحو الذي خلق عليه ووفق ما يطلبه منه الله وأن يمشي على الطريق القويم الذي أمره به. فالله خلق الإنسان بهذه الخصوصيّات وهذه الأخلاق، وبهذا الطبع وهذه الحواس وهذه الفطرة وهذه التركيبة، والإنسان بهذه الأمور يرى شيئاً جميلاً وملفتاً، والله تعالى هو الذي جعل فيه هذا الأمر، فرؤية الشيء جميلاً، والارتياح للشيء الجميل كلّها من الغرائز الجميلة. "إن الله جميل ويحبّ الجمال"، فالله تعالى هو الذي خلق الإنسان بهذا الشكل، هو الذي جعله يأنس بالنظر إلى الوردة الجميلة، وجعلنا نأنس من الرائحة الجميلة العطرة، وفي الوقت ذاته خلق الله مخلوقات أخرى، تأنس بروائح أخرى فما دخلنا نحن بها، الأمر لا يهمّ، فبعض الحيوانات تأكل الميتة، وكلّما كانت الميتة أكثر جيفة يكون أكلها أكثر لذّة بالنسبة إليها، فما علاقتي أنا بذلك الحيوان؟ وهذا أمر مهمّ ويمكن أن يعود إلى الكثير من الموارد؛ إذ المسائل الثقافيّة التي لدينا والقيم التي نختارها فيما بيننا ترجع إلى هذا الأمر، وهو ما سيوصل إلى هذا الأمر. وإذا وفّقنا الله تعالى سوف نشير في كتاب الارتداد في الإسلام إلى هذه المسألة؛ إذ سنبيّن كيف أنّ الذوق والثقافة والفطرة التي منحها الله للإنسان ووهبه إيّاها، والتي يمكنها أن تشاهد الجمال الإلهي كما هو فعلاً، وترى الكمال الذي جعله الله كما هو واقعاً والجمال الذي جعله الله له، وترى الجلوات الرحمانيّة بالرحمة التي جعلها الله.. ثمّ يأتي هذا الإنسان ويجعل نفسه في جوٍّ مختلف ومناخ غير مناسب ويربّي نفسه في فضاء غير منسجم مع فطرته، فعند ذلك سوف يرى الجمال غير جميل، فهذا الأمر عجيب جدّاً. ما نراه الآن بين الناس من وضع بعض الصور والأشكال على أجسامهم من رأسه إلى رجليه ويديه، ويضع صور الجنّ على جسمه، وهو يرى أنّ هذا جميل له.. واقعاً يتعجّب الإنسان من هذا الأمر، فالإنسان الذي يمكن أن يكون جميلاً وحسن المظهر يأتي ويشوّه جسمه بيده ويصير قبيحاً بهذا الشكل، ومع ذلك يأنس بهذا الأمر
ثمّ يأتي ويعرض نفسه أمام الملأ ويقول: لقد رسمت هذه الصورة على بدني، ويبدأ باستعراض نفسه أمام الآخرين.. فأيّ حسن بهذا العمل!!
لماذا يحدث ذلك؟ لأنّ شخصيته تبدّلت وتغيّرت فطرته وغرائزه.. فتلك الفطرة وتلك الذات التي أودعها الله في وجوده قد انقلبت وتبدّلت، فقد خسرها وافتقدها، لقد خسر رائحة الجمال وافتقدها، يعني ما حدث له شيء فظيع جدا!! وما أستعرضه إنّما هو من باب التمثيل المختصر فتفصيله له موطن آخر، يعني: يصير حال الإنسان بنحوٍ يستأنس معه برائحة التعفّن من شدّة تبدّل مزاجه!!! هل تتصوّرون ذلك؟! يعني كلّما كانت الرائحة أكثر تعفّناً تصبح لذّته أكثر وأشدّ، فهل هذا جمال حقّاً؟! هل هذا جمال وكمال ولذّة واقعا؟! فقد أصبح يفرّ من رائحة العطر، يفرّ من رائحة ورد الياسمين ويبتعد عنها، لماذا؟ لأنّه خرج عن دائرة الإنسانيّة؛ لأنّ الإنسان السويّ لا يتمايل إلى هذه الرائحة، الإنسان لا يميل إلى هذه الروائح.
السبب في ضرورة اجتناب المعاصي والذنوب
لماذا يقولون : يجب أن تبتعد عن المعصية وتهجرها؟ لماذا؟ لأنّ المعصية تبدّل وتغيّر جوهر الإنسان شيئاً فشيئاً وبشكل تدريجي، وتُخرج الإنسان من فطرته بشكل هادئ، يكون اليوم غير قادر على قتل عصفور صغير، وإذ به غداً يقتل إنساناً دون أن يشعر بالذنب وبكلّ يسر وسهولة. ما الذي حدث حتّى وصل إلى هذا الحدّ بحيث لا يتأثّر أصلا، فهؤلاء الجلّادون والجبابرة الذين ذكرهم التاريخ والنماردة والفراعنة... هؤلاء لم يكونوا بهذا الشكل من أوّل حياتهم، كانوا أوّل حياتهم كسائر الناس وكسائر أفراد بني آدم، بل قد لا يكونوا يتحمّلون مشاهدة قطع رأس دجاجة أوّل الأمر. فبعضهم مثلاً لا يأكل لحم الدجاج؛ لأنّهم قد شاهدوا زمان طفولتهم ذبح حيوان، لذلك يقولون: ينبغي أن لا يشاهد الطفل ذلك، وكان المرحوم الوالد حينما يريدون أن يذبحوا خروفاً في المنزل لا يدعنا نأتي ونشاهد ذلك، وكان لا يسمح لنا المشاهدة إلّا بعد فصل الرأس وسلخ الجلد، أما قبله فلم يكن يُسمح لنا.
كلّ ذلك يؤثّر في النفس، هكذا يكون الأمر من الأوّل، ولكن لو لم يلبّ الإنسان نداء الفطرة ويُصغ إليها، ويضع نفسه في معرض تغيير الغرائز الفطريّة وتبدّلها فسوف يتبدّل، حينئذٍ تتبدّل مشاعر الرحميّة بشكل تدريجي، وكذلك مشاعر العطوفة وما كان يشعر به في قلبه يتغيّر ويتبدّل، فالبارحة حينما كان يشاهد ذبح الخروف كان يدير رأسه كي لا يرى ويعاين، أمّا اليوم فأصبح ينظر ويتأمّل ويعمل، وبشكل تدريجي تتغيّر المسألة ويصبح بنفسه مظهراً للقساوة ويصبح جلاداً ومظهراً للخشونة، لماذا؟ لأنّ غريزته تبدّلت وتغيّرت، وقد وردت في هذا المجال الكثير من الآيات منها قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِم}۱ وأمثال ذلك.
ضرورة رعاية المراقبة في حركات الإنسان وسكناته
نعم، تصل المسألة إلى هذا الحدّ بحيث تتغيّر ثقافة الإنسان وفطرته التي أودعها الله فيه، وذلك بسبب الابتعاد التدريجي عن الشرائط المطلوبة، بحيث يحسّ هذا الشخص أنّه حينما يواجه أموره غير العاديّة، يتعجّب من نفسه، عجباً! كيف وصلتُ إلى هذا الحد؟! ولماذا وصلت إلى هنا؟ فعندما يشمله لطف الله ويندم ويرجع ويتأثّر هو من نفسيّته التي انحدرت، ويتألّم من حالها التي بلغته، فيتعجّب من نفسه ويتأسّف ويندم على فقدانه حالته الماضية، وهذا الندم وهذا التأسّف راجع إلى أنّه قد أصبح في محيط سليم وفضاء جيّد، وأنّ الفضاء والمناخ السابق لم يكن مناسباً، ذاك المناخ كان فضاء غير سليم، والحال أنّه كان يأنس به ويستأنس فيه، فمع كون ذاك المناخ مضّراً وسيّئاً إلا أنّه كان يتلذّذ به، فذاك المناخ كان خلافاً للشروط المطلوبة.. وهنا نجد أنّ توصيات العظماء والأولياء التي يعطونها حيث يوصون بالمراقبة إنّما هي لأجل هذه المسألة، بحيث لا يتبدّل هذا المناخ بذاك، ولا يتحوّل ولا يتبدّل، فكلّ هذه الدستورات هي لأجل هذه المسألة، بل المراقبة إنّما تعني ذلك، أي: على الإنسان أن لا يتقهقر من هذه المكانة إلى تلك المكانة، فلا يتبدّل من موضع التوحيد التي منّ الله به عليه فينتقل إلى مناخ وفضاء بعيد عن التوحيد، وبعيد عن الأجواء الروحانيّة، بحيث يدخل في فضاء وبيئة يصبح معها قتل إنسان كقتل العصفور دون أيّ تفاوت، ويصبح الكذب في هذه الحالة النفسيّة كشربة ماء.. وبشكل مريح ودون أي رادع ولا ضابط، ففي هذا المناخ يصبح إيذاء المؤمن وإيذاء الآخرين سهلاً جداً.. لا مشكلة في اقتراف ذلك أصلاً، يجترح هذه الجرائم متستّراً بذريعة المصلحة والمنفعة.. أي حينما تلوح له مصلحة فلا مشكلة أصلاً في ارتكاب ما يشاء، فارتكاب أسوء وأقبح وأنذل ما يتصوّره الإنسان من أعمال، وما هو مخالف لناموس الخلقة من أوّلها إلى آخرها، والمخالف لناموس وقانون التربية، يصبح جميع ذلك سهلاً لا مشكلة في ارتكابه، فيصدر منه بشكل سهل جداً.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّه تغيّر جوهره وتبدّل. فالإمام السجّاد عليه السلام كان مريضاً في كربلاء، ولم يكن قادراً على الحركة، وحينما قتلوا سيّد الشهداء وحرقوا الخيام وهجموا وغاروا وصالوا وجالوا وهجموا على أولاد الإمام الحسين وفعلوا ما فعلوا، وجدوا خيمة قد احترق نصفها، ووجدوا امرأة أمامها تدخل وتخرج، كانت خيمة الإمام السجاد، فكان الشمر قد وقف قبال هذه الخيمة ونظر إلى عمر بن سعد وقال له: هذا الوحيد الذي بقي منهم فلنقتله وننهي الأمر ونقطع دابرهم ونستأصلهم عن بكرة أبيهم، حينها جاءت السيّدة زينب تحمي الإمام وقالت لهم: هو مريض اتركوه، فقال عمرو بن سعد: اتركوه لا داعي لقتله.. يعني هذا الشخص الذي كان قبل قليل يقول: اقطعوا رأس الحسين، وقطعَ رأس ابن النبيّ بكلّ راحة، وكان متلذّذاً ومرتاحاً جرّاء فعله، ولم يكن يشعر بشيء في قلبه أصلا..
واقعاً ما الذي يحدث للإنسان وكيف يتبدّل حاله، وكيف يتحوّل من إمام جماعة كان يصلّي في الكوفة إلى قاتل بهذا الشكل!! كيف صار يريد الإسراع في قتل الإمام السجاد المريض، يعني يفكّر أنّه غداً سوف نبتلى به ونصعده على الناقة كي ننقله وهو مريض من بلد إلى آخر... فلنقتله ونرتاح منه!! نعم هكذا يصبح الإنسان. هكذا يخسر الإنسان جماليّته ونعمه ومواهبه التي أعطاه الله إياها، ويفتقد بشكل تدريجي تلك النعم التي أودعها الله في فطرته، وبعد ذلك تبدأ نبتة القسوة والتوحّش وفقدان الأدب والشقاوة بالظهور و النموّ، فتبدأ تنمو وتصبح شتلةً، ثمّ تنمو بشكل تدريجيّ لتكون شجرة ضخمة لا يقدر على الإحاطة بقطرها عدّة أشخاص!! وكلّما كبر هذا الشخص يصبح قادراً على فعل القبائح الشنيعة بشكل أكبر حتّى يكون قتلُ ابن رسول الله سهلاً عليه لا حزازة فيه! والحال أنّ تلك الجماليّة السابقة التي أعطاه الله إيّاها كان من اللازم أن تبقى، فالله تعالى هو الذي أعطى هذه الوردة جمالها، [فلو كان فعل هؤلاء الأشخاص صحيحاً حسبما يتخيّلون من أنّ عدم إحساسهم بقسوة وبشاعة أفعالهم دليل على صحّتها. لو كان ذلك صحيحاً فلماذا أعطانا الله تعالى هذه النعم الفطريّة وفطرنا على أساسها!] فهل يُعقل أنّ وليّ الله حينما يصل إلى مقام التوحيد يصير عاجزاً عن إدراك جماليّة هذه الوردة؟! لا.. بل يصبح أشدّ قدرة على استشمامها وإدراك جماليّتها. كان المرحوم العلّامة يقول: إنّ اللذّة التي يدركها الموحّد والعارف من عالم التكوين هي أقوى بعشرات المرّات ممّا يدركه الفرد العادي، يعني: تجاه الوردة نفسها. فكم نتلذّذ بها وبلونها الجميل الزهري والأحمر وكذلك رائحتها العطرة، فالإنسان يستلذّ بذلك، إلّا أنّ وليّ الله يستلذّ بها بشكل أكبر وأعمق. نسأل الله أن يُقسم لنا ذلك، فنحن نسمع وننقل ونتحدّث عن ذلك، نسأل الله أن يقسم الله إدراك ذلك. فكيف يحصل ذلك وما هي حقيقة الأمر؟ طبعاً السبب في ذلك أنّ خصوصيّة عالم البقاء قد تمكّنت واستحكمت في نفس الوليّ وبرزت جامعيّتها في وجوده بشكل أقوى وأعمق، فتصبح هذه الجماليّة أكبر وأشدّ عند الإنسان الموحّد، وفي الطرف المقابل فإنّ الأمور المكروهة والمبغوضة والتي لها أيضاً خصائصها البغيضة والمنفّرة على النفس، فإنّه يدركها أيضاً بشكل أعمق.
لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله تعالى
غاية الأمر أنّنا نؤمن نحن بتعدّد الآلهة عمليّاً، فنرى أنّ للأشياء منشأين وإلهين (إله الخير وإله الشر) بينما الموحّدون يرون كلّ شيء من الله، هذا هو الفارق بيننا وبينهم. فنحن نقول: إنّ عالم الجمال مختلف عن عالم الخبائث ـ إن صحّ التعبير ـ وأنّ له منشأين وعلّتين، فلا نراقب المبدأ التكويني للأمور غير المتناسبة مع طبعنا ـ ممّا نسميه ونطلق عليه خبائث وشرور ـ وإنّما ننسب إلى الله الأمور الحسنة والجميلة فقط لا غير، فنكون من هذه الناحية من المؤمنين، فنرى الحياة من جانب الله بينما الموت هو من جانب إله الشر، كذلك نشعر أنّ الراحة هي من الله بينما الضيق والمشقّة هي من إله الشر، كذلك نرى أنّ الصحّة من الله بينما المرض من إله الشر، لماذا؟ لأنّ هذه الأمور مكروهة ومبغوضة ولا يفرح الإنسان بها، كذلك الرائحة الكريهة نراها من إله الشرّ، بينما نرى أنّ الرائحة الجميلة من الله، كذلك الأمر في كلّ الحوادث والوقائع التي نواجهها، فكلّ ما هو ملائم للنفس ومتناسب معها بحسب كيفيّة صورته البرزخيّة نحكم عليه أنّه جميل، فنحن نحكم على الأشياء بأنّها جميلة إذا كانت صورتها البرزخيّة متطابقة مع صورة الإنسان البرزخيّة. فالميزان القيمي للجماليّة التي نحكم بها عادة في عالم الدنيا إنّما سببها نسبة الانسجام والملائمة مع الجهة المثاليّة والملكوتيّة للإنسان؛ لأنّ نفس الجماليّة وعدم الجماليّة إنّما هما من الحقائق المجرّدة، والملاك في إدراك الحقائق المجرّدة ليس مرتبطاً بالظاهر، وإنّما هو بواسطة الاتّصال بعالم المجرّدات، وأدون مراحله (أعني الجهة المثالية) هي التي تمكّن الإنسان من تشخيص الجمال من عدم الجمال في الإنسان كما في العلوم وأمثالها، و كذلك الأمر بالنسبة لإدراك القبائح.
وعليه فما قسّمناه من وجود منشأين لا وجود له عند العارف، ولا يقبل التقسيم أصلاً، وهذا هو الفرق بيننا وبين العارف، فالعارف ينسب الجمال إلى المبدأ الأوّل بنفس الدرجة التي ينسب فيها القبائح والأمور غير الملائمة للطبع، فهو ينسب الصحّة إلى الله وكذلك ينسب المرض إليه {وَ الَّذي هُوَ يُطْعِمُني وَ يَسْقين* وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفين}۱ فهو الذي يمرّضني وهو الذي يشفيني أيضاً، وهو الذي يريحني وهو الذي يشعرني بالمشقّة، وهو الذي يحييني وهو الذي يميتني، {هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى} فالإنسان إنّما يبكي في المسائل المؤلمة، وبعض الأحيان يبكي للشوق وما شابه ذلك، فالعلّة المسبّبة للتألّم هي بعينها العلّة التي تفرحنا وتسرّنا، والسبب المولّد للحياة هو بعينه السبب للموت.
قال تعالى: {وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى * وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا * وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى}۱ .
وقال عزّ من قائل: {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ}٢ .
فالذي وهب الذكور هو نفسه و عينه الذي وهب الإناث ، و لهذا نجد أنّ العارف عندما ينظر إلى الذكر و الأنثى فإنّه لا يرى فرقاً؛ لأنّه يرى أنّهما كليهما من عند الله سبحانه ، و كذلك عندما ينظر إلى الحياة و الموت فهو يراهما من عند الله ، و بالتالي يرى أنّ كلاً منهما جميل ..
رؤية العارفة الموحّدة زينب سلام الله عليها ومقامها الشامخ
إنّ السيّدة زينب سلام الله عليها هي ذلك العارف و ذلك الموحّد الذي نتحدّث عنه ، فزينب سلام الله عليها لم تكن تمزح أو تتظاهر في جوابها لابن زياد عندما سألها قائلاً (كيف رأيت صنع الله بأخيك؟). لاحظوا كيف صار هذا الخبيث يتحدّث هنا بلغة التوحيد، وينسب هذا العمل إلى الله سبحانه، وهذا أمر عجيب: كيف أنّنا عندما نريد أن نحرِف القضية عن أنفسنا، فإنّنا ننسبها إلى الله سبحانه ونلقيها على عاتقه!! فيا ابن زياد: هل أصبحتَ الآن موحّداً؟! وهل صرتَ الآن عارفاً؟! ويا يزيد: أين هذا التوحيد والعرفان عندما تمثّلتَ بقول الشاعر:
ليت أشياخي ببدر شهدوا | *** | ............ ٣ |
فهناك في قضيّة قتل الآباء والأجداد الذين قتلهم أمير المؤمنين عليه السلام في غزوات بدر وحنين، والأحقاد التي تمكّنت في قلبك على إثرها، فهناك لماذا لا تقول: إنّ الله هو الذي قتلهم؟! بل تقول: يوم بيوم!! وهناك لا تذكر الله أبداً، أمّا الآن عندما تخاطب السيّدة زينب سلام الله عليها في ذلك الوضع، فإنّك تنسب الأمر إلى الله سبحانه؟! وتقول كأنك إنسان موحّد: (كيف رأيت صنع الله بأخيك؟).
ولكنّ السيّدة زينب سلام الله عليها أجابته بما يستحقّ فقالت له: (ما رأيت إلاّ جميلاً)!! ولسان حالها يقول: يا هذا، ما الذي كنت تتصوّره؟ هل كنت تتخيّل أنك بهذا الأسلوب ستسخر منّا وتحطّ من قدرنا؟! كلاّ فأنا أعلم أنّ كلّ ما حصل هو من عند الله سبحانه، وأنّ الله سبحانه قد قدّر علينا جميع ذلك من أجل ارتقائنا ورفع منزلتنا، فأين أنت من هذا أيّها المسكين، فاذهب وفكّر بعاقبة أمرك!!
ليت أشياخي ببدر شهدوا | *** | جزع الخزرج من وقع الأسل |
فلولا أنّ أخي الإمام الحسين عليه السلام قد استشهد بهذه الطريقة، لما وصل إلى مقام الحمد، والولاية الكلّية، والشفاعة الكبرى.. إنّك تظنّ أنّك بكلامك هذا تعرّض بنا وتسخر منّا، وتحاول أن تحطّ من قدرنا بقولك (كيف رأيت صنع الله بأخيك؟!) فأنت تراني بهذا الوضع أمامك، ولكنّك لا تعرف شيئاً عن حقيقة حالي، ولا تدري ما هي الأمور التي يعطيني الله سبحانه إياها مقابل كلّ لحظة أقضيها في مواجهتك!! ولو اطّلعت على ذلك لتلاشيت في الهواء تحسّراً، ولصرتَ هباءً منثوراً.. ولهذا فلتقُل ما تريد ولتضحك كيف تشاء...
ونحن هنا نسأل: ما هو مصدر ومنشأ هذا الأمر عند السيّدة زينب عليها السلام؟ فلو لم تتذوّق السيّدة زينب طعم ذلك فمن أين لها أن تقول (ما رأيت إلاّ جميلاً) ؟!
ومن هنا فلو سألنا السيّدة زينب عليها السلام الآن بعد مرور ألف وثلاثمائة أو ألف وأربعمائة عام على حادثة عاشوراء، لو أنّ الله أحيا الإمام الحسين مرّة أخرى وكذلك السيّدة زينب، فسألناها: هل أنت على استعداد لتكرار أحداث هذه الواقعة المؤلمة؟ فإنّها ستجيب فوراً وبدون تردّد: نعم! وأنا لستُ نادمة على أيّ شيء ممّا وقع. فنقول لها: مستعدّة لتكرار نفس تلك المصائب؟! فتجيب فوراً: نعم، بالتأكيد!!
لماذا تقول: نعم؟؟ لأنّها تقول (ما رأيت إلاّ جميلاً) فهي قد عاينت حقيقة الأمر.. أمّا نحن الجاهلون بحقيقة الأمر، فإنّنا نجلس لنبكي و نلطم على رؤوسنا تفجّعاً على كربلاء وما حصل فيها..
نعم، الحزن في محلّه، فحيثيّة اتّصال الإنسان بإمامه ومحبوبه تقتضي أن يحزن ويتأثّر، ولكن يجب أن نرى هل قول السيّدة زينب (ما رأيت إلاّ جميلاً) كان دافعه هو الردّ على ذلك اللعين أمام الملأ وتبكيته وإفحامه؟ أي هل كان قصدها سلام الله عليها أن تقول لابن زياد: إذا أردت أن تتحدّث عن التوحيد فأنا أيضاً عارفة بهذا الأسلوب وأستطيع أن أردّ الصاع صاعين، فأنا من أهل هذا البيت وقد ولدت ونشأت وترعرعت في بيت النبوّة، وأنا منذ سنّ الخامسة كنت عالمة غير معلّمة (كما أفاد أمير المؤمنين في حقّها..؟) هل هذا ما تريد قوله السيّدة زينب عليها السلام؟
أم أنّ ما قالته السيّدة زينب عليها السلام لابن زياد إنّما هو تلك الحقيقة التي تراها وتلمسها، ولكنّ يزيد أعمىً لا يبصر، فهي تريد أن تقول له: أنت أعمى.. أنت غيّرت فطرتك السليمة فأمسيت ترى الأمور الجميلة قبيحة مشوّهة.. إنّك تتخيّل أنّ ما وقع لم يكن جميلاً.. أيّها الأحمق، إنّما أنت أعمى، فتعال وافتح عينيك لترى ما هي الأمور التي يعطيني الله سبحانه إيّاها مقابل كلّ لحظة تمرّ عليّ، فهي ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلبك، قلبك أنت ـ طبعاً الوارد عن الله سبحانه (ولا خطر على قلب بشر) ـ فكيف بك يا ابن زياد؟!
فنحن لو قيل لنا الآن: إنّ قضية عاشوراء سوف تتكرّر، فإنّنا لن نرضى، وسنقول: وهل يمكن أن نسمح لها أن تتكرّر؟! بل سنذهب ونمنع ذلك و... ؛ أمّا لو سألنا السيّدة زينب عليها السلام عن ذلك فماذا ستجيبنا؟ إنّها ستقول: نعم، ولو وقعت عشر مرّات فأنا مستعدّة! بل ولو مائة مرّة..
موقف أصحاب الحسين عليه السلام تجاه أحداث عاشوراء وآلامها
ولقد كان قول الأصحاب للإمام الحسين عليه السلام في ليلة عاشوراء (نودّ لو أنّنا نقتل ألف مرّة بين يديك) من هذا القبيل أيضاً. لاحظوا أنّ هؤلاء لم يُقتلوا برصاصة تصيبهم، بل قتلوا بتقطيع السيوف وطعنات الرماح !! هكذا قتلوا.. لم يموتوا بالغاز السامّ الذي لا يشعر به الإنسان، بل أصابهم ألف سهم قبل أن يموتوا، فحبيب بن مظاهر وقف أمام الإمام الحسين ليحميه من وقع السهام لكي يتمكّن الإمام عليه السلام من أداء الصلاة، فصارت تتساقط الأسهم عليه من كلّ جانب حتى سقط شهيداً، نعم!! هؤلاء هم أصحاب الحسين عليه السلام..
والآن لنفرض أنّهم أحضروا حبيباً من جديد، حبيب الذي صار حارساً لباب الإمام الحسين عليه السلام، لنفرض أنّهم قد أعادوه إلى الحياة وقالوا له: لو تكرّرت عاشوراء مرّة أخرى، فهل أنت مستعدّ لتكرار هذا العمل كذلك، وأن تُقتل بنفس الطريقة؟ فسيجيبنا: بلى، بل إنّني مستعدّ لذلك حتّى لو تكرّرت مائة ألف مرّة، لقد قمت بذلك مرة واحدة وأنا مستعدّ لتكراره مائة ألف مرّة!!
ما هو السرّ في ذلك؟ وما هو منشؤه؟ ولماذا يقول حبيب هذا الكلام؟ يقول ذلك لأنّه قد وصل إلى أصل الجمال ومنبعه، ولأنّه قد فهم الجمال على حقيقته، وعرف الجمال والكمال كما هو لا بالوصف والنقل؛ وحيث إنّ الجمال هو أحد صفات الله، فكما أنّ ذات الله غير محدودة ولا نهاية لها، فصفاته تعالى أيضا لا حدّ لها، وبالتالي فجمال الله تعالى لا يتناهى ولا حدّ له؛ ولهذا فمهما سار حبيب في جمال الله فإنّه سيرى أنّ هناك مجالاً للازدياد.. بل إنّه سيقول: ما زلنا في أوّله!! فلو سألناه: يا حبيب، إلى أين وصلت في سيرك في الجمال الإلهي؟ فسيجيبنا: يا عزيزي، ما زلنا في الخطوة الأولى!! لماذا يجيبنا بذلك؟ لأنّ الجمال الإلهي لا حدّ له ولا نهاية.. وهنا مسائل كثيرة دقيقة وعجيبة..وأنا عندما أتحدّث عن هذا الموضوع أتذكّر خاطرات عديدة... وأنا أتكلّم الآن يحضرني الكثير من كلمات العظماء في هذا المجال، والآن أفهم ما كانوا يقصدون.. نحن نتصوّر بأنّ عظمة الله كلّها بمقدار علو هذا السقف، وقد رأينا السقف، وماذا يوجد بعد السقف؟ نرى البياض والجبس وفقط.
المراد من طلب زيادة التحيّر في الله تعالى
أقول لكم هذا الأمر وفقط: أرأيتم الصادر الأوّل الذي هو الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وعلّة كل الكائنات، حتّى الآن ـ يعني الآن لا معنى لأن يكون عنده جنبة ماديّة بعد ـ هو حتّى الآن كل ما فقهه من جمال الله هو بهذا المقدار ]وجمع بين إبهامه و سبّابته دلالة على التناهي في الصغر[، بهذا المقدار، والطريق لا نهاية له، يعني: لو أنّ الرسول قال في كلّ يوم: "ربِّ زدني فيك تحيّراً"، لقالها في اليوم التالي أيضاً. حيث لو كان رأى كلّ شيء، فما معنى أن يطلب الزيادة؟! هذا كأس من الماء إذا شربته أكون قد ارتويت وانتهى الأمر ولا يعود لي حاجة إلى المزيد من الآن إلى ساعتين أو ثلاث ساعات، فلا أحتاج إلى الماء فيما بعد.
ما هي هذه المسألة؟ ما هي هذه الرؤية التي عند النبي؟ مع لحاظ جميع هذه المسائل و الأمور ـ نحو: "لولاك لما خلقت الأفلاك"، ومقام الصادر الأوّل، ومقام العلم الإطلاقي الذي عنده بلحاظ ما سوى الله ـ ما هي هذه الرؤية التي عند رسول الله بحيث يقول: إلهي زدني تحيّراً بواسطة رؤية كمالك وجمالك وازدياد العلم بك؟ فإذا كان الرسول قد وصل إلى مرتبة هي نهاية الحدّ، عندها لا معنى للتحيّر، وعندها سيقول: فهمنا الأمر.
مثلاً: لو جاء الأستاذ اليوم إلى الصف، ثم كرّر درسه في الغد، فحينها ماذا سيقول الطلاب: سيدي لقد سبق أن ذكرت هذا الكلام... ، بينما لو أتى كلّ يوم وألقى نقاطاً جديدة فسيقولون : ها ها، عجيب... ، ولو أتى في الغد بأمر جديد: ها ها، وبعد غد كذلك... وهكذا كلما أتى بجديد سيتحيّرون ويشتاقون، وكلّ يوم يضيف، ويرتقون أكثر، ولو كان ذلك هو حدّه فكيف سيكون الأمر؟ وعليه، فالأمر المهمّ الذي ينبغي أن نعتني به جدّاً هو .. ـ اليوم طال بنا الحديث كثيراً عن هذه المسألة، الآن بالفعل طال، نحن لم نكن نريد أن نتحدّث الليلة عن هذا الأمر ـ هو أنّ كلّ ما هو موجود في هذا العالم سواء المشهود عنده وغير المشهود، هو عند ولي الله، وعند الموحّد، وعند الإمام الصادق عليه السلام، كلّها من عند الله .. كلّها من عند الله، ولا ترجيح لواحدة منها على الأخرى، الراحة منه وعدم التعب منه، السلامة منه و المرض منه، نعم! كلّها منه.
والأمر الآخر هو أنّ فطرة الآدمي وفطرة الإنسان معتدلة ومستوية إلى ذلك الحدّ الذي يرى الجمال جميلاً والقبح قبيحاً، وذلك فيما يرتبط بعالم الخلق، فالقبح والسوء أمران اثنان، يعني: ما هو غير ملائم. وبقول مولانا:
سم مار مار را باشد حيات | *** | ليک آن مر آدمی را شد ممات |
[السم للأفعى قوام حياة *** لكنّه للناس محض ممات]
وهو هنا يتحدّث عن هذا الأمر، فهذا الأمر هنا مناسب، ولكن هو نفسه عندما يتحرّك من هنا إلى مكان آخر، يصير غير مناسب، يصير قبيحاً، يصير ممّا ينبغي الاحتراز منه، يجب أن يبتعد عنه، وإذا لم يجتنبه سيكون مسؤولاً، فإذا كان هناك أمرٌ قد يؤدّي إلى هلاك الإنسان فهو مسؤول، يجب أن يبتعد عنه ويجب أن يجتنبه.
عدم جواز قتل الحيوان ما لم يكن مؤذياً
لماذا على الإنسان أن يقتل الحيوانات التي تؤذيه لأنّها تؤدّي إلى هلاكه؟
مثلاً: لو ذهبتم إلى الصحراء ورأيتم حيّة تمشي في حال سبيلها، فليس لكم الحقّ بقتلها، ولكن لو أتت نفس هذه الحيّة إلى المنزل ودخلت إلى غرفتك يجب حينئذٍ أن تقتلها؛ لأنّها تؤدّي إلى هلاكك. وإذا دخلت إلى الحديقة ينبغي أن تقتلها لأنّها ستقتلك، فهنا واجب، وهناك منهيّ عنه، لماذا؟ لأنّها هناك لا دخل لها بك، فهي تعيش حياتها، ولم تتخطّ مجرى تكوينها ولا حادت عن السبيل الذي رسم لها. التخطّي يكون بأن تخرج عن الخطّ المرسوم وتأتي إلى أن تصل إلى المدينة، ثمّ تدخل إلى الشارع ثمّ تدخل إلى المنزل. نعم هنا تكون قد تخطّت، ولكن على فرض أنّها لم تتخطّ ذلك وكانت في مكانها، كما لو كان في الجبل حيّة ما فليس من حقّك أن تذهب وتقتلها، فهي حيوان جعل لها الله حياة و عمراً ومسيراً ومراماً، والإنسان لا يمكن له أن يقتلها هكذا.
دور الغفلة و المراقبّة في سقوط الفرد و رقيّه
وهكذا الأمر بالنسبة لهذه المسألة، فهي مسألة مهمّة جدّاً، حيث تظهر للإنسان في المسائل الاجتماعيّة كما بيّنا تماماً. وإن شاء الله سيقوم هذا العبد في الموقع المناسب بالتعرّض لها، وهي مسائل دقيقة جداً جداً، حيث إن رؤية أهل التوحيد والمعرفة منطبقة مع رؤية الشرع والتكليف، وسيتّضح بشكل واضح وجليّ أنّ كل شيء في مكانه وموقعه حسن، ولكن عندما ينتقل من هذا الموقع إلى موقع آخر فسيكون هناك تكليف آخر.
ولهذا قلت لذلك الشخص: لا لقد اشتبه عليك الأمر، ففي رؤية وليّ الله رائحة الورد رائحة الورد، و الروائح القبيحة قبيحة وغير مناسبة، ونحن قد رأينا ذلك بأنفسنا، وهل هناك دليل فوق الرؤية والمشاهدة؟! لقد كان المرحوم العلّامة يفرح برائحة الورد، والعظماء والأولياء كلّهم ينفرون من الرائحة الكريهة. نعم مثلنا تماماً، لا أنّهم يقولون : نعم دعه دعه فحيث أن هذه الرائحة من ناحية الله دعها، لا بل كانوا بالمناسبة حسّاسين أكثر منّا، لقد كانوا يختارون أفضل العطور والروائح، وحتّى السيّد الحدّاد كان كذلك، والمرحوم العلاّمة كان أكثر أيضاً، وكان في رعايته و ذوقه يختار العطور التي لها رائحة جميلة جدّاً وطبيعيّة، ولم يكن يستخدم من هذه العطور الصناعيّة، العطور التي كان يستخدمها المسك والعنبر الياسمين والرازقي، ومن عطر الورد المحمّدي، نعم عطره الأصلي.. كان الورد المحمّدي وهو الذي كان يأتي من كاشان، وكلّ شخص يراه كان يتعجّب، و كنت أسمع الأفراد حين يعبر من بعض الأماكن أو من زقاق كانوا يقولون: عجيب كم هي جميلة هذه الرائحة التي يستخدمها، وكان بين الأشخاص الذي يبدون إعجابهم برائحته مسيحيّون، أصلاً كان مشهوداً في حركته ولباسه، وينبغي أن يكون الإنسان كذلك.
لذا نرى أنّ ثلث مصارف رسول الله كانت على العطور، إنّه رسولنا. واقعاً عجيب كيف يترك بعض الناس عقولهم، فلو كان عندكم إيراد على هؤلاء فما بالكم برسول الله الذي ينبغي أن نتأسّى به؟!
إذن دعوى أنّه ينبغي على الإنسان ـ إذا كان يريد أن يتوجّه إلى ذلك الطرف، وإذا أراد أن يسير إلى الله، وإذا أراد أن يعبر الدنيا ـ أن يصرف نظره عن نعم الله دعوى خاطئة جداً. و لا كلام في وضوح فسادها.
لا ينبغي أكل الفاكهة الجيّدة و المطلوبة، بل ينبغي أكل الرديئة التي حجمها صغير حتّى يتحرّك في هذا الطريق!! هذا كلام فاسدٌ جداً.
بل على الإنسان أن يستخدم الروائح الجميلة، نعم لقد أوضحت هذا الكلام سابقاً، ولكن ترون أنّي أوضّح المسألة أكثر، وسأتحدّث عنها في المجالس اللاحقة؛ لأنّ هذه المسألة من المسائل التي ارتكزت في كثير من الأذهان بشكل خاطئ، وأصبح طيّ هذا المسير مساوقاً لهذه التصرّفات، وهذا الأمر خاطئ. وبالطبع هناك أمورٌ أخرى، و أمّا سيرة بعض الأعاظم ممّا يمكن أن يؤتى بها كشاهد ودليل في المقام على الخلاف فسيتّضح الحال فيها، كما سيتّضح لاحقاً وجه الجمع بين التعارض الظاهر في المجلس القادم إن شاء الله تعالى .
اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد.