المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةسبيل الفلاح
التوضيح
و هي آخر محاضرة من هذه السلسلة القيّمة ، و أهم مواضيعها : 1ـ الكلام هو المظهر للنّفس و الكاشف عن حقيقة الإنسان. 2ـ سكوت اللّسان يفضي لسكون القلب. 3ـ حدود السكوت النّافع و الكلام الضّار. 4ـ الهدف من الطّعام هو حفظ سلامة المزاج و ليس الالتذاذ. 5ـ معاشرة عبيد الدّنيا تجرّ الإنسان نحو الدّنيا. 6ـ العزلة هي الابتعاد عن الفضاء الملوّث و وضع النّفس في دائرة الأولياء. 7ـ هدف السالك الوحيد هو الوصول إلی الله و لقاؤه. 8ـ الوصول إلی الله يتمّ بالسير المعتدل و التّدريجي..
هو العليم
أركان المراقبة الخمسة
سبيل الفلاح - الجَلسَةُ الخَامِسَةُ
محاضرات ألقاها
سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أَعُوذُ بِاللـَهِ مِنَ الشَيْطَانِ الرَجِيْم
بِسْمِ اللـهِ الرَحْمَنِ الرَحِيْم
وَصَلّى اللـَهُ عَلى مُحَمّدٍ وَآلِهِ الطَاهِريْن
وَلَعْنَةُ اللـه عَلى أَعْدَائِهِم أَجْمَعِيْن
يعدّ العظماء بعض الأمور ضروريّةً للسائرين والسالكين في الطريق إلى الله.
الركن الأول: الصمت والسكوت
إنّ أحد تلك الدساتير هو «الصمت»، والصمت يعني: السكوت.
ولدينا روايةٌ باسم «الرواية المعراجيّة» وهي تبدأ بعبارة «يا أحمد .. يا أحمد» وقد أوردها المرحوم المجلسي في المجلد السابع عشر من كتابه بحار الأنوار نقلاً عن الإرشاد للديلمي۱، ولا يعلم إلّا الله ما تمّ بيانه من أسرارٍ حول الصمت والسكوت في هذه الرواية وأنّه يا أحمد! .. يا أحمد! أولئك الذين وصلوا إلى درجة الصدّيقين والمقرّبين وعبروا الدرجات، بالتأكيد اختاروا السكوت طريقًا لهم٢.
ولدينا روايةٌ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يقول فيها: «لَوْلا تَمريجٌ٣ في قُلوبِكُم وتَكْثِيرٌ في كَلامِكُم لَرَأَيْتُم ما أَرَى ولَسَمِعتُم مَا أَسْمَعُ»٤، أي: لولا هذا الاضطراب والتشويش والاختلاف في قلوبكم، ولولا هذا التكلّم الزائد، لكنتم مثل المرآة وبالطبع كنتم سترون ما أراه، وكنتم ستسمعون ما أسمعه.
وكذلك ورد في حديثٍ نبويٍّ آخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أنّه يقول: «لَوْلا أَنَّ الشَّياطينَ يَحُومُونَ حَولَ قُلوبِ بَني آدَمَ لَرَأَوا مَلَكوتَ السَّماواتِ والأَرضِ»٥.
علاقة الكلام بالقلب
ما علاقة كثرة الكلام بالقلب؟ انظروا! إنَّ لكلام الإنسان وحديثه أثرًا وجوديّاً ينشأ من نفسه ومن إرادته، فإنّ النفس ترى شيئًا ما، وتتصوّر صورةً، ويُصبح لديها أُمنِيةً، فتلاحظ صورةً ناجمةً عن المعنى أو عن الصور الذهنيّة، وعندها يُلقي الإنسان ذلك المعنى الذي أرادته نفسه على الآخرين في الخارج، وليس هناك من طريقٍ آخر لإلقاء ذلك المعنى غير اللسان، فإذن الكلام ليس منفصلًا عن القلب، بل هو أثرٌ يحكي عن القلب وعن النيّة؛ فإذن الحديث تعبيرٌ عن النفس وحقيقة الإنسان، الحديث تعبيرٌ عن صاحب النفس، وإشارةٌ إلى الشقيّ والسعيد، إنَّ أفكار الإنسان ونواياه وعقائده، وإرادته هي من آثار نفس الإنسان، والكلام إنّما يحكي عنها فإنّ الوجود نازلٌ عن تلك المعاني المنطوية في النفس، يعني: عندما نُنزّل رغبة النفس أو طلبها أو إرادتها إلى الأسفل، فإنّنا ننزّلها بواسطة الكلام والبيان والإشارة؛ فإذن حديث كلّ فردٍ يُمثّله، ويُمثّل شخصيته وحركته لأنَّ كلامه يُظهره؛ هذه هي العلاقة بين الكلام والقلب.
الآن، لماذا لا ينبغي للإنسان أن يتكلّم؟! نعم، إذا كان قلبه صافيًا وطاهرًا مطهّرًا وقد سلك ووصل كالصدّيقين والمقرّبين، فإنّ كلامه عين الحقّ، سواءً قلَّ أم كثُر، وحتّى لو استمرّ من الليل حتَّى الصباح، فلن يختلف الأمر، كالخطب التي ألقاها أمير المؤمنين عليه السلام، والوصايا التي أوصى بها، فإنّها حقٌ؛ لأنَّ هذا الكلام لا ينبع من النفس وإنّما من الله، بالتالي كلامه عين الحقّ، سواءً قلَّ أم كثُر.
السكوت يحتاج إلى تدريب وتمرين
وأمّا من يُريد العُبور، فينبغي عليه أن يُصحّح حديثه وأن يتحكّم به، وكي يتحكمّ بحديثه يجب عليه أن يتحكّم بقلبه أوّلًا كي لا ينتقل الحديث إلى اللسان مباشرةً؛ لوجود ارتباطٍ بين الحديث والقلب، ولذا ينبغي على الإنسان أن يختار السكوت كي يهدأ القلب ولا يضطرب، فعندما تأتي تلك المعاني إلى ذهن الإنسان عليه أن لا يذكرها بلسانه، بل عليه أن يتوقّف هناك، وأن لا يتيح لتلك المعاني ولو كانت معاني خاطئةً أن تظهر.
فمن باب المثال: إن غضب الإنسان وأراد أن يشتم، فإذا لم يحفظ لسانه فسوف يشتم، ولكن لو كان في نيته أن يشتم، إلّا أنّه منع الكلام وضبط نفسه هناك ومنعها، وعضّ على جرحه ومنع نفسه ولم يسمح لها بصدور تلك الألفاظ السيئة، فإذا تكرّر هذا المعنى وأصبح مَلَكةً للإنسان، عندها لن تطرأ له النوايا السيئة مجدّدًا، فإذا أراد الشخص أن يتحدّث بقسوةٍ مع شخصٍ، ولكنّه منع نفسه لوجه الله عشر مرّات، عندها لن تعود له نيّة القسوة مجدّدًا، ولن يُفكّر في القسوة مُجدّدًا، ولن يتكرّر التفكير بذلك الفكر الخَرِب، والتحكّم بذلك هو تحت سلطة اللسان أيضًا، يعني: طريقة ضبط القلب هو حفظ اللسان، يُقال: أطبق اللسان كي لا يخرب القلب؛ فعلّة السكينة الذي تظهر على القلب تعود إلى وجوب سكوت اللسان؛ وإلّا إذا تحرّك اللسان فسيصبح القلب في حالة تَمريجٍ دائمٍ وسيبقى مضطربًا على الدوام؛ لأنّ اللسان يُمثّل القلب، وله علاقة مباشرة مع المدركات القلبيّة.
تشبيه جميل للمرحوم القاضي يُبيّن فيه تأثير الكلام على القلب
كان المرحوم الحاجّ الميرزا السيّد علي القاضي رحمة الله عليه ـ وهو أستاذ العلامة الطباطبائي وغيره من أساتذتنا ـ يضرب مثالًا لطيفًا وجميلًا حيث كان يقول: عندما يختار سالكُ طريقِ الله السكوتَ، فبواسطة هذا السكوت كأنّه ترك شوائب النفس تترسّب، ففيما مضى كانت المياه تصل عبر القنوات وكان الناس يرمون الماء الملوّث في الخزّان والأحواض، ثمّ يتركونها مدّةً من الزمن إلى أن تترّسب الجزيئات والقاذورات وعندها يصبح الماء صافيًا فيستعملونه.
ينبغي على السالك أن يكون ساكتًا وهادئًا بالتأكيد لتترسّب رواسبه، فلو كان ماء الحوض أو ماء الخزّان في حالة حركةٍ دائمةٍ فإنّه لن يترسّب أبدًا وسيبقى ملوّثًا، وبالتالي حتّى تترسّب تلك الشوائب والقاذورات الكامنة في النفس ينبغي بالتأكيد أن يكون الإنسان هادئًا، والهدوء إنّما يحصل بواسطة السكوت، فالسكوت يُسكِّن هذه المياه، فتترسّب جميع الشوائب، ثم تتحجّر بحول الله وقوّته.
يعني: إذا ترسّبت هذه الشوائب، ولكنّها لم تتحجّر بعد، فلو ضرب الإنسان الماء بالعصا مرّتين فسوف تتوحّل المياه مرّتين، وأمّا إذا استمرّ على تلك الحال واستقام فسوف تتحجّر تلك الشوائب، إنّ تلك الأحجار التي نراها اليوم على صورة طبقةٍ في الأنهار والبحار والجبال، كانت في السابق طينًا ووحلًا، وعندما استقرّت تحجّرت وتحوّلت إلى حجارةٍ لا يُمكن أن تتحرّك بأيّ وجهٍ من الوجوه، وعندها حينما تتحرّك النفس تكون قد حرّكت ماءً صافيًا، ويكون ذلك الشيطان قد تحجّر هناك، ولم يعد قابلًا للحركة، لأنّ الشيطان يعني: الشوائب، الشيطان يعني: القذارة التي تحجّرت ولم تعد قابلةً للحركة.
السكوت يُؤدّي إلى تحجّر شيطان الإنسان
ولذا قال النبي: «مَا مِن آدميٍّ إلّا ومَعهُ شيطانٌ»، قيل: يا رسول الله! ومعك شيطانٌ أيضًا؟ فقال: «نعم، ولكِنَّ شَيطاني أَسلَمَ بِيَدي»۱، إذ لو لم يكن للنبيّ نفسٌ، لما أصبح صاحب مقاماتٍ، فهذا الشيطان إنّما أوجده الله العليّ الأعلى، وله نموذجٌ وظهورٌ جعله الله في جميع النفوس، وهو موجودٌ في النبيّ أيضًا، ولكنّ النبي تغلّب على هذا الشيطان وجعله مُسلّمًا لأمره، فللنبي نفسٌ ولكنّه أحسن استغلال نفسه، ولم يُسئ استغلالها، ولكن إذا ترك الإنسان العنان للشيطان وأودع نفسه له وسلَّمَه نفسه إليه، فهنا يكون قد خرّب العمل.
بناءً على هذا، طريق السير والسلوك هو من أجل هدوء النفس؛ لأنّ تجليات الله لا تكون إلّا في ظلّ هدوء النفس، {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}۱، إنَّ موجودات العالم تدعو الإنسان إلى نفسها، وكلّ موجودٍ يُلقي الإنسان في التمريج والتشويش والاضطراب ويجعل خواطره قلقةً ومضطربةً وحزينةً، وفي بعض الأحيان تتغلّب الخواطر على الإنسان وتجرّه نحوها، والقلب يطمئن فقط بذكر الله، فيدفن جميع ذلك في مقبرة النسيان، فلا يعود لخاطرةٍ أو فكرةٍ أو خيالٍ من وجود، ولا شيء من ذلك أبدًا؛ لأنّ القلب قد اطمئن بذكر الله، وترسّبت قاذورات النفس تلك وتحجّرت، وذلك كلّه بواسطة السكوت، ولذا فإنّ أحد الدساتير هو السكوت.
مراتب السكوت
الآن، كم ينبغي للإنسان أن يسكت؟ يختلف الأمر؛ يختلف الأمر في المنازل والمراحل المختلفة، ففي البداية يقولون للسالك: ينبغي أن تلتزم السكوت عن زوائد الكلام، وليس فقط عن الغيبة والكذب وأمثال ذلك، بل ينبغي أن يبتعد الإنسان حتّى عن الكلام العادي الذي يتكلّم به الإنسان عادةً ولكن لا يكون له فائدةٌ دنيويّةٌ ولا أخرويّةٌ، إذ على الإنسان أن يضع قفلًا على فمه وأن لا يتحدّث بكلامٍ زائدٍ.
فرضًا، لو شاركَ الإنسان في مجلسٍ ما، وتحدّث لمدّة ساعةٍ وتسلَّى ثمَّ وقف وتساءل: بماذا تفوّهتُ؟ ماذا كان هذا الكلام وما هي نتيجته؟ وهل كانت له نتيجة دنيويّة؟ هل كانت له نتيجةٌ أخرويّةٌ؟ هل رفع روحي إلى الأعلى؟ هل منحني صفاءً؟ هل كان فيه صلاحي؟ لا! إنّ الجلسات (القعدات)، المسامرات الليليّة، المحادثات النهاريّة والاختلاط وتمضية الوقت، مثلما لو قالوا: لقد تعبنا، لذا دعنا نذهب إلى ذاك المكان لتمضية الوقت، إنَّ هذه الأحاديث تُسبّب ظلمةً وسوادًا في القلب، وتجلب القسوة، وليس من اللازم أن تكون تلك الجُمَل محرّمةً، بل على الإنسان أن يتجنب الكلام في بعض الأمور المباحة أيضًا الذي لا طائل ولا فائدة منه، وينبغي أن يكون المفتاح بيد نفس الإنسان، وعلى الإنسان أن يفكر أوّلًا بما يُريد أن يتكلّم به ثمّ يقوله، لا أنّه يتكلّم أوّلًا ثمَّ يُفكّر هل هذا الكلام الذي تفوهتُ به صحيحٌ أم خاطئٌ؟
لأمير المؤمنين عليه السّلام جملةٌ عجيبةٌ، حيث يقول: «وإِنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ، وَإِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ»۱، أي أنّ العاقل عندما يُريد أن يتكلّم فإنّه يُدرك أوّلًا ويفهم ثمّ يتكلّم بعد ذلك. بالطبع لا يشتبه أيضًا، وهو على صوابٍ مئةً بالمئة؛ لأنَّه فكّر وكان بيانه طبقًا لتفكيره، أمّا الجاهل فيتكلّم أوّلًا ثمَّ يُفكّر: هل كان كلامي صحيحًا أم غلطًا؟
السكوت يشمل التكلّم والسماع
ينبغي للسالك أن يجعل ضبط لسانه بيده مئةً بالمئة، وعليه أن يُفكّر في كلّ كلمةٍ يُريد أن يتفوّه بها، وأن يرى هل هذا الكلام صحيحٌ من الأساس أم خاطئٌ؟ وما الفائدة المترتّبة عليه؟ وضبط اللسان هذا يشمل الكلام والمسموعات أيضًا؛ لأنّ ما يسمعه الإنسان يجلب تمريج القلب أيضًا، فلا ينبغي للإنسان أن يستمع كل شيءٍ، بل يكتفي بالأمور المفيدة له.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته لهمّام في وصف المتقيّن في نهج البلاغة: «وَقفوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُم»٢، يعني: المتّقون هم أولئك الأشخاص الذين وقفوا أسماعهم على العلوم التي تنفعهم، فإنَّ العلوم التي في الدنيا كثيرةٌ، والأخبار كثيرةٌ، وبالتالي يجب على الإنسان أن يتخيّر ما ينفعه ويتّجه إلى تحصيله.
ومن هنا فإنَّ المجالس والمحافل والتجمّعات والخطب وكلّ ما يتمّ عرضه، جميعها لها حُكم المسموعات بالنسبة للإنسان، وينبغي للإنسان أن يُفكّر ماذا ينتخب لنفسه منها، فحتّى لو كانت أمورًا مُحقّةً وليست من الباطل، ولكن السؤال: بماذا تنفعنا؟
فلو أنّني أنا العبد الجالس هنا الآن، أتيتُ وتحمّلتُ المشقةَ حتّى الصباح، فاستطعتُ من خلال الرصد والزيج وأمثالها أن أُعيّن مقدار المسافة بين «أورانوس» و«نبتون»، فقُل لي بكلّ إنصافٍ: ما الفائدة المرجوة من هذا الأمر بالنسبة لي؟! حتّى لو كان أمرًا مُحقّاً وصحيحًا، إلّا أنّني أكون بذلك قد أتلفتُ ليلةً من عمري باتباع أمرٍ لا فائدة منه بالنسبة لي، فإنَّ مُنكر ونكير لن يأتوا عند الموت ويسألوني: يا سيّد! لماذا لا تعرف المسافة بين «أورانوس» و«نبتون»؟ بل سيسألونني: مَن ربُّك؟ كم تعرف الله؟ فإذن ينبغي على الإنسان أن لا يتكلّم كثيرًا، ولا ينبغي أن يُنصِت للأمور التي لا تفيده أيضًا، بل عليه أن يتفوّه بما فيه مصلحته، وأن يستمع إلى ما فيه صلاحه.
نماذج من الكلام الذي يُعدّ زائدًا والذي لا يُعدّ زائدًا
إنّ الأُنس بالعيال والجلوس معهم والاختلاط هو أمرٌ لازم ولا يُعدّ من الكلام الزائد، إلّا إذا كان يُضرّ بالتحكّم باللسان، فمثلًا: إذا أردتم أن تجلسوا مع أهل بيتكم وأن تتحدّثوا معهم، فهنا لا تضبط لسانك بل قم بالحديث بكلّ ما ترغب به، ولكن بالطبع لذلك حدودٌ أيضًا، أو إذا كنتُم تريدون أن تأنسوا بأبنائكم، أو تريدون أن تذهبوا إلى البقّالة لتشتري شيئاً ما، فحتماً ينبغي أن تتكلّم، ولكن إذا أراد البقّال إتلاف وقتك كأن يقول مثلا: «يا سيد! الهواء باردٌ اليوم، الهواء حارٌّ اليوم، لم تُمطر، لماذا بيتك بلا أضواء؟» فعلى الإنسان أن يسكت ويرحل.
إذا ذهب الإنسان إلى المسجد وجلس فأتى شخصٌ وجلس إلى جواره [وقال:] «السلام عليكم»؛ [يُجيبه:] «وعليكم السلام». هذا المقدار كافٍ، فلِمَاذا يختلط الإنسان به، ففي نهاية المطاف ليس لهؤلاء الأفراد نفسٌ ملكوتيّةٌ، بل هم من عالم الطبيعة وتملأ أذهانهم الأفكار الدنيويّة، فما إن يجلسوا إلى جوارك حتّى يشرعون بالكلام: «يا سيّد! ارتفعت الأسعار اليوم! يا سيّد! لماذا حصل كذا؟ يا سيّد! لما يحدث كذا؟» ؛ لأنّ أذهانهم مشوّشةٌ ومضطربةٌ، وذلك التشويش والاضطراب يُلقى به إلى ذهن المستمع من خلال اللسان؛ ونفس هذا التشويش الذي حصل له، ينتقل للمستمع أيضًا، السّلام عليكم، عليكم السّلام؛ كيف حالك؟ الحمد لله، وكفى، لا تتجاوز أكثر من ذلك، وبالخصوص مع قُساة القلوب وذوي النفوس الثقيلة والعياذ بالله، فإنّ هؤلاء يُتعِبون السالك ويُؤذونه جدّاً، في بعض الأحيان يرى الإنسان أنّه حينما تحدّث مع شخصٍ ما لمدّة خمس دقائق، فكأنّ جبلًا قد وقع على رأسه، وفي المقابل البعض الآخر ليسوا كذلك، نفوسهم طاهرةٌ ولطيفةٌ وجيّدةٌ، ولو تحدّثتَ معهم لمدّة ساعةٍ فإنّك لا تشعر بالتعب.
إذن، بصورةٍ مجملةٍ وكليّةٍ، الصمت يعني: السكوت. وفي المرحلة الفعليّة فلتتكلّم بمقدار ما يلزم من قراءة القرآن، والزيارة، والدعاء، والصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأُنس بالعائلة، وفي نطاق العمل الجراحي۱، ولا تتكلّم بأكثر من ذلك.
المستمع: في كلّ الأمور؟ فهل الأمر كذلك بالنسبة للمناجاة والدعاء؟
العلّامة: لا! لا! الطريق مفتوح بالنسبة للدعاء؛ إنّ الأمر يتعلّق بنطاق العمل، العمل خارج المنزل.
فمثلًا: أنت تعمل الآن في مستشفى، فلتتكلم بذلك المقدار النافع لك، فتقول مثلًا: يا سيّد فلان، فلتذهب ولتحضر هذا الملف! فلا تكرّر ولا تصرّ ولا تلحّ، هل التفت؟ جملةٌ واحدةٌ فقط، اذهب وأحضر الملف! ولا تناقش الناس كثيرًا، ولا تُطلعهم على أسرارك، ولا تُبدي لهم أحوالك، فلتُبقِها بداخلك، ولا تبدِ إلّا المقدار اللازم، وكفى! ليكن هناك قفلٌ على الفم، ولا تتجاوز ولا تفسح المجال لبيان ذلك المقدار الذي يبديه اللسان عن قلبك ونيتك، والقيام بهذا العمل ـ وهو ضبطُ اللسان ـ مهمّةٌ شاقّةٌ.
لقد وَرَدَ عن أحوال بعض السالكين القدماء أنّهم كانوا يضعون حصاةً في أفواههم، وكلّما أرادوا بيان أمرٍ عن غفلةٍ، فإنّهم لا يبيّنوه، فربّما أرادوا أن يُبينوه ولكن هناك حصاة في فمهم فيلتفتون: هل ما يريدون قولَهُ صحيحٌ أم لا؟ فإذا كان جيّدًا، يُخرجون الحصاةَ ويتكلّمون ثمّ يعيدونها إلى مكانها؛ إلى هذا القدر! إنّها مهمّةٌ صعبةٌ؛ لأنّ الإنسان قد اعتاد الكلام دائمًا، ولا بدّ أن يضبط نفسه وأن يقوم بالمجاهدة كي يَعبُر عن مسألة الصمت.
الركن الثاني: المحافظة على الصّحة وسلامة المزاج
والمسألة الأخرى هي: حفظ الصحّة والغذاء، فينبغي على الإنسان أن يتناول الأطعمة التي تُفيده، ولا ينبغي أن يتناول الأطعمة التي لا تنفعه ولا فائدة منها، وعادةً لا يُفكّر الناس بخصائص الأغذية وفوائدها عند تناولها، فمن باب المثال: يتناولون المُكسّرات والبذورات وأمثالها، ولكن هل رأيتم أحدًا يتناولها لخصائصها؟
المستمع: يأكلونها للاستمتاع بطعمها.
العلّامة: نعم، ينبغي ترك هذا الفعل جانبًا!
ينبغي على الإنسان تناول الأطعمة المفيدة لبدنه بحيث لا يَضعف، كما ينبغي أن يتناول الطعام الذي يحلّ مكان الطعام الذي يتحلّل من بدنه؛ لأنّه إذا عجز البدن، فإنّ الروح لا تستطيع أن تُؤدّي وظائفها. كان المرحوم السيد جمال الدّين الكلبايكاني ـ رحمة الله عليه ـ الذي ورد اسمه أكثر من مرّةٍ في كتاب معرفة المعاد، كان يُصرّ علينا جدّاً بأن نُحافظ على المزاج! نحافظ على المزاج! وكان يقول: إذا لم تحفظ مزاجك وأسرعت في المشي، وقمتَ برياضاتٍ غير صحيحةٍ، فإنّ بدنكم سيُصبح عليلًا، وعندما يكون البدن عليلًا، سوف تبقى خادمًا للبدن إلى آخر العمر، والبدن مَركبٌ لك، وينبغي عليه إيصالك إلى الهدف، فإن لم يتمكن من إيصالك إلى المقصد أصبح عليلًا وعندها ينبغي أن تأتي النفس وتخدم هذا الحيوان [يعني: بدلًا من أن يخدم البدن الحيواني النفس، تُصبح النفس هي التي تخدم البدن]! وإذا توقّف البدن عن العمل، لم يعد بإمكان الإنسان فعل شيءٍ، وهنا ينبغي أن تأتي النفس الشريفة وتصبح خادمةً للمركب.
إنّ المزاج مهمٌّ جدّاً، فلا ينبغي أن يُتخم بالطعام إلى الحدّ الذي يصبح فكره مشوشًا ولا يتمكّن من العمل أو مزاولة النشاط؛ ولا أن يُقلّل من تناوله للغذاء بحيث لا يمتلك القوّة على العمل، ولا يصل إلى بدنه بدل ما يَتَحَلَّل منه.
ينبغي تنظيم أوقات وجبات الطعام، فلا يأكل قبل أن يشعر بالجوع، وعندما يتناول الطعام يتوقّف قبل أن يشبع، فيختار ما هو مفيدٌ لبدنه، يختار ما هو مُفيد للبدن أيّاً كان فليكن، حتّى لو كان الكباب مثلًا، فهو يصبّ في مصلحة نفسه ولا يوجد في هذه المسألة عنوان الزهد وأمثال ذلك، فتناول الطعام هنا له عنوان السلوك.
الزهد يعني الحركة التقرُّبيّة نحو الله، فإذا قيل لمن يُريد الحركة نحو الله في مقدّمات حركته: يجب عليك تقوية مزاجك! فينبغي عليه التنفيذ؛ لأنّه إذا لم يفعل سيراوح مكانه، وإذا نفّذ تحرّك، فإذن تناول الكباب لا يُخالف الزهد، بل هو عين الزهد، وإذا لم يأكل، وضغط على نفسه، أو لم يراعِ مزاجه أصلًا فقد تخلّف عن القافلة وفات الأوان.
ينبغي على الإنسان أن يُفكّر في خصائص الغذاء الذي يتناوله، وينبغي عليه أن يعمل بالدساتير المعطاة له؛ فعليه أن يغسل يديه قبل تناول الطعام وبعده، وعليه أن يبدأ طعامه ويختمه بالملح، وعليه أن يقول: «بسم الله» في بداية الطعام، وأن يقول: «الحمد لله» بعد الانتهاء من الطعام، وأن يمضغ الطعام جيّدًا، وأن يأكل عن اشتهاء، ويختار الأغذية المفيدة لبدنه، يعني: من وجهة نظر السلوك لا ينبغي أن يكون لديه نقصٌ في المزاج، فإذا أصبح المزاج عليلًا فلن يتمكّن الإنسان من السير.
إنّ هذه المسألة مسألةٌ مهمّةٌ جدّاً.
الركن الثالث: اعتزال أبناء الدنيا ومعاشرة الأولياء الإلهيّين
أحد الأمور الضروريّة الأخرى: الابتعاد عن محيط القلق والتشويش والاضطراب؛ لأنّ الإنسان حينما يكون في هذه المعارك من التشويش والاضطراب، فسوف تُؤثّر عليه العلاقات المسمومة، والتعامل المسموم، والكلام المسموم، سوف تُؤثّر على روح الإنسان وتدمرها.
قاعدة سلوكيّة مهمّة: النفوس كالأوعية المتّصلة
إنّ النفوس كالأوعية المتّصلة، إنّ أحد القواعد الفيزيائيّة، قاعدة الأوعية المتّصلة، وقاعدة الأوعية المتّصلة هي التالي: إذا أضيف سائلٌ لأحد الأوعية فسوف يتساوى مستوى السائل في الجميع، والقلوب بهذا النحو أيضًا، فعندما يحصل ارتباطٌ بين قلبين كما يحصل بين الأوعية المتّصلة، فإنّ المعاني التي تقع في أحدهما تذهب إلى الآخر، فإذا كان الوعاء الأعلى ملكوتيّاً فسيجعل الوعاء السفلي ملكوتيّاً أيضًا وبنفس المستوى، ولكن إذا كان الوعاء الأعلى ملوّثًا، كأن يحتوي على خلّ العنب، أو خلّ الحُصرم، أو سائل متعفّن، فسوف يتلوّن الوعاء السفلي بلونه أيضًا، ولذلك يجب على الإنسان أن لا يجالس الأفرادَ الخبيثين، أو عبّاد الدنيا، ومَن كان همّه وغمّه الدنيا؛ لأنّهم يجذبون قلب الإنسان ويجلبونه إليهم.
«مَن أَصبَحَ وأكبر هَمِّهِ الدنيا فليس مِنَ اللَهِ في شَيء»۱، فالبشر حتّى لو كانوا جيّدين وكانوا مُصلّين ويُؤدّون جميع التكاليف، إلّا أنّهم على فئتين: فئةٌ تُؤدّي الصلاة وتصوم أيضًا لكنّ مقصدهم الأساسي هو الدنيا، أي: إنّهم لا يبيعون الدنيا بالله، فإذا أتى أمر الله وأتت في مقابله مصلحةٌ ماديّةٌ، فإنّهم يُقدّمون المصلحة الماديّة، وفي معاشرة هؤلاء ضررٌ على الإنسان، يعني: مثل تلك الأوعية المتّصلة، يجذبون قلب الإنسان إلى سطحهم، والإنسان إذا ارتبط بأيّ واحدٍ من هؤلاء فإنّهم يجذبونه إلى بؤرتهم الوجوديّة ويدعونه إلى أفكارهم، فكلّ مَن يدعو الإنسان، أو يسلّم عليه أو يجيب على سلامه أو يستأنس به، فإنّ نفسه تجذب ذلك الإنسان نحوها، سواءً كانت هذه النفس جيّدةً أم سيّئةً، قبيحةً أم حسنةً.
يجب على السالك أن يبقى مُتيقّظًا كي لا يكون طُعْمةً للذئب، بل يفتح أمامه باب حديقة الرحمة، يجب عليه أن يذهب دومًا إلى النفوس الملكوتيّة والروحانيّة، فيتعامل مع أمير المؤمنين عليه السّلام ومع ميثم ومع تلك الأرواح الطيّبة الطاهرة، ولا يذهب إلى الطرق المنحرفة، والتحكّم بهذا الأمر بيد الإنسان نفسه.
إنّ ما ذكره هذا العبد٢ من أنّه ينبغي على المرء أن يصبح فاقدًا للوعي، صحيحٌ، وفقدان الوعي أمرٌ لا إراديٌّ، ولا يحصل باختيار الإنسان، فإنّ الإنسان لا يُفقد نفسه الوعي، ولكنّه يقوم بمقدمات ذلك، فما معنى المقدّمات؟ معناها أنّهم يقولون: أيّها السيّد العزيز اذهب إلى غرفة التخدير ونَمْ هناك، فيقول الإنسان: حاضر! يقولون له: في الليل لا تتعشّى، فيقول الإنسان: حاضر. ولا يمانع عندما يأخذون ضغط دمه صباحًا؛ فيذهب ويرقد على السرير ثمّ يضعون الخرطوم في أنفه ويقولون له: خُذ نفسًا عميقًا، فيقول: حاضر. وحين تكون في حالة فقدان الوعي يفعلون ما ينبغي القيام به، طبعًا الله أعلم بما يقومون وهو في حال فقدان الوعي وحال السُكر، ولكنّ هذه المقدّمات باختيار الإنسان. يقولون للإنسان: نم على السرير، فينام، أو يضعون الأنبوب ويأمرونه بأخذ نفسٍ عميقٍ فيفعل متبسمًا لا باكيًا؛ لأنّها جميعًا لطفٌ ورحمةٌ وسرورٌ، فهي دعوة الحبيب، ودعوة المحبوب وينبغي على الإنسان أن يلبيّها، وعندها يُصبح بحالٍ جيّدةٍ جدّاً جدّاً.
أهل الدنيا يجذبون الإنسان باتّجاه الدنيا
على كلّ تقديرٍ، إجمالُ المسألة هو أنّه ينبغي على الإنسان أن يتجنّب الأفراد من أهل الدنيا الذين تكون الدنيا غايتهم، أيّاً كان ذلك، فذلك الشخص الذي مقصده الأساسي هو الدنيا يسحب الإنسان إلى الدنيا مهما كان لباسه، ومهما كانت هيئته، ومهما كانت شاكلته، وكلّ ما سوى الله فهو دنيا، وعلى الإنسان أن يكون كمَن يتألّم ويبحث عن العلاج، فعليه أن يُفكّر كيف لا يُصبح طُعْمةً لهذا الشخص؛ لأنّ نفس معاشرته مع هكذا شخص تجعل منه طُعْمةً، فيجب أن ينأى بنفسه، خصوصًا إذا كان ذلك الشخص صاحب نفسٍ قويّةٍ؛ لأنّ النفوس مختلفةٌ، فالبعض ذوو نفسٍ قويّةٍ، ويجذبون الفرد الآخر بسرعةٍ كالمغناطيس، وخصوصًا الأفراد اللطيفين فإنّهم سريعًا ما يتمّ صيدهم بسبب لطافتهم، وعندها إذا كان ذلك الشخص ذا نفسٍ قويّةٍ فإنّه يجذبه ويجلبه من حيث لا يشعر، يعني: لا شعوريًا، يجب على الإنسان أن يكون فطِنًا في هذه المواطن بحول الله وقوّته.
كيف يختار الإنسان الرفيق والمعاشر
وإذا أراد الإنسان أن يُعاشر أيّ فردٍ وأن يتردّد عليه وأن يذهب أو يتكلّم معه وأن يُرافقه، أو أن يختار رفيقًا له، أو أن يُكنّ لشخصٍ محبّةً، فعليه أن يُفكّر: هل لهذا الشخص دورٌ في كمالي وحالاتي المعنويّة أم لا؟ هل يُقرّبني من الله؟ هل يُقرّبني من الحقيقة؟ هل يُدنيني من الشريعة؟ هل يُقرّبني من الحقيقة أم لا؟ هل سيجذبونه هؤلاء من يده ويُقرّبونه من الأباطيل والوهم وعالم الخيال أم لا؟ وعالم الخيال أصبح واضحًا:
سودائیانِ عالم پندار را بگو | *** | سرمایه کم کنند که سود و زیان یکیست۱ |
[يقول: قُلْ لِمن صار مزاجه سوداويًّا بسبب تردّده على عالم الخيال، قلّل من رأس مالك هناك لأنّ الربح والضرر هناك سيّان].
معنى العزلة في السلوك إلى الله
إنّ السالك إذا انقطع عن السيئين والأشرار، والأفراد من غير أهل الله، فإنّه يكون دخل في العزلة، ومعنى العزلة: الابتعاد عن النفوس الشريرة والخبيثة، ولا تعني العزلة أن يعيش الإنسان على الجبل أو في الغار، أو أن يُغلق باب منزله، فالعزلة هي عزلة النفس، وابتعاد النفس عن الجراثيم والهواء المُلوّث بالأمراض، وعن مجال الأفكار المُلوّثة التي تُصيب كلَّ من تعرّض لذلك الفضاء المُلوّث بالعدوى شاءَ أم أبى، أي: إنّ الإنسان يقي نفسه وينأى بها، وبعد ذلك يُؤدّي أعماله.
وفي المقابل الارتباط مع الصلحاء، ومع أولياء الله، ومع مَن كان ألمه هو الله، وفكره هو الله، ويذكر الله عن إخلاصٍ، هو ارتباطٌ جيّدٌ وضروريٌّ، أي: إنّه يُقوّي الإنسان ويمنحه الطاقة، فالسالك يحتاج إلى رفيقٍ، ولا يستطيع السلوك بمفرده، فهو يحتاج إلى صاحبٍ في أوقات التعب حتمًا، يتلاقيان ويقرآن القرآن، أو يشرحان الأشعار سويّاً، أو يُفسران نهج البلاغة، أو يتناولان المعارف الإلهيّة، أو يتحدّثان عن أحوال العرفاء والعظماء وأهل اليقين والصِدِّيقين، فيشرح هذا لذاك، وهذا ممّا يجلب النشاط.
ولكن إذا لم يكن للسالك رفيقٌ، فسوف يتعب، كالإنسان إذا أراد أن يعبر صحراء من الصحاري، فصحيحٌ أنّ عبور الصحراء أمرٌ ممكنٌ؛ ولكن لو كان لدى الإنسان رفيقٌ أنيسٌ، فسوف يتمّ عبور تلك الصحراء الطويلة بكلّ يُسرٍ، وسوف يعبرها بسرورٍ. ولكن إذا عبرها وحيدًا، فسيتعب ويشعر بالكسل، نعم سيتمّ عبورها ولكن بمشقةٍ.
ولذلك، أحد الدساتير هي أنّه على الإنسان أن يتجنّب الأفراد الذين لا ينفعونه، ويُلوّثون روحه، الذين يُوجب الحديث معهم اضطراب الإنسان، ويُسبّبون له الانزعاج ويُشْكِلون عليه وينتقدونه، فتجدهم يقولون: يا سيد لماذا لم تفعل هذا الفعل؟ لماذا فعلتَ ذلك الفعل؟ ليتك فعلتَ كذا، لكنتَ أصبحت صمصام السلطنة مثلًا! إنّك طبيبٌ يا سيّدي، وعليك أن تقدّم رسالةً في الدنيا! على الإنسان أن يبتعد عن هؤلاء، وعليه أن يتلو الفاتحة على هذا الكلام؛ لأنّهم أفرادٌ يميلون نحو الخيال فقط، وقد نزلوا عن عالم الوحدة والنور الإلهي وعلقوا في هذا المكان.
حينما يرى الإنسان في قلبه أنّه يطوي طريق الله وأنّه يعمل للّه، عليه أن لا ينصت إلى هؤلاء، وعدم الإنصات إليهم معناه أن لا يتحدّث معهم، بحيث يتمكّنوا من إلقاء هذه الأمور، وعليه أن يختار السكوت كي لا يتمكّنوا من ترك أثرٍ في الإنسان.
إذن فالدستور الأوّل كان السكوت، والدستور الثاني المراقبة في الغذاء وفي الأطعمة المفيدة للإنسان، وهذا هو الدستور الثالث: العزلة، أي أن يرفع احتياجاته، وأن يُفكّر بنفسه، وأن يخرج من التشويش والاضطراب ومن المشاهد المليئة بالحركة التي تعود وتضرب ذلك الماء الذي كان يُريد أن يترسّب فيه الوحل والشوائب فتجعله مشوّشًا ومضطربًا، عليه أن لا يرى تلك المشاهد، وأن لا ينصت إلى تلك الكلمات، بل إنّ مطالعة أيّ كتاب يُوجد التشويش للإنسان فهو مضّرٌ أيضًا؛ «ووَقَفوا أَسماعَهُم عَلى العِلمِ النّافِعِ لَهُم»۱.
افرض لو أنَّ هذا العبد قرأ كتابًا طوال المساء إلى الصباح، وكان يتضمّن العديد من العلوم أيضًا، وكانت هذه العلوم علومًا حقّةً أيضًا، غير أنّها تُسبّب اضطراب البال وتشويش الذهن، لا الهدوء، فهذا ليس بجيّدٍ، فليطالع السالك أيُّ كتابٍ يمنحه روحًا وطمأنينةً ويبثّ الحياة فيه.
الركن الرابع: الاستيقاظ عند السحر
الدستور الآخر من بين هذه الدساتير هو الاستيقاظ عند السحر، فيجب على الإنسان أن يستيقظ قبل أذان الصبح بعدّة دقائق بحيث لا يكون نائمًا عند أذان الصبح وبين الطلوعين، يعني: النوم مكروهٌ بين أذان الصبح وطلوع الشمس؛ فعليه أن يقرأ القرآن ويقرأ الأذكار ـ وسوف أذكر ما الذي ينبغي عليه أن يفعله ـ إلّا إذا كان للإنسان عذرٌ أو لم يكن حاله مساعدًا، أو كان متعبًا، أو مريضًا، أو كان لديه انحطاطٌ في جسمه، أو مثلًا حصل له أرقٌ في الليل، أو بنحوٍ كلّيٍ [كان لديه مانعٌ]...، فإذن الاستيقاظ آخر الليل وبين الطلوعين هو من الأمور المهمّة.
الركن الخامس: المداومة على ذكر اللـه
من الأمور المهمّة الأخرى هو أن يكون فكر الإنسان متجهًا نحو الله دائمًا، فينبغي أن تكون ضالته هي الله؛ يفعل هذا الفعل ويفعل ذلك الفعل، ولكن ما هو مقصده؟ الله، يبحث عن الله.
فآلة التسجيل التي وُضعت هنا، إنّما وُضعت لوجه الله، فحتّى لو كان هذا العمل هو عمل هذا الفرد، ولكنّ الهدف هو الله، وأنتَ تجد الله من خلاله، وعندما تذهب لعملك من أجل المريض فالله موجودٌ هناك؛ لأنّك تبحث عن الله، غاية الأمر أن الله دخل إليك عن طريق المريض وجعله وسيلةً وطريقًا للوصول إليه، فأنتَ لا تتعامل مع المريض بل مع الله، فعندما تتحدّث إلى معاونك فأنتَ تتعامل مع الله! وعندما تتحدّث مع المحاسب فأنتَ تتعامل مع الله! وعندما تتعامل مع من يعمل تحت يدك في العمل فأنتَ تتعامل مع الله! هؤلاء صورٌ مختلفةٌ وشبكاتٌ مختلفةٌ وجميعهم يمتلكون ارتباطًا بالله، إلّا أنّ الله الموجود فيهم هو ضالتك، والهدف من التعامل معهم جميعًا هو إيجاد الله.
ولذلك نرى أنّ الفرد الذي يحترق قلبه شوقًا ليعثر على الله، يتعامل معهم جميعًا، ولكنّ تلك الحرقة تبقى في قلبه، فلا يشبعونه، مثلًا: ذلك الفعل الذي قام به لَهُ حرقته الخاصّة أيضًا، فهو يرغب مجددًا أن يعلم ما هو التجلّي التالي؟ يُريد أن يخطو خطوةً أخرى، هذه هي الخطوة الأولى، ويجب أن يخطو الخطوة الثانية والثالثة والرابعة؛ هذه الصلاة هي الخطوة الأولى، الثانية هي الصوم، الثالثة هي الأنس بالعائلة، الرابعة هي رفع الحاجات الجسديّة، فجميعها خطوات للوصول إلى الهدف، ولكن الله متواجدٌ فيها جميعاً، «اللَه فَوقَ كُلُّ شَيء» وينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في جميع هذه الخصوصيّات.
معنى ديمومة الذكر وأهميّة ذلك
الدستور الآخر هو: الذكر الدائم، والذكر الدائم يعني: أن يكون ذكر السالك هو الله دومًا، وطلما لم نصل إلى الله، ولم يحصل لنا مقام القرب ولم نحصل على منزلةٍ فينبغي أن تبقى غصّة ذلك في قلبنا؛ ينبغي أن تبقى هذه الغصّة موجودةً حتّى يُفتح للسالك الباب، فإذا لم تكن هذه الغصّة موجودةً، فحسنًا، سوف يكون شخصًا عاديّاً.
هذا هو ما يحرّك الإنسان تجاه الله، هذه هي القوّة المحرّكة، هذه هي الطاقة، فالطاقة المحرّكة للسالك ولكلّ مؤمنٍ باتّجاه الله هي تلك الحرقة التي تنبع من الله وتشعّ في القلب، ينظر الإنسان فيرى أنّه قاصرٌ عن كلّ شيءٍ وليس هناك في العالم بأسره مَن يستطيع أن يمدّ يد العون إليه سوى الله، ولا يستجيبُ أحدٌ إلى ندائه سوى الله، وفي ذلك الوقت يطلب الله، والله عزّ وجلّ لا يقول دفعةً واحدةً: بسم الله! تفضل! بل حسنًا، عليك العبور عن النفس، ينبغي أن تتحرّك، وينبغي أن تتقدّم خطوةً خطوةً، إنّ الله يستطيع أن يساعده دفعةً واحدةً ولكنّه لا يفعل؛ لأنّ الله يُريد أن يُكمّله.
ولو أنّ ذلك النور الأزليّ أتى دفعةً واحدةً، لأحرقه وأزاله، إلّا أنّ الله رحيمٌ، يُقدّمه صفًا صفًا، ودرجةً درجةً، ومرحلةً مرحلةً إلى أن يصل؛ فلا يحصل لدى الإنسان مرضٌ في المعدة، ولا يصبح مجنونًا، ولا يهيم في الصحراء، ولا يترك المنزل ويعيش خارجه، بل يتحرّك مع جميع هذه الأمور ويذهب إلى حرم الله.
وهذا دستورٌ كاملٌ جاءنا به القرآن والرسول؛ وهو بحيث رغم أنّ الإنسان يعيش في شؤون الكثرة، إلّا أنّه يطوي المراحل بشكلٍ جيّدٍ في طريق الله بواسطة هذه القوّة المحرّكة الموجودة في القلب؛ وإلّا لو أنّنا طلبنا من الله أن امنحنا نور جلالتك الآن، وأوصلنا إلى المقصد الآن! ألا يستطيع الله؟!
قصّة الحطّاب الذي طلب المحبّة الخالصة من الله
ينقل المرحوم الأنصاري ـ رحمة الله عليه ـ هذه القصّة:
ذهب النبيّ موسى مرّةً من المرّات إلى جبل الطور من أجل المناجاة، فأتى إليه حطّابٌ وقال: يا نبيّ الله، حينما تذهب إلى مناجاة الله، اطلب من الله أن يرزقني محبّته، تلك المحبّة الخالصة؛ توسّل إليه، وبكى، وقال: سأصبح عاشقًا له، أريد الآن أن يُلقي في قلبي محبّته الخالصة تلك؛ رحل النبيّ موسى وقَبِل طلَبهُ؛ فقال الله تعالى: منحناه ذلك رغم أنّه ليس في مصلحته.
وبعد أن عاد موسى، رأى أنّ جسده قد قُطِّع قطعةً قطعةً واستقرّت كلّ قطعةٍ على أحد أشواك البراري۱.
ماذا يعني ذلك؟ يعني: أنّه مُنح المحبّة، محبّة الله ليست مثل مصباح ذي شمعتين أو أربع شمعاتٍ بل كمصباحٍ ذي ستّة آلاف فولت دفعةً واحدةً، ثم يأتي شخصٌ ليس لديه القدرة على تحمّل ستّة آلاف فولت فيقول: ينبغي أن تُدخلني الآن، ويبكي، ويُمسك بتلابيب النبيّ موسى: «يا نبيَّ الله! أريد كلَّ شيء»، ليس الله بعاجزٍ، إنّ الله رحيم ـ لو أراد الله أن يستجيب فلن يبقى شيءٌ، سنقول له: تعالَ وانزل إلى هنا! ودعنا نحن نذهب ونجلس في الأعلى! ـ إنّ الله رحيمٌ، فإنّه يمنح الستّة آلاف فولت تلك، ويُوصل الإنسان إلى مقام رسول الله، ويجعل أمير المؤمنين أميرَ المؤمنين، ولكن بالتدريج، خطوةً خطوةً، عن بصيرةٍ ومعرفةٍ وليس بجنونٍ وبلا مبالاةٍ، وليس باضطرابٍ ولا تشويشٍ وليس مع السرعة والاستعجال؛ فينبغي على الإنسان اجتياز هذا الأمر، كما ينبغي عليه أن يجتاز ذلك الأمر، وذاك الأمر الآخر أيضًا، ولكلّ واحدٍ من هذه حساباتٌ خاصّةٌ به.
ينبغي أن يرتقي الإنسان في السير والسلوك بالتدريج
إذا أراد هذا العبد الفقير أن يذهب من هنا إلى باب المنزل، فكم مترًا من هنا إلى باب المنزل؟ افرضوا أنّها مئة مترٍ، فإذا لم أطوِ المتر الأوّل فهل يمكن أن أطوي المتر الثاني؟! ينبغي طيّ المتر الأوّل، ثمّ المتر الثاني، وعندما أخطو الخطوة الأولى فستبقى آثار الخطوة الأولى خلفي وستبقى تلك الخصوصيّات التي للخطوة الأولى، لقد تمّ طيّ تلك العمارة التي كنتُ فيها في الخطوة الأولى، فعندما خطوتُ الخطوة الأولى وبدأتُ بخطو الخطوة الثانية ذهب كلّ ما هو خلف ظهري، وعندما أترك الخطوة الثانية وأخطو باتجاه الخطوة الثالثة، فالأمر كذلك، وإذا لم أترك الخطوة الثانية فالخطوة الثالثة غير ممكنة التحقّق.
وهذه الخطوات تُسمّى مُعِدّات، فإذا لم يخطو ثالث خطوةٍ، فلا يمكنه تجاوز الخطوة الرابعة، ولا يمكن طي مئة متر بخطوةٍ واحدةٍ، أيّ: لا يُمكن للإنسان أن يطوي مئة قدمٍ بخطوةٍ واحدةٍ، بل ينبغي عليه أن يتقدّم مترًا، وبعد ذلك تبقى آثار ذلك المتر في ذاكرته، ولكنّه لا يراه بعد الآن؛ لأنّه متّجهٌ إلى الأمام، وفي المتر الثاني يرى مشاهداتٍ، ثمّ يخطو المتر الثالث وكلّ ما رآه في المتر الثاني يُصبح خلفه، ويرى مشاهداتٍ في المتر الثالث، ثمّ يذهب إلى المتر الرابع، ويسير هكذا إلى أن يصل إلى باب الحرم، إنّك تذهب إلى حرم السيّدة زينب سلام الله عليها وتقف في قبال الحرم، ثمّ تدخل الحرم، في حين أنّك تستطيع من البداية أن تشعر من الأوّل بجميع هذه المسافة من هنا إلى هناك بخطوةٍ واحدةٍ، وينطبق الأمر نفسه على المعنويّات. وعلى الرغم من أنَّ الله قادرٌ على أن يُكمّل جميع البشر في لحظةٍ، بحيث ينامون هذه الليلة ويستيقظون صباحًا مثل سلمان الفارسي. أليس الله بقادر؟! ولكن ما الفائدة في ذلك؟!
أهميّة الذكر في السير والسلوك
عندما خلق الله هذا الكون، وخلق الشيطان ومنحنا نفسًا؛ كي نتحرّك باتجاهه مع العشق والشوق، ولو لم يكن هناك تكليفٌ لمَا كان هناك شيطانٌ، ولمَا كانت النفس، ولا كانت المجاهدة، ولبقينا في ذلك العالم السابق على هذا العالم، ولكُنّا في جنّة الخلد تلك، وهي تعني: عالم الاستعداد والقابلية التي لم تصل إلى الفعليّة، ومنح الإنسان هذه الحرقة وهذه الحركة وهذا الاختيار، وجعل الإنسان في حالة سعيٍ وحركةٍ باتجاه الله، هو نتيجة جميع العوالم.
لذلك لا يوجد شيءٌ أفضل للإنسان من هذه القوّة المحرّكة وهي ذكر الله التي تحرّكه باتّجاه الله. ينبغي على السالك أن يذكر الله على الدوام، فذكر الله هو المصباح الذي يُضيء في القلب، وعندما يكون هذه المصباح مضاءً فلا خوف ولا ضرر؛ لأنّه يمتلك مصباحًا، وعندما يغفل فمعنى ذلك أنّ المصباح مطفأ، وعندها يأخذون الإنسان حيث يريدون، ولكن عندما ينادي الإنسان: «يا الله!» يأتي الله إلى القلب، فمن أين للإنسان الخوف؟ فإذن أحد الأمور اللازمة هو ذكر الله، ذكر الله يعني: اسم الله، وذكر الله على الدوام، يعني أن يكون الإنسان ذاكرًا لله دائمًا.
صمت وجوع وسهر وعزلت وذکری به دوام | *** | ناتمامان جهان را کند این پنج تمام |
[يقول: صمتٌ وجوعٌ وسَهَرٌ وعُزلةٌ ودوام الذِّكر؛ فهذه الخمسة ستجعل غير الكاملين في العالم كاملين]۱.
غير الكاملين يعني: الأفراد السالكين ولكنّ سفرهم لم يكتمل، فهم غير كاملين ويريدون أن يصبحوا فاكهةً حُلوةً، فالشجرة التي تُعطي ثمرة الكمثرى، تُعطي في البداية بُرعمًا، ثم حبّة صغيرة، ثمّ تنمو رويدًا رويدًا ويكون لونها أخضر، ثم أسود وأخضر ثمّ يُصبح لونها أفتح بعد ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة لمذاقها، فأوّلًا يكون مرّاً ولاذعًا، وعندما تنمو قليلًا يتحسّن لونها وطعمها إلى أن يصل إلى مرحلةٍ تُصبح معها كمثرى، والكمثرى ملك الفاكهة وهو حلو المذاق ومليءٌ بالماء ومرغوبٌ وله قيمةٌ، وهنا لم تعد هذه الفاكهة مضرّةً بالمعدة، هذا هو الإنسان الكامل، الإنسان الكامل هو الذي كمل.
مزيدٌ من التوضيحٍ والبيان لمعنى الركن الثاني: مراعاة المزاج
والخمسة التي تُكمّل غير الكاملين، هي: التحكّم في الكلام، [والانعزال عن أهل الدنيا، والاستيقاظ عند السحر ودوام الذكر] ومُراعاة المزاج على النحو الأصلح، فقد يرى الآن الإنسان شيئًا ولكن لا تكون له رغبةٌ أو شهيّةٌ الآن ليتناوله، إلّا أنّ الله يقول: يجب عليك أن تأكل، فيجب أن يأكله خلافًا لشهيته، لماذا؟
لقد رأى هذا العبد بعض التجّار في السوق في ليالي النيروز حيث يكونون منغمسين في العمل إلى الحدّ الذي يجعلهم يغفلون، مثلًا: يتوجّب عليه تناول وجبة الغذاء عند الظهر ولكنّه لا يأكل، وتأتي الساعة العاشرة ليلًا فلا يتناول وجبة العشاء أيضًا. وقد اتفق أنّ أحدهم هو من أقاربي، وهو شابٌّ يخيط القمصان ـ نسأل الله له العافية ـ إنّه خيّاط يخيط القمصان وبقي هكذا لعدّة ليالي مع اقتراب برج الحَمَل، لقد كان عدد الزبائن كبيرًا، وكان مشغولًا بالعمل دومًا. وكان على المسكين قرضٌ، وعنده عيال، يعني: ربّما لذلك كان يقسو على نفسه، وعلى كلّ حالٍ، انشغل بعمله، ورأوا أنّه ولعدّة ليالٍ لم ينم ولم يأكل، فأصابته سكتةٌ، وكانت سكتته بسبب هذا التصرّف، حسناً، عندما يكون عنده هذا العشق لذلك العمل، فإنّه لا يشعر بالجوع، ولا يشعر بالنوم! ولكن، في تلك اللحظة التي تصيبه السكتة القلبيّة، لا يأخذ تلك الأمور بالحسبان، إنَّ الله يقول: إذا كان لديك قرضٌ، فليكن لديك قرضٌ، وأنا سأعطيك ما يُسدّد قرضك، وعليك أن تخيط للناس القمصان بمقدارٍ لا يُصيبك بسكتةٍ قلبيّةٍ ولا يُهدّدك بالمرض! وإلّا فإنَّ جميع هذا المال الذي ستجنيه من عمل الخياطة لن يوازي عُشر المصاريف التي ستتكبّدها لاحقًا، بل لن تبلغ واحدًا بالمئة منها.
قاعدة سلوكيّة مهمّة: خير الأمور أوسطها
إذن في كلّ عملٍ يجلب العشق والشوق للإنسان، إذا أصبح ذلك العشق والشوق شديدان، فسيبتعد الإنسان عن النوم والطعام؛ فعلى الإنسان أن يلتفت وينتبه، وأن تكون السيطرة بيده؛ لأنّ الله يُريده أن يتحرّك باتجاهه هو، وبالتالي عليه أن يسلك سبيلًا متوسطًا أيضًا، «خَيرُ الأُمورِ أَوسَطُها»۱، فإنَّ أفضل الأعمال هي الأعمال التي لا إفراط فيها ولا تفريط، لا سرعة فيها ولا بُطء، و«أفضل أمّةٍ، النَّمَطُ الأَوسَط»٢ هم الأفراد المعتدلون، هم الذين يطوون الطريق بنشاطٍ ومن دون أيّ مرضٍ أو أذى أو قلق؛ فيكونون ذوي عمرٍ طويلٍ وذا صحّةٍ وسلامةٍ جيّدةٍ.
كان المرحوم القاضي ـ رحمة الله عليه ـ وتدًا على الأرض، وقد عاش أربعةً وثمانين عامًا؛ هل انتبهتم؟ وهذا الحاجّ هادي الأبهري الذي نقلتُ عنه في هذا الكتاب عدّة مسائل٣ لقد كان رجلًا ذا بصيرةٍ، وقد عقد مع العبد عقد الأخوّة؛ وبالطبع لقد كان رجلًا أميّاً، إلّا أنَّه عاش عمرًا مديدًا فقط من خلال التقوى؛ ولكن هذه المسائل هي المسائل التي على الإنسان أن يعمل عليها، وأن يُسيطر عليها ويضعها في برنامجه وخطّة حياته، وليس هناك من عجلةٍ أو تسرّعٍ في الأمر، بل يضع العمل بيد الله، ويعمل طبقًا للدستورات التي كلّفه الله بها، و{وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ}٤.
این همه اللهِ تو لبّیـک ماست | *** | این دعا و سوز و دردت پیک ماست٥ |
[يقول: إنّ كلّ كلمة «يا الله» تتفوّه بها هي قول الله لك «لبيك» قبل أن تتفوّه بها، وكلّ دعاءٍ وحرقةٍ وتألّمٍ إنّما هو رسولٌ من الله إليك]
فلو لم ينظر إلينا الله بعين الرحمة لما جرت هذه الكلمات على ألسنتنا، ولو لم ينظر إليك الله بعين الرحمة لما أوجد لديك هذا الألم، لما أوجد لديك هذه الحرقة للبحث عن الله، هذه النظرة هي نظرة محبّة؛ فلا ينبغي أن نصرخ ونقول: إلهي، لماذا نناديك ولا تجيب؟
سيقول الله: لقد أجبتك مسبقًا عندما تمكّنتَ من مُناداتي، لقد أجبتُك عندما تمكّنتَ أن تدعوني! فاسجد الآن سجدةَ الشُكر، وقل: يا الله! سبحانك! بجمالك وجلالك وكمالك تكرّمتَ ونظرتَ إلى هذا العبد المسكين نظرةَ رحمةٍ وذلك في خضمّ هذا العالم المليء بالاضطرابات وهذه الأفكار والمخاوف، وهذه المعتقدات الباطلة التي تجعل كافّة الأفراد ـ منذ أن كانوا نطفًا باردةً في الأصلاب في عالم الطبيعة هذا ـ يعيشون ما يقارب الأربعين والخمسين عامًا، فيأتون عميانًا ويرحلون عميانًا، وتكون أعينهم مغلقةً، فالحمد لله الذي منحنا البصيرة، منحنا البصيرة كي نرى موضع أقدامنا ونشكرك على هذا المقدار الذي منحتنا إيّاه من البصيرة وسوف نتّبعها أيضًا، ونسألك المزيد.
این همه الله تو لبّیک ماست | *** | این نیاز و درد و سوزت پیک ماست |
فإذن، أشكرك على ما أوليتني، وأسألك ما لم تعطني، وأطلبه منك أنتَ؛ لأنَّ كلّ هذه الاستعدادات هي لك وكذلك الفِعليّات، نقصنا منك وكمالنا منك أيضًا، وهذه القابليات والاستعدادات تخطو خطوةً تلو الخطوة نحو الكمال إلى أن تصل إلى الفعليّة؛ فنشكرك على هذا المقدار من البصيرة الذي منحتنا إيّاه، الحمد لله، ونسألك أن لا ترفع يدك عن النعم السابقة التي منحتنا إيّاها، وأن تمسك بأيدينا.
{قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}۱، فالله هو الذي خلق كلّ مخلوقٍ بأفضل وجهٍ ثمّ لم يتركه بل هداه إلى كماله، والحمد للّه أن كانت نظرةُ رحمتِك شاملةً لنا وأبصرتنا هذا الأسلوب وهذا الفكر وبصّرتنا بهذا المسير، ثمّ إنّ الهداية فيه بيدك أنت؛ فأمسك بأيدينا! وخذنا إليك! فنحن لسنا إلّا عبيدًا.
بنده را پادشاهى نیـاید | *** | از عدم کبریایى نیـاید |
بندگى را خدایى نیـاید | *** | از گدا جز گدایى نیـاید |
... | *** | من گدا من گدا من گدایم |
[يقول: لا يليق رداء الملوكيّة بالعبد، ولا يليق الكبرياء بالعدم المحض، ولا تليق الألوهيّة بالعبوديّة، ولا يجدر بالشحّاذ إلّا الاستجداء، وأنا شحّاذٌ أنا شحّاذٌ أنا شحّاذٌ]
بندهام گر به خویشم بخواند | *** | راندهام گر ز پیشم براند |
آستانم چو بر در نشاند | *** | پاسبانم چو بر ره بماند |
... | *** | هر چه گوید جز او را نشایم |
[يقول: إن دعاني إليه كنتُ عبدَه، ولو نهرني كنتُ طريداً شريدًا، ولو أوقفني حاجبًا لصقتُ ببابه كالإطار، ولو توقّف في الطريق كنت حارسًا وخفيرًا، إذ لا يليق بي إلّا ما يدعوني]
گر بخواند به خویشم فقیرم | *** | ور براند ز پیشم حقیرم |
گر بگوید امیرم امیرم | *** | ور بگوید بمیرم بمیرم |
... | *** | بندۀ حکم و تسخیر رأیم |
[يقول: لو دعاني كنتُ فقيرًا، ولو طردني فأنا في ذاتي حقيرٌ، لو قال: أنّي أميرٌ صرتُ أميرًا، ولو قال: مُتْ لمتُّ وفنيتُ، فأنا لحكمكَ عبدٌ ولرأيك مُسخّرٌ]
از عدم حرفِ هستى نشاید | *** | دعوىِ کبر و مستى نشاید |
خاک را جز که پستى نشاید | *** | از فنا خود پرستى نشاید |
... | *** | من فنا من فنا من فنايم٢ |
[يقول: لا يليق بالعدم حديثُ الوجود، ولا يليق به ادّعاء الكبر والسكر، ولا يليق بالتراب إلّا الذلّ والضعة، ولا يليق بالفناء عبادة النفس، وأنا فناءٌ أنا فناءٌ أنا الفناء]
فنحن السائلون وأنت الغنيّ، ونحن الفقراء وأنت الغنيّ، ونحن العبيد وأنت الربّ، وقد أتينا الآن بأمرك وسلكنا صراط العبوديّة، ونسألك أن لا تقطع عنّا نظرة الربوبيّة والمحبّة! فلتستمرّ هذه النظرة تجاهنا، وأمسك بيدنا، واهدنا إلى حيث الاطمئنان والسكينة والنور والرحمة المحضة؛ وليس لا تقطع عنّا القلق.. القلق عبارة عن أمر جزئي، لاقيمة له، فعندما يأتي نور الله، فما معنى القلق؟! وما هو الاضطراب؟! عندما تضاء شمعةٌ في الغرفة المظلمة فلن يبقى فيها ظلامٌ بعد ذلك.
اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وآلِ مُحمَّد