المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1424
التاريخ 1424/09/18
التوضيح
ما هو دور اليقين في العمل والالتزام؟ كيف تقام مجالس أولياء الله وهل يدعون الناس ليحتشدوا في مجالسهم أم لا؟ لماذا بحث كبار العلماء كصدر المتألهّين والشيهد مطهّري وغيرهم عن المعرفة بالله بعد طيّهم للمراتب العلميّة؟ ما هو الفارق بين مدرسة أولياء الله وغيرها من حيث الهدف؟ تجيب هذه المحاضرة عن هذه الأسئلة، وتوضح النعمة العظيمة التي ينالها أتباع هذه المدرسة بالمقارنة بسائر المدارس.
هو العليم
المعرفة مفتاح الوصول إلى الله
قيمة مدرسة العرفان الحق
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٤ هـ - الجلسة الثانية عشرة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلَّى اللهُ عَلَى سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطّیبین الطّاهرین واللعنة عَلَى أعدائِهِم أجمَعینَ
«إلهي ربيتني في نعمك وإحسانك صغيراً ونوّهت باسمي كبيراً، فيا من رباني في الدنيا بإحسانه وتفضله ونعمه، وأشار لي في الأخرى إلى عفوه وكرمه، معرفتي يا مولاي دليلي عليك وحبّي لك شفيعي إليك.»
قيمة المعرفة وأثرها
عبارة «فيا من رباني في الدنيا بإحسانه وتفضله ونعمه» يمكن قراءتها بطريقتين: «فيا من رباني»، يمكننا القول إنّ هذه العبارة في محل مفعول به لفعل مقدّر۱ مثل: "أدعو" أو "أخصّ" أو "أعني"، فيصبح معنى العبارة: "فأدعوك يا من ربّاني في الدنيا بإحسانه وتفضّله"، إذن أنا أدعوك. وبما أنّ الأمر كذلك، وبما أنّك ربيتني في نعمك وفي إحسانك، وجعلت اسمي محمودًا بين الناس وأعظمت شأني، فبما أنّ الأمر كذلك، فإنّني أدعوك وألتجئ إليك يا من أنت بهذه الصفة.
ويمكننا القول أيضاً إنّ «فيا من رباني في الدنيا»، هذا النداء، بمثابة علّة للجملة اللاحقة، أي أنّ هذا المنادى بمثابة علّة، ويمهّد للجملة التي تليه من باب أن تعليق الحكم بالوصف يشعر بالعليّة٢، فأصبح هنا بمثابة تعليل للجملة اللاحقة، وهي: «معرفتي يا مولاي»، أي يا من ربّيتني في الدنيا، وأشرت إلي وهديتني في الآخرة إلى عفوك، لهذا السبب «معرفتي دليلي عليك»، وتلك هي معرفتي.
تقدّم ليلة أمس أنّ الله تعالى قد ربّى الجميع على نفس النسق وبما يتوافق مع إرادة كلّ إنسان، وتربيته بيده سبحانه، وهو الذي ينمّي، وهو الذي يهيّئ للإنسان سبيل الهداية.
وتقدّم ليلة أمس أيضًا أنّه لو وَضعنا أنفسنا مكان الآخرين ـ أولئك الذين استولت عليهم الدنيا، وخدعتهم جواذب الدنيا، وحرمتهم من نعمة القرب من الله ـ لو وضعنا أنفسنا مكانهم الآن، في هذه اللحظة، فلنجر مقارنة بيننا وبينهم، فهل نحن الآن، ونحن هنا، عاجزون عن الوصول إلى تلك الجواذب والملذّات التي يتمتّع بها الآخرون؟! هل قيّدت أيدينا؟! لا! لم يقيّد أحد أيدينا، وهل حبسنا أحد هنا؟! هل حُبسنا بالإجبار هنا؟! وهل أحكم أحد سيطرته على فكرنا ونفوسنا بقوى غير عاديّة أو تسخير إرادي منه؟! لا! أنا لم أفعل شيئًا كهذا، ولا أعلم إن كان شخص آخر قد فعله هنا، فأنا لم أفعل ذلك، أي أنّي لا أجيد هذه الأمور، لا أجيدها ولا أقوم بها. لم يحبس أحد أحدًا هنا، ولم يأتِ أحد بأحد بالإجبار. فليقف الآن من جاء منكم هنا بالإجبار، لنرى من جاء إلى هنا بالإجبار؟! ولم تُرسَل بطاقة دعوة لأحد، فمن أُرسلت إليه فليقف! لقد أرسلت للجميع، لكن ليس بهذه الدعوة الظاهريّة! لو لم تُرسَل، لما جئنا أنا وأنت إلى هنا، فنحن نقصد هذه الدعوة الظاهريّة، ولم يُشجّع أحد عليها.
لماذا لا تُعلن المجالس الإلهيّة كالمجالس الدنيويّة؟
انظروا الآن في هذا العالم، وفي محيطنا هذا، لو أرادوا أن ينظّموا مجلسًا أو لقاءً، فإنّهم يعلنون عنه قبل أسبوعين، فيعلنون في الصحف، ويعلنون في المذياع: «أيّها الناس، هناك مجلس في المكان الفلاني! أيّها الناس، هناك ـ مثلًا ـ لقاء في المكان الفلاني! أيّها الناس، هناك كذا وكذا في المكان الفلاني! احضروا! إنّه حُكم! إنّه تكليف! إنّه الله! إنّه النبي! هناك جلسة! هناك كذا! هناك فلان يتحدّث!» ويوم بعد يوم، يستمرّ الإعلان والدعايات المتتالية. فلو أريد إجراء انتخابات، أو أيّ شيء، فإنّه يُعلن عنها قبل شهر في كلّ مكان.
لكن هل قال أحد حتّى الآن: «تعالوا إلى هنا»؟! وهل أُعلنت دعاية؟! وهل أُعلن في الصحف؟! أين رأيتم إعلانه؟! هل رأيتم إعلانه في مكان ما؟! فلنجرِ مقارنة بيننا وبين الآخرين.
قصّة: العلاّمة الطهرانيّ والالتزام باليقين
كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يقول لأحد الأفراد، حيث كان قد أعطاه برنامجًا، فلم يلتزم به، فنبّهه المرحوم العلاّمة، وقد كنت جالسًا في ذلك المجلس ورأيته يقول له هذه الكلمات: «يا فلان، لم أدّعِ أنّي أفضل من الجميع، ولم أدّعِ أنّي وحدي على حقّ، لم أدّع مثل هذا الادّعاء، ولم أدّعِ أنّه ليس هناك أحد آخر موجود، فلم أقدّم هذا الادعاء أيضًا. فقد يكون هناك الكثيرون في هذا العالم أفضل منّي، وأعلى منّي، وشهاداتهم أسمى وأرقى وأقوى وأصحّ من شهادتي، ولكن هناك مسألة واحدة، وهي أنّي أؤمن بما أُقدّمه، وما دمتُ أؤمن، فيجب أن أكون ملتزمًا ومكلّفًا بإيماني. نعم، قد يتحوّل هذا الإيمان إلى شك، وقد يحلّ محلّ هذا اليقين شيء آخر، فحينها يكون له حكمه الخاص.»
ولدينا الكثير من ذلك، فربما يقع الإنسان في خطأ في يقينه، ثمّ يدرك لاحقًا أنّه كان مخطئًا، فيتغيّر رأيه، ويعود عنه. فلا ينبغي للإنسان أن يصرّ على الخطأ، والإنسان لديه خطأ وصواب، وليس دائمًا على الصواب.
قصة: الآخوند الملاّ علي الهمدانيّ والشيخ عبد الكريم الحائري وشجاعة الاعتراف بالخطأ
يُروى أنّ الآخوند ملاّ علي الهمداني رحمه الله، كان عالمًا كبيرًا و فاضلاً، لقد كان رجلاً تقيًّا ـ رحمه الله ـ وكان تلميذ المرحوم العلاّمة الشيخ عبد الكريم الحائري. ذات يوم، اعترض على المرحوم الشيخ في الدرس، وأبدى اعتراضًا، فأجاب الشيخ، فاعترض ملا علي مرّة أخرى حتّى انتهى الدرس ولم يصلا إلى حلّ للمسألة، ولم يقنع أحدهما الآخر.
ذهب المرحوم العلاّمة الشيخ عبد الكريم ليلًا وراجع الدرس مرّة أخرى، فوجد أنّ الحقّ مع الآخوند الملاّ علي، الحقّ معه.
والآخوند الملاّ علي أيضًا ذهب ليلاً وراجع الدرس، فوجد أنّ الحقّ مع الشيخ عبد الكريم. فكلاهما، في المراجعة الجديدة، توصّلا إلى عكس رأيهما.
وفي الصباح، حضرا الدرس، وبدأ الشيخ عبد الكريم يقرّر الدرس بناءً على اعتراض تلميذه، وقال: «نعم، كلامه صحيح، والمسألة هي هكذا.»
لكن الملاّ عليًّا، أصرّ على كلام الحاج الشيخ عبد الكريم السابق:
«لا! كلامك بالأمس هو الصحيح.إن كنت صادقًا، فالتزم بكلامك! إن كنت رجلاً...»
ـ «أنا رجل، ولن ألتزم!» [يضحك السيّد هنا]
ليس هناك دليل على أنّ الإنسان عندما يخطئ، يجب أن يلتزم بخطئه، فهذه ليست رجولة، إنّما الرجولة والغيرة هي أن يعترف الإنسان بخطئه عندما يدركه، ويقول: «يا سيّدي، لقد أخطأتُ.» وكم من مشاكلنا تتعلّق بهذه المسألة.
فلو أنّنا عندما نخطئ، نقول بصراحة ووضوح: «يا سيّدي، لقد تغيّر رأينا في هذه القضيّة»، فكم من المشاكل ستحلّ؟! كم من المصاعب...؟! لكن عندما تتدخّل النفس، وتبدأ في التبرير، وتبدأ في التأويل. يا عزيزي، دع الأمر، تجاهل نفسك، سهّل الأمر، لكنّ النفس لا تقبل بذلك.
تكملة كلام العلاّمة الطهراني
كان المرحوم العلاّمة يقول: «أنا على يقين ممّا أقول، لكن قد يتّضح لي خطأ هذه المسألة في يوم من الأيام، وحينها يجب أن أرجع عن رأيي، لكن ما دمتُ على يقين، فإنّ الحكم يقتضي أن أسير بناءً على اليقين. ولقد التزمتُ بما قلته لكم، لأنّي كنتُ على يقين من أمري، والآن لم يزل يقيني حتّى أتخلّى عن تلك المسألة.»
اليقين هو الأساس في الحياة
هذا الكلام نفسه أقوله الآن أيّها الرفقاء بيننا وبين أنفسنا بخصوص الطريق والمسار الذي حُدّد لنا، فأنا على يقين بأنّ هذا المسار هو مسار أولياء الله، وأنّ اتباع أوامر أولياء الله بناءً على المبادئ التي وصلتنا منهم، هو الأساس لذلك.
فما دام اليقين موجودًا، على الإنسان أن يطيع، وأمّا عندما يزول اليقين ويحل محلّه أمر آخر، فحينها يكون للإنسان تكليف آخر، وحينها يجب على الإنسان أن يأخذ مسألة أخرى في الاعتبار بمقتضى يقينه في ذلك الوقت.
وهذا هو الأصل الأساسيّ في الحياة، يجب أن يكون على هذا الأصل الحجر الأساس والمحور الأساس في جميع الحركات الشخصيّة والاجتماعيّة.
ما دام الإنسان مطمئنًّا إلى مسألة، فلا ينبغي له أن يتخلّى عن اطمئنانه، ولا ينبغي له أيضًا أن يغلق نافذة قلبه عن الأمور الأخرى، لا، فهذا أيضًا خطأ، بل يجب عليه دائمًا أن يرحّب بالمسائل والأمور الأخرى ويستمع إليها.
تجربة المحاضر الشخصيّة مع العلاّمة الطهراني
إنّ حديثي إليكم الآن بكل حزم وقطع هو لكون حالتي هكذا دائمًا، فإنّي لم أكن متعصّبًا للمرحوم العلاّمة في زمانه، ولم أكن أقول: "لأنّه العلاّمة، فيجب قبول كل ما يقوله، ولا ينبغي أن يكون هناك أحد آخر، وهذه الشخصيّة في هذا القالب هي هكذا ولا شيء غير ذلك." لا، لم أكن كذلك أبدًا! لم أكن متعصّباً. أمّا الآخرون، فلا أعلم بحالهم، فكل إنسان له حسابه مع ربّه، وله تكليفه. لكنّي لم أكن كذلك، وعندما كنت في محضر المرحوم العلاّمة كنت أعترض على بعض الأمور التي كانت تُفعل، وكان هو يجيبني، كنت أذكر اعتراضي، وفي بعض الحالات، كان يوافق على الأمر بطريقة ما. هذا كان حالي دائمًا، وكنت أرى أنه يوافق من هذه الزاوية أيضًا، لا أنّ حالتي الآن هي هذه... ربما كان هذا الأمر من وجهة نظر الآخرين يعتبر نوعًا من الحريّة غير الصحيحة ونوعًا من عدم المسؤوليّة في مسائل السلوك، لكن على كل حال، كنت أنا هكذا، وكنت أرى موافقته أيضًا، ليس أنّ المسألة كانت مجرّد رأي شخصيّ، بل وفي كثير من الحالات كنت أرى رأيه مخالفًا لرأيي، لكنّه في نفس الوقت كان يقول: "مع أنّ رأيك هكذا، لكن لتفعل أنت هكذا" أي أنّ المسألة هكذا، وكنت أقبل ـ مثلاً في المسائل الاجتماعيّة و... ـ وكنت أرى أنّ رأيه غير الذي يعبّر عنه، وعندما كنت أعترض، كان يقول: "مع ذلك، قم بهذا العمل." حسنًا، فمن الواضح أنّ هناك رؤية خاصّة هنا.
لكنّني كنت هكذا، والآن أيضًا أنا هكذا، أي لم يحدث أيّ فرق في هذه المسألة، ولديّ حكايات كثيرة جدًّا بشأن هذه القضيّة، ففي حياة العلاّمة كانت هذه المسألة متكرّرة جدًّا وهي أنّ على الإنسان دائمًا أن يقوم بعمله بناءً على الاطمئنان، وبناءً على اليقين، وعليه أن يقوم بالأمر بناءً على الفهم والإدراك، أمّا ما كان بينه وبين المرحوم السيّد الحدّاد من مسائل، فذلك أمر آخر.
على كلّ حال، هذا كان دأبي، ولقد كنتُ على يقين من العلاّمة ومدرسته، وكنّتُ مطمئنًّا، والآن الأمر كذلك أيضًا. ومع ذلك، لا أدّعي أبدًا أنّ الحقّ هو في مبادئي و لا يوجد في غيرها! لا أبدًا! فهناك احتمال وجود ألف، وعشرة آلاف، بل مئة ألف مكان، وأفراد، وأناس، وجماعات، وشعوب، وشخصيّات، يدركون أفضل منّي ويفهمون أفضل منّي، لكنّي لم أصل إلى هذه الأمور، وما دمتُ على يقين بمبادئي، فإنّي مكلفٌ بأن أتّبعها. هذا هو الحال، والمسألة ليست كذلك أبدًا، فلا يُتصوّر أنّي أدّعي احتكارًا لهذا المجال ورفضًا للآخرين، وإذا قال شخص هذا الأمر، فالمسؤوليّة تقع على عاتقه هو، فرؤيتنا للموضوع هي ما ذُكِر.
لكن هناك نقطة مهمّة، وهي أنّي في حدود المعلومات التي لدي لم أجد مبادئ أفضل من هذه، هذه هي المسألة! ففي حدود إدراكي وفهمي ومعرفتي، لم أجد أفضل من هذه المبادئ التي وضعها الله تعالى لنا عن طريق الأعاظم.
الشهيد مطهّري وبحثه عن الأستاذ الكامل
اليوم، وأنا أكتب ضمن مقال وكتاب في المجلد الثاني لعنوان البصري، وصلت إلى نقطة مهمّة أردت أن أشرحها وأوضّحها قليلًا. ذكرت مقطعًا من مقدّمة رسالة "لبّ اللباب" للمرحوم العلاّمة. لقد كان الأمر مثيرًا جدًّا لي... مع أنّني قرأتها مرارًا، لكن لا أعلم لماذا كانت هذه المرة جذّابة جدًّا وأثّرت بي كثيرًا. كان يتحدّث عن المرحوم الشهيد مطهّري رحمه الله، وكان يتحدّث عن أولياء الله الذين، بعد وصولهم إلى المبادئ العلميّة والمراتب العالية في العلم، مثل المرحوم صدر المتألهين الذي وصل إلى أعلى مراتب التجرّد العقلي والكمال العقلي من حيث الفلسفة والفهم والإدراك والتجرّد العقلي، وهكذا أعاظم العلماء والفقهاء ـ فما بالك بسائر الناس الذين لا يدخلون أصلًا في المسائل العلميّة وانشغلوا بأمور الدنيا ومهنهم الدنيويّة فما بالك بهم ـ بعد قضاء فترات طويلة من الممارسة العلميّة والفقهيّة والفلسفيّة والتفسيريّة، يبدأون للتوّ في تذكّر مشاكلهم ونقائصهم وخلئهم الوجوديّ وبؤسهم وعجزهم ، ويبحثون عن حلّ من باب إلى باب، ومن مدينة إلى مدينة، يبحثون عمّن يداوي آلامهم، فإنّ أعاظم الطريقة الذين دخلوا في مسائل السير والسلوك، كان معظمهم بعد اجتياز المراتب والمراحل العلميّة، لا من البداية. فالمرحوم الآخوند الملا حسين قلي كان بعد بلوغه مقام الاجتهاد وما إلى ذلك، والمرحوم السيّد علي الشوشتري كان بعد وصوله إلى المرجعيّة والإفتاء ومقام الاستنباط، والمرحوم الشيخ مرتضى الأنصاري كان بعد حصوله على المرجعيّة وما إلى ذلك، والمرحوم السيّد علي القريشيّ كان بعد هذه الأمور، والمرحوم القاضي كان بعد هذه الأمور أيضًا! المرحوم السيّد أحمد الكربلائيّ، المرحوم... يذكر جميع هؤلاء بل بعضًا منهم، ثمّ كانت هذه الجملة مثيرة جدًّا لي، فعندما وصل الحديث إلى المرحوم الشهيد مطهّري رحمه الله قال: «إنّه بعد اجتيازه مراتب العلم والفقه والتفسير والفلسفة والتدريس والتحقيق والخطابة والبيان والتأليفات الكثيرة، بدأ للتوّ في إدراك مشاكله الداخليّة وخصوصيّاته ونقائصه الوجوديّة!» وفيما يتعلّق بهذا الطريق ووضع ثقله في حرم الولاية، فإنّ خصائص وجوده والآثار الروحيّة لهذا الطريق ظهرت فيه في شكل تجنّب أهل الدنيا، فقد كان حتّى الآن محشورًا مع أهل الدنيا، وظهرت فيه أيضًا في شكل تجنب أهل الدنيا وعالم الغرور، وفي شكل الدخول في الخلوات والجلوات والذكر والفكر ومؤانسة أولياء الله، هذه الأمور ظهرت في وجوده وفي تبدّل أفكاره وخصوصيّاته النفسانيّة.
انظروا كيف أنّ المسألة ليست مزاحًا، فعندما ذكرت هذا الأمر، قلت في ذيله: «الشهيد مطهّري رحمه الله كان من أعاظم العلم والفلسفة والفقه وما إلى ذلك، حتّى أنا نفسي درست جزءًا من فلسفة صدر المتألهين على يديه، واستفدت من كلامه.» لكن ما هذا الأمر الذي يجعله على الرغم من هذه السعة العلميّة والقوّة الفكريّة وتبيان المسائل والمشاكل الدينيّة والكلاميّة والتدقيق في المسائل الاجتماعيّة والمعرفيّة والأبعاد المختلفة للإسلام والمبادئ الإسلاميّة، يذهب إلى المرحوم العلاّمة؟! لماذا؟! فلو كان يشعر بالاكتفاء الذاتي في وجوده، فهل كان سيتّبعه عنه؟! ولو كان يشعر بالاستقلال والثبات بهذه السعة العلميّة، فلماذا كان سيتّبع المرحوم العلاّمة؟! لماذا؟! ولقد وصل به الأمر إلى درجة أنّه كان يستأذن من المرحوم العلاّمة حتّى في الالتزام بالمحاضرات في بعض الأماكن، وكنت أنا حاضرًا بنفسي عندما كان يقول: «أتأذن لي أن أحاضر في مسجد الجواد أم أترك المحاضرة هناك؟» وهل كان يكلّم أحدًا بهكذا أمر؟! وهل كان يقبل أحدًا في الدنيا؟!
هكذا عالم يأتي ويستأذن من المرحوم العلاّمة: «إذا أمرتني أن أحاضر في مسجد الجواد، فسأحاضر. وإلّا، فلا.» فقال المرحوم العلاّمة: «لا مشكلة! حاضر هناك.» أتذكّر كلّ هذا جيدًّا، كلّ هذا في ذهني.
ـ «لكن لا تذهب إلى المكان الفلاني ـ وذكر اسم المكان ـ ولا تخالط أولئك الأفراد.»
فمن الذي يقول مثل هذا الكلام؟! لقد أدرك شيئًا ولذلك أتى إلى العلاّمة! فلو لم يدرك، لما جاء. فما هي القضيّة؟! ما هو السرّ الذي جعله يجدُ هذا المكان شفاءً لآلامه، وسلوانًا لهمومه، وإزالةً لنقائصه؟!
ما هو؟! إنّه بروز وظهور الشخصيّة العرفانيّة في المرحوم العلاّمة، وبواسطتها استطاع أن يخرج نفسه من تلك الخصوصيّات ومن تلك المسائل، وهناك أمور ومسائل سأذكرها هناك إن شاء الله، إذا شاء الله. هذه هي المسألة!
حسنًا، والآن لنضع أنفسنا مكان الآخرين، مكان هؤلاء الذين يعيشون في الملذّات هنا وهناك، في هذه المدينة وتلك، يعيشون الملذّات والضحك والمجالس واللهو والترفيه وما إلى ذلك، فهل نستطيع أن نعيش مثلهم أم لا نستطيع؟! فلم يقطّع أحد أيدينا وأرجلنا! ولم يقيّدنا أحد نستطيع أن نذهب، أليس كذلك؟ فهل عقولهم أفضل منّا ونحن أقلّ ذكاءً منهم؟! كلاّ، ليس الأمر كذلك. وليس مستبعدًا أن نكون من الناحية العقليّة والإدراكيّة أفضل منهم، فمن قال إنّ عقولهم أفضل منا؟! فهل إدراكهم أفضل منّا؟! أم قوّة إدراكهم أفضل منّا؟! من قال ذلك؟! هل يفهمون المسائل بشكل أفضل؟! وهل يستطيعون حلّ المسائل الرياضيّة بشكل أفضل؟! من قال مثل هذا الكلام؟! فأولئك الأعظم الذين دخلوا عالم العرفان، من حيث القدرات العقليّة، إن لم يكونوا أعلى من البقيّة، فليسوا بأدنى منهم. في حل المسائل الرياضيّة، كان العديد من هؤلاء الأعاظم متقدّمين على أقرانهم في العالم، لا متأخّرين، وبعبارة أخرى، لم يُطرد أحد من منزله ليدخل العرفان، أو يُخرج من قريته، بل كانوا أفرادًا من أصحاب العقول المفكّرة، وكانوا في الطليعة من حيث العقول في العالم، فالمسألة ليست بالسهولة هذه، هل التفتّم! فليست عقول الآخرين أقوى.
وهل اللذة التي يشعرون يها لا نشعر بها نحن؟! كلاّ، بل نشعر بها أفضل منهم، من قال ذلك؟! يعني فقط هم يستمتعون ولا أحد آخر يستمتع؟! كلاّ يا عزيزي! هذا الكلام ليس صحيحًا. إذن، ما هذا الأمر الذي يجعل بعض الناس يختارون هذا المسار والطريق لحياتهم في هذه الدنيا؟! وبعضهم يختار هذا الجانب؟! ما هي هذه القضيّة؟! ليس هناك إلاّ أمر واحد، وهو أنّه إن كان هناك عقل، فهو في هذا الجانب لا في الجانب الآخر، وإن كان هناك إدراك، فهو في هذا الجانب لا في ذاك، ليس في ذاك الجانب.
قصة: بشر الحافي والتحوّل بكلمة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام
كان الإمام موسى بن جعفر عليه السلام يمرّ في المدينة، فسمع صوت لهو ولعب، وكان هناك شخص واقفًا بجانب الباب، يصفّق ويرقص، ففي ذلك الوقت كانت المجالس مليئة باللهو. فقال الإمام: «بيت من هذا؟» فقال: «بيت بشر» فقال الإمام: « أعبد هو أم حرّ؟» قال: «يا سيّدي، إنّه حر. انظر إلى منزله وأثاثه، إنّه حر.» فقال الإمام: «لأنّه حر يفعل هذه الأمور، فلو كان عبدًا لما فعل ذلك أبدًا.» انظروا كم هي هذه العبارة عجيبة! «لو كان عبدًا لما فعل هذه الأمور.» فعندما يذهب ذلك الشخص إلى داخل المنزل، يسأله بشر: «ماذا فعلت؟» فقال: «مرّ شخص من هنا، وسأل عن الضوضاء هنا، فشرحت له الأمر، فقال: لو كان هذا عبدًا لما فعل هذه الأمور!»۱
فأثّر هذا الكلام في نفس بشر إلى درجة أنّه ركض حافيًا خلف الإمام، كما كان في المجلس، ركض إلى حيث كان الإمام، ولذلك يقال له بشر الحافي، وترك كلّ شيء وأصبح من كبار العرفاء، وتلميذًا للمدرسة العرفانيّة.
فهل فقد بشر عقله؟! هل فقد ذكاءه؟! أم أنّه استعاد عقله للتوّ، وأدرك للتوّ أنّه كان مجنونًا، وغبيًّا، ومختلاًّ، وحائرًا حتّى تلك اللحظة؟! هنا نقول: إن كان الطريق في مكان آخر فلنقصده، حسنًا، فلنذهب ونرى.
هل تبيع معرفتك بمليارات الدنيا؟!
في يوم من الأيام، جاء أحد هؤلاء الرفقاء إلى هنا، منذ مدة، وكان يتحدث عن بعض المسائل، وعن بعض القضايا، ووصل حديثنا إلى هذا، فقلت له: «يا عزيزي، فيما يتعلق بهذه الأمور التي أدركتها، إلى أيّ حد ترى نفسك ثابتًا ومستقيمًا وراسخًا في هذه المسائل؟ إلى أيّ حد؟ فهل أنت مستعد أن يأخذوا منك هذه الأمور التي حصلت عليها، وأن يعطوك، على سبيل المثال، ثروة أحد الأثرياء المعروفين في طهران، أو في إيران، على سبيل المثال؟ افترض ثروةً كبيرة. وقل عدّة مليارات، فمن يمتلكها يعيش مرتاحًا حتّى نهاية عمره، فلنفترض هذا المقدار الآن.
في الماضي كانوا يقولون: "فلان مليونير". ـ في زمن الشاه السابق، وعندما كنّا صغارًا ـ كانوا يقولون: "فلان مليونير"، يعني أنّه لم يعد يحتاج إلى العمل. الآن المليون لا يُعتبر شيئًا أصلًا، افترض عدة ملايين، فقال: «لا! لستُ مستعدّاً، لستُ مستعدّاً.» فقلتُ: «أتتكلّم جادًّا؟» قال: «نعم، أقول هذا بجدّ. عندما أرجع إلى نفسي، أقول: لستُ مستعدًّا أن أدفع ما حصلتُ عليه في مدرسة المرحوم العلاّمة في مقابل عدّة مليارات، لن أفعل ذلك!»
حتّى لو كنتُ إنسانًا صالحًا، فأصلي وأصوم، هذا هو الحال. صلاة وصيام عاديان، هذا الإسلام الظاهري الذي يعتقده الناس، بهذا القدر. قال: «لا أقبل بذلك!»
ـ «عندما أعود إلى نفسي، أجد أن الأمر ليس هكذا.»
قلت: «لنصعّد قليلًا.» قلت: «هل أنت مستعد للتخلّي عن هذه المكانة والشخصيّة والمسؤوليّة التي يمتلكها أحد المراجع، على سبيل المثال، هذه المكاتب والأتباع والمتردّدين، وهذا الحسابات؟» (وذكرت اسمًا، افترض السيّد فلان.) «هل أنت مستعد أن تعطي ما لديك وأن يضعك جبرائيل الأمين في تلك الرتبة؟ ويغيّر مكانتك.» قال: «مستحيل.» ـ هو نفسه مطّلع، ويعلم خبايا الأمور ـ فقال: «لا، لن أعطي هذا أيضًا.» قلت: «هل تقول الحقيقة؟»
قال: «نعم، لن أعطي هذا أيضًا.» قلت: «أعلى من هذا، فلان الذي يُعرف الآن بزهدِه وتقواه وورعه ومكاشفاته المثاليّة، وعلاقاته التي يقولون عنها ولا نعلمها، وأمور أخرى معروفة ومشهورة، وله أتباع والناس تذهب إليه... .» أقصد الآن هو درجته أعلى، فهل أنت مستعد لأن تبادل مكانك بمكانه؟" قال: "لا، لست مستعدًّا لهذا أيضًا." قلت: "هاه! نحن نقترب شيئًا فشيئًا، نقترب شيئًا فشيئًا من تلك النقطة التي تجد فيها قيمتك." أنت الآن... وكان يقول الحقّ، ولم يكن يريد أن يجامل أي كان في مقام تقييم نفسه ووزنها، وأينما يجد شكًّا، يتوقّف. قلت له: "أينما وجدّت شكًّا، فقف عنده، وقل إنّ لديك نقطة...". حتى هذه النقطة، قال: "لا، لا أرى نفسي تقبل أيًّا من ذلك، أبدًا. لا الرسالة العمليّة، ولا مكاتب الإفتاء والمرجعيّة، ولا الاستفتاءات، ولا أمثال ذلك، ولا الزيارات ولا الموقعيّة الاجتماعيّة، ولا الحقوق الشرعيّة، ولا أيّ شيء آخر. لا، لن أذهب إلى ذلك، حتّى لو أعطوني مليارات وفعلوا ذلك أيضًا، لن أقبل!" فالملیارات کان لا یقبلها من البداية وهذه أيضًا قال: «لا أقبل بها» عندها قلت له: «إذن، لقد وصلت إلى مكان لا توجد فيه جاذبيّة إلّا للّه نفسه، لا المال مهم هناك، ولا الشخصيّة مهمة هناك، ولا سماحة آية الله، آية الله العظمى والكبرى، لا شيء مهم هنا، لا سعادة الرئيس والنائب وأمثال ذلك، لا سعادة فلان ومولانا العظيم الأعظم، لا شيء من هذا مهم، لا المكاشفات مهمّة، ولا الارتباطات مهمّة، ولا التنبّؤات التي قد تخالف الواقع وتكون مزيّفة، جميعها ليس مهمًّا. لا شيء مهمًّا، لا شيء، لا شيء! فقط هو نفسه مهمّ هناك، فهل أدركت ذلك أم لا؟ فاعرف إلى أين أتوا بك! اعرف ذلك لا تفوته.»
وصيّة العلاّمة الطهراني: لا ترضَ بغير الله!
قال المرحوم العلاّمة لأحد الرفقاء ـ حفظه الله، وهو رجل غيور جدًّا ومن الرفقاء ذوي الهمّة والغيرة العالية والفهم الجيّد والانتباه ـ قال له: «يا فلان! ـ في مسائل نشر آثاره، كان يبذل جهدًا في نشرها وترجمتها وما إلى ذلك ـ فقال له: يا فلان، إيّاك أن ترضى نفسك بأقلّ منه مقابل هذه الأعمال التي تقوم بها، فكل ما هو أدنى من ذلك هو خسارة لك!»
كانت هذه كلماته بالضبط، أي أنّ المرحوم العلاّمة كان يقول: «فقط ركّز على ذاته تعالى، فلو قالوا عنك: فلان يتولّى المسؤوليّة الفلانيّة، فقد خسرت. ولو قالوا عنك: سنعطيك، على سبيل المثال، هذا المقام الفلاني، فقد خسرت. ولو قالوا لك: سنعطيك المكانة الاجتماعيّة الفلانيّة، فقد خسرت. ولو قالوا لك: سنعطيك أمورًا روحيّة، كرامات وكذا وكذا، فاكتفيت بذلك فتكون قد خسرت، خسرت. أيّ شيء، سواء كان دنيويًّا أو أخرويًّا، يجب أن تقول فقط: أريد الله والسلام، لا أريد شيئًا آخر!» هذه هي المدرسة! اذهبوا وابحثوا لي عن مثل هذه المدرسة وتعالوا وأخبروني عنها، اذهبوا وابحثوا.
هل مات الله بموت المرحوم العلاّمة؟!
في الليلة الرابعة لوفاة المرحوم العلاّمة، تحدّثتُ وذكرت للرفقاء وقلتُ لهم: «أيّها الرفقاء! ـ أنا أقول من جانبي، بالطبع أنا لا شيء، ولست ذا شأن، لكنّ الرفقاء، من باب محبّتهم لي، قالوا تحدّث أيضًا ـ فقلتُ في تلك الليلة: «أيّها الرفقاء! لقد توفّي والدي، لكنّ الله لم يتوفَّ، والله هو نفسه الذي كان في ذلك الوقت، وهو نفسه الآن. فاذهبوا وابحثوا في الدنيا، وأيّ مدرسة تجدونها أقرب إلى مدرسته، فالتزموا بها، وتمسّكوا بأيّ إنسان تشعرون أنّه يمسك بأيديكم، فإن لم تفعلوا ذلك، فقد خالفتم الشرع وكفرتم بالنعمة.»
لقد قلت هذه الكلمات نفسها. فلا تظنّوا أنّ أحدًا هنا يقول إنّه يجب عليكم المجيء ـ بالطبع، كنت أقول ذلك من جانبي، ولكلّ إنسان حسابه الخاص ـ والآن أيضًا سأقول الكلام نفسه: فلنذهب جميعًا ونبحث، ولنذهب إلى كلّ مكان، فقد يكون هناك شخص قريب أو على نفس المسار، لكن هذا الاطمئنان الذي نشأ لدينا الآن تجاه هذا المكان، هذا الاطمئنان نعمة إلهيّة يندر الحصول عليها، ليست المسألة بهذه البساطة.
لماذا يغفل البعض عن نعمة الهداية؟
كثيرًا ما يأتي الرفقاء ويسألوننا سؤالًا: «حسنًا يا سيّدي، لقد فهّمنا الله، فما هو تكليف البقيّة؟»
ـ وما شأنك بوظيفة البقيَّة؟! هل أنا وكيل الله أم وليّ على الناس؟! الله أنعم عليك، فخذها واختطفها، ولا تنتظر هذا وذاك.
ـ لماذا لم يعطها للبقيّة؟!
ـ لم يعطها، فما شأني أنا بأنّه لم يعطها؟! هل أعطاها لك أم لم يعطها لك؟! أتفكّر في الآخرين؟ أتفكّر في أنّ الآخرين لا نصيب لهم؟! وما علاقة هذا بك؟! أمّا الآخرون، فليأتوا ولهم حسابهم ... ، إذا وصل الحديث إلى الآخرين، فسنُحدّثهم أيضًا. لكن أنت الذي اتّضحت لك هذه المسألة الآن، واتّضحت لك هذه النقطة الآن، فلتشكر الله الآن وامضِ، لا تتأخّر! لا تفكّر دائمًا: «لماذا إذن يا سيّدي لم يعط الآخرين؟» «لماذا من هذه النعمة التي حصلنا عليها لم يعطوا فلانًا؟ لماذا لم يعطوه؟»
هذه الكلمات هي التي تبقيك مكانك، فما شأنك بأنهم لم يعطوا فلانًا؟! فأنت جائع، وقد وُضع وعاء من الطعام والأرز أمامك، كُل! لا تنظر وتقول: «لماذا لم يعط فلان الذي في ذلك البلد؟» حسنًا، يا صاحبي، إن لم تأكل الآن، فسيأتون ويأكلون الطعام، كُل من هذا الطعام واشبع، فالله قد وضع هذا الطعام تحت تصرّفك. لقد أعطاك هذه النعمة، لقد فتح عينيك الآن على هذه الأمور.
صوفی ابن الوقت باشد ای رفیق | *** | ... |
المرحوم السيّد الحدّاد كان كثيرًا ما يقرأ هذه العبارات من حافظ.
يقول:
صوفی ابن الوقت باشد ای رفیق | *** | نیست فردا گفتن شرط طریق. |
يقول: اعلم يا رفيقي بأنَّ الصوفي ابن يومه، واعلم بأنَّ من شروط السير في هذا الطريق ترك التسويف وعدم تأجيل العمل إلى الغد.
«ابن الوقت» يعني أولئك الذين يغتنمون في كل لحظة الأمر الموافق لمصالحهم فورًا دون تأخير. كيف نحن في مسائل التجارة وأمثالها، هل نجلس مكتوفي الأيدي؟! إذا أريد إتمام صفقة، هل أقول «لماذا أُجري هذه الصفقة أنا ولا يُجريها غيري؟» أصبر قليلاً وأحسب وأستخير. لا يا سيّدي، بل أقفز وأتّخذ القرار، بل وأسرع بشدّة وأتخذ القرار فورًا وأنظّم الصفقة. لكن الآن في القضيّة العرفانيّة أتساهل. فما سبب هذا كلّه؟ إنّه كوني و كونك عاطلين، ولذا يجب أن نُقدّر هذه النعمة هنا.
نعمة التربية الإلهيّة والهداية الأخرويّة
يقول الإمام السجاد عليه السلام في هذا الموضع: «فيا من ربّاني في الدنيا بإحسانه وتفضّله ونعمه.» أي يا من علّمتني وربّيتني ونمّيتني في هذه الدنيا بإحسانك، وأعطيتني الفهم، وأعطيتني هذه البصيرة، هذه البصيرة التي ابن خالي محروم منها، وعمّتي محرومة منها ـ لا أقصد شخصًا بعينه، بل بصفة عامة ـ وكلّ أقاربي محرومون منها، أخي محروم وأقاربي محرومون منها، وشركائي في العمل محرومون، جيراننا محرومون، الناس في الشارع والسوق محرومون، أهل البلدان الأخرى محرومون.
إلهي، هذه التربية التي أنعمت بها علينا الآن، وهذه الهداية إلى الآخرة، والتي تقول لي عنها: «الآن وقد ربّيتكم في الدنيا فانتظروا عفوي ورحمتي في الآخرة.» هذان الجانبان، التربية في الدنيا، والارتقاء بالنضج العقلي والوصول إلى النضج والكمال العقلي والتجرّد الوجودي، ومن جهة أخرى البشارة برحمة الله ومغفرته ونعمه الأخرويّة، إنّ هذان الجانبان صارا «معرفتي يا مولاي»، أي جعلا معرفتي لك، وهذه المعرفة دليل لي إليك، فبما أنّني عرفتك بهذه التربية، وبهذا النضج، وبهذا الكمال، وبهذه البشارة بالآخرة وهذه الأمور، فقد صار هذا دليلي على أن آتي إليك ولا أذهب إلى غيرك، فهذه الأمور جعلتني لا أضع ثقلي في غير هذا المكان، وهذا النضج الفكري والأمور التي أراها في وجودي جعلتني أتوجّه إليك وحدك، ولا ألتفت إلى غيرك، فهذا هو السبب! ما السبب في التوجّه إلى الله؟ لأيِّ سبب؟ لما لا نتوجه إلى زيد وعمرو وبكر وغيرهم؟ ما سبب عدم توجّهنا إلى الآخرين؟ مرارًا وتكرارا كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يذكر هذه القضيّة!
قصّة: النبيّ صلّى الله عليه وآله والمشرك
في إحدى الغزوات، ذهب النبيّ صلّى الله عليه وآله ليستريح جانبًا، بجانب شجرة. فاغتنم أحد المشركين الفرصة، قائلاً لنفسه "عجيب!" رسول الله صلّى الله عليه وآله ذهب جانبًا، فجاء المشرك فورًا بسيفه وهو يقول في نفسه «الآن سننهي الأمر!» فرفع السيف ليضرب رأس النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقال: «يا محمّد، من يستطيع أن ينجيك منّي؟ من يستطيع؟» فقال النبي صلّى الله عليه وآله: «الله!» ولم يتحرّك أبدًا، رفع رأسه وقال: «الله!» هذا المشرك كان على وشك أن يضرب بالسيف ويقول: «الآن سأريك الله!» فجأة هبّت ريح فزلقت قدمه وسقط على الأرض، فالتقط النبيّ صلّى الله عليه وآله السيف بسرعة وقال: «الآن من يستطيع أن ينقذك من يدي؟» فتردّد المشرك، فقال له النبي: «قل الله!» فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله: «قد علّمتك، فلماذا لا تقول؟» فقال هو أيضًا: «الله!» فأعطاه النبيّ السيف ومشى فنطق ذاك بالشهادتين وأسلم في تلك اللحظة.
انظروا! هذا خُلق عجيب حقًّا...! عندما يرى الإنسان هذه الأمور، يكفيه أمر كهذا، يكفي لطلاّب العلوم الدينيّة، والعالم الإسلاميّ أن يرى هذه الرواية في الكتاب، وهذا يكفي لجميع حياته، وأنا حقًّا أتعجّب كيف نسمّي المعارف الأخرى في مقابل العلوم الإلهيّة علمًا؟! نسمّي الأمور الأخرى علمًا! اثنان ضرب اثنين تساوي أربعة، وثلاثة ضرب أربعة تساوي اثني عشر، فهل هذا علم؟! عجيب حقًّا!
إنّ الإنسان عندما ينظر ويرى كيف جاء أولياء الله هؤلاء، ويقدّمون الحقائق للإنسان بلا حجاب، والإنسان يخفض رأسه دائمًا ويقول: «نحن لم نرَ، نحن لم نرَ، نحن لم نرَ»... يقول الإمام السجّاد عليه السلام: «يا إلهي، أنا لم آت إليك عبثًا. لقد رأيت هذه الأمور منذ طفولتي، فقد كنتُ كذا، وكذا، وكذا، وأنت فعلت هذا، وهذا، وأدخلتني تحت تربية كهذه.»
في المسائل التي حدثت بعد زمان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه وما جرى بعده، كان كثير من الناس يطرحون هذا الأمر مرّة على الأقل: «يا سيّدي، ألم تكونوا مثلهم أيضًا؟! فكيف أصبحت تفهم هذه الأمور؟!» قلتُ لهم: ﴿ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ﴾۱ نحن نفهم فعلينا أن نعمل، أما البقيّة فلا نعلم ما هي حالهم، وكلّ إنسان له وظيفة ومسؤوليّة، ولا شأن لنا بأحد، فنحن أصلًا لا شأن لنا بأحد، ونحن الذين نفهم علينا أن نعمل، ولا شأن لنا بأحد. وعندما يفهم الإنسان شيئًا، فهذه منَّة إلهيّة قد شملته، ولطف إلهيّ قد أصابه. نعم، بالطبع يجب أن يدعو بأن يشمل هذا اللطف الجميع أيضًا، وأن يستفيد الآخرون من هذه النعمة، ولكن لا ينبغي أن يتوقّف عند هذه القضيّة ويقول: «لماذا لم يحدث تغيّر هناك؟ وهناك؟ وهناك أيضًا؟» يا صاحبي، نصيبك قد جاءك، فخذه وامضِ، ولا تتأخّر. هنا يرى الإنسان جميع الأبواب مغلقة أمامه، ويرى بابًا واحدًا فقط مفتوحًا، وهو باب عالم الرَّوح والريحان، وعالم التجرّد، وعالم الولاية، ويرى جميع العوالم مغلقة أمامه، ولا يرى عالم مفتوحًا سوى عالم الطمأنينة والسكون وعالم الأُنس، ويعتبر كلّ الاتكاءات باطلة وخياليّة، ويعتبر الاتكاء الحقيقيّ هو هذا فقط.
قصّة: الصديق الذي ابتعد عن الطريق
كان لدينا رفيق وصديق في مرحلة الدراسة، وكان قويًّا جدًّا، ومجدًّا، وجادًّا، وكان يقول لي مرارًا: «يا سيّدي، فلنفعل شيئًا آخر، عملًا آخر، بعبارة أخرى، لنبدأ مشروعًا جديدًا، ونأتي ونفعل كذا ونذهب وننشغل بهذه الأمور المعاصرة، لننصرف إلى أعمال خارجة عن نطاق شؤون طلبة العلم.» ـ فقد كان طالب علم ـ «لنذهب ونقوم بهذا العمل، ولنذهب إلى هناك ونقوم بهذا العمل.» فرأيت أنّ هذا الطالب بدأ يخرج شيئًا فشيئًا عن إطاره الفكري ومسائله الخاصّة، فنصحته قليلًا وقلت له: «يا عزيزي أعطاك الله تعالى موهبة، ويجب أن تستغلها في طريقها الصحيح، وأنت الآن تسير في طريق خاطئ، وتفعل كذا.» فرأيت: أنّه لا يريد أن يلتزم بهذه الأمور، وبعد ذلك، حصلت أمور أخرى، ولم يمضِ إلاّ قليل من الوقت على وفاة المرحوم العلاّمة حتى ابتلي فجأة، ابتلي وانتهى، انتهى الأمر، وأُغلق الملف. فهل عالم التقديرات بيدنا؟! وهل نعيّن وظائف للّه؟! هل نعيّن له وظائف؟!
چو باید سرانجام برِ خاک رفت | *** | خوشا آن که پاک آمد و پاک رفت |
يقول:
مادام الرجوع إلى التراب هو المآل *** فطوبى لمن أتى طاهرًا ومضى طاهرًا
المهمّ هو أن يستفيد الإنسان من هذه البصائر التي أنعم الله بها عليه، وأن يأخذها ويتابعها ويتبعها، وألا يتركها، وألا يتهاون بها، وألا يعتبرها عبثًا، وألا يتجاوز أيّ شيء. فبقدر ما عمل، فقد فاز وحقّق النتيجة، وبقدر ما لم يعمل، فقد خسر هو نفسه!
ره چنان رو که رهروان رفتند | *** | ... |
يقول: سر في الطريق كما سار السالكون
إن شاء الله، نأمل أن يوفّقنا الله تعالى للبصيرة في الأمور والعمل بمقتضاها، وأن نصرف هذه الأيّام القليلة من عمرنا التي وهبها لنا في سبيله، لا في تلك الأمور العاديّة والباطلة التي يبتلى بها الجميع.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.