المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمرأة والأسرة
المجموعةالمرأة والأسرة - طهران
التاريخ 1422/02/09
التوضيح
ما هو الدِّينُ الحَنيفُ وما علاقتُهُ بالفطرةِ الإنسانيَّةِ؟ كيفَ تكونُ آدابُ مجالسِ الذِّكرِ وأهميَّةُ الحضورِ القلبيِّ فيها؟ كيفَ يؤثِّرُ الانشغالُ بأحوالِ الآخرين والفضولُ سلبًا على مسيرةِ السالكِ؟ ما هو دورُ الوليِّ الإلهيِّ في الإرشادِ؟ وما هو السبيلُ الأمثلُ لسيرِ المرأةِ نحو الكمالِ ضمنَ إطارِ الفطرةِ الإلهيّةِ؟
تُجيبُكَ هذه المحاضرةُ لسماحةِ آيةِ الله السيِّد محمد محسن الحسيني الطهراني (قدّس سرّه) عن هذهِ الأسئلةِ وغيرها، مُستعرضةً تجاربَ وقصصًا عن كبارِ العرفاءِ كالعلامةِ الطباطبائيِّ والسيِّد القاضي والسيِّد هاشِم الحدَّاد ووالدِهِ العلامة الطهراني (رضوانُ اللهِ عليهم أجمعين).
هو العليم
اتباعُ الدِّينِ الحَنيفِ المُوافِقِ للفِطْرَةِ الإلٰهِيَّةِ
الانْشِغَالُ بِالآخَرِينَ والغَفْلَةُ عَنِ النَّفْسِ
المرأة والأسرة - طهران - الجلسة العاشرة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدس الله سرّه
أعوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَىٰ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدٍ
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ
وَعَلَىٰ آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
وَاللَّعْنَةُ عَلَىٰ أَعْدَائِهِمْ أَجْمَعِينَ
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ۱
قبل أن أبدأ بالحديث الذي أردتُ أن أتكلَّم فيه والذي يُعتبر مكمِّلًا للكلام السابق، أردتُ أن أُذكِّر بشكلٍ مختصرٍ بشأن مجالس الذِّكر التي كان المرحوم العلامة رضوان الله عليه يهتمُّ بها فيما مضى اهتمامًا بالغًا.
توصيات تتعلَّق بمجالس الذِّكر
يجب تركيز الذهن في المجلس المخصَّص لذكر الله على موضوع المجلس فقط، فإنْ شَغَلَ الإنسانُ ذهنَه بغير ما يتضمَّنه هذا المجلس من برنامج، فسيؤدِّي هذا الانصراف الذهني إلى حرمان الإنسان من النتيجة المتوخَّاة، وهذا أمرٌ مهمٌّ للغاية.
فعلى سبيل المثال؛ كان المرحوم العلامة يقول عن زيارة المقابر وعن كيفية الاستفادة من ذلك الجوّ الملكوتي للأرواح وأخذ العبرة من الموتى، كان يقول: مَنْ يَزُرِ الْمَقْبَرَةَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ، ثُمَّ يَجْلِسَ جَانِبًا وَيُمْضِيَ وَقْتَهُ فِي حَالٍ مِنَ السُّكُوتِ.
إنَّ ما أراد المرحوم العلامة أن يقوله هنا هو: إنَّ حال الإنسان يقتضي منه وفي كلِّ مناسبةٍ أن يقوم بعملٍ معيَّن؛ ففي بعض الأحيان عليه أن يشتغل بقراءة القرآن، وعليه في أحيانٍ أُخرى قراءة الدعاء، كما أنَّ عليه في بعض الأحيان القيام بالصلاة، وفي ظرفٍ من الظروف، لا ينبغي له أن يأتي بأيٍّ من هذه الأعمال، بل عليه أن يجلس ساكتًا في زاويةٍ، فإنَّ للصمت في مثل ذلك الظرف تأثيرًا خاصًا وسيعمل على قطع التعلُّقات.
أي إنَّه لو أراد أحدٌ أن يبدأ بقراءة الأدعية الواردة في كتاب مفاتيح الجنان من أوَّلها إلى آخرها، فلن يجني من عمله هذا أيَّة نتيجة، إذ إنَّ كلَّ شيءٍ يكون مستحسنًا في وقته الخاصّ به؛ فمع أنَّ تلك الأدعية مرويَّة عن الأئمّة عليهم السلام، ومع أنَّنا لا نمتلك ما هو خيرٌ من القرآن الذي هو كلام الله، غير أنَّ لقراءة القرآن هذه وقتها الخاصّ بها، فلا يمكن قراءته في أيِّ مكان، إذ إنَّ قراءة القرآن مكروهةٌ في بعض الأماكن مثل الحمَّام، أو في المكان الذي تبعث فيه القراءة على إيذاء الآخرين.
إنَّ السلام على الآخرين مستحبٌّ، وردُّه واجبٌ، لكنَّه على الرغم من شدّة التأكيد عليه، نرى كراهته في بعض الموارد؛ فيُكره السلام عند الدخول إلى الحمَّامات العموميَّة -التي كانت منتشرةً سابقًا- حيث يكون كلُّ إنسانٍ مشغولًا بنفسه فيها، كما يُكره السلام على المصلِّي، وإنْ كان ردُّ هذا السلام واجبًا. ويُكره السلام عند دخول مجلسٍ فيه متحدِّثٌ. يُلاحَظ كيف يُسلِّم البعض في مثل هذا الحال، مع كونه مكروهًا وليس مستحسنًا؛ وذلك لكون المتكلِّم متسلسلًا في كلامه الآن، ويريد أن يصل إلى نتيجةٍ من كلامه، كما أنَّ المستمع يتابع من أجل فهم الموضوع، فيأتي هذا السلام ويعمل على حصول توقُّفٍ مؤقَّت، لذا يكون السلام في مثل هذا الحال مكروهًا.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى مجلس الذِّكر، فليس من الصحيح أن يُسلِّم الواردُ إلى المجلس، بل ينبغي له أن يبحث له عن مكانٍ خال ويجلس فيه دون أن يُسلِّم.
أتلاحظون كم تتطلَّب رعاية هذه الأمور الظريفة وهذه النِّكات في مسير التربية الإلهية الكثيرَ من الدقّة والأهمية؟
كان السيّد القاضي رضوان الله عليه متواجدًا مع جمعٍ من أصدقائه في مجلس ذكر، وكان الحديث يدور حول ضرورة تحصيل ما يوجب تمركز الذهن، وكيف أنَّه لا ينبغي أن يشغل الإنسانُ فكرَه بمسائل متفرِّقة، ولا ينبغي التكلُّم مع أيِّ إنسانٍ قبل دخول المجلس، ولا أن يشتغل في ذلك اليوم بالأمور الدنيويّة؛ إذ إنَّ تلك الأحاديث التي تجري بين الطرفين تترك تأثيرًا معنويًّا سيئًا، ولربما ينتقل مثل هذا الأثر إلى المجلس ويؤثِّر على المتواجدين فيه. وفي هذه الأثناء التي كان السيّد القاضي رضوان الله عليه يتكلَّم فيها، حَصَلَ صوتُ طرقة؛ كأن يكون أحدُهم قد ضرب على النافذة، ممَّا جعل الجميع ينتبهون لذلك الصوت، فقال السيِّد القاضي: إِنَّ لِهَٰذَا الصَّوْتِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ الْآنَ ضَرَرًا عَلَيْكُمْ، فَلَرُبَّمَا كان هُنَاكَ حَالٌ مَعْنَوِيٌّ فِي حَالِ النُّزُولِ عَلَىٰ إِنْسَانٍ وَبِمُجَرَّدِ انْصِرَافِ الذِّهْنِ نَحْوَ ذَٰلِكَ الصَّوْتِ وَلَوْ بِمِقْدَارِ طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَسَيُؤَدِّي ذَٰلِكَ إِلَىٰ انْقِطَاعِ ذَٰلِكَ الْفَيْضِ، أَمَّا مَتَىٰ يُمْكِنُ لِهَٰذَا الْحَالِ أَنْ يَعُودَ مُجَدَّدًا، فَذَٰلِكَ أَمْرُهُ بِيَدِ اللَّهِ.
يوجد الكثير في هذا المجال ممَّا قد سمع الجميع به أو قرؤوا عنه في الكتب. بناءً على هذا فمن المستحسن جدًا أن يقتصر الحديث في مجلس الذِّكر على ما يُطرَح في ذلك المجلس فقط، ولا يُتداوَل أيُّ حديثٍ غيره؛ فلا يحصل في هذا المجلس غير قراءة القرآن وإجراء البرنامج الموصى به، ولا يُخاض في أيِّ برنامجٍ آخر حتّى وإن كان برنامجًا إلهيًّا ومعنويًّا، فلتُطرح مثل تلك الأمور خارج نطاق المجلس.
وكان المرحوم العلامة يشدِّد كثيرًا على ضرورة أن يقلِّل الحاضرون في ذلك المجلس من كلامهم في ذلك اليوم أو تلك الليلة، وعليهم أن يقلِّلوا من ارتباطهم مع الآخرين، كي يمكن للمجلس أن يترك أثرًا عليهم، وهذا أمرٌ واقعيٌّ، أي إنَّه ليس بيدي ولا بأيديكم.
إنْ أراد أحدُكم أن يشرب هذا الماء، فسيعمل ذلك على إرواء عطشه، أمَّا إنْ أضاف بعض الملح إليه وشربه، فسيؤدّي ذلك إلى زيادة العطش، فلا يمكن القول هنا بأنَّ كلا المائين ماء، بل سيعمل الملح على زيادة العطش، بينما يعمل الماء على إروائه. هكذا هو نظام التكوين، ويعمل نظام التشريع على أساس نظام التكوين.
ما هو معنى الدِّين الحنيف؟
إنَّ معنى الآية التي قُرئت في بداية الحديث والتي تقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}۱ هو أن تتوجَّه بوجهك ووجهتك وبرنامجك صوب الدِّين الحنيف. فما هو هذا الدِّين الحنيف؟ إنَّه الدِّين المبنيُّ على أساس الكيفية التكوينية لخَلْق الإنسان؛ فهذا هو ما يُسمَّى بالدِّين الحنيف.
فقد خلق الله النفس الإنسانية بشكلٍ خاصٍّ، وجعل لها قابليّة الرُّشد والتكامل، وشرَّع الدِّين على هذا الأساس، أي إنَّ الله جعل القوانين مبنيَّةً على أساس هذه القابليّة. إنَّ جعل القوانين سيكون مفيدًا متى تطابق مع قابليّة الإنسان تلك، فإن لم يتطابق، فلن يحول دون تكامل الإنسان وحسب، بل وسيبعث على الخُذلان أيضًا.
إنَّ قابليّة النفس تُشبه القابليّة الجسميّة؛ فللبدن قدراتٌ مختلفةٌ؛ من قبيل قدرة الدِّفاع وقدرة الجذب؛ حيث يجذب الجسمُ من الموادِّ ما فيه مصلحته، وله قدرة التكاثر، وقدرة الصحّة والسلامة التي يُعبَّر عنها بالمِزاج؛ فعلى الإنسان أن يفعل كلَّ ما من شأنه المحافظة على الاعتدال المِزاجي، ولا يعمل بخلاف ذلك؛ فعلى سبيل المثال، درجة حرارة جسم الإنسان هي سبعٌ وثلاثون درجةً، فعلينا أن نحافظ عليها عند هذا الحدِّ ولا نتجاوزه، وكذا الأمر بالنسبة إلى الرئة التي تحتوي على الحويصلات الرئوية التي تعمل على أخذ الأوكسجين من الهواء الداخل إلى الرئة ونقله إلى بقية الخلايا لأجل أن تتمَّ عملية الاحتراق الغذائي. إنَّ الحويصلات الرئويّة تعمل ضمن درجة حرارة سبعٍ وثلاثين، فلا يجوز لنا أن نقوم بعملٍ يؤدِّي إلى الإخلال بهذا التوازن الحراري؛ فلو أنَّ أحدَكم شَرِبَ الشاي الساخن أو أنَّه جعل الرئة ساخنةً ثمَّ شَرِبَ بعدها ماءً باردًا، فسيؤدِّي ذلك إلى حصول أكياسٍ في الرئة، لماذا؟ ذلك بسبب حصول اختلالٍ مفاجئٍ في نظام الجسم؛ فتتبدَّل الحويصلات الرئوية إلى أكياس. ويحصل الاختلال عند حصول عكس ذلك أيضًا.
ولهذا السبب جاء في الروايات أنَّ «الْمَاءَ الْبَارِدَ ضَارٌّ لِلْمَعِدَةِ» ؛۱ حيث ستحصل ردَّةُ فعلٍ للمعدة تجاه هذا الماء البارد ويؤدِّي ذلك إلى اختلال نظام عملها. فإن قمنا بمراعاة هذه الأمور، سنكون قد حافظنا على صحَّتنا وسلامتنا،وإلَّا، فسوف نمرض.
وهكذا الحال بالنسبة إلى المسائل النفسيّة؛ فقد وضع الله طريقًا لتكامل النفس. لو كانت لنا القدرة على إجبار الله على تغيير ذلك، لكان هذا أمرًا آخر، غير أنَّ هذا ممتنعٌ؛ فالطريق الذي رسمه الله لتربية النفس ورُشدها هو طريقٌ غير قابلٍ للتغيير؛ ولا يمكن تبديله لا بواسطة النبيِّ صلّى الله عليه وآله ولا الإمام عليه السلام ولا أيِّ إنسانٍ آخر، ولا بواسطتي أنا ولا أنتم. فكما أنَّ صحة وسلامة البدن ليست بيد أحدٍ، بل هي أمرٌ تكوينيٌّ، فهكذا المسائل النفسية؛ هي من هذا القبيل.
يقول الله تعالى في الآية: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} إنَّ هذه الفطرة التي وضعها الله في الإنسان، وهذه الكيفية الوجودية والاستعدادية التي جعلها الله في بني البشر، هي بإرادة الله واختياره؛ فالله قد فطر الإنسان على هذه الفطرة؛ ولهذا يقول الله: هناك فطرتان وهما: الفطرة الأولى والفطرة الثانية؛ فالفطرة الأولى هي عبارةٌ عن ناموس عالَم الوجود وحقيقته، والذي هو عبارةٌ عن الحقِّ المطلَق والنور المطلَق الذي هو وجود الله الممتلئ فيضًا والفيَّاض، فهذه هي الفطرة الأولى والتي تعني أنَّ وجود الله هو الحقُّ المَحْض، وأنَّ آثار الله وصفاته هي الحقُّ المَحْض، وأنَّ الرَّشَحات الوجودية لله هي حقٌّ مَحْض؛ فكافَّة أسماء الله وصفاته وكافَّة هذه الآثار الوجودية تدور حول محور ذات الله، فهذه هي الفطرة الأولى. وعلى هذا الأساس خُلِقَت الفطرة الثانية والتي هي الفطرة البشرية؛ فلمَّا كان الله يمتلك اسم الرحيم، فإنَّ للإنسان اسم الرحيم أيضًا، ولمَّا كان للّه صفة العطف، فالإنسان كذلك، ولمَّا كان للّه آثار العلم وله قدرةٌ، فكذلك الإنسان. إنَّ الله قد جعل كافَّة خصائص أسمائه وصفاته في هذه النفس بشكلٍ مُجملٍ، ولأجل الوصول إلى تلك الفطرة الأولى التي هي عبارةٌ عن الحقِّ المَحْض، جعل الله الشرائع.
خطأ نظريّة بعض المتكلِّمين حول جزافيّة التكاليف الإلهيّة
يعتقد بعض المتكلِّمين بإمكانيّة وجود عملٍ يستطيع تقريب الإنسان إلى الله غير أنَّ الله لم يأمر به بل نهى عنه؛ وذلك لكونه هو الخالق والأمر يعود إليه؛ فقد يقول أريد هذا الشيء أو لا أريد ذاك، وأنا الذي أختار هذا الأمر أو لا أختار ذاك على الرغم من أنَّه يوصل الإنسان إلى هدفه.
إنَّ مثل هذا الكلام مردودٌ بأدلّةٍ عديدةٍ، أحدُها: إنَّ عمل الله ليس مِزاجيًّا، ولا نفسانيًّا. إنَّنا وعندما نقول: أريد هذا ولا أريد ذاك، فعلى أيِّ أساسٍ يُبنى هذا الأمر؟! إنَّه إمَّا أن يكون مبنيًّا على أساس الواقع؛ فعندما يكون شيءٌ ما مضرًّا للطفل، فالإنسان يمنعه منه. على أيِّ أساسٍ يُبنى هذا المنع؟ إنَّه يُبنى على أساس أمرٍ واقعيٍّ؛ فلمَّا كان مبنيًّا على أساس الواقع، فلا بدَّ من منع الطفل منه ولا يجوز وضعه في متناول يده، وإنْ لم يكن هناك ضررٌ في واقع الأمر عليه، بل قد يكون مفيدًا له، فبأيِّ أساسٍ يُمنع منه؟ فسيكون الداعي وراء المنع في مثل هذه الحالة داعيًا نفسيًّا. أتلاحظون؟! إنْ كان هنالك أمرٌ نراه مفيدًا لنا في واقع الأمر، ولا يوجد دليلٌ عقليٌّ أو منطقيٌّ على خلاف ذلك، ونرى فيه خيرَنا وصلاحَنا، فبأيِّ مِلاكٍ ولِحاظٍ نعمل على تركه؟
إنَّ الله لا ينهى عن القيام بشيءٍ على أساس الحبِّ والبُغض وذلك لعدم وجود نفسٍ له ولا أنانيّة له كما هوحالنا، فالكبرياء والعظمة مختصَّةٌ به وليس لنا نصيبٌ منها، فلماذا نقوم هنا بوضع أقدامنا في مكانٍ لا يليق بنا، ونعمل على التدخُّل فيما هو من اختصاص الله؟ إنَّ ذلك غير مسموحٍ به حتّى للنبيِّ صلّى الله عليه وآله.
ومن عجائب ما جاء في القرآن المجيد بيانُ الله تعالى لموضوع التوحيد في القرآن بالشكل الذي لا يدع مجالًا لأحدٍ بالتفكير.
سعة رحمة النبيّ صلّى الله عليه وآله حتّى تجاه ألدِّ خصومه وأعدائه
هل تعرفون أحدًا هو أشرفُ مقامًا من النبيّ صلّى الله عليه وآله؟! إنَّه أشرفُ جميع المخلوقات، وكلُّ عالَم الوجود في خدمته، ومع هذا، فعندما ضايقوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وجعلوه يلجأ إلى الجبال، وضربوه بالحجارة وأدموا قدميه ووجهه، وقامت قريش بتجنيد أطفالها من أجل إيذائه، الأمر الذي جعله يلجأ إلى الجبال، جاءه جبرائيل عليه السلام في مثل هذا الموقف وقال له: إِنَّ اللَّهَ يُقْرِؤُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: لَقَدْ وَضَعْتُ كَافَّةَ قُوَى الْعَالَمِ تَحْتَ تَصَرُّفِكَ؛ فَالرِّيَاحُ وَالْأَرْضُ وَالصَّوَاعِقُ جَمِيعُهَا تَحْتَ تَصَرُّفِكَ. ما الذي كنَّا سنفعل لو وُضِعَت تحت تصرُّفنا واحدةٌ من هذه القوى؟ كنَّا سنقلب الدنيا رأسًا على عَقِب! قال الله للنبيّ صلّى الله عليه وآله: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْعُوَ عَلَىٰ قَوْمِكَ، فَافْعَلْ. ما الذي فعله هذا النبيُّ صلّى الله عليه وآله الذي جعل الله كافَّة تلك القوى تحت تصرُّفه؟ إنَّه قال: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»۱. إنَّ لسان حال النبيّ صلّى الله عليه وآله يقول: ما دمتُ مخوَّلًا في الاستفادة من هذه القدرة التي منحني الله إيَّاها، فلماذا لا أستغلُّها في الخير؟ إنَّه أمرٌ مهمٌّ جدًا.
لاحظوا الفرق بين الأنبياء عليهم السلام وغيرهم من الناس، بل وبين نبيِّنا صلّى الله عليه وآله وغيره من الأنبياء عليهم السلام، ولاحظوا الفرق بين إمام الزمان عليه السلام وبين أمثالنا من الناس العاديّين. إنَّ الفرق يتمثَّل في أنَّ الإمام عليه السلام ينظر إلى الأمر من منظارٍ توحيديٍّ؛ ويرى كلَّ شيءٍ من الله؛ فهو يقول هنا: إنَّ مَنْ وضع تلك القوى تحت تصرُّفي، فهو المالك لها، وهو العالم بما يجب أن يفعل، فلماذا أتدخَّل أنا في الأمر؟! فها هو يرى ما الذي يحصل، فما الذي سأفعله أنا هنا؟ هذا هو الفرق بين النبيِّ صلّى الله عليه وآله وبين سائر الأفراد، وهذا هو الإنسان المؤهَّل للنبوّة ولحمل الرسالة، وهذا الأمر هو الذي جعل من إمام الزمان عليه السلام إمامًا.
أمَّا بالنسبة لي، فأنا لستُ كذلك، وذلك لكوني غارقًا في النفس، وأريد أن أجعل الأمور تجري وفقًا لمصلحتي؛ فلو واجهتني قضيّةٌ ما في حياتي اليومية، فأنا أسعى لكي أجعل الأمور تجري من أجل تحقيق الوضع الذي يناسبني، حتّى وإن أدّى ذلك إلى ظلم غيري، وإن واجهتني مشكلةٌ في حياتي، فأنا أسعى إلى إيجاد حلٍّ لها وإن كان ذلك على حساب إلحاق ضررٍ بإنسان آخر، أمَّا الإمام عليه السلام، فهو لا يفكِّر بمثل هذا الطِّراز من التفكير، بل نراه يقول: إن واجهتني مثل هذه المشكلة، فليكن ذلك، فقد حلَّت عليَّ أنا مثل هذه المشكلة، فلماذا أُحمِّل ضررها لغيري؟ كلَّا، لا ينبغي أن يحصل مثل هذا الشيء. إنَّه ينظر إلى الموضوع من منظارٍ توحيديٍّ.
قد يَلحَق بالإنسان ضررٌ في حياته في وقتٍ من الأوقات، ولا يحصل مثل ذلك في غيره من الأوقات، وقد يواجه أحدٌ مشكلةً مرَّةً، ولا يحصل في مرَّاتٍ أخرى، فلا يتصرَّف العظماء بالشكل الذي يجعل جميع الأمور تجري بما يصبُّ في مصالحهم. يعاني الكثير من العظماء من اختلافاتٍ في حياتهم العائلية، ولا نراهم يسعون إلى حلِّها بالطرق غير المعتادة، كما يعاني الكثير منهم من مشاكل معيشيّة.
معاناة السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه من شظف العيش مع قدرته على رفعه بالوسائل غير المعتادة
نقل والدُنا رحمه الله عن السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه أنَّه كان يعاني من شظف العيش لمدّة اثنتي عشرة سنةً في فترةٍ من الفترات؛ ذلك الإنسان الذي نعتقد نحن بأنَّه قادرٌ على فعل أيِّ شيءٍ، بل وذلك ممَّا رأيناه بأعيننا سوى ما سمعنا به عن مثل هذه الأشياء؛ فقد كان قادرًا على كلِّ شيءٍ، غير أنَّه لم يكن يحاول أن يزيغ عن النظام والتقدير الإلهي ذات اليمين أو ذات الشمال، فلو فعل مثل ذلك لخَسِر. لعلَّ حياته المادية ستتحسَّن، ولعلَّ بعض الأمور ستتغيَّر، غير أنَّ الأمر المهمَّ هو أنَّه سوف يخسر.
وهذا هو النهج الصحيح. إنَّ المدرسة المبنيَّة على أساس جعل حركة الإنسان الفطرية ترتكز على التوحيد، هي المدرسة الصحيحة.
إنَّ الله يقول في القرآن عن النبيّ صلّى الله عليه وآله الذي لا يوجد مَنْ هو أعلى منه، يقول: يا أيُّها الناس: لا تتصوَّروا أنَّ هذا النبيَّ صلّى الله عليه وآله، ولمَّا كان هو خاتم الأنبياء، ولمَّا كان هو أعظم من جميع الأنبياء والمرسلين وهو أشرف الكائنات-إنَّ كلَّ ذلك صحيحٌ ومحفوظٌ في محلِّه- ولكن لا تتصوَّروا بأنَّه يرى في ذلك منقبةً له، فيتفاخر به على الآخرين، ويقول: لقد تُوِّجتُ بتاج الرسالة، وصرت صاحب ولاية على جميع العالم وكذا وكذا، كلَّا، ليس الأمر هكذا، بل إنَّنا نرى الله يقول عنه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ٤٤ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ٤٥ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ٤٦ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ٤۷}۱، أي لو أنَّه غيَّر في الكلام، فزاد أو أنقص كلمةً منه من عنده، ولو أنَّه نسب كلامًا واحدًا لي [لم أقله]، لضغطتُ عليه بقدرتي ولقطعتُ عِرْقَ رقبته؛ إنَّ الوَتين يعني عِرْق الرقبة، والذي هو عِرْق النُّخاع؛ أي: لقطعتُ له عِرْقَ رقبته، ولطرحتُه أرضًا كالميِّت، حيث لا يستطيع أيُّ أحدٍ الوقوف بوجه إرادتي. وهذا من إعجاز القرآن.
إنَّ أهمِّيَّة الإسلام تكمن في هذا الأمر أساسًا؛ ولقد قَبِلنا الإسلام من أجل ما جاء فيه من الخصائص؛ فلا يستطيع أيُّ إنسانٍ أن يقف في وجه إرادة الله، ولا يستطيع أيُّ أحدٍ أن يستعرض عضلاته أمام قدرة الله. فإنْ كان الله يقول ذلك الكلام بحقِّ رسوله صلّى الله عليه وآله، فسيعرف الآخرون مصيرهم.
إنْ تحقَّقت متطلَّبات الفطرة، فسوف يتمكَّن الإنسان من الوصول إلى الفطرة الأولى، أمَّا إنْ عمل بخلاف ذلك وأراد أن يزيد أو ينقص من عند نفسه ويعمل على تبديل الكلام ليجعله يصبُّ في مصلحته، ويعمل على تغيير مجرى الأحداث بهذا الاتِّجاه أو ذاك، فمَنْ سيكون المتضرِّر؟ إنَّه هو الذي سيتضرَّر. كيف سيحصل ذلك؟ لأنَّنا وفي كلِّ خطوة نبتعد فيه عن الفطرة، نعمل بنفس هذا المقدار على إغلاق بابٍ للسعادة في وجوهنا.
فلمَّا كان الأمر كذلك، فها هو ميدان السِّباق مفتوحٌ! فكم يمكننا أن نُعمَّر في هذه الدنيا؟!
نصيحة الإمام السجَّاد عليه السلام لشخصٍ جاء إليه يشتكي حاله
جاء في إحدى الروايات أنَّ إنسانًا جاء إلى الإمام السجَّاد عليه السلام يشتكي حاله، فنصحه الإمام عليه السلام؛ غير أنَّ الإمام عليه السلام اختار له نصيحةً بنَّاءةً، فلم يقل له الإمام: لا بأس بما حصل لك وعليك أن تصبر، وسيمنحك الله الأجر على ذلك، فيقتنع الرجل ويقول سأصبر، وسيكتب الله لي الأجر في صحيفة أعمالي، وما شابه ذلك، بل قام الإمام بإصلاح الأمر من جذوره، فقال له: مَا الَّذِي تَقُولُهُ يَا رَجُلُ؟ أَجِئْتَ تَشْكِي حَالَكَ؟! إِنَّكَ مُبْتَلًى بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ، يَكْفِيكَ أَنْ تَشْتَغِلَ بأَيِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ مَنَحَكَ عُمْرًا، كُلَّمَا نَقَصَ مِنْهُ يَوْم، فَسَوْفَ لَنْ تَسْتَعِيضَ بِهِ شَيْئًا. إِنَّ أَمْسَنَا قَدْ ذَهَبَ، وَنَحْنُ لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُعِيدَهُ؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ لِنَرَىٰ كَيْفَ أَمْضَيْنَاهُ، فَهَا هُوَ قَدْ مَضَىٰ! إِنَّ لِلْوُجُودِ حِصَصًا خَاصَّةً بِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِهِ، وَهَٰذِهِ الْحِصَّةُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْعَوْدَةِ إِنْ مَضَتْ؛ قَدْ يَتُوبُ الْإِنْسَانُ عَمَّا ارْتَكَبَهُ مِنْ ذَنْبٍ فِيهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ اسْتِرْجَاعَ تِلْكَ الْحِصَّةِ، فَهِيَ قَدْ مَضَتْ. لَقَدْ مَضَىٰ مِنْ عُمْرِكَ يَوْمٌ، هَٰذَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي مَا يَكُونُ النَّاسُ فِي هَمٍّ وَغَمٍّ تِجَاهَهُ هُوَ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ. إِنَّ الدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَوَّضَا، أَمَّا هَٰذَا الْيَوْمُ فَقَدْ ذَهَبَ، وَهُوَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْعَوْدَةِ. أَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي وَالَّذِي هُوَ أَهَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ فَهُوَ: إِنَّكَ تَمْضِي أَيَّامَ حَيَاتِكَ الْآنَ وَهَا أَنْتَ تَقْتَرِبُ مِنَ الْآخِرَةِ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي هَلْ تَقُودُكَ خُطُوَاتُكَ هَٰذِهِ الَّتِي تَخْطُوهَا إِلَى الْجَنَّةِ أَمْ إِلَى الْجَحِيمِ؟! هَلْ تَعْلَمُ ذَٰلِكَ؟ ۱هل فكَّرنا بهذا الموضوع واقعًا لنرى هل أنَّ هذه الأعمال التي نقوم بها توصلنا إلى الجنَّة، أم أنَّها تقودنا في الاتِّجاه المغاير؟ فالأمر يختلف كثيرًا.
كيف كان يعيش العلَّامة الطباطبائي رحمه الله في النجف؟
كان المرحوم العلامة رضوان الله عليه يقول: عِنْدَمَا كَانَ الْعَلَّامَةُ الطَّبَاطَبَائِيُّ يَسْكُنُ النَّجَفَ، كَانَ يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ عِنْدَ ذَهَابِهِ إِلَى الْمَدْرَسَةِ وَعَوْدَتِهِ مِنْهَا، وَكَانَ هَٰؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ يَنْتَقِدُونَهُ وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَٰذَا السَّيِّدَ يَحْنِي رَأْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَىٰ هَٰذَا الْجَانِبِ أَوْ ذَاكَ، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَىٰ هَٰذَا وَذَاكَ. أرأيتم كيف يتلفَّت البعض وهم يسيرون في الشارع إلى هذا الجانب وذاك ليرى مَنْ يأتي ومَنْ يذهب؟ إنَّ مثل هؤلاء الناس أناسٌ مشتَّتو الذهن، ومثل هذا التصرُّف مضرٌّ جدًا للسالك.
إحدى الأمور المضرّة بالسلوك: مراقبة أفعال الآخرين وحديثهم
خطرت هذه المسألة ببالي الآن وهي: إنَّ أحد الأمور التي تضرُّ السالك هو أن يقوم بالتفحُّص عمَّا يتحدَّث به اثنان من الأشخاص المتواجدين في أحد المجالس التي يحضرها؛ فعندما يكونان يتحدَّثان في ذلك الجانب من المجلس، ويكون هو جالسًا في هذا الجانب، فما علاقتك بما يتحدَّثان به؟ إنَّ تشتيت الانتباه والتركيز على ما يجري من حديثٍ بين الآخرين يترك أثراً سيّئاً على نفس الإنسان، فعلى السالك أن يهتمَّ بنفسه، فعندما يكون هناك اثنان يتحدَّثان مع بعضهما بصوتٍ منخفضٍ، فهذا يعني أنَّ لديهما ما يعنيهما، وإلَّا لتكلَّما بصوتٍ مرتفعٍ، هذا أولًا، وثانيًا، فالاطِّلاع على أسرار الناس وما يُطرَح بينهم من مواضيع قد يكون أمرًا محرَّمًا. إنَّني ألاحظ كيف يأتي البعض ويتكلَّم معي بصوتٍ منخفضٍ، وأرى كيف يركِّز البعض النظر ليعرف ما الذي يقوله هذا المتكلّم، وبأيِّ شيءٍ سأجيبه على سؤاله، هذا في الوقت الذي يكون فيه لدى هذا الشخص أمرٌ خاصٌّ. وثالثًا: إنَّ هذا الأمر سيعمل على توجيه ضربةٍ للهدوء والسُّكون الذي يحتاج إليه السالك أكثر من حاجته إلى الأوكسجين. فليكن ذلك ميزانًا لكافَّة أعمالنا.
تعليق العلَّامة الطهراني رضوان الله عليه حول طريقة حياة العلَّامة الطباطبائي رحمه الله في النجف
كان المرحوم العلامة رضوان الله عليه يقول: إِنَّ هَٰؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ لَا يَعْلَمُونَ مَا الَّذِي يَجْرِي فِي قَلْبِ الْعَلَّامَةِ الطَّبَاطَبَائِيِّ؟ إِنَّ الْعَلَّامَةَ الطَّبَاطَبَائِيَّ لَمْ يَأْتِ لِلنَّجَفِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَلَفَّتَ فِي الْأَسْوَاقِ لِيَرَىٰ مَا الَّذِي يَتَوَاجَدُ فِي دُكَّانِ هَٰذَا الْبَقَّالِ وَبَائِعِ الخضار ذَاكَ وَمَا الَّذِي يَبِيعُونَهُ، بَلْ هُوَ مَشْغُولٌ الْآنَ بِأَمْرٍ يُهِمُّهُ، وَبِمَا يَجْرِي فِي نَفْسِهِ مِنْ أُمُورٍ لَا تَدَعُ لَهُ مَجَالًا لِكَيْ يَنْظُرَ إِلَىٰ هَٰذَا الْجَانِبِ أَوْ ذَاكَ وَلِيَرَىٰ مَنِ الَّذِي يَأْتِي الْآنَ وَمَنِ الَّذِي يُغَادِرُ، أَمَّا بَقِيَّةُ النَّاسِ [فَهَٰذَا هُوَ شَأْنُهُمْ] ثُمَّ كَيْفَ سَتَكُونُ عَلَيْهِ نَتِيجَةُ الْأَمْرِ؟ إِنَّ النَّتِيجَةَ سَتَكُونُ بِالشَّكْلِ الَّذِي يَجْعَلُ ذَٰلِكَ النَّهْجَ وَذَٰلِكَ السُّلُوكَ الْمَبْنِيَّ عَلَىٰ أَسَاسِ الْفِطْرَةِ يُوصِلُهُ إِلَىٰ هَدَفِهِ وَيَجْعَلُ مِنْهُ إِنْسَانًا كَامِلًا، نَعَمْ، سَيَجْعَلُ مِنْهُ ذَٰلِكَ الْفَرْدَ الَّذِي وَصَلَ إِلَى الْمَنْزِلِ الْمَقْصُودِ وَحَصَّلَ عَلَىٰ نَتِيجَةِ عَمَلِهِ. أَمَّا الْآخَرُونَ؛ فَقَدْ كَانُوا مَشْغُولِينَ بِالنَّظَرِ إِلَىٰ هَٰذَا الْجَانِبِ أَوْ ذَاكَ، وَيُتَابِعُونَ مَنْ دَخَلَ وَمَنْ خَرَجَ؛ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ جَاءَ فُلَانٌ إِلَى النَّجَفِ، وَخَرَجَ فُلَانٌ مِنْهَا، وَمَا الَّذِي قَالَهُ هَٰذَا أَوْ ذَاكَ؟ وَهَٰكَذَا يَمْضِي الْيَوْمُ وَالْغَدُ وَالَّذِي بَعْدَهُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ عَلَيْكَ أَنْ تُغَادِرَ.
هكذا كان العظماء؛ كانوا مشغولين بأنفسهم.
إنْ رأيتَ مَنْ يكون مشغولًا بأمر نفسه، ولا شأن له بما يجري من حوله... قد يكون الإنسان مكلَّفًا، فسيكون هذا أمرًا مختلفًا، فللتكليف حُكمه الخاصُّ به، وله ظروفه الخاصَّة به، غير أنَّنا لا ينبغي لنا أن نخلط بين الأمور، ونحسب كلَّ شيءٍ على أنَّه من التكليف. كلَّا، لا ينبغي أن تجري الأمور بهذا الشكل، ونحن لا يمكننا أن نخدع الله، ولا يمكننا أن نغشَّ ملائكته. إنَّنا نستطيع اليوم أن نخدع عددًا من الناس بأحاديثنا وباستعمالنا لكلماتٍ جذَّابة، وبطرحنا لمواضيع مرغوبة، غير أنَّ ذلك لا يمكن له أن يحصل غدًا؛ وذلك لأنَّه سيُؤتى في ذلك اليوم بصحيفة أعمالك وتُوضَع أمامك ويُقال لك: انْظُرْ إِلَىٰ نِيَّتِكَ مِنْ وَرَاءِ مَا قُمْتَ بِهِ مِنْ عَمَلٍ. فهل يكون من المستحسن لنا أن نجعل ذلك اليوم نُصْبَ أعيننا، أم أنْ نصبَّ تفكيرنا على هذين اليومين أو الثلاثة التي تمضي علينا الآن؟ بأيِّهما علينا أن نفكِّر؟ وأيُّهما هو المفيدُ لنا؟! إنَّ مَنْ فاز هم أولئك الذين لم يعتنوا بهذه الدنيا، بل أطرقوا برؤوسهم إلى الأرض ومضوا.
كيف كانت علاقة المرحوم العلامة بالسيِّد هاشم الحدَّاد رضوان الله عليهما؟
كنتُ قلتُ لكم بأنَّني ومن خلال ما شاهدتُه من ارتباط والدي بالسيِّد الحدَّاد رضوان الله عليهما حيث كان المرحوم العلامة من أفضل تلامذة السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه؛ فلم يكن هناك مَنْ يفوقه من الناحية العلمية، وهكذا الأمر من الناحية الاجتماعية. إنَّ ما شاهدتُه بنفسي كان في تلك الفترة التي كان فيها عمري يبلغ السابعة عشرة، فقد حُرِمتُ من توفيق لقاء السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه بعد ذلك. فما شاهدتُه هو أنَّ المرحوم العلامة عندما كان يحضر لدى السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليهما، فكأنَّما يكون عبدًا يجلس مقابل مولاه. نعم، شاهدتُ بنفسي ما كان يحصل في كربلاء عندما تشرَّفنا بزيارتها في الوقت الذي كنتُ فيه في السابعة عشرة من عمري، وكانت تلك هي القضية التي أشار إليها المرحوم العلامة في كتاب "الروح المجرَّد"، والتي كان فيها عمري أقلَّ من سبعة عشر عامًا بقليل.
كان المرحوم العلامة يجلس مقابل السيِّد الحداد رضوان الله عليهما وهو لا يعتني بمَنْ يدخل الغرفة أو يغادرها، بل كان كلُّ فكره وذهنه متوجِّهًا نحو السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه لا غير، وكان يراقب ما يخرج من فمه من كلام؛ فكان يُخرِج ورقةً وقلمًا فورًا ويكتب ما قاله، أو أنَّه كان يكتبه في نفس ذلك اليوم. لا تزال الدفاتر الباقية عن المرحوم العلامة موجودةً لديَّ، وسنقوم في المستقبل القريب بحول الله وقوَّته بنشرها بنفس الكيفية التي هي عليها. سترون هناك ما جاء فيها من أنَّه: قَالَ السَّيِّدُ فِي الْيَوْمِ كَذَا هَٰذَا الْكَلَامَ، وَقَالَ فُلَانٌ ذَٰلِكَ الْكَلَامَ؛ فكان يكتب كلَّ شيءٍ يقوله ويحتفظ به، أو أنَّه كان يكتب ذلك بعد مغادرة السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه. لعلَّ هذه المسائل التي كانت تُطرَح في ذلك الوقت تكون فاتحةً للطريق لنا.
كيف كانت علاقة بعض التلامذة الفضوليين بالسيِّد هاشم الحدَّاد رضوان الله عليه؟
كان هذا حالَ أحد الأفراد، ويوجد فردٌ آخر وهو الذي ذكر المرحوم العلامة اسمه في كتاب "الروح المجرَّد"؛ لقد أصبح هذا الإنسان هو الفضوليَّ الأوَّل في غرفة السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه والمتدخِّل في شؤونه، فقد كان يراقب مَنْ يأتي ومَنْ يذهب، ويسأل عن سبب قدوم فلانٍ من الناس. إنَّك وعندما قَبِلتَ أن تكون تلميذًا للسيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه، وقَبِلتَه كأستاذٍ لك، فما الذي يعنيك من قدوم ومغادرة هذا أو ذاك؛ لقد كان يتساءل ويقول: وَلِمَاذَا يَأْتِي فُلَانٌ إِلَىٰ هَٰذَا الْمَكَانِ؟ كان أحد الذين يتردَّدون على السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه ويستفيدون منه هو آية الله السيِّد مصطفى الخميني رحمه الله، ابن قائد الثورة. لقد رأيتُ بنفسي كيف كان يأتي من النجف في كلِّ أسبوعين أو ثلاثة أسابيع مرَّةً؛ فكان يأتي ويجلس هناك ساكتًا معظم الوقت، فكان يسأل السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه سؤالًا، وكان السيِّد يجيبه على سؤاله، وكان السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه يحبُّه؛ نعم، لقد كان يحضر المجلس وينتفع منه ثمَّ يغادر، وكان ذلك الفضولي يقوم بدورٍ [سلبي] فيقول: لِمَاذَا يَأْتِي هَٰذَا الرجل إلى هُنَا؟ وَلِمَاذَا يُزَاحِمُ وَقْتَ السَّيِّدِ الْحَدَّادِ؟
ما شأنك بهذا الأمر يا هذا؟! وكان يقول: لِمَاذَا لَا يَأْتِي فُلَانٌ مِنَ النَّاسِ إِلَىٰ هُنَا؟! فهكذا كان دأب هذا الرجل؛ فكان يتكلَّم عن الناس وينتقدهم في غيابهم.
كان عمري في ذلك الوقت سبعة عشر عامًا، وكنتُ أعترض عليه عندما أرى منه مثل هذه التصرُّفات، فكان يجيبني ما خلاصته: إنَّ إدراك هذه الأمور أعلى من مستواي، وكنتُ أقول له: لا علم لي بما تقول، ولكنِّي أرى أنَّ طريقة التعامل هذه خاطئةٌ، فلا ينبغي لك أن تتكلَّم بوجود السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه. ثمَّ ماذا كانت نتيجة الأمر؟! لقد كان هذا الرجل يسير ويسير، وكانت تلك النفس التي لم تُصلَح بعد، تتصدَّر. نعم، كان يسير بمثل هذا النوع من التفكير وهذه الرؤية، حتّى وصل به المقام إلى الحدِّ الذي جعله يقف بوجه السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه. لقد كان وإلى الآن، يقف بوجه الآخرين، ثمَّ تطوَّر به الأمر شيئًا فشيئًا، مترافقاً ذلك مع انكشاف بعض المسائل له، ورؤيته لبعض الأمور، ونظرًا لعدم خضوع نفسه للتربية الواقعية، ولكون المكاشفة والمشاهدة التي كانت تحصل له تعمل على صناعة مزيج يجعله يقف بوجه أستاذه. فهل لاحظتم؟! عند وصوله إلى هذه المرحلة، وصل إلى طريقٍ مسدودٍ، حيث قيل له: اخْرُجْ، ولهذا نرى كيف كتب المرحوم العلامة بأنَّ السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه قد طرده.
بعض القدرات الخارقة لخلف زاده طريد السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه
كان هذا الرجل الذي كلَّمتكم عنه قادرًا على القيام ببعض الأعمال العجيبة، سأحكي لكم عن واحدةٍ منها: خرجتُ بمَعيَّته من بيت السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه من أجل شراء بعض الخضروات والفاكهة لإعداد طعام الغداء، كانت نيَّتنا أن نذهب إلى الحرم للزيارة أولًا، ثمَّ ومع اقتراب وقت الظهر، نقوم بشراء ما نحتاج إليه ونعود. خرجنا من البيت، فقال لي: قَبْلَ أَنْ نَذْهَبَ إِلَى الْحَرَمِ، دَعْنَا نَذْهَبُ إِلَى الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ فِي أُسْتْرَالِيَا لِنَتَجَوَّلَ قَلِيلًا، ثُمَّ نَعُودُ، فقلتُ له: لا، أنا لا أقوم بمثل هذه الأعمال، فقال: لَا بَأْسَ بِذَٰلِكَ، فَسَوْفَ لَنْ نُخْبِرَ أَحَدًا بِمَا جَرَىٰ، قلتُ له: اذهب إلى السيِّد الحدَّاد رضوان الله عليه واستأذن منه أولًا، ثمَّ خذني معك إلى أيِّ مكانٍ تشاء؛ فخذني إلى هذا الجانب من العالم أو ذاك، أو إلى القمر، ولقد أصرَّ على ذلك كثيرًا وقال: سَوْفَ لَنْ يَسْتَغْرِقَ ذَٰلِكَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ سَاعَةٍ، فَنَذْهَبُ فِي رُبْعِ سَاعَةٍ وَنَعُودُ فِي رُبْعٍ وَنَبْقَىٰ عَشْرَةَ دَقَائِقَ. نعم، لقد كان يقوم بمثل هذه الأعمال، على أنَّني ذكرتُ لكم أبسطها؛ فلا أذكر الأشياء الأخرى التي كان يستطيع أن يقوم بها، غير أنَّني ومع كوني في السابعة عشرة من عمري، بل وحتّى في سنٍّ أقلَّ منها، كنتُ أرى أنَّ القيام بمثل هذه الأعمال من دون استشارة الأستاذ عملٌ خاطئٌ. لم أذهب معه، وقلتُ له: لا آتي معك، فلنذهب لشراء الخضار ونعد، فما معنى القيام بمثل هذه الأعمال؟
ما الذي حصل بعد ذلك؟! إنَّ الإنسان يستمرُّ بالسير على هذا النحو. وكلَّ ما كان يحصل هو بسبب اشتغاله بمسائل أخرى بدلًا عن الاهتمام بأمر نفسه؛ فقد كان يشتغل بأمورٍ أخرى، ويشتغل بمسائل تسير به في الاتِّجاه المعاكس للسير التكاملي للنفس. وهذه نكتةٌ مهمَّةٌ.
إنَّ النكتة المهمَّة تتمثَّل في أن يرى الإنسان ما هو الشيء الذي يفيده في سيره، فيتَّبعه ويترك ما سواه. عندما أقول للأصدقاء بأنَّ طريق سلوك المرأة يتمثَّل في طاعتها لزوجها واشتغالها بما يهمُّها من أمور حياتها المعيشيّة، فأنا لم أقل ذلك من تلقاء نفسي، بل كان ذلك ما قاله المرحوم العلامة، وهو المسؤول عن كلامه. فإنْ أردنا أن نتخطَّى هذا الأمر ونسير بشكلٍ آخر فنقول: مَنْ هو هذا الزوج الذي قيل بوجوب طاعته؟... ما معنى هذا الكلام؟! لو كان الأمر هكذا، لأشار المرحوم العلامة نفسه إلى ذلك. إنَّني أقول هذا الكلام عن نفسي؛ فلسنا من أولئك الناس الجيِّدين والمستقيمين، ولكنَّ الكلام هو: إنَّ ذلك الطريق مبنيٌّ على هذا الأساس.
جاءتني رسالةٌ [من امرأة تقول فيها:] لقد سمح لي زوجي بحضور المجلس كذا، ولكنَّه لم يسمح لي بحضور المجلس الفلاني، فهل يجوز لي أن آخذ إجازةً من دائرتي وأحضر هذا المجلس من دون أن أُخبِر زوجي؟ قلتُ لها: لا يجوز ذلك وهو عملٌ حرامٌ، إنْ أرادت المرأة أن تخرج من البيت، فيجب أن يكون ذلك بإذن زوجها، وإنْ أرادت أن تحضر مجلسًا، فيجب أن يكون ذلك برضًا من زوجها، على أن لا يجري هذا الأمر بإجبار ذلك المسكين، بل يجب أن يكون عن رضًا وعن طيب خاطرٍ، لماذا؟ لأنَّه لا يمكن السير بخلاف ما تقتضيه الفطرة؛ وسلوك المرأة يكون على هذا الأساس، فهل لاحظتم!
أمَّا الرجل، فله حسابه الخاصّ به. يُلاحَظ كيف يقول البعض: إنَّ فيما تطرحه ظلمٌ وإجحافٌ للمرأة، ويوجد مَنْ يفسِّر الأمور بشكلٍ مختلفٍ. وكنتُ أقول لهم: وهل عليَّ أن أتَّبع الآخرين؟ لماذا لا يتَّبعني الآخرون؟ إنَّ الموضوع هو ما أقوله لكم؛ فهذا هو الطريق، وهكذا هو المسير. إنَّ مثل هذا الإشكال يأتي من الرجال في بعض الأحيان أيضًا؛ فقد يقول البعض: لماذا يجب أن تكون الأمور على هذا النحو الذي تقول؟ نعم، ولكن لا يمكن للرجل أن يعمل كلَّ ما يريد، ولا يمكن له أن يطرح كلَّ ما يبدو له، وكلَّ ما يحلو له؛ فيستغلَّ التصرُّف الصحيح للمرأة. فإنّ الله سيعاقبه على ذلك أشدَّ العقاب، فليس الأمر بهذه السهولة.
فعندما أمر الإسلامُ المرأةَ بطاعة الرجل، فهل يعني هذا بأنَّ بإمكانه أن يفعل كلَّ ما يريد؟! كلَّا، بل وفي كلِّ خطوةٍ يخطوها الرجل، عليه أن يحاسب عليها في ذلك العالَم، وسيتَّضح العجب عندها، فما سيُحاسَب عليه الرجل أكثر بكثيرٍ ممَّا هو متوقَّعٌ من حساب المرأة. غير أنَّ الكلام هو: لأجل مَنْ نحن نأتي بهذه الأعمال؟
إنَّ هدفي من إقامة هذه المجالس والحديث مع السيِّدات ومع الأحبَّة هو طرح هذه الأشياء التي تُعتبر غالبًا مفيدةً في هذا المجال. نعم، لأيِّ شيءٍ نحن نقوم بما نقوم به؟ إنْ كنَّا نقوم به للّه، فهو الذي يريد منَّا أن نفعل هذا الشيء، وهو العالم.
حصل خلافٌ بين زوجين وحضرا عندي، فتكلَّمتُ مع المرأة على حِدَةٍ وقلتُ لها: إنَّ مشكلتكِ مع زوجكِ تتمثَّل في كونه إمَّا أنّه يكلِّفكِ بما يفوق قدرتكِ، فسيكون هذا شيئًا آخر، أو أنّه يكلِّفكِ بأمرٍ صعبٍ عليكِ، فعليكِ أن تنفِّذي طلبه وسوف لن يخرج الأمر عن إحدى الحالتين وهما: إمَّا أن يكون طلبه صحيحًا، فتكونين قد قمتِ بعملٍ صحيحٍ، وإمَّا أن يكون طلبه باطلًا، فتكونين أنتِ قد تحمَّلتِ المشقَّة ونفَّذتِ طلبه من أجل تحصيل رضا الله، فهل سيشكركِ الله يوم القيامة على ما قمتِ به أم أنَّه سيؤاخذكِ عليه؟! فيُعلَم من هذا بأنَّه عليكِ أن تنظري إلى أنَّكِ لا تتعاملين مع الزوج الآن، بل أنتِ تتعاملين مع طرفٍ آخر.
وهكذا هو الأمر في تعامل الزوج مع زوجته وكذا التعامل مع الأطفال، فلتروا أنفسكم أنّكم تتعاملون مع طرفٍ آخر. عليكم أن لا تُعيروا اهتمامًا بما يُطرَح أحيانًا هنا أو هناك، فكلُّ ذلك عبارةٌ عن تخيُّلاتٍ وتصوُّراتٍ.
إنَّكم قد وضعتم أقدامكم في المكان الذي عليكم أن تروا فيه أنَّ مقصدكم ومقصودكم هو ولاية الإمام عليه السلام ولا غير، فما عليكم بما يقوله زيدٌ أو عمرٌو، فلعلَّ كلامهم يكون خاطئًا أو قد يكون صحيحًا؛ فما يريده الله منَّا مبنيٌّ على هذا الأساس. وعلينا أن نعلم بأنَّ الله تعالى مُقبِلٌ علينا بأكثر ممَّا نشعر به من حاجةٍ لنا به، وبأكثر ممَّا نشعره في أنفسنا من المسكنة والجهل والفقر المعنويّ وحسرة عدم الوصول إلى الهدف.
جاء في الحديث القدسي قول الله: «لَوْ عَلِمَ الْمُدْبِرُونَ عَنِّي كَيْفَ اشْتِيَاقِي بِهِمْ وَشَوْقِي إِلَىٰ رُؤْيَتِهِمْ لَمَاتُوا شَوْقًا»۱. أي: لو عَلِم أولئك المُدبِرون عنِّي والمشغولون بأنفسهم، وهم لا يعتنون بأوامري، بل ويرجِّحون وجهات نظرهم على أمري، ويطبِّقون آراءهم وأفكارهم ونواياهم الشخصية في حياتهم اليومية، ولا يُعيرون اهتمامًا لما آمر به، والمشغولون بحياتهم اليومية، لو عَلِم هؤلاء الناس مَقْتِي لما يقومون به، ومقدار اشتياقي لتوجُّههم نحوي -اعلموا بأنَّ هذا حديثٌ قدسيٌّ- لما بقوا في الدنيا للحظةٍ واحدةٍ من شدّة اشتياقهم للقائي، أي إنَّهم سيموتون في الحال من شدّة الشوق.
افترضوا أنَّ لأحدٍ عداوةً شخصيةً مع آخر وهو يعتقد في نفسه بأنَّ الآخر يكنُّ له العداوة، ولو أنَّه رآه لأعدمه وعمل به كذا وكذا، ثمَّ يلتقي به في مجلسٍ ما، فيحتضنه ويقبِّله ويُجلِسه إلى جنبه ويُقرِّب مجلسه، فكيف ستتغيَّر أفكاره فجأةً؟ وكيف سيتلاشى كلُّ ما كان قد نَسَجَه في خياله؟ لأنَّه سيرى أنَّ الأمور قد تغيَّرت تمامًا وبمقدار مائةٍ وثمانين درجةً. إنَّ الأمر بيننا وبين الله على هذا النحو.
الفرق بين تصوُّرالأولياء عن الله وتصوّرغيرهم
يقول المرحوم العلامة رضوان الله عليه: إِنَّ اللَّهَ الَّذِي صَوَّرَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يُدِيرُونَ أُمُورَ النَّاسِ هُوَ مِنَ النَّوْعِ الْمُخِيفِ وَالْمَهُولِ وَالْغَاضِبِ وَالْقَاهِرِ وَالْمُدَمِّرِ وَكَذَا وَكَذَا بِالشَّكْلِ الَّذِي يَجْعَلُ فَرَائِصَهُمْ تَرْتَعِدُ لِمُجَرَّدِ سَمَاعِ اسْمِهِ، أَمَّا اللَّهُ الَّذِي صَوَّرَهُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ لِلنَّاسِ، فَهُوَ ذَٰلِكَ الْإِلَٰهُ الَّذِي يُمْكِنُ احْتِضَانُهُ وَالْجُلُوسُ إِلَىٰ جَنْبِهِ وَالَّذِي تَكُونُ مَحَبَّتُهُ وَرَأْفَتُهُ بِالْإِنْسَانِ أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّةِ وَرَأْفَةِ الْوَالِدَيْنِ بِوَلَدِهِمْ.
إنَّ جلوسكم في هذا المكان واستماعكم إلى هذه المسائل، وما أنتم عليه بحمد الله من كونكم مطيعين لأوامر الله وتسعون إلى الرُّشد والكمال، فهل تعلمون كم من الملائكة قد تشاركوا المساعي من أجل مجيئكم إلى هنا ومنحكم حال الهدوء والاطمئنان هذا؟ هل تعلمون ذلك؟ إنَّنا لا نعلم ذلك. كم من الموانع قد رُفِعَت من طريقكم حتّى تمكَّنتم من الحضور؟! فلو أنَّ أحدَكم مَرِضَ أو حصل له أمرٌ يمنعه لما تمكَّن من الحضور. إنَّنا نكتفي بالقول بأنَّنا قد جئنا وانصرفنا وقمنا بعمل كذا ومنعنا أنفسنا من القيام ببعض الأمور وكذا وكذا، هذا في الوقت الذي يكون فيه كلُّ ذلك قد حصل من قِبَلِ ذلك الجانب؛ فذلك الجانب هو الذي عمل على تنسيق كلِّ هذه الأمور لكي تتحقَّق هنا.
علينا أن نستحضر هذه المسألة في أذهاننا دائمًا وهي: كلُّ ما يصدر منَّا من كلمة لَبَّيْكَ، وكلُّ ما نسعى لتحقيقه، فكلمة «لَبَّيْكَ » هذه قد صدرت منه أولًا، ولولا كلمة «لَبَّيْكَ » هذه لما استطاع أحدٌ أن يخطو خطوةً واحدةً. علينا أن نستحضر هذا الأمر في أذهاننا دائمًا؛ وعلينا أن نستحضره في عبادتنا. إنَّ ما أقوله لكم هو عينُ ما شاهدتُه في مرافقتي للعظماء.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}۱. يأتونك يا رسول الله ويقولون لك: لقد أسلمنا، وهم يمنُّون عليك بإسلامهم هذا، وبكونهم أصبحوا منكم، وكونهم عملوا كذا وكذا. إنَّ هذه الرؤية هي رؤيةُ كثرةٍ، نرى الله يقول هنا وبكلِّ صراحة: إنَّ الله هو الذي يمنُّ عليكم أنْ هداكم وأصلح حالكم، هذا في الوقت الذي يوجد فيه أناسٌ غيركم من أمثال أبي سفيان وأبي جهلٍ وغيرهم.
لو علمنا أصل المسألة وعلى أيِّ أساسٍ ومحورٍ تدور الحقيقة، لتبدَّلت الأوضاع وتغيَّرت الأفكار كثيرًا، ولتغيَّرت طبيعة علاقتنا ومعاشرتنا مع الآخرين، ولتمكَّنَّا أن لا نحسب لأنفسنا حسابًا، ولنظرنا إلى الجميع بنظرةٍ واحدةٍ، الأمر الذي رأيتُه بنفسي من العظماء.
كان المرحوم العلامة رضوان الله عليه يكرِّر هذا الكلام لمرَّاتٍ عديدةٍ ويقول: إِنَّ كَافَّةَ الرُّفَقَاءِ وَالْأَصْدِقَاءِ هُمْ بِمَثَابَةِ أَسْنَانِ الْمِشْطِ، ولم يكن يقول ذلك من أجل بثِّ روح الحماس في المجلس ومن أجل رعاية بعض الأمور، بل كان يقول الحقيقة؛ فهكذا هم الجميع أمام الله، غير أنَّنا نحن الذين نأتي فنجعل تلك الحقيقة الصافية وغير المبرقَعة، وبطبيعة أفكارنا، نجعلها تأخذ هذا المنحى بدلًا عن ذاك، فنعمل على تخريبها وحرفها عن مسارها. إنْ فعلنا ذلك، فلن نجني أيَّة فائدة، وسنمضي أعمارنا في البِطالة، وسوف لن نحصل على أيَّة نتيجة.
علينا جميعًا أن نعرف ابتداءً منِّي أنا المتكلِّم الذي يُلقي عليكم هذه المسائل، والأحبَّة المستمعين وكافَّة الأفراد، علينا أن نعرف أنَّ لا سبيل للقرابة والنَّسَب والقُرب في ذلك الجانب. ها أنا أقولها لكم بأنَّني جرَّبتُ هذا الأمر شخصيًّا وعرفتُ بعدم جدوى القرابة؛ فلا يتصوَّرنَّ أحدٌ بأنَّ فلانًا وما دام هو ابنًا للمرحوم العلامة، فإنَّ أمره محسومٌ، وسوف يعتني به والده، كلَّا، لا وجود لمثل هذا الشيء، ولو أنِّي أخطأتُ يومًا، لرأيتُ أثر هذا الخطأ على نفسي في الحال. ها أنا أقول لكم هذا الأمر بكلِّ صراحة، فإنْ خطوتُ خطوةً في الطريق الخاطئ، لَلَمَستُ أثر الكُدورة المتسبِّبة عنه في نفسي، ولتركتْ تلك الخطوة أثرًا لها على كافَّة أعمالي. فلا صحَّة لما يُقال، بل إنَّ الصحيح هو هذا، وهو ممَّا يجب أن يكون.
كان المرحوم العلامة رضوان الله عليه يقول: يَأْتِينِي الْبَعْضُ فَيَقُولُ: أُرِيدُ مِنْكَ أَنْ تُنْجِزَ لِي هَٰذَا الْعَمَلَ أَوْ ذَاكَ.[فكان يقول:] وَمَنْ أَكُونُ أَنَا! وهذا هو واقع الحال، فلم يكن يرى لنفسه فيما بينه وبين الله أيَّة فضيلةٍ أو امتيازٍ لكي يقوم بعملٍ لهذا أو ذاك، أو أن يقوم بترجيح أحدٍ على آخر، فلا يمكن أن يخطر مثل هذا الشيء في مخيَّلته أبدًا. كان يقول: إِنَّ مَا يَقُومُ بِهِ الْأَصْدِقَاءُ يَصِلُنِي بِشَكْلٍ تِلْقَائِيٍّ. أي إنَّه وعندما يقوم أحدٌ بعملٍ ما، فسيتَّصل أحد جوانبه بالله، ويتَّصل الجانب الآخر منه بي؛ ويحصل هذا الأمر بشكلٍ تلقائيٍّ؛ فلو قام أحدٌ بعملٍ خاطئٍ، فهو يستشعره في نفسه ويعرف به. كيف له أن يعرف؟! إنَّ الأمر هو على هيئة ثلاثة أضلاع المثلَّث، حيث يكون الله على رأس المثلَّث، ويكون التلميذ عند إحدى الزوايا والأستاذ الكامل الذي هو النبيُّ صلّى الله عليه وآله أو الإمام عليه السلام أو إنسانٌ آخرُ عند الزاوية الأخرى؛ فيكون الثلاثة على ارتباطٍ ببعضهم. عندما يقوم هذا الإنسان بعملٍ ما، فسيصعد العمل إلى الأعلى لينزل على قلب الأستاذ، فيشعر الأستاذ بكدورةٍ تجاه ذلك الإنسان. إنَّ ذلك الأمر يحصل بشكلٍ تلقائيٍّ شاء الإنسان أم أبى، وهكذا الأمر بالنسبة إلى العمل الصالح. لذا فقد كان المرحوم العلامة رضوان الله عليه يقول: أَشْعُرُ فَجْأَةً بِأَنَّ أَحَدَهُمْ قَدْ قَامَ بِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ. إنَّ المرحوم العلامة لم يكن يقول لنا كلَّ شيءٍ، بل كان يقوله على هيئة إشارةٍ، يقول: «يَحْصُلُ لِي شُعُورٌ بِأَنَّ ذَٰلِكَ الإنسان قَدْ قَامَ بِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ شُعُورًا جَيِّدًا، كُنْتُ أَرَىٰ بِأَنَّهُ قَدْ قَامَ بِعَمَلٍ حَسَنٍ. إنَّ الأمر يحصل بشكلٍ تلقائيٍّ، من دون أيِّ تأخيرٍ ولو لمدَّة ثانيةٍ واحدةٍ، بل بمجرَّد أن يحصل العمل، يحصل الشعور به.
حضرتُ لدى المرحوم العلامة يومًا وكنتُ في الليلة السابقة قد قمتُ بعملٍ معيَّن؛ إنَّ ذلك العمل لم يكن عملًا خاطئًا، بل لم يكن في محلِّه؛ كأن أكون أخبرتُ أحدًا بأمرٍ، ولم يكن هذا الإخبار في محلِّه. ولم يكن أحدٌ على اطِّلاعٍ بهذا الموضوع. وفي صباح اليوم التالي حضرتُ عنده وجلستُ. كان مشغولًا بالكتابة، وكنتُ مشغولًا إلى جنبه وفي مكتبته بالكتابة أيضًا، وبينما كنتُ أكتب خطر على ذهني مرَّةً واحدةً -هذا هو ما أقصده من التواصل الآني والتلقائي- هذا المعنى وهو: أنِّي قمتُ البارحة بعمل كذا، وقد حصل ذلك بدون أيَّة مقدِّمات. ما أنْ وَرَدَ هذا المعنى على ذهني، حتّى رفع المرحوم العلامة رأسه وقال: «يَا سَيِّدَ مُحْسِنُ »، قلتُ: نعم يا سيِّدي، قال: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}. أتلاحظون؟! ثمَّ أطرق رأسه إلى الأسفل واستمرَّ بالكتابة. نعم، هكذا يكون الارتباط التلقائي؛ فهو يأتي من هناك إلى هذا الطرف وينتقل منه إلى هناك. على أنَّ أصل الموضوع هو هناك، ويأتي المستنسَخ منه إلينا. إنَّ أصله هناك، فلا تعتقد بأنَّك تستطيع أن تفعل ما تريد. قال: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} في الوقت الذي لم يكن فيه أحدٌ يعلم به، ولقد حصل مثل هذا الشيء مع كافَّة الأصدقاء خلال ارتباطهم بالمرحوم العلامة.
إنَّ الأمر ليس أمرًا اعتباريًّا ومثلما يحصل في الدوائر الحكومية التي يكون لكلِّ واحدةٍ منها قانونها الخاصُّ بها، فيلبس منتسبو هذه الدائرة هذا النوع من اللِّباس، بينما يلبس منتسبو الدائرة الأخرى نوعًا آخر منه؛ فترى نوع اللِّباس للجيش بشكلٍ وللشرطة بشكلٍ آخر، إذ تختلف قوانين كلِّ دائرةٍ عن غيرها. إنَّ المسائل في السلوك هي تكوينيّةٌ، فالماءُ ماءٌ، وهو لا يتبدَّل إلى سُمٍّ وإن قال ألفُ شخصٍ إنَّ هذا سُمٌّ، ولو كان هناك سُمٌّ على شكل سائلٍ، فسيبقى سُمًّا وإن قال ألفُ نفرٍ بعدم إشكالية استعماله.
لذا فإنّ كافَّة مسائل السلوك مسائل تكوينيّة، وقد جاء التشريع على أساس هذا التكوين؛ فلا يمكن أن تكون مسألةٌ ما مقرِّبةً إلى الله وهي لم تُقَرَّ من قِبَلِه، كما لا وجود لموضوعٍ يُبعِد الإنسان عن الله، ويكون الله قد أقرَّه، ويكون فيه صلاح الفرد. كلَّا، يا أيُّها السادة، بل عليكم أن تضعوا هذه المصالح التي تقولون بها جانبًا، بل إنَّ الصلاح فيما أمر الله به، والفساد فيما نهى عنه. إنَّ الصلاح والفساد يكونان على أساس إرادته للشيء أو عدم إرادته له؛ فلا يكون الأمر بالشكل الذي يكون فيه الصلاح أن أُقِرَّ أمرًا اليوم، أو قاموا بحذفه في الغد.
فبناءً على هذا، فإنْ عمل الإنسان فيما أمر الله به، وخطا خطواته بهذه الكيفية، فسيضمن الله له سلامة مسيره. كان المرحوم العلامة رضوان الله عليه يقول: إِنَّ مَنْ يَأْتِي إلى هُنَا، وَيَعْمَلُ بِمُوجِبِ مَا طَرَحْتُهُ عَلَيْكُمْ مِنْ مَسَائِلَ، فَأَنَا الضَّامِنُ. ليس هذا بالكلام العادي؛ فهو يقول: سَأَضْمَنُ لَهُ الْوُصُولَ إِلَىٰ هَدَفِهِ الْمَقْصُودِ، بِشَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الْأَمَامِ بِشَكْلٍ صَحِيحٍ، وَأَنْ يَطْلُبَ التَّوْفِيقَ مِنَ اللَّهِ، وَأَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ بِلِسَانٍ عَاجِزٍ وَمُحْتَاجٍ فَيَقُولَ: إِلَٰهِي لَا قُدْرَةَ لِي عَلَى الْقِيَامِ بِهَٰذِهِ الْمُهِمَّةِ، فَأَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تَمْنَحَنِي أَنْتَ مِثْلَ هَٰذِهِ الْقَابِلِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ. علينا أن نكون صادقين في طلبنا هذا، فإنْ صَدَقنا، فسوف يعطينا، أمَّا إنْ أخفينا في أنفسنا شيئًا في نفس الوقت الذي نطلب فيه من الله [فلن نكون صادقين في طلبنا]؛ فنقول امنحني يا ربِّ ونحن لا نقولها بصدقٍ؛ فعندما نقول: امنحني التوفيق يا ربِّ، فسيقول الله: هَا قَدْ مَنَحْتُكَ إِيَّاهُ الْآنَ بِالْفِعْلِ، فَلِمَاذَا لَا تَسِيرُ؟ ما الذي يعنيه منح التوفيق؟ إنَّه يعني: إِنِّي قَدْ قُمْتُ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ مِنْ طَرِيقِكَ؛ فَتَسْتَطِيعُ الْآنَ أَنْ تَنْهَضَ، وَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ بِهَٰذَا الْعَمَلِ، فَهَٰذَا هُوَ التَّوْفِيقُ. لا معنى لأنْ يجلس الإنسان واضعًا إحدى يديه فوق الأخرى وهو يقول: لا توفيق لي، إذ سيقول له الله: هَا قَدْ مَنَحْتُكَ التَّوْفِيقَ فِي هَٰذِهِ اللَّحْظَةِ. حسنًا، فما دام الأمر قد حصل بهذا الشكل، فلأجل الاستمرار، على الإنسان أن يقوم بعملٍ. إنْ قال الإنسان ذلك بصدقٍ، [فسيوصله الله إلى هدفه]، فلا يوجد لدى الله مانعٌ ولو بمقدار رأس الإبرة من أن يوصل كافَّة الخلائق إلى مرتبة العرفان والفناء، فلا تتصوَّروا أنَّ عدد مَنْ يمكن أن يصل لا يتجاوز الواحد أو الاثنين في كلِّ زمانٍ. كلَّا، ليس الأمر بهذا الشكل، بل إنَّ الوصول إلى الهدف المقصود متاحٌ في كافَّة الأزمنة وفي جميع الظروف والإمكانات.
كان هذا كلامًا في هذا المجال، ولمَّا كان هدفنا من إقامة هذه المجالس هو أن يطرح الأصدقاء ما لديهم من مسألةٍ أو مشكلةٍ وبما يسمح به جوُّ المجلس، فسأجيب على سؤالين أو ثلاثةٍ ممَّا يمكن أن يطرحوه.
الأسئلة والأجوبة
۱-التوجّه إلى إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه
سؤال: كتبت هذه السيِّدة تسأل وتقول: إنْ كنَّا نريد طيَّ الطريق إلى الله، فهل يتوجَّب أن يكون توجُّهنا إلى وليِّ الله أكثر من توجُّهنا إلى إمام الزمان عليه السلام؟ وهل يُحسَب التوجُّه إلى الوليِّ إعراضًا عن إمام الزمان عليه السلام، أم يكون التوجُّه إلى الوليِّ هو عين التوجُّه إلى إمام الزمان عليه السلام وذلك لكون الوليِّ يأخذ من الإمام وكلاهما في نفس السلسلة، وليسا مفترقين؟
الجواب: إنَّ هذه النكتة المثارة جيِّدةٌ جدًا، يمكن أن يُطرَح هذا الموضوع بنحوٍ كلِّيٍّ بشكلٍ معيَّنٍ، أمَّا عند تطبيق المصداق، فسيختلف الأمر. الطرح العامّ للموضوع يكون بالشكل التالي: إنَّ الوليَّ الإلهيَّ هو ذلك الإنسان الذي عبر عن النفس ووصل إلى الفناء، ونحن نبحث الآن عن مثل هذا الوليِّ، وإنْ تمكَّنتُ من الوصول إليه، لسلَّمتُ بحول الله وقوَّته نفسي إلى مثل هذا الإنسان. إنْ وُجِدَ الإنسان الذي يتمتَّع بمثل هذه الخصائص، فلن يكون هناك فرقٌ بينه وبين إمام الزمان عليه السلام من حيث كيفية الارتباط به، لأنَّ كلَّ ما يُفاض على ذلك الوليِّ، يُفاض عليه من جانب إمام الزمان عليه السلام، وما من واسطةٍ لنزول البركات الإلهية وتوزيعها على عوالم الإمكان غير إمام الزمان عليه السلام، فهو فقط وفقط الواسطة، فبناءً على هذا، وكما كان المرحوم العلامة رضوان الله عليه يكرِّر هذا الأمر مرارًا، فإنَّ التوجُّه يجب أن يقتصر على إمام الزمان عليه السلام فقط، ويكون التوجُّه إلى الوليِّ ضمن التوجُّه إلى إمام الزمان أرواحنا فداه، وأن لا يُنظَر إلى الوليِّ بنظرةٍ استقلاليةٍ.
٢-أهمّيّة كتب العلّامة الطهراني رضوان الله تعالى عليه
سؤال: فيما يتعلَّق بالكتب التي ألَّفها المرحوم العلامة رضوان الله عليه، فأيُّ كتابٍ من هذه الكتب ننصح الآخرين بقراءته؟
الجواب: إنَّ الكتب التي ألَّفها المرحوم العلامة رضوان الله عليه، قد كتبها من أجل جميع الناس، وكان يقول: لَقَدْ أَلَّفْتُ هَٰذِهِ الْكُتُبَ مِنْ أَجْلِ الْجَمِيعِ وهذا العبد شخصيًّا ولمَّا كنتُ أكثر الناس اطِّلاعًا على وجهات نظره، لا أرى نفسي مستغنيًا عن هذه الكتب، وقلتُ هذا الأمر كرارًا ومرارًا بأنَّ أُسوتي في الكثير من القضايا التي حصلت بعد وفاته، هو ما جاء في هذه الكتب، ولقد حصدتُ النتيجة بحمد الله، ولم أخسر في هذا الجانب شيئًا. لذا يمكن إهداء هذه الكتب إلى الناس العاديّين. على أنَّ مؤلَّفات المرحوم العلامة رضوان الله عليه على مستوياتٍ مختلفةٍ؛ فهنالك كتاب "التوحيد العلمي والعيني" الذي هو كتابٌ خاصٌّ، وقد لا يتمكَّن أيٌّ من الناس من فهم محتواه، بل وكما قال عنه هو بنفسه حينما قال: لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَفْهَمَ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ إِلَّا مَنْ يَكُونُ قَدْ أَتَمَّ دَوْرَةً فِي الْفَلْسَفَةِ وَالْعِرْفَانِ النَّظَرِيِّ، أمَّا بقيَّة مؤلَّفاته، فهي ليست بهذا المستوى، ويستطيع القارئ من خلال ما يحصل عليه من هذه الكتب أن يُقيِّم مستواه بالنسبة إلى تلك الكتب.
٣-مجالس الذكر
سؤال: يتعلَّق هذا السؤال بحضور مجالس الذِّكر.
الجواب: إنَّ حضور مجالس الذِّكر أمرٌ لازمٌ جدًا، وتترتَّب عليه الفائدة. كما كنتُ ذكرتُ هذا الأمر سابقًا، فإنَّ الطريق إلى الله غير مقتصرٍ على نوعٍ واحدٍ من الرؤية والفكر؛ بل إنَّ ما هو مطلوبٌ من السالك تجاه ربِّه هو خلوص النيَّة وصفاء الباطن وإخلاص العمل؛ فأينما تحقَّقت هذه الشروط، فسيكون هذا الأمر ميسورًا. يسأل البعض ويقول: لماذا نذهب لزيارة الأئمّة عليهم السلام؟ فنحن نرى كلَّ ذلك التأكيد على ضرورة زيارة الإمام الرضا وسيِّد الشهداء عليهما السلام على سبيل المثال! أفما كنَّا نستطيع أن نُخلِص قلوبنا ونزورهم من مكاننا دون الحاجة إلى صرف شيءٍ من المال؟ إنَّ الذهاب إلى الزيارة يعني الاستفادة الحضورية من البركات النازلة على تلك البقعة نتيجةً للعناية الخاصَّة للروح وارتباطها بذلك البدن. لماذا يُوصى بالذهاب إلى المقبرة وزيارة القبور؟ وذلك لكون الروح لها تعلُّقٌ بذلك البدن، وارتباطها به يكون أكثر. من المؤكَّد أنَّ التأثير الموجود في البقعة المنوَّرة للإمام عليِّ بن موسى الرضا عليهما السلام وأرواحنا فداه هو أكثر من الأماكن الأخرى مع كون ولاية الإمام عليه السلام ولايةً عامَّةً لا شأن لها بالمكان، لكون الأمر يخرج عن الطبيعة المادية والفيزيائية، بل إنَّه يتعلَّق بما وراء المادَّة؛ حيث لا يكون للمكان والزمان وجودٌ هناك، غير أنَّ الكلام هو: إنَّ الذهاب إلى هذه الأماكن يعني التقدُّم خطوةً لأجل الوصول إلى المعشوق والمطلوب والمحبوب وهو الإمام الرضا عليه السلام، حيث يكون الخير النازل مترتِّبًا على هذه النكتة.
إنَّ مَنْ يستطيع أن يذهب للزيارة عندما تكون ظروفه مساعدةً لذهابه، فليذهب، ومَنْ لم تكن ظروفه مساعدةً على ذلك، فتقتضي العدالة الإلهية والفيض المطلَق له الذي يعمُّ جميع الناس؛ فهي تقتضي أن يُشمَل هذا الإنسان بهذا الفيض وكما يحصل لمَنْ تكون ظروفه مساعدةً إذ إنَّ توفُّر الظروف لا يكون بيد الإنسان نفسه. بناءً على هذا، فإنْ كان الفيض مقتصرًا على توفُّر الظروف المناسبة والتي لا تكون بيد الإنسان، فسيكون ذلك ظلمًا؛ فحرمان مَنْ لا يستطيع الذهاب، سيكون من الظلم، ولهذا يُوصى مَنْ لم يستطع الذهاب إلى الزيارة، أن يزور عن بُعدٍ، وسيكسب نفس ثواب مَنْ يذهب، على أنَّ مَنْ تتوفَّر له الظروف وفقًا لإمكانيَّته لا خارجًا عنها، فمن الطبيعيِّ له أن يذهب.
وهكذا الحال بالنسبة إلى حضور مجالس الذِّكر؛ يجب أن تتوفَّر ظروفٌ خاصَّةٌ ويجب أن يمتلك الإنسان الاستعداد اللازم ويمتلك الشروط التي تمَّ بيانها للأصدقاء وهم على اطِّلاعٍ بها، فإنْ لم تتوفَّر مثل هذه الظروف لإنسانٍ، وكانت لديه الرغبة والشوق لحضور المجلس، فسينال نصيبه من ذلك الفيض المعنوي من دون أيِّ نقصٍ، وهذا ما تمت مشاهدة آثاره بالفعل.
٤-وجود أكثر من وليّ في زمان واحد
سؤال: تقول هذه السيِّدة في سؤالها: هل يمكن أن يكون هنالك اثنان من الأولياء في وقتٍ واحدٍ، أم يقتصر الأمر على وجود وليٍّ واحدٍ؟ وهل يمكن أن يوجد أكثر من شخصٍ كاملٍ في زمانٍ واحدٍ؟
الجواب: نعم، لا إشكال ولا مانع من أن يكون هنالك أكثر من واحدٍ، غير أنَّ القرائن والظروف لم تدلَّ على وجود أكثر من اثنين أو ثلاثةٍ لحدِّ الآن. نعم، لم يحصل أنْ وُجِدَ أكثر من اثنين، غير أنَّ ذلك ليس بالأمر الحتميِّ.
٥-التأسّي بالحسين عليه السلام ومن هم حملة العرش
سؤال: ما هو قصد الإمام الرضا عليه السلام عندما قال: من أراد أن يكون من أعزّ الناس على وجه الأرض، فلينظر إلى الحسين، هذا مع عدم وجود الإمام الحسين في زمان الإمام الرضا؟ وهل إنَّ المقصود من حملة العرش في الوقت الذي يموت فيه الجميع ولا يبقى سوى الله وجبرائيل، فهل إنَّ المقصود منه هو إسرافيل؟
الجواب: إنَّ المقصود من حملة العرش ليسوا الملائكة [بالمعنى الشائع] بل هي الأرواح المجرَّدة التي هي فوق مقام الملائكة.
أمَّا بالنسبة إلى حديث الإمام الرضا عليه السلام الذي قال فيه انْظُرُوا إِلَى الْحُسَيْنِ، فهو لا يقصد شخص الإمام الحسين عليه السلام بالتأكيد، بل يقصد منهج وطبيعة سيِّد الشهداء عليه السلام، فيجب على الإنسان وكما ذكرتُ سابقًا أن يجعل من سيِّد الشهداء عليه السلام أُسوةً له في كلِّ لحظةٍ من لحظات حياته، فإنْ فعل مثل هذا الشيء، فسيكون ذلك هو نفس النظر في واقعة الإمام الحسين عليه السلام والنظر إلى زينب عليها السلام وكيفية تصرُّفهما.
كنتُ أحضر أحد مجالس المرحوم العلامة رضوان الله عليه في مشهد والذي كان يتحدَّث فيه عمَّا يحصل من تحدُّث النساء إلى الرجال. لقد كان متأثِّرًا جدًا ممَّا يحصل وقال: يُقَالُ بِأَنَّ السَّيِّدَةَ زَيْنَبَ قَدْ أَدَّتْ رِسَالَتَهَا؛ فَتَحَدَّثَتْ فِي الْمَجَالِسِ أَمَامَ النَّاسِ وَأَمَامَ يَزِيدَ وَأَفْرَادِ حُكُومَةِ الْكُوفَةِ، لِذَا فَلَا يُوجَدُ أَيُّ مَانِعٍ مِنْ أَنْ تَتَحَدَّثَ الْمَرْأَةُ أَمَامَ الرِّجَالِ. قال المرحوم العلامة رضوان الله عليه: كَانَ عُمْرُ السَّيِّدَةِ زَيْنَبَ سِتِّينَ سَنَةً، فَهَلْ حَصَلَ وَلَوْ لِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي هَٰذِهِ السِّتِّينَ سَنَةً الَّتِي كَانَتْ فِيهَا فِي الْمَدِينَةِ أَنْ تَكَلَّمَتْ أَمَامَ الرِّجَالِ؟ أَيَّةُ أُمُورٍ تِلْكَ الَّتِي تُطْرَحُ؟! إِنَّ التَّأْوِيلَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ الَّتِي تُطْرَحُ هي بِمَسْؤُولِيَّةِ مَنْ يَطْرَحُهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ سَيُسْأَلُ عَنْ طَبِيعَةِ أَفْكَارِهِ وَعَنْ كَيْفِيَّةِ طَرْحِهِ لِلْمَوَاضِيعِ! إنَّ ما نعرفه من الموضوع هو هذا، وعلينا أن نعرف هنا بأنَّه سيتمُّ مؤاخذتنا على أساس فهمنا وإدراكنا لا على أساس ما يفهمه الآخرون.
هنالك روايةٌ عمَّا حصل بين فاطمة الزهراء سلام الله عليها وابنِ أمِّ مكتومٍ الضرير عندما طرق باب السيِّدة الزهراء عليها السلام. إنْ أراد أولئك الناس أن يفسِّروا الرواية بمعنىً آخر، فذلك متروكٌ لهم، فهي حكايةٌ تاريخيةٌ لا شكَّ فيها. طرق ابنُ أمِّ مكتومٍ الباب، فخرجت السيِّدة الزهراء سلام الله عليها لكي تفتح الباب، وعندما علمت بأنَّه ابنُ أمِّ مكتومٍ تنحَّت جانبًا، فقال لها النبيُّ صلّى الله عليه وآله: «لِمَاذَا تَنَحَّيْتِ جَانِبًا، فَهُوَ رَجُلٌ أَعْمَىٰ؟» فكان جواب السيِّدة الزهراء عليها السلام بهذا الشكل: «صَحِيحٌ أَنَّهُ لَا يَرَانِي، وَلَٰكِنْ أَلَا يَشْعُرُ بِوُجُودِي كَامْرَأَةٍ؟!»۱ أتلاحظون؟ لقد كان هذا الكلام، هو كلام السيِّدة الزهراء عليها السلام، وهو كلامٌ قد صدر، وتستطيع أنت أن تستنتج منه الكثير. إنْ كان هنالك مَنْ يحاول أن يفسِّره بشكلٍ آخر ويربطه بالظروف المكانية والزمانية، فسيكون هذا الأمر خارجًا عن كيفية تفكيرنا وتعقُّلنا بالطبع، وسيكون هو المسؤول عن كلامه. فيجب على الإنسان رجلًا كان أو امرأةً أن يقتدي بسيرة سيِّد الشهداء عليه السلام.
عندما أرادت السيِّدة زينب عليها السلام أن تخرج من المدينة، تحرَّكت قافلة سيِّد الشهداء عليه السلام منتصف الليل، هذا أولًا، وثانيًا، ومن أجل أن لا تقع عينُ غريبٍ على السيِّدة زينب عليها السلام والأُخريات، أحاط شباب بني هاشم من محارم زينب عليها السلام بالهودج لكي لا يراهنَّ غريبٌ عند صعودهنَّ، فهكذا جِئنَّ إلى كربلاء، فكان يجب عليكم أن تخبروا الناس بهذا أيضًا. إنَّهنَّ جِئنَّ إلى كربلاء بهذا الشكل، ولم يكن لدى زينب عليها السلام غطاء رأسٍ في مجلس يزيد، فكانت تحاول تغطية رأسها بعباءتها، ولو لم تكن وجوه بنات سيِّد الشهداء عليه السلام مكشوفةً في مجلس يزيد، لما طلب ذلك الرجل من أصحاب يزيد، وقال: «هَبْ لِي هَٰذِهِ الْجَارِيَةَ» فلا بدَّ وأنْ يكون قد رأى وجهها، فإلى هذا الحدِّ بلغ الوضع بهم.
وهكذا هو الأمر عندما تتعلَّق الإرادة الإلهية. وعليكم أن تعرفوا أنَّ سَبْيَ السيِّدة زينب عليها السلام وأهلِ بيتِ سيِّد الشهداء عليه السلام كان أهمَّ وأكثر إيلامًا وأذىً من قضية كربلاء نفسها. إنَّ الرجل يكون مستعدًّا لكي يموت عشر مرَّاتٍ على أن لا تُمسَّ غيرته، وهذا الأمر يعكس مقدار إخلاص سيِّد الشهداء عليه السلام وتسليمه لأمر ربِّه ورضاه به رضًا مطلقًا، وهو ممَّا لم يحصل منه بمقدار رأس الإبرة للأنبياء السابقين عليهم السلام، فمتى حصل لهم مثل هذا الشيء؟! لم يحصل لهم شيءٌ من ذلك أبدًا. كيف يستطيع نبيٌّ من الأنبياء أن يقوم بما قام به الإمام الحسين عليه السلام؟! إنَّ ما قام به سيِّد الشهداء عليه السلام فريدٌ من نوعه، ولا يستطيع أيُّ أحدٍ غيره أن يقوم به.
إنْ تمعَّنتم في هذه القضية، فستجدون الأمور والحقائق تتفاوت تفاوتًا كبيرًا، ولهذا السبب نرى الإمام الرضا عليه السلام يقول: «مَنْ يَنْظُرْ إِلَى الْإِمَامِ الْحُسَيْنِ...»، فمعنى قوله هو: إنَّ مَنْ يتفحَّص في مرام ونهج الإمام الحسين عليه السلام، ومَنْ يتدبَّر في كلامه، وفيما قاله في كربلاء، وفي سيرته وفي كيفية تعامله مع كلِّ فردٍ من الأفراد، وكيف تعامل مع أبنائه، وفي خطابه ووضعه وحريَّته وعدم تعلُّقه بما سوى الله، حيث لا وجود لشائبةٍ من شوائب الكثرة في وجوده. إنَّه قال لأخيه أبي الفضل عليه السلام في ليلة عاشوراء: انْصَرِفْ، فَلِهَٰؤُلَاءِ النَّاسِ شَأْنٌ مَعِي أَنَا. ألم يستلم أبو الفضل عليه السلام رسالة أمانٍ؟ لقد أعطاه الشمر الأمان، وذلك لوجود قرابةٍ لوالدة أبي الفضل عليه السلام مع عشيرة الشمر. كما أذِنَ الإمام عليه السلام لأصحابه وحتّى أولاده وعليٍّ الأكبر عليهم السلام بالانصراف، فهكذا كانت طبيعة حريَّة الإمام عليه السلام وعدم تعلُّقه بشيءٍ، وكان قد رفع عن الناس حتّى التكليف الشرعي القاضي بوجوب الدفاع عن الإمام عليه السلام. فلو فرضنا الآن أنَّ إمام الزمان عليه السلام قد ظهر وتعرَّض لهجومٍ من قِبَلِ الكفَّار والأعداء، فسيكون الدفاع عنه والوقوف بوجه الأعداء والتعرُّض للقتل أمرًا واجبًا شرعيًّا فقهيًّا. لقد كان الإمام الحسين عليه السلام على درجةٍ من الحريَّة وعدم التعلُّق بالشكل الذي رفع فيه التكليف الشرعي المتمثِّل بالوجوب الشرعي للدفاع عن الإمام عليه السلام عنهم، فكان يقول لهم: «إِنَّ هَٰذَا الْأَمْرَ مَتْرُوكٌ لَكُمْ» مع كون الدفاع عن الإمام عليه السلام واجبًا شرعيًّا. كان الإمام عليه السلام يقول: «لَا حَاجَةَ لِي بِأَحَدٍ»
إنَّ التفكير والتدبُّر بسيرة سيِّد الشهداء عليه السلام وما حصل في كربلاء، يبعث على وصول الإنسان إلى مسائل جديدة.
يُستحسن أن آخذ هذه الرسائل معي وأقرأها، وإنْ لم يكن قد أُجيب عليها من قبل، فسأسعى إلى الحديث عمَّا جاء فيها في المجلس القادم إنْ شاء الله إنْ لم يحصل بَداءٌ وتمكَّنتُ من زيارتكم مرَّةً أخرى.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ