10

مقام الإنسان في عالم الوجود

خطبة عيد الفطر لعام 1423 هـ

7088
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمالمناسبات الإسلامية

المجموعةعيد الفطر

التاريخ 1423/10/01


التوضيح

من هم ﴿ٱلَّذِينَ سَبَقَت لَهُم مِّنَّا ٱلحُسنَىٰٓ﴾؟ وما ميزتهم عن الآخرين؟ ولماذا شملتهم إرادة الخير وسبقت لهم الحسنى؟ وما معنى رواية إنّ الله خلق قومًا للحق... وخلق قومًا لغير ذلك؟ وهل يؤدّي ذلك إلى الجبر؟
ما حقيقة مقام الإنسان في القرآن الكريم؟ وما معنى ﴿أَحسَنِ تَقوِيمٖ﴾ و ﴿أَحسَنُ ٱلخَٰلِقِينَ﴾ و ﴿أَسفَلَ سَٰفِلِينَ﴾؟ و كيف عبّر الله عن توجّه الإنسان من عالم التوحيد إلى عالم المادّة؟ وما معنى ﴿يَنزِعُ عَنهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوءَٰتِهِمَآ﴾ وما معنى ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾؟
وما هو العيد الحقّ لنا وماذا نطلب من الله فيه؟
تتناول هذه المحاضرة تفسير معنى سبق الحسنى من خلال بيان مقام الإنسان في القرآن وكيفيّة نزوله وتعلّقه بعالم المادّة وأسفل سافلين وانقسام الناس في ذلك إلى ظالم ومقتصد وسابق بالخيرات، مبيّنة كيفيّة تحقّق سبق الحسنى باختيار الإنسان.
كما تختم ببيان حقيقة العيد وارتباطها بمعرفة الإمام.

/۱۸
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • مقام الإنسان في عالم الوجود

  • خطبة عيد الفطر لعام ۱٤٢٣ هـ

  •  

  • محاضرة ألقاها 

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

2
  •  

  • أعوذُ بِالله مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم

  • بسم الله الرّحمن الرّحیم 

  •  

  •  

  • الحمدُ للهِ الواصِل الحمدَ بالنّعَم و النّعَمَ بالشّكرِ. نَحمَدُه علیٰ آلائهِ كمٰا نَحمَدُه علیٰ بَلائهِ، ونَستَعینُه علیٰ هذه النّفوسِ البِطاءِ عمّا أُمِرَت بِه، السِّراعِ إلیٰ ما نُهیَت عَنهُ، و نَستَغفِرُه عمّا أحاطَ بهِ عِلمُه و أحصاهُ كتابُه؛ عِلمٌ غیرُ قاصِرٍ و كتابٌ غیرُ مُغادِرٍ، و نُؤمِنُ بِه إیمانَ مَن عایَنَ الغُیوبَ و وَقَفَ علیٰ المَوعودِ؛ إیمانًا نفیٰ إخلاصُه الشّرك و یَقینُه الشّك، و أشهدُ أن لا إلهَ إلّا الله وَحدَه لا شَریك لَه وأنّ محمّدًا [صلّی الله علَیه و آله و سلّم] عَبدُه و رَسولُه أرسَلَه بالهُدیٰ و دینِ الحقّ لِیُظهِرَه علیٰ الدّینِ كلّه و لَو كرِهَ المُشرِكونَ؛ شهادتینِ تُصعِدانِ القَولَ وتَرفَعانِ العَملَ، لا یَخِفُّ میزانٌ توضَعانِ فیه و لا یَثقُلُ میزانٌ تُرفَعانِ عنهُ.

  • اُوصیكم عِبادَ الله بتَقویٰ الله الّتی هی الزّادُ و بِها المَعاذُ [المعاد]؛ زادٌ مُبلِّغٌ و مَعاذٌ [معاد] مُنجِحٌ، دَعا إلَیها خیرُ داعٍ و وَعاها خَیرُ واعٍ؛ فَأسمَعَ داعیها و فازَ واعیها.۱

  • ﴿بِسۡمِ ٱللَهِ ٱلرَّحۡمٰنِ ٱلرَّحِيمِ ۱ قُلۡ هُوَ ٱللَهُ أَحَدٌ ٢ ٱللَهُ ٱلصَّمَدُ ٣ لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ ٤ وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ﴾.٢

    1. مستفاد من نهج البلاغة (صبحی صالح)، ص ١٦٩.
    2. سورة الإخلاص (١١٢).

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

3
  •  

  •  

  • بسم الله الرّحمٰن الرّحیم

  • ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰٓ أُوْلَـٰٓئِكَ عَنۡهَا مُبۡعَدُونَ ، لَا يَسۡمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمۡ فِي مَا ٱشۡتَهَتۡ أَنفُسُهُمۡ خَٰلِدُونَ ، لَا يَحۡزُنُهُمُ ٱلۡفَزَعُ ٱلۡأَكۡبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ هَٰذَا يَوۡمُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ﴾.۱

  • صلّوا على محمّد وآل محمّد.

  • من هم الذين سبقت لهم الحسنى؟ وما ميزاتهم؟ ولماذا خصّوا بالحسنى؟ 

  • بيّن الله تعالى في هذه الآيات سرّ السعادة والفلاح قائلاً: 

  • الذين شملتهم الحسنى الإلهيّة وشملتهم إرادة الصلاح والفلاح والنجاح هم في أمان من العذاب الإلهيّ والقلق في يوم القيامة، ولن تمسّهم النار، ولا يسمعون صوت جهنّم ولهيبها ويتنعّمون في جنّات الخلد بالنعم الإلهيّة ولا يصيبهم ذلك الفزع الأكبر والاضطراب والقلق الذي لا حدّ له ولا حصر من أهوال يوم القيامة والذي يصيب البشر، وهم في غاية الأمن والأمان والهدوء والسكينة والاطمئنان، والملائكة يلتقون بهم ويبشّرونهم بأنّ هذا اليوم هو اليوم الذي وعدكم الله به في الدنيا، وأنتم ترون جزاء عملكم في الدنيا هذا اليوم. 

  • فمن هم هؤلاء؟ وما ميزتهم عن الآخرين؟ ولماذا شملتهم إرادة الخير وسبقت لهم منّا الحسنى؟ 

  • ما حقيقة مقام الإنسان وما معنى ﴿أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ﴾ و ﴿أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ﴾؟

  • عندما خلق الله تعالى الإنسان بحكمته القاهرة جعله في أحسن حال وأحسن وضع، وأودع فيه صفاته الكماليّة وجعل فيه الاستعداد للكمال، وجميعُ أفراد البشر يتمتّعون بهذه النعمة الإلهيّة بغير تفاوت وبغير اختلاف، ولديهم هذا الاستعداد للوصول إلى الكمال. يقول في الآية الشريفة: 

  • ﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ ، ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ ، إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ﴾.٢

  • نحن خلقنا الإنسان في أحسن نظام وأحسن مكانة في عالم الوجود، فالتفتوا إنّ هذا التعبير ﴿أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ﴾ اختصّ بالإنسان من بين جميع المخلوقات التي خلقها الله من عالم المادّة: الأرض والسماء، ومن عوالم المعنى: الملائكة والجنّ والشياطين والأرواح الطيّبة والأرواح النورانيّة وعوالم الأنوار، فالله لم يقل أبدًا حول خلق الملائكة أنّنا خلقناهم في أحسن تقويم، ولم يقل في حقّ الجنّ أنّه خلقهم في أحسن تقويم وصورة، ولكنّ هذا الأمر وهذا التعبير من الله يلاحظ بأشكال مختلفة في حقّ الإنسان، فهنا يقول: ﴿فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ﴾؛ وفي آية أخرى يقول: ﴿فَتَبَارَكَ ٱللَهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ﴾؛٣ حيث قيّم نفسه هنا بأنّه أحسن خالق. 

    1. سورة الأنبیاء (٢١) الآیات ١٠١ ـ ١٠٣.
    2. سورة التین (٩٥) الآیات ٤ ـ ٦.
    3. سورة المؤمنون (٢٣) الآية ١٤. 

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

4
  • وحيث إنّ الله تعالى يرى جميع العوالم منتسبة إليه، ويرى نفسه مالكًا وسلطانًا في جميع العوالم، فلا يمكن أن يكون الخالق متعدّدًا، فليس معنى أحسن الخالقين أنّ هناك في مقابل الله تعالى خالقون آخرون كأنداد وأضداد، بل صار الخالق هنا متعدّدًا بلحاظ الانتساب إلى الحيثيّة الخلقيّة، فالله تعالى له في خلق السماء والأرض نوع من الخالقيّة ونوع من البروز والظهور، وفي خلق عوالم الوجود نوع آخر من البروز والظهور، وفي خلق الجنّ نوع ثالث من البروز والظهور، ولله تعالى في خلق الإنسان ظهور وبروز مختلف عن سائر حيثيّات الخلق، وقد استعمل في حقّ الإنسان من بين جميع المخلوقات تعبير: ﴿تَبَارَكَ ٱللَهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ﴾؛ ففي مقام خلق الإنسان لا يمكن أن يتحقّق أفضل من ذلك، فهل التفتّم إلى دقّة الأمر؟ أي إنّ الخلق الذي استعمل في الإنسان لا يمكن أن يتحقّق أفضل منه، والله تعالى بلغ الذروة في خلقه الإنسان هذا واستعمل كامل ما لديه من قدرة. فالأمر ليس مزاحًا! وقد جعل الله تعالى في خلق الإنسان كلّ ما يحتاجه من أجل التكامل والكمال إلى اللانهاية، وعبّر عن هذا بـ ﴿أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ﴾ ﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ﴾؛ بعد ذلك أنزلناه إلى العوالم الدنيا ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ﴾ إلا الذين يؤمنون ويعملون الصالحات فهؤلاء لهم أجر بغير وبغير حساب وبغير منّة. 

  • ما معنى ﴿أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ﴾ هنا؟ 

  • إذا التفتنا إلى كيفيّة نزول الوجود في عالم الخلقة للاحظنا أنّ الله تعالى قد نزّل من أجل خلق عوالم الوجود أسماءه وصفاته الجماليّة والجلاليّة في قالب الجزئيّات وفي حدود مختلفة. إنّ لكلّ واحد من المخلوقات في عالم الوجود حصّة من الأسماء والصفات الإلهيّة، ومن بينها جميعًا تشرّف الإنسان بشرف خاصّ وتتوجّ بتاج كرامة وهو أنّ الله تعالى نزّل فيه من ذات وجوده اللامتناهي وذاته وحقيقته التي لا حدّ لها ولا رسم وهويّته التي لا يشار إليها، فإضافة إلى ترشّح الوجود من الأسماء والصفات الكليّة الإلهيّة، الأهمّ من جيمع ذلك والذي لا يقاس إلى سائر الآثار الوجوديّة لله هو ذاته تعالى والتي هي مرتبة لا يمكن للإنسان أن يتصوّرها. 

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

5
  • لذلك وبسبب هذه القابليّة ورأس المال الذي أودعه الله في الإنسان فقد نال الإنسان تفضيلاً ورفعة على سائر المخلوقات، ومكانة الإنسان واستعداده مختلف إذا ما قيس إلى جميع الاستعدادات والمكانات عند سائر المخلوقات، والتكامل والكمال اللانهائي المترتّب على وجود الإنسان لا وجود له عند سائر المخلوقات. فهنا الموضع الذي لا يمكن حتّى للملائكة المقرّبين أن يسيروا في أفقه، وهنا الموضع الذي تتوقّف فيه السعة الوجوديّة لجميع الأفراد وجميع العباد ولا يدخل إلا وجود الإنسان الذي شمله خطاب ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾۱ فجاء نداء لَو دَنَوتُ أنمُلَةً لَاحْتَرَقتُ٢ معلنًا عجز الملائكة المقرّبين، إنّ هذا المكان وهذه المكانة مختصّان بالإنسان، وهذه هي الدرجة التي لا يطرح فوقها كمال. 

  • فإذن علينا نحن أن نعرف قيمة أنفسنا وقدرنا، وأن نلتفت إلى هذه المكانة التي اختصّنا الله بها، ولا نخسر رأس المال هذا بالمجّان، ولا نغفل عمّا عبّر الله عنه بالقياس إلى سائر مخلوقاته بأنّه ﴿أَحۡسَن﴾، ولا نكون سلبيين أمام الأمر الذي يفتخر الله به على سائر المخلوقات! المقام هنا مقام التوحيد.

  • ﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ﴾؛ نحن خلقنا الإنسان في أحسن مكانة هي عبارة عن السكن والوقوف في عالم التوحيد، التوحيد الذاتيّ لله، نحن خلقنا طينة الإنسان من هناك، ومزجناها بالتعلّق بالمادّة وخلطنا بين هذين الأمرين. هناك عالم التوحيد، عالم الرَّوح والريحان، عالم الصفاء واللون الواحد، وعالم الحقيقة، لا وجود هناك للاعتبارات، لا وجود لـ "أنا" و"أنت" هناك، ولـ "لعلّ" و "ربّما". هناك عالم الوحدة، عالم الصفاء والصميميّة المطلقة. ليس هناك أيّ نوع من التعيّن وإظهار الأنا ولا من الاستقلال، وقد عبّر عن ذاك العالم بـ ﴿أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ﴾ نحن خلقنا الإنسان في هذه المكانة، وجعلنا فيه الاستعداد للرجوع إليها، ونحن جعلنا ﴿أَحۡسَن تَقۡوِيمٖ﴾ هذه من أجل إمكانيّة الوصول إلى مقامه التكامليّ ذاك وتحقيق ذلك المقام وتلك المكانة، في حين أنّ سائر المخلوقات حتّى لو أرادت لا يمكنها أن تصل إلى تلك المرتبة. 

  • ما معنى ﴿أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ﴾؟

  • ولا ينتهي الأمر هنا ولكن ﴿ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ﴾ أنزلنا الإنسان إلى عالم الدنيا، وعالم الدنيا يعني عالم التعلّقات عالم التعيّنات، عالم الآراء الشخصيّة ومحوريّة الأنا، عالم المنافسة، عالم الحسد والغرور، عالم النظر إلى الخارج والغفلة عن الداخل، عالم الطرد! نحن أرسلنا الإنسان إلى هذا العالم، هذا العالم عالم أسفل السافلين، فمن حيث السير في عوالم الوجود ومن حيث الاغتراب والبعد عن الله، أدنى وأحطّ العوالم هو عالم الاعتبار هذا. 

    1. سورة النجم (٥٣) الآية ٨ و ٩. 
    2. مناقب آل ‌أبي ‌طالب علیهم السلام، ج ١، ص ١٧٩.

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

6
  • فالمقصود من ﴿أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ﴾ ليس عالم المادّة والكرة الأرضيّة، فالكرة الأرضيّة وعالم المادّة مخلوق من مخلوقات الله، وليس هناك من خلل أو إشكال في سكن الإنسان ونزوله إلى عالم التراب، والتعامل مع المادّة والاستفادة منها ومن آثارها ومنافعها المترتّبة على النزول والسكن في عالم المادّة، بل المقصود من ﴿أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ﴾ ـ هذا التعبير الذي استعمله الله تعالى هنا ليعبّرعن منتهى الذلّ والدناءة لموقع الإنسان ـ هو التعلّق بالمادّة والانغماس فيها، وتعلّق القلب بها، ونسيان القيم التي أودعها الله فينا والانغمار في التعلّقات والاعتبارات في عالم المادّة هذا! هذا هو المراد من ﴿أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ﴾ الذي يبتلى الإنسان به عند التعلّق بالمادّة، في مقابل جميع الأمور التي عبّر الله تعالى عنها بتعبير ﴿أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ﴾.

  • هناك عالم الوحدة، وهنا عالم الكثرة! هناك عالم التوحيد، وهنا عالم الأنانيّة والاستبداد بالرأي والتملّك للنفس! 

  • هناك عالم اللون الواحد، وهنا عالم التظاهر وبروز النفس وظهورها وظهور الأمور النفسيّة! 

  • هناك عالم عدم الاختلاف وعدم التعيّن، وهنا عالم محوريّة الأنا واستجلاب جميع المنافع للنفس وحرمان الآخرين منها! 

  • هناك عالم الوحدة في النفوس، وهنا الأساس هو الكثرة في النفوس والانفصال والافتراق بينها وسوء الظنّ والبينونة بينها. فأساس ومحور عالم الدنيا هو التفريق. هذا المعنى هو معنى ﴿أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ﴾.

  • هذا العالم محطّ لهذا النوع من الصفات الرذيلة، هذا العالم مكان يمكن فيه أن ينمو هذا النوع من الصفات، ما دام الإنسان في ذاك العالم فلا خبر عن هذه الأشياء، في عالم البرزخ وفي عالم القيامة لا خبر عن هذه الأشياء، وفي عوالم الغيب وفي عوالم الربوبيّة لا ترى هذه الأمور، المجيء إلى هذه الدنيا هو الذي ابتلانا بهذه الابتلاءات، والتعلّق بهذه الدنيا وبعالم المادّة هو الذي أجبرنا على ترك تلك الرؤية التوحيديّة والنظر برؤية الكثرات. 

  • ما معنى ﴿ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ﴾؟

  • ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ﴾ فقط هؤلاء هم الذين أخرجوا أنفسهم من التعلّقات والمشكلات والاتّصاف بهذه الصفات الذميمة وهذه الرذائل الأخلاقيّة... 

  • فالأمر الأوّل والأساس: هو الاعتقاد والإيمان، الإيمان والعمل عن إيمان. 

  • الثاني: هو المتابعة على أساس ذلك الإيمان، وعدم ترك النفس عاطلة مهملة، ومتابعة الأمور والسعي في الطريق والمسير الذي لا بدّ أن يطوى، والعمل ببرنامج السير. 

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

7
  • ﴿ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ﴾ يؤمن الإنسان ويعمل صالحًا، وبناء على ذلك في كلّ مرتبة من مراتب الوجود وفي كلّ دقيقة من دقائق الليل والنهار وفي كلّ ساعة وفي كلّ موقف وفي كلّ حادثة وفي كلّ مسألة يواجهها الإنسان لا بدّ أن يهتمّ بهذين الأمرين، ويعمل بهذا الأمر: ﴿ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ﴾ فأوّلاً: يجب أن يجعل ذهنه متوجّهًا إلى الله ويستمدّ في تلك الواقعة والموقف من الله، وبعد ذلك الاستمداد من الفيوضات والنفحات الإلهيّة يقوم بعمل صالح، عمل هو مقتضى العقل والمنطق وأمر الشرع، ولا يمكن أن يقوم بالعمل هكذا من تلقاء نفسه! 

  • هذا التعلّق بعالم الكثرة يسبّب تنزّل الإنسان. 

  • كيف توجّه الإنسان من عالم التوحيد إلى عالم المادّة؟

  • يعبّر الله تعالى عن وجود الإنسان في ذلك العالم ثمّ هبوطه إلى عالم المادّة بهذا النحو: 

  • ﴿فَقُلۡنَا يَـٰٓـَٔادَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوّٞ لَّكَ وَلِزَوۡجِكَ فَلَا يُخۡرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلۡجَنَّةِ فَتَشۡقَىٰٓ ، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعۡرَىٰ ، وَأَنَّكَ لَا تَظۡمَؤُاْ فِيهَا وَلَا تَضۡحَىٰ ، فَوَسۡوَسَ إِلَيۡهِ ٱلشَّيۡطَٰنُ قَالَ يَـٰٓـَٔادَمُ هَلۡ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِ وَمُلۡكٖ لَّا يَبۡلَىٰ﴾.۱

  • عندما كان آدم في الجنّة وفي ﴿أَحۡسَنِ تَقۡوِيم﴾ ولم يكن قد تنزّل بعد إلى عالم المادّة ولم يكن قد تعلّق بها، نبّهناه على أمور سنذكرها: 

  • قلنا له: ﴿إِنَّ هَٰذَا عَدُوّٞ لَّكَ وَلِزَوۡجِكَ﴾ هذا الشيطان الذي تراه هو عدوّ لك كما أنّه عدوّ لزوجتك، فالله تعالى هنا قد نبّه هذين الزوجين بشكل واضح على وساوس الشيطان ومخاطره، سواء بالنسبة إلى الزوج أو بالنسبة إلى الزوجة، وسواء بالنسبة إلى الأب أو بالنسبة إلى الأمّ، وسواء بالنسبة إلى الأخ أو بالنسبة إلى الأخت، سواء بالنسبة إلى المرأة أو بالنسبة إلى الرجل! ففي جميع هذه الموارد على الإنسان أن يسدّ الثغرات والمنافذ.

  • ﴿إِنَّ هَٰذَا عَدُوّٞ لَّكَ وَلِزَوۡجِكَ﴾ فالتأكيد الموجود هنا هو لكي لا يتصوّر أيّ من الطرفين أنّه بمعزل عن الشيطان؛ لأنّ كلا الجنسين متساويان في هذا الأمر!

  • ﴿فَلَا يُخۡرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلۡجَنَّةِ فَتَشۡقَىٰٓ﴾ احذرا أن يخرجكما من الجنّة فتكونا من الأشقياء. 

  • ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعۡرَىٰ﴾ فما دمت في الجنّة لن يصيبك جوع أبدًا، ولن تكون بغير لباس أبدًا، ولن تكون عيوبك مفضوحة أمام الناس أبدًا، لن تصيبك حالة من الافتقار في أيّ وقت من الأوقات ولن تصاب بأذى. 

    1. سورة طه (٢٠) الآیات ١١٧ ـ ١٢٠. 

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

8
  • فهذه من خصوصيّات الجنّة، كما ذكرنا في خصوصيّات الجنّة التي هي مرتبطة بعالم التوحيد فهذه الأمور موجودة، فلا قلق هناك، لا جوع هناك، لا عطش هناك، لا عري هناك، لا انكشاف للسوءات والصفات غير المناسبة، بل الجميع هناك بلون واحد، والجميع هناك بحالة صفاء، والجميع هناك في حالة رَوح ورضوان! 

  • ﴿فَوَسۡوَسَ إِلَيۡهِ ٱلشَّيۡطَٰنُ قَالَ يَـٰٓـَٔادَمُ هَلۡ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِ وَمُلۡكٖ لَّا يَبۡلَىٰ﴾

  • قال الشيطان: هل أدلّك على شجرة تكون لك إلى الأبد؟ تلك شجرة الحياة والاستفادة من الدنيا إلى الأبد وتعلّقك بها دائمًا، فالسلطنة دائمة، والشجرة شجرة الخلد. 

  • لقد عبّر في هذه الآية عن الاستفادة من منافع الدنيا الماديّة بالشجر، والاستفادة من الدنيا بشكل روحي ونفسي عبّر عنه بالملك، أي أنّي أضمن لك هذه الدنيا ومنافعها. فما هو في هذا العالم ـ والذي تفنى فيه النعم الظاهريّة الإلهيّة ـ يوسوس الشيطان [حوله] هناك، وبكلام باطل يقوم بإدخال الباطل إلى الإنسان ويظهره له، ويترك الحقيقة جانبًا، وينسيه ما جاء منه، ويسلّي قلبه بما يزول ويفنى، وتمامًا خلافًا لما كان يبدأ شيئًا فشيئًا بالوسوسة ويزيل تلك الحالة الأولى. 

  • ﴿وَمُلۡك لَّا يَبۡلَىٰ﴾؛ فالشياطن يقول هذا السلطان لا يفنى أبدًا، والإنسان يُخدع ويُغرّ فيرى فجأة أنّ تلك الوعود التي كانت في ذهنه وكان يتصوّرها، وتلك العلاقات التي كان يتصوّر في ذهنه أنّها أبديّة، والصداقات التي كان يتصوّر أنّها لا نهاية لها، وتلك العلاقات النسبيّة والرحميّة التي كان يتخيّل أنّها ستدوم له، فجأة يرى أنّها تزول، يزول الأقارب، يُبعد الرفيق الإنسان، فينقلب السلطان، ويصبح الإنسان مخلوعًا ومطرودًا منزويًا!

  • عجيب ماذا كنّا نعتقد؟! كيف كانت هذه الأمور قد استقرّت؟! كيف كنّا نفكّر بأنّ هذه التعلّقات دائمة لنا؟! كيف كنّا نتصوّر أنّ هذه الأمور التي تحيط بنا هي دائمة لنا؟! ولكن الآن نرى أنّه لا خبر عنها، فلا رفيق يأخذ بأيدينا، ولا أقارب يهتمّون بنا، ولا سلطان ولا قدرة نتّكئ عليها ونستند إليها في حياتنا! حينها يرى الإنسان أنّ عمره قد انتهى باطلاً وخسر ذخائره وشمس العمر على مشارف المغيب، ولم يعد هناك مجال لتدارك ما فات. 

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

9
  • الله تعالى يقول لنا نحن أيضًا ما قاله لآدم:

  • ﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ لَا يَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ كَمَآ أَخۡرَجَ أَبَوَيۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ﴾.۱

  • احذروا يا بني آدم أن يخدعكم الشيطان كما خدع أبويكم وأخرجهما من الجنّة. 

  • واقعًا عجيب! فنحن نرى الأمور في هذه الدنيا بأعيننا ولكن لا نعتبر، والحال والتعلّق بنحو يجعل الغشاء على أعيننا، لقد رأينا بأعيننا جميع الأمور وجميع الحالات، فأين ذهبت تلك الحكومات؟ تلك الحكومات التي كانوا يظنّونها أبديّة أين ذهبت؟! بلمحة بصر وبإرادة واحدة طُوي سجلّ تلك السلطات وقصدوا كلّ مكان بحثًا عن مأوى ومكانة وكسب رفيق وصديق ولكن لم يُفسِح لهم أحد المجال! أليس هذا عبرة لنا؟! واقعًا أليس هذا عبرة لنا؟! ماذا كان هؤلاء يظنّون؟ وماذا كان يجول في أذهانهم؟ أين ذهب ما كان يعتمدون عليه؟! وماذا حصل بما كانوا يستندون إليه؟! ماذا حصل بقواهم؟! أين ذهبت علاقاتهم وأصحابها التي كانت لهم هنا وهناك؟! كلّ ذلك قد ذهب بأجمعه! ألا ينبغي أن يكون هذا عبرة لنا وأنّه سيأتي يومنا نحن أيضًا؟! حينما يحلّ الأجل فلا رفيق يغيثنا ولا مال ولا قدرة تأخذ بأيدينا ولا علاقات يمكنها أن تصنع لنا شيئًا! فهذه أمور رأيناها بأعيننا، وكلّ ذلك هو تنبيهات ونداءات من الله في وجدان وضمير كلّ واحد منّا لكي نكون على اطّلاع بأوضاع أنفسنا. وعلى كلّ إنسان في أيّ موضع كان أن لا ينسى هذا الأمر، أنا بالنسبة إلى وضعي، وأنتم بالنسبة إلى أوضاعكم. 

  • ﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ لَا يَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ كَمَآ أَخۡرَجَ أَبَوَيۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ يَنزِعُ عَنۡهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوۡءَٰتِهِمَآ﴾.٢ هذه الآية عجيبة جدًّا فالله يقول: العمل الذي يقوم به الشيطان هو أنّه يخلع عن وجود الإنسان لباس التقوى والتنزيه والتزكية. 

  • ما معنى اللباس في آية ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾؟

  • ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾؛٣ اللباس يعني ذلك الشيء الذي يلبسه الإنسان ليحفظ نفسه به من أذى الأمور غير الملائمة، فالإنسان يلبس في الحرّ لباسًا ليقي نفسه من الحرّ، وفي البرد يلبس لباسًا كيلا تؤثّر عليه البرودة. فلو خلع الإنسان اللباس لابتلي بأنواع من الأمراض والآلام. فالله لم يجعلنا بنحو يمكن لهذا البدن الظاهري أن يكون بغير لباس، فالتعرّض للحرّ والبرد يؤذي هذا الجسم ويعرّضه للمرض. وبما أنّ بدننا هذا يحتاج إلى لباس أفلا تحتاج روحنا إلى لباس أيضًا؟ ألا تحتاج روحنا في مواجهة المخاطر والصدمات ولمواجهة الذنوب والقبائح وارتكاب الجرائم والقبائح إلى اللباس والثياب؟! وما هو هذا اللباس؟

    1. سورة الأعراف (٧) الآية ٢٧. 
    2. سورة الأعراف (٧) الآية ٢٧. 
    3. سورة الأعراف (٧) الآية ٢٦. 

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

10
  • إنّه عبارة عن التقوى، وعبارة عن جعل الإنسان نفسه في حصن وفي حرم أمن وأمان الإيمان بالله. فهذا يصبح لباسًا للإنسان. فإذا أراد الإنسان أن يخرج من منزله، فإنّه في البداية يلبس هذا اللباس ثمّ يخرج، إذا كان الإنسان يريد أن يلتقي بأحد فإنّه قبل أن يدخل إلى منزله يلبس هذا اللباس ثمّ يدخل! ارتداء هذا اللباس يعني الالتفات إلى ما يقوله هناك، لا قدّر الله أن يتكلّم بكلام باطل، لا قدّر الله أن تغلب عليه الأحاسيس، لا قدّر الله أن تخفي النفس الحقائق ولأجل الوصول إلى بعض الحطام يدوس على الحقّ والواقع! إذا أراد الإنسان أن يدخل إلى دكّانه ومحلّ تجارته فعليه أوّلاً أن يلبس هذا اللباس ثمّ يدخل. إذا أراد الإنسان أن يتعامل مع رفيقه، فعليه أوّلاً أن يلبس هذا اللباس ثمّ يتعامل، وفي جميع الموارد على الإنسان أولاً أن يلبس هذا اللباس ويتأمّل لحظة ويرى نفسه محاسبًا أمام الله وأمام أعماله، فإنّه سيأتي يوم يسأل فيه.۱

  • [إنّ الشيطان] ينزع لباسنا كما ﴿يَنزِعُ عَنۡهُمَا﴾، لقد نزع عن آدم وزوجه التوجّه إلى الله، وبواسطة عدم التوجّه هذا مالا إلى الدنيا وعملا خلاف ما أمرا به! [الله يقول]: قلنا لا تأكلا من هذه الشجرة ولكنّهما أكلا منها. 

  • إظهار نقاط ضعف الإنسان ونقصه بواسطة الشيطان

  • ﴿لِيُرِيَهُمَا سَوۡءَٰتِهِمَآ﴾؛ فالشيطان لا يريد أن يأتي للناس بنقاط القوّة وبتعلّقهم وارتباطهم بعالم الغيب ويريهم ذلك ويبيّنه لهم، بل يريد أن يرينا نقاط الضعف في وجودنا ونقاط الخلل والنقص بواسطة الدخول في الأحداث وبواسطة التزيين والإراءة، ﴿لِيُرِيَهُمَا﴾ يعني ليظهر لهما فالشيطان يظهر ذلك. 

  • فلو دقّق الإنسان في أهل الدنيا والتعلّق بالدنيا لرأى أنّ الحاكم عليهم وعلى وجودهم هو الكدورة والظلمة والأنانيّة ومحوريّة الذات، فهذه الأشياء هي التي جعلها الشيطان في تلك الحالة لكي تتمكّن هذه الصفات بواسطة العمل والدخول في هذه الظواهر من النموّ فتوكَلَ الصفات الحسنة إلى دائرة النسيان. 

  • والله هنا يقول لنا هذا الأمر، فهؤلاء أناس يأتون إلى الدنيا ولكن لا صلة لهم بأمور الآخرة، هؤلاء أناس يأتون إلى الدنيا ولكن لا صلة لهم بباطن الأمر. 

    1. للأسف هناك قسم من الصوت غير متوفّر في هذا الموضع. (م)

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

11
  • أنواع الناس في تعلّقهم بالدنيا

  • يقسّم الله تعالى هنا الناس من حيث تعلّقهم بالدنيا وعدم تعلّقهم بها إلى ثلاثة أقسام: 

  • ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَا فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَهِ﴾.۱

  • نحن أودعنا هذا الكتاب وقانون السير والسلوك إلى الله بين الناس وبيّنا حقائق التشريع والتربية للناس، فبعضهم ﴿ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ﴾ لا يعرفون قيمة أنفسهم ومكاناتهم، لا يعرفون أيّ جوهر يخسرون، لا يعرفون هم في أيّ ورطة يقعون، ولا يعلمون أيّ غد ينتظرهم! فهؤلاء ظالمون لأنفسهم. 

  • یكی بر سرِ شاخ و بُن می‌برید***خداوند بستان نگه كرد و دید
  • بگفتا گر این مرد بد می‌كند***نه با من كه با نفس خود می‌كند٢
  • يقول: كان أحدهم يعتدي على الأغصان والجذوع فنظر ربّ البستان ورأى 

  • قال إن كان هذا الرجل يسيء فإنّه لا يسيء إليّ وإنّما إلى نفسه. 

  • فهؤلاء يظلمون أنفسهم ويقضون على حقيقة ﴿أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ و ﴿أَحۡسَنِ تَقۡوِيم﴾ ويطحنونها تحت أرجلهم وليس فقط لا يسمحون لهذه الحقيقة أن تتفتّح، ولكنّهم بانشغالهم بتعلّقات الدنيا والمشكلات النفسيّة والخيالات والأوهام الشيطانيّة يوصلون هذه الذخيرة الوجوديّة إلى الصفر، ولا يتركون في أنفسهم شيئًا من تلك الحقيقة التي يمكن أن ترشدهم، وهنا موضع أن يختم الله على قلوبهم ﴿خَتَمَ ٱللَهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾؛٣ ممّا يعني أنّهم لا قابليّة للهداية فيهم، تسمع آذانهم آيات القرآن، ولكن صوته فقط، ترى أعينهم العبر، ولكن مجرّد رؤية، ولم يعد هناك فرق بين رؤيتها ورؤية الشيء الجامد، لم يعد هناك فرق بين استماعها واستماع جهاز جامد، لم يعد هناك فرق بين قلوبهم والجمادات، فهذا عملهم، ﴿فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ﴾.

  • والقسم الثاني﴿وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ﴾؛ وهم أناس يختارون طريق الاقتصاد والاعتدال، يراعون الجهات، ويحدّدون المصالح والمفاسد فيتركون المفاسد ويأخذون بالمصالح، ينتخبون ما هو مفيد لهم، وفي الوقت نفسه لا يتركون نصيبهم من الدنيا، فهم يراعون الاعتدال في جميع الأمور. فهذه جماعة أيضًا. 

  • ولكن لدينا قسم ثالث أيضًا هم الذين حازوا قصب السبق، فمن هم هؤلاء؟ ﴿وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ﴾؛ هؤلاء أناس أينما وجد الخير فلا يتوقّفون ويتأمّلون، وليسوا يبحثون عن زيادة مصالحهم، هؤلاء مهيّمون ومتيّمون بجمال المحبوب وحريم المعبود وقد خسروا كلّ شيء في سبيله حتّى لا يعرفون رؤوسهم من أرجلهم، هؤلاء أناس لا يتأتّى القياس إلى مخيّلتهم، لا يأتيها أن هل أقوم بهذا العمل أم بذاك؟ بل يرون جهة واحدة فقط لا غير، يرون حريمًا واحدًا لا غير، يرون طريقًا واحدًا لا غير، ﴿سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ﴾؛ فهؤلاء نوع لديهم سبق إلى الخيرات. ﴿ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ﴾؛٤ هذا هو الفضل والعطاء والنعمة الكبيرة التي أعطاهم الله. 

    1. سورة فاطر (٣٥) الآية ٣٢.
    2. بوستان سعدی، باب اول، بخش ١٦.
    3. سورة البقرة (٢) الآية ٧. 
    4. سورة فاطر (٣٥) الآية ٣٢. 

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

12
  • هؤلاء هم مصداق ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدۡخُلُونَهَا يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَلُؤۡلُؤٗا وَلِبَاسُهُمۡ فِيهَا حَرِيرٞ﴾.۱ الله يقول: إنّ هؤلاء يدخلون الجنّة فيزيّنهم الله بلباس من حرير وأفضل زينة من حيث الظاهر ومن حيث الباطن. هؤلاء يقولون: 

  • ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ، الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ﴾.٢

  • الحمد مختصّ بالله الذي أذهب من وجودنا الحزن ولم نعد نحزن يوم القيامة، ولم نعد نغبط يوم القيامة ولم نعد نشعر بالحسرة والندامة يوم القيامة. 

  • ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰٓ أُوْلَـٰٓئِكَ عَنۡهَا مُبۡعَدُونَ﴾٣ 

  • هؤلاء الذين سبقت لهم منّا الحسنى فجعلتهم في هذا الطريق، هم الذين لا حزن لديهم، هؤلاء هم الذين نوّر الله قلوبهم فصاروا يميّزون بين طريق الحقّ والباطل وسيطر على وجودهم النور. 

  • معنى رواية إنّ الله خلق قومًا للحق... وخلق قومًا لغير ذلك 

  • هناك رواية عجيبة عن الإمام الصادق عليه السلام يقول فيها: 

  • إنّ الله [عزّوجلّ] خَلقَ قومًا لِلحقّ، فإذا مَرّ بهمُ البابُ مِن الحقّ قَبِلَتهُ قُلوبُهم و إن كانوا لا یَعرِفونَه... و خَلقَ قومًا لِغیرِ ذلك... و إذا مَرّ بهمُ البابُ مِن الباطلِ قَبِلَتهُ قُلوبُهم و إن كانوا لا یَعرِفونَه.٤

  • خلق الله تعالى قومًا للحقّ وللتمييز بين الحقّ والباطل، وجعل قلوبهم مستعدّة لقبول الحقّ. فهؤلاء أناس إذا ما واجهوا ظاهرة أو حدثًا أو كلامًا حقًّا يقبلونه دون أن يلتفتوا. فأنتم رأيتم عندما تكونون في مجلس فيطرح كلام صحيح لا نقاش فيه كيف يختلف تلقّي الناس له فبعضهم يقبله بسهولة، وبعضهم لا يقبله. فلماذا الأمر هكذا؟

  • وهكذا خلق الله تعالى جماعة لأجل الباطل، فإذا ما انفتح باب من الباطل أمامهم قبلوه، وإن لم يكونوا يعرفونه ولم يخبرهم به أحدٌ قبل ذلك. ما دام هناك استعداد للانحراف نرى أنّ ميل بعض الأفراد إلى ذلك هو أكثر. ولكن هناك من ميلهم إلى الحقّ والقرب جبليّ وفطريّ وهو طريقهم. 

  • ثمّ هل خلق الله تعالى هذه الأمور للفرد منذ الأزل؟ أم أنّ جميع الناس مستعدّون لتلقّي الحقّ وتلقّي الباطل؟

    1. سورة فاطر (٣٥) الآية ٣٣.
    2. سورة فاطر (٣٥) الآية ٣٤ و ٣٥.
    3. سورة الأنبیاء (٢١) الآية ١٠١.
    4. الكافي، ج ٢، ص ٢١٤.

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

13
  • عندما يقوم إنسان ببعض الأعمال في مقام الاختيار فإنّه يربّي نفسه شيئًا فشيئًا على أيّ عمل يقوم به، فإن ارتكب عملاً باطلاً زالت بالتدريج روح الإيمان التي هي روح الميل إلى الحقّ من وجوده، إذا ارتكب الإنسان ذنبًا فإنّه بداية يشعر بالخجل بشدّة، إذا كذب يشعر بالخجل، إذا ارتكب خيانة فإنّه يشعر بالخجل وتلومه نفسه دائمًا، ولكنّ عمله هذا يجعله أكثر تهيّؤًا للخيانة اللاحقة والباطل اللاحق والعمل القبيح اللاحق، فإذا قام بالعمل الثاني يرى أنّ شعوره بالخجل أقلّ، وإذا ما ارتكب عملاً ثالثًا قلّ خجله وهكذا إلى أن يصل إلى مرحلة يصبح فيها ارتكاب الباطل سهلاً عليه وبسيطًا ولا تلومه نفسه عليه، فإذا ما واجه عملاً باطلاً وعملاً صحيحًا فإنّه يختار العمل الباطل، ولو واجه طريق حقّ وطريق باطل فإنّه بالطبع يميل إلى الباطل! 

  • والأمر المقابل لذلك أيضًا صحيح، فلو كانت للإنسان مراقبة ﴿ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ﴾ فإنّه شيئًا فشيئًا وبواسطة عمل الخير تصبح نفسه في حالة ومكانة تجعلها إذا واجهت الحقّ تميل إليه ولو لم تعرفه، وهذه المسألة ليست مزاحًا، وهذه المسألة ليست صدفة وعبثًا، بل النفس تسير بواسطة النور الذي لديها من دون أن تلتفت.

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام: 

  • تَجِدُ الرَّجلَ لا یُخطِئُ بِلامٍ و لا واوٍ، خَطیبًا مُصقَعًا و لَقَلبُه أشدُّ ظُلمةً مِن اللّیلِ المُظلَم؛ و تَجِدُ الرَّجلَ لا یَستَطیعُ تَعبیرًا [یُعبِّرُ] عمّا فی قَلبِه بلِسانِه، و قَلبُه یُزهِرُ كمٰا یُزهِرُ المِصباح.‌۱

  • فقد تلتقي برجل خطيب ماهر لا يشتبه فيلفظ اللام بدلاً من الميم أو الواو، إنّه قادر على الكلام وقادر على التعامل وله بيان فصيح بحيث نستفيد من كلامه، خطيب مفوّه عالم بالكلام يبيّن الأمور للناس متمايزة ومعدودة وواضحة، يبيّن للنّاس ما يجري في ضميره ووجدانه بأفضل نحو وأفضل وجه. ألم يكن من أمثال هؤلاء؟! أوليسوا موجودين الآن؟! موجودون وليسوا بالقليلين. والحال أنّ الإمام الصادق عليه السلام يقول: قلبه أشدّ من الليل المظلم. 

  • وفي المقابل أيضًا تجد إنسانًا لا يمكن أن يعبّر عمّا في ضميره، أي إنسانًا عاميًّا ولا يمكن أن يبيّن نيّته، لديه لكنة في الكلمات، ولا يدري ما ينتخب في بيان الكلمات ولكن قلبه يزهر كما يزهر المصباح. فما هو هذا؟ إنّه نور الباطن! 

    1. الكافي، ج ٢، ص ٤٢٢.

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

14
  • فهؤلاء هم ﴿الذين سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰٓ﴾؛ سبقت لهم الحسنى الإلهيّة وجعلتهم في ذلك الطريق اللائح. فلا نقل: نحن لسنا أهل علم! لا نقل: نحن لسنا أهل دراية! لا نقل: نحن لا اطلاع لدينا على هذه الأمور! كلا، فالعبرة ليست بهذه الأمور. بل يرجع الأمر المهمّ إلى القلب والنفس والضمير! كلّ من يسمع ويعمل يصل أيًّا كان، وكلّ من يسمع ولا يعمل فلن يصل أيًّا كان، فالأمر هو بالإيمان والعمل الصالح! وهنا لا فرق بين العالم والجاهل، لا فرق بين العالم والعاميّ! أمر الهداية والنوارنيّة الباطنيّة والتكامل مستقلّ عن أبحاث العلم والظاهر! فتلك تحتاج إلى قلب صاف وعمل صالح وتتطلّب إيمانًا وعملاً صالحًا! وكلّ ذلك هو مقدّمة. وهذا هو مقام الاطمئنان، وهنا مقام ﴿لَا يَحۡزُنُهُمُ ٱلۡفَزَعُ ٱلۡأَكۡبَرُ﴾. ففي القيامة عندما يعطى الناس صحف أعمالهم، الجميع ينظرون بقلق واضطراب، لأنّ الإنسان ينظر إلى نفسه، صحيفة أعماله بيده، ولا يدري ماذا كتب فيها، ولكنّ حالته الباطنيّة والحالة التي هو عليها قبل النظر إلى الصحيفة تنبئ عمّا كتب في هذه الصحيفة، فتأخذه حالة الاضطراب، والآن يريد أن يأتي إلى مقام العرض على الله ويريد أن يفتح صحيفة عمله، لقد فعلت هذا العمل، لقد ارتكبت ذاك، قمت بهذا وقمت بذاك! ولكنّ الفزع من البداية لا يأخذ هؤلاء. 

  • معنى الفزع الأكبر في القيامة

  • لقد عبّر الله تعالى هنا بالفزع الأكبر ﴿لَا يَحۡزُنُهُمُ ٱلۡفَزَعُ ٱلۡأَكۡبَرُ﴾. أفتدرون أيّ فزع هو؟ ما يوجب فزعنا وجزعنا في هذه الدنيا لا يعدّ صفرًا، فهناك مكان نعلم فيه أنّ الأمر قد انتهى! نحن الآن لا نعلم، لا زلنا نظنّ أنّنا في هذه الدنيا، لا زلنا نظنّ أنّ الأمر ليس حقيقيًّا، نقبل الأمر بنسبة ٦۰ % أو بنسبة ٥۰% ولكن ليس لدينا يقين بأنّ هناك قيامة، ليس لدينا يقين بأنّ هناك ندمًا ينتظرنا، ليس لدينا يقين بأنّ هناك غدًا، ليس لدينا يقين بأنّ هناك حسابًا وكتابًا! سمعنا، وفي أعماق قلوبنا أيضًا نصدّق، ولكن ليس لدينا يقين بهذا الموضوع! متى نستيقن؟ عندما نرى جهنّم، ونرى الجنّة، ونرى مقام الحساب والكتاب! هناك يحصل الفزع الأكبر، هناك يحصل الفزع عندما لا ندري ماذا كتب في هذه الرسالة، كلّ أفكارنا وكلّ الكلام الذي تكلّمنا به شعرة بشعرة وبدون واو ناقصة أو زائدة موجود في هذه الصحيفة، اليوم قلت هذا الكلام لفلان وكسرت قلبه فلماذا؟ فتفضّل الآن وأدّ حسابك! وفي ذلك اليوم فكّرت حول أخيك المؤمن بهذه الفكرة، لماذا؟ فتفضّل وأدّ حسابك. واليوم قمت بذاك العمل لأخيك فلماذا؟ فتفضّل وأدّ حسابك! فإن لم تؤدّ حسابك لن يمكنك أن تتقدّم إلى الأمام! عليك أن تؤدّي حسابك، ولا بدّ من تحمّل مسؤوليّة الحساب، وهنا يأتي ذلك الفزع الأكبر الفزع الذي ليس هناك ما هو أكبر منه، هناك يرى الإنسان أنّه قد انتهى الأمر ولم تعد هناك فرصة: 

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

15
  • ﴿رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ، لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُ كَلَّآ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا﴾.۱ 

  • إلى أين نرجع؟ لقد أغلق ملفّ الدنيا! وقد كنتم قومًا جئتم إلى هنا وانتهى الأمر، والآن نحن لدينا في الدنيا أعمال أخرى، نريد أن نأتي بأقوام وأفراد آخرين، أفهل ندخلكم معهم؟! لا يمكن! لقد أغلق هذا الملفّ! 

  • ﴿لَا يَحۡزُنُهُمُ ٱلۡفَزَعُ ٱلۡأَكۡبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ هَٰذَا يَوۡمُكُمُ﴾؛ اليوم هو اليوم الذي وعدكم الله به في عالم الدنيا. 

  • أهميّة الأمل برحمة الله ومغفرته

  • ولكنّ الله ترك هنا طريقًا وأعطى أملاً وجاء بالرحمة لعباده. فنحن أناس خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيّئًا، ورحمة الله تشملنا هنا، يقول تعالى لا تظنّوا أنّكم إذا ارتكبتم خطأ فقد انتهى الأمر،

  • لا تتصوّروا أنّكم إذا خالفتم مخالفة انتهى الأمر! كلاّ ليس الأمر هكذا.

  • ﴿قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَهِ إِنَّ ٱللَهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾.٢

  • قل يا أيّها الذين ظلموا أنفسهم لا تيأسوا من رحمة الله لأنّ الله يغفر جميع الذنوب. 

  • وهناك آية أخرى في القرآن عجيبة جدًّا وهذه الآية ستشملنا نحن: 

  • ﴿وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ إِنَّ ٱللَهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ﴾.٣

  • الذين عملوا في هذه الدنيا ولكنّهم خلطوا، أي أنّهم عملوا عملاً صالحًا وعملاً سيّئًا، ولكنّهم تابوا بعد ذلك، فهناك أمل أن تشملهم رحمة الله لأنّ الله غفور رحيم. 

  • فهذه الآية باعثة على الأمل كثيرًا. 

  • ينقل جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رواية فيقول سمعت من رسول الله أنّه قال: 

  • لا یَموتَنَّ أحدُكم إلاّ و هوَ یُحسِنُ الظّنَّ بالله، و كم مِن قومٍ أرداهُم سوءُ الظّنّ بالله.٤

  • وهذه الرواية تبعث الأمل كثيرًا حيث يشعر الإنسان أنّه في النهاية بشر وممكن الخطأ، يذنب ويخطئ ولكن طريق التوبة مفتوح. 

  • لقد انقضى شهر رمضان، الشهر الذي دعانا فيه الله إلى ضيافته، الشهر الذي هو شهر العبادة والتوبة والإنابة والعفو، قال رسول الله: 

  • فإنّ الشّقیَّ مَن حَرُم غفرانَ الله فی هذا الشّهر العَظیمِ٥

    1. سورة المؤمنون (٢٣) الآية ٩٩ و ١٠٠.
    2. سورة الزمر (٣٩) الآية ٥٣. 
    3. سورة التوبة (٩) الآية ١٠٢. 
    4. مسند أحمد، ج ٣، ص ٣٩٠، بأدنى تفاوت.
    5. الأمالی، شیخ صدوق، ص ٩٣.

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

16
  • إنّه لعجيب جدًّا! فشهر رمضان هو الشهر الذي نزل فيه الله تعالى إلى الميدان بتمام قدرته من أجل العفو والرحمة والمغفرة للعباد، وهيّأ جميع الأسباب والوسائل. 

  • ماذا نطلب لأنفسنا كهديّة عيد؟ 

  • أيّ يوم هو هذا اليوم؟ إنّه يوم العيد، اليوم الذي يهب فيه الله هدايا العيد لعباده بواسطة هذه النعمة وبواسطة الورود إلى هذه الضيافة. فما هي هديّة العيد؟ هل هي قضاء الحاجات؟! هل هي صرف المشكلات؟ هل هي الصحّة والسلامة؟! هل هي رفع الأزمات ومسائل الدنيا؟ بالطبع يمكن أن تكون هذه هديّة عيد، ولكن لدينا هدايا إلى ما لا نهاية! وعلينا أن لا نخسر تلك الهديّة الحقيقيّة! تلك الهديّة التي يهبها الله اليوم قرأناها في دعاء القنوت: 

  • اللهمّ... أسألُك بحقّ هذا الیومِ الّذی جَعلتَه لِلمُسلمینَ عیدًا و لِمحمّدٍ صلّی الله علیه و آله ذُخرًا و شَرفًا و كرامةً و مَزیدًا.

  • اللهمّ إنّي أقسم عليك بحقّ هذا اليوم، اليوم الذي جعلته للناس ولنبيّك وآله عيدًا، وجعلته سببًا للذخيرة لهم وسببًا لشرفهم وعلوّ مقامهم ودرجاتهم وأنزلت عليهم الكرامة. إلهي أقسم عليك بمثل هذا اليوم أن تُدخِلَنی فی كلّ خیرٍ أدخلتَ فیه محمّدًا و آل‌ محمّدٍ.

  • فهذا الأمر ليس مزاحًا، فما دام الله يقول إنّي أعطي، فلماذا نقول نحن: كلا. الله يقول: أنتم قولوا هذا واقرؤوه في القنوت، اقرؤوه في الصلاة، وليس الأمر أنّ النبيّ قرأه وأنتم تقرأونه بنحو الحكاية والتقليد، كلا، بل أنتم تعالوا واطلبوا هذا الطلب، أفهل أنا بخيل؟! هل ينفد بحر جودي وكرمي؟ وهنا يصدق ما يقال: گر گدا كاهل بوَد، تقصیر صاحب‌خانه نیست! 

  • أي: إن كان السائل كسولاً في سؤاله فما من تقصير لصاحب الدار؟! 

  • فلنعلم أيّها الرفقاء أنّ اليوم يوم مهمّ، إن لم نكن قد صفّينا نوايانا إلى الآن فلنصفّها اليوم! إن لم نكن قد بلغنا بمطلبنا إلى مرتبة الكمال فلنلتفت إلى ذلك اليومَ. 

  • أدخلني في كلّ خير أدخلت فيه محمّدًا وآل محمّد. وواقعًا هل هذا الأمر يمكن أن يتصوّر؟! هل يمكن أن يفكّر به ويتصوّره؟! أدخلنا في ذلك الخير الذي أدخلت فيه محمّدًا الذي له مقام الأوّل والآخر والأئمّة عليهم السلام وإمام الزمان أرواحنا فداه. 

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

17
  • الآن إمام الزمان في أيّ خير هو؟ الآن هو في أيّ وضع؟ الآن هو في أيّ مقام متمكّن؟ الآن هو بأيّ نعم يتنعّم؟ إلهي فارزقنا منها نحن أيضًا! ما المشكلة في ذلك؟ ففي النهاية بحرك مفتوح وكرمك لا حدّ له! أنت هكذا علّمتنا!

  • و أن تُخرِجَنی مِن كلّ سوءٍ أخرَجتَ منهُ محمّدًا و آل‌ محمّدٍ

  • في رواية عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم قال إنّ للتوبة مراتب: فتوبة الناس من الذنوب، وتوبة الأولياء من الالتفات إلى غير الله، وتوبة الأنبياء من اضطراب السرّ. ۱

  • أي إنّهم لا يلتفتون إلى غير الله، وإذا ما نقص لحظة واحدة من ذلك الاستغراق في مقام عزّ الله وأمنه ـ لا أنّه انقطع التفاتهم ـ فإنّ صوت آهاتهم يرتفع. فاضطراب السرّ يعني نقصان شيء يسير من تعلّق السرّ والضمير، فتوبتهم هي من هذا، هذا سوء بالنسبة إليهم. 

  • ونحن الآن نريد هذا من الله، لا نقول: اللهمّ اغفر لنا الذنوب التي نرتكبها! نعم هذه الذنوب أيضًا لا بدّ أن تغفر، نحن لا نقول: اللهم احفظنا من الالتفات إلى غيرك، كلاّ بل نرتقي نحو الدرجة العليا ونقول: اللهمّ خلّصنا من ذلك السوء وتلك المرتبة من الزلل التي حفظت منها أولياءك. 

  • اللهمّ إنّی أسألُك خیرَ ما سألك به عبادُك الصّالحونَ؛ و أعوذُ بك ممّا استَعاذَ منهُ عبادُك المُخلِصونَ٢

  • عيدنا الحقّ

  • عيدنا عبارة عن معرفة الإمام عليه السلام! عيدنا عبارة عن الدخول إلى حريم ولاية الإمام عليه السلام! هذا هو العيد! عيدنا عبارة عن معرفة الإمام عليه السلام! هذا المعنى هو معنى العيد! 

  • إن شاء الله عرّفنا وليّه وجعلنا في حريم ولايته. 

  • اللهمّ كن لِولیّك الحجّةِ بنِ الحسَن صَلَواتُك عَلیهِ و علیٰ آبائِه فی هذه السّاعَةِ و فی كلّ ساعَةٍ وَلیًّا و حافِظًا و قائِدًا و ناصِرًا و دَلیلًا و عَینًا حتّی تُسكنَه أرضَك طَوعًا و تُمتّعَه فیها طَویلاً.٣

  • اللهمّ إنا نَرغبُ إلیك فی دَولةٍ كریمةٍ تُعزّ بها الإسلامَ و أهلَه و تُذلّ بها النّفاقَ و أهلَه وتَجعلُنا فیها مِن الدّعاة إلیٰ طاعتك و القادةِ فی [إلیٰ] سبیلك و تَرزُقُنا بها كرامةَ الدّنیا و الآخرة.٤

    1. جاء في مصباح الشّریعة، ص ٩٧: ”تَوبةُ الأنبیاءِ مِن اضْطِرابِ السِّرّ؛ و تَوبةُ الأولیاءِ مِن تَلَوُّث الخَطَراتِ؛ و تَوبةُ الأصفیاءِ مِن التَّنفیسِ؛ و تَوبةُ الخاصِّ مِن الإشتغال بغیرِ الله، و تَوبةُ العامّ مِن الذُّنوبِ.“
    2. إقبال الأعمال، ج ١، ص ٢٨٩.
    3. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ٦٣٠، بأدنى تفاوت.
    4. المصدر السابق، ص ٥٨١، مقطع من دعاء الافتتاح. 

مقام الإنسان في عالم الوجود - خطبة عيد الفطر لعام ۱٤۲۳ هـ

18
  • ولتعجيل ظهور إمام الزمان عليه السلام صلّوا ثلاثًا. 

  •  

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.