المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالإنفاق و الإيثار
التاريخ 1424/08/29
التوضيح
هو العليم
فلسفة البلاء في التربية الإلهيّة
شرح حديث عنوان البصريّ -٩٥
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد
(اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّد)
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان في تتمّة وختام ما تقدّم من كلام: وَ إذا فَوَضَ العبد تَدبيرَ نفسه على مدبره هانَ عَلَيهِ مَصائِبُ الدُنيا.
كيفيّة حصول التعلّقات لدى الإنسان
كان الكلام في المجالس السابقة حول أنّ نظام العالم نظام تعلّقات وعلاقات، فكلّ من يطأ هذا العالم تحدث لديه إلى جانب وجوده تعلّقات. ففي المرحلة الأولى يتعلّق بذاته في مرحلة الطفولة، ثمّ ما إن يتقدّم نحو البلوغ شيئًا فشيئًا يتعلّق بالمحيطين به وبما يحيط به. فحين ولد لم يكن له أيّ تعلّق، وكان تعلّقه بسيطًا وصافيًا بعيدًا عن التلوّثات وعن الأهواء، فالطفل عندما يولد لا يدرك سوى وجود نفسه، ولا يصطحب معه إلى هذه الدنيا شيئًا آخر، ولكن شيئًا فشيئًا يتعلّق بإنسان وحيد آخر هو أمّه، فحيث إنّ أمّه تحقّق له حاجاته فلا تعلّق له بغيرها. إنّ أفكاره وآراءه ومعتقداته هي أفكار وآراء وأنظار عارية عن التعلّق وتوحيديّة، والعلاقات التي لديه جميعها توحيديّة.
كيفيّة العلاقات بين الأطفال
هل رأيتم يومًا أنّ الأطفال الصغار يقيمون علاقة فيما بينهم على أساس العلاقات الاجتماعيّة والموازين الاجتماعيّة؟! مثلاً لأنّ لدى هذا الطفل ثروة كثيرة في أسرته فعليّ أن أنشئ معه علاقة، فإذا أراد أن يلعب فإنّه يأتي إليه، أو لأنّ هذا الطفل لديه ذكاء واستعداد أكثر فإنّ الأطفال الآخرين يتعاطون معه أكثر! أو لأنّ ثياب هذا الطفل أجمل فإنّ الأطفال الآخرين يقيمون معه علاقات وصداقة ويحبّونه! كلا لا شيء من ذلك! لا شيء من ذلك الأمر. بل العلاقة هي فقط على أساس الوجود نفسه، على أساس الحياة نفسها، على أساس حياته، على أساس فطرته. وشيئًا فشيئًا إذا كبر هذا الطفل فإنّه بواسطة التربية و الثقافة الخارجة عن نفسه يتعلّق بقيم في ذهنه وفي نفسه، ينظر إلى الثقافة الخارجة عن نفسه، فيرى أهل المنزل يقيمون العلاقات مع الناس على أساس بعض المعايير، فيتعلّمها. يرى أنّ العلاقات على أساس بعض الأمور الاعتباريّة فيتلقّاها على أنّها قيم حقيقيّة ويجعلها معيارًا.
تفسير حديث رسول الله: إنّي أحبّ من الصبيان خمسة خصال
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إنّي أحب من الصبيان أربعًا۱:
الأوّل: أنّهم الباكون. وهذا البكاء هو حالة من الرحمة.
والثاني: يعمُرون ثمّ يخرّبون. فهل رأيتم أنّهم يبنون بيتًا، يصنعونه في مكان ما بالطين والتراب وما إن ينتهون يخرّبونه بالركلات ويفسدون كلّ شيء؟!
ومنها أنّهم على التراب يجتمعون فيلعبون بالتراب كثيرًا؛ لأنّ التراب ليس فيه أيّ نوع من التعلّق فمن حيث الجاذبيّة ليس في التراب أيّة حيثيّة جذب.
السجود على التراب وبعض آدابه
ومن الأفضل للإنسان حين الصلاة أن يسجد على التراب، فأفضل موارد السجود هو التراب، فالتراب أوّلاً ثمّ الحجر، ثمّ الخشب وغيره من الأمور المسموح بها من غير الملبوس والمأكول وغير المعادن، حتّى إنّ الأعاظم في العصور السابقة كانوا يضعون في سجّاداتهم التراب بدلاً من السجدة، فكانوا يأتون بمقدار من التراب ويسجدون عليه، وكذلك مستحبّ أن يضع الإنسان أنفه على التراب، بل إنّ تربة سيّد الشهداء لم يكونوا سابقًا يأخذونها بهذه الطريقة الراهنة، بل كانوا يأخذون مقدارًا من تراب تلك الأرض كمسجد لهم ويجعلونه في كيس ويفتحونه في سجّادتهم ويسجدون عليه، وتأثير هذا أكبر، وكانوا يوصون في بعض الموارد وبعض الأربعينيّات بذلك. فهذا التراب له صفة انعدام التعيّن، ولكنّهم الآن صنعوا هذه السجدات وهم يجعلونها ناعمة ملساء و...، وبعضهم إذا أرادوا أن يأخذوا سجدة فإنّهم يبحثون عن أكثرها نعومة لتكون أكثر ملاءمة لمزاجهم! وصاروا ينقشون عليها الرسوم، وهذا كلّه ليس صحيحًا، رغم أنّ الأسماء المنقوشة أسماء مباركة، ولكن يجب أن لا يجعل اسم النبيّ وأمير المؤمنين وأمثالهما على السجدة، بل ينبغي أن يكون توجّه المصلّي أثناء الصلاة منصبًّا على الله وحده. والكتابة على السجدة ليست بالأمر الصائب سواء كان اسم رسول الله أو أمير المؤمنين أو سيّد الشهداء، وعندما تقع عينا المصلّي على السجدة فينبغي أن لا تقع على النقوش وينبغي أن لا تظهر أمامهما، بل يجب أن يرى التراب، غاية الأمر أنّه من باب التبرّك فإنّ لتربة سيّد الشهداء خصوصيّة أخرى، وكان المرحوم العلاّمة إذا رأى السجدات في المنزل والتي هي من تربة مشهد ومكتوب عليها تربة الإمام الرضا عليه السلام يقول لنا: حوّلوها إلى طين وألقوها في الحديقة، فالتربة المستحبّة والمأمور بها هي تربة سيّد الشهداء فقط. فلو جئتم بتربة المدينة التي هي تربة جدّ سيّد الشهداء في النهاية ورسول الله أفضل من سيّد الشهداء في النهاية، فهو أب جميع الأئمّة، وولاية الأئمة تؤخذ من رسول الله، وكلّ ما لديهم فهو من رسول الله، فحتّى تربة المدينة ليس من المستحبّ أن تجعل موضع سجود لكم، فهي ليست مستحبّة أصلاً، ليست مستحبّة، ما لدينا هو تربة سيّد الشهداء فقط وهي التي لها حساب مختلف، وهذه إرادة الله وهو الذي جعلها كذلك. أمّا ماذا صنع ذلك الإمام، وما هو تأثيره في العالم وما هو التحوّل الذي أحدثه فيه؟! فهذا ما لا نعلمه، ما نعلمه هو أنّ طريقنا للوصول إلى الله هو سيّد الشهداء عليه السلام.
حكم استعمال السجدة التي تعدّ الركعات
ولكنّهم الآن يصنعون السجدات بأشكال أخرى لا أدري ماذا يصنعون لها، يضعون لها البلاستيك و... وقد رأيت في مكان ما في مشهد أو في غيرها لا أدري، أنّه قد كتب سجدة تذهب الشكّ، فدخلت إلى المتجر وسألته ما هي هذه السجدة التي تذهب بالشك؟!
فقال: لها جهاز كلّما سجد الإنسان عليه يسجّل رقمًا.
فقلت: حسنًا حسنًا، فلتصنعوا أيضًا جهازًا للتسبيحات كي لا يزيد فيها المصلّي ولا ينقص بحيث تكون هناك ساعة تدوّن سبحان الله، وتصحّح الحمد الله و...! فهذا كلّه باطل، وهذا كلّه ابتعاد عن الله. ما المشكلة في أن يصلّي الإنسان صلاة مع شكّ؟ فقد ورد للشكّ في الإسلام حكم. فالشك بين الأولى والثانية مبطل، وبين الثانية والثالثة باطل، وبين الثالثة والرابعة يبني على الأكثر ثمّ يأتي بركعة، فقد جاء حكم هذا.
أمّا أن يُجعل لذلك عدّاد وأرقام وأمثال ذلك، فهذا زيادة على الأوامر التي وردتنا، فهذه النظرة هي نظرة ظاهريّة إلى العبادة، هل التفتّم؟ رؤية الظاهر، ورؤية الاهتمام بالركعات وأمثال ذلك، الرؤية التي جاء بها رسول الله هي أنّ الصلاة قربان كلّ تقيّ۱. الرؤية التي تجعل الإنسان إذا شرع بالصلاة لا يدري كم ركعة صلّى ركعتين أم ثلاث، نعم إذا التفت الإنسان بصورة تلقائيّة ومتعارفة فإنّه يعلم أنّه صلّى ركعة فهذا أمر معتمد، وعلى أساسه وضعوا بعض الأحكام، وضعوا أحكام الشكّ والإنسان يعمل على أساسها وصلاته صحيحة.
هذه الصلاة هي المؤثّرة، هذه الصلاة هي التي لها تأثير، أمّا باقي الأمور فهي إضافات وهي خطأ، وهي من عنديّاتهم، حيث قام عدد من العوام بجعلها وسيلة للتكسّب في الدنيا معتقدين أنّها لإراحة الناس، فهم يروّجون لها.
يجب أن تكون السجدة خالية من النقوش، وإن كان لا إشكال في الصلاة على النقوش، نعم بعضهم يستشكلون ولكن لا إشكال والصلاة صحيحة، ولكن الكلام هو في أنّه إذا أردت أن تسجد فينبغي ألا تقع عينك على النقوش؟ ألا تأتي صورة من هذه النقوش إلى الذهن؟ فهذا بنفسه خطأ، هذا ليس صحيحًا. على الإنسان أن لا يرى شيئًا سوى التراب.
على التراب يجتمعون. والأمر الرابع الذي ذكره رسول الله أنّهم يختصمون من غير حقد يختلفون ويتنازعون فيما بينهم، أي يتنازعون لا على شيء من تلك النزاعات التي يتنازع بها الناس في هذه الدنيا على أساس الحقد والأفكار المسبقة. فهذا يقول: اصبر! لقد فعلت لي هذا فاصبر إذا وصلت إليك فسأؤذيك بكذا. جميع أمور عالم الدنيا وعالم الدناءة والرذالة هي على أساس الأمور النفسيّة والعقد النفسيّة، أمّا الأطفال فليسوا كذلك، ليسوا كذلك.
هذا رمى بالكرة إلى تلك الجهة فهذا يتنازع معه أن لماذا رميتها؟! ثمّ بعد ذلك يأخذها... ليس هناك حقد فيما بينهم، هذا يقول لماذا جئت إلى هذه الجهة؟! فيتنازعان لدقيقتين ثمّ يصطلحان، فالحساب ليس حساب نفس لكي يجعلهم متوقّفين عنده، ولكي لا يتخلّص الإنسان من تلك العقدة ما لم يصل إلى مراده، ويبقى في حالة من القلق ما لم يخلِ ما في قلبه.
ضرورة الرجوع إلى حالة عدم التعلّق التي لدى الأطفال
هذا هو مبدأ التوحيد، ورسول الله جاء لأجل التوحيد أيضًا. فإذن علينا نحن أن نرجع إلى هذه النقطة، لقد كان هذا لدينا، ولكنّا أغرقنا أنفسنا. لقد كان هذا المستوى عندنا وكنّا جميعًا في حالة كهذه، وكما يقول مولانا:
چون كه بى رنگى اسير رنگ شد | *** | موسيى با موسيى در جنگ شد |
چون به بى رنگى رسى كان برداشتى | *** | موسيى و فرعون دارند آشتى |
عندما صار عديم اللون أسير اللون تصارع موسى مع نفسه
وإذا وصلت إلى انعدام اللون ورفعته تصالح موسى وفرعون
فهذا اللون هو لون التعلّقات، لون الأماني ولون الأمور الخارجة عن دائرة التوحيد ودائرة الوحدة.
اختلاف التعلّقات باختلاف مراحل العمر وصعوبتها في سنّ الكهولة
وإذا ما تقدّم الإنسان بالعمر ازدادت هذه التعلّقات شيئًا فشيئًا، في كلّ عمر بما يتناسب معه، ففي سنّ العاشرة هناك نوع من التعلّقات بالدفتر والقلم والكرة والألعاب وأمثال ذلك. وفي السادس عشرة هناك نوع من التعلّق، وفي مرحلة الشباب تتغيّر التعلّقات، وكلّما اقترب الإنسان من سنّ الكهولة صارت تعلّقاته أقوى وأشدّ وأثبت وأصعب زوالاً، حتّى إذا وصل إلى سنّ الكهولة صارت تعلّقاته شهويّة في مجال أمور أخرى لا الغرائز الحيوانيّة، إنّها تعلّقات الرئاسات والحكم وإبراز النفس، وهي تعلّقات لا تزول، وينبغي أن يغيثنا الله كي نتمكّن من إخراجها من النفس بعد أن انطبعت فيها ورسخت واشتدّت.
ماذا فعل حبّ الرئاسة في بعض جبابرة التاريخ؟
فالإنسان مستعدّ لأن يقدّم ابنه ولا يتنازل عن الحكومة، ألم يقل هارون للمأمون: إنّي لا أرى أيّ مانع من رئاستي. لو نازعتني فيها أنت يا بنيّ لتخلّيت عنك بسهولة، حتّى أنت يا ولدي! فهو يتخلّى عن ولده فماذا عن الناس؟! وماذا عن سائر المسائل؟! كلّ ما يقف أمام سلطانه فإنّه يمحوه.
لقد قتلوا سيّد الشهداء الذي هو ابن رسول الله لأجل ماذا؟! لأنّه مخالف للإسلام وقد ثار! فهل التفتّم؟! شرّ الناس في عصره والذي يدعى يزيد يتخلّى عن خير الناس في عصره وينحّيه ويقتله ويخرج بهذا الشكل في قناع الدفاع عن الإسلام وبذريعة الخروج على خليفة المسلمين.
وعمر يلقي أرضًا بخير إنسان على وجه الأرض ابنة رسول الله ويقطّعها إربًا لأجل مخالفتها البيعة لخليفة المسلمين، لأنّ بنت رسول الله تريد أن تخالف خليفة المسلمين فعلينا أن ننحّيها جانبًا! فعندما تأتي التعلّقات فلا شيء آخر يقف أمامها. إذا جاءت النفس لا يعود الإنسان يرى معيارًا لنفسه.
يفتون، ابتداء من القاضي كشريح القاضي الذي أفتى بحليّة قتل سيّد الشهداء، مرورًا بسائر الناس والقادة والجنود والناس الذين يقدمون على قتل خير الناس من أجل كيلو أو كيلويّن من القمح، وببعض الترهيب والترغيب. فهل رأيتم التعلّقات كم هي مهمّة؟! كم هي مسألة خطرة ومهلكة وتقضي على سعادة الإنسان فينتهي الأمر؟! فمن يصل إلى هذه المرحلة فإنّه يغلق أمام نفسه كافّة أبواب السعادة والتوفيق، فالتعلّقات تسبّب هذا للإنسان. ونعوذ بالله ونعوذ بالله أن يبتلى الإنسان بذلك نعوذ بالله.
ضرورة تهذيب النفس قبل التصدّي للمواقع المهمّة
فما كان المرحوم العلاّمة يؤكّد عليه كثيرًا من أنّ على من يريد أن يتصدّى لموقع ما أن يكون قد هذّب نفسه وتخلّى عنها [هو لأجل هذا]، فهل التخلّي عن النفس كالذهاب إلى الحمّام والاهتمام بالأمور البسيطة؟! التخلّي عن النفس أمر ينبغي أن يخلّص الله وحده الإنسان منه، ومن الذي يمكنه أن يدّعي أنّه تخلّى عن نفسه؟! من الذي يمكنه أن يدّعي؟! من الذي مكنه أن يدّعي؟! كان هناك رجل يقول: ذهبت لزيارة أحدهم وكنت أحمل له رسالة من المرحوم العلاّمة، كنت أحمل له رسالة هي أنّه وفق قواعد الشرع فإنّ من يكون في هذا الموقع ينبغي أن يكون قد طوى هذه المرحلة، وتخلّى عن النفس. فكان هذا الرجل يقول: عندما قلت له ذلك تغيّر لونه واحمرّ وجهه وقال بحالة من الادّعاء: كلاّ! هذا ليس صحيحًاَ بما أنّ الأوضاع على هذه الحالة فلا مجال لهذا الكلام هنا! فهل رأيتم كيف كان الأمر، لماذا أنت منزعج؟ فلتقل إنّ الأمر في نظري ليس هكذا، فلماذا الاحمرار والتغيّر والإجابة بهذه الطريقة؟! هذا هو الدليل على ذلك، لأجل هذا. وينتهي الأمر. لذلك إذا أراد الإنسان أن يقوم بعمل للّه وتكون نيّته للّه فلا معنى للانزعاج وللعنف.
هنا يأتي الله ويختبر الإنسان، هنا، وعلى الإنسان الذكيّ أن يتوقّف هنا. لو لم أكن أنا في ذلك الموقع وقيل مثل هذا الكلام في مجلس ما فهل كنت سأغضب أيضًا؟ أم أنّي كنت سأصغي وأقول يمكن أن يكون الأمر كذلك، أو يمكن أن لا يحتاج الأمر إلى ذلك بل يكتفى بهذا النحو، ولا حاجة إلى الاستعداد والتهيّؤ. بكلّ بساطة، فانظروا الله جعل للإنسان مجالاً في كلّ مكان، وجعل له معيارًا، وجعل له علامة، ولو أنّ هذا الإنسان تعاطى في هذه الحالة بشكل آخر فكم كان جيّدًا له! وكم كان صحيحًا! وكم كان مفيدًا لنفسه! وكم كان سيحقّق من التخلّي والعبور، وكم كان سيستعدّ للمستوى اللاحق.والآن كما يقال: تو خود حديث مفصّل بخوان از اين مجمل.
وترجمته: أنت بنفسك اقرأ الحديث مفصّلاً من هذا المجمل.
والحالة في جميع الأمور بهذا النحو وفي جميع المسائل الأمر هكذا، وفي جميع القضايا الأمر هكذا، وعلى الإنسان أن ينظر إلى هذا المعيار في حياته كلّها... نحن نسمع عن المراقبة، فهذه هي المراقبة في النهاية! ماذا سوى ذلك؟ ولكنّنا ننحّي ذلك جانبًا.
موقف المحاضر ممّن جمع عثراته
قيل لي، قيل لي شخصيًّا، فقد جاء أحدهم وقال لي: إنّ فلانًا في إحدى المدن يعدّ كتابًا لمهاجمتكم، وهو يقول إنّه بحث وعثر إلى الآن على خمسين موردًا من موارد الكذب والخطأ ومخالفة العمل للقول، فقد جمعها وهويكتبها الآن.
فقلت له: أنا أخبره عن مائة مورد أيضًا لا يعلمها هو. فخذها أيضًا واقرأها واكتبها وأضفها. فلو أنّي قلت له: اذهب وابحث عنها، اذهب وقل له أن يأتي، ابحث عن الدفتر فلأنظر إلى ما كتب فيه، فنجتمع نحن من جانبنا ونعبّئ الجيوش ونعبّئ في كلّ ناحية أن ماذا حصل؟!
بگير و ببند و امانش مده | *** | بدست من پهلوانش مده |
يقول: أمسك وقيّد ولا تأمننه *** ولا تعطه قوّة من يدي
فهذا من هذه الناحية يعبّئ جيوش طوس وأفراسياب واسفنديار۱، لأجل ماذا؟ لا لشيء سوى خيال وتصوّرات. قلت له: إنّها ليست مائة مورد، فلا تتعب نفسك بكتابتها، أنا بنفسي أخبرك عنها؛ لأنّي أنا أخبر بها، {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}٢ فذهب هذا الرجل وأخبره، وانتهت القضيّة ومضى ذاك لشؤونه الخاصّة، وانتهى الأمر ولم أر حتّى الآن ذاك الكتاب، وإن شاء الله يصلنا لاحقًا، فنصلح أنفسنا. فحتّى لو حصل هذا الأمر فعلى الإنسان أن ينظر هل الأمر صحيح أم لا؟ علينا أن لا ننظر إليه هو، علينا أن ننظر إلى أنّه إن كان هناك خطأ نصحّحه، فليصحّح الإنسان نفسه، و هذه المدرسة مدرسةٌ تعرّف الإنسان على الطريق.
هل الله هو محور ما يجري بين أهل الدنيا؟
فهذه الأمور التي ترونها، وهذه المسائل التي تشاهدونها والتي تنتشر، حيث يقول هذا عن ذاك، وذاك يقول عن هذا [لا وجود لها في هذه المدرسة] فهذه الأمور واقعًا أيّها الأصدقاء والرفقاء الحاضرون هنا على أيّ أساس تدور؟ واقعًا على أيّ أساس تدور؟ على أيّ معيار؟ هل هي لأجل الله؟ هل من يكتب هذه المقالة ناظر إلى الله؟ واقعًا هل هو ينظر إلى الله؟ لو قيل له وهو يكتب المقالة إنّ فلانًا يكتب أيضًا عنك مثل ما تكتب عنه فهل سيستمرّ في كتابتها؟ سيقول: تعال لنتّفق! أنا لن أكتب وأنت لا تكتب!
فالناس هكذا، هذا بناء على حركة الناس، هذا بناء على بقاء هذه الدنيا، فالدنيا باقية على هذا الأساس، هذه التعلّقات المخرّبة للبيوت، واقعًا مخرّبة للبيوت، ولا نريد أن نتحدّث عن سائر الجوانب، هذه الأشياء التي هي في طريق إهلاك الإنسان وفي طريق إهلاك كافّة الاستعدادات والقدرات والإمكانات. في النهاية من كان يعيش بهذه الطريقة فهل يمكنه أن يصلّي؟! هل يمكنه أن يفكّر؟! كلّ تفكيره هو أنه كيف يجمع الانتقادات ويجعلها في سجلاّت خاصّة لكي يستفيد منها يومًا ما، كلّ تفكيره هو حول جمع المعلومات من مختلف الموارد وجعلها في الأرشيف... وأخبركم أنّ هذا أسوأ الناس يوم القيامة كما في الرواية وله أشدّ العذاب، يريد أن يتجسّس على أفعال الناس وأسرارهم وخصوصيّاتهم، ففي النهاية الإنسان ممكن الخطأ، يخطئ ويشتبه، فيريد أن يتجسّس هنا وهناك ليجمع سجلاّت للنّاس ولأحوال الناس، قد أقسم الله أنّه سيجعل له أشدّ العذاب.۱ لا تتصوّروا أنّ الأمور تحلّ بالتبرير والتوجيه، كلاّ، فهذه الأمور لا تحلّ، و على الإنسان أن يصلح نفسه. فهذا من جهة.
أنواع التعلّقات وشمول الابتلاءات لكلّ الناس
ففي النهاية للإنسان تعلّقات، إمّا شيطانيّة كما بيّنا أو غير شيطانيّة. فمثلاً المحبّة التي جعلها الله للإنسان نحو أبنائه هي ليست شيطانيّة، هذه المحبّة محبّة رحمانيّة. المحبّة التي لدى الأمّ نحو أبنائها هذه ليست شيطانيّة، والتعلّق الذي لدى الإنسان برفيقه وصديقه، فهذه جميعها تعلّقات غير شيطانيّة، في النهاية هناك تعلّق، وهذا نوع من التعلّق، ونوع من العلاقة، أو مثلاً الابتلاءات والمصائب الموجودة فهذه من جهة لا يمكن الشكّ فيها.
ومن جهة أخرى فنحن نعلم قطعًا أنّ عالم التكوين وعالم الخلق مليئ بالحوادث والقضايا والأمور التي تحدث أحيانًا للإنسان ملائمة كانت أو غير ملائمة. فلا شكّ في ذلك، وهذا أمر عامّ للجميع، فللجميع مرض وصحّة، وللجميع ضيق، وللجميع يسر، فهذه أمور للجميع، والمهمّ في هذه الدنيا هو المرور، لا التوقّف ولا التأمّل، على الإنسان أن يتجاوز عن هذه الدنيا، ويتمكّن من استعمال جميع الإمكانات التي في هذه الدنيا والتي هي عبارة عن العمر وعبارة عن سائر الإمكانات التي جعلها الله له، يتمكّن من استعمالها لأجل ذاك العالم، ويتمكّن من إصلاح نفسه لأجل ذاك العالم. فلا شكّ في هذا الأمر.
بما أنّ الأمر هكذا، فما يمكن أن يؤدّي إلى أن يتردّد الإنسان ويتوقّف هو الأحداث المؤلمة التي تحدث للإنسان وتشغل فكره كالأمراض والمشاكل والبلايا وقطع العلائق والموت وزوال المراكز وخسارة الشؤون الاجتماعيّة وأمثال ذلك. فهذه كلّها أمور تواجه الإنسان، فالذين يخسرون واحدًا من مراكزهم الاجتماعيّة يبتلون بأمراض نفسيّة وعقليّة لأنّهم خسروا مكاناتهم، فالذين يخسرون وظيفة أو عملاً يجلسون كالثكالى يظنّون أنّ الدنيا قد بلغت نهايتها، ثمّ بعد يومين ينطلقون إلى العمل.
ذهبت ذات يوم لزيارة أحد الأرحام في منزله وكان هناك العديد من العلماء، وكان منهم أحد المعروفين ببيان الأمور الأخلاقيّة والاجتماعيّة للناس، وكان من المشهورين. كنّا جالسين في ذلك المنزل وكان أحد الحاضرين منزعجًا جدًّا، فكان الحاضرون يتكلّمون معه وكان ذلك الرجل المشهور يكلّمه فلم يكن لديه قدرة على الجواب، فكانوا يضحكون له فلا تكاد الضحكة تخرج من شفتيه، فقال له أحدهم: ماذا حصل؟ هل غرقت سفينتك حتّى صرت هكذا؟! في البداية لم يقل شيئًا ولكن بعد ذلك قال: لقد شغل بالي كثيرًا، شغل بالي بهذا الأمر، فابني يعمل في إحدى الوزارات وقد غُيّر الوزير وجاء وزير آخر، وأنا قلق لخسارة ابني لعمله، فإذا خسر عمله ماذا سنصنع؟ واقعًا انظروا قليلاً إلى حال هذا الرجل، فهذا الرجل الذي كان يتكلّم للناس لسنوات عن التوكّل وعن التفويض وأمثال ذلك... انظروا كم نحن بعيدون عن الأمور والقضايا حتّى صرنا ننظر بهذه الطريقة، ثمّ قلت له: في النهاية إذا ترك عمله لن ينام في الشارع، ففي النهاية سيأتي إلى منزله فلماذا أنت منزعج؟!
قال: لا يا عزيزي من لم يكن له عمل في هذا البلد فلا يمكنه أن يعيش.
قلت له: أنا سأعطيه معاشًا حتّى يجد عملاً آخر، فلا تقلق! مازحته بذلك، وكان هذا الأمر قبل سنوات بعيدة، ربّما قبل سبع عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة. فهل على الإنسان أن يكون ضعيفًا إلى هذا الحدّ أمام الحوادث وأمام القضايا، حتّى ينظر إلى الأمور هكذا؟ لماذا؟ هذا لأنّ الحقائق لم تستقرّ في نفوسنا، لم تستقرّ في نفوس البعض... فبعضهم يصاب بأمراض نفسيّة، يضربون على رؤوسهم، أن خسروا وظيفة، يضربون على رؤوسهم! لم تمت يا عزيزي، لقد خسرت وظيفة وغدًا تجد خيرًا منها. الله كافل للأمور، الله بنفسه يتكفّل بالأمور، لأجل عدم الوصول إلى أمر يظنّون أنّ الأمور قد انتهت، يتأخّر أمر ما ليومين، يتأخّر الزواج ليومين فيظنّون أنّ الله ساخط عليهم، فيتّهمون الملائكة، إذا انقطع أمر ما ليومين يريدون أن يجعلوا جميع العالم والناس وسائط وشفعاء لكي تتّخذ المسألة صورة صحيحة ومتعارفة، لماذا كلّ ذلك؟ لأجل هذه التعلّقات. إذا علمنا أنّ الأمر على أساس حساب دقيق وعلى أساس قاعدة فلن نصاب بهذا. لقد كان كثير من الأعاظم مبتلين بهذه الأمور والقضايا، وبهذه المشاكل، فأحيانًا بل دائمًا كلّ ما هو مقدّر للإنسان في هذه الدنيا فهو لصالحه.
ما هي الحكم الكامنة وراء ابتلاءات الناس؟
على الإنسان أن ينظر إلى هذه الأمور بمزيد من التفكّر، لا يمكن أن يقيس الأمور ثمّ يقضي بكلّ بساطة في هذه الابتلاءات التي تصيب الناس، فهذه الابتلاءات ليست عشوائيّة، ولم تكتب لهم هكذا من نفسها. سيّدنا ادع لنا أن نقبل في الجامعة! ادع لنا أن نجد عملاً! ادع لنا أن يتحقّق هذا الأمر الذي نفكّر به! ادع لنا أن تكون تلك الصفقة من نصيبنا نحن دون الآخرين! ادع... فهذا كلّه شرك وهذا كلّه... فهل هو واجب على الإنسان؟ ومن أين علمت بأنّ الدخول إلى الجامعة فيه مصلحة لك؟ من أين علمت أنّ الزواج والارتباط في هذه المرحلة فيه مصلحة لك؟! ربّما لو تمّ هذا الزواج لنقص دينك وسعادتك، كيف لا وقد حصل ذلك؟ وقد حصل مرارًا، لقد حصل مرارًا أنّ الزواج الذي لا يتحقّق على أساس العمل بمبادئ الإسلام يسبّب للنّاس الهلاك والدخول إلى جهنّم، أنا بنفسي كنت شاهدًا في زمان المرحوم العلاّمة من خلال العلاقات التي كانت لديه فكنت شاهدًا على أحداث من هذا القبيل وقد كان له تصريح في بعض الموارد كما أشرت في الجلسة السابقة بأنّ سبب هلاك هذا الرجل هو زوجته. فقد كان يقول ذلك بصراحة، سبب هلاك هذا الرجل هو زواجه هذا، سبب زوال استعدادات هذا الرجل هو زوجته. فقد كان يصرّح بذلك، فهل هناك ما هو أوضح من ذلك؟!
فهذه أمور لا اطّلاع لنا عليها، والله تعالى من باب الرحمة والعطف يسبّب للإنسان هذه الأمور كي لا يغويه الشيطان، وليبقى هذا كناقوس خطر دائم للإنسان، ولدينا حول هذا الكثير من الشواهد إلى ما شاء الله، وهناك ملايين من الناس في التاريخ، بل حدث هذا لكلّ إنسان في كثير من الموارد. فهذه الأمور هي شواهد حيّة على ذلك، والإنسان يلتفت بعد مدّة طويلة إلى أنّه يا للعجب! هذه الأمور التي كان يحسبها معضلة كم لها من الخيرات والبركات، ولولاها لانتهى وخسر. وقد حصل لي شخصيًّا الكثير من أمثال هذه الأمور على مدى الحياة، وصار الآن واضحًا لي أنّها لو لم تكن لانتهيت كليًّا وسلكت في واد آخر، أمور بحسب الظاهر مشكلة جدًّا وصعبة، أمور كانت قد سلبت النوم من عينيّ وكنت أبقى مستيقظًا حتّى الصباح منها، لماذا كلّ ذلك؟ لكيلا أصبح في هذا الوادي، ولو أعطيت الدنيا كلّها الآن على أن أنال تلك الظروف المناسبة التي كنت أتوقّعها وأتخيّلها لما قبلت أبدًا، فقد اتّضحت حقيقة الأمر لي، رغم أنّها صعبة وعسيرة ومهمّة.
هذه المتاعب والمصائب هي أمور تأتي وتصحّح انحراف الإنسان وتورده في هذا الطريق ـ وسأبيّن لكم حكمتها ـ تأتي به من تلك الناحية إلى هذه، تنبّهه.
لماذا يبتلى أنبياء الله وأولياؤه؟
عندما كان المرحوم العلاّمة في المستشفى كنت معه أقوم بخدمته، وكان قد تأذّى كثيرًا بسبب مشكلة عيونه، وقد راجع المستشفى عدّة مرّات لأسباب مختلفة، وذات يوم جرى الحديث حول هذه الأمور وأنّه ما هي الحكمة الإلهيّة من ذلك؟ فقلت: لو كانت هذه الأمور لنا فلا مشكلة، ففي النهاية نحن لدينا من الفساد والخلل ما يجب أن يقوّم بمثل هذا، ولكن ما هو السرّ وراء ابتلاء الأولياء بذلك؟! هل الأمر هو كما يقال إنّه للترقّي وللتكامل؟ أم أنّ هناك أمورًا أخرى؟
فقال: لكلّ إنسان في عالمه الخاص أموره ومسائله المناسبة له في عوالم النفس تلك وفي الحجب رغم كونها حجبًا نورانيّة لا نفسيّة، فهناك عُقَد لا تحلّ إلا بواسطة هذه الابتلاءات. فلو جعل الكرة الأرضيّة كلّها ذهبًا ووزّعها على الفقراء لما حلّت تلك العقدة، لا بدّ أن تحدث أمور من هذا النوع، من تلك المشاكل ومن تلك الظرائف التي يواجهها الإنسان في عالمه الخاص.
فبالنسبة لنا نحن الأمر واضح وبالنسبة للآخرين حتّى الأولياء حتّى الأولياء فهم لهم في زوايا أسرارهم وزوايا وجودهم أمور ما، ولكن أنت تنظر إلى الأمر على أنّه حادث بسيط.
لقد توفّي إبراهيم ابن رسول الله، وكان الأمر معلّقًا على وفاة سيّد الشهداء أو وفاة إبراهيم، فإبراهيم هذا ابن رسول الله، فاختار رسول الله ابنه، وأمّا سيّد الشهداء فقد تعلّقت به الحياة.
ونحن أيضًا نظنّ هذا الأمر معتادًا ومتعارفًا، فإبراهيم في الشهر السادس من عمره وفارق الدنيا، فأولاً إبراهيم نفسه في مرحلة طفولته هذه قبل بهذا الأمر، نحن نعدّه ابن ستّة أشهر، أو ثمانية عشر شهرًا، أو سنة. فقد كان إبراهيم بن رسول الله في الشهر الثامن عشر، ولكنّه هو في عالمه الخاصّ قبل بذلك بوعي واختيار. لذلك فإنّ لإبراهيم مقام عظيم عندما تزورون المدينة ولا ينظر إليه على أنّه طفل ابن سنة ونصف، بل ينبغي أن ينظر إليه على أنّه أكبر نبيّ، فله مقام عظيم، فابن رسول الله هذا ينبغي أن يزار هناك بهذا النحو، وعلى أنّه ابن رسول الله.
ولكن هل إنّ الأمر حيث يرجع إلى رسول الله، وحيث إنّ رسول الله في عالمه فهو لم يحصل له أيّ شيء؟ وهل لأنّه نبيّ في النهاية ـ والنبيّ لا معنى لهذا الكلام عنده ـ فألف واحد من أمثال إبراهيم هم مثل الجدار بالنسبة إليه؟! كلاّ فلا معنى لهذا، فحتّى النبيّ نفسه بتخلّيه عن إبراهيم ينال مقامًا، ويطوي أمورًا وتحدث في نفسه أحداث، فليس الأمر بهذه البساطة، فهذا هو الطريق الذي جعله الله لأدنى عباده ولأرفعهم.
فالفرصة متاحة للجميع، والمائدة مبسوطة للجميع، فإن شئت يا رسولي أن تبلغ هذه النقطة فعليك إمّا أن تتنازل عن إبراهيم أو عن الحسين، فأنا الله وقد تعلّقت مشيئتي بأن تقوم بهذا العمل، أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها، فسير عالم التربية لا بدّ أن يكون بالأسباب والوسائل. فليس حال رسول الله أنّه استيقظ صباحًا فوجد تاج الرسالة على رأسه، وصار صاحب مقام الشفاعة الكبرى والولاية المطلقة... كلاّ ليس الأمر هكذا. فلو كان الأمر كذلك لكان الله ظالمًا، فليس الأمر هكذا، ورسول الله لديه تلك البلاءات بعينها.
هل يكون الإمام خاليًا من الشعور عندما يبتلى؟
وسأخبركم بهذا الأمر: كان المرحوم العلاّمة يتحدّث يومًا عن هذا الموضوع، وأنّ هؤلاء الذين يقولون إنّهم كانوا أئمّة ولم يكن لديهم أيّ أمر، فمن كان إمامًا لا مشكلة لديه سواء مات طفله أو ماتت زوجته وأصيبت بالسرطان أو خسر ماله مثلاً وأصيب بسائر المصائب فهو إمام يعلم المصلحة، فكان المرحوم العلاّمة يقول: الإمام إمام ولكنّه ليس خشبة.
فلدى الإمام تعلّق ولدى الإمام شعور، ولدى الإمام إدراك، والإمام يعطش ولا بدّ أن يشرب هذا الماء بعينه، فلو صار هذا الماء مالحًا فهل تشربونه أنتم؟! لا تشربونه. فهل على الإمام أن يشربه لأنّه إمام؟! كلاّ يا عزيزي ولو شرب الإمام ماء مالحًا لازداد عطشه، وللإمام الجهاز الهضمي نفسه الذي لدينا، وعمليّة الهضم عينها التي لدينا، لا فرق في ذلك أبدًا. إنّه إمام ولكن يجوع ولا بدّ أن يأكل، يعطش ولا بدّ أن يشرب، يشعر بحلاوة الحلاوة وحموضة الحموضة. فالأئمّة هم هكذا أيضًا. لقد كان للإمام الرضا رغبة خاصّة بالعنب تفوق سائر الفواكه، افترضوا أنّا نقول: بما أنّه هو الإمام الرضا فلا بدّ أن يأكل الكشك الشديد الحموضة الأسود اللون بدلاً من العنب؟! كلا يا عزيزي لا ينبغي ذلك لأنّه إمام... أو هل السمّ الزعاق بالنسبة إليهم كالشهد المصفّى؟ فالحلو حلو بالنسبة إلينا وبالنسبة إليه أيضًا، والمرّ مرّ عندنا وعنده، والمناظر الجميلة جميلة بالنسبة إلينا وإليه أيضًا...
وقد رأيت كلامًا يخطئ فيه الكثيرون. وقد رأيت الكثيرين يخطئون فيه في الكتب وقد نشأ ذلك عن عدم فهمهم فبيّنوا جهاز الأعضاء الماديّة والتركيبة الغيبيّة للإمام بشكل مختلف. فمثلاً حيث إنّه إمام فلو أكل حجرًا لتحوّل الحجر إلى كريات!! كلاّ يا عزيزي ليس الأمر هكذا، فلو أكل الحجر لآلمته بطنه ولاحتاج إلى عمليّة جراحيّة بلا أيّ تردّد، ولو أكل السمّ فإنّه سيموت ويغادر الدنيا. ألم يقتل الأئمّة بهذا السمّ؟ ألم يقتلوا سيّد الشهداء بهذا السيف؟ فما الفرق؟ لا فرق في ذلك أبدًا. فكيف يمكن أن يكون لنا تعلّق ولا يكون لهم؟ التعلّق تعلّق إلهيّ، وهو لازم للنفس. عندما ينظر الإمام إلى ولده فهو لا ينظر إلى جدار، هو لا ينظر إلى خشب، فهل كان سيّد الشهداء يضحك هكذا عندما خسر ابنه عليًّا الأكبر؟! وكأنّه ليس أبًا وكأنّه لا يحبّه؟ وكأنّ شيئًا لم يكن؟! هل حاله عندما أصاب ابنه عليًّا الأكبر سيف فمات كحاله لو اصطدمت حديدتان إحداهما بالأخرى وانكسرتا؟
إنّ للإمام تعلّقًا غاية الأمر أنّه تعلّق خاصّ، وسأبيّن ما هو التعلّق الذي ينتظره منّا، ولو لم يكن له تعلّق فلماذا كان يبكي؟! لماذا كان الإمام يبكي يوم عاشوراء ويجري الدمع من عينه؟! على من؟! على عليّ الأكبر الذي تساوي شعرة واحدة منه الدنيا كلّها، شعرة منه تساوي الدنيا كلّها.
هذا التعلّق ما هو؟ هو هذا التعلّق، هو تعلّق النفس بموجود ترتبط به، وإضافة إلى ذلك لا بدّ أن أضيف أمرًا آخر وهو أنّ هذا التعلّق الذي لدى الإمام بابنه هو له بالنسبة إلى جميع الناس، إن كان الإنسان إذا كان له ولد تعلّق به تعلّقًا واحدًا، وإذا كان له ولدان تعلّق بهما تعلّقين، وإن كان له ثلاث أولاد تعلّق بهم ثلاث تعلّقات، فقد كان المرحوم العلاّمة يقول: من وصل إلى مقام الولاية فإنّ الذين يرتبط بهم يصبحون كأولاده. الإمام عليه السلام له تعلّق بجميع الناس في أقصى مراتب التعلّق. لذلك فإنّه إذا مات واحد منهم فكأنّ ابنه قد مات، إذا مات رفيقه فكأنّ ابنه قد مات، ولو مات أيّ إنسان فكأنّ ابنه قد مات، ونحن لا نفهم هذا أبدًا، ولو صرنا علاّمة الدهر فلن نفهم هذا. إلى متى؟ إلى أن نصل إلى الولاية التي يقع الإمام في رأس هرمها، حينها نعي ما يجري في قلب الإمام، وإلا فلن نعي، فلتقبلوا منّي الآن هذا الأمر كحقيقة سمعتها من أولياء الله، وإن شاء الله يوفّقنا الله جميعًا أن ندرك كيف كان يبكي سيّد الشهداء عليه السلام عندما يستشهد واحد من أصحابه في يوم عاشوراء؟ لقد كان يراه ابنه فيبكي هكذا، وطبعًا هناك أبعاد أخرى لذلك البكاء إذا سمح الوقت اليوم على قلّته فسنتعرّض له ببعض كلمات.
ثمّ كان المرحوم العلاّمة يقول: بيننا وبين الله هل نحن حاضرون أن نعطى مقام الإمامة والولاية هذا رغم كلّ هذه البلايا؟ لا نريد أبدًا. نحن نتخيّل أنّ الإمام عليه السلام جالس مأنوسًا يلطّفون له الهواء من حوله بالمروحة من جانب، ويأتونه بأنواع الأطعمة والأشربة وهو واضع تاج الولاية على رأسه... كلاّ ليس الأمر هكذا.
لو أعطونا الآن يومًا واحدًا من مسؤوليّة إمام الزمان بهذه الأفكار وبهذه التعلّقات فإنّا لن نرغب أن نكون على وجه الأرض لألف عام، إنّه الإمام الذي يمكنه أن يتحمّل ويقبل كلّ ذلك ويتحمّله في وجوده ويصبر. يقولون: هنيئًا لقد صار هؤلاء من أولياء الله! لم يعد لديهم همّ! إنّ المصائب التي تحدث لهم ـ كما كان يقول ـ لا يحتملها الآخرون ثانية واحدة، لا أنّ المصيبة تتحوّل إليهم إلى ماهيّة مختلفة وتصبح على صورة أخرى بحيث لا تختلف عن غيرها، كلاّ ليس الأمر هكذا، بل هذه المصائب والأمور التي تحدث لهم حكمتها هي الترقّي، وإذا أراد الإنسان أن يشتغل بالدنيا فإنّها تأتي وتنبّهه وتلفت نظره إلى النقاط الأساسيّة في حياته.
لذلك فإنّ الأعاظم إذا ما مضت مدّة ولم يواجهوا شيئًا يقولون ماذا حدث؟! هل هناك مانع؟! هل نحن نبتعد عن رحمة الله؟! يعني على العكس تمامًا ممّا نتصوّره: سيّدنا أنا لم أتزوّج فإذن أنا بعيد عن رحمة الله! سيّدنا أنا لم أجد زوجة فأنا بعيد عن رحمة الله! سيّدنا أنا لم أنجح فأنا بعيد عن رحمة الله! سيّدنا لم أصل في تجارتي إلى ما كنت أهدف إليه فأنا بعيد عن رحمة الله! سيّدنا نحن كذا وكذا... الحقيقة أنّ العكس هو الصحيح.
عدم تصرّف السيّد الحدّاد لإنجاب ابنه
أنا بنفسي كنت شاهدًا على أنّ أحد أبناء السيّد الحدّاد لم يكن يرزق بأولاد طيلة زواجه وحياته، ومهما سعوا لم يرزق، ابن وليّ الله الذي تحت تصرّفه عالم الوجود كلّه. فعلى حدّ اطّلاعي فأنا مستيقن من هذا ولا شكّ عندي، فقد رأيت الكثير من الأمور، لقد رأيت منه نفسه الكثير من الأمور، فقد ذهب إلى الطبيب في محلّ سكنه، وإلى بغداد وإلى أماكن أخرى، وأقام مجالس التوسّل حتّى طلب من والدِه السيّد الحدّاد أن يطلب من المرحوم العلاّمة أن يدعو له، فدعا له في الحرم. وفي المجالس... ولكن لم يحصل أيّ شيء.
وبعد أن توفّي السيّد الحدّاد بسنة رزق بولد. ينبغي أن لا يحدث هذا. وهذا الأمر بعينه حصل لآخرين، بهذا الشكل ولكن في مشكلة أخرى لآخرين. وهو نفسه قال للمرحوم العلاّمة حول إحدى المشاكل التي واجهته: إذا ذهبت إلى إيران فقم بهذا العمل في أحد مجالسك، ولم يكن الأمر من أمثال هذه الأمور، بل كان أمرًا عامًّا آخر. لماذا؟ لماذا لا يريد؟ هذا الإنسان الذي يمكنه بإرادة واحدة أن يحلّ جميع المشاكل فلماذا لا يفعل ذلك؟
كرامة السيّد هاشم الحدّاد في فكّ الحصار عن دار آية الله الحكيم
يقول المرحوم العلاّمة: في عهد أحد الرؤساء ويبدو أنّه عبد السلام عارف، جاؤوا وضيّقوا على آية الله الحكيم رحمه الله كثيرًا حتّى قطعوا عنه الماء والكهرباء والتلفون وكلّ شيء، وحاصروا منزله، فلم يكن لهذه العائلة حتّى ماء، فالسيّد الحكيم لم يكن لديه ماء في منزله، فالتفت الجميع ما هي حقيقة الأمر؟ ففي النهاية كان الأمر مشكلاً للغاية، فيأتي أحد أصدقائه ـ ولا يزال على قيد الحياة الآن ـ من الكاظميّة حيث منزله إلى كربلاء إلى بيت السيّد الحدّاد ويقول: لقد أخبروني أنّه لا ماء لديه في الدار وعياله في عطش وعذاب، وفي كثير من الليالي يقتصرون على... وقد مضى على ذلك ثلاثة أو أربعة أيّام، فكانوا يأتونه بالماء بشكل خفيّ وبمخاطرة، لأنّهم هدّدوا وقطعوا الماء والكهرباء والتلفون، فجاء إلى السيّد الحداد وقال له: فلتقم له بعمل ما. فقال: إن شاء الله الآن تصلح الأمور، اللهمّ أصلحها، وفي تلك اللحظة أمروا بفكّ الحصار وانتهى كلّ شيء. انتهى الأمر فلتذهبوا إلى أعمالكم.
فهذا أحد الموارد، والأصدقاء يخبروننا، فقد كان يفعل ذلك أحيانًا. فلماذا لم يقم بذلك لابنه، فهذه أمور هم يدركونها، فهم من يدرك كيف يجري عالم المشيئة ويحدّدون على أساسه.
يريد أن يقول إنّ هذا الأمر يجري عليّ وعلى غيري بالسويّة، والمشيئة الإلهيّة لم تتعلّق بهذا ونحن لا يمكننا أن نعمل خلافها، ولو أنّه أعمل إرادته لرزق ابنه بعشرة أولاد دفعة واحدة، ولكنّ هذا الأمر يجب أن يكون بنحو آخر لا هكذا. ألم يكن الآخرون يقومون بذلك؟! ألم نرَ ذلك في أحوال الشيخ حسن علي النخودكي رحمة الله عليه؟
تصرّف الشيخ حسن علي النخودكي في انجاب امرأة لطفل من دون أن يكون لها رحم
هناك رجل هو من الأحياء الآن في مشهد هو نفسه نتج عن تصرّفات هذا الشيخ حسن علي. ففي أواخر حياة المرحوم العلاّمة جاء بعض الأصدقاء من الأطبّاء المعروفين في مشهد إليه فقصّ واحد منهم هذه القصّة عليه، وطبعًا المرحوم العلاّمة اعترض عليه بلطف ولكن نحن ندع ذلك اللطف جانبًا ونبيّن الأمر بصراحة، لأنّ شأنه هو يقتضي ذلك.
كان ذلك الطبيب يقول له: فلان الذي أعرفه ورأيته ـ فالطبيب كان يقول للمرحوم العلاّمة وكانوا جالسين في القسم الداخلي من المنزل على الشرفة وكان الفصل صيفًا وكان ذلك في الصباح إذ جاؤوا لزيارته ـ فقال: إنّ فلانًا الذي أعرفه تزوّجت أمّه من أبيه وكانت بينهما مودّة شديدة ومحبّة، ومضت على زواجهما سنوات سنتان أو ثلاث فلم تحمل هذه المرأة مما سبّب القلق، وشيئًا فشيئًا شرع الكلام بالاعتراض عليها وأمور أخرى إلى أن وصل الأمر إلى تهديد حياتهما بالخطر وكانت عائلة الزوج تهدّدها بأنّها إن لم تحمل فإنّ ابنهم مضطرّ لأن يتزوّج من أخرى، فقلقوا وتأثّروا وصعب الأمر عليهم.
ومرضت هذه المرأة بحيث قاموا لها بعملية جراحيّة واستأصلوا رحمها، فلم يعد لهذه المرأة رحم، وعندما حدث ذلك قرّرت عائلة الزوج أن ينفصلا وأن يتزوّج ابنهم امرأة أخرى لكي يتمكّن من إنجاب الأطفال. فذهب إلى الشيخ حسنعلي النخودكي قلقًا وقال له هذه القصّة فقال له: إن شاء الله سترزق بطفل بعد أشهر. فقال له: هذه المرأة لا رحم لها!
فقال: هل تريد منّي طفلاً أم رحمًا؟! أنت تريد طفلاً، حسنًا، فلتذهب وبعد تسعة أشهر سيولد الطفل، فتحمل وهي على هذه الحال. فكيف يحدث ذلك في النهاية؟! لقد حملت بطفل ثمّ لم تحمل بعده. إن لم يكن لها رحم فلا مشكلة... والآن لا يزال هذا المولود يعيش في مشهد، ووصل إلى سنّ الكهولة، وكان أحدهم يقول: نحن على تواصل معه.
السيّد الحدّاد لم يكن يفعل ذلك، وهذا العمل لا يقوم به أولياء الله، فهل التفتّم؟ الأمر مهمّ جدًّا وبمستوى الإعجاز، خارق للعادة، فهل هناك أرفع من ذلك؟! ففي الوقت الذي لا يمكن من الناحية الماديّة ومن ناحية العلل والعوامل الماديّة أن يتحقّق أمر ما فإنّه يحقّقه. فمثلاً ليس لدينا أرفع من ذلك، فحتّى إحياء الميّت، هذا العمل هو أرفع منه، ففي النهاية في إحياء الميّت هناك جسد وهناك روح فيقوم بالربط بينهما، فليس هذا بالأمر المهمّ، ولكن هنا كأنّه كقوله تعالى: {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}۱ أو كقضيّة النبيّ عيسى: {وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ...} فلم تكن هناك روح أصلاً.
لقد كان هذا الرجل يسأل المرحوم العلاّمة: هل العمل الذي قام به صحيح أم لا؟
ولكن المرحوم العلاّمة بسبب مقامه الرفيع أجاب بنحو، وربّما كان هناك ظرف خاصّ أو نوع خاصّ... ولكنّي أقول هنا بصراحة: كلاّ أولياء الله لا يفعلون ذلك أبدًا، إلا في موارد استثنائية ولا شكّ أنّ تلك الحادثة لم تكن منها كما كنّا نلاحظ في كثير من الموارد.
فالإرادة والمشيئة الإلهيّة شيء آخر. فملاحظة الإرادة والمشيئة الإلهيّة تعني تفويض الاختيار والإرادة إلى إرادته ومشيئته، فالله لا يريد أن ترى في حياتك ابنك وحفيدك، لا يريد، حسنًا لا يريد أن يتحقّق هذا الأمر بهذا النحو، واللطيف هنا أنّهم يعطون الإنسان كافّة القدرة والحريّة في التصرّف في العالم ولكن يقولون: لا تفعل شيئًا، فهذا أمر عجيب... يعطونه كلّ شيء، ويقولون له: لا تقدم على شيء! أقدم في بعض الموارد، وفي غيرها لا يمكنك، حينها يصبح هذا السيّد الحدّاد، حينها يصبح المرحوم العلاّمة. لا يبلغ هذه المرتبة أيّ إنسان، نحن نظنّ أنّ المقامات التي حصل عليها هؤلاء قد حصلت دفعة واحدة بعد أن تعلّقت بها إرادة الله، كلاّ يا عزيزي لقد بذلوا الكثير من الجهود حتّى تحقّق ذلك.
كيف نتعامل مع الابتلاء؟
كان المرحوم العلاّمة يقول: كلّما زاد الله من مرتبة الإنسان فإنّه يبتليه بابتلاءات، فهذا أمر مسلّم، هذه الابتلاءات التي لا بدّ منها للترقّي، وهنا يوضّح لنا الإمام طريق العبور ويقول: لا كلام في أنّ لديكم تعلّقًا، يقول لعنوان ـ وهذا توضيح منّي ـ لا أقول: أعدم هذه التعلّقات من نفسك، لا أقول: يجب أن لا يكون لديك تعلّق، أنا لا أقول: أدر العالم وفق مرادك، فهذا غير صحيح. جاء وطلب من الإمام الصادق أن يا ابن رسول الله ادع لي أن لا يبتلني الله! فقال الإمام: لا أدعو بالمحال، هذا الأمر مقرّر في القضاء الإلهيّ الحتميّ وأنّه لا بدّ أن يبتلي الله الجميع. ما أقوم به أنا وتقوم به أنت هو أنّ ندعو ـ من باب الإصلاح ـ أن يوفّقنا الله أن نتجاوز الامتحان بنجاح، فالتوفيق يعني هذا التحمّل للتجاوز، التحمّل للتجاوز ليوم، ليومين، لشهر، لشهرين، لثلاث سنوات، لخمسين سنة، لا فرق بين ذلك، أن يوفّق الله الإنسان لهذا التحمّل للتجاوز، فهذا ما يجب القيام به.
كيف نهوّن البلاء على أنفسنا؟
الإمام الصادق عليه السلام يقول: ما دام الأمر كذلك فتعال واجعل الأمر على نفسك سهلاً، كيف يصبح سهلاً؟ بهذه القاعدة وهي أن تعلم أنّ جميع الأمور من جانب الله، وأنت عبد، فإذا لم يرَ العبد لنفسه شيئًا هان عليه مصائب الدنيا، تختلف صورتها تتغيّر. التعلّق موجود وهو لا يزول ولكن تتغيّر صورته، فهذه الأزمة والمشكلة التي واجتهتها الآن في هذه الصفقة حين خسرت مثلاً إذا اعتبرت أنّ المال مال الله وهو يريد الآن أن يجعله لآخر، وهذا ما يسمّى خسارة لي، لا يسمّى خسارة له، فالله يريد أن يبدّل مكانه ولا يختلف الأمر عنده.
فالمال لن يزول، فليطمئنّ الجميع، المال لن ينعدم، بل سيتغيّر مكانه فحسب، فما كان يجب أن يذهب إلى جيب ذاك يأتي إلى جيب هذا، وما كان يجب أن يذهب إلى جيب هذا يذهب إلى جيب ذاك. فإذا تحمّل الإنسان هذا استراح، لا يتأذّى، فأعصابه ستكون أكثر راحة، وباله سيكون أكثر اطمئنانًا، فإذا حدثت مشكلة أو أزمة وعلم الإنسان أنّ الله هو المالك وأنّه شئنا أم أبينا إن لم ندرك ذلك الأمر اليوم فسيفهمنا إيّاه غدًا، حسنًا، فما يجب أن نفهمه غدًا فلنفهمه من الآن، وما نريد أن نلتفت إليه بعد سنتين أو ثلاث أو عشر سنوات فلنلتفت إليه الآن، وما يجب أن نلتفت إليه بالانتقال إلى ذلك العالم فلنلتفت إليه الآن ولنعش مرتاحي البال مطئنّي الفكر.
إذا كنّا هكذا استرحنا، وصار لدينا اطمئنان، فمن جهة المصيبة تصبح سهلة عليه، ومن جهة أخرى فإنّ نفسه صار لها ضمان أمام بعض الأمور، فهو يعيش حالة من الضمان والأمان بالنسبة إلى هذه المراتب، أمّا بالنسبة إلى المراتب الأرفع فلها مكانها الخاص، فهو تجاوز هذه المراتب فقط. فهذا بنفسه خطوة ودرجة وأمر مهمّ.
كيفيّة مواجهة سيّد الشهداء عليه السلام للبلاء
ولذلك ينقل عن سيّد الشهداء عليه السلام في يوم عاشوراء أنّه كان كلّما مضى يوم عاشوراء أكثر كان وجهه يزداد تلألؤًا، يجري منه الدمع ولكن ليس له حالة مصيبة، يزداد وجهه تلألؤًا ويصبح أكثر نورانيّة، وتهيّء له الوسائل المزيد من العظمة، وحقًّا إدراك هذا الأمر صعب.
تصوّروا أنّ إنسانًا أبًا يحمل طفله الصغير في حضنه ويأتي به ويقف قرب الناس ويطلب منهم سقيه فيرمونه أمام عينيه بالسهم، وقد حصل له هذا الأمر، فأيّ حالة يعيش حينها؟ حقًّا ما هي الحالة التي كانت لدى سيّد الشهداء في ذلك الحين وماذا كان يشعر؟ العبارات التي لدينا عنه عليه السلام حول هذا الأمر تحكي عن أنّه في عين تعلّقه بهذا الابن، الطفل البرئ ابن الأشهر الست عبد الله الرضيع، في عين تعلّقه فإنّ له عظمة وبهاء وجلالاً وبهاء بحيث لا يحسب أيّ حساب بعد ذلك لهذه الحادثة ولألف حادثة من أمثالها، فبعد أن فوّض الإمام نفسه إلى الله ولم يعد يرى لنفسه وجودًا ورأى نفسه هنا كهذا الطفل البريء أمام الله، فبعد ذلك ماذا يمكن أن يرى؟ أيّ أذى سيصيبه غير متوقّع وغير متصوّر؟ ولذلك فإنّه يقول هنا: هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله، فما دام الله يرى فتحمّل هذه المصائب سهل، فانظروا الإمام هنا يعلّمنا، لقد حدث معي هذا بهذه الطريقة ويمكن أن تحدث لكم بنحو آخر. فلا بدّ من التعلّم، يمكن أن تحدث بنحو آخر لإنسان آخر، وبنحو ثالث للآخرين، ولكنّها تحدث بالنسبة إليه بشكل آخر، فهذا معنى هان عليه مصائب الدنيا، حينها تصبح هذه المصائب ضعيفة، لا يمكنها أن تؤثّر على نفس الإنسان تأثيرًا بالغًا وتأثيرًا يوقعه ويشلّه عن العزائم وعن تلك الإرادة للحركة في المسير وتضعفه. لماذا حصل ذلك؟ يضحك من الأحداث التي تصيبه، لا يعود يلتفت، ولا يبقى في ذهنه إلا أمر واحد وهو الحركة، أقم نفسك وأقم حركتك فهذه قضايا تأتي وتذهب لماذا؟ إنّها لأنّ الإنسان يعلم أنّ ما هو موجود هو له تعالى، ونحن جميعًا ملك له تعالى، وتحت إرادته واختياره. لذلك تهون عليه الأمور، هان عليه مصائب الدنيا إلى أن يتجاوز الإنسان هذه المرحلة، فإذا تجاوزها ووصل إلى مقام العبوديّة ليس تهون عليه المصيبة فحسب بل إنّ ماهيّتها ستتبدّل فيتقدّم لاستقبالها.
وهنا مقام رفيع جدًّا وأعلى مقام كما يقول حافظ: زير شمشير غمش رقص كنان بايد رفت
يقول: يجب المضيّ إلى تحت سيف غمّه راقصين.
هو بنفسه يبحث عنه، هو بنفسه يجعل نفسه في معرض البلاء، هو نفسه يقول: ماذا حصل إذن؟! هو بنفسه يقول: لماذا لا يوجد شيء من البلاء لديّ؟ لماذا لا يحدث شيء؟! فهو يصل إلى إدراك يجعله دائمًا في حالة طلب، يريد دائمًا أن يطلب، يريد أن يطلب، يريد أن يتغيّر، يريد أن يغيّر نفسه، يبحث عن طريق وعن وسيلة، لا أن يفرّ قائلاً: لا قدّر الله أن يحدث أمر كهذا، لا قدّر الله أن يحدث كذا...
خروج الأمر في كربلاء عن حدّ المصيبة
لذلك في حادثة كربلاء كما يقول المرحوم السيّد الحدّاد للمرحوم العلاّمة خرج الأمر في كربلاء عن ماهيّة المصيبة وصورة البلاء. فهذا هو السرّ الذي كان يقوله وكثيرون لم يدركوه واعترضوا عليه وانتقدوه، وهو أنّ الأمر في يوم عاشوراء خرج عن كونه مصيبة ولم يكن مصيبة. لقد كان أصحاب سيّد الشهداء يضحكون وكان مسلم بن عوسجة يمازح، لقد كان الشيخ العجوز يمازح رفيقه ليلة عاشوراء، وكان عليّ الأكبر مدركًا لما سيحدث من أمور ولم يكن أمره سهلاً، كانت لديه حالة استقبال أن متى يحلّ الصباح؟ متى ستقع تلك الأحداث؟ وكان أصحاب سيّد الشهداء يتسابقون إلى الميدان، كانوا يخشون أن يحدث أمر فيمنعهم الإمام من المضيّ، أو تتحوّل مجريات الأحداث، فكانوا دائمًا في حال اضطراب يريدون أن يصلوا أسرع وينتهي الأمر، وأن تكون من نصيبهم مقولة فزت وربّ الكعبة التي قالها أمير المؤمنين عليه السلام في المحراب. فإذا أصابه السيف فقد انتهى الأمر، انتهى التكليف، متى قال أمير المؤمنين فزت وربّ الكعبة؟ عندما رأى أن التكليف قد انتهى، وقد ضرب ابن ملجم السيف وأغلق السجلّ، حينها قال الإمام: فزت، أي وصلت إلى تلك المرتبة، ونلت ما كنت أبحث عنه.
وأعتقد أنّه حصل لدى الرفقاء ذلك الاستعداد والتهيّؤ لأن يثبتوا إذا كانوا في ظرف كهذا، لا في أيّ مكان، بل في ركاب سيّد الشهداء فهل التفتّم؟! في ركاب سيّد الشهداء أو في ركاب وليّ الله الذي هو الوجود المتنزّل للإمام عليه السلام. فنظرًا إلى الكلام الذي تقدّم ألا تعدّون الدقائق؟! ألا تعدّون اللحظات؟! اللحظة التي تحتّم فيها السعادة للإنسان، في تلك اللحظة يتنحّى الشيطان ويصبح الإنسان من أهل السعادة، في تلك اللحظة يضمن الإمام عليه السلام الإنسان وينتهي الأمر ينتهي.
ألا يستحقّ هذا الزمان أن تعدّ لحاظته؟! فيرى إذن أنّ المصيبة قد بدّلت وجهها، وتحوّلت إلى عروس، تحوّلت إلى حفل، تحوّلت إلى سرور، وقد كان جنود عمر بن سعد يقولون في يوم عاشوراء: انظروا إلى حال هذا الرجل لا يبالي بالمصائب! الأمر الوحيد الذي لا يخطر في باله هو الموت. ماذا يفعل؟ يقولون: انظروا إلى هؤلاء أو إلى خصوص سيّد الشهداء فقد ورد بيانان، انظروا إلى هؤلاء الأصحاب يلقون بأنفسهم في قلبنا، يلقون بأنفسهم بين الحديد والرماح والسيوف، فقد تعجّبوا من إلقائهم أنفسهم أن ما هذا؟!
هؤلاء الحمقى لا يعلمون أنّ الأمر قد تبدّل بالنسبة إلى هؤلاء، فأولئك يفرّون وهؤلاء يقتحمون، أولئك يرون الموت كأس سمّ، وهؤلاء يرونه كأس شهد، فعندما يقول القاسم: أحلى من العسل فليس عبثًا يقول، بل كان يعي ويقول، كان يدرك هذا الأمر ويتكلّم، كان عمره ثلاث عشرة سنة ولكنّه كان يعي، الوعي الذي لا يمتلكه الكبار من أبناء السبعين من أمثالنا، كان يعي حين كان يقول هذا الكلام، لقد كان يدرك هذا الأمر فيقول: أحلى من العسل، وهنا لا يعود بكاء الإنسان على سيّد الشهداء بكاء على المصيبة، يتساقط الدمع من عيني الإنسان ولكنّه دمع الحسرة لا دمع على أنّه لماذا ضربوا بالسيف والآن يسيل الدم على وجهه.
لقد ذكرت ذات يوم هذا الأمر فقلت: ماذا يفكّر الناس؟ لو أنّ سيّد الشهداء عليه السلام مات ميتة طبيعيّة فهل كنّا سنلطم على صدورنا إلى هذا الحدّ، أم لا بل كنّا لا نكاد نقيم له مجلسًا واحدًا، نعوذ بالله نعوذ بالله كالمجالس التي نقيمها للإمام الهادي أو الإمام الباقر عليهما السلام حيث يقولون إنّهما تناولا سمًّا وانتهى الأمر، لماذا؟ لأنّه جرى على الحسين ما جرى فضرب بالسيوف، لأنّه قطّع إربًا إربًا، لأنّهم رموا طفله الرضيع بالسهم، لأنّهم فعلوا بابنه الأكبر عليّ الأكبر ما فعلوا، لأنّهم جاؤوا بذريّته على تلك الحال...
هذا كلّه نظر إلى هذا الأمر على أنّه مصيبة، وكلّما كانت المصيبة أكثر لطمنا رؤوسنا أكثر، فلو كان الإمام الحسين قد ضرب ضربة واحدة بالسيف فهل كنّا سنلطم إلى هذا الحدّ على رؤوسنا؟! كلاّ، ولكن لأنّهم ضربوه على جبهته، لأنّهم رموه بالسهام على قلبه، لأنّهم قتلوه بهذه الطريقة، لأنّهم ألقوا بدنه تحت الخيول، فلأنّهم فعلوا ذلك فإنّ صراخنا يزداد وصوتنا يعلو ومشاعرنا تتحرّك. فانظروا إلى المجالس التي تقام في النهاية: واويلاه حصل كذا! واويلاه ويمزّقون حناجرهم أن ماذا؟! أن صارت المصيبة أعظم. أولياء الله ينظرون إلى هذا الأمر وأنّه يا له من نور يتضاعف! يا له من عشق يزداد! يا له من بهاء! يا لها من رفعة! يا لها من درجة! يا لها من ألطاف! يا لها من عنايات! يا له من قرب! يا لها من وحدة! ينظرون بهذه الطريقة، وأولئك ينظرون بتلك، فهذا هو مراد ومقصود السيّد الحدّاد والمرحوم العلاّمة رضوان الله عليهما في الروج المجرّد والذي لم يدرك الجاهلون فيه هذه النقطة فانتقدوه، وهي تغيّر ماهيّة المصيبة في واقعة كربلاء هويّتها لم تتغيّر، فهويّتها هي وجودها الخارجيّ، ولكنّ ماهيّتها وحدّها ورسمها قد تغيّرت، فنحن نظنّها مصيبة وهو يراها ترقّيًا ويستقبلها... وطبعًا مقولة فيا سيوف خذيني ليست لسيّد الشهداء، فلا تقعوا في هذا الخطأ يومًا ما، فقد شوهد في بعض الإعلانات والرايات أنّهم يكتبون:
إن كان دين محمّد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني
ناقلين ذلك عن سيّد الشهداء، فهذا الكلام ليس للإمام، بل هو لأحد الواعظين المصريّين ينقل اشتباهًا، وطبعًا هناك عبارات في هذا المجال، ولكنّ هذه العبارة ليست لسيّد الشهداء، ويجب أن لا ينقلها أحد على أنّها منه.
هذا الاستقبال الذي يستقبل فيه سيّد الشهداء هذا الحدث هو استقبال للطّف، استقبال للمقامات، استقبال للتسليم، استقبال للرضى، وحتّى سقط عن سرج جواده إلى الأرض وضع رأسه على التراب وقال: تسليمًا برضائك. حتّى اللحظة الأخيرة، حتّى اللحظة الأخيرة. فهذا هو تبدّل المصيبة، هذا تبدّل المصيبة.
حسنًا، لقد أدرك الرفقاء والأصدقاء ما يجب أن يدركوه حول هذا الموضوع والحمد لله ، وانتهى بيان كلام الإمام الصادق لعنوان حوله، وقد كان الأمر واضحًا لدى الرفقاء ولكن اتّضح أكثر بمقدار يسير.
آداب شهر رمضان
شهر رمضان على الأبواب، من المهمّ جدًّا أنّ الله تعالى لم يجعل لنا سوى شهر واحد في السنة، يستحبّ للإنسان على مدار السنة أن يصوم في كلّ شهر ثلاثة أيّام، ولكنّ ذلك الصيام الذي يصومه فيها يختلف عن الصيام في شهر رمضان. وكأنّ الله تعالى قد وسّع رحمته كثيرًا في شهر رمضان. وقد كان الأعاظم يهتمّون كثيرًا بشهر رمضان.
هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله كما قال رسول الله، فنحن مدعوون في هذا الشهر إلى ضيافة الله، يعني رسول الله يحدّثنا عن الحقيقة التي يدركها وأنّ علينا أن لا نخسر هذا الشهر، فمن غير المعلوم من يبقى حيًّا بعد سنة ومن لا يبقى أو ما هو التوفيق في السنة القادمة؟ فقد فتح الله الآن هذا الباب في هذا الشهر.
قال النبيّ: الشقيّ من حرم غفران الله في هذا الشهر. عجيب جدًّا جدًّا! هذه العبارة عجيبة جدًّا، فقد جعل الله في هذا الشهر من وسائط الرحمة والعفو ووسائلهما إلى درجة أنّه لا يحرم منهما إلا المعاند المغرض المدبِر.
لقد كان التأكيد في هذا المجال كثيرًا جدًّا، وكانت وصايا الأعاظم كثيرة جدًّا، وكان المرحوم العلاّمة دائمًا قبل هذا الشهر يوصي الناس أن حاولوا أن تنالوا ما يهدف إليه أولياء الله ورسول الله، لا أن يكون هناك جوع فقط ثمّ انتظار متى يحلّ الإفطار. فالناس يقولون: في النهاية صار واجبًا فقد دخلنا في شهر رمضان وإن شاء الله سينتهي، فيحسبون من اليوم الأوّل أنّه بقي تسع وعشرون يومًا، وفي اليوم الثاني يحسبون وهكذا حتّى يصلوا إلى نصفه فيقولون: لم يبق شيء.
يجب أن يكون لدينا حال نشعر فيه بالمصيبة لفقدان كلّ يوم أن قد مضى يوم واقتربنا يومًا من نهاية شهر رمضان، فليت هذا الحال يكون لنا! كيف يتمكّن الإنسان من تأمين هذا الحال؟
علينا أن نتناول الطعام بمقدار فلا نثقل معدنا. وعلينا في شهر رمضان أن نزيد مراقبتنا إلى مستواها الأعلى. العلاقة مع أيّ إنسان تؤدّي إلى إزالة آثار الصوم من نفس الإنسان، الجلوس والحديث في شؤون الدنيا وأنّه ماذا جرى هنا وماذا جرى هناك؟ ماذا حصل في هذا البلد، وماذا حصل في ذاك؟ إنّ هذه الأمور لا تحلّ لنا مشكلة أبدًا، وأقول للرفقاء أنّا سواء علمنا أو لم نعلم فإنّ أوضاع العالم ستجري في مسارها، فلا نخدعنّ نحن في خضمّ ذلك، والجلوس والحديث عمّا حدث هنا وما حدث هناك وهذا جاء وذاك ذهب وأمثال ذلك كلّه خسائر تصيبنا أنا وأنتم، علينا أن نهتمّ بعملنا، الكلام الفارغ والعلاقات مع أهل الدنيا وتمضية الوقت بالأمور اليوميّة... علينا أن نسعى قدر المستطاع أن نقلّل من الكلام في هذا الشهر ، وأن نمسك بهذا اللسان فنتكلّم أقلّ، ونهتمّ بالأمور الضروريّة فقط، والكلام المتعارف إن شاء الله سنتحدّث عنه لاحقًا في بحث الصمت ونوضّح أنّ الكلام المتعارف يخلي ذخيرة الإنسان، أمّا تميضة الوقت بالغيبة والتهمة وأمثالهما لا سمح الله فهذا له شأن آخر. ولكن علينا أن لا نتكلّم بهذا الكلام المتعارف مثل: أين ذهبت؟ متى رجعت؟ متى ذهبت إلى العمل؟ متى ترجع إلى المنزل؟ إلى أين تذهب الليلة؟ وأنتم جرّبوا بأنفسكم.
فليمتنع الإنسان عن الكلام الزائد والعلاقة مع من هم من أهل الدنيا، وعن الاهتمام بالأخبار التي لا نتيجة منها والأمور غير المهمّة وغير المفيدة، وليهتمّ بالتفكّر في نفسه وأحواله، وليشتغل طوال النهار بذكر لا إله إلا الله، وإن لم يستطع وكان بين جماعة فليشغل ذهنه وليقله في قلبه وليخرج ذهنه من بين الجماعة ممّا يقلّل من تلك الآثار عليه. وليستيقظ في أغلب الأوقات، وخصوصًا قبيل أذان الصبح بساعة أو ساعتين على الأقل، وليشتغل بقراءة القرآن والصلاة، وليصلّ صلاته جهرًا لا إخفاتًا، وليكن في الغرفة نور مناسب وقليل وليقرأ القرآن، وليقرأه في صلواته، وليقرأه من المصحف، وليختر سورة ويقسّمها... ـ وما أقوله لكم كان الأعاظم يوصون به في شهر رمضان خاصّة ـ وليستعمل العطر، وليعلم أنّ الله يجعل لعباده نصيبًا خاصًّا في ليالي شهر رمضان، والصيام الذي قام به في النهار يثبّت في الليل.
احذروا أن تقضوا معظم الليل بالنوم، فهناك الكثير من الوقت للنوم، [فعلينا أن نقلّل منه] خصوصًا في ليالي شهر رمضان، ومن المؤكّد عليه كثيرًا تلاوة الأدعية المأثورة في هذا الشهر، وكذلك قراءة القرآن، فقد قال رسول الله: أنفاسكم في تسبيح ونومكم فيه عبادة.فإذا تنفّستم في هذا الشهر كتبه الله تسبيحًا له، وإذا عرض على الإنسان في هذا الشهر نوم للاستراحة عدّه الله عبادة، ومعنى ذلك أنّ على الإنسان أن يجعل نفسه في معرض استجلاب الأنوار الإلهيّة، حينها يصبح نومه كالعبادة، وحركاته تتبدّل إلى عبادة. والحاصل أنّه أيّة نعمة أعطانا الله تعالى في هذا الشهر!
ألم يقل المرحوم العلاّمة في كتابه أنّ السيّد الحدّاد كان بعد انقضاء شهر رمضان يقوم بزيارة شاملة للعتبات المقدّسة شكرًا على الألطاف الإلهيّة وعلى تلك النعمة التي قسمت له! فأيّ معنى كان يدرك هؤلاء في هذا الأمر؟ فهل الضيافة هي أن يقضي الإنسان شهرًا كاملاً بالجوع؟! هل تعني "دعيتم فيه إلى ضيافة الله" أن يمسك الإنسان شهرًا كاملاً فحسب؟! فليستفد الإنسان من هذا الجوع في هذا الشهر خاصّة للاقتراب بنفسه من تلك النقطة التي هم فيها، وليسمح ببقاء آثار هذا الشهر في وجوده إلى أشهر، حينها يستحقّ الشكر، شكر الأولياء، وشكر الأئمّة المعصومين، فزيارتهم هي للوصول إلى هذه النعمة.
وحاصل الكلام أنّ المرحوم العلاّمة كان يقول إنّه على الإنسان أن يقف ـ وفق ما ورد في برامج الأعاظم ـ عند قلبه ويكون كالحارس له، ويمنع الغرباء من دخوله ولا يسمح لأحد سواه أن يدخله، ولا يسمح أن تأتي الخطورات إلى ذهنه، ولا يسمح لتلك الأمور التي كانت في الماضي وطوال أيّامه في الشهورالماضية أن تكون في هذا الشهر، ويكون ملتفتًا لقلبه ومحافظًا عليه، وأن يحفظ هذا القلب الذي هو حرم وحريم إلهيّ لصاحب الدار.
نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لصوم كهذا وأن نتمتّع هكذا بنعم الضيافة الإلهيّة.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.