المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالإنفاق و الإيثار
التاريخ 1424/06/10
التوضيح
هو العليم
أعلى مراتب الإنفاق
شرح حديث عنوان البصريّ -٩۱
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
۱۰ جمادى الثاني – لعام ۱٤٢٤ هـ ق.
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد
(اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّد)
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
فَإذَا لَمْ يَرَ العَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللهُ مِلْكاً، هَانَ عَلَيْهِ الإنْفَاقُ فِيمَا أمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أنْ يُنْفِقَ فِيه
كان الكلام حول حديث الإمام الصادق عليه السلام لعنوان أنّه إذا رأى العبد ما يمكله من الله فإنّه ينفق في الموارد التي أمر الله بالإنفاق فيها.
وبصورة عامّة كما تقدّم فإنّ أصل جميع التكاليف وأساسها، سواء التكاليف الشرعيّة الإلزاميّة الواجبة أو المحرّمة أو التكاليف غير الإلزاميّة الأخلاقيّة يدور حول كلام الإمام هذا. لأنّ التكاليف على قسمين:
بعضها إلزاميّ كالصلاة والصيام والزكاة والخمس والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه تكاليف إلزاميّة يعاقب الله على تركها.
وبعض التكاليف أيضًا غير إلزاميّة وتكاليف أخلاقيّة يعبّر عنها بالاستحباب والرجحان والاستحسان.
وجميع الموارد تندرج تحت هذه الجملة وأنّ على الإنسان أن ينفق ممّا آتاه الله.
مراتب الإنفاق وإنفاق الشخصيّة والنفس
وهذا الإنفاق كما تقدّم له مراتب، فمرتبة في المال ومرتبة في الروح ومرتبة ثالثة هي الأهمّ مرتبة في الشخصيّة. الإنفاق في أمور الشخصيّة والتجاوز عن النفس في تلك الموارد التي ترتبط بموقع الإنسان. وهذه مسألة صعبة جدًّا، والعبور عنها يمكن أن يقال إنّه في الواقع عبور عن آخر المراتب والآثار والشوائب الوجوديّة، وجميع الذين هم في مرحلة السلوك وغيرهم ـ إن لم نقل الجميع بنسبة مائة في المائة فقريب منها ـ يسقطون في هذه المرحلة. يعني في الموارد التي يتعارض فيها أمر ما مع شخصيّة الإنسان وموقعه الاجتماعيّ وشؤونه الاعتباريّة. وهذا الأمر من الأمور المهمّة للغاية، ولتوضيح الأمر بنحو مختصر فإنّنا من البداية نبيّنه وفق ما في الآيات على ما يستفاد من كلمات الأعاظم.
معنى آية: {فإنّ العزّة للّه جميعًا}
تقول الآية الشريفة: {فإنّ العزّة للّه جميعًا}۱ فالعزّة فقط للّه، والعزّة تعني ما يرتبط بشؤون الإنسان الرفيعة، وهي مختصّة بالله. يقال عزيز لمن يمنع الغير من الدخول إلى محوطته الخاصة، فهذا يقال له عزيز، لا يسمح للغير بالتدخّل والتصرّف في تلك الدائرة الخاصّة به، فيقال له عزيز، لا يمكن لأحد أن يأمر أو ينهى، لا يمكن لأحد أن يتدخّل ويتصرّف في الإنسان أن اذهب إلى هنا ولا تذهب إلى هناك، لا يمكن لأحد بواسطة التغلّب والسيطرة على الإنسان أن يسلبه تلك القدرة والشأن فهذا ما يقال له عزيز. إذا تمكّن إنسان أن يمسك بيده بزمام أمور آخر فيطيعه في كلّ ما يأمر به ويسلّم له بالإجبار فهذا لا يكون عزيزًا، بل هو ذليل. وفي المقابل يطلق الذليل على الإنسان الذي يتغلّب عليه إنسان آخر بأيّ نحو وبالقوّة إمّا بواسطة الأمور الخارجيّة أو النفسيّة وحاجاته، كأن يكون له صديق يأتي ويعيّن له تكليفه لأنّه يحتاج إليه فهذا ذليل وليس عزيزًا.
فأن يكون الإنسان في منزله على حال يكون المحيط الداخليّ للمنزل حاكمًا عليه فهذا ذليل وليس عزيزًا، فهو يريد أن يسلك طريقًا وأفراد المنزل يريدون أن يسوقوه في طريق آخر ويكون مجبورًا على طاعتهم، فهذا ذليل وليس عزيزًا. نعم تارة يكون الإنسان في المنزل فيتصرّف كما يحبّ عياله فهذا لا إشكال فيه، لنأكل اليوم هذا الطعام، لنسافر إلى هذا المكان، لنهيّئ لأنفسنا هذا الشيء الأمور الضروريّة واللازمة أو الأمور التي تؤدّي إلى سرورهم وتسبّب لهم النشاط في الحياة فهذا لا إشكال فيه بل هو جيّد جدًّا. ولكن أن يخضع إنسان لآخر ضمن حدود التكليف ـ التفتوا ـ ضمن حدود ودائرة تكليفه الخاصّ فيطيعه فهذا يكون ذليلاً، ولا يكون عزيزًا.
فإذن يطلق العزيز على الإنسان الذي لا يسمح بتدخّل إنسان آخر في دائرة تكليفه وعمله، لا الأب ولا الأمّ ـ وطبعًا أبيّن هذا الأمر الآن بهذه الطريقة لأوضّحها لاحقًا ـ فلا يسمح لأبيه ولا لأمّه ولا لأخيه ولا لشريكه ولا لزوجته والزوجة لا تسمح لزوجها، ولا أحد يسمح لأحد أبدًا أبدًا أبدًا، فهذا ما يقال له عزيز. لا يسمح لتدخّل الحاكم ولا لتدخّل الدولة ولا مؤسّسة معيّنة ولا جمعيّة، فلا أحد يمكنه أن يتدخّل بمقدار رأس إبرة في دائرة سلطته وإرادته فهذا الإنسان يكون عزيزًا.
معنى العزّة الإلهيّة وكيفيّة كون العزّة لنا معها
وهذه العزّة الآن في القرآن الكريم وفي بيانات الأعاظم تختصّ بالله، وليست لنا نحن، أمّا كيف تكون لنا؟ فسنبيّن ذلك، فهذه العزّة تختصّ بذات الله، والله تعالى لا يسمح لأيّ ذات بالتدخّل في دائرة وجوده. يفعل الله ما يشاء بقدرته ويحكم ما يريد بعزّته فالله تعالى يفعل ما يشاء بواسطة القدرة التي لديه: {إنّما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كلّ شيء وهو إليه ترجعون}.۱ فحال أمر الله ومشيئته أنّه إذا تعلّقت بشيء انتهى الأمر، فبمجرّد تعلّق الإرادة وبمجرّد كلمة كن التكوينيّة الواحدة لا حاجة إلى التفكير، لا حاجة إلى تهيئة المقدّمات.
إذا أردت أن تبني منزلاً في مكان ما فإنّك لا تنفخ فجأة هكذا بحيث يبنى بناء من عشرة طوابق، فهناك ألف علّة وشقاء وخصوصًا في هذا الزمان، لا بدّ أن تشيب اللحى، طبعًا هناك من يعرف طرقًا غير الطرق المعروفة! ففي النهاية اذهب إلى هنا ثمّ إلى هنا وهكذا مرّ على الجميع لتحصل على رخصة، ثمّ بعد ذلك عليك أن تشتري موادّ البناء، وأن تحصل على خارطة، وفي هذه الأثناء ربّما يسقط أحدهم ويموت ويتوقّف كلّ شيء، ولكن كما قلت هناك من يعرف أقرب الطرق فلكلّ قاعدة استثناء!
ولكنّ الله ليس كذلك، بل أمره {إذا أراد شيئًا} أنّه بمجرّد أن يريد فإنّ الوجود الخارجي يتحقّق، أمّا أن يأتي ويبذل جهدًا ويستجمع قواه ويفكّر بأطراف القضيّة من الليل حتّى الصباح ويتناول بضعة أقراص من أدوية الأعصاب ليقوى تفكيره و... فهذا ما لا حاجة إليه.
{فسبحان الذي...} أي ما دام الأمر كذلك، فمنزّه ذاك الإله {الذي بيده ملكوت كلّ شيء}، الملكوت يعني زمام الأسباب وزمام العلل، فهذا العالم عالم الملك، وعالم الملكوت هو فوق هذا العالم وهو علّة له، وهذا العالم معلول له، وكلّ ذلك هو بيده هو، هذا هو الله تعالى.
لماذا تختصّ العزّة بالله؟
لماذا تختصّ العزّة بالله؟ لأنّ الوجود مختصّ بالله، فكلّ وجود يتصوّر في العالم حقيقته وأساسه يرجع إلى وجود الله، ولأنّ الوجود هو الأصل والخير في جميع الأمور، فإنّ وجود الله الذي هو أصل جميع الموجودت هو منشأ الأمور الحقيقيّة، وأمّا الأمور الاعتباريّة فلا طريق لها إلى ذات الله. إنّ فلسفة التشريع وفلسفة النظام التربويّ في الإسلام إن كان الرفقاء يذكرون حين كنّا نبحث هذا الأمر وحول السياسة الإسلاميّة أرجعناها إلى هذه النقطة: وهي أنّ الوجود في العالم يختصّ بالله، ولأنّه يختصّ بالله فإنّ الآثار الوجوديّة لا بدّ أن تنبع من هذه الجهة، وليس هناك مصدر آخر.
اگر نازى كند از هم فرو ريزند قالبها | *** |
يقول: لو أظهر الدلال وامتنع عن الفيض لتحطّمت كلّ القوالب.
يزول كلّ العالم، إن كنتم تذكرون فقد كرّرنا هذه المسألة مرارًا، وأكرّرها الآن أيضًا، لأنّ جميع النظام الوجودي والتربوي في الإسلام وفي السير والسلوك يرتكز إلى هذا الأساس، وقد ذكرت هذا الأمر مرارًا، وهو أنّه حتّى الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم بجميع خصوصيّاته والقدرة التي لديه وجميع إحاطته الوجوديّة هو صفر أمام وجود الله، صفر، لا نصف، بل صفر. فلو فرضنا وجود الله عددًا جبريًّا لا نهاية له فإنّ وجود النبيّ الأكرم هو صفر، صفر، صفر، صفر. أمّا سائر الناس فحدّث ولا حرج. وبصورة عامّة فإنّ فلسفة التوحيد تقتضي ذلك، هؤلاء الولائيّون الذين يريدون أن يصوّروا للأئمّة وجودًا في مقابل وجود الله كالشيخ أحمد الأحسائي الذي نشأت منه الشيخيّة، وبعض هؤلاء الولائيّين عندنا الذين يتحدّثون عن أمير المؤمنين وأنّه ماذا كان يفعل وماذا كان يصنع، وأنّه أرفع من وجود الله... ولكن الأمر ليس كذلك، فهذا يجعل له حسابًا مستقلّاً، وكلّ هؤلاء واقعون في الشرك المحض. إنّ جميع ذرّات وجود أمير المؤمنين وخلايا بدنه تنادي: إنّني صفر أمام وجود الله، صفر صفر صفر...
إن شاء أن يجعلني عليًّا جعلني وإن شاء جعل غيري، ورغم كلّ ما نعتقده في إمام الزمان عليه السلام فإنّ وجوده الولائي عجّل الله تعالى فرجه الشريف وجعلنا لتراب مقدمه الفداء، وجود إمام الزمان هذا وإحاطته بجميع العالم هو بحيث أنّ أيّة حادثة تريد أن تحدث في هذه الدنيا هي ثابتة في وجوده هو، فهذا المجلس الذي تحقّق الآن في هذا اليوم هنا ـ وما أقوله هو من باب التقريب الزماني وإلاّ فهناك أصلا لا وجود للزمان، هذا المجلس قبل ألف وأربعمائة عام، قبل ألف ومائتي عام حين ولد إمام الزمان كان موجودًا في نفسه، متى ولد الإمام؟ قبل حوالي ألف ومائتي عام لأنّ مدّة حياة الأئمّة كلّهم مائتان وخمسون سنة، ألف وأربعمائة سنة وبضع سنوات، فهذا المجلس كان ثابتًا قبل ألف ومائتي سنة في وجود الإمام قبل أن يكون في الدار ديّار ولم يكن هناك خبر عنّا وعن أحوالنا، كان الإمام يعلم أنّه في يوم الجمعة كم من جمادى الثانية السابع عشر؟ نعم، العاشر؟ التاسع نعم، على الرفقاء أن لا يكونوا مثلي! يجب أن تعرفوا التاريخ الهجري. في اليوم التاسع سينعقد مجلس كهذا في هذا المكان وسيجري فيه هذا النوع من الحديث.
هذا هو إمام الزمان، وطبعًا هذا تقريب، وإلا فهناك لا معنى للزمان، فما معنى ۱٢۰۰ سنة؟! إنّ الوجود الولائي للأئمّة هو خارج الزمان وله هناك حيثيّة قِدَم لا حيثيّة حدوث، أي إنّ الوجود الولائي للإمام عليه السلام قديم زمانًا وحادث ذاتًا، وهو لا يُستوعَب في الزمان، فإمام الزمان هذا بهذه الخصوصيّات إذا جاء إلى هنا الآن وسألناه: ماذا ترى لنفسك أمام الله؟ فإنّه يجيب أنا صفر، صفر، صفر، صفر، صفر، صفر. هذا ما أنا مستيقن منه وأقف عنده يوم القيامة وكلّ من لديه شكّ... لأنّنا لدينا يقين ببعض الأمور. فهذا هو الإمام، هذا هو مقامه الذي جعله إمام الزمان. أمّا نحن جميعًا فلا، فنحن لسنا صفرًا، بل بعضنا مائة وبعضنا مليون وبعضنا مليار وبعضنا عشر مليارات، كلاّ فنحن نختلف عن الإمام، نحن نمتلك، نحن أقوياء جدًّا، نحن اخترنا لأنفسنا أعدادًا طويلة، أمّا الإمام فماذا؟ ليس كذلك، ولأنّه لم يختر، صار إمام الزمان، لأنّه رأى نفسه صفرًا صار إمام الزمان.
فإذن بناء على هذا، العزّة مختصّة بالله، وليس لأحد أن يستعرض نفسه أمام هذه العزّة، لا يمكن لأحد أن يقول: أنا لي موقع أمام هذه العزّة، لا مشكلة لديّ في أن تنظر إلى الله، ولكن يجب أن تنظر إليّ أيضًا، إذا أردت أن تنظر إلى الله فانظر ولكن عليك أن تحسب لي أنا أيضًا حسابًا. هذا هو المعيار للحركة التكامليّة للإنسان في عالم التشريع وفي عالم التربية.
إعطاء الله عزّته لبعض خلقه كالأبوين والمعلّم
ثمّ إنّ الله تعالى يعطي هذه العزّة لبعض عباده بمقدار ما لديهم من السعة الوجوديّة. فمثلاً يقول الله: على الإنسان أن يطيع أباه، يعني أنّي أعطيت من عزّتي مقدارًا للأب، وتلك العزّة هي عزّة الله.
جاء أحدهم إلى المرحوم العلاّمة فقال له: سيّدنا إنّ والدي شيوعيّ ولا يعتقد بالدين أصلاً فكيف يجب أن تكون علاقتي به؟ فقال له: عليك أن تكون خادمًا له وكأنّه واحد من شيعة أمير المؤمنين. فمن الذي أعطى هذه العزّة للأب؟ لو لم تكن له عزّة لما اعتنى الابن، لما اعتنى، ولمضى وشأنه، كما أنّ كثيرًا من الناس يسيرون في الشارع لا يعنيه شأنهم. فقد أعطى الله العزّة للأب بهذا المقدار، يقول أطع الأب بهذا المقدار حسب التكليف ما لم يأمرك بمحرّم، والأمر نفسه بالنسبة إلى الأم: {وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما} ۱ أطعهما ما لم يأمراك بالمعصية ولا يصبحان شريكين لي في التشريع. أنا أقول لك سر في هذا الطريق وأبوك وأمّك يقولان لك سر في ذاك، كلاّ فالأب والأمّ أيضًا لا يمكنهما أن يأمرا الابن والبنت والولد بطريق هو خلاف المصلحة الدينيّة، لا يمكنهما أن يأمرا بأمر كهذا، ولو أمرا فإنّ أمرهما غير مطاع. نعم في الأمور البسيطة والمسائل اليوميّة إذا أراد الوالدان أن يقوم الابن بهذا العمل فعليه أن يقوم به، وهو موظف بذلك وعليه أن يقوم به. أو إذا طلبت الأمّ أو الأستاذ أو المعلّم، فالاحترام الذي يبدى للمعلّم ما هو؟ إنّه تلك العزّة أعطاها الله تعالى بهذا المقدار للمعلّم؛ فعليك أن تحفظ حرمة من يعلّمك.
إعطاء العزّة للإمام وسببها
وهكذا بالنسبة للأكبر منك والأكبر حتّى يصل الأمر إلى الإمام، فهل الاحترام الذي نبديه للإمام عليه السلام هو لأجل وجود الإمام نفسه في مقابل الله، أم لأجل تلك العزّة التي أعطاها الله للإمام؟ وطبعًا هو لا يعطيها هكذا بغير سبب، لأنّ الإمام جعل نفسه متّصفة بالصفات الإلهيّة وخرج من النفس وصارت له وحدة مع تلك الذات، وبمقتضى الوحدة في الولاية تسري الوحدة في العزّة أيضًا إلى الإمام عليه السلام، ولذلك على الإنسان أن يطيع الإمام عليه السلام.
وعلى أساس هذه القاعدة فإنّ مراتب الطاعة في الإنسان ستكون مختلفة، فالإنسان يطيع المعلّم بنوع من الطاعة، ويطيع الوالدين بنوع آخر، ويطيع الإمام بدون قيد أو شرط، فإذا قال الإمام قم بهذا فعليه أن لا يفكّر أنّه لماذا أقوم به؟ أمّا مع الآخرين فهو يفكّر ويقلّب الأمر، ولكن عندما يقول الإمام افعل هذا فقد انتهى الأمر ولا حاجة إلى التفكير في أنّه ما هو مقدار الطاعة؟ اليوم؟ غدًا؟ قليلاً؟ كثيرًا؟ أين؟ في أيّ الحالات؟ في هذا المجلس...؟ كلّ هذا ينتهي، كلّ ذلك يزول. لماذا؟ لأنّ طاعة الإمام طاعة الله. فالإمام وصل إلى مرتبة ارتفعت فيها الجهات الاعتباريّة، وكما أنّ طاعة الإنسان للّه طاعة تكوينيّة أي لها أصل تكوينيّ، فإنّ طاعة الإنسان للإمام عليه السلام أيضًا هي طاعة الإنسان للّه عينها ولها أصل تكوينيّ بنسبة مائة في المائة ولا تختلف عنها بشيء لا زيادة ولا نقصانًا. فهذه هي طاعة الإمام.
حسنًا فإلى هنا انتهى معنى العزّة، وأنّ العزّة أمر يعطيه الله لفرد ما فيسير بين الناس بمقتضى هذه العزّة، ويتحرّك ويقرّر.
أسباب العزّة
ومن الطبيعيّ أنّ هذه العزّة تحصل لجهات مختلفة، فالشخصيّة التي يكوّنها الإنسان تجعله متميّزًا عن سائر الناس، وهذه الشخصيّة يمكن أن تتكوّن على أساس علل مختلفة. فيمكن لإنسان أن يكون ذا مال كثير وهذا يجعل له قيمة في نظر الناس، ويميّزه عن الآخرين، فهذه عزّة، عزّة تحصل للإنسان عن طريق زيادة المال. وهناك عزّة قد تحصل بسبب زيادة العلم، فالإنسان الذي لديه علم وإحاطة ومعلومات كثيرة معلومات يحتاجها الناس، فبواسطة زيادة المعلومات هذه ينال شخصيّة محترمة بين الناس، فهذه العزّة لها منشأ علميّ.
وقد يكون هناك إنسان له مركز معيّن، مركز اجتماعتيّ بواسطة ذلك المركز الاجتماعي ينال الاحترام والتعظيم من قبل الناس، فهذا أيضًا نوع، ويمكن لآخر أن يكون له جمال مثلاً وحسن، يكون وجهه جميلاً، له بيان، له نحو من التعاطي وأخلاق بواسطتها يصبح موضع احترام الناس.
فهناك أسباب مختلفة سواء ماديّة أو معنويّة هي مناشئ حصول العزّة في الإنسان، وتحقّق الشخصيّة وتحقّق القيمة، سواء كانت هذه القيم واقعيّة كالإنسان صاحب العلم، حيث يكون لديه قيمة واقعيّة، أمّا إذا فرضنا إنسانًا له مال، فليست القيمة واقعيّة، بل هي اعتباريّة، فالمال ليس بالشيء الذي يستحقّ بواسطته الإنسان أن يفتخر، ولكن العلم أمر هو في حدّ نفسه يحقّق للإنسان القيمة، التقوى أمر يحقّق القيمة في حدّ نفسه. فبعضهم محترمون بين الناس بسبب التقوى التي لديهم، فقد يكون هناك إنسان عالم له علم كثير ولكنّه يحترم إنسانًا آخر ذا تقوى مع أنّه ليس لديه أيّ علم، ولكن هذا المقدار من التقوى الذي لديه وهذه الجوانب الأخلاقيّة التي لديه تسبّب له شخصيّة وقيمة أمام الآخرين، فيحترمونه، فهذه المسألة ترتبط بالتقوى.
أو أنّ إنسانًا مثلاً له نسب معيّن، فوالدا الإنسان هما أمر حقيقيّ وواقعيّ وليسا اعتباريّين، أمّا لو كان له مركز وبواسطة مركزه هذا... ككونه رئيس جمهوريّة أو أعلى من ذلك أو أدنى فهذا كلّه حيثيّات اعتباريّة تعطيها الناس في يوم من الأيّام ثمّ تسلبها منه في يوم آخر، ففي يوم يعطون وفي آخر يسلبون. فهذه هي الجهات الاعتباريّة.
وسواء كانت الشخصيّة الحاصلة وتلك العزّة مستندة إلى جوانب حقيقيّة أو اعتباريّة فهي من الله في الحالين، هذا هو الأصل والعلّة في بيان الشخصيّة ومقام العزّة في مدرسة التوحيد. فمن أين جاء الإنسان بالعلم؟ وقد تحدّثنا عن هذه الأمور، لقد جاء العلم من عند الله، وبناء على ذلك فإنّ آثار هذا العلم يجب أن تكون للّه.
الملك من أين جاء به الإنسان؟ من عند الله، قديمًا كان من المتعارف كما ينقل في الحكايات ولا أدري مدى صوابه، أنّه إذا مات ملك اجتمع الناس وأطلقوا حمامة يسمّونها حمامة "هما"۱ فإذا جلست على رأس أحد كان هو الملك. فما هذا؟ إنّه الحظ في النهاية. فإذا صار ملكًا يفتخر على الآخرين بأنّي أرفع منكم، كلاّ يا عزيزي فلو أنّ الطائر وقع على رأس آخر لكان هو الملك. لكنّه أخطأ الطريق قليلاً، الفارق هو متر واحد، وأنت بسبب هذا المتر الواحد صرت ملكًا، ونحن لا شأن لنا، وليس هناك أمر آخر.
والأمر الآن هو كذلك، لا تظنّوا أنّ هناك شيئًا ما، فهذا يأنس بهذا فيعطيه صوته ليصبح نائبًا في المجلس، وذاك يأنس بذاك فينتخبه ليكون وكيلاً عنه، وذاك يأنس بذاك فيجعله وصيًّا، فهذه جوانب اعتباريّة. أو افترضوا أنّه في مؤسّسة كالمستشفى مثلاً يريدون أن يصوّتوا، فينال واحد منهم أصواتًا أقلّ بصوت واحد أو أكثر بصوت واحد... فإذا نظر الإنسان رأى أنّ أمثال هذه الأمور لا ترتكز إلى القيم الواقعيّة، بل إلى أمور أخرى من التخيّلات والترحيبات أو عدم الترحيبات، وتصفية الحسابات، وأمور سابقة، ومستقبل، عادة الناس هم هكذا، هكذا كانوا، فالتاريخ يبيّن أنّ القرارات التي اتّخذت نظر فيها قبل الحقّ والواقع إلى التخيّلات والتصوّرات والقيم غير الواقعيّة، إلى هذا يُنظر.
أذكر أنّه قبل سنوات في زمان الشاه جرى الكلام حول أحد رؤساء جمهوريّة أميركا ويبدو أنّ ذلك في زمان كندي، فعندما فتحوا صناديق الأصوات كان كندي هو الأكثر أصواتًا، وعندما درسوا السبب قالوا إنّا رأينا إنّه أجمل من منافسه.
فالأساس في أن يكون الإنسان رئيس جمهوريّة في بلد من البلدان، البلد الذي يريد أن يحكم الدنيا، يريد أن يحكم الدنيا، فهو يحكم من جميع الجهات، فأيّ البلاد الآن تستغني عن أميركا؟ الجميع في حاجاتهم التقنيّة والفنيّة والصحيّة والاقتصاديّة وغيرها معتمدون عليها، وبتبع ذلك فإنّه هو يقرّر السياسات أيضًا، فهذا البلد الذي يريد أن يحكم الدنيا ينتخبون رجلاً لا عقله أكثر ولا فهمه أكثر، بل إنسانًا هو أجمل في ظاهره من الآخرين، هذا هو المعيار لانتخاب الناس.
وطبعًا ليس هذا هو المعيار الوحيد هناك، فهذا ظاهر الأمر، ولكن في النهاية كثير من الناس يديرون الأمر، فعند انتخاب رئيس الجمهوريّة يكون المعيار عند الإنسان أنّ ظاهر هذا المرشّح مرتّب أكثر من الآخر، هذه أفكار الناس، وهذا أمر لا يحتاج إلى مزيد من البحث والتحقيق. فانظروا في هذه الانتخابات، كلّ من كانت صوره أكثر ولوحات إعلاناته أكثر وكانت له من هذه الأوراق أكثر، فإنّه ينال المزيد من الأصوات. ألم تروا؟ فهذه الصور... حسنًا إذا أردت أن تعرّف عن نفسك يمكنك أن تفعل ذلك بصورة واحدة سوداء وبيضاء، فلماذا كلّ هذه الطباعة للصور وجعلها بضعة أمتار وبستّين لونًا وورقٍ برّاق و... والتي لا يدرى كم تكلّف الواحدة منها؟!
أتريد أن تبيّن سيرتك من خلال تلوين وجهك؟ يعني هل الذي يكون أجمل ستتجلّى سيرته للناس بشكل أفضل؟ أم أنّ الأمر ليس كذلك بل تريد بهذه الألوان أن تتلاعب بخيال العوام؟ أنت تسيطر بهذه الإعلانات المكثّفة والتي تقصف الأفكار التابعة للأحاسيس على الطفل ابن الأربع عشرة سنة، والخمس عشرة سنة، وابن العشرين سنة، والعجوز والشاب لتسيطر عليها وتحصل على تصويتها، أليس كذلك؟ فهذا هو الواقع في النهاية.
غير أنّ الإنسان العاقل من بينهم يلتفت إلى أنّه كلّما زادت الإعلانات فإنّه يبتعد أكثر، وكلّما كانت الإعلانات مدروسة وموجّهة للتلاعب بالعقول أكثر فإنّ العقلاء يبتعدون عن ذلك المحيط الإعلاني، لماذا؟ لأنّ الأمر واضح، واضح. أنت تريد أن تنتخب إنسانًا يدير بلدًا بقواه العاقلة لا أن يمثّل فيلمًا، ولا يريد أن يأتي للناس بمسرح، حتّى نقول انظروا لهذا ظاهر أجمل من هذا، يريد أن يدير بلدًا، يريد أن يدير نظامًا، يريد أن يحترم جميع أفكار الناس في مختلف مستوياتهم وأن يعطيها قيمة.
إنّ إنسانًا كهذا يجب أن لا ينتخب بواسطة صورة ملوّنة، أفهل نحن في محترف للرسم؟! هل نحن في مسرح للتمثيل لكي يختار الناس الأجمل والأكثر إلفاتًا للنظر؟! الأمر يختلف، تمامًا كما لو اخترت لحصّة الرياضيّات إنسانًا مرتّبًا لا يفهم بمستوى طفل صغير. إنّ حصّة الرياضيّات تعني الطبشور واللوح وحلّ المعادلات والمجهولات الجبريّة، وليست حصّة للصوت والأطوار. نعم هناك حصص أخرى ينتخب لها ذلك، أمّا لحصّة الرياضيّات وحصّة الفلسفة والحصص التي لها جانب تعقّل، فلا بدّ من النظر إلى العقل! أم هل يجب النظر إلى الهيكل؟! أيّهما يجب أن ينظر إليه؟! للأسف نحن مبتلون بانتخاب الهياكل بدلاً من انتخاب العقول. فلنتجاوز عن هذا.
ارتباط أسباب العزّة بالله
هذه العزّة التي يعطيها الله للناس لها أساس ولها علّة، وعندما نبحث نجد أنّ جميع هذه العلل مرتبطة بعلّة العلل، الجميع يرجع إليها. إن كان لدى أحد مال فهو المعطي، ولو لم يشأ لما أعطى، فهذا الزبون الذي جاء به كان من الممكن أن يأتي به إلى مكان آخر. إن كان أعطي أحدٌ مالاً فهو المعطي، من الذي أعطانا الاستعداد؟ من أين حصلنا على هذا الاستعداد؟ عندما ولدنا من أمّهاتنا من أين جئنا بالاستعداد؟ من أين أتينا بالحافظة؟ من أين أتينا بالقدرة على تحمّل الأبحاث؟ هل أتينا بذلك بأنفسنا؟ لم يكن ذلك موجودًا. هذه الظروف التي تهيّأت من الذي هيّأها؟ هذه الأمور التي انتقلت يدًا بيد لكي تحصل هذه الذخيرة العلميّة من الذي جاءنا بها؟ الله جاءنا بها، فإذن مرجع جميع ذلك إليه. ومن الذي أعطانا القدرة على التحمّل؟ هناك من يطالع مدّة خمس دقائق فيرمي الكتاب جانبًا، وبعضهم يطالعون لخمسة ساعات ولكن لا يتعبون، فمن الذي أعطى هذه القدرة؟ القدرة هو من أعطاها في النهاية، أفآتي أنا الآن وأفتخر قائلاً: كلاّ بل نحن بذلنا الجهد ونحن ماذا صنعنا...؟ فهذا العلم منه إذن.
كثيرًا ما كان يحدث لديّ أن أفكّر في مشكلة علميّة لساعات ولا تحلّ معي، وفجأة تنقدح فكرة تحلّها، أحيانًا قد يحدث أن أفكّر من الليل حتّى الصباح حول قضيّة تفصيليّة تفصيليّة كفهم كلمة لو أعطيت لطفل في العاشرة أو الثانية عشرة لفهمها.
وقد وقفت ذات ليلة عند جملة ولم أكن أدرك ماذا تقول، جملة مهما فكّرت لم ينته ذهني إلى نتيجة، مهما فكّرت، وكنت أتعجّب أن يا إلهي لقد شرحت هذا الدرس بالأمس فلماذا لا أفهمها الآن؟! وفي اليوم التالي رأيت أنّها عبارة أو كلمة بسيطة جدًّا مثل كلمة نعم أو بلى، أمر بسيط جدًّا ومحدّد، فلماذا ذلك؟ يقول الله: لقد أعطيناك والآن أخذنا منك، ما أعطيناك كان لنا، وما أخذناه كان لنا، وأنت بين هاتين الحالتين عليك أن تفهم! فهل فهمت؟! أفهمت أم لا؟! الأمر مهمّ جدًّا، ومن الآن نريد شيئًا فشيئًا أن ندخل في بحثنا، فقد أطلنا في المقدّمة بما يكفي.
خطأ نسبة العزّة إلى أنفسنا
هذه العزّة التي أعطاها الله مرجعها إليه وهي له، ولكنّنا نحن في هذه الدنيا نسبناها إلى أنفسنا، أنا لديّ علم، أنا لديّ كمال، أنا لديّ جمال، أنا لديّ شخصيّة بين الناس وشأن، أنا أتكلّم فيحضر هذا العدد من الناس تحت منبري، أنا أكتب، أنا ماذا أصنع، أنا أنشر الجريدة، أنا آمر، أنا أذهب إلى ذاك المكان فيأتي هذا العدد من الناس للقائي، وهكذا يستمرّ أنا وأنا...
هذا كلّه خطأ، خطأ في خطأ في خطأ في خطأ، هذا كلّه ضياع عن المقصد وخسران للهدف. لقد كنت كذلك، وأنا هكذا، وأنا كذا، وأنا إن قلت هذا حدث كذا، وإن قلت ذاك حدث أمر آخر...
قبل وفاة المرحوم العلاّمة ببضع سنوات ـ أحيانًا كانت تعرض عليّ أمور مجهولة في الجوانب المختلفة سواء السياسيّة أو العلميّة فكنت أطرح عليه أسئلة ـ وقد سألته لماذا لم يحدث ذلك الأمر رغم كلّ تلك التوقّعات التي كانت ورغم رغبة الناس التي كانت ورغم كلّ هذا الشوق ورغم كلّ هذا الإيثار والتضحية التي كانت فلماذا لم يحدث؟!
فقال: أتدري لماذا؟ لأنّنا نحن نتخيّل أنّنا نحن نقرّر في الأمور، الله يريد أن يبيّن أنّكم مجرّد حلقة مثل مليارات الحلقات التي هي أجزاء من الأحداث، ومنها أنتم أيضًا، وأمّا المحرّك فهو غيركم. لقد جعلنا أنفسنا في مكان محرّك الحلقات، ونحن حلقة في الوسط وقفنا في البداية وجميع هذا الزنجير مرتبط بنا، فيأتي الله بكلّ وضوح ويتدخّل ويقول تفضّل الآن افعل، الآن تحرّك، هل يمكنك الآن؟! تفضّل! أترى أنّه لم يحدث؟! آه يا ويلنا ... كلاّ يا عزيزي فلتصرخ على نفسك! لماذا تصرخ على الآخرين؟ اصرخ على نفسك لأنّك مشيت في طريق خاطئ، مشيت في مسير خطأ، جعلت نفسك في مكانه وفي مقام الأمر والنهي: يجب أن يحصل كذا ويجب أن لا يحصل كذا، فهذا الكلام من أنّه يجب أن يحصل كذا ويجب أن لا يحصل كذا مختصّ بالله، فعندما نغفل عن ذلك فالله يعلم ماذا ستكون العواقب والنتائج على الإنسان.
علينا أن نعلم من أين جاءت هذه العزّة، هو اليوم يعطيها وغدًا يأخذها، لقد جرّبنا الكثير يا عزيزي حتّى اكتفينا، فكم نحتاج إلى تجارب؟ كم نحتاج من التجارب؟ فكم على الإنسان أن يجرّب؟ وهذا لا يختصّ بإنسان دون آخر، وليس هذا الأمر مختصًّا بالكافر وبالفاسق وبالملحد بل حتّى المؤمن والمعتقد، فالجميع في هذا الأمر سواء، الجميع سواء، لا فرق بينهم فيه.
ضرورة إنفاق العزّة في سبيل الله
لذلك فإنّ الله تعالى يقول هذه العزّة لا بدّ أن تنفقها في سبيلي أنا، هذا الاحترام الذي يؤدّيه لك الناس يجب أن تعدّه منّي، هذه الشخصيّة التي حصلت لك الآن عليك أن تعدّها شخصيّتي أنا لا شخصيّتك، لا أنّها حصلت منك أنت، لا أنّها تحقّقت بواسطتك أنت، هذه الحالات الموجودة الآن عليك أن تعدّها منّي، وعليك أن تعدّها منّي واقعًا لا في الظاهر، ففي الظاهر نحن نقول: نعم كلّ ما هو موجود هو من الله. ولكن عندما يُنال منه تراه يريد أن يقطّع من نال منه إربًا إربًا.
كان هناك رجل يقول: نحن ماذا لدينا؟ نحن ماذا لدينا؟ كلّ ما هو موجود هو من الله.
فقلت له: لا تقل ماذا لدينا من أنفسنا؟
ثمّ كنّا في مجلس في إحدى المدن، وكان هناك عشرة أو خمسة عشر رجلاً، فالتفت إليه واحد منهم وقال: إن شاء الله أدام الله ظلكم... وحفظكم لنا بعد فلان.
فقال ذلك الرجل أيضًا: لا نحن لا نمتلك شيئًا من أنفسنا ونحن لسنا بشيء...
فقلت للأوّل: نعم كلامه صحيح، فأنا ابن العلاّمة، وأنت تحترمني لأجله، فلولاه لما أدخلتي دارك، صحيح كلامه، نحن لسنا بشيء ولا شأن لنا، ونحن وأنتم سواء في هذا الأمر. وفجأة رأيت أنّه انقلب، لقد كنت إلى الآن من المقرّبين وفجأة تغيّر الأمر، لم يبق شيء، ثمّ وجّه إليّ ملاحظة، مرّة ومرّتين فرأى أنّي لا أصغي إلى هذا الكلام، وتجاوز الأمر الملاحظة ووصل إلى التحذير والتهديد، ومضى على ذلك أشهر، وذات يوم كنّا في مكان فجرى ذكر هذه الحادثة مع رجل، فقلت: اصبر يا عزيزي، لقد قلتُ كلامًا، نحن كنّا في مكان وأردنا أن نتكلّم بشكل صحيح ونقول الحق، فاضطربت الأمور وهاجت وماجت حتّى وصلت إلى حافظ الشيرازي في شيراز، ولم يقتصر الأمر على ذلك المجلس، بل انتشر الأمر أن هذا كذا وفلان كذا ولا يراعي الأمور وأمثال ذلك. والحاصل أنّ التأديب استمرّ، وبحمد الله نهض المريدون للدفاع ولم يستطيعوا أن يتغاضوا عن الإساءة إلى الأستاذ، وكادت المسألة أن تبلغ أوجها!
لديّ طلب وهو أن لا تقولوا هذا الكلام، وإذا بلغنا أنا وأنت إلى هذه المرحلة ورأينا واقعًا أنّنا لسنا بشيء ـ وهذا يحتاج إلى عمل كثير، فنحن أيضًا هكذا، نحن هكذا ـ إذا وصلنا إلى هذه المرحلة ورأينا أنّنا لسنا بشيء واقعًا، حينها فلنقل. أمّا قبل أن نصل فعلينا أن لا نتكلّم بذلك، فليس من الواجب أن نقول الآن: نحن لسنا بشيء، نحن لا شيء، فلنترك هذا الأمر، ولنمض بخير وعافية ولنترك هذه المسألة. فهذا الأمر موجود في كلّ مكان، وعند الجميع عند كلّ واحد منّا، فأنا أتحدّث عن نفسي، وإن شاء الله الرفقاء متقدّمون عليّ في هذا الأمر، لأنّ كلّ إنسان مطّلع على ذاته ومنويّاته وميوله النفسيّة أكثر من الآخرين. وواقعًا أنا لا أتواضع وعلينا هنا أن نتكلّم في النهاية كرفاق ولا نخفي الأمر على أنفسنا، فالأمر صعب، وهو بالنسبة إلى المتلبّسين بزيّ أهل العلم أصعب بكثير، الأمر أصعب بكثير، وعلينا أن نكون مراقبين أكثر لهذا الأمر. فما هي جذور المسألة؟ جذور المسألة هي أنّها منه، وعلى الإنسان أن لا يرى نفسه هنا مستقلاًّ، يجب أن يراها في طريق واحد وفي مسير واحد.
نماذج واقعيّة من المتمسّكين بالخصوصيّات والشؤون الشخصيّة
يمكن أن تظهر هذه المسألة في جوانب مختلفة حتّى بالنسبة إلى المسائل الشرعيّة، ففي المسائل الشرعيّة يمكن أن تحدث هذه المسألة للنّاس أيضًا، فلأجل بعض الجوانب والحيثيّات الشرعيّة لا يتمكّنون من التجاوز عن خصوصيّاتهم الشخصيّة، يتجاوزون عن المال ولكن لا يتجاوزون عن هذا الأمر.
حلق الرأس في الحجّ
فمن الأمور التي كنت أنوي اليوم الحديث عنها بعض النماذج الواقعيّة لكي تتّضح هذه المسألة بشكل أفضل، وإن شاء الله ننهي اليوم هذا الموضوع. فمن ذلك مسألة حلق الرأس، فمن يذهب إلى الحجّ كما هو مشهود يجب أن يحلق رأسه، وهذا واجب، طبعًا ليس في العمرة، في العمرة عليه أن يقصّر، ويمكنه أيضًا أن يحلق لا إشكال في ذلك، التقصير يعني قصّ مقدار من الشعر أو الظفر، ولا إشكال في الحلق أيضًا. ولكن في الحج يجب شرعًا على من يذهب إلى الحج أن يحلق شعر رأسه، أن يحلق شعر رأسه في منى، فمن كان في أوّل حجّة يجب عليه، ومن كان في الحجج اللاحقة يستحبّ له مؤكّدًا، حتّى إنّ بعضهم لم يتركوا الاحتياط هنا في الحلق.
فقضيّة حلق الرأس صارت مشكلة للناس، وقد رأيت الكثيرين يأتون ويسألون هل تعرف أحدًا يعدّ ذلك مستحبًّا لنقلّده؟
ـ كلاّ لا أعرف.
ـ يقولون إنّ فلانًا يقول ذلك.
ـ ما شأني بذلك،لا اطّلاع لديّ.
ـ هل يمكننا أن نرجع إليه؟
ـ كلاّ لا يمكنكم.
فيحاول المناورة. يا عزيزي هما شعرتان فلتحلقهما فما هذا الأمر المهمّ حتّى تناور عليه، وتفعل كذا وترجع إلى هذا وذاك...
في هذه الرحلة الأخيرة حيث تشرّفتُ قبل ما يقارب ثمان سنوات، كنت في إحدى الحملات اللبنانيّة برفقة بعض الأصدقاء اللبنانيّين، وكان هناك أفراد من مختلف الناس، كان بينهم الشابّ، والعجوز، فكنت أتحدّث معهم فأرى أنّ لدى كثير منهم استعدادًا لاستماع الموضوعات المهمّة، وكان معهم رجل كبير في السنّ من أهل الشأن والمقام، ولكن عندما تتكلّم معه تجده يقول: لو أمرت بأن نحلق مائة مرّة لحلقنا، فقد كان هكذا صريحًا جدًّا وذا قريحة... وكان هناك رجل من البداية نأى بنفسه وأخذ غرفة مستقلّة، ولم يكن يأتي إلا عند الطعام فيجلس ثمّ يعود إلى غرفته، ولم يكن على رأسه حتّى خمس عشرة شعرة، فكان من الصباح إلى المساء يلحق بي ويسألني أليس هناك استثناء وهامش؟
فقلت له: دعني يا عزيزي أقتلعها الآن لتريح فكرك منها. وذهب إلى منى ولم يحلق رأسه، وكان رجلاً كبيرًا في السنّ، فقلت له: ما هذا الذي تحتفظ به لنفسك في النهاية؟! فقد كنت قلت في إحدى الجلسات أثناء كلامي ـ وليتني لم أقل ـ إنّ من كان الحلق يسبّب له ضررًا فيمكنه أن لا يحلق. فقال: الحلق مضرّ لي. فكلّ من كان يسأله كان يقول له: السيّد قال إن كان يسبّب ضررًا... وهو يسبّب لي ضررًا، وفي النهاية لم يحلق ولم يحلق. والحال أنّه رجل ثريّ، ثريّ جدًّا وكان مستعدًّا أن يدفع عشرة آلاف دولار، وعشرين ألف دولار ولكن لا يحلق رأسه، فقد كان إلى هذا الحدّ... كان يقول: أنا مستعدّ أن أدفع أيّ مبلغ تطلبه، مهما قلت، أعطها للفقراء، أعطها لمن شئت. فقلت له: لن آخذ منك قرشًا واحدًا، ولكنّي أقول لك إلى يوم القيامة: حرام حرام حرام. وأنا لا آخذ منك مالاً وأبق هذه العشرة آلاف دولار في جيبك إنّ حلق شعر الرأس واجب في الحج.
بعضهم يكونون في الحجج اللاحقة، نعم هو مستحبّ فيها، حتّى لدينا في الروايات وقد رأيتها أنّه حتّى في الحجج اللاحقة هو واجب، والإمام كان يقول لبعضهم لا إشكال في تركه. ولذلك أفتى الفقهاء بالاستحباب في الحجّ المستحبّ، في حين أنّ الأمر بالنسبة إلى الذين يمتلكون فهمًا للدين وفهمًا للحديث قريب إلى حدّ ما من مدرسة الإمام ومنهجه يدركون أنّ مراد الإمام هنا هو الإلزام ولكن حيث إنّ الأمر كان مشكلاً لهذا السائل لم يرد الإمام أن يوقعه في المشقّة التي هي في الحجّ الأوّل، فهذا هو أصل وأساس الروايات. أي إنّ الإمام يريد أن يقول إنّ الحجّ اللاحق مثل الحجّ الأوّل، فالحجّ لا يختلف، ولكن بالنسبة إلى من لديه صعوبة فهو لا يريد بذلك أن يغلق أمامه الطريق ويمنعه من الذهاب إلى الحجّ فقال له: لا بأس. فأخذ الفقهاء ذلك وأفتوا بالاستحباب. في حين أنّ الأمر ليس كذلك، فحتّى في الحجّ اللاحق هو لازم.
لذلك فإنّ المرحوم العلاّمة كان يقول: من يحجّ ولا يحلق رأسه لن تبرز عليه آثار روحانيّة الحج. طفت وسعيت وأدّيت جميع الأعمال ولكنّك لا زلت في أنانيّتك في منى التي يجب أن تتخلّى فيها عن كلّ شيء، فعندما تضحّي وتريد أن تحلق يأتي الشيطان ويقول لك: لا، لماذا تحلق رأسك؟! تصبح قبيح المنظر! لماذا تحلق؟ متى سينبت من جديد؟ الآن نذهب إلى طهران فماذا نقول للناس هناك؟! أليس كذلك؟! كانوا يقولون هذا.
في إحدى هذه الرحلات التي ذهب فيها المرحوم العلاّمة رأيت له صورة واقفًا إلى جانب أحد الذين كان يحجّ حجًّا مستحبًّا ولم يحلق رأسه فتعجّبت، وسألت بعض المرافقين لهم أن لماذا لم يحلق فلان؟ فقال: قلنا له فقال: كلاّ أنا سأسافر بعد عودتي إلى لندن إلى بريطانيا ولذلك لن أحلق. فقلت: ما شاء الله ما شاء الله! عجيب! أريد أن أسافر إلى بريطانيا أمام اليهود والنصارى... فانظروا إلى أين يصل الشيطان، يصل إلى هنا، فهذا يرجع الآن فتنظر إلى وجهه فتجد أنّه لم يسافر إلى مكّة، لقد سافرتَ عبثًا، لقد أنفقتَ مالاً ورجعت، أو مثلاً حول الخصوصيّات التي لدى الناس، هؤلاء يظهرون بهذه الهيأة وهذا يسبّب لهم أمرًا ما، يظهرون بهذا الشكل، ويصبح قصّة، فتلك مسألة شرعيّة وهذه مسألة ظاهريّة.
التعلّق بمظهر معيّن
إذا التزمت أنا بأن أرتدي هذه العباءة بحيث أنّي لو لم أرتدها يومًا من الأيّام أشعر بالحقارة، فالشيطان يأتي من هنا، هنا يأتي الشيطان، لقد تعلّقت بهذه العباءة، إذا أردت أن أظهر بهيئة بحيث أعتاد عليها... هذا أمر مهمّ جدًّا، مثلاً افترضوا أنّي أخرج من دون قباء، فلو أردت أن أرتدي قباء لأدّى إلى قليل من النقص، هنا جاء الشيطان، إذا أردت أن أظهر بهيأة أخرج فيها عن تلك الهيأة التي يهتمّ بها الناس فماذا يحصل؟ لقد جاء الشيطان وأشعر أنّه لا بدّ من المواجهة، لا بدّ من المواجهة!
لو فرضنا أنّني أنتعل نعلاً، وأريد أن أذهب إلى مكان ما وأرى أنّه من دون النعل سينكسر شأني، فهنا جاء الشيطان، فلو لبست بدل النعل مشّاية وصار لبسها عادة لي بحيث أنّي لو لبست النعل لشعرت بحالة في نفسي فهنا جاء الشيطان، ويجب أن يُنتعل النعل، ويجب أن يتجاوز عن هذا. نعم إذا صارا متساويين حينها يرى الإنسان أنّه صلح الأمر.
إذا أردت أن أكون على هيأة ما وبلباس خاصّ لو نقص أو زاد أوجد فيّ أفكارًا وخيالات فعليّ أن أعلم أنّ الشيطان قد حضر، هذا كلّه مضمون هذه الرواية، كلّ ذلك مضمون هذه الرواية، قدّم شخصيّتك أمام شخصيّة الله، هؤلاء الدراويش الذين يتركون شاربهم هذا الشارب بالنسبة لهم شيطان، شيطان.
تطويل الشارب عند بعض الصوفيّة
كنت أقرأ كتابًا لأحد رؤساء السلاسل الموجودة الآن حيث ألّف كتابًا، وكان قد طرح عليه سؤال وهو يجيب، قيل له: لماذا تترك شاربك طويلاً؟ إنّ إطالة الشارب أمر مكروه، ولدينا في الروايات أيضًا أنّه مكروه، حتّى إنّها أكّدت في النهي عن ذلك، ولكن هؤلاء الدراويش يطيلون شواربهم إلى الأسفل. فأجاب جوابًا يكشف عن جهله رغم أنّه من أهل العلم، وكان جوابه أنّه لا يقيّد دين بشعرة.
صحيح أنّهم لم يقيّدوا دينًا بشعرة، ولكنّهم قيّدوك أنت بهذا الشعر. لم يقيّدوا الدين بشعرة! نحن أيضًا نعلم أنّهم لم يقيّدوا الدين بشعرة، فلا تفرّ ، وما داموا لم يقيّدوا فاذهب وقصّ شاربك! فلماذا لا تقصّه؟! أيّ إمام من الأئمة كان شعر شاربه واصلاً إلى شفتيه؟! متى ورد ذلك؟!
يقولون: وكان عليه السلام وافر السبلة، فقد كان شعر شارب أمير المؤمنين كثيفًا، والوفور هنا بمعنى الكثافة، فبعض الناس شعرها كثيف وبعضهم غير كثيف، نعم كان شعر أمير المؤمنين كثيفًا، خلافًا لسيّد الشهداء، فقد كانت لحيته خفيفة، وهذا يرتبط بجوانب خلقة كلّ إنسان، فالإمام الحسن كان كثيف الشعر، وحسبما لدينا فإنّ الإمام الرضا على ما يبدو كان خفيف الشعر، فكلّ واحد من الأئمّة كان على هيئة خاصّة. ولكن لم يكن شارب أمير المؤمنين إلى هنا، متى كان ذلك؟ كلّ هذا سخرية ولعب بالدين. أتتلاعب بالدين؟! لماذا تكذب على الناس؟! لماذا تقول وكان عليه السلام وافر السبلة.
يقول المرحوم العلاّمة: قيل للآخوند الملا حسين قلي الهمداني مرّة إنّ فلانًا من رؤساء الصوفيّة يريد أن يأتي للقاء بك، فقال: حسنًا. وجاء قبل ذلك رجل من جانبه إلى الآخوند رحمة الله عليه يحمل صندوقًا كهديّة، ولا بدّ أنّ فيها هدايا وخواتم وجواهر، فوضعه الآخوند رحمة الله عليه جانبًا ولم يمسسه، وبعد بضعة أيّام جاء ذلك الرجل على هيئة عجيبة وغريبة، على رأسه قبّعة وشعر رأسه وشاربه طويل، ويريد أن يأتي إلى الآخوند رحمه الله على تلك الحالة ليستفيد منه ويكون تحت تكفّله. فالتفت الآخوند رحمه الله إلى الحاج الميرزا جواد الملكي التبريزي على ما يبدو وكما أذكر أو إلى غيره، وقال له: اذهب وأحضر المقصّ، فقصّ كامل شارب هذا المسكين بيده وألقاه جانبًا، ثمّ وضع الصندوق أمامه وقال ليبق هذا عندك.
لقد جئت إلى هنا ولكنّك عالق عالق، والآن بعد أن قصصت شاربك صرت مرتاحًا وهو ارتاح أيضًا وانتهى الأمر. لتجزّه بكلّ هذه البساطة لماذا تتأخّر هكذا؟ فاستراح، وبما أنّك استرحت فاذهب الآن وأنجز هذا العمل، وأنجز ذاك. هذا الأمر مهمّ جدًّا، وبعض هذه الجوانب ترجع إلى أمورنا الشرعيّة حيث يكون الإنسان مرتكبًا لعمل محرّم، عمل محرّم، وبعضها لا يرجع إلى الحرمة ولكنّه يؤثّر على حركة الإنسان، ويوقفه، ليس محرّمًا ولكنّه يوقف الإنسان، عندها تبدأ النفس بالتبرير، سيّدنا إذا قمنا بهذا العمل فإنّ رأسنا يؤلمنا، سيّدنا إن قمنا بهذا العمل حصل كذا وكذا، إنّها الشؤون الشخصيّة التي تأتي وتقف أمام الإنسان وتمنعه من التقدّم.
اصطحاب المرافقين
سابقًا كان هذا الأمر معروفًا بين العلماء، فإذا أرادت شخصيّة معيّنة أن تصل إلى مقام المرجعيّة، فلا بدّ من رعاية بعض الشؤون، مثلاً قبل أن يصل... بعضهم إذا أرادوا أن يدخلوا مجلسًا يخجلون من الدخول وحدهم، لا بدّ أن يكون برفقتهم اثنان أو ثلاثة، وكأنّهم لا يمكنهم أصلاً أن يذهبوا إلى هنا أو هناك، ولا بدّ أن يكون هناك جماعة تحيط بالسيّد ثمّ يتحرّك هو في هذا الاتّجاه أو ذاك.
كان هناك رجل يريد أن يلتقي بالمرحوم العلاّمة وكان من الشخصيّات المعروفة ومن أهل السياسة وأهل العلم أيضًا، رجل مشهور جدًّا، فاتّصل رجل من مكتبه ومن أصدقائه بالمرحوم العلاّمة وقال له: إنّ فلانًا يريد أن يأتي لزيارتك، فقال: بعد غدٍ الساعة كذا، وليأت بمفرده. وكان ذلك الرجل يريد أن يأتي برفقة خمسة عشر رجلاً. فقال له: ليأت منفردًا. فلم يأت. فانظر أنت تريد أن تلتقي بالسيّد في النهاية، فلتأت، فلتأت!
عدم الشراء من الأسواق
أو مثلاً المشي في الشوارع والأسواق للشراء يصبح عارًا، شراء الفواكه من الشوارع والأسواق وشراء اللحم من الملحمة والحمّص من البقّال وأمثال ذلك كلّ هذا يأتي شيئًا فشيئًا. هذه أمور مهمّة، أمور مهمّة جدًّا، تأتي وتسيطر على زوايا وجود الإنسان، وطبعًا هذه الأمور لا تختصّ بأهل العلم، فغير أهل العلم هم كذلك أيضًا، تأتي هذه الأمور بهدوء وتملأ وجود الإنسان، فإذا أراد الإنسان أن يقف في الصفّ في الدكّان فإنّه يشعر بالخجل. هنا عليه أن يلتفت جيّدًا، إلى الآن لم يكن كذلك، فلتقف كسائر الناس جانبًا، هذا يشتري ما يحتاج من الحمّص واللوبياء وأنت تشتري ما تحتاج من الجبن، فلتصبر بضع دقائق، يشعر الإنسان في نفسه بحالة من الانكسار، حينها ماذا عليه أن يفعل؟ عليه أن يواجه، عليه أن يقوم في اليوم التالي ويتولّى هذه الأمور بنفسه، يذهب ويأتي ويذهب ويأتي حتّى يشعر أنّه قد هدأ ولم يعد لديه فرق بين أن يذهب أو لا يذهب، ولم يعد هناك فرق في هذه الأمور.
قصّة من أحوال الشيخ محمّد حسين الأصفهاني
لقد نقل المرحوم العلاّمة هذه القصّة مرارًا، وهي أنّ الشيخ محمّد حسين الأصفهاني وكان رجلاً جليلاً جدًّا، وكان ابن أحد الأعيان والتجّار الكبار في أصفهان جاء إلى الكاظميّة وبغداد للتجارة بين العراق وإيران، وكان هو ابنه، ولذلك سمّي بالكمباني، فقد كان يدعى الشيخ محمد حسين الأصفهاني بالكمباني لأنّ والده كانت له شركة وكان تاجرًا معروفًا، وقد ابتلي في أواخر عمره بالفقر الشديد، حتّى إنّ صاحب الدار الذي كان يسكنه أخرجه منه وألقى أثاث منزله في الطريق في النجف، فجلس هو على أثاثه ضاحكًا، فكم عانى أعاظمنا هؤلاء! يخجل الإنسان وعليه أن يطأطئ رأسه من الخجل، إنّه رجل لم نستغن حتّى الآن عن كتبه العلميّة، إنّه الشيخ محمّد حسين الأصفهاني، وللمرحوم العلاّمة كتاب حول التوحيد العلمي والعيني، وقد كان الشيخ الأصفهاني أحد طرفي المباحثة المطروحة في هذا الكتاب، وواقعًا عندما كنت أطالع كتاب التوحيد العلميّ والعيني للمرحوم العلاّمة وأقرأ استدلالات الشيخ محمّد حسين الأصفهاني قلت: هذا الرجل فهم الفلسفة، وطبعًا ليس بجميع جوانبها، لأنّه لو أدركها بجميع جوانبها لقبل بكلام السيّد أحمد الكربلائي، وعلى كلّ حال، فإنّ أستاذ الفلسفة ينبغي أن يكون شخصيّة كهذه. وفي الأصول وفي الفقه، وكان رجلاً متواضعًا، متواضعًا جدًّا، جاء وألقى أثاثه على قارعة الطريق وكان عياله المساكين أيضًا على قارعة الطريق، فالتفت إلى أمير المؤمنين وقال: لو كنت مكاني هل كان وضعك هكذا؟! ثمّ توجّه إلى الله وقال بلغته الفلسفيّة: إلهي أخلقتني متحيّزًا أم غير متحيّز؟ يعني المتحيّز بالمكان، فإن كنت خلقتني متحيّزًا فلماذا سلبت منّي مكان التحيّز؟! إن كنت أخذت منّي المكان فلتنقلني إلى مرتبة اللامكان التي أنت فيها، أي خذني من هذه الدنيا ومن هذه الأوضاع... وعندما قال لأمير المؤمنين أسلّم أنّك أصبت بكلّ أنواع البلاء ولكنّك لم تصب ببلاء الاستئجار. وما إن نطق بهذا الكلام حتّى نظر إليه أحد أصدقاء والده وقال: ماذا تفعل هنا؟! فقال له: لقد أخرجني من الدار لأنّي ليس بحوزتي مال. وفي تلك اللحظة يشتري له منزلاً فهو من أولئك التجّار ويقول له: تفضّل الآن إلى هذا المنزل. لقد ثارت غيرة أمير المؤمنين وأمّن له منزلاً على الفور، فسكن فيه هذا الرجل الجليل الشيخ محمّد حسين.
كان أحد أصدقاء المرحوم العلاّمة ينقل له بنفسه وكان طاعنًا في السنّ ويدعى السيّد كذا الخلخالي، كان يقول: لقد كنت في سوق الحويش في النجف فرأت الشيخ محمّد حسين راجعًا ويتساقط البصل من أكنافه، نظرت فرأيت أنّه قد اشترى بضعة كيلوّات من البصل على ما يبدو وما إن حمله نحو المنزل انمزق الكيس وتساقط البصل على الأرض في الزقاق، وهو يركض خلف هذه البصلات الواحدة تلو الأخرى ويضعها في الكيس ويجمعها ليأخذها وكان يضحك، فذهبت وساعدته وجمعنا البصلات وقلت له: لماذا تضحك؟ فقال: تذكّرت قصّة: عندما شرعت في الدراسة وارتديت العمامة أهدى إليّ والدي سبحة وكانت من العقيق كلّ حبّة منها بدينارين عراقيين ونصف، وكانت لها قيمتها في ذاك الزمان، وبينما كنت داخلاً إلى حرم أمير المؤمنين انقطع خيطها ووقعت على الأرض في الباحة المذهّبة، وخجلت وأنا ابن التاجر الأصفهاني من أن أقوم بجمعها، فلم أبال، وكان هناك بعض الفقراء فنالوا بعض أسباب المعاش بذلك، ودخلت الحرم صارفًا النظر عن تلك المسبحة، والآن أركض وراء كيلو من البصل نحو هذا الاتّجاه وذاك، ولا أشعر بشيء من الحرج، بل على العكس أشعر بالسرور، ولو كان البصل أكثر لركضت أكثر و... هؤلاء الأجلاّء هكذا وصلوا، فقد كانوا هكذا، هكذا كانت أحوالهم.
ضرورة اختبار النفس قبل أمر الأستاذ
كان المرحوم العلاّمة يقول: على السالك أن يختبر نفسه دائمًا بهذه البوتقة، ولا يشترط أن يقول الأستاذ كلّ شيء أن قم بكذا وبكذا وبكذا، بل على الإنسان أن يلتفت بنفسه، الطريق يُبيّن، وبعد ذلك على الإنسان أن يعمل، وقد كنت أرى هذا الأمر في حياته هو، كنت أراه بشكل كامل في علاقته مع الناس، وعندما كانت النفس والأمور النفسيّة تريد أن تتقدّم وتحكم كان أسلوبه في التعاطي مفيدًا لنا، مفيدًا جدًّا لنا، وهذه إحدى الآفات حيث إنّ الإنسان يسير وينمو ويشتغل بروايات أهل البيت ويحصّلها ولكن مع ذلك يرى أنّه لم يحصل على تلك الفائدة المرجوّة، وتلك النتيجة التي يجب أن تكون، لماذا؟ لأنّا نراه يتوقّف في تلك الموارد التي يجب أن يستفيد فيها من تلك العلوم للتجاوز عن تلك الأمور.
عدم التعلّق بالظهور أمام الناس بمظاهر التقوى
يقول الإمام الصادق لا بدّ أن تتجاوز، لا بدّ أن تتخلّى عن أمورك الشخصيّة وتتجاوز عنها، والأمر هو كذلك في جميع الموارد، والكلام في هذا الموضوع كثير جدًّا جدًّا، والشواهد عليه والحكايات حوله كثيرة، فأحيانًا يحصل أن تصبح التقوى في نفسها مستقلّة ذات قيمة، فأنا الآن ظهرت أمام الناس بصورة التّقي، ولو لم أكن أمتلك هذه الشخصيّة لأصيبت معتقدات الناس بصدمة... إنّ هذا الشيطان ماهر جدًّا أيضًا، والحق يقال: سلمت يداه، لا يمكن لأحد، لا يمكن لأحد يتخلّص من ذلك إلا من صفا قلبه، وأوكل نفسه وكان صادقًا. الإنسان التقيّ معروف بين الناس بالتقوى! وببعض الحالات وبعض المكاشفات، ولو لم يكن كذلك يمكن فيمكن أن لا يحترمه الناس! سبب هذا التفكير هو أنّه لم يدرك حقيقة تقواه ومكانها وأين يضعها، إنّه ينسبها إلى نفسه، ويجعلها لنفسه.
كيفيّة تشرّف الناس المشهورين بزيارة الحرم
قبل بضعة ليال كنت ذاهبًا للتشرّف بزيارة الحرم، وما إن أردت أن أدخل رأيت أنّ عددًا من الرجال يدفعون الناس نحو الأطراف والجوانب... فتعجّبت كثيرًا، وكان الأمر مثيرًا جدًّا بالنسبة إليّ، لم أكن قد رأيت مثله، نظرت جيّدًا فرأيت رجلاً طاعنًا في السنّ من أهل العلم يأتي ويمشي بهدوء، والناس يدفعون هذا ويدفعون ذاك، وواحد منهم أيضًا جلس مستدبرًا الضريح يلتقط صورة لذاك الرجل... فقلت: ماذا هناك؟ ما القصّة؟ لماذا تزعجون الزائرين؟ الجميع في هذا الحرم سواسية، ليس لأحد فضل على أحد، وهذا الرجل نفسه [الذي تزوره] ليس راضيًا بهذه الأعمال، فتنحّ جانبًا، أردت أن أقول له بنفسه أن يترك هذه الأمور، وأنّ الذي يزوره لم يكن راضيًا بها، تنحّ جانبًا ولا تسبّب الإزعاج للزوّار! وأنت يا فلان لا تسئ للإمام! لقد جعلت ظهرك للضريح لتلتقط صورة؟! ولكن ذلك الرجل لم يكن مستاءً. أنت تدخل حرم الإمام الرضا، نعم حتّى هنا أيضًا؟! في الشارع لا بأس، أما هنا؟ الإمام الرضا للجميع، وزائر الإمام الرضا لا يختلف عن الآخرين، وهنا علينا أن لا نميّز.
كنّا ندخل الحرم برفقة المرحوم العلاّمة، وكان بعض الناس إذا رأوه يريدون أن ينحّوا الآخرين جانبًا، فكان إذا رآهم يقول لهم: ابتعدوا ابتعدوا، وكان هؤلاء المساكين من أهل الإخلاص، كانوا يريدون [أن يحترموه]
ـ تفضّلوا جانبًا أنا أسير. وكان يمشي ويقف في ناحية.
وفي الروح المجرّد تعرفون ماذا أمر هؤلاء الأعاظم، اذهبوا ولا تنحّوا أحدًا، ولا تؤذوا أحدًا، وإذا وجدتم جماعة تسير فسيروا كما تسير، فلا مكان هنا للتمييز، إذا وجدتم مكانًا عند رأس الإمام فاجلسوا فيه، وإلا فاذهبوا إلى أماكن أخرى، فليس من الواجب أن يصلّي الإنسان ناحية الرأس، اذهبوا إلى الأماكن الأبعد، الأماكن البعيدة، ولا تزاحموا أحدًا، فالإمام الرضا الموجود ناحية الرأس هو عينه الموجود في الرواق، لا يختلف.
أمّا أن نجلس ويجتمع الناس حولنا في زاوية الحرم، فيأتي أحدهم ويسأل سؤالاً مستدبرًا الضريح، فما هذا؟ إنّها من الموارد التي تتوقّف بالإنسان، تتوقّف به وتحبسه في دائرته وتجعله يأنس بما عنده، أمّا لو تجاوز الإنسان...
كيفيّة زيارة الشيخ مرتضى الحائري للإمام الرضا عليه السلام
رحم الله الشيخ مرتضى الحائري أستاذي في الفقه، فقد كان يذهب دائمًا إلى الزيارة، في كلّ أسبوعين كان يذهب إلى الحرم، كان يتشرّف بزيارة مشهد، فكان ينطلق ليلة الخميس وعصر الأربعاء بعد أن تعطّل الدروس، فكان يقضي ليلة الخميس في الطريق، ويزور ليلة الجمعة ثمّ يرجع. وكان يجعل وقت ذهابه إلى الحرم في منتصف الليل، وكان يضع العباءة على رأسه حين يذهب حتّى لا يراه أحد من معارفه الذين يأتون ليتحدّثوا ـ وكنت قد رأيته ـ فكان يدخل إلى حرم الإمام وينتحي زاوية يجلس فيها وحده، كانت له حالات وأجواء خاصّة، وكان يوم الجمعة بعد الظهر ينطلق لكي يصل صباح السبت إلى دروسه.
من كان يريد الإمام الرضا فعليه أن يطلب الإمام الرضا الحق، لا الإمام الرضا الذي هو وسيلة إلى أغراضه، لا الإمام الرضا الذي هو جسر للوصول إلى رغباته النفسيّة، لا الإمام الرضا الذي يصبح مكانًا للوصول إلى أهدافه وغاياته الخاصّة، فالإمام الرضا لا علاقة له بذلك، من أراد أن يتشرّف بالذهاب إلى الحرم فليطأطئ رأسه وليمش وليزر زيارته ثمّ يرجع، ولا ينظر إلى هذه الناحية ليرى من جاء ومن ذهب، ومن جلس، ومن وصل؟
كنت أتشرّف ذات مرّة بزيارة الحرم فرأيت زائرًا يأتي وكأنّه جاء إلى الحرم ليجد أصدقاءه، جلس ينظر إلى هذا الاتّجاه أو إلى ذاك. فهذا لم يأت إلى الحرم.
من زار الحرم فعليه أن لا يلتفت أنّه هل دخل رفيقه أم خرج، هل جاء صاحبه أم لا؟ عليه أن يكون ملتفتًا إلى نفسه، نعم لو وقعت عينه صدفة فلا بأس.
فهذه الأمور تعدّل الإنسان، وتمنعه من الوصول إلى تلك المراتب العالية من النفس ومن الأنانيّة، تشدّ الإنسان إلى الأسفل، لا تدعه يبلغ الأوج، الأوج في النفس، الأوج في القوّة، قوّة النفس، وبعد هذه المرحلة هناك مرحلة أخرى هي للذين ساروا في هذا الطريق، ولهذا في نفسه عالم خاصّ، فقد يبلغ الإنسان إلى مراتب بحيث تصبح له شخصيّة عرفانيّة كاذبة، شخصيّة يرى نفسه معها مقابل أستاذه، شخصيّة تجعله يرى نفسه في مقابل الإمام، أي يشعر ببعض الأمور، يشعر ببعض الأمور لا أنّه لا يشعر، يرى لنفسه وجودًا، يشعر بشعور، ويرتّب عليه أثرًا، يقول الأستاذ: افعل، فلا يفعل. يقول: لا تفعل! فيفعل. فكما يراه واسطة يرى نفسه واسطة أيضًا.
تمرّد أحد تلامذة المرحوم العلاّمة وابتلاؤه بالجنون
ذات يوم كان هناك رجل في زمان المرحوم العلاّمة يرتكب بعض المخالفات، وينقل بعض الأمور، وطبعًا كان بعض كلامه صحيحًا، وبعض مشاهداته كانت صحيحة، ولم تكن جميعها باطلة، وعلى أساس هذه المشاهدة، كان أحيانًا يكشف بعض الأسرار، ويطرح أمورًا خطرة، كأن يقول: إنّ لفلان تلك الخصوصيّة. وكان الأمر كما يقول، ولكن ليس كلّ ما يعلم يقال، فلو كان من الضروريّ أن يقال ذلك لقاله العلاّمة بنفسه.
هر كه را اسرار حق آموختند | *** | قفل كردند و دهانش دوختند |
يقول: كلّ من عُلِّم أسرار الحقّ فقد جُعل عليه قفل وخيط فمه.
إلى أن طرح في بعض الأماكن أمرًا سبّب للمرحوم العلاّمة إزعاجًا كبيرًا حيث قيل له: ماذا يقول بعض تلامذتك؟ ماذا ينقلون؟
وأذكر أنّه أرسل إليه برجل وقال له: قل له هذه الأمور التي حصلت عليها هل جئت بها من عندك؟ أم أنّك حصلت عليها من هنا؟ إن كنت جئت بها من عندك، فهذا كذب وأنت نفسك تعلم ذلك، وإن كنت حصلت عليها من هنا فلماذا لا تلتزم بقوانين هذا المكان؟ لماذا لا تضبط كلامك؟ لقد ابتلي بالشياطين والجنّ، وهو الآن مجنون بشكل كامل، مجنون. وهذه نتيجة التجاوز عن الحدّ، فغيرة الله لا تسمح، أنت إذ حصلت على هذه الأمور من هنا، فلماذا تجاوزت الحدود وخرجت؟ لماذا خرجت؟ هل حصلت عليها بنفسك؟ لم يكن الأمر كذلك، وهذا مخالف لما هو مشهود.
فالذين يبتلون بالمخاطر والمهالك فيما يرتبط بالطريق إلى الله هم الذين يصلون إلى هذه المرتبة ولا يتمكّنون من العبور، فإنفاق الشخصيّة هو لنا نحن، نحن الذين علينا أن نهتمّ ونعلم من أين أتينا وأين ننفق، لا قدّر الله أن يصبح الإنسان في يوم من الأيّام بحيث يقف ويجعل لنفسه أنانيّة وفرعونيّة وكبرًا وينسى كلّ شيء.
وطبعًا هذه مراتب بسيطة، وبعد هذه المرتبة يصل الإنسان إلى مرتبة ويحصل على حالات لا يريد أن يتخلّى عنها، فهذا لمن... ـ وطبعًا كنت قد تحدّثت عن هذه النقطة، والكلام فيها كثير جدًّا، وهناك الكثير من الأمثلة والشواهد التي نريد أن نذكرها لا مجال لها فأنا نفسي تعبْتُ ـ يصل الإنسان إلى مرتبة وينال حالات لا يريد أن يخسرها، لا يريد أن يخسرها بعد ذلك، لقد حصل على شخصيّة لا يريد أن يتنازل عنها، لقد سُرّ قلبه، وأنست النفس بالقيام ببعض الأعمال، ويعتقد أنّ باطنه متّصل ببعض الأحداث، ولا يريد أن يخرج عن تلك الدائرة.
وهذا هو السبب في ما يقوله العرفاء في كتبهم من أنّ على السالك أن يعبر عن أيّة مرتبة يصل إليها، وأن لا يتوقّف، إذا ما حصل على حال جيّد، إذا كان لا بدّ أن ينزع الله هذا الحال من الإنسان، فإنّه يقول: تفضّل، أنت أعطيت فلتأخذ. ولا يقول: يا إلهي لا تسلب منّي حالي، لا تسلب منّي هذا الحال الجيّد الذي لديّ، فهذا هو التوقّف.
تمرّد أحد المقرّبين من السيّد هاشم الحدّاد
من الذين يعتبرون من الشواهد البارزة جدًّا في هذا المجال ومن البارزين في حفظ الشخصيّة والمواجهة للأستاذ، ذلك الذي يذكر اسمه المرحوم العلاّمة في كتاب الروح المجرّد ويقول: لقد كان إنسانًا مقرّبًا جدًّا من السيّد الحدّاد، وواقعًا كان الأمر كذلك، فقد اقترب من المرحوم الحدّاد واطّلع على الأسرار، وكان يقوم بخوارق العادات، وكان يفعل ما لا يريده السيّد الحدّاد، وقد سمعت بنفسي من المرحوم العلاّمة أنّه قال: إنّ الحجب والستائر قد رفعت من أمام عينه. فانظروا كم يتقدّم الإنسان! ولكنّه فجأة توقّف حين أراد السيّد الحدّاد أن يعبر به عن هذه المرحلة، ويأخذ منه ما كان قد حصّله [في المراتب الأدنى]، فلم يكن مستعدًّا لذلك، فوقف أمامه، وأوكل التخلّص من أحد مشكلات النفس إلى تصرّف خارق للعادة يقوم به، والحال أنّه لم يكن مجازًا في ذلك، فالطريق الذي عيّنه له الأستاذ طريق مختلف، والطريق الذي يقترحه عليه أن لا يسلكه، وهنا يحصل تعارض بين هذين الأمرين، ونتيجته المواجهة معه، وفي النتيجة تركه السيّد الحدّاد، فتركه وأخرجه والرفقاء يعلمون ما هو اسمه وهو واضح في الكتاب. وقد انتهى أمره إلى أنّه الآن يعمل في دائرته الخاصّة ضدّ المرحوم العلاّمة، وكم لديه من كذب واتّهامات.
لقد أخذ من كتاب الروح المجرّد بضع صفحات وطبعه باسمه في بغدادا فهل التفتّم؟ هذه هي نتيجة العرفان! نتيجة الانفصال هي نتيجته أن يدّعي إنسان ما العرفان ثمّ يحذف اسم مؤلّف كتاب ما ويجعل اسمه مكانه، ويقول هذا الكتاب من تأليفي... ثمّ يتّهم الأعاظم ويختلق الأكاذيب، فهذا كلّه محاسب عليه، أنت تقوله هكذا وتمشي، كيف تمشي هكذا؟! كيف تمشي؟! فالدنيا فيها قانون وحساب، كلّ عمل يعمل له حسابه، أنت تريد أن تواجه الحقّ؟ لا يمكن لأحد أن يحارب الحقّ، لا يمكن.
صعوبة محاربة الحقّ (موقف عمر بن سعد مع الإمام الحسين عليه السلام)
لقد قال عمر بن سعد للإمام الحسين أريد أن أقضي عليك. فقال الإمام: مقابل ماذا؟
ـ مقابل ملك الريّ، لكي آتي إلى مدينة الري ـ حيث مرقد الشاه عبد العظيم ـ لأحكم هذه المدينة وتكون لي.
فهو يقتل ابن النبيّ مقابل ماذا؟ مقابل الحكومة.
يقول الإمام: لن تأكل من قمح الري. أي لن تأكل من خبزها.
فيسخر من الإمام ويقول: إن لم نجد قمحًا أكلنا شعيرًا فهو يكفينا.
نعم كلِ الشعير فهو يكفيك، وما نتيجة ذلك؟! يذهب إلى ابن زياد يقول له: لقد قتلت الحسين فأعطني الحكومة!
فقال: الحكومة؟! أيّة حكومة؟! متى قلت ذلك؟!
ـ أنت بنفسك كتبت ذلك.
ـ أين؟ أرني الكتاب!
فأخذ الكتاب ومزّقه. فانصرف مجنونًا. عمر بن سعد هذا جنّ. فكان يدخل إلى داره ثمّ يخرج، ثمّ يدخل ثمّ يخرج، إلى أن جاء المختار وقتله.
يريد الإنسان أن يواجه الحقّ ظنًّا منه أنّه يصل إلى أهدافه. أفهل أمر العالم بأيدينا؟ نأتي نحن ونخطّط للّه ونكلّفه. كلاّ يا عزيزي، لا شيء من هذا الكلام، هو الذي يخطّط، فإذا جعلنا أنفسنا موافقة لخطّته نجونا بأنفسنا، وإلاّ جاءت الأمواج وأخذتنا إلى الأعماق بحيث لا نصعد أبدًا. علينا أن نعلم أنّ جهاز التدبير والمشيئة الإلهيّة يقوم بأعماله ولا ينتظرنا.
لقد كان المرحوم العلاّمة يقول مرارًا: العمل الذي يمكن أن نقوم به ـ والذي أضيف إلينا على ما يبدو ـ أن نجعل أنفسنا منسجمة مع هذا الجهاز، أن نزيح الأنانيّة جانبًا، أن نزيح السعي إلى الشخصيّة جانبًا، نزيحه جانبًا، أن ننحّي الوقوف أمام الحقّ، فعندما يقول الإمام الصادق: عليك أن تنفق... [فمعناه] يا أيّها المحترم أنت الآن إذ حصلت على هذا الحال فمن أين حصلت عليه؟! حصلت عليه من هذا البيت، والآن يقولون لك أعطنا هذا الحال، فعندما يقولون: أعط، فلتعط. ولكن نحن نقف ونقاوم ونقول: إن لم تقض حاجتنا فسنفشي بعض الأسرار.
عجيب لقد انتهى بك الأمر إلى حيث صرت تأخذ بالقوّة... وهو أيضًا يبعدك ثمّ يجعلك أسفل السافلين... لقد ربح الذين لم يروا شيئًا ولا يرون شيئًا ولا يرون أنفسهم شيئًا في أيّ مضمار وأيّ معيار، هؤلاء هم الرابحون، وطبعًا هم يعملون بتكليفهم ويقومون بالمطلوب.
يمكن أن يستمر الكلام حول هذا الموضوع، وطبعًا هناك قسم من الكلام لم نذكره، وهو أنّه كيف كيف ينفق الإنسان هذه الشخصيّة في الموارد الخاصّة، فقد تحدّثنا عن موضوع فقدان الشخصيّة، والأمر الآخر الذي هو الإنفاق نترك ما يرتبط به إلى وقت لاحق إن شاء الله.
ويبدو أنّ هذه الفقرة صارت واضحة شيئًا ما، وفي الفقرات الأخرى مجال للكلام عن القسم الآخر فنتكلّم عنه في محلّه إن شاء الله.
نسأل الله أن يجعل ـ هو بنفسه ـ أعيننا بصيرة وآذاننا سميعة وأن يأخذ هو بنفسه بأيدينا، وواقعًا هذه مسألة مهمّة، فهذه الكتب التي كتبها الأعاظم في هذا المجال لم يأتوا فيها ليحكوا الحكايات، فالمرحوم العلاّمة يريد في هذا الكتاب أن يقول: لا تقولوا إنّ فلانًا له حال جيّد، وله مقام. وأنا أكلّمكم عن الحدّ الأعلى وأما ما هو أدنى من ذلك فنتركه، فإن وصلنا إلى هناك فقد نجونا من الخطر، وإن وصلنا إلى هذه فلا، وأنا أحدّثكم عن إنسان يمكن أن يقوم بكلّ ما تريدون، ولكن يراه من نفسه، وهنا المشكلة، فلو لم يكن يراها من نفسه لصار المرحوم العلاّمة. فالأمر لم يكن مزاحًا، وقد كنّا نرى بأنفسنا، وكنّا نشاهد، ولم خداعًا وشعوذة، كنّا نراها بأعيننا. ولكنّه رأى ذلك من نفسه، فقال الله له: لو وصلت إلى النبوّة فإنّي أسقطك، وإلى أيّ درجة وصلت ثمّ رأيتها من نفسك فأنت ساقط. لقد سقط وسقط وسقط إلى أن وصل إلى أين؟ إلى أن وصل إلى حيث يتّهم أولياء الله، يأتي ويقوم بما لا يقوم به عامّة الناس. وهنا يظهر مقام غيرة الله نفسه، فانظروا هذا يجب أن يكون عبرة لنا جميعًا. نسأل الله تعالى أن يتكفّل جميع أمورنا بأن يأخذ مقام الولاية بأيدينا.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد