118

أثر المحيط في خفاء الحقّ

5884
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالخسران و بطلان العمر

التاريخ 1426/06/02


التوضيح

كيف يؤثّر المحيط في خفاء الحقّ على الإنسان؟ وكيف يتخلّص الإنسان من تأثيره؟ وما هو المحور الذي يجب أن تتمحور حوله جهود الإنسان العلميّة كيلا تكون باطلة؟
تجيب هذه المحاضرة عن هذه الأسئلة من خلال بيان بعض المفاتيح الفكريّة والعمليّة كالمراقبة وملاحظة محوريّة النور والتهذيب والارتباط بالله في العلوم واتّباع الحقّ أينما كان.
/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

أثر المحيط في خفاء الحقّ

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • أثر المحيط في خفاء الحقّ

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱۱۸

  •  

  • ألقاها:

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

أثر المحيط في خفاء الحقّ

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد

  • وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • الحقّ والباطل من زوايا جديدة

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان: إنّ نتيجة وثمرة الإنسان الذي يعمل بهذه الأوامر والوصايا التي أعطيت هي أنّه: لا يدع أيّامه باطلاً.

  • تقدّم أنّ هذه الفقرة هي كغيرها من فقرات هذا الحديث الشريف مليئة جدًّا بالمعاني وتستحقّ الاهتمام. فكيف يمكن للإنسان أن لا يقضي عمره بالبطالة؟ كيف يمكن للإنسان أثناء مرور الأيّام أن يكون غافلاً عن الحقّ أو بتعبير آخر ـ كما تقدّم في الجلسات السابقة ـ يتصوّر أنّ كلامه وفعله ومسيره مطابقة للحقّ، ولكنّها في الحقيقة مطابقة للباطل. 

  • الباطل يعني الخاوي، يعني الشيء الذي لا مقابل له. وقد تحدّثنا في الجلسات السابقة عن معنى الحقّ والباطل وأنّ الباطل بمعنى الفراغ، وبمعنى الخلاء وبمعنى انعدام النتيجة، وبمعنى انعدام المقابل، وانعدام العوض، وبكلمة يمكن بالحمل الشائع۱ أن يتصوّر الباطل ويفسّر بمعنى العدم. وفي المقابل هناك الحقّ، والحقّ بمعنى الوجود، فكلّ ما هو موجود ومنتسب إلى الله فهو حقّ، وكلّ ما له مقابل إزاءه وواقع وحقيقة وأصالة ونتيجة فهو حقّ. لماذا كان الكلام الكاذب باطلاً؟ لأنّه ليس له مقابل إزاءه في الخارج. الآن أنا أقول: يسقط المطر. فهذا كلام كذِب وباطل، فالمطر لا يهطل الآن. ولكن لو قلت الطقس الآن مشمس ولا يتساقط المطر، فهذا حقّ، لأنّ له حقيقة تقابله، والإنسان يشاهد ذلك في الخارج. 

  • تقدّم في الجلسات السابقة في بيان معنى الباطل أنّ الشيء الذي يكون في عالم التخيّل والاعتبار هو باطل، وكلّ ما هو في عالم الصدق والعقل والمنطق فهو حقّ. وهذه المسألة قابلة للتسرية والتوسعة إلى جميع الأبعاد الفكريّة والاجتماعيّة والانشغالات والأعمال والأمور التي يمكن للإنسان أن يمارسها طوال حياته الدنيا. المنهج والطريق الذي ينتخبه الإنسان هو محقّ ما دام قد لُحِظ فيه جانب الارتباط بالله. وإن لم يلحظ فهو باطل. 

  • ما هي الصلاة الباطلة؟

  • لدينا في الرواية أنّ الإنسان عندما يصلّي ويكون مشتّت الحواسّ إلى هنا وهناك، ومشتّت الفكر بين هذا الأمر وذاك، ويؤدّي الألفاظ على نحو العادة، فيمكن لنا الآن أن نقول: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين ... إلى ولا الضالين٢ على حسب العادة، فهذه الألفاظ تصدر عن مصدرها اللاشعوري وتخرج إلى الخارج دون أن يكون الإنسان ملتفتًا. فإذا بلغ نهاية السورة التفت أنّه لم يكن منتبهًا إلى المعاني، وكان فكره في مكان آخر، في اللقاء المقرّر أن يكون له مع آخر، في الأمر الذي يريد أن يكلّم به غيره، في المكالمة الهاتفيّة التي أجريت. فالملائكة لا يرفعون هذه الصلاة إلى الأعلى، فإذا رفعوها قليلاً يقول الله: لمن أحضرتم هذه الصلاة؟ يقولون: نحن جئنا بهذه الصلاة لنبلغ بها إلى وجودك، لأنّها صلاة صلّيت لله ولا بدّ أن تعود إليه. فيقول الله: لقد أدخل هذا غيري في صلاتي. لقد أدّى الألفاظ ولكنّ قواه الواعية لم تكن معي، لم يكن ملتفتًا إليّ، كان يتتبّع الكلام الذي قيل على الهاتف، كان يتتبّع أمورًا تكلّم بها مع فلان، كان يتتبّع أعماله، وفي الأثناء قرأ هذه السورة، وركع وسجد أيضًا؛ فقد أشرك إذن في هذه الصلاة غيري، اذهبوا فقد تنازلت عن حقّي، وأعطيت حقّي إلى شريكي. اضربوا بهذه الصلاة رأسه وقولوا له: إنّها مباركة عليك. أنا لا آخذ نصيبًا من هذه الصلاة وكلّها للآخرين الذين دخلوا فيها. ٣ 

    1. أي بالنظر إلى المصاديق، وفق الاصطلاح المنطقي. (م)
    2. سورة الفاتحة، الآيات ۱ ـ ۷. 
    3. . أصول الكافي، ج ٢، ص ٢٩٤، حديث ۷: عليّ بن ابراهيم، عن أبيه، عن النّوفلى، عن السكونى عن أبي عبدالله عليه السّلام قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وآله و سلّم: أنّ المَلَك ليصعَد بعمَل العبدِ مُبتَهجًا به فإذا صعِد بحسَناته يقولُ الله عزّوجلّ: اجعَلوها فى سجّينٍ إنّه ليس إياىَ أراد بِها! و في عدّة الداعى، ص ٢٢۷ جاء بحديث مفصّل حول ذلك. 

أثر المحيط في خفاء الحقّ

3
  • فهذه الصلاة تصبح باطلة ـ ومن الآن فصاعدًا أصبح الميزان والمعيار بأيدي الرفقاء ـ انظروا فنحن ليس لدينا شيء أفضل من الصلاة. ليس لدينا أعلى من الصلاة، ليست هناك عبادة أرفع من الصلاة. فما دام قد شرّع في الأذان والإقامة حيّ على خير العمل فما معناه؟ معناه أنّها أفضل الأعمال وأفضل العبادات التي شرّعت فسارعوا إليها. وهذه الصلاة بهذه الخصوصيّات أنتم ترون أنّها تصبح باطلة لا خبر عنها، ولا مقابل لها. فإذن الباطل عبارة عن ذلك النحو من العلاقة بين العبد وربّه والتي لا موضع فيها لله. هذا هو الباطل. 

  • أحد المعمّمين في طهران توفّي والده، فوضعوا الجنازة في أحد المساجد المركزيّة في طهران وصلّى هو بنفسه صلاة الميّت. التفت إليه أخوه وقال: يا فلان أنا أعرفك فلا داعي لأن تخفي عليّ وأمثال ذلك، أخبرني: هذه الصلاة التي صلّيتها هل صلّيتها لله أم لنفسك؟ قال: إن أردت الحقيقة فقد صلّيتها لنفسي! صلاة، ورجل معمّم، وقد شارك في هذه الصلاة مئات المصلّين، وفق الأمر واجبة، ولكن انظروا تجدون أنّ الصلاة باطلة. لا يعطونه على هذ الصلاة فلسًا واحدًا. الصلاة التي صلاّها، الناس الذين جاؤوا واجتمعوا... كان يؤدّي حرف الصاد من مخرجه، حرف الحاء من مخرجه، حرف العين من مخرجه، ولكنّها باطلة. 

  • ما هو الحقّ؟ الحقّ عبارة عن علاقة الإنسان بالله بنحو لا يكون فيها سوى الله. هذا هو الحقّ. وهذا المعنى قابل للتوسيع ليشمع كافّة الأبعاد الوجوديّة وكافّة الأبعاد التربويّة والسلوكيّة للإنسان. على السالك في علاقته بالله أن لا يلحظ إلا الله ولا يسمح لغير الله أن ينفذ إلى دائرة وجوده وأعماله وأفكاره بعنوان أنّه الله. دقّقوا جيّدًا! غير الله بعنوان أنّه الله، غير الحقّ بعنوان أنّه حقّ، غير ذات الله من الاعتبارات والتخيّلات والدنيا بعنوان أنّها حقّ، لأنّها إن كانت بعنوان أنّها غير حقّ فمن الواضح أنّه سيبتعد عنها ويجتنبها ويحترز عنها. 

  • ضرورة المراقبة أثناء العمل 

  • لذلك قال الأعاظم: أهمّ عمل للسالك هو أن يحسب حساب كلّ خطوة يخطوها أثناءها ـ لا بعدها حيث يكون قد فات الأوان ـ يحسب حساب تلك الخطوة عندها ثمّ يخطوها. يريد أني يقوم بعمل فيحسب حسابه، وفي ذلك الحين يزنه ليعرف ما إن كان خفيفًا أو ثقيلاً، يشاور الآخرين، لا يسدّ باب المشورة على نفسه، ولا يقول إنّ هذا العمل صحيح، فإذن أقوم به. وليشاور الذين هم خارج هذا المحيط ويمكن أن يفكّروا بالأمر بحريّة أكثر واستقلاليّة وانفتاح، العمل الذي أقوم به هل هو لأجل الله أم لا؟ هذا العمل الذي أقوم به الآن هل هو لأجل الله أم لا؟

أثر المحيط في خفاء الحقّ

4
  • أثر المحيط في تمييز الحقّ والباطل

  • في كثير من الأحيان يحصل أن يطغى على الإنسان الجوّ المحيط فيستسلم لتيّار ما يفرض عليه، فعلى الإنسان أن يكون دائمًا محيطًا بالمحيط، لا أن يكون محاطًا به، فإنّ رؤية الإنسان تتأثّر بالظروف المحيطة. ونحن نلاحظ ذلك في الأمور المتعارفة أيضًا، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، فمثلاً نحن جالسون هنا وأعيننا هي الأعين المتعارفة وليس فيها ضعف، ورؤيتنا متعارفة، مشاعرنا متعارفة، ولكنّ كيفيّة انتشار النور في هذا المحيط وكيفيّة انعكاسه في الزوايا والأجسام وحدوث الظلال وانعكاس النور على الأجسام، أحيانًا يكون بنحو يمكن أن أشتبه فيه حتّى أنا هنا الآن، فأرى الأشياء المقعّرة محدّبة في بعض الموارد، هو شيء مقعّر ولكن كيفيّة النور والمحيط هما بنحو يجعلني أتخيّل أنّه محدّب، فأفحصه بيدي فأجده مقعّرًا. لماذا؟ لأنّ الخارج والمحيط والنور هي بنحو جعلت هذا الشيء يرى هكذا من منظاري. نحن علينا أن لا نلتفت حتّى بهذا المستوى. ولنذهب ونتفحّص بأيدينا ونرى هذا الذي نراه الآن محدّبًا هل هو محدّب واقعًا أم مقعّر؟ كثيرًا ما تحدث الأخطاء التي يخطئها الإنسان تأثّرًا بالظروف الخارجيّة ولا يكون الأمر بيده. فما سبب ذلك؟ سببه أنّ الإنسان ضعيف من حيث التحقيق وكيفيّة تلقّي الأمور. إن كان الإنسان بنفسه يريد أن يتّخذ موقفًا من الأحداث التي حوله فهو لا يملك القدرة على التشخيص مع ما هناك من اختلاف في الأذواق والأفكار والمدارس المحيطة. فالناس واقعون في الاشتباه إلى حدّ جعلهم لا يميّزون بين الحقيقة والاعتبار والباطل. 

  • كان النبيّ صلّى الله عليه وآله جالسًا إلى جانب إحدى زوجاته يتحدّث ويضحك، فيمرّ أحد أصحابه، فدعاه النبيّ وقال له: تعال. فقال له: أتدري مع من أنا جالس الآن؟ فقال: لا يا رسول الله. فقال: مع زوجتي. فالتفت إليه والرجل قائلاً: وهل حدث شيء؟ هل هناك مشكلة؟ فقال النبيّ: لقد ناديتك الآن حتّى لا يخدعك الشيطان يومًا ما. فلا تتصوّر أنّي أجلس مع امرأة أجنبيّة! إنّها زوجتي أتحدّث معها. والحال أنّه النبيّ. هل التفتّم؟ أي أرفع إنسان، ولكنّ الإنسان غير آمن من تسلّط الشيطان. النقائص الموجودة عند الإنسان والضعف يمكن أن تكسر الإنسان وتغلبه أمام النبيّ أيضًا. فهل لدينا من هو أرفع من رسول الله؟ يأتي ويتحدّث فيقول إنسان ما إنّه كان جالسًا حينها مع امرأة! لم يصل الجميع إلى تلك المرتبة من الكمال، ولم يبدّل الجميع نقائصهم إلى كمالات، ولم تكتمل نقاط القوّة عند الجميع، كثير من الناس لا يزالون يعيشون في نقاط الضعف، لا تتجلّى لهم إلا نقاط الضعف، فما هذه المسألة؟ وكيف يجب أن تحلّ؟

أثر المحيط في خفاء الحقّ

5
  • يقول في الآية الشريفة:{ يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى...}۱ 

  • أيّها الناس أيّها المؤمنون لا يلقينّكم محيطكم في الخطأ في تشخيصكم. لا تحدثنّ لكم الأحداث والأمور المحيطة بكم شبهة. لا يصرفنّكم عن طريقكم كلام زيد وعمر أن لماذا فعلا كذا ولماذا فعلا كذا. 

  • يصل الإنسان إلى قناعة حول أمر ما ويحقّق ويجد أنّ الأمر حقّ. وفي اليوم التالي يلتقي بواحد فيقول له: أنت فعلت كذا؟ ثمّ يلتقي بآخر فيقول له: أنت فعلت كذا؟ يصل إلى ثالث فيقول له: أرأيت ماذا قال فلان حول هذا الأمر؟ يصل إلى رابع فيقول له: أرأيت ماذا قال فلان... وشيئًا فشيئًا وبالأحاديث المختلفة والأمور المختلفة التي تعرض للإنسان، والتي يوجدها زيد وعمر وبكر وخالد والجوّ المحيط والمسائل والوسائل وهذا النوع من الأمور يفيد الإنسان تلك القوّة ويضعف ذلك الثبات والاستحكام والاستقامة التي كانت في البداية. يمسي فيقول: لا قدّر الله أن أكون مخطئًا في طريقي! لا قدّر الله أن يكون العمل الذي أقوم به خطأ! لا قدّر الله أن يكون تركي لهذا العمل خطأ! لماذا؟ لأنّ هذا قال كلامًا، وذاك قال كلامًا، وذاك قال شيئًا، وذاك قال شيئًا. 

  • الحقّ والباطل في تجربة الحركة الدستوريّة

  • إنّ التجربة التي حصلنا عليها من مرحلة الحركة الدستوريّة كانت تجربة عجيبة جدًّا. ففي أمر واحد أمر الحكومة المتسلّطة والمستبدّة وتبدّيلها إلى حركة دستوريّة، إلى حركة تراعي مصالح الناس حسب اعتقادهم، فهي لم تكن تراعي مصالح الناس، أين كانت تراعيها؟! فهل كان مجيء رضا شاه وتلك الحكومة المستبدّة وذلك الظلم والفساد حكومة دستوريّة؟ هل كان فيها مراعاة لمصالح الناس؟! ألف رحمة على الحكومة القاجاريّة وأولئك الحكّام الذين كانوا قبل رضا شاه وكانوا يحكمون الناس. تلك الحكومة التي لم يكن الإنسان فيها يشعر بالثقة والأمان للحظة واحدة. أين كان الحكم الدستوريّ في تلك الحكومة؟! أين كانت ملاحظة رأي الناس ومصالحهم فيها؟ أين كانت حكومة حرّة؟

  • ولكنّا نرى في ذلك الزمان أنّه في مجال واحد... ـ الناس العوامّ هم عوامّ، الذين لا يمتلكون رؤية و... ربّما لا يكون عليهم ذنب، وبالطبع كلّ إنسان يعتقد بحسب ما لديه من الفهم وسعة الإدراك، فيرى أنّ هذا أمين، ويعمل بهذا أو بذاك، ويعتمد على هذا أو على ذاك، إمّا على هذه الفتوى أو على تلك ـ ولكنّ الكلام هو أنّه كيف يمكن في مجال واحد أن يكون هناك قطبان متقابلان مائة وثمانين درجة، وفي كلّ منهما علماء ومجتهدون، وفي كلّ منهما أصحاب ثقل ووزن، وفي كلّ منهما أصحاب اعبتار وشأن. إن كانا حقًّا فالحقّ لا يمكن أن يكون في مقابل الحقّ! وليس لدينا حقّان اثنان. وليتهم كانوا يكتفون بذلك [التقابل] ويتوقّفون عنده، حينها لما ظهر السباب والشتم وهتك الحرمات وسائر اللوازم التي تلزم بشكل طبيعيّ عند الناس في مثل هذه الأحداث. 

    1. سورة المائدة، الآية ۸. 

أثر المحيط في خفاء الحقّ

6
  • ففي جانب من الجانبين يفتي أمثال الآخوند الخراساني رحمة الله عليه بوجوب الحركة الدستوريّة، وفي جانب آخر يفتي أمثال السيّد اليزدي رحمة الله عليه بحرمة المشروطة. كلّ منهما عالم، وكلّ منهما من الكبار، وكلّ منهما في النجف، ذاك منزله بعد بضعة أزقّة وهذا منزله هنا. فأيّهما هو الحقّ؟! أفيمكن أن يكون لدينا في حادثة واحدة ومجال واحد حقّان اثنان؟لماذا؟ ربّما لم يكن يتصوّر الآخوند الخراساني نفسُه ذلك أيضًا. رحمة الله عليه لم يكن معاندًا، لم يكن مغرضًا.

  • العلم ومحوريّة النور

  • ولكنّ الكلام هو في أنّ الأحداث والأمور التي هي خارجة عن محيط الإنسان تُفرَض على محيطه الفكريّ، وتجبُر محيط إدراكه ومشاعره وتتسرّب إليه، وشيئًا فشيئًا لو لم يكن الإنسان صاحب نور وتشخيص وقوّة تمييز والتي قال عنها: العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء۱ لابتلي بهذا البلاء الذي ابتلينا به، بهذا البلاء! درستَ وبذلتَ الجهد، رأيت الروايات والتاريخ ولكنّ الكلام هو أنّ ذلك الشيء الذي تتمحور حوله كلّ تلك المعلومات لتكون مفيدة، سواء الدراسات التاريخيّة والدراسات الفقهيّة والدراسات الفلسفيّة والدراسات العرفانيّة والأرفع من كلّ تلك الدراسات الدينيّة روايات الإمام الصادق عليه السلام، لا مزاح يا سيّدي، إنّ كلّ هذه الأمور مفيدة إذا تمحورت حول ذلك النور، لو لم يكن ذلك النور فليس فقط لن تكون مفيدة، بل ستكون مضرّة. فهذه العلوم الحقّة والعلوم الإلهيّة وهذه التجريبيّات لا بدّ أن تتمحور حول العدل، حول الحقّ، حول محوريّة ذلك النور، حول محوريّة ذلك الاتّصال. 

  • أفهل كان شريح القاضي إنسانًا جاهلاً؟ لو كان جاهلاً لما بقي من زمان عمر إلى زمان أمير المؤمنين عليه السلام، وعندما أراد أمير المؤمنين عزله ارتفعت الأصوات من الناس بأنّك تخالف سنّة عمر. فقال الإمام: فليبق. ثمّ يبقى ويبقى وعندما يصل إلى الإمام الحسين عليه السلام يفتي شريح القاضي هذا نفسه بقتل الإمام الحسين عليه السلام. بكلّ بساطة وبكلّ سهولة، بسهولة اثنين في اثنين تساويان أربعة. الخليفة الآن هو أمير المؤمنين يزيد، والخروج على الخليفة أمير المؤمنين فساد في الأرض، ودفع الفساد واجب، ولأنّ الحسين بن عليّ قد خرج على أمير المؤمنين فلا بدّ من دفعه بأيّ نحو ممكن. 

    1. مصباح الشريعة، ص ۱٦. 

أثر المحيط في خفاء الحقّ

7
  • هذه الصغرى وهذه الكبرى، وهذه النتيجة۱. ماذا تكون النتيجة؟ النتيجة أن يقتلوا ابن النبيّ. بكلّ بساطة وسهولة، لماذا؟ لأنّ هذه العلوم لم تتمحور حول هذا المحور. هذه هي المسألة المهمّة. الاستدلال استدلال إلهيّ، ولكنّه يتمحور حول عدم الارتباط، حول محور قطع العلاقة مع الله، حول محوريّة عدم التهذيب، ذلك التهذيب الذي هو نور. 

  • النور الذي كان لدى الحاج هادي الأبهريّ والكربلائي كاظم

  • رحم الله الحاج هادي الأبهريّ ـ ذلك الذي كتب عنه المرحوم العلاّمة في كتبه، وقبره أيضًا في مقبرة علي بن جعفر إلى جانب قبر الشيخ الأنصاري ـ فقد كان أميًّا، لقد كان أميًّا إلى درجة أنّه لم يكن يستطيع الإمضاء، وكان قد أعدّ ختمًا ووضعه في جيبه، وكلّما أراد أن يكتب رسالة كان يكتبها له أحد ما ثمّ يخرج هذا الختم ويختم به كإمضاء له. ولكنّ الخصوصيّة التي كان عليها هي أنّه كان له ذلك النور. كانوا يأتون وينقلون له فتاوى العلماء والمجتهدين فيقول هذه الفتوى صحيحة وهذه باطلة! لا تتعجّبوا لا عجب في ذلك. ألم تقرؤوا بأنفسكم في هذه الكتب؟! هؤلاء الذين صاروا موضعًا للعناية ألم تروهم؟! ألم ير الجميع حادثة الكربلائي كاظم والذي استقرّ القرآن في قلبه بواسطة الخلوص وصدق العمل الذي كان عليه٢، فقد رأى رفقاؤنا بأنفسهم ذلك، وقد نقل لي بعض معمّري الرفقاء فقالوا إنّهم شاركوا بأنفسهم في تلك المجالس التي كان فيها، قالوا إنّهم شاركوا في مجلسين من تلك المجالس. وكان المرحوم الوالد يقول: أنا لم أره ولكن سمعت عن أحواله من أصدقائه. جاء إلى قم وامتحنه السيّد البروجردي، وامتحنه علماء قم، ذهب إلى طهران إلى مسجد الهداية، مسجد السيّد طالقاني وامتحنه، جاء إلى منزل جدّنا السيّد معين الشيرازي وامتحنه، كثير من الناس رأوه، الجميع رآه. فهذا من المسلّمات في النهاية. إنسان لا يمكنه أن يُمضي كالحاج هادي رحمة الله عليه يصل بالعناية الإلهيّة إلى حيث يقرأ القرآن، يقرؤه عن ظهر قلب، يضع يده عليه. إن كان هناك في كتابة ما قرآن يقول من هنا إلى هنا من القرآن، وغيره كتابة أخرى. من أين يدرك ذلك؟ ثمّ يأتي العلماء ويمتحنونه ويسألونه: كم ألِفًا في هذه الصفحة؟ وكم باء فيها؟

    1. المراد من الصغرى والكبرى مقدّمات القياس المنطقي كقولنا:
      كلّ إنسان فان (كبرى) 
      وسقراط إنسان (صغرى) 
      سقراط فان (نتيجة)
      وترتيب المثال المذكور في المحاضرة: كلّ من خرج على الخليفة فيجب دفعه بأي نحو ممكن (كبرى) 
      والحسين خرج على الخليفة (صغرى) 
      الحسين يجب دفعه بأيّ نحو ممكن (نتيجة). (م) 
    2. الكربلائي كاظم مزارع إيرانيّ سمع من أحد العلماء أنّ من لا يدفع خمس أمواله وزكاتها فإنّ صلاته باطلة، وطلب من والده أن يدفع ذلك فرفض والده وعنّفه، فاعتزل العيش معه فأعاده أبوه فلمّا طرح عليه الأمر من جديد رفض أن يدفع الحقوق الشرعيّة فخرج مرّة ثانية إلى طهران، فأعاده أبوه، واستمرّ النزاع بينه وبين أبيه حتّى توسّط بعض الوجهاء وأصلحوا بينهما واتّفقوا أن يعطيه والده قطعة أرض ومقدارًا من البذور يستقلّ بزراعتها، فلمّا استلمها دفع نصف البذور إلى الفقراء، ثمّ نصف المحصول أيضًا، فبارك الله له فيها. وبينما كان راجعًا من أرضه ذات يوم رأى شابّين وسيمين يشعّ وجهاهما نورًا فصحباه إلى مرقد أحد أبناء الأئمّة وأمراه أن يقرأ آية أشارا إليها في الأعلى ومسح أحدهما على جبهته وصدره وقرأ سورة الحمد في وجهه فشعر بأنّ القرآن كلّه في صدره، ومنذ ذلك الحين صار حافظًا للقرآن الكريم وانتشر خبره في كافّة مدن إيران. (عن كتاب قصص وخواطر من أخلاقيّات علماء الدين ص ٥٦٤ باختصار) 

أثر المحيط في خفاء الحقّ

8
  • كان أحد الأصدقاء يحدّثنا عنه أنّه كان يقول: أنا أتعجّب من هؤلاء العلماء الذين امتحنوني كم تاء وكم ألفًا في الصفحة؟ كم عينًا في هذه السورة؟ ولم يسألني أحد ما تفسير هذه الآية؟ لأخبره. انظروا لم يسأله أحد ما تفسير هذه الآية؟ انظروا لم يسألني أحد عن شأن النزول، في حين أنّ شأن النزول أيضًا قد نزل عليّ أي استقرّ في قلبي ـ وطبعًا بمقدار سعته الخاصّة، نحن لا نقول إنّه... ـ لقد كنت أعلم تفسير هذه الآية وبطن هذه الآية أيضًا. لم يأت واحد من علماء قم ويسألني عن تفسير هذه الآية ما هو؟ وفيم نزلت؟ كم ألفًا فيها وكم باء وكم تاء وكم صادًا؟ اقرأ من هنا! واقرأ من هناك! حسنًا فالحاسوب يمكنه ذلك أيضًا. اطلبوا من الحاسوب أن يعيّن كم عينًا في سورة والعصر مثلاً، فإنّه يقول مثلاً أربعة، ثلاثة. 

  • ملك يوم الدين ومالك يوم الدين

  • وقد تذكّرت الآن هذا الأمر فسأذكره، الرفقاء يعلمون أنّ رأي المرحوم العلاّمة في سورة الحمد {ملك يوم الدين} بدلاً من {مالك يوم الدين}۱ وإن شاء الله سأكتب رسالة في ذلك. وينقل أنّ الكربلائي كاظم لم يكن يصلّي خلف من كان يقرأ {مالك يوم الدين}، وكان يقول: هذه خطأ، {وملك يوم الدين} هي الصحيحة، لم يكن يعرف قراءة عاصم ولا قراءة قاسم، فقطة بواسطة خلوص النيّة وبواسطة العلاقة والصلة التي كانت لديه، وذلك النور الذي أودعه الله فيه، وانتهى الأمر. 

  • وكان الحاج هادي الأبهري رحمه الله من هؤلاء أيضًا، كانوا يأتون إليه بالفتوى وأنّ فلانًا أفتى بالقيام بهذا العمل، فكان يقول: كلاّ، يفترض أن لا يكون صحيحًا. جاء إليه أحدهم فقال له: فإذن من نراجع؟ فقال: أليس لديكم السيّد محمّد حسين؟ اذهب واعمل بكلام السيّد محمّد حسين، أليس لديك السيّد محمّد حسين؟ 

  • تعلّمنا، حصّلنا معرفة بالأمور، ولكنّ معرفتنا هذه وعلمنا أين جعلانا؟ هنا المشكلة. فما معنى ما يقوله الإمام عليه السلام: ولا يدع أيّامه باطلاً؟ يعني تفكيره والعمل الذي يقوم به لا يكون يتصوّر ـ كما ذكرنا في الجلسة السابقة{ وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا}٢ ـ أنّه يقوم بعمل في سبيل رضا الله والحال أنّه في رضا الشيطان، هذا هو الأمر المهمّ.

    1. سورة الفاتحة، الآية ٤. 
    2. سورة الكهف الآية ۱۰٤.

أثر المحيط في خفاء الحقّ

9
  • الأمر المهمّ هو أنّ المحيط وتلك الأمور التي تحيط بالإنسان توجد للإنسان حالة تعيقه عن التجاوز عن تخيّلاته واعتباراته، فعلى الإنسان دائمًا أن يحافظ على هذه النقطة حيّة في حياته وأنّ العمل الذي يقوم به هو حقّ أم باطل؟ ينبغي أن لا يغمض عينه ويقول إن شاء الله حقّ. ما معنى إن شاء الله حقّ؟! إن شاء الله صحيح؟! وما معنى هذا أفضل؟! وما معنى ذاك أفضل؟! 

  • حوار في المسجد الحرام مع بعض أهل السنّة

  • في هذه الرحلة الأخيرة التي وفّقني الله لها، حيث تشرّفت قبل أسبوع أو أسبوعين، لم يحصل أن تحدّثت مع أحد وحاورت أحدًا لا في المدينة ولا في مكّة. ولكن في الليلة الأخيرة ويبدو أنّها كانت ليلة السبت ـ السبت الماضي ـ كنت جالسًا مع الرفقاء، فقال الرفقاء سنذهب قبلكم لدينا عمل ثمّ ننتظركم. فجلست عشرين دقيقة أو نصف ساعة مقابل المستجار ثمّ توجّهت إلى الخارج، وعندما مررت من مقابل حِجر إسماعيل ووصلت إلى الزاوية اليمنى منه أحسست فجأة أنّ عليّ أن أجلس إلى جانب المسجد الحرام، ولم أجد علّة لذلك، وكأنّه يجب عليّ أن أجلس. قلت: حسنًا فلأجلس إلى أن يخرجوني، سأجلس الآن. 

  • ما إن مضت عدّة دقائق حتّى جاء رجل وجلس إلى جانبي وقال: هل أنت شيعيّ؟! 

  • قلت: نعم. 

  • قال: من أين؟ 

  • قلت: من إيران. لم يكن وضعي ولباسي يبيّن ذلك ولم أكن معمّمًا. 

  • قال: لديّ سؤال بأيّ دليل تعتقدون بعصمة أئمّتكم في حين أنّ العصمة تختصّ بالأنبياء؟ 

  • فبدأ الكلامُ وقلت: بالدليل عينه الذي نقول بسببه بعصمة الأنبياء، به بعينه نقول بعصمة أئمّتنا؟ ثمّ قلت: أنتم بأيّ دليل تقولون بعصمة الأنبياء؟ 

  • فقال: لأجل الآية القرآنية التي تقول إنّهم معصومون. 

  • فقلت: لا يمكن أن لا يكون هناك وجه لذلك. 

  • فقال: فما هو الدليل إذن؟ 

  • فقلت: دليل القرآن أيضًا هو هكذا. وطبعًا هو استدلّ باستدلال ضعيف لأنّ لدينا في سورة الفتح: {ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ويتمّ نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيمًا}۱ حيث وعد الله النبيّ أن يغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر فإذن النبيّ معصوم. 

    1. سورة الفتح، الآية ٢. 

أثر المحيط في خفاء الحقّ

10
  • فقلت: فإذن باعتقادكم أنّ هذه الآية تريد أن تقول إنّ النبيّ أذنب لاحقًا؟ وقلت: هل أنتم تعتقدون بذلك؟ أمّا قبل الرسالة وقبل البعثة فإنّهم يقولون لأنّه لم يصل بعد إلى البعثة والرسالة فهو إنسان جائز الخطأ. يعني النبيّ حتّى بعد الرسالة! فهذا ما تقوله الآية في النهاية، هي تقول: ليغفر لك فأوّلاً أنت أذنبت ثم نحن نعفو. فمن دون ذنب لا معنى للمغفرة. فإذن النبيّ أذنب لاحقًا وفق هذه الآية! 

  • فقال: فما معناها إذن؟ 

  • قلت: معنى الذنب هنا ليس هو المعصية. معنى الذنب هنا هو تبعات الأعمال التي قام بها النبيّ، وتلك التبعات يمكن أن تسبّب له موانع، والله يقول: بواسطة فتح مكّة انقطعت تلك التبعات واتّسعت حكومة المسلمين وأزيلت العقبات من أمام تلك الرسالة والبعثة والتبليغ. فبفتح مكّة يغلب المسلمون. هذا المعنى هو معنى الذنب. ۱

  • فالذَنْب يعني الشيء الذي من الذَنَب. والذنب هو ذلك العضو المعروف الذي يتبع الحيوان، ويقال للمعصية ذنب لأنّها تتبع وتعقب الإنسان في ذلك العالم ولا تتركه.٢ فلا يتصوّر الإنسان أنّه إذا فارق هذه الدنيا فقد انتهى الأمر، فهو يفعل ما يحلو له فقد انتقل إلى مكان آخر. كلاّ بل ستأخذ تبعاته بتلابيبه هناك. ولأجل هذا يقال إنّ معنى الآية هو هذا. 

  • فسرّ كثيرًا من هذا النحو من البيان الذي بيّنته، وتابع فسأل ما يقرب من عشرة أو اثني عشر سؤالاً، وبينما هو يسأل جاء آخرون، فاجتمع حوالي سبعة أو ثمانية من الناس. وجاء عدد من هؤلاء الشرطة وجلسوا أيضًا وأخبروا غيرهم، فجاء عدد من شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبدأوا بالكلام: لماذا جلستم؟ لماذا تتكلّم مع هذا الرجل؟ فقلت: أعزتي أنتم أيضًا اجلسوا، أنتم أيضًا استفيدوا! ودون أن ينظر إليّ بدأ: هؤلاء كذا، هؤلاء يرجّحون عليًّا على النبيّ. يحبّون عليًّا أكثر من النبيّ. قوموا تفرّقوا لماذا أنتم جالسون؟ لم يكن ينظر إليّ أصلاً. فقلت له: أنت تتكلّم كثيرًا، هل أنت منزعج، فلتجلس أنت أيضًا مثلهم ولتقل شيئًا نستفيده. قال هذا ومضى. 

  • ثمّ التفتُّ إليهم وقلت: هل أنتم تقبلون بكلام هذا الرجل؟ قال: ما رأيك أنت؟ قلت: ما دام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام يقول في نهج البلاغة: أنا عبد من عبيد محمّد. ٣ ونحن الشيعة نعتقد بهذا فما معنى هذا الكلام الفارغ الذي يقوله هذا؟ فقال: عجيب وهل قال كلامًا كهذا؟! قلت: بلى، اذهب واقرأ نهج البلاغة. نهج البلاغة نحن نطبعة، أنتم لا تطبعونه، أنتم لا تقبلون بعليّ. 

    1.  عيون أخبار الرضا )ع) ج٢، ص ۱۸۰: تميم القرشي، عن أبيه، عن حمدان بن سليمان، عن علي بن محمد بن الجهم قال: سأل المأمون الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل: " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " قال الرضا عليه السلام: لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبا من رسول الله صلى الله عليه وآله، لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما، فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الاخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: " أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب * وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا الشئ يراد * ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق " فلما فتح الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله مكة قال له يا محمد: " إنا فتحنا لك " مكة "فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " عند مشركي أهل مكة بدعاءك إلى توحيد الله عز وجل فيما تقدم وما تأخر، لان مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم، فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن...
    2. في المفردات ص ٣٣۱: الذَّنْبُ في الأصل: الأخذ بذنب الشي‌ء، يقال: ذَنَبْتُهُ: أصبت ذنبه، و يستعمل في كلّ فعل يستوخم عقباه اعتبارًا بذنب الشي‌ء، و لهذا يسمّى الذَّنْبُ تبعة، اعتبارًا لما يحصل من عاقبته‌. (م)
    3. . الكافي، ج ۱، ص ٩۰؛ مرآة العقول، ج ۱، ص ٣۱٤. 

أثر المحيط في خفاء الحقّ

11
  • وبدأ الحديث، ورجع ذلك الرجل، وجاء غيره فقال: ثمّ جلستم ثانيًا ألا تتركه وشأنه؟! فقال له: لا ليس هناك مشكلة. إن أحببت أنت ولم يكن لديك عمل فاجلس واستفد. فمضى للمرّة الثانية وكان يتردّد على الدوام ذاهبًا جائيًا. وقد أخّرت الرفقاء في ذلك المنزل ما يقارب الساعة والنصف وكانوا يقولون: ماذا حصل حتّى تأخّر؟!

  • كان هناك رجل من الجزائر وكان قد جلس معنا، وهو من الطلاّب الذين يدرسون هناك، وكانت معلوماته لا بأس بها نوعًا ما، وكان له اطّلاع ما على الأمور والمسائل، وكان يسأل أكثر من الآخرين ويتابع ويشجّع. وعندما انتهى الكلام التفت إليّ وقال: 

  • أريد أن أسألك سؤالاً. هل يختلف قرآنكم عن قرآننا؟ أنتم تقرأون قرآنًا آخر؟ 

  • قلت: أنا مستعدّ لأدفع لك كلفة الطائرة فتفضّل إلى إيران إلى قم إلى منزلنا وانظر أنّ هذا القرآن الموجود في المسجد الحرام موجود في جميع الغرف. فقال: عجيب! فلماذا يقال إنّ لديكم قرآنًا يسمّى مصحف فاطمة وأنّه محرّف، وقد بدّل ما فيه، وهو قرآن آخر؟! 

  • قلت: تفضّل وانظر بعينك. فقال: ما قصّة مصحف فاطمة هذا؟ قلت: قصّة مصحف فاطمة هي هذه: إنّه القرآن الذي أعطاه النبيّ إلى أمير المؤمنين عليه السلام وإلى السيّدة الزهراء سلام الله عليها والآن هذا القرآن عند إمام لزمان عليه السلام وعندما يظهر يأتي به، وهو مطابق للنزول وقد كتبت فيه الآيات التي نزلت بترتيب معيّن وفق ذلك الترتيب، وفيه الأمور والأحداث التي ستجري إلى يوم القيامة، كلّ ذلك هو في هذا القرآن، من كان من أهل السعادة أو من أهل الشقاء والأعمال التي يقوم بها والأمور التي لا يقوم بها. هذا القرآن هو قرآن غير متعارف. 

  • فقال: أليس هذا القرآن الموجود الآن عندنا على أساس النزول؟ 

  • قلت: ماذا كانت أوّل سورة نزلت على النبيّ؟ 

  • فقال: سورة اقرأ. 

  • قلت: فهل هذه السورة الآن هي في أوّل القرآن أم في آخره؟ هذا القرآن هو هكذا. هذا القرآن الآن فيه تقديم وتأخير، جمع في زمان عثمان وجعل هكذا. في حين أنّ أوّل سورة كانت شيئًا آخر وآخر سورة كانت شيئًا آخر، وترتيب الآيات كان شيئًا آخر مغايرًا لما نزل على النبيّ، ولم يكن الأمر في هذا القرآن على الترتيب الذي نزل على النبيّ. وفي جميع الأمور التي جرى فيها الحوار كانوا يطأطئون رؤوسهم ولا يتكلّمون. حتّى قلت لهم إلى هذا الحدّ: إنّ هذا الكلام الذي أقوله لكم اذهبوا أنتم إلى كتبكم فإن لم تجدوه فيها فالحقّ معكم. هذا أيضًا أنا أقبل له، وهذا أيضًا عنواني، وهذا أنا، والحقّ معكم وأنا سآتي وأقبل بمذهبكم ومدرستكم. 

أثر المحيط في خفاء الحقّ

12
  • وعندما انتهت هذه الأمور، وهنا الموضوع الذي كنت أريده، وهو أنّه ماذا علينا أن نصنع لنطبّق أعمالنا على الحقّ؟ هذه هي مشكلتنا. وماذا نصنع حتّى نكون بعيدين عن الباطل؟

  • قال: ما هو السبب في الاختلاف بين الشيعة والسنّة؟ 

  • فقلت: أحسنت، هذا ما كنت أنتظر سماعه من لسانك. السبب في الاختلاف بين الشيعة والسنّة هو أنّ الشيعيّ يقول: لا بدّ من اتّباع العقل والفطرة والمنطق، والسّنة يقولون: لا بدّ من تنحية العقل والمنطق والوجدان والفطرة. قال: عجيب؟! 

  • فقلت: نعم هذا هو. 

  • قال:كيف؟ الآن أثبت لكم. 

  • فقلت: أنا أتكلّم معك الآن من منطلق الأخوّة. من منطلق الأخوّة. 

  • وقلت: فلنخرج أنفسنا كلانا من هذا المحيط ـ هذا هو ما أريده ـ قلت: أنا أترك كوني شيعيًّا جانبًا، وأنت دع أيضًا كونك سنيًّا جانبًا، فهل تقبل بذلك؟ 

  • وقلت: نعم. أنا من الآن لم أعد شيعيًّا وأنت من الآن لم تعد سنيًّا فلنتركهما جانبًا، فأنا لم أعد أعرف عليًّا، ولا عمر ولا أبا بكر ولا الإمام الصادق، لا أعرف أحدًا. وأنت أيضًا تدع جانبًا أولئك الخلفاء حشرك الله معهم إن شاء الله. كلانا مسيحيّان، ونحن نريد أن نصبح مسلمين مع هؤلاء الشرطة والذين جاؤوا، الآن في ليلة السبت الساعة كذا نريد أن نسلم. ولدينا في الوقت نفسه اطّلاع على الأمور المتّفق عليها بين الطرفين، بالالتفات إلى ذلك. 

  • وقلت: أنا لا أتكلّم بشيء من كتب الشيعة، وأعطيكم هذا المقدار من الامتياز، أعطيكم نقطة الامتياز هذه أن لا أتحدّث من كتب الشيعة. أليس في كتبكم أنّ عمر قال مرارًا: لولا عليّ لهلك عمر؟ 

  • قالوا: بلى. 

  • قلت: أليس في كتب أهل السنّة أنّ عمر كان يقول في مسائل متعدّدة: لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن۱؟ قالوا: بلى. 

  • قلت: أليس في كتبكم أنّ عمر كان يرسل إلى أمير المؤمنين عليه السلام في موارد عديدة من الأقضية، فيخرج أمير المؤمنين من بيته إلى مسجد المدينة وكان أمير المؤمنين يقضي لهم؟ 

  • قالوا: بلى. 

  • فقلت: أليس في كتبكم أنّ عمر أراد أن يرجم تلك المرأة فمنعه أمير المؤمنين وأوضح الأمر؟ قالوا: بلى.

    1. . عيون أخبار الرضا عليه ‌السّلام، ج ٢، ص ۸٦؛ كشف الغمّة، ج ٢، ص ٣۰٩.

أثر المحيط في خفاء الحقّ

13
  • وكلّما قلت لهم شيئًا قالوا: بلى. 

  • فقلت: هل لديكم مورد واحد توقّف فيه أمير المؤمنين فجاء عمر وحلّ له العقدة؟ وقلت: أليس لدينا أنّ النبيّ قال: أنا مدينة العلم وعليّ بابها، ومن أراد المدينة فليأتها من بابها۱ ؟ 

  • قالوا: بلى هو في كتبنا. 

  • فقلت: أليس لدينا أنّ النبيّ قال: عليّ أتقاكم، عليّ أعلمكم، عليّ أورعكم. 

  • قالوا: بلى.

  • وهنا سؤالي: نحن اثنان مسيحيّان نريد أن نسلم، لا أنا شيعيّ ولا أنتم سنّة، هذا عمر بأعماله التي قام بها وكلامه الذي في كتبكم، وهذا عليّ بأعماله هذه وكلامه الذي في الكتب. نحن اثنان مسيحيّان هل علينا أن نتّبع عليًّا أم عمر؟ فطأطأ الجميع رؤوسهم فقلت: ما لكم لا تنطقون؟ أيّهما؟ فلتقولوا في النهاية! 

  • قالوا: نحن نذهب ونحقّق. 

  • قلت: أنتم بأنفسكم تقولون. فما معنى أن تحقّقوا بعد هذا؟! أنتم الآن تقولون. قلت: انظروا هذه هي المشكلة، المشكلة أنّ محيطكم قد جعلكم في وضع وحال لا يمكن معه أن تتركوا باطلكم. هذه هي المسألة. 

  • الشيعيّ لا يقول ذلك، يقول: لو اتّبع الناس أمرًا وعليّ أو النبيّ قال كونوا هنا... العقل قال ـ حتّى أنا قلت لهم هذه العبارة ـ لو ذهبنا معًا إلى كتبكم ووجدنا أنّ لعمر فضيلة على عليّ فأنا الشيعيّ الإيرانيّ سأتّبع عمر وأترك عليًّا. حتّى هذا قلته لهم. فكيف يتكلّم الإنسان بعد هذا؟ كيف يريد الإنسان أن يوضّح بعد ذلك هذا الحقّ الواضح البيّن؟ إلى هذا الحدّ. 

  • فقط أشرت إلى قصّة السيّدة الزهراء سلام الله عليها وقلت: إنّ النبيّ قال: فاطمة بضعة منّي، من أحبّها فقد أحبّني ومن آذاها فقد آذاني.٢ قلت لهم: أموجود هذا في كتبكم أم لا؟ قالوا: موجود. فقلت: أليس بعده أنّ هذين الرجلين جاءا وأعرضتْ عنهما وقالت ألم تسمعا من النبيّ... فواقعًا عجيب واقعًا عجيب، يحتار الإنسان أن كيف يريد الناس أن يتعاملوا مع هذه الأمور؟! ـ ألم تسمعا من النبيّ أنّه قال: من آذى فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فلعنة الله عليه؟ قالا: بلى. فقالت: اللهمّ فاشهد أنّهما آذياني.٣

    1. ٣. تحف العقول، ص ٤٣۰.
    2. ۱. الأمالى( للصدوق)، ص ۱۰٤، انّ فاطمة بضعةٌ منى فمن آذاها فقد آذانى و مَن سَرَّها فقد سَرَّنى.
    3. الإمامة والسياسة، ابن قتيبة الدينوري ج۱، ص ٢۰: فقال عمر لأبي بكر ، رضي الله عنهما ، انطلق بنا إلى فاطمة ، فإنا قد أغضبناها ، فانطلقا جميعا ، فاستأذنا على فاطمة ، فلم تأذن لهما ، فأتيا عليا فكلماه ، فأدخلهما عليها ، فلما قعدا عندها ، حولت وجهها إلى الحائط ، فسلما عليها ، فلم ترد عليهما السلام ، فتكلم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله والله إن قرابة رسول الله أحب إلى من قرابتي ، وإنك لأحب إلي من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات أبوك أني مت ، ولا أبقى بعده ، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله إلا أني سمعت أباك رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة ، فقالت : أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرفانه وتفعلان به ؟ قالا : نعم . فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟ قالا نعم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه ، فقال أبو بكر أنا عائذ بالله تعالى مني سخطه.

أثر المحيط في خفاء الحقّ

14
  • فقلت لهم: فإذن ألن تكون لعنة الله عليهما؟! قلت لهم بصراحة: إمّا أن نترك هذه الرواية وقد نقلتموها أنتم. أو إن كان الأمر كذلك فالحقّ لا مزاح فيه. فقلت: هذا هو الفرق بين الشيعة والسنّة. الشيعيّ يقول: في كلّ خطوة تخطوها يجب أن ترى أنّها حقّ ثمّ تخطوها. لا تنظر ماذا فعل هذا وماذا فعل ذاك؟ ما شأنك أنت. هذا نظره هكذا وذاك نظره هكذا، جميع الناس مالوا إلى هذه الناحية. جميع الناس قالوا هذا، هذا هو الفرق بين الشيعة والسنّة. 

  • هنا قلت: بعد هذا الحجّة عليكم تامّة. وطبعًا هم أخذوا عنواني ليتابعوا الموضوع. وبعد ذلك لا يدرى كم يشمل التوفيق الجميع إن شاء الله. فقلت: هذا هو الأمر فاذهبوا وفكّروا فيه. هنا هي مشكلة الشيعة والسنّة. قلت: الآن، لماذا أنتم تفكّرون في ألف وأربعمائة سنة؟ فالآن عمر جالس هنا وعليّ جالس هنا هذه الليلة أمامنا، فماذا نصنع؟ لماذا نذهب إلى ألف وأربعمائة سنة خلت، لماذا فعل الصحابة ذلك؟ لماذا فعل فلان كذا؟ ما شأننا نحن؟ الآن، وهذه كتبكم أيضًا. 

  • هذه المسألة هي التي يقول الإمام الصادق عليه السلام عنها إنّ على الإنسان أن لا يقضي أوقاته بالبطالة، هذا هو المقصود. أي إنّ الإنسان...، وطبعًا في هذه المرتبة وفي هذه المرحلة، وإن شاء الله في المجلس اللاحق سنتحدّث عن هذا الأمر بنحو أدقّ وهو الذي نقصده. وأمّا الآن فإنّ كلام الإمام الصادق عليه السلام يفيدنا أنّ التابع لأمير الؤمنين عليه السلام... وواقعًا في يوم القيامة في أيّ صفّ يجعلوننا؟ مع من؟ فأمير المؤمنين لا يختلف الأمر لديه بين ألف وأربعمائة سنة وبين الآن. أمير المؤمنين أبديّ، أمير المؤمنين خالد، أمير المؤمنين باق مع الدهر، باق في الدنيا والآخرة، إنّه باق، ففي يوم القيامة في أيّ صفّ يجعلوننا؟! لا قدّر الله أن لا نجعل في صفّ أمير المؤمنين! 

  • النقطة الأساس في مدرسة المرحوم العلاّمة

  • النقطة الأولى والأخيرة للمرحوم العلاّمة في مدرسته خلال هذه السبعين سنة التي قضاها كانت أنّه أينما يكون الحقّ فيجب أن تكون، ولو كان على لسان أيّ إنسان ومن أيّ جهة. وهذه الأمور التي كبتها في كتبه ونشرها لأيّ شيء كانت؟ لكي يبيّن تلك الحقيقة بشكل منطقيّ، وإلا لقال الأمر هو هكذا، لما احتاج إلى تأليف الكتب، لما احتاج إلى كتابة سبعين مجلّدًا، لقال: الأمر هو هكذا. جاء وقال: ما نعتده نحن حقًّا ونراه نثبته بهذا المنطق وبهذا البيان. فلو أردنا أن نقوم بعمل آخر على خلاف هذا المنطق وهذا البيان فهل سنكون من أتباعه؟ من أتباع هذه المدرسة؟

أثر المحيط في خفاء الحقّ

15
  • الأمر مهمّ جدًّا. المطّلعون بنسبة ما على الأمور والأحداث يعلمون ماذا أريد أن أقول. هل نحن واقعًا من أتباع هذه المدرسة؟ ونسعى إلى تحقيق هذا الأمر؟ 

  • لقد كان من اعتراضات هؤلاء الناس أنّ هؤلاء الذين يأتون يقولون هذه الأمور ـ فقد كان هذا حقًا ـ فبعض الكتّاب أخيرًا جاؤوا وجمعوا في كتاب بعض الأمور السلبيّة التي يطرحها بعض العوام وجعلوها في متناول أيديهم. هؤلاء يقولون عن الحسين كذا، ويقولون عن عليّ كذا، وجمعوا الشعر الذي قاله بعض شعرائنا عديمي الفهم والذي فيه رائحة الغلوّ . 

  • فقلت: سيّدي العزيز في كلّ مكان يوجد من جميع الأصناف، أنا أوافق على ذلك. أنا أقول: أنا شيعيّ ولديّ شيء قليل من الاطّلاع على الأمور، وأنا إيرانيّ أيضًا، وأقول إنّ الأمر هو هكذا. الآن أنتم تقولون إنّ فلانًا قال كذا. ثمّ هناك من لا ينظر إلاّ إلى الجانب السلبيّ ولا يلاحظ الإيجابيّ فيضعون يدهم على هذه الأمور. عزيزي هناك مئات النقاط الإيجابيّة وأنت أخذت نقطة سلبيّة واحدة وأنّ فلانًا في مكان ما قال كذا. قلت: هل سمعت هذا الكلام الذي فيه غلوّ من عالم شيعيّ؟ هل سمعت من كبير أمرًا كهذا؟ الآن جاء واحد وطرح أمرًا كهذا. 

  • انظروا فهذه هي الجوانب التي يأتي الشيطان ويتابع الطريق بواسطة أدواتها. ولكن ما دام الأمر واضحًا بالنسبة إلينا فلا حاجة إلى هذه الأمور. 

  • استقبال شهر رجب

  • نحن في شهر جمادى وعلى مشارف الدخول في شهر رجب، والإخوان مطّلعون على فضيلة شهر رجب وشعبان وكذلك رمضان، وأنّه كم لها من الأهميّة والمقام! وخصوصًا شهر رجب. وكما يقول المرحوم العلامة، فإنّ الأعاظم ينتظرون شهر رجب قبل مدّة مديدة، وعلى حدّ تعبيره يعدّون أنفسهم للدخول إلى شهر رجب قبل بضعة أشهر، فيزيدون من مراقبتهم ويضاعفون من سكوتهم، ويقلّلون من كلامهم، حتّى يتمكّنوا من الاستفادة أكثر، حتّى يتمكّنوا من تثبيت الحقيقة في أنفسهم أكثر، حتّى يصلوا أنفسهم أكثر بذلك الحقّ ويثبّتوا موقعهم أكثر. 

  • شهر رجب هو شهر نزول الأسماء والصفات الكليّة. الشهر الذي يجب أن تكون النفس فيه مستعدّة لكي تصل إلى المطالب الكليّة، أن تأتي تلك الحقائق الكليّة إلى ذهنه وهذا لا يتحقّق بدون مراقبة، أنواع الكلام، الدخول في أمور لا يعتنى بها، في الأمور غير المتعارفة، ماذا قال فلان، وماذا قال فلان؟ كيف الأوضاع؟ كيف الأحوال؟ من ذهب ومن جاء؟ كلّ هذا يبعد الإنسان عن ذلك الاستعداد ويقوّي في النفس التخيّلات والاعتبارات. والنفس التي تكون تخيّلاتها قويّة لا يمكن أن تجذب تلك الأنوار الإلهيّة. 

أثر المحيط في خفاء الحقّ

16
  • كلّما عملنا في جانب التخيّل والقوّة الواهمة والمتخيّلة في النفس فإنّا سنخسر في الطرف المقابل. وكلّما أنقصنا القوّة المتوهّمة والمتخيّلة أمكننا أن نستفيض أكثر من أنوار العقل وأنوار البهاء والجلال والجمال الإلهيّ. وامتحان ذلك سهل جدًّا. فليراقب الإنسان ليوم واحد فإنّه يدرك حاله في أثناء الصلاة، وليجلس الإنسان يومًا مع زيد وبكر وخالد وهؤلاء ويتحدّث معهم حول الأمور المختلفة في الأعلى والأسفل وسيدرك بعد ذلك حالاته في الليل. 

  • كان المرحوم العلاّمة الطباطبائي يقول: في كلّ يوم كنت أزيد مراقبتي كانت مشاهداتي في الليل ألطف. أي إنّ جهة الاتّصال والتجرّد في تلك المشاهدات في الليل تكون أقوى. ولكن لو اشتغلت في النهار بأحدايث مختلفة أو تخيّلات وأمور تأتي إلى النفس وتشغلها وتقيّدها وتحدّها وتوجد كدورة وتوجد سوء ظنّ بالنسبة إلى الإخوة في الإيمان، فتستقرّ في النفس وتقطع القلب عن الاتّصال وتغلقه، فإذا انقطع لم تعد له قابليّة. 

  • فإذن بناء على ذلك، علينا أن نسعى مهما استطعنا في شهر جمادى في هذا المجال، فنحدّد علاقاتنا مع الناس، ونقلّل من كلامنا، أن نهتم ّبالسكوت أكثر. والأمور التي لا علاقة لنا بها ولا ارتباط والتي ستمشي شئنا أم أبينا فلنترك إلى الآخرين أن يهتمّوا بها أكثر، أن يسرحوا بها أكثر، أن يتابعوها أكثر، جزاهم الله خيرًا، يحملون عنّا، يرفعون ثقلها عنّا فنتفرّغ نحن إلى أمور أخرى. فهذا لا يتيسّر لأيّ إنسان، الدخول في مسائل الدنيا وفي الأوضاع والأحوال التي ليس لها كثير ارتباط بالإنسان، الدخول في أمور ليس فيها إلا إتلاف الوقت وليس فيها نتيجة بعد انقضاء الوقت، يجلس الإنسان ساعة يتكلّم، وقد قلت للرفقاء أن يسجّلوا الكلام في هذه الساعة، فإذا انتهت فليستمعوا إليه، ولنر كم أفادنا؟! لا شيء، فقط أفادنا أنّه أذهب ساعة من وقتنا. 

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام: لا تقض عمرك بهذا. فهذا معنى بطلان الأيّام، يعني أنّ الإنسان إذا ما قضى ساعة ينظر فهل يجد أنّ هذه الساعة كانت مفيدة أم لا؟ ما الذي ارتفع سعره؟ وما الذي رخص سعره؟ وذاك حصل له كذا، وهذا كذا، من تلك الأمور التي لا تسبّب إلا إتلاف الوقت، وتزيد من قوّة الخيال والتوهّم لدى الإنسان. 

أثر المحيط في خفاء الحقّ

17
  • إن لم يكن لدى الإنسان كلام يقال، فليجلس ساكتًا. هل يجب على الإنسان إذا ذهب إلى مجلس ما أن يتكلّم؟! أحيانًا يذهبون إلى مجلس فيقولون: سيّدنا تفضّل بشيء لنستفيد، ففي النهاية لا يمكن أن يمضي المجلس بالسكوت! أفهل الاستفادة هي فقط بالكلام. تضعون شريطًا فيتكرّر لعدّة مرّات. هؤلاء غير ملتفتون إلى أنّ ما يستفيده الإنسان بالسكوت هو أكثر ممّا يستفيده بالكلام. لو أنّ إنسانًا قضى ساعة بالسكوت وخلّى فكره، فإنّه يستفيد أكثر بكثير ممّا لو أراد أن يحصّل شيئًا من الكلام. 

  • وعلى كلّ حال فالأوقات حسّاسة جدًّا، وعلينا أن نستعدّ للدخول إلى الشهر. وكان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه في مثل هذه الأوقات يقول مرارًا:

  • يك چشم زدن غافل از آن ماه نباشيد***شايد كه نگاهى كند آگاه نباشيد
  • يقول: 

  • لا تغفل طرفة عين واحدة عن ذلك القمر فربّما نظر نظرة وأنت غافل

  • إن شاء الله. نأمل أن يوفّقنا الله جميعًا إلى العمل بمعالم الدين ومعالم التشيّع والأمور التي وصلت من الأعاظم وأولياء الدين. 

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد

  •