126

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ

شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

6730
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالخسران و بطلان العمر

التاريخ 1426/01/24


التوضيح

ما هو الأساس الذي يجب أن تبني عليه علاقتك مع النبيّ والوليّ لتثبت بعد وفاته؟
لماذا حصلت قصّة خالد بن الوليد في عهد أبي بكر والمغيرة بن شعبة في عهد عمر؟
لماذا لم ينجح أمام بعض الاختبارات في زمان المرحوم العلاّمة وبعد وفاته إلا بضعة معدودة؟
هل تكفي نورانيّة المجالس وتغيّر الأحوال فيها؟
كيف تعامل تلامذة العلاّمة معه؟
هل معنى الحاجة إلى الأستاذ أنّه لا بدّ أن يوجد بشخصه في كلّ الحالات؟
ما دور الأستاذ في حياة السالك؟
ما هي مصاديق الأستاذ المختلفة في السير والسلوك؟
تجيب هذه المحاضرة عن هذه التساؤلات ضمن سلسلة المحاضرات حول السلوك العقلانيّ في شرح فقرة ولا يدع أيّامه باطلاً من حديث عنوان البصريّ.

/۲۰
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱٢٦

  •  

  • ألقاها:

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم 

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • وصلّى الله على نبيّنا أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين 

  •  

  •  

  • كان الكلام في الجلسات السابقة حول السلوك العقلانيّ وقد تقدّم بعض الكلام للرفقاء في توضيح الكلام الشريف للإمام الصادق عليه السلام حيث قال: ولا يدع أيّامه باطلاً. وأنّ من يسير في طريق الله لا يقضي عمره بالبطالة. 

  • وبواسطة الأسئلة التي طرحت، تبيّن لي أنّ عليّ أن أعدّل قليلاً في منهج البحث وأجيب بالإجمال عن بعض النقاط المبهمة التي يمكن أن تكون قد حدثت بعد الكلام، ثمّ نتابع في الجلسات اللاحقة ذلك البحث. 

  • ضرورة العمل بالموازين والمباني في السير والسلوك العقلانيّ

  • نظرًا إلى ما تقدّم من كلام اتّضح إلى حدّ ما أنّ المقصود والمراد من الحركة في طريق الله والوصول إلى مقام القرب، هو الوصول إلى مرتبة التكامل وفعليّة الاستعدادات. هذا التكامل وفعليّة الاستعدادات ليس بالكلام، بل بالتعبّد والالتزام والتقيّد بالموازين والمباني. والحركة في طريق الله هي مسير ومنهج وطريق ومسلك ليس مختلفًا عن طريق سائر الأمور التي يهتمّ بها الإنسان في هذه الدنيا، فكما أنّ الوصول إلى الأهداف الدنيويّة أو المعنويّة التي تحصل في الدنيا لا يتحقّق بمجرّد الكلام والاستماع والحضور في الجلسات، بل على الإنسان أن يعمل بالأمور والوصايا والمسائل التي تطرح، وإذا خرج من المجلس فعليه أن يحقّق في نفسه ما طرح في المجلس نقطة نقطة. ولا يسلّي قلبه بمجرد أنّه شارك في مجلسٍ للذكر ونُقلت فيه كلمات الأعاظم، ولا يُقنع نفسه ووجدانه بأنّه تصل إلى سمعه أمورٌ كهذه كلّ أسبوعٍ أو أسبوعين، فهذا كلّه لا فائدة منه، لا يفيد مثقال ذرّة، ولا فرق بين من شارك ومن لم يشارك حتى بمقدار ميلميترٍ واحد إلا إذا عمل الإنسان بالأمور التي ذُكرت، ولا أعتقد أنّ هناك جملة أكثر صراحةً في بيان الأمر من هذه.

  • ما السبب في أحداث ما بعد وفاة رسول الله؟

  • هذا منهجٌ مستمرٌّ تقتضيه حقيقة التكوين والتربية منذ خلقة آدم إلى الآن وإلى يوم القيامة، هذه الحقيقة موجودة في كلّ ذلك، ليس لدينا أعلى من النبيّ الأكرم وأشرف الكائنات، وقد اتّضح للجميع أنّ الكون إلى جانب النبيّ الأكرم لا يفيد شيئًا، ما لم يعمل الإنسان بما سمع منه، الجميع قد سمعوا أيضًا أو قرأوا بأنفسهم أو سمعوا من العلماء والمؤرّخين هذه الأمور، وأنّه كيف جاءت النفس بعد رسول الله رغم تلك التوصيات والتأكيدات والتصريحات، وأخرجت رسول الله من القلب وجلست مكانه، فذلك القلب الذي كان فيه رسول الله حتّى يوم أمس لم يعد لرسول الله فيه مكان، فلو كان فيه مكان له لبايع أميرَ المؤمنين، لقد خرج رسول الله وهاجر بلا عودة وجاءت هذه النفس المعظّمة وجليلة القدر ورفيعة المنزلة، لأنّ نفسنا مقامها عالٍ جدًّا، أعلى من مقام النبيّ! فتأتي هذه النفس وتنحّي النبيّ والأولياء جانبًا وتجلس على ذلك المسند وتحكم وتُصدر الأوامر والنواهي وتخطّط وتوجّه الإنسان وتعيّن له التكليف، إنّها رفيعة المنزلة جدًّا وعلينا أن نعرف قدرها!

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

3
  • هذه النفس جاءت بعد رسول الله وأبعدته وهجّرته إلى عالم الآخرة، وقالت: حتّى الأمس كنت في هذه الدنيا وكنّا نسمع كلامك، أمّا اليوم فحيث وضعت رأسك على التراب وأخذت معك جميع كلامك إلى داخل القبر، وأقفلت بابه فها نحن الآن هنا إن شئنا اتّبعنا عليّا وإن شئنا اتّبعنا أبا بكر، وإن شئنا اتّبعنا إنسانًا آخر، نحن الآن في مقام الحكومة والقضاء نريد أن نعيّن خليفةً لك وذلك الكلام أنّ عليًّا بعدي كذا وكذا، كان إلى الأمس وهو يُفيد بالأمس، الكلام الذي قلته في عليٍّ كان إلى الأمس واليوم لا حضور لك، فإذن أخذت الكلام معك ونحن نقرّر الآن، وحيث إنّ عليًا لا يفيدنا ولا ينسجم مع نفسيّاتنا ونفوسنا الرفيعة المنزلة وجليلة القدر، فإننا نتّبع أبا بكرٍ؛ فهو ينسجم معنا ويجارينا ونحن ننسجم معه وهو لا يستنطقنا ولا يحقّق معنا، وأيّ خطأ نخطئه فهو يبرّره.

  • قصّة خالد ومالك بن نويرة

  • لقد ضرب خالد بن الوليد عنق مالك بن نويرة وهو يصلّي غيلةً وغدرًا، قتله أثناء الصلاة، ولم يكتف بذلك بل زنى بزوجته في تلك الليلة، وقد أورد ذلك المرحوم العلامة في كتاب معرفة الإمام۱. لنفترض أنّ مالك بن نويرة قد ارتدّ وكفر، ولأنّه مخالف لنظام الخلافة ولا يدفع الزكاة لها فهو ساقطٌ عن الوجود ـ لقد كان الأمر هكذا ولا يزال، فالإنسان مقرّبٌ ما دام كالماعز والأغنام يقول: نعم حاضر، ما إن يقول: لست ماعزًا يصبح مرتدًّا ومنحرفًا وكافرًا ومخالفًا ومحاربًا! ويتّصف هذا الإنسان بكلّ ما يلزم للإسقاط والسقوط، لقد كان الأمر هكذا طوال التاريخ! ـ لقد ارتدّ، فلماذا زنيت بزوجته؟ لماذا زنيت بامرأةٍ في عدّة الوفاة؟ 

  • فلأنّ عمر كان على خلافٍ مع خالد في الجاهليّة فقد استفاد على الفور من هذه الفرصة لا لأجل الله وأراد أن يقتله، فجاء إلى أبي بكرٍ وقال له: قد فعل كذا وكذا، لا شأن لنا بقتله مالك بن نويرة ولكن المهم أنّه زنى بزوجته، زنى بمحصنة أيضًا، زنى بذات بعلٍ ولا شيء أفظع من ذلك فلا بدّ من إعدامه. ولم يقل خالدٌ شيئًا بل ذهب إلى أبي بكرٍ ورجع، قال له أبو بكر: أيّ فعلٍ فعلت؟! لقد أرقت ماء وجهنا فبماذا سنجيب الناس؟! 

    1. معرفة الإمام ج٢، ص ٦۱

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

4
  • قال: لا حاجة إلى جواب، قل لقد حصل خطأ. ثمّ قال: لا تغمد سيفًا سلّه الله وجعله في يدك. 

  • فقال أبو بكر: حاضر سمعًا وطاعةً، فلتكن إلى جانبنا ولتفعل ما تشاء. فهذا ليس كذبًا والتاريخ يقوله وأهل السنّة ينقلونه. ۱

  • قصّة عمر والمغيرة بن شعبة

  • وعمر نفسه الذي أراد أن يقتل خالد بن الوليد حصلت هذه القصة بعينها في زمان خلافته مع المغيرة بن شعبة، شهد الشهود على زناه ـ فأيّ زنى كان حتى رآه أربعة شهود! ـ جاؤا وشهدوا بالطريقة التي توجب الحدّ، كان المغيرة بن شعبة من رفاقه ولا يريد أن يخسره بهذه السهولة، فلا بدّ أن يطيل بالأمر، لقد جاء ثلاثة شهود والرابع هو أبو بكرة المعروف والذي كانت له قصّة مع أمير المؤمنين في البصرة حيث كان لديه شكٌّ وشبهة فجاء إلى أمير المؤمنين وقال: لقد حصل لي هذا الأمر فمن جهة عائشة زوج رسول الله ومن جهة أخرى أنت، وقد تذكرت هذا الحديث عن النبي "لم يفلح قوم ولت أمرهم امرأة"٢ وهذه الرواية عن النبيّ أنجتني وأدركت أنّ عائشة لأنّها الآن تحكم وتقود هذا الجيش فهي على الباطل وأنت على الحق. فهذا هو أبو بكرة، وقد كان هذا الرجل من الذين شاهدوا هذا المشهد الحمد لله، ومن الذين رأوا هذا الأمر فجاء ليشهد ومن بعيد هدّده عمر ببيان، فلم يشهد كما شهد الآخرون، قال عمر: شهادتهم ليست صحيحة فاضربوهم حدّ القذف واجلدوهم على ما فعلوا، فتدخّل هنا أمير المؤمنين وقال: إن كنت ستحدّهم فأنا سأعدم المغيرة بن شعبة أيضًا، فخاف عمر بعد ذلك أو أنّه كان يريد أن يحدّ الثاني فتدخّل الإمام وإلا لكان حدّ الثلاثة المساكين.

  • لقد حدثت هذه القصة مع عمر أيضًا، فإذن جميع هؤلاء هم مظاهر للباطل في قبال الحق، فذاك الأمر من أبي بكر وهذا من عمر. ولكن تعالوا وانظروا إلى سجلّ أمير المؤمنين وأنسوا به! انظروا ماذا فعل وكيف تعامل؟ لقد طبّق الحقّ والحقيقة في نفسه وقال لأهل لدنيا كلّها: تفضّلوا، هذه هي الحقيقة. وقال لجميع أهل الدنيا: إن استطعتم فلتجدوا مشكلةً. أمير المؤمنين لم يفرّ، حينها ستطأطئ جميع الرؤوس خجلاً ولن يتمكن أحد من النظر إلى وجه أمير المؤمنين.

    1. . أُسد الغابة، ج ٤، ص ٢۷۷؛ الإصابة، ج ٥، ص ٥٦۱؛ إمتاع الأسماع، ج ۱٤، ص ٢٤۰؛ تاريخ الطبرسى؛ ج ٣، ص ٢۸۰؛ الكامل، ج ٢، ص ٣٥٩.
    2. . مناقب آل أبى طالب عليهم السلام، ج ٤، ص ۱۷: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: لا يفلح قوم ملكت عليهم امرأة.

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

5
  • لماذا حصلت قصّتا خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة؟

  • لماذا حصل ذلك؟ لماذا؟ 

  • لأنّ هذه النفس قد أخرجت النبيّ بعد وفاته من القلب وأجلست بدلاً منه أبا بكر. 

  • فهل فعلَتْ ذلك أم لم تفعلْ؟ لقد فعلَتْ ذلك في البداية، وكان هناك ثلاثة أو أربعة فقط يتّبعون أمير المؤمنين، والآخرون كانوا من أتباع أبي بكر.

  • لماذا؟ فلنجلس ولنفكّر في هذا الأمر، لماذا حصل ذلك؟

  • لأنّهم عندما كانوا مع النبيّ لم يكونوا معه على أساس مبادئ العقل، ففي علاقته مع النبيّ لم يستعمل عقله وأنّ هذا الجالس إلى جانبي الآن هو رسول الله، فعلى أيّ أساسٍ عليّ أن أطيعه؟ ألأنه شقّ القمر؟! لعلّ إنسانًا غدًا يظهر فيفعل ذلك أيضًا. لم يجلس ويبرّر طاعته هذه ويفتح لهذه الطاعة مكانتها الخاصة.

  • ماذا فعل النبيّ؟ لقد أجبر الحصى على الشهادة. ويمكن أن يأتي غدًا مشعوذٌ يفعل ذلك أيضًا، لقد جاء النبيّ بحكاياتٍ من التاريخ واطّلع على النفوس، فالغيب الذي كان أصحاب النبيّ يسمعونه من النبيّ كان على هذا الأساس، وربّما جاء غدًا مرتاضٌ هنديٌّ أيضًا وتكلّم بذلك، أليس هناك من يفعل ذلك؟ لربّما رأى إنسانٌ منامًا، وفي اليوم التالي تحقّق وهذا يحصل أفهذا هو المعيار؟ هل جاء هؤلاء وجعلوا النبيّ في موقعه الحقيقيّ بواسطة التفكير العقلانيّ منهم ثمّ أطاعوه؟ فما تقوله نقول سمعًا وطاعةً؛ لأنّ كلامك حقٌّ وهو والواقع شيءٌ واحد، ونحن وصلنا إلى هذا الأمر فسمعًا وطاعةً ـ وهذا نفسه محل بحثٍ سنتحدّث عنه ـ لم يفعلوا ذلك، بل جاؤا فنظروا أن يا للعجب نمشي في الصحراء ويغلب العطش الجميع ولا يُعثر على ماءٍ أصلاً فيخرج النبيّ فجأةً عصا ويضرب بها الحجر فينفجر الماء... صلّوا على محمّد وآل محمّد وأثيروا الضجيج! تعالوا واشربوا و... الآن سنصغي إلى كلام رسول الله أكثر. 

  • هل التفتّم ماذا أريد أن أقول، لأنّهم رأوا أنّ النبي ضرب العصا بالحجر فنبع الماء فهو حقٌّ إذن. لأنّ رسول الله يركب الجمل ويُلقي زمامه على رقبته وهو يسير وفق الأمر الإلهيّ الخاصّ ويجلس عند باب أبي أيّوب ويُشير إلى النبيّ أن ينزل فهنا منزلك، فإذن نحن نطيع النبي. لأنّ رسول الله يشير إلى الشجرة فتشهد له فنحن نطيعه إذن. فعندما تفكّرون تجدون أنّ دائرة قلبه قد انجذبت إلى الميل والشوق والاهتمام بالظواهر والمظاهر، ورسول الله هذا عندما ينهزم في معركة أحد تهتزّ جميع هذه الأفكار، أوَيُهزم النبيّ؟! فإذن أين ملائكته؟ ألم يقل الله في القرآن: {أن يمدّكم ربكم بثلاثة آلافٍ من الملائكة منزلين}۱؟ ففي معركة بدر أرسلنا ثلاثة آلاف من الملائكة ليساعدوكم، فلماذا لم يبعث في معركة أحد؟ فإذن أين ذلك النبيّ؟! وأين وعوده؟! لا يمكن ذلك. 

    1. سورة آل عمران الآية ۱٢٤

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

6
  • أو عندما يأتي عمرو بن عبد ودّ في معركة الخندق يطلب مبارزًا ولا يتجرّأ أحد ويستيقنون بالموت المحتّم، فعمرو بن عبد ودّ كان إنسانًا من أراد الانتحار وإعدام نفسه بارزه، افترضوا أنّ بيد أحدٍ بندقيةً وبيد آخر سكينًا، ما إن يريد أن يأتي إلى هنا يطلق النار عليه ويقضي عليه في مكانه، فضلاً عن أنّ عمله في هذه المبارزة ليس عقلائيًا وغير قابل للتبرير، لا بدّ في المبارزة من التساوي على الأقل، وقد كان عمرو بن عبد ودّ إنسانًا كهذا، فمن يأتي لمواجهته فهو عازمٌ على أن يقتل لا شكّ في ذلك، والآن جاء عمرو بن عبد ودّ فشكّ الجميع بالنبيّ، لماذا؟ لأنّهم رأوا أنّ موتهم حتميّ، أفهل جاء النبيّ وضمن لكم عُمُرَ الخِضْر؟ فلتذهبوا ولتموتوا ولتقتلوا وتستشهدوا من قال...؟ 

  • لو كان النبيّ لأجل الحياة لما خاض كلّ تلك الحروب، ولما كانت مسألة الشهادة مطروحةً إلى هذا الحدّ، ـ وطبعًا الشهادة في ركاب النبي فلا يحصل خلط ـ ولما كان كلّ هذا الجهاد ولما كانت كلّ هذه المعارك والتوسّع وتوسيع دائرة الإسلام كلّ ذلك لأجل ماذا؟ لأنّ رسول الله جاء ليجعل حياتنا الماديّة والدنيويّة هذه معبرًا وممرًّا لتلك الحياة، وفي هذا المعبر أحيانًا معارك وشهادة وموت وقتل وأحيانًا مرض، وأحيانًا أيضًا يمكن أن لا يحصل ذلك لإنسان ما فيعمّر تسعين سنة ثمّ يموت بأنفلونزا أو سكتة قلبيّة.

  • على كلّ حال يجب أن ننظر إلى هذه الدنيا على أنّها معبرٌ، ومن المعلوم أنّ هؤلاء كانوا ينظرون إلى النبيّ في زمانه كوسيلةٍ لبقائهم في هذه الدنيا على أفضل حال، لا وسيلةٍ للعبور، لا وسيلةٍ للتكامل، إن كان وسيلةً للتكامل فسواءٌ جاء عمرو بن ودٍّ أو جاءت قطةٌ فلا فرق، لا يختلف الأمر، ما دام رسول الله موجودًا فما الفرق بين عمرو بن ودٍّ وأيّ إنسان عادي في المواجهة؟ مثل عمر عندما كانت تنتهي المعركة ويأتون بالأسرى كان يأتي ويقول: ائذن لي يا رسول الله أن أضرب أعناقهم. أين كنت قبل هذا الوقت؟! الآن بعد أن غُلّت أيديهم ولم يعد بإمكانهم أن يتنفّسوا يظهر ويشهر سيفه ويريد أن يضرب الأعناق! أين كنت قبل ساعة؟! الآن جئت تشهر سيفك؟! 

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

7
  • هؤلاء يريدون رسول الله وحياة رسول الله لأجل البقاء في هذه الدنيا، وما دام هذا البقاء محرزًا فرسول الله هو رسول الله، وما دامت تلك الحياة المتوقّعة موجودةً فإنّ رسول الله هو خاتم المرسلين وأشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم السفراء المقرّبين، وهذه الألقاب والعناوين التي يمكن لأيّ إنسان أن يستعملها بحسب ما يقتضيه تفكيره في تعظيم رسول الله وتكريمه. حتى إذا حلّ بلاءٌ صغيرٌ فلا خبر عن ذلك اللقب ولا عن تلك الأوصاف، ولا عن تلك العظمة والمنزلة. المهمّ هو كيف نفرّ وأن نجد مكانًا نفرّ إليه، ألم يفعلوا ذلك؟! ففي معركة أحُد فرّ هؤلاء الثلاثة المحترمون الأوّل والثاني والثالث ثلاثة أيّأم، ثمّ أرسلوا رسولاً إلى المدينة ليروا ما الخبر وهل النبيّ موجود أو غير موجود، ميّتٌ أم حيٌّ، جاؤا وقالوا: لا يزال النبيّ في مكانه تفضّلوا، لنستقبلَكم بباقات الورد. فهؤلاء مجاهدو صدر الإسلام! 

  • فهذا رسول الله وخاتم المرسلين موجود لكي نبقى نحن، ولكي تتحقّق آمالنا، ولكي نصل إلى ما نريد في هذه الدنيا، لنصل إلى تلك المرأة التي نتوقّعها فنجعل النبيّ أمامنا، نفعل ذلك لكي نحصل على ذلك المنزل الذي نريده، ذلك المطلوب والرئاسة التي نقصدها، فنجعل النبيّ أمامنا. أما لو جاء النبيّ وقال: قم بهذا العمل وتزوّج من هذه المرأة واسكن هنا، اسكن في زاوية فحينها ستتبدّل صورة كلّ المعجزات والكرامات والمسائل الخارقة للعادة، لماذا فعل بنا ذلك؟ لم نكن نتوقّع نحن دائمًا في الصفّ الأوّل من صلاة الجماعة خلفه، لقد كنّا دائمًا في ركابه، لقد كانوا يقولون هذا الكلام للنبيّ. فهذا يريد النبيّ وأمير المؤمنين لأجل ذلك، أمير المؤمنين يقول: كلاّ أنا هكذا، هذا يفيدكم وهذا لا يفيدكم والسلام، إن شئت فاقبل وإن شئت فلا تقبل، لذلك فلا يأتي إلى أمير المؤمنين ويذهب إلى أبي بكر.

  • بعدما جاؤوا إلى هنا صاروا يقسّمون بيت المال والغنائم كما يريدون، وكلّ خطأ وفجيعة وشرب خمرٍ وزنا يُبرّر، أنت تعال إلى هذه السفرة وافعل ما شئت، نحن نعرف كيف نغطّي، أنت فقط قل لنا: نعم. ونحن نعرف كيف نحلّ ونفصِل ونتعاطى مع المشكلات، سياستنا للناس راقية جدًّا ونعرف جيّدًا كيف نحلّ المشكلات ونفصِل فيها، فأيّ خطأ يرتكب تحلّ المشكلة، لماذا؟ لأنّ الحكومة وقعت في يد أبي بكرٍ وليست في يد عليّ. تلك التوقعات التي كانت مع الإنسان في زمان النبيّ تنعدم بوفاة النبي. فإذن يهاجر النبيّ من القلب ويُبعّد وينتهي الأمر. 

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

8
  • الذين جاؤوا في زمان رسول الله وجعلوا أعمال النبيّ تحت المجهر وعلى أساس الوصول إلى باطن النبي أطاعوا كلامه، هم الذين لم يهاجر النبيّ من قلوبهم بعد وفاته، ذهب بدنه وبدنك سيذهب أيضًا تحت التراب لأنّ رسول الله كان في قلبه، رأى أنّ النبي حاضر إلى جانبه، النبيّ جالس ولم يذهب إلى مكان.

  • قصّة إراءة أمير المؤمنين النبيّ بعد وفاته لأبي بكر

  • جاء أبو بكر يومًا إلى أمير المؤمنين فأخذ أمير المؤمنين يذكّره ألم يكن كذا؟ أولم يكن كذا؟ أولم يقل لك النبي في ذلك اليوم هذا الكلام؟ قال: يا علي، لقد شككت في هذا الأمر، فإن كان بإمكانك أن تأتيني بعلامةٍ وآيةٍ ... ـ ربّما اهتزّ قليلاً، لا يمكن أن نقول إنّه كان يكذب، ربّما اهتزّ للحظة ففي النهاية هو إنسانٌ ويريد أن يرى أمرًا خارقًا للعادة، هذا إذا أردنا أن نحمله على الصحّة ـ فقال له الإمام: إذا رأيت النبيّ فهل تقبل؟ فقال له انظر فنظر فرأى النبيّ جالسًا، فجأة رأى النبي جالسًا ولم يكن الأمر كذبًا، فقال النبيّ لأبي بكر: أنسيت أنّي نصّبته للخلافة؟! أفخالفته الآن؟! الحقّ مع عليّ وعليك أن تطيعه، ولكن في الوقت نفسه قال: لا يتركك شيطانك. ثمّ أشار الإمام واختفى النبيّ، فقال أبو بكر: لقد رأيت. فقال له الإمام: لا يدعك شيطانك. ذهب وفي وسط الطريق التقى بصديقه عمر فقال له: رأيتُ شيئًا عجيبًا، فقال: امض وشأنك لقد رأيت منامًا فما هذا الكلام؟! إنّ عليًا يفعل في كلّ يومٍ ألفًا من هذه الأفعال أفخُدعت به؟! كأنّ شيئًا لم يكن، عاد إلى مكانه الأوّل فقال له الإمام: أرأيت؟! قلت إنّ شيطانك لن يدعك، إنّه ينتظرك في الشارع، والله أيضًا يأتي به إليك فلا تظن... بل ستلتقي به ـ طبعًا أنا من أقول هذا ـ ستلتقي به ولو كنت إنسانًا لنظّمنا طريقك بشكلٍ آخر. 

  • ما هي النظرة العقلانيّة إلى رسول الله في حياته والتي توجب الثبات على نهجه بعد مماته؟

  • هؤلاء جاؤوا في زمان النبيّ ونظروا إلى رسول الله لا من نافذة الإعجاز ودائرته، ولا من نافذة المظاهر الجذّابة، ولا من نافذة الأمور الخارقة للعادة، بل رأؤوا أنّ الحق هنا، الحقّ هنا، لأنّهم شعروا أنّ النبيّ حقٌّ، نظروا إليه من نافذة الحقّ، لا من نافذة الظاهر، الظاهر ينتهي اليوم وغدًا، لم تكن سيماء النبيّ سببًا للطاعة، بل لأنّهم شعروا أنّ النبي حقٌّ أطاعوه، لأنّهم شعروا أنّ هذا الرجل لا نفس له وتجاوز عن نفسه، وقلبُه صافٍ، والجميع عنده سواسية، ويشعر بآلام الجميع في داخله، ويصف العلاج للجميع، ولا يميّز بين إنسانٍ وآخر، لقد انبسط إشرافه الوسيع ورحمته الواسعة على الجميع بمستوى واحد، فأدركوا أنّه حقٌّ، أدركوا هذا والتفتوا أنّه إن كانت صفات الله ومقام الربوبيّة على سعتها وإطلاقها ستتجلّى في إنسانٍ في هذه الدنيا فهو النبيّ، شعروا بذلك فأطاعوا رسول الله عادّين طاعته طاعة الله لا طاعة جسد النبيّ وظاهره وشكله وشمائله.

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

9
  • فإذن جعلوا المعيار هو الحقّ، وهو عبارة عن أن يجعل الإنسان ما يدركه عقله ملاكًا في كلّ الظروف ـ وطبعًا لهذا مراتب مختلفة ـ ولو أخطأ فلا مشكلة ولكن لا يجعل بين نفسه وبين عقله حدًّا، وإذا أحسّ بشبهةٍ لا يُغمض عينيه، بل يذهب ويسأل واحدًا أو اثنين أو ثلاثة، فإذا انتهى إلى نقطةٍ مطمئنّةٍ بحيث لو جاء الله وسأله وجاء إمام الزمان وطرق الباب ودخل المنزل وسأله أن لماذا فعلت هذا العمل؟ فإنّه يقول بكلّ وضوح: لهذا السبب قمت به. أن يكون هكذا لا أن يتردّد أمام إمام الزمان، أنا ... عفوًا... سامحني ... إن شاء الله أصحّح و... كلا فإنّ الإمام يرجع ويقول: في أمان الله أنا لا أفيدك، من دون مجاملة. يقوم بعملٍ إذا سأل إمام الزمان عنه يجيبه بلا تردّد، وإمام الزمان مطّلعٌ على النفس والضمائر والثمرات والخصوصيّات وجميع المشكلات، وجميعكم تعلمون ولا شكّ في ذلك، إن كنتم تشكّون في زيدٍ وعمرٍ فعليكم أن لا تشكّوا في إمام الزمان، فإنّه مطّلعٌ على كلّ شيء، يعلم كلّ شيء، وكلّ شيءٍ واضحٌ له. علينا أن نقول له بكلّ وضوح:إنّما قمت بهذا العمل الذي قمتُ به، لهذا السبب ولهذا السبب. يمكن أن يقول الإمام: كلا لقد أخطأت. فيقول: نعم أخطأت، لقد قمت بهذا العمل على هذا الأساس. والإمام أيضًا لا يؤاخذ بل يقول: بارك الله بك لقد قمت بالشكل الصحيح، ولكن من الآن فصاعدًا اصنع هذا، يعطي أوامره ويقوم بعمله ويمضي.

  • أمّا لو جئنا وتردّدنا في كلامنا وتلكّأنا، نعم... حاضر... عفوًا... لم ألتفت... هكذا قالوا لي... فإنّه يقول: بل كانوا يقولون لك أمورًا أخرى، فلو جاءتك رسالة من إنسانٍ ما أن اقتل نفسك فهل كنت ستفعل؟! أم تقول له: امض وشأنك. ولو جاءتك رسالة من إنسان ما أن طلّق زوجتك فهل كنت تطلّقها؟ أم كنت تقول: لقد ضُرب هذا على رأسه، فماذا حصل؟! هل يجب أن تسلّم في الأمور السلوكيّة لأنّه وصل خبر عن إنسانٍ ما؟ فهل الأمر سخيفٌ إلى هذا الحدّ؟ كلا، إن كان وصل خبر فلماذا لم تعمل هنا؟ ولماذا لا تعمل هناك؟! ولكن بمجرّد أن قالوا: بايع واتّبع فلانًا أو كلّما تكلّم أحدٌ في هذه الأمور قبلنا منه. هو رأى منامًا، هو رأى مكاشفةً، أفينتهي الأمر؟! فلو رأى مكاشفةً أن ألق بنفسك عن السطح فهل تلقي بها؟ لماذا لا تلقي بها؟ فإذن أنت تكذب وتخادع مدراكتك، وتغطّي حقائقك التي تنبّهك من الباطن؛ لأنّك ترى نفسك غير موافقة للرأي المخالف، فتبحث عن مبرّر وعن توجيه، لأنّ فلانًا رأى منامًا، فإنّ هذه المسألة هي ذات حجيّة لأنّ الطفل فلانًا رأى منامًا، فإذن هذه المسألة لا غبار عليها، فلو كان الأمر كذلك ففي الجهة المقابلة أيضًا هذا الأمر موجودٌ، لقد رأى هذا منامًا وذاك رأى منامًا مخالفًا له أيضًا، هذا رأى مكاشفةً وذاك رأى مكاشفةً أخرى، هذا يصبح دينًا هشًّا، هذا يصبح مصداقًا لـ {إنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت}۱. هذا يصبح تخيّلاتٍ ونفاقًا وخداعًا ومكرًا لا سمح الله.

    1. سورة العنكبوت الآية ٤۱

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

10
  • لماذا ترك الناس أمير المؤمنين بعد وفاة رسول الله؟

  • ألم يقل هؤلاء بعد النبيّ: يا علي لقد قام المسلمون بذلك في النهاية فلا تصعّب الأمر كثيرًا، لا تعقّد الأمر بعد ذلك! 

  • ولو كنت أنا لقلت لهم ـ لم يقل لهم أمير المؤمنين ذلك، فالإمام أرقى بكثير من هذا الكلام ـ لقلت لهم: لو أنّ الناس قالوا لجنابك: قدّم زوجتك التي تحبّها إلى هذا الحدّ ولا يمكنك أن تتخلّى عنها ساعة واحدة لأبي بكرٍ فماذا كنت تصنع؟ ماذا كنت تصنع؟ هل كنت ستقول: حاضر وتقدّمها بيديك كلتيهما؟! أم كنت ستمزّق بطنه؟! ولقلت: إنّه يأخذ زوجتي منّي فما هذا الكلام؟! عمره تسعون سنة... 

  • أو لو قالوا: ألق بنفسك من أعلى السطح فماذا كنت ستقول؟! لقلت: مخطئون. أنتم ألقوا بأنفسكم، أنت إذا صعدت المنبر فلتلق بنفسك من أعلاه! لماذا نلقي نحن بأنفسنا؟! أما الآن حيث يقولون: اترك عليًّا تقول: لقد اتّفق المسلمون على ذلك فلا تخالف أنت أيضًا. أفقيمة أمير المؤمنين هي فقط بهذا المستوى؟! واقعًا لا يدري الإنسان أيبكي على هؤلاء الناس أم يضحك؟! هل صار أمير المؤمنين سافلاً والعياذ بالله إلى هذا الحدّ والمستوى من عدم الاهتمام بحيث إنّه مثل الماء والخبز واللبن إن لم يمكن الحصول عليها يؤكل الخبز والخضار، وإن لم تمكن هذه فتلك، وعليٌّ أيضًا إن لم يحصل فلا بأس، فقد جاء أبو بكر مكانه فليس الأمر مهمًّا. فهل التفتّم الآن كم هو دين الناس؟ هل التفتّم الآن أنّ هؤلاء الذين كانوا في زمان النبيّ يأتون ويحيطون به واحدٌ يمسح رأسه بماء وضوئه۱ وآخر يشرب ما يتبقّى من الماء استشفاءً به، كلّ ذلك منهم كذبٌ وأمور فارغة؟! فما لم يأت عمرو بن عبد ودّ يفعلون ذلك، وما لم يأت خالد بن الوليد من وراء الجبل ويلتفّ عليهم بالهجوم يفعلون ذلك. يقولون: رسول الله! رسول الله! فلترفعوا أصواتكم أكثر بالصلوات! وكلّما كان العدد أكثر والصراخ أكثر فاعلم أنّ الأمر هناك أسفل! الأمر أسفل. الإنسان العاقل لا يصرخ ولا يقوم بالتصرّفات الفارغة، الإنسان العاقل يفكّر في نفسه، رزين ومتين ومنضبط، عمله وسلوكه على أساس حساب، فالصراخ والضجيج والتمثيل الذي يمارس في بعض المواكب والمجالس أمور كانت في زمان النبيّ أيضًا ولم يكن الأمر مختلفًا! يأتي امتحان فترى أن يا للعجب! كم رجلاً بقي في داخل الغربال عالقًا؟ الجميع سقطوا في الأسفل ولم يبق إلا ثلاثة أو أربعة. 

    1. . المناقب، ابن شهرآشوب، ج ۱، ص ٢٢۷.

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

11
  • لماذا لم ينجح في زمان المرحوم العلاّمة وبعد وفاته إلا بضعة معدودة في بعض الاختبارات؟

  • قال لي المرحوم العلاّمة: يا فلان لم ينجح في هذه المسألة إلا بضعة معدودة. ممّن؟ من رفقائه هو. في بعض المسائل السابقة، كلّ واحد مضى بنحو من الأنحاء. بعضهم ذهب ولم ينظر خلفه ليرى ما إن كان السيّد الطهراني موجودًا أيضًا! أبدًا، وبعد بضعة أشهر دارت الأمور فجاء وقال من جديد: السلام عليكم. وذاك هكذا، وذاك مثله حتّى الذين كانت في أذهانهم أمور. فكم كان من هؤلاء الذين يعترضون على كيفيّة عمله وطريقته وأسلوبه! أو الذين كانوا يقدّمون الاعتراض ملفوفًا وبالكناية! أو الذين كانوا يراعون مقامه فيحتفظون به في أنفسهم! وهو مطّلع على جميع السرائر وخبير بها. 

  • ذهبت ذات يوم إلى إحدى المدن الباردة لزيارة أحد الرفقاء والأصدقاء الذين هم أكبر سنًّا من المرحوم العلامة، وكان قد أدرك الشيخ الأنصاري والسيّد الحدّاد والمرحوم العلاّمة والأعاظم، ذهبت إليه وكان الفصل شتاء وكان قد نصب كرسيًّا۱ وجلسنا حولها، فتأوّه وقال: يا سيّد محمّد محسن لقد وصل هؤلاء إلى مقامٍ... ـ وأشار إلى أحد الناس الذين انتقلوا إلى رحمة الله ـ فماذا فعلنا نحن لأجل الإسلام؟ ماذا فعلنا نحن لأجل الله؟ فلمّا سمعت هذا منه التفتُّ إليه وقلت: والله لا أدري أأضحك لحالك أم أبكي؟! من مضى من عمره سبعون عامًا ورأى تلك التجارب، وسمع ذلك الكلام وكان مع الأعاظم أينبغي في آخر عمره أن يقول هذا؟ ! لم تمض عدّة أيّام حتى صدرت من ذلك الرجل الذي كان يغبطه أعمالٌ، فذهبت إليه يومًا وقلت: هل أدركت الآن من هو الذي عمل لأجل الإسلام؟! وكانت عبارته هكذا: يا سيّد محمد محسن لقد خسرنا عمرنا، فأدركونا! 

  • هل تكفي نورانيّة المجالس وتغيّر الأحوال فيها؟

  • لماذا يجب أن يكون هكذا؟ لماذا لا يعمل الإنسان بهذه الكلمات التي يسمعها؟ فقط نكتفي بأنّ فلانًا مجلسه فيه نور وتتغيّر حال الإنسان فيه. إن كانت تتغيّر الحال فهذا شيءٌ في مكانه، المهمّ أن ماذا استفدت؟ فقط ننتظر من يوم أحَدٍ إلى يوم أحَدٍ لنشارك في مجلس العزاء الذي يقيمه الشيخ الأنصاري وتتغيّر أحوالنا ويتكلّم ببعض الكلام إلى يوم الأحد القادم، هذا وينتهي الأمر. ثمّ نفعل ما نريد ونتصرّف في السوق كيف نشاء ونتعامل مع الناس كما يحلو لنا فنحن لدينا الشيخ الأنصاري وقلبنا مطمئن أنّ لدينا رجلاً من الأعاظم وأيّام الآحاد لدينا مجلس عزاء، سيأتي يوم يا عزيزي تتوقّف فيه أيّام الآحاد هذه، ولن يكون هناك الشيخ الأنصاري والسيّد القاضي والسيد العلامة، فلتدّخر من الآن إلى ذلك الوقت حيث ستكون المسكنة هناك أن لا يوجد لا الشيخ الأنصاري ولا المرحوم العلامة ولا غيرهما لكي تتمكّن من الوقوف على رجليك وتحدّد طريقك.

    1. آلة قديمة للتدفئة تشبه الطاولة تغطّى جوانبها ويشعل في داخلها مدفئة وتوضع فيها الأرجل فيدفأ الجسم. (م)

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

12
  • كيف تعامل تلامذة العلاّمة معه؟

  • كان المرحوم العلامة يقول: نحن في هذه المدّة التي قضيناها مع الرفقاء تكلّمنا معهم بما يفوق حاجتهم من المواضيع، أنا أقول إذا عملوا بعُشر هذا الكلام الذي قلته يصحّ عملهم. لقد قلنا تسعة أضعافٍ زيادةً، ففي النهاية كان يتكلّم في كلّ مجلس ويطرح أمرًا ما، لقد مضى على وفاته عشر سنوات ولنفترض أنّه الآن موجود ويتكلّم لعشر سنوات أخرى فبماذا يختلف الأمر؟ فهل كان سيشقّ القمر في هذه السنوات العشر ويُظهر اليد البيضاء؟ كلا، لكانت السنوات العشر تأتي أيّامها ولياليها وتمضي مع غضّ النظر عن حالاته هو فيها، نحن ماذا كنّا نستفيد؟ يعني هل هذه السنوات العشر في تاريخ الزمان سنواتٌ مميّزة أم أنّها كغيرها؟ وربّما تكلّم في هذه العشر سنوات أقلّ لأن حاله سيكون غير مساعدٍ على الكلام. فإذن لماذا كان هذا الكلام؟ فإذن لم يكن هناك حاجة لأن يبقى هذه السنوات العشر، لم تكن هناك حاجة. إن كان هناك أمر ما فقد تكلّم به، وتكلّم أكثر أيضًا ولكن هل تعلمون لماذا لم يعملوا بما قال؟ لماذا؟ 

  • لأنّهم لم يتعاملوا مع ذهن العلامة وفكره في حياته، بل تعاملوا مع شكله الخارجيّ: ما شاء الله، يا لها من عمامةٍ جميلةٍ ومرتّبة! ما هذه اللحية! ما هذه الشخصيّة! يا لها من عصا! يا لها من أبّهةٍ وعظمة! 

  • هذا كلّه لا يفيدني، إن كان موجودًا فهو له وماذا يفيدني أنا؟ فالعمامة شيءٌ يضعه على رأسه هو لا على رأسي، والعصا في يده هو وليست في يدي، وبالنسبة إلى هذا الشكل الظاهري فلكلّ إنسانٍ شكله الخاصّ به.

  • لقد كنت شاهدًا آنذاك أنّ هناك من كان يأتي ويقف في أوّل الزقاق وينحني مبديًا التعظيم ثمّ ينصرف إلى منزله، لقد رأيت ذلك بعيني، لكن كلّ ذلك كان فارغًا وتخيّلاً وتوهّمًا وخيالاً، كلّه كان خيالاً، حدث امتحانٌ فتعجّبنا، لم نكن نتصوّر أن يحدث ما حدث في زمان وليّ الله، وقد حدث على أفضل صورةٍ وكان في أرقى المراتب وما كتبه في الروح المجرد لا يصل إلى ما حدث من بعده هو. 

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

13
  • عجيبٌ! أقول: كم تساوي اثنان مضروبة في اثنين؟ 

  • فيقول: ستة! 

  • ـ عجيب! ألم تفعل ذلك أنت بنفسك؟! ألم تقل ذلك بنفسك؟! 

  • ـ هكذا، هذا هو الموجود.

  • ـ عجيب، لو أنّ أبانا الآن كان موجودًا كنت تقول هذا الكلام أيضًا؟

  • واقعًا قلت لأحدهم لو أنّ أبانا كان حيًّا لأجبتني بهذا الجواب أيضًا؟! فأين عقلك؟! 

  • كان من المعلوم أنّه بوفاته قد أبعده عن قلبه، بعد عدّة أيّام من البكاء والضرب على الرأس والأحاسيس، وبعد أن ينتهي الأمر يقولون: فلنمض إلى حياتنا في النهاية، الحمد للّه، كلّ شيءٍ موجود والمجالس قائمة والحمد للّه، وهناك من يرفع هذه الراية من جديد، ألم يقولوا ذلك؟! وهل كانت هذه الراية على الأرض ليأتي من يرفعها؟ كلّ ذلك لأجل ماذا؟ لأنّهم في حياته كانوا يتعاملون مع العباءة والجبّة، مع الظاهر ومع العصا، ولو نزل العلاّمة نفسه من الطابق العلويّ بقميصٍ وبنطال لنظر هؤلاء أنفسهم الذين كانوا يقفون وتساءلوا: ما هذا؟! 

  • هذا الكلام الذي أقوله هو نفسه كان يقوله لي، ولست أقوله من نفسي، والله شاهدٌ، هو نفسه كان يقوله، هو نفسه كان يقول هذه العبارة، وأنا عازمٌ في هذه المجالس أن أتحدّث بأقلّ ما يمكن من نفسي، إلا أن يكون هناك حاجةٌ للتوضيح، فهذه أمور سمعتها منهم، والأمر هو هكذا بيني وبين الله.

  • لماذا الأمر هكذا؟ [لماذا يقولون:] الكلام الذي كان يقوله آنذاك يختلف عمّا نحن فيه، لماذا؟ لأنّا نحن نستمع إلى العمامة والجبّة الصفراء والعباءة الناعمة النجفيّة. فقد كانت لديه من هذه الجبب والألبسة المختلفة، ولم يكن مثلي دائمًا بشكلٍ واحد، كان لعمله حسابٌ دقيق. 

  • أحكام لبس السواد وبعض آداب المآتم

  • كان من المقرّر أن أتكلّم في منزل المرحوم العلامة وكانت عباءتي سوداء ولون ثيابي غامقًا فقال العلامة: إنّ يوم العيد يختلف عن يوم العزاء؛ فقم وبدّل ثيابك والبس ثياب العيد وتعال. إنّ عمله كان دقيقًا بخلافنا نحن. ففي يوم العيد كان يلبس ثوبًا وفي يوم العزاء يلبس ثوبًا، لم يكن يلبس الأسود فالأسود مكروه، حتى لأجل الأئمة لم يكن يلبس السواد. فقط ترتفع كراهته في ما يخصّ سيّد الشهداء، فلا يكون مكروها لا أنّه يكون مستحبًّا ـ التفتوا ـ ولكن ليس لدينا أنّ الأئمة لبسوا السواد على بقيّة الأئمة. اللباس هو اللباس الأبيض ولبس السواد على الأموات أيضًا وفي مجالسهم بدعة، هذه الألبسة السوداء التي يلبسونها في مجالس الفاتحة كلّها خطأ، فإذا مات إنسانٌ يذهب الآخرون للتعزية ولا يلبسون السواد.

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

14
  • يقول أحد الرفقاء: جئت ذات يوم لأخبر المرحوم العلامة بموت رجلٍ، فقلت: كيف أخبره بحيث لا يتأثّر؟ فجئت وجلست وتظاهرت بالتجهّم، فقال ما الخبر؟ فقلت: أريد أن أخبرك بأمرٍ ولكن لا أدري كيف، فقال قل: قلت: أطال الله في عمركم لقد توفّي فلان.

  • فقال: يا له من عملٍ جيّدٍ قام به! كم هو عملٌ جيّد! وضحك: هنيئًا له استراح من هذه الدنيا. لا أدري إن كان قال ذلك أم لا كان يقول كلامًا من هذا القبيل: ليته فعله هذا الأمر الحسن قبل هذا! لا يمكن للإنسان أن يفرّ من تقادير الله. لقد أعاننا الله أن نخبره بطريقة ما، فتلقّى الأمر بهذه الطريقة، وهو نفسه أيضًا ليلة السبت عندما أصيب بالذبحة القلبية التي أدّت إلى وفاته فيما بعد، جاؤوا ليضعوه على حمّالة وينقلوه حيث كانت الأزقة محفورة ولا يمكن للإسعاف أن تأتي، وكان الجميع في حالة حزن فقال: لماذا لا تقولون لا إله إلا الله؟! وحّدوا الله وكان يضحك. ذهبنا إلى المستشفى فرأينا أنّه يضحك مع الذين كانوا في قسم العناية الفائقة وكأنّ شيئًا لم يكن. 

  • لقد تغيّرت الأحوال الآن واختلفت الأوضاع، كلّ هذا السواد خطأ ومكروه، وعلى الشيعيّ أن يكون كما قالوا، وعليكم أن لا تلبسوا السواد في العزاء، فلم ترتفع كراهته إلا على سيّد الشهداء، حتّى بقيّة الأئمة لم يكونوا يلبسون السواد، والآن جئنا نقول: أفيعقل؟! إنّ عرف هذا الزمان هو هذا، يقولون إنّ الإنسان قلّل من الاحترام ولم يراع الآداب و... شيئًا فشيئًا يفارق الإنسان هذه الدنيا فيرى أنّ كل هذه المراعاة والالتزامات والأعمال لم يكتب منها شيءٌ في سجلّه أبدًا، لقد قمت بها عبثًا، رعاية الآداب؟ إن كان الأدب أدبًا إسلاميًّا فهو جيّدٌ، فالذهاب إلى المجلس أدبٌ إسلاميّ، وتعزية أصحاب المصيبة أدبٌ إسلامي، وأخذ الطعام إليهم لأنهم مصابون أدبٌ إسلامي، هذا كلّه أدبٌ إسلامي وعلى الإنسان أن يقوم به ورسول الله أيضًا كان يقوم به. ولكن لكلّ شيءٍ حدٌّ، فبعد ثلاثة أيّام ينتهي الأمر، ليس لدينا سبعة أيّام والأربعون هو بدعة من الأساس، وليس لدينا ذكرى سنوية وسائر العادات، وفق السنن والروايات التي وردت فقد أمر رسول الله أن يعود الناس بعد ثلاثة أيّام إلى ما كانوا عليه، ثلاثة أيّامٍ من العزاء وينتهي الأمر. هذا هو أمر رسول الله الصريح، وجميع الفقهاء كتبوا ذلك. ۱ 

    1. . الكافى، ج ٣، ص ٢۱۷؛ اربعين در فرهنگ شيعه، ص ۸٦.

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

15
  • حسنًا، فلماذا كلّ هذه العادات والتقاليد؟ إنّها لكي نأتي وبدلاً من أن نجعل هذه الحقيقة في قلوبنا ونفوسنا ثمّ نستفيد من وليّ الله هذا كمعبرٍ وطريقٍ ودليلٍ حوّلناه إلى صنمٍ، وبدلاً من الطاعة توجّهنا إلى أصنام أنفسنا، فهذا السلوك ليس سلوكًا عقلانيًّا، فإذا مات فلا شيء يبقى ليحتفظ به الإنسان.

  • ما هو الأساس الذي تبني عليه علاقتك مع النبيّ أو الوليّ؟

  • لقد سمع الكثير من الكلام ولكنّ الاستماع لا يكفي، ذلك القيام النفسي والوجودي الذي يجعل الإنسان في الطريق الصحيح هو المهم، وليس الاستماع فقط، الاستماع يساعد ولكنّ المهمّ هو ما يُجعل أوّلاً، فعندما يريدون أن يبنوا مبنى في البداية يؤسسون أساسًا وهذا هو المهم، والموادّ المستعملة فيه هي المهمّة، هل كان الإسمنت المستعمل فيه جيّدًا أم مغشوشًا؟ هل كان الإسمنت قد مُزج في ظروف مساعدة وبمعايير جيّدة أم لا؟ لأنّ لبقائه أيضًا شروطًا خاصّة، حيث يجب أن يكون الهواء معتدلاً والهواء الحار مضرٌّ، ويجب أن يُترك مدّة ثمانية وعشرين يومًا ـ إن كنت أقول صوابًا فليؤيّد الرفقاء المهندسون كلامي، وإن كنت أقول خطأ فليصححوا ـ فيجب أن تكون هناك ظروفٌ مساعدة، وإذا انتهت الثمانية والعشرون يومًا بتمامها بعدها تصبّ الأعمدة، الآن يصبّونها من اليوم التالي وهذا ليس صحيحًا، لا يبالون هل كانت جيّدة أم لم تكن، بعضهم يضعون التراب وبعضهم يضعون الرمل الأحمر، وبعضهم يضعون الكلس، في العهود السابقة لم يكن هناك إسمنت وكانوا يمزجون الكلس وبعض الموادّ الأخرى وهذه المآذن التي ترونها الآن كلها مبنية من ذلك وتدوم طويلاً. 

  • فالأمر يرتبط بأنّك في زمان النبيّ وولي الله عندما كنت على علاقةٍ معه ما هو الأساس الذي أسّسته لنفسك؟ هذا هو المهم. فحسبما يكون، سيكون البناء الذي عليه، إمّا قابلاً للصمود أم لا بل تأتي ريحٌ أو زلزالٌ فيتحطّم، وبناء آخر لو جاء الزلزال بقوّة عشرة درجات ريختر فإنّه يبقى، لماذا؟ لأنّ الأساس محكمٌ.

  • لقد رأينا هذا الأمر، لم يبق المرحوم العلامة بيننا مدّةً يسيرة، فكم سنةً بقي بيننا؟ لقد توفّي وكان في الواحدة والسبعين من عمره، وكان على الأقلّ مشغولاً بهذه الأمور منذ الخامسة والثلاثين، فقد تكلّم أربعين سنةً وواقعًا عجيب أن يتكلّم إنسانٌ ما أربعين سنةً ويبيّن الأمور، لقد كنت أقول: لو أنّ إنسانًا جاء إليه شهرين فهذا كافٍ وهو يُدرك بذلك حقيقة الأمر. لقد بيّن أربعين سنةً، خمسًا وثلاثين سنةً، ثلاثين سنةً، سواءٌ كان مستقلاً أو مرتبطًا بأستاذه، بيّن الأمور للناس وفجأةً ترى أنّه بذهابه ذهب كلّ شيء، لماذا؟ لأنّنا لم نكن بعقلنا وبمعاييرنا العقليّة، كنّا مع الحالات، كنّا مع الأساليب، كنّا مع نورانيّته نسير ونشعر بالصفاء، كنّا نشعر بالحال الجيّد مع كلماته الجميلة وتوضيحاته وتفسيراته العذبة، ولكن هل جعلنا لذلك الكلام منذ ذلك الحين مكانًا في أنفسنا أم أّنّنا اكتفينا بالوجد، هل عزمنا أن نكون كما يقول؟! أم أنّه فقط كان دمعنا يجري؟! وننظر إلى ملامحه الملكوتيّة ونستفيد من إفاضاته ويا له من جوٍّ وحال؟! الآن أيضًا نضرب كفًّا على أخرى ونتحسّر أن يا له من زمانٍ مضى ويا لها من مرحلة! ليتها تعود! بأيّهما نحن سرنا؟ هل كان سيرنا عقلانيًّا أم ظاهريًّا آنذاك؟! 

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

16
  • هل معنى الحاجة إلى الأستاذ أنّه يتوفّر بشخصه في كلّ الحالات؟

  • الأستاذ، كما هو موجودٌ في بعض الأذهان ـ وهذه الأمور التي ذكرتها هي لرفع تلك الإبهامات ـ من أنّ المرحوم العلامة ذكر في كتابه أنّ الإنسان يحتاج إلى أستاذٍ، فهو لا بمعنى أنّ الأستاذ يتوفّر للإنسان في كلّ الحالات والظروف وبأيّ نحوٍ. كلا، ليست المسألة كذلك ـ وطبعًا سأوضّح هذا الأمر بشكلٍ مفصّل في الجزء الثالث من أسرار الملكوت ـ كلا ليس الأمر كذلك، بل مراده أنّه إذا تعلّقت المشيئة الإلهيّة بأن يصل الإنسان إلى أستاذ فعليه أن لا يتأمّل ولا يتوقّف، أمّا لو لم تتعلّق المشيئة... أفهل كان له هو أستاذٌ؟! هل كلّ إنسانٍ يريد أن يصل إلى أستاذٍ فإنّه يجده عند الصباح عندما يلبس ثيابه؟! أفهل الأستاذ واقفٌ عند الباب يطرقه، لا بدّ أن ينهض ويحقّق ويدقّق! لم يقل أحدٌ أنّ عليه أن يلبس ثيابه ويحمل جواز سفره ويبحث في كلّ البلدان، لا وجود لهذا الكلام، إنّها إرادةٌ واحدة وعزيمةٌ واقعيّة على أن يجعل الإنسان نفسه تحت تصرّف الأستاذ، هذا الإنسان إذا وجد أستاذ أمامه وتوفّر له وتهيّأ فعليه أن يقبل، هذه هي المسألة. وإلا فقد حصل له هو بنفسه أنّه بقي لسنواتٍ دون أن يصل إلى أستاذٍ فماذا كان يفعل؟! ما ذكره في الكتاب من نسبة الإطاعة إلى بعض الأفراد هو لأجل التأدّب، فقد سمّى بعض الناس أستاذًا له بسبب كثرة رعايته للأدب، ولكن نحن لدينا اطلاع كيف كان الأمر. 

  • الإنسان يحتاج إلى أستاذٍ من جهة أنّه مساعد لا من جهة أنّه أصلٌ وأساس، فحيث إنّه لم يكن هناك أستاذ فلا خبر عن شيء، وأمّا إذا وجد الأستاذ انتهى الأمر ولا علاقة له بي، فقط هكذا؟! وما إن وجدت أستاذًا تذهب وتجلس في بيتك؟! كلا يا عزيزي، إنّها بداية المشكلات، إنّها بداية الأزمات. 

  • كه عشق آسان نمود اول ولى افتاد مشكل ها***
  • يقول: بدا لي العشق ميسورًا وها لاحت نوائبه. 

  • إلى الآن لم تكن تعلم أنّهم يريدون منك تكليفًا، وقد علمت الآن فصار تكليفك مضاعفًا مئة مرّة، إلى الآن لم تكن تدري، كانوا يتعاملون معك بطريقةٍ ما وبما أنّك الآن عرفت فإنّهم سيحاسبونك على كلّ شيءٍ وسيستخرجون الشعرة تلو الأخرى من العجين. هكذا هي حقيقة الأمر.

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

17
  • ما دور الأستاذ في حياة السالك؟

  • الأستاذ كالطبيب، فإذا ما وصل الإنسان إلىه فعليه أن يعمل بوصفته، أما أن نكتفي بذهابنا إلى الطبيب ودفعنا أجرة المعاينة ونأخذ الوصفة ونضعها في المكتبة، ففي اليوم التالي سيموت المريض بلا تردّد، ولا مزاح في ذلك أيضًا. كلا يا عزيزي عليك أن تعمل، قال: خذه إلى المستشفى! فعليك أن تأخذه إلى المستشفى، قال: عليك أن تعطيه تلك الإبرة! فعليك أن تعطيه إيّاها، إذا تأخّرت قليلاً عن معالجة الخانوق، خنق المريض وقتله. إذا أصيب بانعقاد الأمعاء فإنّه إذا بقي ست ساعات يموت ويجب أن تُجرى له عمليّة فورًا، إذا أصيب بجلطة قلبية فلا بدّ أن يؤخذ إلى المستشفى وأن يتناول أدويةً ضدّ التجلّط وأن يخضع للعناية الفائقة وإلا مات، فبمجرّد الذهاب إلى الطبيب لن ينتهي الأمر.

  • وهو نفسه كان يقول ذلك. هو قال لي: عندما كنت في خدمة السيّد الحدّاد لم أكن هكذا... إنّ الأستاذ يتعامل مع الإنسان بالطريقة التي يختارها الإنسان لا أكثر، فإذا قدّم عشرة بالمائة فالأستاذ أيضًا يتعامل معه بمقدار عشرة بالمائة لا أحد عشر، وإذا قدّم عشرين بالمائة فإنّه يتعامل بمقدار عشرين بالمائة وإذا قدّم ثلاثين بالمئة فإنّه يتعامل بمقدار ثلاثين بالمئة. فليست المسألة بهذه البساطة، أنتم اعتقدتم أنّ هناك حلوى، كلا ليس الأمر كذلك.

  • كان يقول: عندما كنت عند السيّد الحدّاد كنت أقتل نفسي حتّى أصل إلى ما هو موجودٌ هناك. فما معنى كنت أقتل؟ يعني لم أكن أفهم وأدرك كلامه، كان يقول كلامًا فكنت آتي به إلى نفسي وأصعد به وأهبط وأطبّق نفسي عليه، هل أنا كما يقول أم لا؟ فإن كنت هكذا فبها، وإن لم أكن كنت أمرّن نفسي ـ وهذا ما يسمّى التمرين العقلاني ـ كنت أمرّن نفسي وكنت أجرّها إلى الكلام الذي قيل وآتي بها وأقرّبها. ثمّ كان يرتفع درجةً أعلى، ومن جديد كنت آتي وآخذ هذا الأمر وأقارنه مع معتقداتي فإذا وجدت أنّها مخالفة ـ لأني كنت أرى أنّه حقٌ ـ كنت أعيد النظر حتّى تتحقّق هذه البذرة في نفسي وهذا التحوّل وكنت أصل إلى الأمر، وحيث أنّه كان يرى أنّ السيّد محمد الحسين قد وصل ففي اليوم التالي هناك مرتبةٌ أعلى. هل التفتّم؟ هناك أعلى وأعلى ولو أنّه من البداية قال كلامًا واحدًا لأصابته السكتة منذ ذلك الوقت، ولما أمكنه أن يتحمّل.

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

18
  • فما هي الأسرار إلهيّة حسب تصوّركم؟ ما هو السرّ باعتقادكم أنتم؟ السرّ هو الشيء الذي إذا قيل لك، قال الجميع: هذا كافر ويخرجون. فهو كافرٌ ويقول كفرًا ما هذا الذي تقول؟ ماذا يصنع هذا؟ ـ طبعا أنا لست هكذا، أنا لست من أولياء الله فلا تقولوا أنّه جاء في الأثناء ليلبس لباسًا، كلاّ فأنا مثلكم ولا أختلف عنكم وإنّما أبيّن لكم الطريق فحسب أن هذا هو والأمر هكذا ـ بمقدار ما نغيّر أنفسنا فإنّهم يسايروننا، وإذا رأوا أنّنا لم نوصل أنفسنا إلى تلك المرحلة، فإنّهم أيضًا هم يبقون في المرحلة الدنيا سنة سنتين خمس سنوات عشر سنوات وعشرين سنة ومائة سنة، يا له من سيّد جيّد! يا لها من طلعةٍ جميلةٍ يمتلكها! يتركك في كلمات (يا لها! يا لها!) هذه إلى أن نقول:{ إنّا لله وإنّا إليه راجعون}.۱ 

  • أصلاً لا يبيّن، أصلاً لا يترشّح منه شيء، أصلاً لا يرتفع إلى ما هو غير مقبول للإنسان في مرتبته، يأتي ويضحك ويتكلّم ويدعو ويُعطي ويُهدي، يقوم بكلّ ذلك ويرضى الإنسان أيضًا ويفرح ويسرّ، ولكنّها عشرة بالمائة وهناك آخر يتعامل معه بنسبة العشرين بالمائة، وآخر كالمرحوم العلامة والسيّد الحداد اللذين كانا بمستوى المائة في المائة، كان ينظر في كلّ ما يقوله ويتّبعه حذو النعل بالنعل، يقول هذا، فيجده يطبّقه، ويقول هذا فيجده يقبله، تقدّمَ وتقدّم حتى صارت المراتب واحدة، بما أنّك صرت مساويًا فكلّ ما في النفس ينعكس كما هو حال المرآة. لذلك كان يقول: يا فلان لقد أعطيت كلّ ما عندي إلى والدك، هكذا.

  • ليس الأستاذ كما تتصورون، بل يأتي ويضع يده على الأمور التي هي خلاف توقّعاتنا، لا كما تتخيّلون من أنّه يضع الحلوى في أفواهنا. الحلوى! لو كان هكذا لصار الأربعة مليارات من الناس الذين هم في الدنيا من تلامذته. كلا يا عزيزي، فهؤلاء الذين يفرّون من الحق إنّما يفرّون لهذا السبب ويقولون: لا يتدخّلن السيّد في أمورنا. 

  • كان هناك رجلٌ فاضلٌ في طهران وكان على ارتباط بي أيّام الدراسة، جاء إليّ وقال: يا فلان أريد أن أذهب إلى والدك.

    1. البقرة ۱٥٦

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

19
  • فقلت له: إنّ والدي لا ينفعك.

  • فقال: لماذا لا ينفع؟ أنت لا تفكّر بنا.

  • فقلت: سأنقل لك شذرةً عن أبي، فإن شئت فاذهب وإن شئت فلا تذهب، فقلت له: إنّ أبي سيتدخّل في جميع شؤونك: في منبرك، في محرابك، وفي زوجتك وأولادك، وكيفيّة ارتزاقك، وكيفيّة دراستك وأصدقائك وذهابك وإيّابك. 

  • فكّر قليلاً وقال: سآتي إليه ولكن بشرط أن لا يتدخّل بي.

  • فقلت: فإذن من الآن لا تذهب ولا تسمح له أن يتدخّل.

  • كلا كلا، فذهب ولم يعد هناك خبرٌ عنه. أحيانًا نكون على تواصلٍ ولكن لا خبر عن ذلك الأمر.

  • إنّه لم يجلس هناك على طريقة المواكب والهيئات ليأتوا ويحيطوا به ويلطموا على صدورهم، إنّ لديه عملاً، وليس لديه وقت، له حياته وله ألف شغلٍ، جاء ووضع وقته وفهمه وعمره لنا، نحن جهّال العوام و... وضع لنا ذلك ثمّ بعد ذلك يسمع الإنسان من هنا ويخرج الكلام من هنا، أفهل أنا مريض، هل أنا عاطلٌ عن العمل؟! إنّه يضع يده على الأمور المخالفة لطبعنا، المخالفة لحيثيّاتنا وتوقّعاتنا ونوايانا، وما جعلناه أصلاً في علاقاتنا وأعمالنا وارتباطاتنا. عليك من الغد أن لا تعمل هذا العمل، ومن الغد ستخرب كلّ الأمور وهذا هو الأمر في أيّام رسول الله.

  • ألم يكن يفعل ذلك؟! طبعًا إذا وجد في إنسانٍ استعدادًا كان يفعل ذلك، في بعض الأحيان كانت تحدث أمورٌ أخرى بحيث لا ينبغي أن يكون هذا الإنسان موجودًا هنا أكثر من ذلك، فكان يقول له كلامًا بحيث يذهب في حال سبيله، كان يفعل ذلك والجميع أيضًا كانوا يفعلون ذلك وهذه الطريقة كانت عند الجميع فما هو هذا؟ إنّها التربية والتكميل والوصول إلى هناك .

  • يقول أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله: طبيب دوّارٌ بطبّه۱ ، النبي طبيبٌ والأدوية التي يختارها أحيانًا تكون مرّةً، فالحبوب والأدوية أحيانًا كانت مرّة ـ لم تكن كما هي الآن على كلّ دواءٍ مرٍّ غلافٌ، أحيانًا يحتاج إلى جراحة، ولم تكن جراحةً يكون من أوّلها إلى آخرها تخت التخدير، ففي الزمان السابق كان الأطبّاء القدامى إذا أجروا جراحةً يجرونها من دون تخديرٍ، كانت هناك بعض الأدوية والأعشاب التي تخدّر إلى حدٍّ ما ، فكانوا يجرون عمليّات للمعدة وللزائدة فكان المسكين يعاني الأمرّين، وكانوا يربطون الأيدي حتى لا يتحرّك من شدّة الألم، فمن شدّة الألم لم يكن يحتمل. فأحيانًا هكذا يكون الأمر يعني يأتي رسول الله ويضع يده في المكان الذي يجب أن تتجاوزه، إن لم تتجاوزه توقّفت. هذا هو منهج ومدرسة الأعاظم ومدرسة السلوك.

    1. . نهج البلاغة( عبده)، ج ۱، ص ٢۰۷، خطبه ۱۰٤.

السلوك العقلانيّ والعلاقة مع الأستاذ - شرح (ولا يدع أيّامه باطلاً)

20
  • ما هي مصاديق الأستاذ المختلفة في السير والسلوك؟

  • إنّ قولهم: يحتاج الإنسان إلى أستاذ صحيحٌ نعم ـ ولكن من هو الأستاذ؟! ـ ألم يكن المرحوم العلامة نفسه أستاذًا؟! 

  • إنّ حاجة الإنسان إلى الأستاذ تعني حاجته إلى المساعد والمرشد، لا إلى شكلٍ ظاهريٍّ يأتي ويجلس في مكانٍ ويقبّل الإنسان يده، كلا ليس كذلك، يحتاج الإنسان إلى مرشدٍ، وهذا المرشد يمكن أن يتحقّق في أيّ مكانٍ، إمّا شخص الأستاذ أو الإرشادات التي قام بها أو الأمور التي كتبها، كلّ ذلك هو حقيقة الأستاذ الذي نتحدّث عنه في السلوك العقلاني. 

  • طبعًا ما كنت أنوي التحدّث عنه فلم تسنح الفرصة هو أنّ السلوك العقلاني بهذه الطريقة يحفظ الإنسان من خطرين:

  • الأول: القشرية.

  • والثاني: اللاأباليّة . 

  • وطبعًا بملاحظة الوقت والخصوصيّات والأمور الكثيرة التي ذكرناها اليوم للرفقاء، فإن شاء الله في الجلسة اللاحقة سأتحدّث عن هذا الأمر لنتابع في الجلسات الأخرى على هذا المنوال الذي مشينا عليه في الجلسات السابقة من الكلام حول السلوك العقلانيّ.

  • اللهمّ صلّ على محمد وآل محمّد

  •