88

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

2794
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالتكليف و التشريع

جلسات المجموعة(5 جلسة)

التوضيح

هل الأفعال لها أثر تكويني على تشكّل النفس؟ ما معنى حمل النفس لجميع الصفات الإلهية بشكل محدود؟ ما هي أهمية العمل والمراقبة والتربية في ظهور هذه الصفات على الإنسان؟ هل اختبار الوقوف أمام الحق مختص بقسم من الناس أم أنه شامل للجميع؟ أسئلة أجاب عليها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه في هذه الجلسة، بالإضافة إلى مواضيع أخرى من قبيل أنّ الأحكام الشرعية تابعة للأمور التكوينية، وأنّ الأحكام الشرعية الصحيحة لا توجب الكدورة للإنسان، وأن الآثار التكوينية التي يلحظها العوام هو الثواب والعقاب ولكن هناك مرتبة أعلى منها وهي مرتبة العبودية لله تعالى، وأنّ حقيقة التشريعات هي للوصول إلى التوحيد الواقعي لا الالتفات إلى ظاهر الواجبات والمحرّمات.
الكلمات المفتاحية: النفس، الأثر التكويني للأفعال، مواجهة الحق، الأحكام الشرعية.
/۲۰
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

1
  •  

  •  

  • هو العليم 

  •  

  • الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۸۸

  •  

  • ألقاها

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم 

  • بسم الله الرّحمن الرّحيم 

  • الحمد لله ربّ العالمين 

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا

  • أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين 

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين 

  •  

  •  

  •  يقول الإمام الصادق عليه السلام في حديث عنوان الشريف: "وجملة اشتغاله فيما أمره الله تعالى به ونهاه عنه". فالمؤمن ينبغي أن تكون تمام أعماله ومشاغله في اليوم ضمن مسار إطاعة الأوامر الإلهية واجتناب النواهي. وعليه أن لا يزيد أو ينقص أيّ شيء من تلقاء نفسه.

  • تأثير الأفعال على تشكّل النفس الإنسانية

  • ذكرنا بأنّ هناك آراء مختلفة في تفسير هذه الفقرة، الرأي الأول: تكلّمنا فيه عن تأثّر النفس بما يقوم به الإنسان من أعمال، حيث هناك ارتباط مباشر بين أعمالنا وبين تشكّل نفسنا، ولا يمكننا أن نتخلى عن هذا التشكّل الحاصل للنفس، وكلّ شخص سوف تتكوّن نفسه بشكل العمل الذي يقوم به، أو الترك الذي يتركه، ولا يقف الإنسان في مرحلة أو مرتبة معينة. والذين هم من أهل الفنّ يمكنهم أن يدركوا كيفيّة نفوس الأشخاص وخصوصياتهم من خلال التشكّل الذي تشكّلوا به، ويمكنهم أن يزنوا بذلك شخصيّتهم، وهذه المسألة يمكن تشخيصها من وجوه الناس، وهي من الأمور الملموسة بالنسبة إلى الأشخاص الذين فتحت أعينهم البرزخية والملكوتية، ويمكنهم من خلال الملاكات التي لديهم أن يطّلعوا على خصوصيّات الناس الروحية.

  • وهذا التأثير للأفعال والأفكار والتخيّلات على النفس يعتبر من الأمور التي تعمل على تعيين أساس حركة الإنسان في هذا العالم. يعني لو أنّ شخصاً أراد أن يتقدّم في هذه الدنيا، فلا يمكنه أن يخرج من قيود وتبعات عمله، وفي الواقع الجمع بين الحركة في هذه الدنيا وبين عدم تعلّق ذلك بالأعمال والتصرّفات والتخيّلات لهو جمع بين المتناقضين، فهو غير ممكن. فلو قصّر الإنسان يوماً واحداً في مسألة المراقبة فسوف يرى أثر ذلك اليوم في حياته؛ فإما أن يراه في نفسه أو أن الآخرين سوف يرون ذلك منه، ولن يكون مخفيّاً.

  • تأثير الأفعال على النفس أمر تكويني

  • بناء على ذلك، ما ذكرناه في الجلسات السابقة حول هذه الفقرة كان حول كيفية تأثير الأفعال والنيّات والأفكار وتأثّر الإنسان بها، وذكرنا بأنّه يوجد في نظام الخلقة علاقة وثيقة بين الأعمال التي نقوم بها وبين تأثير هذه الأعمال على أنفسنا، وهذه مسألة تكوينية، ليست مسألة تشريعية أو اعتبارية. فمن يشرب الماء سوف يرتوي، وهذا الأمر ليس أمراً اعتبارياً، ومن يأخذ هذا الدواء الخاص سوف يشفى من هذا النوع من المرض، فهذه مسألة تكوينية، ومن يشرب السم سوف يموت.. هذه المسائل هي مسائل تكوينية نتيجة العلاقة بين هذه الأمور وبين النفس. 

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

3
  • النفس الإنسانية واجدة لجميع الصفات الإلهية بشكل محدود

  • لقد خلق الله تعالى هذه النفس البشرية بشكل معيّن وبخصوصيات واستعدادات وإمكانات خاصّة، وقد أشرنا إلى هذه المسألة في الجلسات السابقة، وذكرنا أنّ حقيقة النفس الإنسان عندما تتنزّل من مقام التجرّد، كانت واجدة لتمام الصفات الإلهية؛ الجمالية والجلالية بشكل مجمل، ولا يمكن الإتيان بأفضل من هذه العبارة وهي أن نقول بأنّ الله تعالى قد تنزّل إلى الأرض بهذا الجسم؛ يعني كلّ منكم أنتم الحاضرون في هذا الجمع عبارة عن إله محدود بهذا الشكل وبهذه المحدودية في هذه الأرض، غاية الأمر أنّه بنحو إجمالي، لا بنحو تفصيلي، أما النحو التفصيلي فهو ذات الواجب تعالى، وهو المقام الإطلاقي للباري ومقام اللا نهائي له في كل مرتبة من مراتب الفعل والاسم والوصف ومرتبة الصفة. يعني كما أنّ الله تعالى له الأسماء الكلية الإطلاقية واللا نهائية؛ فعلم الباري لا نهاية له وقدرته لا نهاية لها وإرادته ومشيئته لا نهائية وغير مقيّدة.. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (سورة مائدة الآية ٦٤) قالوا بأنّ الله لا يستطيع أن يغيّر الوضع الذي هو الآن إلى شيء آخر، لا يمكنه تغيير كيفية الناس ولا خصوصياتهم، يجيبهم الله بأنّهم هم لا يقدرون على ذلك، أما الله فيداه مبسوطتان بنحو مطلق، يعني لا قيد له في أي مرتبة من المراتب، فكل ما يريده يتحقّق دون أدنى تصرّف أو تردّد وتأمّل. 

  • هذه هي الصفات والأسماء الكلية الإلهية، والإنسان واجد لهذه الصفات والأسماء الكليّة للباري تعالى، مع فارق أنّها بشكل محدود وفي مقام الإجمال، والمحدودية عبارة عن تلك السعة التي يمنحها الله تعالى لأي أحد؛ ومن الواضح أنّ كلّ إنسان له سعة وظرف مختلف عن الآخر، فكلّ شخص له سعة وظرف ويمكنه أن يتحمّل بمقدار معيّن، وهذا الأمر نستطيع أن ندركه بأنفسنا من خلال تعاملنا؛ فنقول فلان لا سعة لديه، سريع الغضب، أو فلان لديه سعة يمكنه أن يتحمّل كل ما يقال له، أو نرى أنّ فلاناً يملّ سريعاً من القراءة، بعد ساعة من القراءة يترك الكتاب جانباً، بينما فلان يقرأ عشر ساعات ولا يملّ، بل يزداد شغفاً بالقراءة، هذه هي السعة والظرفية المتعارفة بيننا قد نشأت من أمر باطني وضعه الله تعالى في كلّ شخص بشكل مختلف عن الآخر، وهذه المسألة ليست بيد الإنسان أصلاً، بل هي خارج اختياره، فالله تعالى قد جعل كل إنسان ضمن محدودية خاصة به، لكن هذه المحدودية تتضمّن كل شيء خاص بهذا الإنسان، هذه هي المسألة. مثلاً يكون لدى شخص سعة بمقدار كوب من الماء، أو طاسة من الماء، أو سعة وعاء أكبر، هذا هو الذي يقال له مقام السعة والمحدودية الوجودية. 

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

4
  • المطلب الآخر الموجود في المقام والذي سنتحدّث عنه بشكل مقتضب، ونترك الحديث عنه مفصلاً إلى أن يشاء الله، وننتهي هذا الأسبوع من هذه الفقرة، لنشرع بالفقرات الأخرى.

  • جامعية الإنسان للصفات والأسماء الإلهية

  • المطلب الآخر عبارة عن جامعية الإنسان في الصفات والأسماء التي جعلها الله تعالى فيه، فالله تعالى عالم، وبالتالي خلق الإنسان عالماً، والله تعالى قادر وخلق الإنسان قادراً، والله تعالى رؤوف وقد خلق الإنسان رؤوفاً، الله تعالى قهّار خلق الإنسان قهّاراً، وهلّم جراً، فجميع الصفات والأسماء الإلهية التي في مقام الذات [موجودة في الإنسان]، طبعاً العلم بمراتبه العالية، والقدرة كذلك والرزق أيضاً، لا في المرتبة المحدودة التي نتصوّرها من العلم والقدرة والرزق والرأفة والقهارية. فالله تعالى خلق الإنسان بهذه الكيفيّة، غاية الأمر أعطاه من هذه الصفات وما يتحمّلها بما يتناسب مع الظرفية التي أعطاه إياها وخلقه فيها، يعني أنّ الكمال والبقاء بعد الفناء الذي سيحصل عليه أي شخص مختلف عن الكمال والبقاء الذي يحصل عليه شخص آخر. فأولياء الله لديهم مراتب مختلفة في هذه المسألة، ويمكننا أن نعرف ظرفية كل منهم وسعته من خلال أعماله في هذه الدنيا وفي عالم الكثرة، وبذلك نعرف أن أياً منهم لديه سعة وظرفية أكثر من الآخر، وأياً منهم سعته أقل. هذه مسألة بحاجة إلى تخصّص لكي يعرف الإنسان تلك الملاكات والمعايير التي جعلها الله فينا. 

  • اختلاف الأئمة عليهم السلام في السعة والظرفية

  • بل حتى الأئمّة عليهم السلام مختلفون فيما بينهم في مقام الكثرة وفي مقام البقاء، فليسوا سواء من حيث السعة والظرفية، فسعة أمير المؤمنين عليه السلام أوسع من سائر الأئمّة، كما أنّ الإمام الحسن عليه السلام له نحو، والإمام سيد الشهداء عليه السلام له نحو آخر، والإمام السجاد له نحو، وكذا الإمام الرضا.. فكل إمام له نحو خاص من الوجود، في عين أنهّم بأجمعهم يمكنهم أن يُعملوا إرادتهم في الأمور المؤثّرة في عالم الكثرة بمقدار ما يريدون، لكن الظرفية والسعة الوجودية للأئمّة عليهم السلام مختلفة فيما بينهم ـ كما ورد في الروايات ـ في حين أنّهم جميعاً يردفون من محل واحد ونور واحد. كما أنّهم مختلفون من جهة الأخلاق الظاهرية، حيث لم يكن الأئمة عليهم السلام على نسق واحد من الأخلاق؛ فبعضهم لم يكن يمزح أساساً، أو أنّ علاقته بالناس كانت على نحو خاص، كما ذكرت الروايات الواردة في هذا المجال، بينما بعض الأئمّة عليهم السلام كان كثير المزاح، ومن جملة من كان كثير المزاح من الأئمة نفس أمير المؤمنين عليه السلام، بحيث أنّ الناس كانوا ينظرون إليه كأنّهم أحدهم، يعني أنّه في نفس الوقت الذي كان يظهر فيه مقام الجبروتية والكبريائية والقهارية بحيث لم يكن أحد يجرأ أن يتنفّس أمامه، كان من جهة الأنس والمحبة وغيرها كأحدنا. وقد شاهد الصحابة رسول الله أنّه كان يمزح، لكن ليس كأمير المؤمنين، ومن جهة أخرى قليلاً ما كان يرى رسول الله يثور غاضباً، بينما الأمر على العكس عند أمير المؤمنين إذ كثيراً ما كان يرى غاضباً. فكل واحد لديه أخلاق مختلفة عن الآخر؛ فالإمام السجاد لم يكن كذلك، بل كان له عالم آخر وبنحو آخر، وكذا الإمام الصادق كان بنحو آخر، وكذا الإمام العسكري، وكذا كل إمام منهم كان لديه نوع من ظهور الباري تعالى في مقام الكثرة ومقام النفس وعالم الدنيا. مع ملاحظة أنّ جميع تلك الأمور والاختلاف كان مع امتلاكهم جميعاً للوسائل الضرورية للتربية في عالم الوجود (كل يوم هو في شأن).

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

5
  • الصفات الإلهية الموجودة في الإنسان لا تصل إلى الفعلية إلا بالعمل والمراقبة والتربية

  • هذه المسألة مسألة جمع صفات الكمال الإلهية في وجود الإنسان.. لكن السؤال هل أنّ هذه الصفات الإلهية والكمالية قد وصلت إلى مرتبة البروز والفعلية أم لا؟ فهذا الأمر بحاجة إلى عمل ومراقبة وتربية. فما لم يضع الإنسان نفسه في مقام التربية الذي ذكره لنا الأولياء، فسوف تبقى هذه الصفات في مقام النفس كما هي، وسوف يسدل عليها ستاراً يمنعها من الوصول إلى مرتبة الفعلية. ولو عمّر بدلاً من الستين سنة ستة آلاف سنة لن يتقدّم خطوة واحدة، نعم، قد يكون من الصالحين والمصلّين والصائمين ومن أهل الإنفاق، لكنّه سوف يبقى في هذه المرتبة والمحدودية، ولن يحصل على أي كمال فوق ذلك. لذا ورد في القرآن الكريم تقسيم الأشخاص إلى طبقات مختلفة؛ طبقة أصحاب الشمال، وطبقة الضالين، وطبقة الكفار والمخلّدين في النار، وطبقة الذين هم في حالة سيئة في ذلك العالم، بحيث أنّ رحمة الله تعالى بعيدة عنهم جداً، وهم الذين حبسوا أنفسهم في أدنى مراتب النفس، ولم يسمحوا لأنفسهم أن يصلوا إلى مرتبة الطاعة ومقام الفعلية. 

  • عجيب جداً!! عندما يقرأ الإنسان في أحوال أهل العامّة ويتأمّل في نفسه يقول: هؤلاء الناس يصلّون هذه الصلاة التي نصلّيها نحن بصوت جميل جداً، ويراعون قواعد التجويد والقراءة، ويراعون الصلاة في أول أوقاتها الخمسة بشكل تام، ويهتمّون بذلك كثيراً، لكنّهم عندما تصل المسألة إلى الحقّ والاعتراف بالحقّ يقفون في وجهه ويغلقون الباب أمام أنفسهم؛ بحيث لا يبقى أي نافذة للنور إلى قلوبهم! كيف يمكن للإنسان أن يصل إلى هذه الحالة؟! فهم يعملون على إغلاق جميع محلاّتهم التجارية ظهراً ويذهبون إلى الصلاة، ثم يعودون، ثم بعد ساعتين يذهبون مجدّداً للصلاة ويعودون، وهكذا لصلاة المغرب، وبعدها لصلاة العشاء، وبعدها يأتون في منتصف الليل وفي الفجر.. فكم على الإنسان أن يذهب ويعود؟! ما الموجب لهذا أن يفعل ذلك؟! لكن عندما يبدأ الإنسان في الحديث معه ويقول له شيئاً مخالفاً لعقائده ـ ولو كان مطلب حق وطبقاً للأدلّة ـ يقف في مقابله ولا يكون مستعدّاً لسماع كلمة منه! فما تلك الصلاة وذاك الالتزام الذي نراه منك. من هنا نعلم بأنّ تمام تلك الأمور ليست شيئاً، بل هباء وفراغ! ما يكون موجباً لعبور الإنسان هو مقام الانقياد والإطاعة والقبول.

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

6
  • المتعصّبون من العامّة لا يقبلون بالحقّ مهما كان

  • عندما تشرّفنا مرّة للحجّ تحدّثت حول هذه القضية مع شخص يعتبر أستاذاً لهؤلاء المتعصّبين، فقلت له: أنت تقول هذا الكلام منذ ألف وأربعمائة سنة، لكن أطلب منك الآن أن تضع هذه السنوات جانباً وتعتبر نفسك في عصر النبي.. ألا تعتبر نفسك من أتباع النبي؟! في صلاتك في عقيدتك، ألا تقول أشهد أن محمداً رسول الله كما تقول الشيعة؟! فهذه الشهادة بالنبوّة هل هي باللسان فقط؟ أم أنّك تقولها من صميم قلبك؟ لا يمكنه إنكار ذلك.. ونحن أيضاً نترك هذه السنوات جانباً.. ونفترض أنّه لا يوجد لدينا أئمّة اثنا عشر أصلاً، بل نتنازل أكثر من ذلك ونعطيك امتيازاً ونقول: ليس لدينا إلا الخلفاء الثلاثة الذين تقبلون بهم، يعني حتى الإمام علي لا نعتبره ضمن الخلفاء! ونذهب إلى عصر النبي، لكن بشرط أن نذهب واقعاً، ونرى كيف كان يصلّي النبي؟! وعلينا أنا وأنت أن نصلّي تلك الصلاة التي كان النبي يصلّيها، فقال لا! قلت له لماذا لا؟ لماذا لا ترفع اليد عن حذف بعض فقرات الأذان؟ ولماذا لا ترفع اليد عن التحريف الذي وقع في الأذان؟ لماذا؟ فهل أنّ النبي كان يقول بدلاً من "حيّ على خير العمل" الصلاة خير من النوم؟ فإذا لم يكن النبي يقول ذلك فلماذا تفعل خلاف ما تعتقد به؟! يقول: لا! بل نستمر بالعمل بهذه الكيفية التي نحن عليها الآن! هذا هو العجيب!! وهؤلاء هم الذين يقول عنهم المرحوم العلامة بأنّ بعضهم لا يحسن إلا أن يرفع سيفه في وجه إمام الزمان فقط! يعني أنّ العناد والوقوف أمام الحقّ وفي مقابله قد وصل بهم إلى مرحلة بحيث لم يبقوا لأنفسهم أي طريق للحقّ.

  • تصوّروا أنّ شخصاً ينهض كل يوم من نومه ويلقّن نفسه بأنّه يجب أن يقوم بهذا العمل المخالف وذاك العمل، وكذا اليوم التالي، وهكذا.. فبعد سنة سوف يقضي على نفسه تماماً ولن يبقى له شيء أبداً.

  • الوقوف أمام الحق يؤدّي إلى إغلاق النفس وتحجّرها

  • عندما يريد أن يقف الإنسان في مقابل الحق، فيقول في نفسه اليوم نقف أمام هذه القضية، وغداً نقف أمام قضية أخرى وبعده أمام أخرى وهكذا يخالف الحق ويخالفه إلى تنغلق النفس شيئاً فشيئاً حتى تصير كالحجر لا يمكن لشيء أن يؤثّر فيها. فما أن تقول له شيئاً حتى يقول هذا رافضي! يا عزيزي حتى لو كنت رافضياً لكن أجب على أسئلتي!

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

7
  • لو فرضنا أني لست رافضياً بل مسيحي وسأل هذا السؤال، أو يهودي سألك لماذا تقوم بهذه الأعمال في الصلاة والحال أنّك تعلم بأنّ النبي لم يكن يفعل ذلك؟ فماذا تقول له؟ هل تقول له أنت رافضي؟ أو تقول لقد علّمك الروافض هذا الكلام! 

  • يعني عندما يقف الإنسان في وجه الحقّ يغلق أمامه تمام الطرق، وهنا تفقد النفس استعداداتها للكمال! لذا عندما ينظر الإنسان إلى هؤلاء يشعر وكأنّه ينظر إلى صخرة! يأتي ويحدّث برواية عن النبي ـ وهو يحفظ الكثير من الروايات ـ لكن روايته كمثل الحجر؛ لأنّه يروي ما يريده فقط، وما لا يريده لا يرويه، ينقل نصف الرواية ويترك نصفها الآخر.. نستجير بالله من ذلك، واقعاً نستجير بالله.

  • نموذج من رفض الحق: إجبار أمير المؤمنين على البيعة

  • في السفر الأخير الذي تشرّفنا فيه بالحج، عندما كنّا في المدينة شغلت هذه المسألة ذهني كثيراً؛ وهي أنّه كيف يمكن أن نكون في هذه المدينة التي فيها جميع الأئمّة وهم أمام أعيننا، في نفس هذه الأماكن التي نقرأ فيها القرآن ونصلّي فيها.. في نفس هذه الأماكن كان جميع الأئمّة.. باستثناء إمام الزمان الذي لم يكن في زمان طفولته في المدينة، وإن كان يوجد لدينا روايات تفيد بأنّ مسكن الإمام في المدينة، لكنّه في طفولته لم يكن في المدينة، بخلاف سائر الأئمّة؛ حيث كان جميعهم في المدينة.. الإمام الرضا في السنوات الأخيرة من عمره انتقل إلى مرو في أواخر عمره، وذلك قبل سنتين تقريباً من شهادته، وكان في جميع أيامه في المدينة، وكذلك كان الإمام موسى بن جعفر، جميع الأئمّة كانوا في المدينة، وكانوا بأجمعهم ضمن هذه الأحداث والأوضاع.. بالأمس أتوا بأمير المؤمنين عليه السلام في هذا المكان ليبايع! فقال لهم لماذا أبايع؟ نعم هنا قرب هذا العمود الذي يبعد منّي بضعة أمتار ـ ومن ذهب إلى هناك يستطيع أن يشخّص ذلك بسهولة ـ أُجلس أمير المؤمنين ووقف الثاني على رأسه وفي يده السيف قائلاً عليك أن تبايع..

  • ـ لماذا عليّ أن أبايع؟ فهل هذا مرجعي ولديه رسالة عمليّة لأقلّده؟ فهذا لا يعرف يده اليمنى من اليسرى، هل هو أستاذ؟ هل هو نبيّ؟ هل لديه رسالة من النبي فيها أنّه عليّ أن أبايع؟ بأي وجه يجب عليّ المبايعة؟ 

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

8
  • ـ نحن لا نعرف السبب، نعرف بأنّه عليك أن تبايع!

  • ماذا يقول أمير المؤمنين لهؤلاء؟ وبأي وسيلة يقنعهم؟ لا يوجد وسيلة أصلاً! عندما يتحدّث الإنسان إلى آخر يستفيد من الأمور المشتركة بينهما، ففي البداية نقول له بماذا تقبل؟ ينبغي أن يكون هناك أمور نقبل بها جميعاً، نبحث ضمن هذه المسائل في البداية، فنقول مثلاً نحن نقبل بفلان، فإن كان بيننا خلاف في أمر نرجع إليه ونقبل بما يقوله. هذا نوع من تحديد الأمور المشتركة. أو أن نقول نرجع إلى العرف فما يقضي به العرف فهو المحكّم.. هذه الموارد تعتبر هي الحد الفاصل بين المتنازعين في أمر معيّن. أما إذا فرضنا أنّ شخصاً يطلب منك أن تتباحث معه لكنّه لا يقبل بشيء أبداً! فكيف يمكنك أن تتباحث معه؟ الأفضل أن تقول له: في أمان الله وترحل عنه! فهو يقول أنا لا أقبل بالعقل ولا بالعرف ولا بالنبي.. فعلى أي أساس تريد أن تتحدّث معه؟ وبأي معيار يمكن ضبطه؟ يقول لك: لا يوجد معيار، فقط كلامي هو المعيار. وفي هذه الحالة ينبغي أن لا يعطّل الإنسان نفسه مع هكذا أشخاص، بل عليه أن يرحل عنهم بسلامة. 

  • أمير المؤمنين كان مبتلى بمثل هؤلاء الأشخاص، قال لهم على أي أساس ينبغي أن أبايع؟ فهل نصبه النبي يوم الغدير؟ أو هل لديه كتاب من النبي في هذا الأمر؟ فبالأمس أتى النبي قبل وفاته بيوم واحد وذكّر من على هذا المنبر بيوم الغدير، وقال: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي.. لقد بيّن النبي تمام ذلك قبل يومين من وفاته.. هذه الأمور عجيبة جداً، وينبغي أن تكون عبرة لنا الآن! عبرة لوضعنا الحاضر، فلا تتصوّروا بأنّ ما جرى على أمير المؤمنين عبارة عن أمر قد انتهى! لا، بل ما جرى على أمير المؤمنين حدث تاريخي، والتاريخ يعيد نفسه، هو يعيد نفسه على جميع الأفراد في كل زمان وفي أي وضع كان.

  • المبرّر الوحيد لبيعة الخليفة الأول هو طول لحيته وبياضها

  • على أي أساس ينبغي أن أبايع هذا الرجل؟ فهل هو أعلم منّي؟ أو هو أتقى منّي؟ وهل لديه سابقة جهادية في الإسلام أكثر منّي؟ لقد كان دائماً في الصفوف الخلفية، وغالباً ما كان يولّي دبره ويفرّ من الميدان؛ ففي معركة أحد فرّ في الصحاري وبعد ثلاثة أيام عاد إلى المدينة، وذلك بعد أن أرسل من يرى إلى ما صارت عليه الأمور. هكذا كان هذا وأمثاله! فبأي معيار يجب عليّ أن أوكل أمر ديني ودنياي إلى هذا الشخص؟ لا يوجد أي معيار وأي مبرّر لذلك.. المبرّر الوحيد هو اللحية الطويلة البيضاء التي لديه، دون أن يكون هناك أي شيء آخر غير ذلك.

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

9
  • وقد ورد في رسالة أرسلها إلى والده أبي قحافة ذكر فيها: بما أنّي أكبر الناس سناً، فقد بايعني الناس خليفة عليهم. فأجابه والده: إذا كان الأمر بالسن فأنا أكبر منك سنّاً! فلماذا لم يبايعني الناس۱؟! نفس والد أبي بكر ردّ عليه من هذه الجهة، ليس لديه شيء سوى أنّ لحيته بيضاء وكان والد زوجة النبي وكبير السنّ، بالإضافة إلى أنّه كان هو المسؤول عن ذاك الانقلاب الذي بدأ بالتخطيط له في حياة النبي، والذي ظهرت آثاره ونتائجه الخبيثة بعد ارتحال رسول الله.

  • لكنّهم يقولون نحن لا نعرف شيئاً، لا بد أن تبايع! فيقبضون على يد أمير المؤمنين ويضعونها في يد أبي بكر، ويبقلون ذلك كبيعة منه دون أن يتفوّه الإمام بشيء أبداً..

  • كل إنسان قد يمتحن بمسألة الوقوف أمام الحق

  • نفس هذه الوضعية قد تحصل لنا جميعاً، وقد حصلت بالفعل، حيث يقولون عليك أن تبايع هذا الشخص! يا عزيزي لماذا أبايعه؟! هل لديه علم أكثر منّا؟ وهل أمرنا النبي أن نبايعه؟ هل ورد اسمه في القرآن أو في الروايات؟! ماذا لديه؟

  • في جميع المسائل والقضايا والأمور وجميع العلاقات الموجودة بين الناس، وكل شخص ممكن أن يحصل له امتحان في كل يوم من حياته؛ وهو كيفية الوقوف في مقابل الحق! هذه هي المسألة المهمة! وقد ذكرت مراراً وتكراراً بأنّه ما دام هذا الأمر [قبول الحق] حياً في ذاتنا ووجودنا فلا زلنا في الطريق، أما إذا شعرنا بأنّنا نفرّ من الوقوف في جنب الحقّ فعند ذلك علينا أن نفكّر في أنفسنا، ونعلم أيّ مصيبة قد حلّت بنا، وعلينا أن نمرّن أنفسنا على هذا الأمر، وهذا يعني قوله عليه السلام: "تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة"؛ يعني أنّه ينبغي للإنسان دائماً أن يقيس موقعيّته النفسانية بالنسبة للحقائق، ويرى كم يمكنه أن يقبل الحقّ! وأن يضع نفسه في تلك الواقعة ويأخذ موقفاً، حتى وإن لم يكن قد حصلت له هذه الواقعة أصلاً؛ فيضع نفسه مكان الآخرين، بأن يتخيّل ذلك في نفسه ويتصوّر وقوفه مع الحقّ. فإنّه إذا فعل ذلك فسيرى أنّ قبول نفسه للحق صار سهلاً؛ لأنّ جميع هذه المسائل ترجع إلى كيفية واحدة، وهي كيفية تصميم النفس وعزمها على الأمور، والأمور في الخارج على نحو واحد. والمهم هو أنّ هذه النفس إلى ماذا تميل؟ ويمكن للإنسان يتصوّر الأمر بخياله بدون أن يخوض ذلك الأمر في الواقع! 

    1. . وروي أن أبا قحافة كان بالطائف لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وبويع لأبي بكر، فكتب ابنه إليه كتابا عنوانه " من خليفة رسول الله إلى أبي قحافة. أما بعد فإن الناس قد تراضوا بي، فإني اليوم خليفة الله، فلو قدمت علينا كان أقر لعينك " قال: فلما قرأ أبو قحافة الكتاب قال للرسول: ما منعكم من علي؟ قال: هو حدث السن وقد أكثر القتل في قريش وغيرها وأبو بكر أسن منه. قال أبو قحافة: إن كان الأمر في ذلك بالسن فأنا أحق من أبي بكر، لقد ظلموا عليا حقه وقد بايع له النبي صلى الله عليه وآله وأمرنا ببيعته. (الاحتجاج، الطبرسي، ج ۱، ص ۱۱٥)

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

10
  • بناء على ذلك، فلو أنّ الإنسان عمل في هذه الدنيا بالمراقبة وطبقاً لدستور الأولياء فسوف تحصل تلك الصفات الكمالية التي لديه على كمالها، وإلا ستبقى في مرتبة الإجمال.

  • هذه المسألة هي كيفية تأثير الفعل على النفس، وعليه فهذا النحو من التكوين هو الذي جعله الله تعالى، وتأثير الفعل على النفس هو تأثير تكويني، لا اعتباري ووضعي. 

  • تبعية الأحكام الشرعية للتكوين

  • فما يقوله بعضهم في الآية الشريفة {ألا له الخلق والأمر} من أنّ المراد بها هو كما أنّ بيد الله تعالى مسألة الخلق ويمكنه أن يجعل عالم التكوين بأي كيفية يريد، كذلك الحال النسبة إلى الأمر الذي هو عالم التشريع، فيمكنه أن يجعل شيئاً حلالاً اليوم وغداً حراماً، فالمسألة بيد الله، واليوم يجعل هذا الأمر واجباً وغداً يرفعه.. فهذا القول غير صحيح وخطأ واضح.

  • فمسألة عالم التشريع والتكوين ليست على أساس الحبّ والبغض النفسي؛ بمعنى أنّ فعل الله تعالى ليس كأفعالنا نحن منشؤها الحبّ والبغض، بحيث أنّ بعض الأفعال بسبب المحبّة النفسية يأمر بها، وبعضها الآخر بسبب البغض وعدم الرغبة النفسية ينهى عنها؛ وذلك لأنّ الله تعالى لا نفس له، وعليه فأفعاله خارجة عن دائرة النفس، كما أنّ أفعال الله ليست بحسب مشتهياته والعياذ بالله. 

  • أما نحن ففي أفعالنا وتصرّفاتنا يمكننا أن نعمل عملاً معيّناً بهذا الشكل ويمكننا أن نفعله بشكل مختلف، هذا هو المراد من التصرّف بحسب المشتهيات، دون أن يكون له سبب أو داع آخر. فيمكنني أن أضع هذا الكوب هنا ويمكنني أن أضعه في مكان آخر دون أن يكون لأحد المكانين خصوصية تميّزه عن المكان الآخر. لكنّ تصوّر المتكلّمين وأمثالهم بأنّ الله تعالى قد شرّع هذا الدين على وفق هواه ورغبته ومشتهياته، فلو لم يرد ذلك لأمكنه أن يفعل الأمر بشكل آخر؛ فهو رغب في أن تكون صلاة المغرب ثلاث ركعات، وكان بإمكانه أن يجعلها أربع ويجعل العشاء ثلاث ركعات، وكان بإمكانه أن يجعل صلاة الصبح بدل صلاة الظهر أربع ركعات، فهو يفعل ما يريد، ويقول بما أنّي أنا الأعلى وأنا القهّار والقادر أقول لك إذا لم تفعل ذلك فسوف أعاقبك.. تصوّر هؤلاء الأشخاص عن الشرع والدين بهذا الشكل؛ وهو أنّه يوجد سلسلة من الأحكام والمقرّرات مثل تلك التي يصدرها رئيس شركة أو مؤسسة ويلزم الموظّفين بتطبيقها، كذلك الله تعالى يفعل فيما يرتبط بأحكامه، غاية الأمر أنّ من يمتثل يثاب ومن يخالف يعاقب. ولكن هذا التصوّر خطأ محض؛ لأنّ الله تعالى يعمل في تشريعاته على أساس التكوين؛ {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي‌ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّه‌} ثم يقول {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم} (سورة الروم، من الآية ٣۰)، يعني أنّنا وضعنا هذا الدين على أساس الفطرة وأساس الشاكلة الوجودية التي وضعنا عالم التكوين عليها، يعني كما أنّ الفطرة والشاكلة الوجودية للإنسان هي بهذا الشكل، كذلك الدين ينبغي أن يكون منسجماً ومتوائماً مع هذه الفطرة والخلقة. 

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

11
  • اختلاف الأحكام والشرائع بما يتلاءم مع كيفية وجود الناس في كل عصر

  • وما نراه في بعض الأحكام من حصول النسخ؛ كتغيير القبلة؛ حيث كان النبي والمسلمون يصلّون في البداية باتجاه بيت المقدس، ثم صارت نحو الكعبة، أو مثل بعض الأحكام التي كانت واجبة في صدر الإسلام ثم تغيّرت بعد ذلك، أو بعض الأحكام التي سوف يعود العمل بها في زمن ظهور الإمام، فضلاً عن الأحكام التي كانت في الشرائع السابقة.. كانت جميعها على أساس نحو وجود الناس في ذلك العصر. يعني إذا كنا في زمن الأديان السابقة، وكان لدينا الكيفية الوجودية التي لدينا الآن لن يكون لدينا نفس تلك الأحكام التي كانت لديهم، وهذه المسألة دقيقة جداً. فلماذا بعض النصارى الآن لا يقبلون بالدين النصراني؟ وما السبب في أنّ بعض اليهود لا يقبلون بالدين اليهودي؟ ليس السبب في ذلك هو أنّهم يتمسّكون بدين آخر غير دين النبي عيسى والنبي موسى على نبينا وآله وعليهما السلام، بل بسبب أنّهم هم تغيّروا وتبدّلوا؛ حتى صار هذا النحو من الوجود لا ينسجم مع ذاك النحو من الأحكام! فالآن ينبغي أن يحصل لدينا هذا النوع من الأحكام بالنسبة إلى هذا الفرد. مثل أنّك تتعامل مع أطفالك المختلفين في السن بقوانين مختلفة فيما بينهم، ومن الطبيعي أنّ التكاليف التي تفرضها على الأولاد الذين هم في سن الخامسة عشرة أو الثالثة عشرة لا تفرضها على من هو في الثالثة أو الرابعة من عمره، فهذا له سنّه ومقتضياته، وذاك الذي وصل إلى العاشرة له أحكامه، وكذا الذي وصل إلى العشرين من عمره وهكذا.. وأحكام الشرع هي على هذا الأساس.

  • فاختلاف البلوغ في المراتب المختلفة للأحكام؛ فالصلاة لها سن بلوغ معيّن، بينما المسائل الجنائية والقصاص لها سنّ بلوغ مختلف، وكذا الحال بالنسبة إلى المعاملات والتجارة لها سن آخر، والسبب في ذلك يعود إلى كيفية تفكير الأشخاص وتطوّر تعقّلهم ضمن سنين مختلفة، بحيث يتعلّق التكليف بهم على هذا الأساس. 

  • الأحكام الشرعية الصحيحة لا توجب الكدورة والقبض للنفس

  • وبناء على ذلك، لا يمكن لأي حكم من الأحكام أن يكون منافياً لكيفية تكوّننا النفسي، ولو كان منافياً لها فهذا يعني أنّه غير صحيح. لو فرضنا أنّا قمنا بعمل معيّن وحصل لنا كدورة منه، فلنعلم بأنّ هذا العمل مخالف، وإن كان دليله لا إشكال فيه من الناحية الظاهرية، وعلينا أن نعلم بأنّ هذا الدليل فيه خلل ما. وإذا عملنا بفتوى المجتهد بحليّة ذلك العمل، ومنع ذاك العمل من حضور القلب في الصلاة أو منع من قراءة القرآن، أو سبّب لنا كدورة وقبضاً نفسانياً.. فلنعلم بأنّ هذا العمل حرام، وإن لم يستطع المجتهد من الناحية الظاهرية أن يستنبط حرمته، أو لا أقل ينبغي أن يكون هذا العمل مكروهاً كراهة شديدة، ولا ينبغي أن نقوم به والحال هذه؛ لأنّ نفس القبض والكدورة التي تعتبر المعيار في تأثّر النفس، تصير هي الملاك الذي ينبّه الإنسان إلى أنّ هذا العمل هل هو في مجال تكامله أو تنزّله، فإن كان موجباً لتنزّله فعليه أن يتركه، وإلا فقد أوقع نفسه في الخداع. هذا هو التأثير، ولا يمكن لأحد أن يغيّر ذلك؛ حتى النبي لا يمكن أن يغيّر الأحكام، فالنبي لا يمكنه أن يغيّر حادثة طبيعية وتكوينية ويعيدها إلى ما كانت عليه. بل الذي يقوم به النبي والأئمّة عليهم السلام وكذا أولياء الله هو تحريك الناس طبق المجريات الطبيعية المناسبة والعلاقة الوثيقة بين الفعل وتأثيره على النفس في سبيل الوصول إلى كمالها، ولا يمكنه من تلقاء نفسه أن يعيد الأمور، كما لا يمكنه أن يزيد أو ينقص من نفسه.

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

12
  • عدم تجاوز النبي لقانون التكوين في التشريعات الإسلامية

  • تحدّثت مدّة مع المرحوم العلامة حول هذه المسألة [تشريع النبي وفق المسائل التكوينية]؛ ولم يكن المطلب يتّضح لي كما ينبغي، وقد مضت مدّة على ذلك، إلى أن تشرّف المرحوم الوالد يوماً بالسفر إلى قم لمعالجة مسألة معينّة، ولحقت به بعد ذلك ـ حيث كنت أسكن في مشهد في ذلك الوقت ـ فقال لي المرحوم العلامة يوماً: يا فلان! لقد رأيت رؤيا البارحة ـ ولم يحصل أي إشارة مسبقة لما كان قد جرى بيننا حول تلك المسألة ـ وذكر مفهوم الرؤيا، ولعل الرؤيا كان لها جنبة مفهومية وعقلانية لا صورية، وقال لقد بيّنوا لي أنّه لو فرضنا أنّي تجاوزت الخط المرسوم لي والتكاليف التي بيّنت لي في العلاقة مع الناس ولو بمقدار رأس إبرة، فسوف أكون مصداق تلك الآيات التي خاطب الله تعالى بها النبي: {وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاويل‌ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمين‌ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتين‌} (سورة الحاقة، الآيات ٤٤ إلى ٤٦) يعني لو أراد النبي أنّ يزيد من عنده شيئاً أو ينقص شيئاً فسوف نأخذه بيد قدرتنا وقهّاريتنا بحيث لا يبقى له أي مفرّ منا.. هذا الخطاب لمن؟ لرسول الله الذي شقّ القمر، والذي بإرادة منه يتحقّق وجود العالم كن فيكون، لكن هذه الأمور لا يمكن أن يكون لها حساب أمام مقام الكبريائية والقهارية الإلهية، فلا تساوي هذه الأمور مقدار جناح بعوضة أمام تلك المقامات، صحيح أنّك تشقّ القمر وتردّ الشمس فهذه لها مكانها، وكذا تتصرّف في العالم، وتشهد لك الحصى، وتشهد لك الحيوانات والأفاعي.. كلّها لها مكانتها، وكل عمل تريد أن تقوم به له مكانته الخاصّة، لكن إذا أردت أن تزيد أو تنقص كلمة واحدة من تلقاء نفسك فسوف نأخذك بيد قدرتنا بحيث لا يبقى لك أن تأخذ ولو نَفَساً واحداً {ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتين} يعني أنّنا سنقطع منه حبل الوريد ونأخذ حياته.. فهل يصح القول بأنّ النبي يمكنه أن يفعل ما يحلو له؟ كلا! بل تمام تلك الأمور تحكي عن أنّ شق القمر لم تكن بفعله، وردّ الشمس لم يكن منه، وتلك التصرّفات التي كانت تحصل لم تكن من النبي! كانت من الله تعالى، وهذا هو مقام التوحيد. في مسألة التوحيد لا يوجد إلا مؤثّر واحد وسبب واحد لا غير. فجميع تلك الأمور [التهديد الذي للنبي] هي لنا نحن، ونحن علينا أن نفهم هذه المسائل وأن نعرف وضعيّتنا، فأيّ عمل نقوم به هل يصل إلى عمل النبي في أهميته وعظمته؟ [حتماً لا]. 

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

13
  • يقول المرحوم العلامة بأنّه قيل له في المنام إذا فعلت ذلك فهذا مصيرك، لذا لا يمكننا أن نقول شيئاً من تلقاء أنفسنا أو نغير ونبدّل، وإذا غيّرنا أو بدّلنا فسوف نكون مورداً للخطاب الذي ورد في القرآن الكريم للنبي. هذا هو وليّ الله، وليّ الله ليس لديه شيء من نفسه، ولا يضيف أو ينقص من نفسه. هكذا ينبغي أن ننظر إلى المسألة! هكذا ينبغي أن نبحث الأمور.

  • نظرة العوام لتأثير الأفعال هي مسألة الثواب والعقاب

  • هذه المسألة ترجع إلى كيفية تأثير الأفعال على النفس، وبناء على هذه النظرة، فالعمل الذي يقوم به الإنسان في أي مقطع ينبغي أن ينتظر منه أثراً معيّناً، يعني ينبغي أن ينتظر أن يرى أثر فعله؛ فإذا صلى عليه أن يرى أثر الصلاة، وإذا صام عليه أن يرى أثر الصوم، ولا إشكال في هذا الأمر؛ لأنّ عامة الناس هم كذلك، فالذي يحرّكهم ويرغّبهم في الامتثال هو ترتّب الأثر؛ فإذا صلّى أعطي الحور العين، وإذا صام أعطي في ذاك العالم الغلمان وأمور أخرى، وإذا حج فعلى أساس أن يعطى تلك المنافع والأمور في الآخرة، وإذا أنفق فعلى أساس أن يعطى عشرة أضعاف أو مائة ضعف بحسب اختلاف الموارد.. فإن قيل له مهما أنفقت فلن تُعطى يوم القيامة شيئاً على ذلك، وإن قيل له مهما صليّت فلن تحصل على حور العين في ذلك العالم، فسوف يترك الصلاة. إنّ جميع ما يقوم به الناس في هذه الدنيا قام به على أساس أن يصل إلى المنافع التي وُعد الوصول إليها في ذلك العالم، هكذا يفعل الناس، وهذه مرتبة من العبودية.

  • المرتبة الأعلى هي أن لا يرى نفسه في مقام العبودية

  • لكن هناك مرتبة أعلى من هذه، وهي التي تتكلّم عنها هذه الفقرة الثانية من كلام الإمام الصادق عليه السلام التي يقول فيها الإمام وجملة اشتغال المؤمن ينبغي أن يكون فيما أمره الله تعالى به وأن يكفّ نفسه عمّا نهاه الله تعالى عنه، هناك مسألة أعلى منها، وهي أن لا يرى نفسه في مقام العبودية أنّه موجود ذو اختيار. عندما يخالف الإنسان ـ بناء على النظرة الأولى ـ فالعمل الذي يقوم به يكون من منطلق الرغبة في الوصول إلى المنفعة، فيقوم بهذا العمل لكي يصل بعده إلى تلك المنفعة، ويكفّ نفسه عن الحرام ليصل إلى تلك المنفعة. بينما بناء على النظرة الثانية، لا يوجد هناك رغبة أساساً، بل عندما يقول الله تعالى صلِّ، يقول لبيك! وعندما يقول الله صم، يقول طاعة! أما ماذا يترتّب على الصوم، فالعبد لا يفكّر في ذلك! ولا يفكّر فيما يترتّب على الصلاة، بل يأتي بالإطاعة والامتثال فقط لأجل المحبوب، ويأتي بالفعل فقط لأنّه هو أمره به! ولأنّه هو الذي طلبه وأراده. ألا نرى نحن هذا الأمر بين شخصين يوجد بينهما محبّة؟! فعندما تكون هناك محبّة بين اثنين وتشتدّ هذه المحبّة، فما الذي يقع في ذهن المحبّ بالنسبة إلى محبوبه؟ لا يفكّر إلا في العمل الذي إذا فعله يسرّ محبوبه، لا يريد أكثر من ذلك، فالغاية عنده هي مسرّة محبوبه، ولا يريد شيئاً آخر غير ذلك! فما يريده هو منتهى ما يتصوّره المحبوب.

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

14
  • ينبغي للسالك في مقام العمل أن يصل إلى هذه المرتبة؛ فلا يحسب لعمله حساباً أبداً. فلا يقول أريد أن أفعل هذا الفعل بشكل صحيح حتى أصل إلى تلك النقطة! هذا النمط هو الاعتماد على العمل والفعل. نعم ينبغي أن أقوم بالعمل بشكل صحيح، لكن لا لأجل أنّ العمل الصحيح يترك أثراً، أو أن يضع في حسابه شيئاً ما ويتوقّع شيئاً معيّناً منه! وبحسب قول الخواجة حافظ الشيرازي:

  • مباش بي مِي و مطرب كه زير طاق سپهر***بدين ترانه غم از دل بدر تواني كرد
  • [لا تبقى دون شراب ومطرب، فتحت قبّة السماء سيمكنك بهذه الأغنية طرد الغمّ من قلبك]

  • والمراد بالشراب والمطرب هو الاشتغال بالأذكار والأوراد والقيام بالأمور الموجبة لجذب الجلوات الإلهية التي من خلالها يرضى الإنسان بكل ما يجري عليه في هذه الدنيا، ومن لا يشتغل بهذه المسائل فسوف تكون الدنيا صعبة عليه وضيّقة، وسوف تأخذه الدنيا وتحيط به بتمام مصائبها وتتعبه وترهقه وتؤدّي به إلى الانكسار والغرق في بحور هذه الحوادث. لكن الخواجة حافظ يقول لا يمكنك أن تفعل ذلك، بل عليك أن تقوم بهذه الأذكار والأعمال، وأما هذه الجذبات والجلوات فسوف تتحقّق لديك بشكل تلقائي، وسوف يسهل عليك أن تعمل كل هذه الأعمال من دون أن تصل إلى نتيجة، تعمل هذا العمل ولا تصل إلى نتيجة ومع ذلك تضحك، وتعمل ذاك العمل وتصل إلى نتيجة ومع ذلك لا تفرح!! وهذا العمل كنت تتوقّع منه الوصول إلى نتيجة، لكن لم تصل! فلا بأس، فهناك ألف شخص آخر لم يصل إلى نتيجة بسبب هذا العمل، ولأكن أنا الواحد بعد الألف! وهذه المسألة حصلت بهذا النحو، فلتحصل كذلك! لماذا كل هذه المسائل؟ لأنّه يسعى وراء شيء آخر، وهدف آخر. وأما هذه الأعمال التي يقوم بها فهي من باب التكليف فقط؛ فالله أمرنا بها لذا نحن نفعلها! أما مراد السالك وما يعتبر أعلى المقاصد والأهداف التي يسعى إليها فهو العبودية. يقول إلهي أريد منك أن تجعلني عبداً، لا أريد منك شيئاً آخر غير هذا.

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

15
  • أهمية الدعاء والطلب من الله لكن مع التسليم لمشيئته تعالى 

  • طبعاً هذا الأمر ينبغي أن لا يؤدّي بالإنسان إلى أن يغفل عن سائر المسائل الأخرى، فالكثير من الرفقاء نبّهوني إلى هذه المسألة وهي أنّك ذكرت بأنّه لا ينبغي على السالك أن يدعو، فهل يعني ذلك أن لا يدعو الإنسان ولا يطلب شيئاً؟ وأن يترك الدعاء رأساً؟ هذا خلاف النمط الذي نراه في الروايات وفي القرآن، المسألة ليست كذلك [بأن نترك الدعاء أساساَ]، فقد شاهدت بنفسي طوال فترة ارتباطي بالأولياء أنّهم كانوا يدعون، كانوا يدعون لأولادهم ولأصدقائهم ورفقائهم.. ونفس المرحوم العلامة كتب في بعض الرسائل التي أرسلها عندما كان في الحج في العهد السابق هذه العبارة: لقد جلست البارحة في حجر إسماعيل مسنداً رأسي إلى جدار الكعبة مدّة نصف ساعة ودعوت للإخوان فرداً فرداً! انظروا! ولي الله يدعو لسعادة الرفقاء أم للسعة أم للعلم؟! جميع هذه الأمور لها مكانتها، لكن واقع المسألة هي مسألة العبودية، وهذا هو المهم لديه. فالإنسان ينبغي أن يدعو الله تعالى في جميع أموره؛ إلهي امنحني الزيادة في العلم والسعة في الرزق والسعادة والعافية في الدنيا والشفاء للمرضى.. وإلا فلماذا نقرأ {أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء}؟ ولماذا ورد لدينا مسألة قراءة الحمد لشفاء المريض؟ ولماذا ورد الدعاء لشفاء المرضى من الأمراض الجسمية والباطنية؟ والدعاء لرفع جميع هذه الأمور محفوظ في محلّه، لكن الكلام أنّه في النهاية ما يكون محور أفكارنا وسرّنا وضميرنا عبارة عن اختيار ومشيئة الباري تعالى، هذا ما ينبغي أن يكون مورد اهتمامنا، فإن لم يكن الأمر كذلك فماذا ستكون النتيجة؟ ستكون كما يكتب لنا البعض: سيدنا ألم تقل لنا بأن ندعو لننجح في الامتحانات الرسمية؟ فلماذا لم ننجح؟! 

  • ـ إذا لم تنجح فالصلاح في عدم النجاح.. 

  • ـ ألم تأمرنا بأن ندعو ليرتفع المرض، فقد دعونا ومات المريض بدلاً من الشفاء؟ 

  • ـ الموت كان هو الصلاح بالنسبة له. 

  • ـ يقولون ألم تأمرنا بالدعاء لسعة الرزق؟ فلماذا لا نزال تحت وطأة الدين؟ 

  • هذه التساؤلات بسبب أنّ تلك المحورية صارت منسية، تلك المحورية التي هي الأصل والأساس في الدعاء وهي تغليب مشيئة الباري واختياره على مشيئتنا واختيارنا.. تم نسيانها في هذه الأدعية، هذا هو مرادي من المسألة! لذا ينبغي أن يكون دعاؤنا دعاءً واحداً وهو مقام العبودية فقط. طبعاً، ينبغي أن يدعى لشفاء المريض ولرحمة الأموات ولرفع المشكلات! وإذا دعا الإنسان في هذه الوضعية فسوف يعطيه الله تعالى ما يساعده في ترقّيه وتكامله، ولو كان مخالفاً لمنظوره الظاهري أو توقّعه! وكم له من نظير.. 

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

16
  • لو اطلع الإنسان على المصلحة الواقعية لرضي بما قسمه الله له

  • لقد نقل عن الأولياء والعظماء الكثير من القصص والحكايات التي كان الأشخاص يقومون فيها بأمور وأدعية كانت على خلاف مصلحتهم، بحيث أنّه لو تحقّقت تلك الأمور لتوقّف سيرهم وسلوكهم، وربّما لو حصلت هذه الأمور لشخص آخر لن يكون لها نفس الأثر، أما بالنسبة إلى هذا فتعتبر هذه الحالة معيقة لسيره، ولو اطّلع الإنسان على ذلك لقَبِلَ به، لكن لا مصلحة في اطلاعه عليها، بل قد ترتفع الفائدة المرجوّة من ذلك. مثلاً، لو فرضنا بأنّك ترغب في السفر إلى مكان معيّن يوجد فيه أصدقاء ينتظرونك لتراهم وتذهب معهم في رحلات ترفيهية، ولو ذهبت إلى ذلك المكان الذي ترغب بالسفر إليه سوف تنزلق سيارتك في وادي سحيق وتموت! فلو علمت من خلال مكاشفة أو منام بأنّ سفرك هذا سينتهي بهذا الحادث، فلن تذهب إليه، حتى لو بُذل لك أموال طائلة لذلك! أليس كذلك؟! فهل أنت مجنون لتذهب إلى مكان يوجب لك الوقوع في الخطر! حسناً إذا فرضنا أنّه اتّضح لك أمر كهذا ولم تذهب بسبب ذلك، فهل عدم ذهابك أمر مهم؟! إنّما يكون عملاً مهماً ويفيده ذاك العمل فيما لو أقدم الإنسان على العمل وكسر نفسه من دون الاطلاع على عواقب هذا العمل، أما لو كان مطّلعاً فلا فائدة فيه، فحتى الولد الصغير لن يقوم به، فهل هو مجنون حتى يفعله؟! لذا أخفى الله تعالى حقائق الأشياء علينا، حتى تكون إطاعاتنا وأعمالنا موجبة لتكامل أنفسنا، وحتى ترتفع حجب الجهل عنّا بسبب ذلك. أما لو فرضنا أنّ الاختبار أتى على وفق ما ترغب به النفس فلن يكون هناك رشد وتكامل.

  • من هنا، فالإمام الصادق عليه السلام يريد أن يقول بأنّ الشخص إذا وصل إلى مقام العبودية فسيكون تمام اشتغاله وعمله قد خرج عن دائرة النفس؛ فلا يكون في عمله حديث النفس: هل أقوم بهذا العمل أم لا! فعندما يضع الإنسان نفسه جانباً ويرى أنّه مملوك لغيره وعبد لغيره ولم يرَ لنفسه أي اعتبار.. فسوف يصل إلى مرتبة يكون فعله فعل الله، ومن الطبيعي أن يصير ما يصدر منه هو ما يريده تعالى! ولن يكون تركيزه على نفسه في الأعمال.

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

17
  • التركيز على الشروط الظاهرية في الحج يسلب الإنسان التوجّه المطلوب في أعمال الحج

  • ألا تذكرون الحكاية التي ينقلها المرحوم العلامة عن المرحوم السيد الحداد في كتاب الروح المجرّد، عندما التقى بذلك العالم في منى وكان يشكو مما عليه الناس في منى ومن الأوضاع الموجودة هناك، والاعتراض على مسألة الذبح الفوضوي والنجاسة التي تصيب ثوبي إحرام الناس فتبطل إحرامهم، ويقول ما هذا التوجّه وما هذا الإحرام الذي يكون فيه كل هذا الخلل! وكان منفعلاً جداً بحيث أنّ أعصابه كانت مضطربة وكاد يبطل حجّه بسبب ذلك، وهذا نفس ما يفعله الناس الآن في الحج، فبدلاً من أن يقوم الحاج بالطواف والسعي بتوجّه وبحضور القلب.. [يلتهون بأمور أخرى].

  • لقد رأيت يوماً أحدهم في حالة اضطراب وهو يقول ماذا أفعل؟! فعندما كنت أطوف أتى أحدهم ودفعني فانحرف كتفي عن الكعبة، وقالوا لي بأنّ طوافك باطل وعليك أن تعيده! فقلت له: إنّ طوافك صحيح، وهو أصحّ من الطواف الذي أدّيته أنا، وأنا أضمن لك يوم القيامة صحّته!

  • هذا النحو من التفكير يسلبنا الحالة النفسية والروحية التي ينبغي علينا أن نحصّلها في الحج، ويستبدلها بحالة من الاضطراب والخوف والتشويش والكدورة والشك والشبهة، فيرجع الحاج إلى بلده وهو مثقل بالكثير من الشك والاضطراب. هل هذا حج؟! إذا كان الأمر كذلك فالأفضل له أن لا يذهب أساساً.

  • لقد جاء الأولياء ليفتحوا لنا الطريق ويسهّلوا علينا المسير ويقرّبونا إلى الله!

  • كنت مرّة في مكان، فأتى شخص منتسب إلى بعض المشهورين، قال ذهبنا سوياً إلى الحج أو إلى العمرة، وانتقلنا من جدة إلى الحجفة وأحرمنا من الجحفة ـ وعندما كان ينقل هذه القصة كان عمر ذاك الرجل ثمانين سنة وكان له رسالة عملية ـ قال: عندما أحرمنا، فجأة تغيّر لونه وبدأ يرتجف! فقلت له ماذا حصل؟ قال: أفكّر من الآن في كيف يمكن أن نخرج من هذا الإحرام! هل تعرفون معنى ذلك؟ يعني أنّه قال كيف يمكن أن نتخلّص من الإحرام!

  • فقلت له: كان ينبغي عليك أن تقول له، إذا لم تخرج من الإحرام فلا تخرج! فهل تريد أن تتزوج بعد هذا العمر؟! فماذا سيحصل حتى لو بقيت إلى آخر عمرك في حالة إحرام. فهذا التساؤل إنّما يحصل عندما تكون تلك الشكوك والحالات والاضطراب والخوف من تحقّق شيء من مبطلات الإحرام، فهو لم يكد يحرم حتى بدأ يرتعد خوفاً بأنّه كيف يمكنه أن يتخلّص من هذا الإحرام، والحال أنّ الأمر لا يتجاوز العصر من نفس اليوم! فهل أدركتم حقيقة هذه الأمور؟!

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

18
  • لقد انقضى سبعون أو ثمانون سنة من عمره في البحث والتنقيب في الكتب والمسائل والروايات، ثم إذا أراد أن يقوم بعمل لا يستطيع أن يقوم به كفرد عادي! هذا هو سير القهقري! فما كان منه من أمور ومسائل كانت في طريق البعد عن الله.

  • ماذا قال السيد الحداد لذاك الشخص؟ قال له: ماذا هناك حتى تخلط جميع هذه الأمور ببعضها، وتجعل الدنيا كلها نجسة؟! اجلس يا عزيزي لا داعي لجميع هذه الأمور! اجلس لديّ عمل معك..

  • التوحيد هو التوجّه إلى الله بدل الالتفات إلى ظاهر الواجبات والمحرّمات

  • ذكروا بأنّه ذهب رجل عند أحد الأولياء ـ لعلكم قرأتم ذلك ـ فقال له: ماذا علّمك أستاذك؟ قال: أمرنا بالتزام الطاعات والاجتناب عن الذنوب؛ بأن نقوم بالطاعات في أوقاتها المحدّدة، ولا نأتي بشيء من المعاصي والذنوب وننتبه على أنفسنا حتى لا نقع في ذلك. 

  • فقال له الولي: تلك مجوسية محضة! هلاّ أمركم بالتبتّل إلى الله تعالى والتوجّه إليه ورفض ما سواه؛ يعني لماذا لم يأمركم بالخروج من أنفسكم، ولماذا لم يطلب منكم أن لا تروا غيره تعالى؟ لماذا لم يأمركم أن توجّهوا أفكاركم إلى الله تعالى بدلاً من التوجّه إلى التأثيرات والآثار الظاهرية في الأعمال والعبادات؟! 

  • انظروا هذا هو مقام العبودية! الإمام الصادق عليه السلام يريد أن يوصلنا إلى هذا المقام، يعني أن العبد عندما يكون عمله منحصراً به تعالى، فهذا يعني أنّه خرج عن نفسه؛ لا يرى الحسن والقبح في أعماله.. بل يرى الأمر بأنّه هو قال لي افعل! لذا فعلت، وهو قال امتنع! فامتنعت، عليه أن يلحظ أنّه هو الذي قال، لا أنّ هذا العمل ماذا أثره! وعليّ أن أقوم بهذا العمل لأحصل على هذا الأثر، وإذا لم أقم به فلن أحصل عليه. لماذا لم تصل إلى هذه الحالة؟!

  • العبد هو الذي لا يعود يرى نفسه إذا كان في مقام الإطاعة؛ فلا يرى بأنّ هذا العمل هو لأجل الوصول إليه. وبحسب قول الخواجة الشيرازي، وهو وصف جميل:

  • ولى تو تا لب معشوق و جام مِيْ‌ خواهى***طمع مدار كه كار دگر توانى كرد

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

19
  • [ولكن ما دمت تسعى إلى شفاه المعشوق والكأس، فلا تطمعنّ في فعل أمر آخر].

  • نعم على الإنسان أن يكون لديه اهتمام في الوصول إليه، لكن هذه مرتبة في السير، وإلا بعد ذلك عليه أن يضع هذا الاختيار والإرادة جانباً، عليه أن يقوم بالعمل لأجل أن يحصل على تلك الجاذبات الإلهية! فإن قلت أقوم بهذا العمل حتى يصير حالي جيداً، إذن أنت قمت بذلك لأجل الحال! وعندما تقول أذهب إلى الحج لكي يتحسّن وضعي، إذن حجّك لأجل تحسين الوضع! وعليه فلم تحج أساساً. أنت تطلب وصل المعشوق وتريد الارتواء من شرابه المعنوي فعليك أن لا تطمع في الوصول إلى غاية أخرى، فلن تبلغ إلى ما وصل إليه العظماء في سلوكهم. لذا لا بد من الخروج من النفس، ولا بد أن لا ترى شيئاً في نفسك، وعندما يظهر في نفسك مقام العبودية عند ذلك يصل الإنسان إلى مكان يرى أنّ جميع الأفعال التي يفعلها مسلوبة منه؛ وذلك بأن يسلب الأفعال عنه فلا يعود ينظر إلى فعله نظر العوام، ثم يحصل له تسليم لله تعالى، وشيئاً فشيئاً يصل إلى حدّ يضع نفسه جانباً، وعندما يضع الإنسان نفسه جانباً ويتجاوز نفسه ولا يرى لنفسه شيئاً، عندئذٍ يرى أنّ هذا الفعل ليس فعله. ويقول المرحوم العلامة عن هذه المرحلة بأنّ الفعل هنا هو فعل أمير المؤمنين، حيث يأتي بذاك الإكسير الذي لديه ـ ألم نقل في الزيارة بأننا نشهد أنّك الإكسير الأعظم ـ ويضعه عليه ويغيّر ماهية الإنسان ويخرجه من إطار الإنسانية، وهناك يشعر الإنسان دفعة واحدة بأنّه لا يستطيع أن يقوم بأي فعل من تلقاء نفسه وباختياره وبإرادته..

  • نسأل الله أن يقسم لنا ذلك، وأن يشملنا بهذه النعمة العظمى.

  • بناء على ذلك ما نستفيده من هذه الفقرة من الرواية هو أنّ الإمام عليه السلام يريد أن يقول لنا ـ وهذا ما يتناسب مع سائر فقرات الرواية ـ بأنّ الإنسان في مقام العبودية عليه أن يخرج عن إرادته، وعندما يضع نفسه وميله جانباً ينظر إلى ما يريده الله ليقوم به، وكل ما يريده هو يفعله، وكل ما لا يريده تعالى لا يفعله بما أنّه لا يريده؛ سواء وصل إلى نتيجته الفكرية والتخيّلية أم لم يصل، وذاك مطلب آخر.

الإنسان مظهر لجميع الأسماء والصفات الإلهية

20
  • نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا ويوصلنا إلى تلك المرتبة التي أوصل إليها أولياءه الصالحين إن شاء الله.

  • اللهم صل على محمد وآل محمد