المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالملكية الحقيقية والاعتبارية
التوضيح
تدرس هذه المحاضرة موضوعين أساسيّن:
الأول: ضرورة الحفاظ على أصالة الهويّة الثقافيّة للمجتمع الإسلاميّ وذلك من خلال المحافظة على معالم مثل المنبر النبويّ كنموذج. كما تدرس في هذا المجال حدود التفاعل الثقافي بين المجتمع الإسلاميّ والمجتمعات غير الإسلاميّة وتحدد المعيار فيما يؤخذ منها وما لا يؤخذ، وأنّه لا مانع من الأخذ بالنتاجات العلميّة والتقنيّة التي لا تمسّ هويّتنا الثقافيّة، مؤكّدة على ضرورة التفوّق العلميّ والتقني للمجتمع الإسلاميّ عملاً بالحديث الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
الثاني: معنى أن لا يرى العبد لنفسه ملكًا وأنّه عبارة عن عدم التعلّق وعدم سدّ المنافذ والسماح للتغيير والتبديل في الأمر، وقد استثني في الشرع من ذلك ما يرتبط بالعلاقة الزوجيّة حيت سدّ الشارع المنافذ وأحكم هذه العلاقة بجعل القواميّة للزوج، ومع ذلك فإنّ الزوجة هي أمانة لا بدّ من وضعها في موضعها الصحيح من التربية الإلهيّة وطريق التكامل. ومثّلت المحاضرة لعدم التعلّق وتقبّل التغيير بمواقف العلامة الطهراني في هجرتيه من النجف إلى طهران ومن طهران إلى مشهد.
كما تعرّضت أثناء هذا البحث إلى موضوع دائرة ولاية الإمام وملكيّته وعنوان تصرّف الحاكم الشرعيّ في الحقوق الشرعيّة وأنّه وكيل لا مالك. خلافًا لبعض الفقهاء الذي يرونه مالكًا ومنهم السيّد أبي الحسن الأصفهاني، والذي نقلت عنه قصّة مع الشيخ الكمباني والشيخ المظفّر والشيخ البلاغي رضوان الله عليهم في عدم سماحه لهم بتدريس الفلسفة والعرفان والتفسير، إضافة إلى قصّة العلامة الطباطبائي رضوان الله عليه مع آية الله البروجردي رحمة الله عليه.
هو العليم
الهويّة الثقافيّة للمجتمع الإسلاميّ ، وعدم تعلّق الإنسان بملكه
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٤٦
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالَمين
والصّلاة والسّلام عَلى سيّدنا ونبيّنا وحَبيب قُلوبنا
وطَبيب نُفوسنا أبي القاسم المُصطفى محمَّد
وعلى آله الطَّيّبين الطّاهرين المَعصومين المُكرَّمين
واللَعنة عَلى أعدائهم أجمعين
قال مولانا الإمام الصّادق عليه السّلام: أنْ لا يرَى العَبدُ لِنَفسِه فيما خَوَّلَهُ الله مِلكًا، لأنَّ العَبيدَ لا يكونُ لَهم مِلكٌ، يرونَ المالَ مالَ اللهِ يضَعونَه حيثُ أمَرَهُم اللهُ به.
العبيد لا يشعرون بالملك والتملّك لما آتاهم الله، يعتقدون أنّ المال مال الله يصرفونه فيما أمر الله.
ضرورة المحافظة على الهويّة الثقافيّة للمجتمع الإسلامي
لقد مضت مدّة كنت أتكلّم فيها جالسًا على الأرض وفق ما كان في ذهني وبعض الأمور التي كنت ألاحظها، إلى أن كان هناك أمران أدّيا إلى تعديل وجهة نظري في الموضوع:
أحدهما: أنّي أشعر أنّ الرفقاء والأحبّة يقعون في مشكلة في التخاطب والمشافهة والمسافة بعيدة، سواء للمتكلّم أم للسامع، فمن الأفضل أن يكون المتكلّم والسامع متواجهين، ولذلك تأثير أكبر عند الطرفين.
الأمر الثاني: وهو أمر مهمّ جدًّا ويمكن أن يقال إنّ الأمر الأول بالنسبة إليه ليس بشيء، وهو أنّ إلقاء المسائل الإسلاميّة والأخلاقيّة لا بدّ أن يكون حسب سنّة النبيّ وسنّة الشرع والأئمة ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فعندما كان يتكلّم مع الناس في المدينة عندما شرّف المدينة وبنى ذلك المسجد على تلك الطريقة، أمر فصنعوا له منبرًا مؤلّفًا من ثلاث درجات فكان يقف عليه أو يجلس أحيانًا، فإن كان كلامه قصيرًا كان يقف، وإن كان طويلاً نوعًا ما فكان يجلس، وهكذا كان يبيّن للناس المسائل الأخلاقيّة والمسائل الشرعيّة والمسائل الاجتماعيّة. لأنّه قبل صناعة ذلك المنبر كان يتّكئ على أسطوانة تدعى الحنّانة، وعندما صنع ذلك المنبر وجلس عليه، شرع ذلك الجذع بالحنين لفراق النبيّ وسمع الجميع حنينه۱ والآن هو معروف باسم الأسطوانة الحنّانة إلى جانب الضريح المطهّر.
منبر رسول الله من معالم هويّتنا الثقافيّة
على كلّ حال، فإنّ سنّة النبيّ هي المنبر، ولا بدّ للخطيب والإنسان الذي يبيّن المسائل الأخلاقيّة والإسلاميّة أن يقوم بالأمر وفق سنّة النبيّ، وأن يعمل وفق تلك السيرة. أمّا المنصّة وأمثالها فلا وجود لها عندنا في الإسلام. نعم يمكن أن يستفاد منها بالطبع في بعض المحافل غير المرتبطة بإلقاء المسائل الأخلاقيّة والدينيّة والتخاطب بها، أمّا المسائل الإسلاميّة الأخلاقيّة والنصائح وبيان المسائل الشرعيّة فإنّها تحتاج إلى اتّباع سنّة النبيّ.
لم يكن لدينا في السابق منصّة، وقد جاءت هذه الظاهرة من الغرب. فهم في العهد الأسبق كانوا يخطبون في مجالسهم التشريعيّة، وتقريبًا في ما يقرب من العهد البهلوي دخلت أوّل منصّة إلى إيران وصارت جزءًا من الثقافة الإيرانيّة، وقبل ذلك لم يكن لدينا أصلاً منصّات، حتّى الملوك السابقين والسلاطين من القاجاريّين وأمثالهم لم يكونوا يستفيدون من تلك المنصّات. فكانوا إن احتاجوا أن يخطبوا في مكان في صلاة الجمعة وأمثالها... هؤلاء السلاطين السابقون حتّى سلاطين المغول عندما حكموا إيران، سلاطين خوارزمشاه والخوارزمشاهيّة كانوا جميعًا يستفيدون من المنبر فيجلسون عليه ويتكلّمون إلى الناس. وفي زمان البهلويّ الأول ـ رضا شاه ـ دخلت ظاهرة المنصّة وصارت جزءًا من الثقافة غير الإسلاميّة في إيران، ولكن كان الخطباء والعلماء حتّى ذلك الحين يستعملون المنبر إلى ما قبل الثورة، وأنا بنفسي أتذكّر أنّ العلماء الكبار والخطباء المعروفين والمشهورين الذي لا يزالون حتّى الآن يستعملون المنصّة كانوا سابقًا يستعملون المنبر، قبل الثورة وبهذا المنبر كانوا يسوقون الناس إلى محاربة الظلم ودفعه والبحث عن العدالة، وقد انطلق الناس من تحت هذه المنابر وهذه المجالس فثاروا، وقضوا على أصل تلك الحكومة الظالمة المستبدّة وطووا بساطها.
ومن هنا يجب على الروحانيّين والعلماء من أيّ مرتبة كانوا أو صنف وبدون استثناء أن يستفيدوا من المنبر اتّباعًا لسنّة رسول الله. ما الإشكال في أن يكون هناك منبر بدلاً من الكرسيّ وأمثالها، منبر ذو درجتين أو ثلاث درجات، لكي يعلم الجميع، وتكون تلك الأصالة التي هي ضرورة للتكامل الاجتماعيّ واستقلال الأمّة مشهودة ومعروفة للجميع. فبينما تستفيد سائر البلدان الإسلاميّة في خطب أيّام الجمعة من المنبر فإنّ دولة شيعيّة ترى نفسها منتسبة إلى الإمام وترى نفسها منتسبة إلى سنّة النبيّ، وتريد أن تستفيد من تلك السنّة النبويّة في تبليغ عقيدتها ومدرستها إلى الدنيا، عليها أن تلتفت أكثر إلى النقاط الخفيّة واللطائف والدقائق، فبدلاً من الكرسيّ علينا أن نستفيد من المنبر، ما المشكلة في ذلك؟ أيًّا يكن المتكلّم، في أيّ مرتبة كان، هذا أفضل، أفنجلس على كرسيّ أم نجلس على منبر من درجتين ونتحدّث مع الناس ويعلم الناس أنّ هذا الأسلوب وهذه الخصوصيّة هي التي يرضاها النبيّ وأولياؤه؟ ما الفساد الذي يحدثه هذا الأمر؟ إنّ أصالتنا وهويّتنا أعلى من ذلك الكلام ومن أن نتأثّر باعتراض البعض وإشكالهم ونترك الميدان للآخرين، ونكون في حالة انفعاليّة، أن هذا سيّء الآن والآن لا أدري ماذا والآن كذا... كلاّ كلّ هذا لا يصلح دليلاً وحجّة لتغيير تلك السنّة. لماذا لا يستفيد أئمة الجماعات من المنبر بدلاً من المنصّة؟ فليضعوا منبرًا مثل رسول الله، فنحن نقدّم أنفسنا على أنّا نوّاب رسول الله، ومبيّنون لتلك المدرسة وتلك العقيدة، ومن جهة نطلق شعار لا شرقيّة ولا غربيّة ونلغي تلك الثقافة والعادات، ومن جهة أخرى نسير بأنفسنا نحو هذا الأمر. لماذا؟ فالنبيّ كان له منبر، وأئمة الهدى كانت لهم منابر، حتّى خلفاء بني العبّاس وأمثالهم كانوا يستفيدون من المنبر وكانت السنّة أن يستفاد من المنبر. وقبل الثورة كنت أشارك أنا شخصيًّا في بعض صلوات الجمعة، أنا بنفسي كنت أشارك في كثير من أيّام الجمعة في صلاة الجمعة التي كان يقيمها المرحوم آية الله الشيخ محمّد علي الأراكي رحمة الله عليه في مسجد الإمام هذا۱، أنا بنفسي كنت أشارك، فكان يقف على المنبر ويخطب خطبة الجمعة ثمّ يصلّي. وبعد الثورة أيضًا كنت أشارك، وكذلك كنت أشارك في الصلوات الأخرى التي كانت تقام هنا وهناك، وكانوا جميعًا يستعملون المنبر. ولا أدري ما السبب الذي جعل هذه السنّة تتغيّر، والآن يقول خطيب الجمعة: نحن نعلن عن صلاة الجمعة من المنصّة. إنّه لا منصّة في صلاة الجمعة، فلصلاة الجمعة منبر.
ويجب أن يطرح المنبر للناس كمظهر من مظاهر الحضارة الإسلاميّة، لا الحضارة بمعنى المظاهر البرّاقة، بل الحضارة بمعنى الأصالة في الهويّة، الأصالة في ذلك الاستقلال الثقافي. في حين يقومون الآن بالاحتفاظ وبأيّة وسائل بغليون تشرشل في المتحف كرمز لسياسته، نأتي نحن وبكلّ بساطة نخلي الساحة للخصم وبشكل انفعالي [قائلین] إن لم نفعل ذلك فسيقولون عنّا متخلّفين، لقد تخلّفوا، علينا أن نكون منسجمين مع المجتمع، علينا أن نصنع كذا. في حين أنّ كلّ هذه الأمور كلّها تكشف عن روحيّة الانفعال، وروح التأثّر.
بعض أصدقائنا هم أئمة جمعة لبعض المناطق، وأوّل ما قاموا به أنّهم جاؤوا بمنبر. عندما أرادوا أن يكونوا أئمّة جمعة فإنّ المرحوم العلاّمة نبّههم على بعض الأمور، وكان منها أنّ عليكم أن تخرجوا المنصّة وتضعوا مكانها المنبر ثمّ ترتقون المنبر ثمّ تلبسون الرداء كما كان رسول الله يلبس الرداء لا هذه العباءة، بل الرداء، أي تلبسون جبّة ثمّ تلبسون فوقها قطعة من القماش على أكتافكم وتكون ذات لون أبيض أو أصفر كما هي سنّة رسول الله حين إقامة صلاة الجمعة حيث كانت بهذه الطريقة ـ ولكنّا لم نصغ إلى هذه الأمور ـ [كان يقول] عليكم أن تذهبوا إلى صلاة الجمعة بهذا النحو ثمّ تتحدّثون، وليس لدينا مجال اليوم للحديث عن كيفيّة صلاة الجمعة وخصوصيّتها، فلو بيّنا للأصدقاء لعلموا كم يمكن أن يكون لصلاة الجمعة هذه من الآثار العجيبة، وكم العدوّ خائف من صلاة الجمعة هذه، بشرط أن تتحقّق هذه الصلاة في ظلّ الاقتداء بسنّة رسول الله.
رحم الله المرحوم م الشيخ حمّد تقيّ المجلسيّ والد العلاّمة محمّد باقر المجلسي صاحب كتاب بحار الأنوار، الكتاب المعروف جدًّا، فإنّه يتحدّث في شرحه وبيانه لصلاة الجمعة في كتاب شرح من لا يحضره الفقيه فيقول: كم من المناسب أن يقوم الخطيب إذا ارتقى المنبر ووعظ الناس بالحديث عن المسائل الأخلاقيّة ويقرأ بعض الأشعار الأخلاقيّة للنّاس بصوت عال، وكم من المناسب أن يقرأ من أشعار مولانا محمّد البلخي ومثنوي، فيقرأ هذه الأشعار للنّاس۱. حينها ستلاحظون أنّ الخطبة التي هي مع هذه المسائل الأخلاقيّة والأشعار الحكميّة والعرفانيّة لأعاظم الدين هؤلاء كم لها من البهجة والسرور على الناس بحيث إنّ هذه الروحانيّة وهذا النور وهذه البهجة يمكن أن تبقى إلى أسبوع تحيي الناس وتجعلهم في أفضل حال، وتجعلهم في حالة من النشاط، وتجعلهم ملتفتين بشكل كامل إلى مسائل الآخرة و...
وعلى هذا الأساس، فقد شعرت أنّ هذا الحديث بهذا النحو من الجلوس، ربّما يؤدّي إلى بعض الأفكار، لا سمح الله لعلّنا بسبب بعض الأمور وقعنا أسرى لأمثال تلك التخيّلات، وأنّا نعدّ الجلوس على المنبر يحطّ من مقامنا لا سمح الله لا سمح الله وأنّ الحديث...، في حين أنّ الحديث من على منبر رسول الله فخر لنا. نحن لا نليق أن نجلس على المنبر، أي هذا المنبر الذي هو رمز لبيان المسائل الأخلاقيّة والمسائل الشرعيّة والمسائل الاعتقاديّة لا يمكن أن يجلس عليه أيّ إنسان.
المعيار في الأخذ عن الثقافة الغربية
فإذن الجلوس على المنبر يعني خلافة وتمثيل ونيابة وحكاية مدرسة الأعاظم وأولياء الدين. والموضوعات هنا كثيرة أن كيف ينبغي أن نعيد نحن تلك السنّة، وأن نميّز بين ما يفصلنا عن الأجانب من الناحية الثقافيّة وما لا يوجد القيام به خللاً ونقصًا في هويّتنا الثقافيّة، بين ما لا يؤدّي القيام به من التأسّي بهم إلى أيّ خلل في شؤوننا الثقافيّة واعتقاداتنا، من الأمور التقنيّة والتكنولوجيّة والعلميّة.
ضرورة تقدّم المجتمع الإسلامي على المجتمعات الأخرى في العلوم والصناعة
فهذه أمور ليس فقط ينبغي أن نقتدي بهم فيها، بل علينا أن نتقدّم عليهم فـ "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه"۱، الإسلام دائمًا هو الأعلى، وعلى المسلمين أن يكونوا حائزين على أعلى مرتبة ومستوى في الدنيا من الناحية العلميّة والتقدّم العلمي والأمور الفنيّة والتخصّصيّة والتقنيّة. ولكن للأسف ليس الأمر كذلك، ونحن متأخّرون كثيرًا، وواقعًا هذا أمر مؤسف في الدولة الإسلاميّة أن يدعو أئمّة الهدى الناس إلى التعالي والتكامل العلميّ والتفوّق العلميّ والتفوّق على سائر الشعوب [في حين أنّنا نحن لا نطيعهم]!
شدّة اهتمام الإسلام بأمر النظافة والسلامة العامّة
لاحظوا هذا القدر من الاهتمام بالنظافة وبالصحّة عندنا في الإسلام ـ والآن خطر هذا المثال في ذهني ـ أفهل كان هؤلاء المدّعون الآن [يهتمّون إلى هذا الحدّ] في القرون الوسطى؟! إنّ هؤلاء حتّى الآن لا يهتمّون إلى هذا الحدّ، وسائر الأديان أصلاً لا تهتمّ بأمر التنظيف وأمور النظافة، حتّى إنّه كان يعدّ الذهاب إلى الحمّام في قصر ملوك فرنسا عارًا. أتعلمون متى شاعت هذه العطور التي تأتي من الخارج؟ إنّ هؤلاء يبقون مدّة طويلة بغير غسل فيجبرون على وضع العطور، ولأجل تلك المسائل المخالفة للأخلاق والمخالفة للآداب وأمثالها كان الذهاب إلى الحمّام يعدّ عارًا عليهم في القصر الفرنسي والإنكليزيّ. فقد كانوا على درجة كبيرة من الانحطاط الثقافيّ حتّى يقولون: نحن نذهب إلى الحمّام؟! فحين لا يذهبون إلى الحمّام فإنّهم يكثرون من وضع العطور على أنفسهم. يصابون بآلاف الميكروبات وآلاف الأوساخ والأمراض لأنّهم لا يذهبون إلى الحمّام. فيضعون العطور. وبالنسبة إلى الأمور الأخرى، بالنسبة إلى مماسّتهم للنجاسات والأمور الأخرى فهذا أصلاً لا كلام فيه. ولكن عندما تدخلون إلى الثقافة الإسلاميّة تجدون أنّ النظافة من الإيمان٢ فأوّل كلام النبيّ النظافة من الإيمان العمران من الإيمان٣، الزراعة٤ والاهتمام بمسائل الحياة الاجتماعيّة عدّها من الإيمان، التنظيف من الإيمان. كم لدينا من الروايات أن لا يُبقي الإنسان سلّة القمامة في منزله ليلاً، وأنّها محلّ لتجمّع الشياطين٥، ولا بدّ من وضعها خارجًا! والنبيّ الأكرم يقول: لولا أن أشَقَّ عَلى امّتى لَأمرتُهُم بالسِّواك٦ فلو لم يكن صعبًا وشاقًّا بحيث إنّ البعض ولأجل بعض الأمور ولأجل بعض التقصيرات سيقعون في الحرام في مخالفته، لأمرتهم بالسواك كلّ ليلة. أي إنّه واحد من الواجبات كالصلاة والصيام والحجّ، فواحد من تلك الواجبات السواك قبل النوم.
وتقليم الأظافر في الليل مكروه لأنّه يمكن أن يحصل التهاب في أطراف الأصابع بسبب قلّة النور في ذلك الوقت، وفي النهار أيضًا يومي الخميس والجمعة، والاستحمام على الأقلّ في الأسبوع مرّة، على الأقلّ، ولدينا في الروايات أنّه مستحبّ على المسلم أن يستحمّ يومًا بعد يوم. الاستحمام كلّ يوم مكروه، ولكن يومًا بعد يوم مستحبّ.۱ ففي أيّ من هذه الشرائع وهذه الحضارات تجدون أمثال هذه الأمور؟ وكنت قد جمعت شذرات من ذلك قبل مدّة بعيدة حول أمور الصحّة والسلامة فخرج كتاب في الروايات. طالعوا فقه الصادق للإمام الصادق عليه السلام، طالعوا فقه الرضا للإمام الرضا عليه السلام٢ [حيث يتضمّنان أن:] قم بهذا العمل في هذا الوقت، وقم بذاك العمل في ذاك الوقت، ففي هذا غير جيّد وفي ذاك جيّد. هنا لا بدّ من رعاية أمور النظافة. كيف تتناول الطعام؟ كيف يكون الطعام في الشتاء وكيف يكون في الصيف؟
من الذي بيّن كلّ ذلك؟ أئمتنا هؤلاء هم الذين بيّنوا. وكذلك روايات أمير المؤمنين عليه السلام حول السلامة. ففي أيّ من أديان سائر الحضارات نجد هذا الأمر؟ فإذن اتّباعهم في المسائل التي تؤدّي إلى التكامل الاجتماعيّ للإنسان وتؤدّي إلى التكامل العلميّ لهؤلاء الناس والمجتمع الإسلاميّ، هو من أهمّ الواجبات، وليس فقط مستحسنًا، بل هو من أهمّ الواجبات.
النقطة المهمّة هي أن لا نستجلب إلى ثقافتنا بواسطة اتّباعهم الأمور الخاطئة وإلاّ فهم بشر أيضًا، فما المشكلة [في الأخذ منهم]؟ كما نبلّغهم نحن بعض المسائل من الناحية الثقافيّة، ولجميع الدنيا، فيمكن أن نجد بينهم بعض المسائل الثقافيّة، بعض الآداب، بشرط أن تكون آدابًا جيّدة، فعلى الإنسان أن يستفيد ذلك، فيجب على الإنسان أن يستفيد ذلك، لا إشكال فيه، ولكنّ الكلام هو أن لا ننسى هويّتنا الإسلاميّة وهويّتنا الثقافيّة بواسطة خسارتنا لأنفسنا، هذا هو المهمّ. الإسلام يعلو ولا يعلى عليه لقد كان الأئمة عليهم السلام جميعًا يؤكّدون في وصاياهم وتعاليمهم على هذا الأمر. فما الإشكال في أن يكون الإنسان محافظًا على هويّته الإسلاميّة واتّباعه لذلك المذهب والمنهج الإسلاميّ [ومع ذلك يستفيد من بعض الآداب من الثقافات الأخرى؟!] لقد كنّا في أحد الأماكن في مجلس، وكان مجلس عقد، كان الوقت وقت الغروب، والإعلان الذي أعلن لذلك المجلس كان على أنّه من العصر إلى قسم من الليل. ورغم أنّ هذا الأمر لم يكن محلّ تأييد المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه حيث كان هو يقول: إذا أُعلن فليكن الإعلان بأنّه من العصر إلى الغروب، وبعد الغروب يكون الجميع في أعمالهم الخاصّة، وينتهي المجلس. وعلى أيّ حال حلّ الغروب أثناء ذلك المجلس، فرأيت أنّ المرحوم العلاّمة خرج من الباب ومضى، ودخل من الباب الآخر لذلك المنزل فدخل غرفة وشرع بصلاة المغرب، فالتفت بعض الأصدقاء ففعلوا مثله، ونحن أيضًا ذهبنا، وعندما انتهت الصلاة عاد إلى ذلك المجلس، ونحن رجعنا أيضًا، فرأينا أنّ كثيرًا من هؤلاء وخصوصًا العلماء الذين كانوا هناك كانوا لا يزالون جالسين هكذا يتحدّثون وكثير منهم كانوا من أئمّة الجماعة، فكانوا يتحدّثون ومن المعلوم ما هي الأمور التي تطرح هنا، فلا شيء سوى السؤال عن الأحوال وأمثال ذلك، فالمسائل العقائديّة والشرعيّة لا تطرح في هذه المجالس، كيف حالكم؟ جاء فلان أم لم يأت؟ سافر وهكذا... وأنا كنت بنفسي شاهدًا على أنّ كثيرًا منهم لم يصلّوا صلاة المغرب والعشاء حتّى الساعة الحادية عشرة، فهم في فصل الصيف لم يصلّوا حتّى هذه الساعة، وقد رأيت ذلك بعيني، لم يصلّوها، ونحن ذهبنا لأداء الصلاة ورجعنا فصرنا مورد اعتراض لبعضهم أن تركتم الضيوف أنتم وذهبتم فصلّيتم! قالوا: فليصلّ الضيوف أيضًا ما المشكلة في ذلك؟! فليقوموا ويتوضّؤوا ويبعدوا الكرسيّ جانبًا ويصلّوا صلاتهم، أفهل يفسد حال المجلس؟ تبعدون الكرسيّ وتصلّون ثمّ تعيدونها إلى أماكنها، وتعيدون الطاولات إلى أماكنها. الجلوس والحديث بكلام مستهلك لا طائل منه لا إشكال فيه! أمّا الصلاة في أوّل وقت الغروب وأوّل وقت الصلاة والذي هو سنّة النبيّ حتّى أنّ النبيّ كان يتحدّث يومًا مع الناس وينصحهم فحان وقت الصلاة فنزل عن المنبر ـ كما في الرواية ـ وصلّى صلاة الظهر مع الناس، ثمّ جلس على المنبر من جديد وتابع ما بقي من تتمّة كلامه. أفي هذا مشكلة؟! وأنا أقطع أنّ بعض هؤلاء كان منزلهم في مكان حينما وصلوا إليه كانت صلاة المغرب والعشاء قضاء. هذا أقطع به. هذا ليس صحيحًا، هذا ليس صوابًا، وليست هذه متابعة النبيّ، بل على الإنسان أن يتماشى مع الأحداث والمسائل المعاصرة ومتطلّبات الزمان مع حفظه لسنّة النبيّ، فلا إشكال في ذلك، وهذا ينبغي أن يكون كذلك. فنحن لا نقول ينبغي أن لا نستفيد من التقنيّات الحديثة وأمثالها.
بل على العكس من ذلك، فإنّ أحد أصدقائنا المحترمین الأتقياء السيّد الدكتور شهرياري الذي كان في زمان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه في طهران في مستشفى "لبّافي نجاد" حين أجرى الدكتور سجّادي لعينه عمليّة جراحيّة، حيث كان مساعدًا له، وقد نقل لي بنفسه وقال: ذهبنا إلى إحدى دول الخارج مع إحدى الهيئات، وكانت دولة شيوعيّة، ويبدو أنّها كوبا. وقد جلنا في مستشفياتهم وزرنا مراكزهم الطبيّة والصحيّة، وكنّا قد ذهبنا مع إحدى المؤسّسات الإيرانيّة. الأمر الذي أثار تعجّبنا هو أنّا رأينا أنّ هذا البلد الشيوعيّ المخالف بحسب الظاهر لأميركا والمطروح كفريق في مواجهتها الآن ولا يزال يدعو إلى مواجهتها ومعارضتها إلى الآن، رأينا أنّ كافّة أجهزة المستشفيات في هذا البلد من أفضل وأحدث الأجهزة الموجودة في أميركا. دولة شيوعيّة بهذا النحو... فسألناهم من أين أحضرتموها؟! كيف تدّعون محاربة الثقافة البرجوازيّة الأمريكيّة والإقطاعيّة الموجودة الآن في أميركا ثمّ تجمعون لأجل مستشفياتكم ومراكزكم الصحيّة أحدث الأجهزة والتي ربّما لا توجد حتّى في أميركا في كثير من المستشفيات؟!
قالوا: نحن نعتقد بقيمة أرواح الناس. كان جوابهم الذي أجابوا به هذا: نحن نعتقد بقيمة أرواح الناس، وهذا عين كلام صديقنا المحترم، معتقداتنا في مكانها والأمور الثقافيّة في مكانها، ولكن من حيث الأمور الاجتماعيّة فإنّا نعتقد بقيمة كلّ ما له ارتباط بروح الإنسان وأمانه. ثمّ ذكر أنّهم قالوا: لقد خصّصنا ثلاثة وثلاثين بالمائة من ميزانيّة الدولة للشؤون الصحيّة للناس. هل التفتّم؟ هذه دولة شيوعيّة، دولة لا دين لها، فهم شيوعيّون في النهاية، فلا إسلام ولا مسيحيّة هناك ولا أمثال ذلك. والأمر صحيح، ولا بدّ أن يكون كذلك. الأمر الذي يقولونه صحيح. كم يحترم الإسلام ويقدّر حياة الإنسان! وكم لدينا في الروايات أنّ من أنجى نفسًا من الموت فقد فعل أمرًا عظيمًا! من قضى حاجة مؤمن، من تعهّد مريضًا ومرّضه...۱ فكم لدينا في الروايات حول تمريض المريض، من عاد مريضًا فقد أوجب الله له الجنّة، والملائكة تترحّم عليه وتستغفر له بكلّ خطوة إلى بيت ذلك المريض.٢ هذه كلّها أمور من أعماقنا ونحن عنها غافلون:
سالها دل طلب جام جم از ما مى كرد | *** | آن چه خود داشت زبيگانه تمنّا مى كرد |
كان القلب يطالب لسنوات بكأس جمشيد۱ *** ولكنّه كان يطلب من الآخرين ما يملكه هو
فنحن نمتلك كلّ شيء في أعماقنا، وجميع الأمور عندنا في ثقافتنا الإسلاميّة. أين قال الإسلام علينا أن نهتمّ بناطحات السحاب تلك وأمثالها ولا نلاحظ فيها تلك الأمور الأساسيّة؟ تلك الأمور التي هي أهمّ، ذلك الشيء الذي يرتبط بوضعيّة الإنسان في ذاته، التكامل العلميّ للإنسان في ذاته، ترقّي نفس الإنسان وتكامله، يجب أن يُهتمَّ بهذه الأمور. افترضوا أنّا الآن بنينا مبنى من أربعين طابقًا، ونقول: يا سيّد هذا المبنى هو الأوّل في الشرق الأوسط. فالمبنى لا يحقّق لنا شيئًا، فإذن علينا أن نميّز في تلك المسائل التي نعمل بها ونعدّها تكليفًا وثقافة اجتماعيّة بين تلك الأمور التي تضرّ بثقافتنا وبأصالتنا الإسلاميّة، وتلك التي تقوّي هويّتنا الإسلاميّة والإنسانيّة، وأن لا نخلط بينهما.
لقد كانت هذه مقدّمة طالت قليلاً، فلهذا نحن رأينا أنّ ارتباطنا مع الرفقاء والأصدقاء إن كان بواسطة الجلوس على المنبر فسيكون ذلك أفضل، ومن جهة أخرى أن لا نغفل لا سمح الله عن أن نقع تحت تأثير الكلام والمنقولات وبعض الأمور الانفعاليّة في التراجع عن موقعنا الإسلاميّ. كلاّ فوظيفة العلماء وخطباء الجمعة وكلّ إنسان هي أن يحافظوا على تلك الهويّة الإسلاميّة والمظاهر الإسلاميّة. فكم من المناسب أن يعدّ كلّ واحد في أيّ رتبة كان منبرًا وذلك بدلاً من الكرسيّ وبدلاً من المنصّة وبدلاً من الوقوف، فالأمر سهل، فليوضع المنبر وليجلس عليه بكلّ ثقة، ومن شاء أن يتكلّم فليتكلّم، فإنّ هذا الكلام لا يصدر عن التعاطف ولكن له أغراضه.
عودة إلى موضوع العبوديّة والملكيّة
معنى أن لا يرى لنفسه ملكًا أن لا يسدّ كلّ المنافذ ولا يدع مجالًا للتغيير
يقول الإمام الصادق عليه السلام: ثلاثة أشياء: الأول: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا. أي إذا نظر إلى نفسه لا يشعر أنّه له تعلّقًا بهذا المال، لا أن لا تكون هناك ملكيّة، بل أن يرى الملكيّة ملكيّة الله، وأنّه ووكيل في هذا التصرّف لا مستقلّ ولا مستغن. وإن كانت كيفيّة التصرّف قد لا تختلف. وبالطبع هي ستختلف، وسأبيّن للرفقاء أنّ الأمر يختلف ولكنّ الكلام هو في أنّ الإنسان أحيانًا يقيم علاقة بينه وبين متعلّقاته وممتلكاته بحيث لا يدع أيّ مجال للتغيير والتبدّل، ويغلق كافّة النوافذ، ويجعل سدًّا أمام كلّ ما يمكن أن ينفذ، يقيم جدارًا في داخله بين نفسه وبين ممتلكاته، بحيث يمنع الآخرين من الورود إلى هذه الدائرة. فتارة يكون هكذا، وتارة أخرى لا يكون كذلك، بل يرى بين نفسه وبين ما يمتلك علاقة وتعلّقًا، ولكنّ هذا التعلّق ليس تامًّا، ليس تعلّقًا يسدّ كلّ المنافذ، ليس تعلّقًا لا يبقي مكانًا للنفوذ، لا وجود لهذا النوع من التعلّق، بل تعلّقٌ حقّ التصرّف ثابت فيه، لا أنّه يقطع كافّة التعلّقات الخارجة عن هذه الدائرة، لأنّه تارة تكون هناك تعلّقات [مطلوب فيها سدّ كلّ المنافذ الأخرى] كتعلّق الزواج مثلاً وتعلّق النكاح، وبالطبع فإنّ الشارع بيّن هذا للإنسان، بيّنه، وبالطبع هو مقتضى الطبيعة الإنسانيّة ومقتضى الفطرة، [وتارة تكون التعلّقات من نوع آخر بحيث ينبغي عدم سدّ المنافذ].
النظرة إلى العلاقة الزوجيّة وضرورة قيوميّة الرجل للحفاظ على الأسرة
فالرجل يشعر بالتعلّق بالمرأة بحيث يسدّ كافّة المنافذ في هذه العلاقة، يحافظ على العلاقات في هذه العلقة، والآن لا شأن لنا بأنّه في بعض الموارد يختلف الأمر، كلا بل هؤلاء جاؤوا أيضًا وربّما استفادوا من هنا، بل إنّ مقتضى الغيرة ومقتضى رجوليّة الرجل والزوج ومقتضى العمل بتعاليم الإسلام وتعاليم الدين هي أن يكون للرجل قيّوميّة على زوجته، وكلّ ما يؤدّي إلى سلب هذه القيوميّة فلا بدّ من منعه. فعلى الرجل أن يكون محيطًا بشؤون حياة زوجته، وأن يكون له قيّوميّة وأن يكون له الحقّ في التصرّف. لا أن تذهب المرأة إلى حيث تريد وتأتي إلى حيث تريد وتلتقي بمن تريد وتتعامل مع من تريد، وتضحك مع من تريد وتتحدّث مع من تريد، ليس هناك شيء من هذا الكلام، وعلى الرجل أن يعلم أن تذهب امرأته وأين تأتي، من الذي يتّصل بها، وماذا تتحدّث وكيف هي الأمور التي تطرح؟ فربّما كان هناك من يريد أن يسبّب الإخلال بحياة الإنسان، وربّما كان هناك من يريد أن يحدث تشويشًا، وربّما وربّما... ففي النهاية ليس الجميع على نسق واحد، فالثقافات تختلف، وبعض الناس أصلاً ليسوا ملتزمين ولا حدود عندهم. فأن تريد أن تتواصل مع من تريد، على الرجل أن يكون مطّلعًا، ولا ينبغي لأيّ إنسان أن يتحدّث مع زوجته، ولا ينبغي لأيّ إنسان...، الأناس الصالحون الأناس المفيدون الأناس الذين يرفعون الكدورة ويرفعون الانقباض ويسبّبون الانبساط والابتهاج والروحانيّة، لا الذين يُدخلون في الدنيا، لا الذين يريدون أن يجعلوك متوغّلاً في الدنيا، الذين يحدثون التشويش والاضطراب في الأسرة، فأن يبسط الإنسان يده ويتّصل بأيّ مكان وبأيّ أحد... كثير من الناس عندما نتحدّث معهم في هذه المسائل یقول الرجل: عندما أخرج من المنزل صباحًا أخرألا أعرف أين تذهب زوجتي، أصلاً لا أعرف، أصلاً لا علم لي، فهذه ليست حياة. هذا ليس صحيحًا. لا بدّ أن تكون قضيّة الزواج وقضيّة النكاح وهذه الزوجيّة ضمن إطار قوانين الإسلام، ولا بدّ من المحافظة على الزوجيّة كي يبقى نظام الأسرة قائمًا، أمّا لو كان الرجل في شأنه الخاص، والمرأة في شأنها الخاص، فهذا ليس نظامًا، هذا ليس عملاً، هذا ليس صحيحًا.
فهنا الشرع ميّز هذا الموضوع، فالمنافذ هو سدّها، وسدّ طرق النفوذ التي تؤدّي إلى الاختلال في الحياة العائليّة، فالمرأة لا يمكن أن تخرج من المنزل بغير إذن زوجها، وقد كان المرحوم العلامة يقول دائمًا: تأتي بعض النساء إلينا قائلة يا سيّد إنّ زوجي لا يسمح لي بالذهاب إلى مشهد لزيارة الإمام الرضا. فيقول السيّد: المجيء إلى الزيارة بدون إذن الزوج حرام. لقد كان زوجها من المخالفين، من المخالفين للمرحوم العلامة، وكان يمنع زوجته ويحجزها ويحول بينها وبين الارتباط، ولكنّه كان يقول: ما دام زوجك لم يسمح فلا يمكنك أن تأتي إلى مشهد لزيارتنا، لا يمكنك! لا يمكنها أن تخرج بدون إذن الرجل، لا يمكنها أن تشارك في الجلسات بغير إذن الرجل، لا يمكنها أن تقوم بأيّ عمل بدون إذن الرجل، حتّى إنّ بعض الفقهاء أفتوا بأنّها لا يمكن أن تتصرّف في مالها بدون إذن الزوج. فالمال مال المرأة، والملكيّة للرجل وللمرأة في آن معًا. صحيح [أنّها مالكة] ولكن لا بدّ أن تأخذ إجازة الزوج في التصرّف، لا يمكن للرجل أن يأخذ مال المرأة، فلا يشتبه الأمر في وقت من الأوقات، حتّى بريال واحد وبذرّة واحدة لا يمكن للزوج أن يتصرّف في مال الزوجة وفق ما يحبّ وما يريد، فهذه مسألة، ولكن المسألة الأخرى هي أنّ هذا المال الذي تملكه المرأة وتريد أن تستفيد منه وتريد أن تصرف منه، فإنّ بعض الفقهاء أفتوا بأنّ ذلك لا بدّ أن يكون بإجازة الزوج۱، وبالطبع هذا في ظلّ بعض الظروف. فالمسألة مهمّة إلى هذا الحدّ. الخروج من المنزل مع كراهة الرجل ولو لم يمنع فإنّ هذا الخروج فيه إشكال شرعيّ.
بالطبع هناك من يأتي ويقول: سيّدنا زوجي راض.
أقول: كيف حصلت على رضاه؟
ففي النهاية هذه المسألة مهمّة أيضًا، فلا تكن المسألة كمسألة سارق الأكفان، حيث قال: يا بنيّ لقد قمت بالسرقة عمرًا، أريد منك أن تعثر لي على كفن حلال. وفي اليوم التالي جاءه بكفن نظيف ومميّز وأعطاه لأمّه وقال: لقد كان راضيًا. قالت: كيف كان راضيًا؟ فقال: أخذت بالعصا وضربت بها رأس الأوّل فقال أنا راض. فهذا لا يصحّ يا عزيزي! لا فائدة منه، فلا نستغفل أنفسنا، بهذه الطريقة لا فائدة، لا بدّ أن يكون الزوج طيّب الخاطر كي يكون هذا الذهاب والإياب ممضيّين. فلأجل من نحن نخرج ونرجع؟ لأجل من نذهب ونعود؟ لأجل من نشارك في هذه المجالس؟ أليس لأجل الله؟ فالله هو الذي جعل هذا الطريق، ولكنّا نحن الآن تركنا الله جانبًا، ونريد أن نلتفّ، نقول: الله، ولكنّا نذهب من أجل هوى النفس، فمن تخادع؟ فالملائکة لا يخدعون يا عزيزي! يكتبون عليك إنّ الذهاب إلى هذا المجلس محرّم، فإن شئت أن تذهب فاذهب، وإن شئت فلا تذهب. أنا بنفسي كنت شاهدًا أنّ المرحوم العلامة كان يقول لإحدى النساء: أعلم أنّ زوجك ليس راضيًا عن ذهابك لزيارة الإمام الرضا فاعلمي أنّ ذهابك لزيارة الإمام الرضا يعدّ معصية. هو كان يقول ذلك وأنا كنت أسمع. الإمام الرضا لا يريد زائرًا، الإمام الرضا يريد أن يعمل شيعته وفق القانون ووفق البرنامج. فالإمام الرضا دقيق في عمله، الإمام الرضا عمله حقّ، الإمام الرضا عمله صحيح. ونحن من جهة نقول الإمام الرضا، ومن جهة نمضي وراء أنفسنا، لقد أطلقنا أنفسنا وجعلنا الإمام الرضا درعًا.
ـ إلى أين تذهبين أيّتها السيّدة؟!
ـ أذهب إلى الإمام الرضا.
ـ أراض زوجك؟
ـ أنا أزور الإمام الرضا فإن شاء رضي وإن شاء سخط.
لا معنى لذلك كلّ خطوة تخطينها من المنزل فملائکة الجانب الأيسر يكتبون لك، وملائکة الجانب الأيمن عاطلون عن العمل نائمون. إلى أن ترجعي إلى باب المنزل فإنّ الملائكة تلعنك حسب ما عندنا في الروايات۱. ذهبت إلى زيارة الإمام الرضا ولكنّهم يلعنونك. ذهبت لزيارة بيت الله، ولكنّ الملائكة تلعنك. إلا في الموارد التي تعدّ طاعة الزوج سببًا للمعصية فعندها لا تجب الطاعة. كما لو كان حجًّا واجبًا، فلا إشكال حتّى لو منع الزوج، كلا فمن الواجب أن تحجّ المرأة ولو قال لها الرجل أطلّقك، عليها أن تذهب ولو طلّقها، فليطلّقها. أو أنّ المرأة تريد أن تصوم والزوج يمانع، فعليها أن تصوم. المرأة تريد أن تصلّي، والزوج يمانع فعليها أن تصلّي. في تلك المسائل الواجبة وترك المحرّمات، في تلك المسائل طاعة الزوج حرام، أمّا في سائر الموارد [فلا]. هذا هو الطريق يا سيّدي العزيز، فلو أردنا أن نسير في طريق الله فهذه هي المسألة. وأمّا إن أردنا أن نسلك طرقًا أخرى، فإنّها إلى ما شاء الله، فكلّ سليقة تجد لنفسها طريقًا.
النظرة غير الاستقلاليّة إلى الملك والمال
يقول الإمام الصادق عليه السلام أنّ على الإنسان في علاقته مع المِلك ومع هذا المال أن لا ينظر نظرة استقلال بحيث يسدّ جميع المنافذ. يجب أن تكون علاقة الإنسان مع المال علاقة وكالة وأمانة. ماذا لدى الوكيل من قبل الموكّل؟ له الحقّ في التدخّل والتصرّف، ولكن تدخّلاً وتصرّفًا في حدود إذن الموكّل وحدود تعريف الموكّل، في تلك الدائرة لا أكثر. فلو وضع أحد مالاً أمانة عند آخر، فهل يحقّ لهذا الأمين أن يتصرّف في ذلك المال؟ لا يمكنه أن يتصرّف ولو قال سأعيد هذا المال لاحقًا إلى ما كان عليه، لا يمكنه.
خطورة التصرّف بالأمانة وقصّة أحد تلامذة الشيخ الأنصاري
كان أحد الأصدقاء رحمة الله عليه ينقل ويقول: كنّا في خدمة المرحوم الشيخ محمّد جواد الأنصاري، وفي يوم من الأيّام وضع المرحوم الأنصاري عنده مقدارًا من المال والظاهر أنّه كان من النقود الذهبيّة وقال: هذه أمانة عندك. وبعد مدّة يواجه هذا الرجل أزمة ولم يكن بإمكانه أن يقترض، يخطر في باله أن يستفيد من هذا المال الذي هو أمانة عنده ثمّ يعيده إلى مكانه، فهو أمانة في النهاية. فيأخذ ويصرف منه، ومنذ أن تصرّف في هذا المال انقلبت حياته، وبدأت بالتراجع والتراجع حتّى وصل إلى مرحلة باع فيها كلّ أمواله لكي يعيش. يقترض ويأتي المقرضون وتغلق الأبواب في وجهه، والخلاصة أنّه يصل إلى مرحلة يعرض فيها بيته للبيع، وحتّى يتّفق أن يأتي المشتري ويشتري المنزل، ويكون مستعدًّا لكي يأتي إلى كاتب العدل ويجري المعاملة.
وهو بنفسه كان يقول: ما إن أردت أن أمضي المعاملة حتّى سمعت صوتًا يقول: يا الله. يقول: هل التفتّ إلى حقيقة المسألة؟ رأينا أنّ الشيخ الأنصاري يصعد الدرج ثمّ أخرج كيسًا وقال: تعال يا بنيّ العزيز! هذا مال القرض أعطه لأصحابه ولا تبع دارك، ولا تخن الأمانة مرّة أخرى.
لا يمكن للإنسان أن يمدّ يده إلى الأمانة، وعليه أن يحفظها وفق إجازة صاحبها ووفق إذنه، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها)۱ على الإنسان أن يعيد الأمانة إلى أهلها.
شمول مفهوم الأمانة للزوجة والأولاد و...
وقد ذكرنا سابقًا أنّ كلّ ما يتعلّق به الإنسان هو أمانة إلهيّة في يده، فالمرأة أمانة إلهيّة في يد الإنسان، وعلى الإنسان أن يجعل هذه الأمانة الإلهيّة تتفتّح في طريق التربية الصحيح. في يوم القيامة ـ والآن أقول لكم فلا تقولوا لي غدًا لم تخبرنا ـ في يوم القيامة أحد الأسئلة التي يسألونها لنا هذا السؤال: هل جعلت هذه المرأة التي رزقتك إياها في الطريق الصحيح والتربية الصحيحة، أم أنّها سقطت بسبب إهمالك ببعض الأخطاء وبعض الانحرافات؟ هذا أحد الأسئلة في يوم قيامتنا. فلا تظنّوا أنّ الإنسان يتزوّج وهو في شأنه الخاصّ وهي في شأنها الخاص، موسى في دينه وعيسى في دينه، لكلّ دين وتكليف. كلاّ فنحن مسؤولون. أمّا أنّ الإنسان كم سيكون موفّقًا وكم سيقبل الطرف الآخر فهذا أمر آخر، على الإنسان أن لا يقصّر. وكذلك بالنسبة إلى الابن، فهؤلاء كلّهم أمانات إلهيّة، وعلى الإنسان أن يجعل هذه الأمانات في التربية الصحيحة، عليه أن يسمّي ابنه باسم صحيح، وأن يضعه في المكان الصحيح وفي التربية الإسلاميّة والتكامل الإسلاميّ، كلّ ذلك مال وأمانة إلهيّة.
والإمام الصادق يقول: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا. على الإنسان أن ينظر إلى هذا المال نظرة أمانة.
عدم تعلّق المرحوم العلامة بالإقامة في أيّ مكان أمام أمر أستاذه
في يوم من الأيّام سألت المرحوم العلامة سؤالاً: سيّدنا أنتم... ـ عندما انتقل إلى مشهد وتشرّف بها، والذين كانون على علاقة سابقة مع المرحوم العلامة يعلمون مكانته ومسجده وعلاقاته في الزمان السابق كيف كانت، كان مسجده من أهمّ المساجد في طهران، علاقاته كانت كذلك. عندما قال له أستاذه الآن هو وقت الذهاب إلى مشهد وعليك الآن أن تذهب إلى مشهد، تحرّك على الفور، وانتقل إلى مشهد. كما أنّ هذا الأستاذ نفسه كان قد قال له عندما كان في النجف: لقد حوّلوك إلى طهران. لا أدري ذكر ذلك في الروح المجرّد٢ أم لا؟ الأمر الذي بيّنه لي بنفسه هو أنّه قال: عندما تشرّفنا مع المرحوم الحدّاد رضوان الله عليه إلى حرم أمير المؤمنين خرجنا إلى الإيوان الذهبيّ ـ رزقکم الله جميعًا زيارة أمير المؤمنين وسائر العتبات المقدّسة ـ في ذلك الإيوان، ما إن خرجنا من الحرم توقّف المرحوم الحدّاد والتفت إليّ بوجهه وقال: لقد حوّلك أمير المؤمنين من الآن فصاعدًا إلى طهران.
كان يقول: عندما قال المرحوم الحدّاد هذا الكلام، صدمت فجأة، أصلاً ما معنى هذا؟ كان يقول: لو أنّي رأيت في المنام أنّي عدت إلى إيران لبقيت مضطربًا إلى أسبوع. لقد كان هكذا، نزع قلبه وقطع أمله وقطع تعلّقه عن الرجوع إلى إيران. كانت هناك أمور، وكانت مبتلى بابتلاءات عجيبة بحيث إنّه أنهى أمر العودة إلى إيران. لقد أصبت بصدمة ولكن في الوقت نفسه إنّه أمر الأستاذ، كان يقول: لم أتوان لحظة، لحظة واحدة لم أتوان. عندما جاء إلى مشهد قلت له في يوم من الأيّام: كيف كانت إقامتكم في طهران طيلة تلك المدّة؟ كيف كنتم تفكّرون في هذا الأمر؟ كيف كان علاقتكم؟ قال: يا فلان! عندما جئت من النجف، كان دائمًا في ذهني أن أرجع إلى النجف أو إلى عليّ بن موسى الرضا، إلى أحد هذين العليّين، كانت عبارته هكذا: إمّا عليّ وإمّا عليّ بن موسى الرضا، إلى واحد من هذين، وقد قسم الله لنا هذا الثاني، واعلم أنّي طيلة هذه الاثنين وعشرين سنة التي كنت خلالها في طهران لم تكن ساعة واحدة منها باختياري. فهذا الطهراني الذي يفديه الجميع بأرواحهم، والآن هذه مسائل تخصّصيّة لن ندخل فيها، كان يقول: لا تتحدّث عندي من الآن فصاعدًا عن طهران ومسجد القائم. يعني اثنان وعشرون سنة يعمل إنسان ما في مسجد ـ وهو أفضل المساجد أيضًا ـ بالتبليغ والوعظ وما شابه، ولكن قلبه في مكان آخر، هذا هو مراد الإمام الصادق.
الإمام الصادق يقول: لا تتعلّق، يكلّفونك أن ابق في ذاك المكان وصلّ، فاذهب وصلّ. يكلّفونك أن اذهب إلى ذاك المكان وأقم فيه. فاذهب وأقم واستوطن واسكن، جيّد جدًّا. يكلّفونك أن اذهب إلى ذاك المكان وقم بذاك العمل. يكلّفونك أن اذهب إلى ذاك المكان واستلم تلك المكانة وتلك الوظيفة فاقبلها ولكن التعلّق بذلك أمر آخر. لذلك عندما يقولون: يا سيّد اذهب إلى مشهد فإنّه يحمل محفظة السفر على الفور ويقول: لقد ذهبت. عندما أراد أن ينطلق إلى مشهد قلنا له: إلى أين أنت ذاهب يا سيّد؟ أريد أن أمضي إلى زيارة عليّ بن موسى الرضا وربّما طال الأمر أربعين يومًا. واستمرّ الأربعين إلى آخر عمره. ربّما طال الأمر مقدار أربعين يومًا، فنحن نذهب فعلاً. أنا رأيت أنّ هذه المحفظة التي يعدّها ليست لأربعين يومًا، فقلت: سيّدنا هذه تحكي عن أكثر من أربعين... الآن نقصد أربعينًا، الآن نقصد أربعينًا... لم يكن يريد أن يطرح الأمر بهذا الشكل، كان يريد أن يطرحه بالتدريج. وكأنّه لم يكن في طهران مدّة اثنين وعشرين سنة، وبتلك المكانة، وبذلك النشاط وبتلك الجلسات وبتلك المسائل، وعندما كانت تريد أن تبرز بشكل أوسع قال: في أمان الله أنا غادرت. فما هذا؟ إنّه ذلك العبد الذي يتحدّث عنه الإمام الصادق. هذا العبد عبد صالح، لا تعلّق له. الآن ذهب إلى مشهد ويقول: لقد حطّ الله رحالنا في هذه البقعة.
على كلّ حال، ينبغي أن لا يكون هناك تعلّق. التعلّق يختلف عن الملكيّة. وإن أردنا أن ننظر بنظرة أوسع فإنّه وكما قلت لكم المالك الحقيقيّ للإنسان هو الله وصاحب مقام الولاية، وهذه المسألة مبرهن عليها شرعًا.
مخالفة المحاضر لأستاذه آية الله الحائري حول حدود ولاية الإمام
أذكر أنّي عندما كنّا ندرس بعض المسائل ـ هذه المسائل ـ عند أستاذنا المرحوم آية الله الحائري جرى الحديث حول هذه المسألة، وفي يوم من الأيّام احتدّ بحثنا معه، رضوان الله عليه فقد كان المرحوم الحائري رجلاً منزّهًا جدًّا وتقيًّا ومعرضًا عن الدنيا. كان كلّما سنحت له الفرصة يذهب لزيارة الإمام الرضا. كنّا نراه مرّات عندما نصعد الأتوبوس قاصدين طهران، كنّا نرى أنّه أخذ بطاقة من نفس الشركة، إحدى شركات النقل، يكون قد أخذ بطاقة إلى مشهد، ويبقي فيها ليلة أو ليلتين ويرجع، كنّا نذهب يوم السبت إلى درسه فيكون قد رجع من مشهد. ولم يكن أحد على اطّلاع، كلّما أراد أن يذهب إلى مشهد لزيارة الإمام الرضا كان يذهب بعد منتصف الليل، بحيث لا يراه أحد، كان يذهب بعد منتصف الليل. كان رجلاً منتظمًا جدًّا، ورجلاً تقيًّا للغاية، ولدينا الكثير من الحكايات عن إعراضه ليس هذا محلّها وإن شاء الله نذكرها في مواضع أخرى.
فحول هذه المسألة أذكر أنّه حينها كان رأيه الفقهيّ أنّ ولاية الإمام أيضًا محدودة، كنت أقول: كلاّ بل ولاية الإمام ليست محدودة، فولاية الإمام عين ولاية الله، نحن ننظر إلى الإمام نظرة إنسان عاديّ، عند ذلك نقول كيف يمكن للإمام أن يكون له تدخّل وتصرّف خارج الحدود؟ فلم يكن يقبل أن يحكم الإمام مثلاً بطلاق المرأة، ولم يكن يقبل أن يحكم الإمام في مسألة خارج الحدود التي يراها هو. كنت أقول: كلاّ فطبق الأدلّة إذا اعتقدنا أنّ ولاية الإمام ولاية تكوينيّة فلن يكون هناك فارق بين ولاية الإمام التكوينيّة وولاية الله، فليس لدينا ولايتان تكوينيّتان، إنّها ولاية تكوينيّة واحدة، تلك الولاية التكوينيّة ظهورها هو في إمام العصر عجّل الله تعالى فرجه. لذلك فإنّ إمام الزمان أقرب إلينا من أنفسنا، فبناء على ذلك فإنّ الإمام عليه السلام يختار ما يشاء وما لنا أن نسأل عنه وما لنا أن نكلّفه وما لنا أن نفرض عليه.
الإمام عليه السلام خارج عن حدود تفكيرنا وتخيّلنا وتصوّرنا. أفقه أفق التوحيد، فكره فكر التوحيد، إرادته إرادة الله، مشيئته مشيئة الله، وآيات القرآن شاهدة على ذلك أيضًا: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)۱ والنكرة في سياق النفي تفيد العموم٢، لا يمكن أن نتصوّر في وقت من الأوقات أن يبدي الإنسان اختيارًا وأن يبدي مشيئة أمام قضاء الله وقضاء الرسول. لماذا؟ القاعدة عقليّة، لأنّ مسيرنا مسير الله. وهذا أمر عجيب جدًّا، أن لماذا لا يلتفت البعض إلى بداهة هذا الأمر الذي هو في وضوح اثنين ضرب اثنين يساوي أربعة؟! ففي النهاية من كان طريقه طريق الله والوصول إلى النعم الإلهيّة ألا ينبغي أن يطيع كلامه؟! إنّه عجيب جدًّا. نعم تارة تكون مسألة الآخرة في أيدينا، تكون الجنّة وأمثالها في أيدينا، فنحن نزيد وننقص وننتخب. وتارة لا يكون الأمر كذلك، بل كلّما كان الأمر نحو الله وإلى الله واتّجاهنا اتّجاه الله فإنّ نصيبنا من تلك المراتب سيكون أكبر، وحينها هل يمكن بعد الالتفات إلى هذا الأصل وهذا الموضوع وهذا التعريف أن نقول لله: لا يمكنك يا الله أن تقول لنا هذا؟ فإنّ الله يقول: أولست تريد أن تأتي إليّ؟ فعليك أن تطيعني إذن، أليس المزيد من الطاعة يحقّق لك المزيد من الفائدة؟ أليس يجلب لك المزيد من الرحمة؟ إن لم يكن كذلك فكيف تعتقد بالامتياز؟ وكيف تميّز وتفرّق بين الموارد؟ هنا نعم وهناك لا، يؤمن ببعض ويكفر ببعض، في بعض المواضع نعم، وفي بعضها لا، إذا ثبتت هذه المسألة فإنّ اختيار الإمام هو عين اختيار الله، ومشيئة الإمام عين مشيئة الله. وعلى هذا الأساس، حتّى من الناحية العقليّة والنقليّة فإنّ الإمام عليه السلام هو المالك الحقيقيّ لنا ولما يرتبط بنا، ولكن في الوقت نفسه تركنا أحرارًا. [هذا الأمر ثابت] عقلاً ونقلاً، وفق قواعد الفلسفة والحكمة، ووفق قواعد الفقه، وليس من عنديّاتنا.
عدم ملكيّة الفقيه للحقوق الشرعيّة وكونه وكيلاً فحسب
كيف يقولون مثلاً فيما يرتبط بالحقوق الشرعيّة والمسائل الشرعيّة والحقوق أنّ حاكم الشرع ليس مالكًا لها. ورغم أنّ البعض أفتوا بملكيّتها واعتبروا حاكم الشرع مالكًا للحقوق الشرعيّة، فيأخذ الخمس من الناس ويصرفها في مواردها، فهم يعدّونه مالكًا. فكما تعتقدون أنتم مثلاً أنّكم مالكون لما يرتبط بكم وأموالكم، فإنّ حاكم الشرع مالك لتلك الحقوق فيقبضها، ولكنّ هذا ليس صحيحًا، وحاكم الشرع وكيل ونائب، وليس مالكًا، مالك الحقوق هو إمام الزمان، لست أنا. ولا بدّ أن تصرف في المورد الذي حدّده هو، فلو كنت مالكًا لصرفتها وفق ما أحبّ لا كما قال الإمام، والأدلّة الشرعيّة قائمة على هذه المسألة. التصرّف الذي يقوم به حكّام الشرع العامّون وذوي الحسبة بالأموال ليس أقوى من تصرّف الوكلاء الخاصّون للأئمة في زمان حياتهم. فالإمام عليه السلام يقول لوكلائه: تلك الأموال التي هي الآن عندك أرسلها إلى المدينة. فلا يقول: أنا مالك لها. ورغم أنّهم وكلاء خاصّون، والوكيل الخاصّ أقوى من الوكيل العامّ في تصرّفه. لذلك فإنّ حاكم الشرع ليس مالكًا، بل هو وكيل. فكما أنّ الوكالة معروفة بين الناس وشائعة فكذلك حاكم الشرع هو وكيل ولا بدّ أن يصرف في المورد الذي يعرفه.
قصّة منع العلامة الطباطبائي من تدريس الفلسفة من قبل السيّد البروجردي
يقول المرحوم العلامة الطباطبائي رضوان الله عليه حيث كنّا في مجلس معه: عندما كنت أدرّس الفلسفة منعني المرحوم آية الله البروجردي بناء على بعض المصالح. وكانت الرسالة التي أرسلها إليّ هكذا ـ وانظروا كم كانت الرسالة جميلة وكم كان جواب العلامة متينًا واقعًا ـ تسير الحوزة العلميّة بواسطة الحقوق الشرعيّة، وهذه الحقوق تأتي من أناس يشترطون أن تصرف فقط في المسائل الفقهيّة والمسائل الأصوليّة والشرعيّة، ولو أردنا أن نصرفها في غير ذلك من المسائل الفلسفيّة والحكميّة والعرفانيّة والتفسيريّة، فسيكون ذلك خارجًا عن إجازة المؤدّي الذي يدفعها. فكان العلاّمة الطباطبائي يقول: يخطئ من يأتي ليدفع الحقوق الشرعيّة إلى مرجع وحاكم شرعيّ ثمّ يعيّن له تكليفه، لا حقّ له بذلك. إنّ واجبه هو أن يأتي ويدفع هذا المال فلو أراد هذا الحاكم أن يلقي به في البحر فما علاقته هو بذلك؟! أصلاً ما صلته هو بالأمر حتّى يأتي ويقول: أنا أدفع إليك هذا المال يا سيّد لتصرفه في الفقه والأصول؟ أنفقها على الطلاب الذين يدرسون الفقه والأصول؟ لا حقّ له بذلك، إنّ وظيفته هي أن يأتي ويقبّل يد حاكم الشرع المجتهد ثمّ يضعها ويطأطئ رأسه ويقول: في أمان الله. فلو أراد أن يلقيها في مجرى الماء، أو أن يصرفها على الطلاّب، أو على الفقراء أو على الناس العاديّين، في أيّ مورد يريد وفق مدركاته من القواعد والروايات، فعليه أن ينفقها وفق ذلك وليس لذاك حقّ. لذا فإنّ السيّد البروجرديّ لم يتكلّم بعد ذلك. الكلام كلام موزون ومتين ولا جواب عليه، والبلاء الذي أصيبت به حوزة النجف كان من هنا.
قصّة طلب بعض علماء النجف إفساح المجال لدرس الفلسفة من السيّد أبو الحسن الأصفهاني
وكان المرحوم العلاّمة الطباطبائي ينقل هذه القضيّة ـ سأقولها وأمّا المسائل [الأخرى فتأتي]، كنت أودّ أن [أختصر] كثيرًا، وهذه المقدّمة التي قلناها يبدو أنّها أخذت وقت المجلس، وإن شاء الله تأتي التتمّة في الجلسة اللاحقة ـ لقد كان يقول: سابقًا كان يدرَّسُ درس الفلسفة والعرفان في حوزة النجف، ولكن بواسطة بعض الأمور التي ظهرت لاحقًا والتي لا مجال للحديث عنها والتي أوردت بعضًا منها بشكل مكتوب۱، فقد حرمت هذه الحوزة من تدريس الفلسفة، ومن تدريس العرفان، وكانوا يتعاملون مع هذا الأمر على أنّه أجنبيّ، وكما هو معروف ومشهور فإنّ الكثير من الأعاظم كانوا يضعون عباءتهم على رؤوسهم عندما يذهبون إلى دار السيّد القاضي في الليل، هل التفتّم إلى أين كان قد انتهى الأمر أنّ الذهاب إلى منزل المرحوم القاضي كان يعدّ جريمة؟ فكانوا يضعون العباءة على رؤوسهم وينظرون إلى هذا الجانب وذاك حتّى لا يكون هناك أحد يراهم. كما نرى نحن الآن بعض الأمور بهذا النحو. هكذا كانوا. ومن كان المرحوم القاضي؟! هل كان أمره من الناحية العلميّة يسيرًا؟! هل كان من الناحية الأخلاقيّة يسيرًا؟! هل رأيتم شيئًا من المرحوم القاضي؟! هل رأيتم منه أمرًا ما؟! ماذا رأيتم؟! هل قال كلمة الكفر؟! هل أنكر ولاية الأئمة؟! هل ساق الناس إلى ترك الدين؟! ماذا صنع؟! ماذا صنع هذا السيّد القاضي؟! ماذا كان ذنبه؟! ماذا كان ذنب العلامة الطباطبائي؟! ثمّ كان يقول: في أيّام المرحوم القاضي ذهب المرحوم سماحة الشيخ محمّد حسين الأصفهاني... ـ المرحوم الشيخ محمّد حسين الأصفهاني الكمباني رضوان الله عليه كان رجلاً عظيمًا ومن أعاظم أصوليّينا وفقهائنا وشعرائنا وأدبائنا وفلاسفتنا، والذي تروى عن زهده وتقواه حكايات محيّرة للعقول ـ ذهب المرحوم الحاج الشيخ محمّد حسين الأصفهاني برفقة سماحة الشيخ محمّد رضا المظفّر والمرحوم سماحة الشيخ محمّد جواد البلاغي، ذهب هؤلاء الثلاثة إلى منزل المرحوم سماحة السيّد أبي الحسن الأصفهاني. وقد كان السيّد أبو الحسن الأصفهاني حينها مرجعًا ومخالفًا للفلسفة والعرفان. يأتون إلى منزله، فيخبر الخادم السيّد أبا الحسن أنّ هؤلاء الثلاثة من العلماء قد جاؤوا. فيأتي وعندما يدخل يجلس، ومن الواضح في النهاية، ثلاثة من مسلك واحد، أحدهم الشيخ محمّد حسين الكمباني والآخر الشيخ محمّد جواد البلاغي صاحب التفسير المهمّ وفلسفة دارون، والثالث أيضًا الشيخ محمّد رضا المظفّر، فهؤلاء جميعًا من الأفراد المعروفين والمشهورين وأصحاب العلم والحكمة في النجف، فكان من الوضح أنّ الأمر لا بدّ أن يطرح في هذه المجالات. يقول المرحوم السيّد أبو الحسن: هل لدى السادة العلماء مطلب؟ فيلتفت الشيخ محمّد رضا المظفّر إلى السيّد أبي الحسن الأصفهاني ويطرح مقدّمات حول تبدّل المسائل الثقافيّة في الدنيا والهجوم العقائدي الإلحادي واللاديني على البلدان الإسلاميّة والخلأ والضعف الذي في جهاز العلماء في مواجهة هذا الهجوم. ثمّ يقول: نحن نعتقد الآن أنّ من اللازم باللزوم الشرعيّ والوجوب الشرعيّ أن تفتح مجالس تدريس الفلسفة والعرفان بين طلاب النجف، ونحن نتعهّد بتسليح الطلاّب بسلاح المنطق وسلاح المواجهة مع هؤلاء. عين العمل الذي قام به المرحوم الطباطبائي رضوان الله عليه في قم. رغم كلّ الكلام ورغم كلّ العراقيل فإنّ المرحوم العلامة رضوان الله عليه له حقّ كبير واقعًا على العالم الإسلاميّ حين جاء وقام بهذا العمل وبحمد الله فإنّ الحوزة العلميّة في قم الآن تنعم بهذه النعمة، نعمة تدريس الفلسفة والتفسير والعرفان، وبتسلّح الطلاب والعلماء والروحانيّين بسلاح المنطق أمام الأفكار المنحطّة واللادينيّة واللاأباليّة وأمثالها. وعندما انتهى كلام الشيخ محمّد رضا المظفّر ـ انظروا هنا كيف يتّخذ موقفًا وفي المقابل كيف يواجه، في النهاية هناك مسألة. فلو كان هناك كلام حول ذلك فلا بدّ من الجواب، فهؤلاء العلماء يدّعون أنّ هناك هجوم للأفكار الإلحاديّة، فقد جاءت الأفكار الماديّة وهاجمت البلدان الإسلاميّة ولا يمكننا أن نقف أمامها إلا بروايات الطهارات والنجاسات، فبروايات الغسل والوضوء والحجّ لا يمكن محاربة هذه العقائد وهي تجتثّ العقيدة لا الظاهر، من الجذور، فلا يبقى بعد ذلك لا دير ولا ديّار، لا دار ولا صاحب دار. هل تلتفتون؟
وبعد ذلك فانظروا جواب السيّد أبو الحسن الأصفهاني، السيّد أبو الحسن الأصفهاني في مقابل هذا المنطق المحكم والقويّ ـ وأنتم بأنفسكم انظروا نحن لا نقول شيئًا اذهبوا وانظروا إلى الكتب التي تصدر ـ في قبال هذا يقول: أنا أعتقد أنّ الحاكم الشرعيّ هو مالك للحقوق الشرعيّة وأنا أعتقد أنّي مالك لهذه الحقوق التي تعطى لطلاّب النجف، ولست راضيًا أن يصرف ريال واحد من ملكي هذا في تدريس الفلسفة والعرفان وتشكيل مجالسهما. هذا جواب أحد المراجع للشيخ محمّد حسين الأصفهاني الكمباني. هذه هي القضيّة. علينا أن نعرف هذه الأمور نحن، علينا أن نعرف يا سيّد ماذا كان لدى الشيعة من الإخفاقات، وماذا كان لديهم من المدّ والجزر. هذه المسائل حقيقيّة. وبيان هذه الأمور ضروريّ لأجل الإدراك الصحيح لمدرسة أهل البيت.
لا بأس يا سيّد إن كان لديك جواب فتضّل، قل: لا يا سيّد أنتم مشتبهون ليس ضروريًّا، أو دعوا تلك الأفكار تأتي، فصاحب الزمان بنفسه يقف أمام هذه الأفكار، فإن كان إمام الزمان يقف أمامها ـ وقد سمعت ذلك إذ أقوله ـ فلو أنّ إمام الزمان يقف أمامها فأغلقوا باب حوزة النجف أيضًا، فإنّ إمام الزمان يقف أمام الجميع، لماذا تدرّسون الفقه والأصول؟ لو كان إمام الزمان يتكفّل فأوكلوا إليه سائر الأمور أيضًا لا قسمًا منها. فأين مدرسة الإمام الصادق الذي كان يقول: لا بدّ من محاربة المخالفين وكان يجلس هشام بن الحكم إلى جانبه لأنّه كان يواجه المخالفين بمنطق قويّ وبرهان۱، إلى أين ذهبت؟ وإلى أين ذهبت مدرسة الإمام الكاظم؟ وإلى أين ذهبت مدرسة أمير المؤمنين؟ أين ذهبت (وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)٢ ؟ أين ذهبت (فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)٣؟ ماذا حصل بآيات القرآن هذه؟ هذا كلّه ناشئ عن الإدراك الخاطئ للمسألة، وعلى الإنسان الشيعيّ أن يجعل نفسه وفق ما يريد الواقع. وكما يقول حافظ:
من آنچه شرط بلاغ است با تو بگفتم | *** | خواه پند گير و خواه ملال |
يقول: لقد أخبرتك بما هو شرط البلاغ *** والوصول فإن شئت اتعظت وإن شئت مللت.
الحقیقة لا تختفي بالإخفاء، الحقيقة حقيقة، ولا بدّ أن تطرح.
نسأل الله أن يجعل أعيننا مبصرة وطريقنا مستقيمًا وسرّنا في سبيل رضاه ورضا أوليائه، وأن يعجّل في فرج إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف الفرج الباطنيّ والظاهريّ. وأن يجعلنا من الأعوان والمنتصرين الواقعيّين له والذابّين عنه. وأن لا يحرمنا في الدنيا من زيارة أهل البيت وفي الآخرة من شفاتهم.
اللهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد.