43

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

9014
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالملكية الحقيقية والاعتبارية

جلسات المجموعة(10 جلسة)

التوضيح

تتحدّث هذه المحاضرة حول كون ملكيّة الله هي الحقيقية، وكون ملكيّة الإنسان اعتباريّة ترجع إلى ملكيّة الله تلك، مبيّنة مزايا كلّ من الملكيّتين، فالأولى مستقلة وأصيلة والثانية تابعة لها ومجعولة، وقد شرحت السبب في كون ملكيّة الله حقيقيّة بأنّ كافّة الموجودات مملوكة له لأنّها تعيّنات وتنزّلات لوجوده، وفي هذا السياق فسّرت المحاضرة آية (قل اللهم مالك الملك...) بأنّ الملكيّة الحقيقيّة مختصّة بالله وحتّى النبيّ والأئمة عليهم السلام ملكيّتهم اعتباريّة، ولذلك كانوا ينتصرون تارة ويهزمون أخرى في حروبهم من حیث الظاهر، مستشهدة في ذلك بمعارك بدر وأحد وصفّين وكربلاء، مقدّمة تحليلاً عميقًا لسبب خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة، عارضة لبعض الفوارق بين سياسة الأئمّة عليهم السلام وسياسات غيرهم.
كما أوضحت المحاضرة على أساس ما سبق أمرين أساسيّين:
الأول: قاعدة مهمّة في السير والسلوك وهي أنّ الكون في طريقٍ حقٍّ لا يعني تحقّق كلّ ما يريده الإنسان في الدنيا.
الثاني: كون التشريع عقلانيًّا عقلائيّاً واستناده إلى الحقّ والواقع لا إلى مجرّد التعبّد المحض والفرض والإجبار، ويترتّب على ذلك عدم جواز طاعة من لا يستند إلى الواقع وعدم جواز إفتائه.
واستطردت خلال ذلك البحث الأساسيّ في بيان قضايا مهمّة ناسب الحديث عنها في الأثناء وهي: جريمة تحديد النسل، واختصاص ذكرى الأربعين بالحسين عليه السلام، وما يحدث للإنسان في عالم القبر وكون ذلك مرتبطًا بالنفس لا البدن، وكيفيّة اتّحاد النفس مع حقائق الأعمال.

/۱۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

1
  •  

  •  

  • هو العليم 

  •  

  • الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٤٣

  •  

  • ألقاها

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم‌

  • بسم الله الرّحمن الرّحيم‌

  • الحمد لله ربّ العالمين‌

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا

  • أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين‌

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين‌

  •  

  •  

  • لا يرى العبد لنفسه ملكًا

  • قال إمامنا الصّادق عليه‌السّلام: أنْ لا يرَى العَبدُ لِنَفسِه فيما خَوَّلَهُ الله مِلكًا، لأنَّ العَبيدَ لا يكونُ لَهم مِلكٌ.۱

  • جرى الحديث في الجلسات السابقة حول رجوع المسائل الاعتباريّة إلى المسائل الحقيقيّة، وتقدّم أنّ كلّ حيثيّة اعتباريّة وشأن اعتباريّ في هذه الدنيا مما هو موضع للتعامل والعلاقات الإنسانيّة ويرتكز إليه محور الحياة الإنسانيّة في هذه الدنيا، يرجع إلى المسائل الحقيقيّة الأصيلة والواقعيّة. 

  • الاستقلال في الأمور الحقيقيّة والتبعيّة في الاعتباريّة 

  • وفيما يرتبط بالملكيّة، تحدّثنا عن أنّه لو كان لدينا محام من باب المثال أو نائب أو وكيل للإنسان في المتجر أو في غرفته ينجز له عملاً، فإنّ أعمال هذا الإنسان هي اعتباريّة. أي إنّه لا يمكن أن يقوم بهذه المعاملات وهذه الإمضاءات وختم الحوالات ودفاتر الاعتماد والمعاملات الماليّة بشكل مستقلّ. لماذا؟ لأنّ هذه الغرفة وهذا المخزن وهذا الرصيد ليس ملكًا له. إنّه يقوم الآن بهذه المعاملة مع الناس بإذن من صاحب المتجر وصاحب الغرفة، ويقوم بهذه المعاملات بالنظر إلى الإجازة التي أعطاها هو في التصرّف، والذين يتعاملون معه ينظرون إليه هذه النظرة. فهو نفسه يعلم أنّه لا دور له أكثر من كونه ممثّلاً لغيره، وكذلك الطرف الآخر الذي يتعامل معه، فهو لا يملك مثقال ذرّة من حقّ التصرّف في الأموال وتبديلها، ولو أراد أن يبدّل لآخذه القانون وحاكمه، ففي القانون حدود لهذه التصرّفات، يقولون أنت كنت وكيل هذا الرجل، فلماذا قمت بذلك العمل من تلقاء نفسك؟ أنت لم تكن مجازًا أن تقوم بهذه المعاملة، لم يكن مسموحًا لك بهذا التصرّف! 

  • أمّا لو كان الإنسان على العكس من ذلك، بأن كان هو صاحب التجارة وصاحب المعاملة، فلو أراد أن يتصرّف في أمواله فإنّ القانون لا يمنعه، فلو قال أريد أن أحرق كلّ أموالي، يريد أن يلقي كافّة أمواله من النقود الورقيّة والأقمشة وتلك البضاعة التي يملكها في البحر، فإنّ غاية ما يحدث هو أن يقول الناس: إنّه مجنون. أمّا لو ألقاها فلا يمنعه القانون قائلاً: لماذا قمت بذلك يا سيّد؟ لماذا أحرقت أموالك؟ يقولون: أصابك اختلال، جاهل. وليس هناك أكثر من ذلك. بالطبع هناك [في الآخرة] لا بدّ أن يحاسب، وحديثنا عن هذا العالم، وعن محور حركة المجتمع والحركة الاجتماعيّة، فالقانون لا يمنع.

    1. بحار الأنوار، ج۱، ص ٢٢٥، الروح المجرّد، ص ۱٩٥.

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

3
  • أمّا لو قام بالتعدّي على إنسان، فإنّ القانون يقف أمامه أن: لماذا تعدّيت؟ لماذا اعتديت على مالِ آخرَ؟ لماذا تعدّيت على دمِ آخرَ؟ لماذا سرقت؟ لماذا اختلست؟ يأتي القانون ويحكم عليه لأنّ هناك اعتداءً على الغير. 

  • أمّا لو جاء إنسان وقطع يده هو، فهل يأتي القانون ويلقيه في السجن؟ لا بأس قطعتها قطعتها، كان بإمكانك أن لا تقطعها. لو قطع إنسان رجلَه هو، يقولون: هو مجنون، ولا يرتّبون أثرًا أكثر من ذلك، فلا يلقى في السجن، ولا يحاكم، ولا يُحقّق معه. ولو أراد إنسان أن ينتحر، أن يلقي بنفسه من شاهق، أن يشرب دواء يقتله، أن يقوم بعمل يجعلهم ينقلونه إلى المستشفى ويغسلون معدته، ولو كان هناك مجال لأن يعطى مضادًّا للميكروب لأعطي، ولو كان الأوان قد فات وسرت الموادّ إلى كبده ففي النهاية يكون قد انتهى الأمر... فهذا ما يقومون به. أمّا لو مات الإنسان، فإنّهم يقولون لقد مات، فلننظر في أمواله، لقد مات هو في النهاية. 

  • هذا هو محور حكم العقلاء وحكومتهم. وبناء على ذلك فإنّ العقلاء يعتقدون أنّ المعاملات والارتباطات أمور اعتباريّة، ولا يعتقدون فيها الأصالة والواقعيّة. 

  • السبب في كون ملكيّة الإنسان اعتباريّة وملكيّة الله حقيقيّة

  • والآن فلنأت إلى ذلك الإنسان الذي يمتلك تلك الأموال ولنسأله: يا سيّد! هل أنت واقعًا مالكٌ لهذه الأموال التي هي في يدك الآن؟ هل أنت المالك الواقعيّ لها؟ حينها تُطرح تلك المسائل التي ذكرناها حيث يقول هو أيضًا: لا أنا لست المالك الأصليّ، لستُ المالك الواقعيّ. المالك الأصليّ والواقعيّ هو الله، وهو مقلّب القلوب، هو مقلّب الأحوال، هو الذي تتمحور كافّة الأمور حول اختياره وحول إرادته المطلقة. فهذا ما يقال له مسائل حقيقيّة وذاك ما يقال له مسائل اعتباريّة.

  • النقطة التي طرحت في الجلسات السابقة المرتبطة بالكلام حول الحديث الشريف للإمام الصادق عليه السلام، هي أنّ كافّة المسائل الاعتباريّة لا بدّ أن ترجع في النهاية إلى المسائل الحقيقيّة. فلماذا الله تعالى مالك لجميع الأشياء وملكيّتنا ملكيّة بالعرض ومجازيّة واعتباريّة؟ لماذا؟ المسألة واضحة؛ فمادام أصل خلقتنا ووجودنا من الله، فهو أولى بنا من أنفسنا. هو أولى بالاختيار لنا من أنفسنا، لأنّ وجودنا منه، هل كان لأحد منّا اختيار في خلقته؟ فأنا الآن أسألكم: هل كان لكم اختيار من أنفسكم في خلقتكم؟ كلاّ، بل تزوّج آباؤكم من نساء مكرّمات مجلّلات، ثمّ وفق السنّة النبويّة السنيّة وسيرة الأئمّة ـ فنحن نقرأ هذا في النهاية ـ وعلى أساس سير الخلقة والنظام التكوينيّ فإنّ مؤمنًا من المؤمنين وشيعيًّا من شيعة أهل البيت سيولد، ويا لها من سعادة وافتخار لهما ولغيرهما... 

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

4
  • استطراد حول جريمة تحديد النسل

  • فالذين يقولون: يا سيّد لا بدّ من تحديد النسل وأمثال ذلك، لم يشمّوا رائحة الإسلام، فهؤلاء لا يدركون أصلاً أنّ حقيقة التوحيد وسرّ التشيّع التي تتجلّى في فردٍ كم تحدث في هذا العالم وفي هذا النظام من الخيرات ومن البركات؟! وماذا يحدث بسببها من مسائل؟! إنّهم لا ينظرون إلاّ إلى هذا العدد، ولا يقيسون الأمور إلا بالكيلوّات والأعداد. فأنتم حينما تشترون البيض ألستم تشترونه بالعدد؟ عشرين بيضة، ثلاثين بيضة، عشر بيضات، بالعدد. وهؤلاء أيضًا يظنّون أنّ المسلمين بالعدد. فعشرة مسلمين أو عشرون مثلاً هم عبارة عن رؤوس ورقاب وأرجل وأيدي وبطون و... يقولون لو فرضنا أنّ عدد سكّان إيران الآن كذا نسمة فإنّ هذا المقدار من عدد السكّان يساوي عددًا من الكيلوغرامات في هذه الخارطة الجغرافيّة، فليكن عددهم النصف حتّى يأكل الباقون أكثر ويناموا أكثر. وأمّا تلك المسائل الواقعيّة والحقيقيّة وذلك السرّ الذي تحدّث عنه النبيّ الأكرم حين قال: إنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط۱ ـ فلو أنّكم أسقطتم فإنّي أحتسب ذلك السقط من الأمّة ومن الشيعة ومن المرتبطين بي ـ فإنّهم لا يتصوّرون شيئًا عن هذه المسائل، لا أنّهم يريدون [أن يدركوا حقيقتها] يقولون: يا سيّد ما هو السقط؟ إنّه قطعة من اللحم مثلاً يرميها الإنسان، لا حياة له فيرمى بعيدًا. ولكنّا إذا نظرنا إلى الروايات نجد أنّ من سقط له طفل فإنّه يكبر في القيامة، يكبر في عالم البرزخ ويربّى، ثمّ يأتي إلى مقربة من الجنّة ويخاطب الله عندما تقول له الملائكة: ادخل الجنّة ـ إنّه بريء في النهاية، طفل بريء ـ يقول: "لا أدخل حتّى يدخل أبواي" فأولاً لا بدّ أن يدخل أبي وأمّي ثمّ أدخل، فلو كان للأبوين مشكلات وموانع فإنّ الله ببركة هذا السقط يدخلهما الجنّة. 

  • ففي النهاية يا عزيزي حيث لا اطّلاع لديك على مسائل الخلقة، ولا اطّلاع لك على متر أمامك، كيف تحدّد للإسلام تكليفه، وتعدّ سجلاًّ لنظام العالم وتخطّط له؟ فأصلاً ماذا يدرينا نحن ما هي حقيقة الأمر؟! وكم لدينا من اطّلاع على الأوضاع؟ 

    1. وسائل الشیعة ج٢۰، ص٥٥: أما علمتم اني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط يظل محبنطئا على باب الجنة ، فيقول الله عز وجل : ادخل، فيقول لا أدخل حتى يدخل أبواي قبلي فيقول الله تبارك وتعالى لملك من الملائكة: ائتني بأبويه فيأمر بهما إلى الجنة، فيقول: هذا بفضل رحمتي لك .
      الميزان، ج۱، ص ۱٥٩: في الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط يقوم محبنطئا على باب الجنة فيقال له : أدخل فيقول: لا حتى يدخل أبواي.

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

5
  • السبب في كون ملكيّة الله حقيقيّة: كون الوجود كلّه له متنزّلاً منه

  • وعلى كلّ حال، فإنّ المسألة أنّ وجودنا لم يكن باختيارنا بل أفيض من الله، فدخلنا هذه الدنيا لنطوي سيرًا ثمّ نصل إلى تلك المراتب الكماليّة التي هي مقصودة لنا. الطريق جاهز، الطرق كلّها مجهّزة، والاستعداد بالحدّ الكافي، وهنا يجب أن يقال: 

  • گر گدا كاهل بود***تقصير صاحبخانه نيست
  • يقول: لئن كان المتكّدي ضعيفًا عن الطلب فلا تقصير لصاحب الدار.

  • وعلى هذا الأساس نحن نقول: إنّ الله مالكُ جميع الخلائق، وعلى هذا الأساس نحن نقول: إنّ الله مريدٌ مختار في فعله في ملكه ومخلوقاته والمتعيّنات النازلة عن وجوده؛ لأنّ كلّ ما وجد في هذا العالم هو تعيّنات متنزّلة من وجود الله، والدخل والتصرّف الذي يقوم به الله في الخلائق وفي مملوكاته وفي نظام العالم هو دخل وتصرّف في وجوده هو. لم يكن وجودنا [في] جهة مميَّزة ومستقلّة عن وجود الله لكي ينزّل الله منه هذا الوجود إلى هذا العالم. إنّ وجود الله هذا الذي هو وجود بالصرافة وبسيط ولا نهاية له ومطلق، عندما يأتي إلى مرتبة التعيّن ويتنزّل عن تلك الصرافة فإنّه يظهر ويبرز بصور مختلفة وأشكال مختلفة. فإذن كافّة الخلائق الأعمّ من الماديّة والنفسيّة والروحيّة والمجرّدات هي كلّها وجودات متنزّلة لتلك الذات البسيطة التي لا نهاية لها لحضرة الأحديّة. 

  • أفهل أدركتم الآن لمَ كانت الآية الشريفة التي تقول: (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ)۱؟ 

  • قل: یا الله أنت مالك ملك السلطنة، هذه السلطنات التي نراها نحن، سلطنة دارا والإسكندر وقوروش وداريوش، هذه السلطنات كلّها مجازيّة. فحتّى لو كنت الإسكندر وسيطرت على نصف الإقليم فسيأتي يوم تترك فيه كلّ هذا الملك والسلطنة ويأخذونك بكفن من مترين من القماش، فقط من مترين من القماش. هذه السلطنة، هذه السلطنة وملك هذه السلطنة ليس حقيقيًّا. لماذا لا تأخذها معك إلى القبر؟ إن أردت أن تأخذها فإنّ طاقتك ضعيفة، وليتك تعلم حينما تذهب إلى القبر...! نريد أن نذهب إلى القبر برفقة هذه، برفقة التصوّرات السابقة، بالشؤون نفسها، بما أنسنا به في هذا العالم.

    1. ۱- سوره آل‌عمران( ٣)، آيه ٢٦

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

6
  • استطراد في بيان ما يحدث للنفس في القبر وأسبابه

  • وليس بدننا هو الذي أنِس، نفسنا هي التي أنِسَت، والنفس لا تفنى، النفس هي التي تريد أن تدخل إلى القبر بكافّة شؤونها التي في عالم المادّة وفي عالم الدنيا، والتعلّقات التي أتّحدت بها في عالم الدنيا، تريد أن تدخل مع ذلك، لذلك فإنّ أمرها عسير. فلو دخلت القبر بدون تلك التعلّقات لما كان أمرها عسيرًا، ولما سألها نكير ومنكر عمَّ فعلت، لقد فعلته ومضى، إنّ ما يسألان عنه هو: لماذا قمتِ بهذا العمل ولماذا لم تقومي بذاك؟ لأنّه لا يزال معه الآن. هو موجود معه الآن، له معيّة معه الآن، متّحد معه الآن. لقد ألقى الظاهرَ جانبًا ثمّ جاء صفر اليدين، ولكنّ باطن القضايا متّحد معه. فالعمل الذي قام به كانت له جهة مُلْكِيّة وجهة ملكوتيّة. فالجهة المُلكيّة هي التي تركها وجاء وحيدًا، والجهة الملكوتيّة اتّحدت مع نفسه، والآن جاءت معه إلى القبر. وهذه لا يمكن علاجها بشيء، ففي النهاية تنفصل الجهة الملكيّة للإنسان، فمثلاً لو كان سارقًا لعشرة مليارات وقد دخل القبر الآن فإنّهم لا يفرغون هذه المليارات العشر في القبر، بل يعطونه مترًا أو مترين من القماش والكتّان ويقولون: له اذهب هذا يكفيك. فمن حيث الجهة الملكيّة قد انقطع ما بينه وبين تلك الحالة، وأمّا من الجهة الملكوتيّة لتلك السرقة وتلك الحالة من الكدورة وحالة الابتعاد وحالة الخداع وحالة الغشّ وحالة الكذب وحالة الاتّهام وحالة النفاق وحالة الظلمة، فإنّ هذه الحالات متّحدة مع النفس، وهي تدخل القبر معه، والآن لا تنسلخ، الآن لا علاقة لهم بالمُلك، فالإنسان ينزع هذا اللباس ويرميه جانبًا ويلبس لباسًا آخر. 

  • الآن هذا لباس بدني، يقولون: إنّ لباسك هذا يا فلان قد تنجّس، ويحتاج إلى تطهير، فلا يمكنك أن تصلّي فيه، لا مشكلة تفضّل. فأخلعه وألبس لباسًا آخر. لماذا؟ لأنّه من جهة المُلك، ولا عمل لنا مع المُلك. فالإنسان يمكن أن ينفصل عن الملك، يمكنه أن يفصل المادّة عن نفسه. أمّا لو عمل الإنسان عملاً ما بحيث اتّحدت معه كدورة وظلمة ذلك العمل فكيف يمكنه أن يخلعه؟ اخلعوه! 

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

7
  • ـ نخلعه؟! 

  • إنّه يدخل إلى القبر مع الإنسان، فالآن تعال وأدّ الحساب: 

  • لماذا قمت بهذا العمل؟ 

  • لماذا لم تقم بهذا العمل؟ 

  • لماذا كذبت هناك؟ 

  • لماذا رأيت هذا الحقّ هناك وأغمضت عينك ومضيت؟ لماذا؟ 

  • لماذا رأيت هذا الباطل هناك ولم تعلن ومضيت؟ 

  • لماذا نافقت هناك؟ 

  • لماذا هناك اتّهمت؟ 

  • لماذا غششت في المعاملة هناك؟ 

  • لماذا هنا لم تقل الحقّ للمشتري؟ لماذا؟ 

  • فماذا يصنع الآن؟ ففي النهاية لا يصل هناك إلى المشتري، فهو في القبر، ولا يصل إلى المشتري. والمراد من كونه في القبر أنّ نفسه في عالم البرزخ، أمّا بدنه...، فلا يمكن أن يصنع له شيئًا. لا بدّ الآن أن تأتي كلّ الأعمال التي قام بها واحدًا واحدًا واتّحدت معه فتقول له: ليس لنا رفيق أعزّ منك. تلك الظلمة وذاك النفاق وتلك التهمة وتلك السرقة تقول له: جعلنا فداك، ليتنا نموت من أجلك، أرواحنا لك الفداء، لقد انفصلت عن الناس، انفصلت عن زوجتك فبكت عليك ليومين وفي اليوم الثالث مضت تبحث عن أعمالها. لقد انفصلت عن أولادك الذين قرؤوا لك الفاتحة ليومين وجلسوا عند قبرك وقاموا بتلك المراسم وبكوا ثمّ مضى كلّ واحد منهم إلى حياته. لا فرق فالزوج والزوجة حالهما واحد، يقولون للزوجة: لقد بكى زوجك عليك قليلاً، والآن تزوّج من امرأة أخرى وقد نسيك الآن. وهي كذلك أيضًا. أحيانًا يعترضون علينا فيقولون: لماذا تتحدّث عن النساء؟ جيّد فها نحن نتحدّث الآن عن الرجال. لا فالمسألة واحدة، ولا فرق أبدًا، عباد الله كلّهم سواء من نساء أو رجال، وكلّنا لنا سجلّ واحد، وكلّنا لنا طريق واحد، لا فرق أبدًا. لقد جاء هؤلاء الأبناء وبكوا يومًا وأقاموا أسبوعًا وجاء الأقارب ووزّعوا عن روحه التمر والحلوى عند قبره وقرؤوا له الفاتحة، ثمّ في أمان الله. ثمّ بعد ذلك يقيمون له أربعين وتصرف الأموال في الأمور الخيريّة، فلا يبقى شيء. 

  • استطراد في اختصاص ذكرى الأربعين بالإمام الحسين عليه السلام

  • بالطبع نحن ليس لدينا ذكرى أربعين، وينبغي أن لا يشارك الأصدقاء في ذكرى الأربعين. فالأربعين يختصّ بسيّد الشهداء عليه السلام، وهذا الأربعين الشائع الآن بيننا نحن المسلمين هو بدعة، والمشاركة فيه خلاف سنّة اتّباع مباني التشيّع وحفظها وحمايتها. ذكرى الأربعين هي لسيّد الشهداء، حتّى النبيّ لا نقيم له ذكرى أربعين، حتّى رسول الله، فلرسول الله فقط الثامن والعشرون من شهر صفر. ولأمير المؤمنين فقط الواحد والعشرون، وللإمام الحسن المجتبى عليه السلام فقط السابع، وللإمام زين العابدين والإمام الرضا والجميع... الوحيد الذي الذي جاء في نصّ الروايات أنّ إحياء ذكره بعد الشهادة وبعد الوفاة من السنن الأكيدة وهو معيار للتشيّع في روايات الأئمّة هو سيّد الشهداء وحده. 

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

8
  • فمثلاً لفظ "أمير المؤمنين" لا يقال لأيّ واحد من الأئمّة حتّى لرسول الله. فلو نادى إنسان رسول الله بأمير المؤمنين فقد قام بفعل محرّم، وكذا لو قال للإمام الحسن أمير المؤمنين فقد فعل حرامًا مثل الزنا، مثل سائر الأمور المحرّمة، فهذا محرّم. ولو قال الإنسان للإمام الرضا عليه السلام أمير المؤمنين فهذا حرام، وحتّى لحضرة بقيّة الله أرواحنا فداه، حتّى لحضرة بقيّة الله فإنّ شعرة واحدة منه لا ترضى أن يقال له حضرة أمير المؤمنين . لماذا؟ لأنّ هذا اللقب مختصّ بعليّ بن أبي طالب. فقط عليّ بن أبي طالب لا بدّ أن يقال له أمير المؤمنين دون غيره، والأئمّة أيضًا عندما كانوا يقولون للخلفاء العبّاسيّين ذلك فمن باب التقيّة كانوا يقولونه. الإمام الصادق عليه السلام كان يقول للمنصور الدوانيقي أمير المؤمنين، وكان موسى بن جعفر يقول لهارون أمير المؤمنين. وكان المأمون يعتقد أنّه هو أمير المؤمنين والإمام الرضا كان يقول له... فكلّ ذلك كان من باب التقيّة. أمّا إطلاق أمير المؤمنين على غير ذات عليّ بن أبي طالب المقدّسة فهو حرام، حتّى على بقيّة الله. علينا أن نتحفّظ على مباني الدين ومباني التشيّع. علينا أن نحفظ هذه المسائل. 

  • ذكرى الأربعين! إنّ هذا الأربعين الذي يقيمونه للأموات هو بدعة كلّه. فالأربعين يختصّ بسيّد الشهداء عليه السلام. أقيموا ذكرى ثلاثين، أقيموا ذكرى عشرين، أقيموا ذكرى ستّين أقيموا ذكرى مئويّة، أقيموا ذكرى مرور مائتي يوم. بالطبع ينبغي أن لا يقام ذلك، فقد قال النبيّ إنّ العزاء ثلاثة أيّام فحسب، وهو نفسه أمر أصحاب العزاء أن يخلعوا ثياب السواد ويخرجوا من المنزل لأنّ أيّام العزاء الثلاثة انتهت. فهذا كان أمر النبيّ، والآن نحن جئنا نضيف، نقول: لا إشكال يا سيدي! فهو ذكر للخير، فهو قرآن وذكر. كيف لا إشكال يا سيدي؟! فذكرى الأربعين للإمام الحسين؛ فكيف لا إشكال؟! بقولنا لا إشكال لا تصلح الأمور. كيف لا إشكال؟! علينا أن نقف بإحكام عند مباني التشيّع. علامات المؤمن خمس ـ ومنها زيارة الأربعين ـ الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وتعفير الجبين والتختّم باليمين وزيارة الأربعين.۱ فواحدة منها زيارة الأربعين. وزيارة الأربعين هي فقط وفقط مختصّة بالإمام الحسين. لماذا لم يقولوا زيارة الأربعين للإمام الرضا؟! اعثروا على رواية واحدة. لماذا لا تقولون؟ ما الإشكال؟ كيف تحدّث الأئمّة بكلّ هذه الموضوعات حول خصوصيّة شهادة الإمام، وكم هي مهمّة، ولكن لماذا لم يذكروا شيئًا عن الأربعين؟! نحن نعترض، نعترض على الإمام. لو كان من المقرّر أن يكون قد ورد إلى هذا الحدّ أن يُحيا ذكر أهل البيت في الأربعين ، فلماذا اختصّ بالإمام الحسين؟! فبماذا ينقص الإمام السجّاد عن الإمام الحسين؟! فهو أيضًا إمام، فهذا أيضًا إمام، بمَ يختلف؟! بماذا يختلف موسى بن جعفر عليه السلام عن الإمام الحسين؟! بماذا يختلف؟! كلّ منهما إمام، كلّ منهما معصوم، لا فرق بينهما. حضرة بقيّة الله أرواحنا فداه بماذا يختلف؟! فإذن يصبح من المعلوم أنّ الإرادة والمشيئة الإلهيّة قد تعلّقت بخصوص سيّد الشهداء. الآن يأتي السادة ويقولون: ما الإشكال؟! إنّه لطلب المغفرة. لا بأس اطلبوا المغفرة بعد ستّة أشهر، أكان حتمًا أن تجعلوه في الأربعين؟! إنّها بدعة. فلهذا لم أكن أشارك في الأربعين لا في زمان المرحوم العلامة ولا هو كان يشارك، وهو نفسه عند وفاته ـ طبعًا قبل وفاته بثلاث سنوات في تلك الأمور التي قالها لي يومًا ما ـ قال: إنّ ذكرى الأربعين بدعة، وأنت لا تستسلم لهذه البدعة، وهي مختصّة... وأنا أوصي رفقائي وأصدقائي أن لا يشاركوا في مجالس الأربعين، أو إذا اضطرّ الإنسان في وقت من الأوقات واقعًا ولم يكن هناك بدّ فلينبّه. فبإمكان الإنسان شيئًا فشيئًا مع التنبيه أن يعيد الأمر إلى عدم إقامتها. فماذا ينقصنا نحن؟ فليكن الأمر بغير أربعين، نقيمها وفق السنّة، ثمّ بعد ذلك لا يكون الإنسان مسؤولاً ولا يوم القيامة [يؤاخذ]، فلماذا يقوم الإنسان بعمل يحاسبونه عليه غدًا. يريد أن يقوم بعمل لأجل الله، فليس فقط لا يقبله الله منه، بل سيؤاخذه عليه. 

    1. الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج٦، ص ٥٢: روي عن أبي محمد الحسن العسكري ( ع ) أنه قال : علامات المؤمن خمس : صلاة الخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

9
  • على أيّ حال، إنّ هذه الأمور تأتي مع الإنسان إلى القبر، حقيقة العمل وملكوته يتّحدان مع الإنسان، فإذا صار متّحدًا فهناك لا بدّ أن يحاسب على كلّ عمل عمل من تلك الأعمال، وإلا فقد حصل انقطاع بينه وبين الأمور المادّيّة، حصل انقطاع. إنّ ذلك عبرة لنا. وما أقوم به الآن من الكلام حول المسألة من جميع الجوانب وتقليبها فهو لكي نصل إلى هذه معرفة أنّنا كنّا إلى الآن في أيّ أفكار نسير؟ هل هذه الأفكار كانت صحيحة؟ هل كانت الحقيقة موافقة لأفكارنا؟ أم أنّها على العكس كانت شيئًا آخر؟ كانت الحقيقة شيئًا آخر.

  • معنى كون الله مالك الملك: حتّى لو كنت على الحقّ فلا يعني أنّك منتصر دائمًا (نماذج صفين وكربلاء وبدر وأحد)

  • (اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) هي آية قرآنيّة، قل: الله وحده مالك السلطنة (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) إلهي أنت تعطي السلطنة لكلّ من تريد وتأخذها ممّن تريد، أنت تقوم بذلك. أتدرون ماذا يريد الله أن يقول هنا؟ يريد أن يقول: حتّى في مواضع الحقّ، لا تتصوّروا أنّه بما أنّكم تتّبعون الحقّ فلا بدّ أن تكون الأمور موافقة لما تريدون. كلاّ، هل تعرفون أحدًا في الدنيا أحقّ من أمير المؤمنين عليه السلام؟ من هو؟ أخبروني به! فالإنسان يجنّ في هذا الوجود أصلاً، لقد كنت ليلة أمس أفكّر في قضيّة عن أمير المؤمنين فبقيت متحيّرًا، أصلاً لم يستطع الفكر أن يتقدّم، في مسألة عاديّة. فأمير المؤمنين مسائله الصغيرة والكبيرة كلّها معجزة. فكلّ خطوة يخطوها وكلّ عمل يقوم به، وكلّ شيء ينجزه في مسألة عاديّة متداولة ومألوفة، وطبعًا ليس هناك مجال الآن... فهل لديكم في عالم الوجود هذا [من هو خير] من أمير المؤمنين؟ والمراد من أمير المؤمنين الأئمّة الآخرون، أي فقط هؤلاء المعصومين الأربعة عشر، وأمّا غيرهم فلا حديث عنهم فهم من المعفوّ عنهم، فصغيرنا وكبيرنا لا حديث عنّا، ففي عالم الوجود ليس هناك إلا هؤلاء المعصومين الأربعة عشر، وبتبع عناياتهم فإنّ الأولياء الذين وصلوا إلى مرتبة الولاية حسابهم منفصل، ولا نريد أن نقلّل من شأنهم جسارة عليهم. المراد هو نوع البشر العام، الناس المدّعون، الولاية الادّعائيّة أيّها السادة! الادعائيّة، الولاية الخداعيّة، فهذا كلّه مجاز. فهذا أمير المؤمنين عليه السلام بعظمته يجمع الناس ويقول لهم فلنمض إلى قتال معاوية واقتلاع جرثومة الفساد. سَأجهَدُ أنْ اطَهّر الأرضَ مِنْ هذَا الجِسمِ المَنكوس والرّجُلِ المَعْكوس۱ سأعمِل كلّ همّتي وجهدي ـ يقول أمير المؤمنين ـ لكي أطهّر الأرض من هذا الإنسان المعكوس، فمعاوية في النهاية معكوس، فكلّ صفة أخلاقيّة وقيمة وكلّ ملكة تستحقّ التقدير يمكن أن تتصوّرونها فإنّ عكسها في معاوية، من كلّ جهة. 

    1. نهج البلاغة ج٣، ص ۷٣: سأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس.

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

10
  • والآن أمير المؤمنين بهذه النيّة وبهذا الاهتمام وبهذه الخطب وبهذه الترغيبات وبهذه الترهيبات... إنّه أمير المؤمنين في النهاية ومن أعلى من أمير المؤمنين؟! وبالطبع كان هناك بضعة يعرفونه والباقون كانوا كالأنعام. كان هناك مالك الأشتر، وكان هناك حجر بن عدي، وبضعة أفراد كميثم وعدة خواصّ آخرون يبلغ عددهم العشرة إلى العشرين كانوا يعرفون أمير المؤمنين، هذا أمير المؤمنين، أنتم تسيرون مع أمير المؤمنين فتتقدّمون وتتقدّمون وتسيرون حتّى تصلوا إلى معركة صفّين وتقاتلون، تطول هذه المعركة ثمانية عشر شهرًا، ثمّ تنتهي بخسارة أمير المؤمنين فيرجعون. ما معنى ذلك؟ هنا يريد الله أن يقول هذا الأمر: ولو كنت تسير خلف أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وتتبّعه فهذا ليس سببًا لكي يتحقّق ما تريد، فليست المسألة مسألة انتصار، وليست المسألة مسألة تغلّب، بل يجب أن تكون أنت خلف عليّ سواء انتصر أم انهزم، هذا هو المهمّ. 

  • سبب رجوع من رجع من كربلاء عدم تصحيح الفكر

  • وهؤلاء الذين ساروا مع الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء أتدرون لماذا رجعوا في تلك الليلة؟ لأنّ فكرهم الذي في أذهانهم لم يصحّح. كانوا يقولون هذا سيّد الشهداء وابن رسول الله وقد رأينا منه اليد البيضاء وما شابه ذلك، ففي النهاية كان الإمام... إنّه إمام في النهاية. فنسيطر ونضربهم جميعًا ونبعثرهم في الهواء كالجراد، ونمضي إلى الكوفة. ثمّ نهجم على الشام ونسيطر عليها، ونتقدّم من هناك... جاؤوا فرأوا أنّ الإمام الحسين يخبر عن شهادته يوم غد، سيأخذون الرجال يقطّعونهم إربًا إربًا، الرؤوس في جانب والأيدي في جانب، ثمّ يجعلونها تحت الخيول ويسحقونها، ما هذا؟ ماذا حصل؟ لقد كنّا نظنّ أن ابن رسول الله سيشقّ القمر، وسيردّ الشمس كأبيه الذي ردّها مرّتين وينفخ ويضرب وينتصر. رأينا الأمر مختلفًا، فالكلام ليس كلام حلوى وأرزّ بالزعفران، الكلام عن الضرب والموت والسحق وقطع الرؤوس... لا يا سيّدنا نحن لسنا حاضرين. ولكي يكونوا مطمئنّين قال الإمام أيضًا: أطفئوا السراج حتّى لا يحسّ أحد وينطلقوا. ثمّ التفت إلى الباقين وقال: هذا هو التوحيد ـ وطبعًا أنا أقول هذا لا أنّه كلام الإمام ـ الآن هذا هو التوحيد. فمن كان من أهله فيا الله! بسم الله! أنا إمام لكم أنتم العشرة أو العشرون، أولئك ذهبوا يا سيّد! أنا إمام، أنا سيّد الشهداء إمام لكم أنتم الذين مثل زهير الذي يقول: لو صنعوا بي كذا وكذا ألف مرّة وأمثال هذا الكلام. لمسلم بن عوسجة، لهاني بن عروة، لمسلم بن عقيل، لهؤلاء، أنا إمام عليكم. وحيث إنّنا نحن من أتباع حضرته ونلطم الصدور ونقيم المجالس فهل نحن مثل هؤلاء؟ لو جاء الإمام الحسين إلى هنا وتكرّرت تلك الحادثة واختبرنا ـ وفي كلّ يوم اختبار، وفي كلّ يوم تحقيق، ولو أعملنا عقولنا فإنّ في كلّ دقيقة كربلاء ـ فإن تركنا خسرنا، إن تأمّلنا طرفة عين خسرنا. كان المرحوم العلامة يقول: على السالك يا عزيزي أن يكون مترقّبًا مستعدًّا، مستجمعًا حواسّه أن لا يغفل دقيقة أو لحظة واحدة، لحظة واحدة يخسر، نعم لو تدارك فهذا أمر آخر. ففي لحظة واحدة يمكن أن تحصل أمور والإنسان غافل. هذه هي المسألة. هل عندكم من هو أعلى من الإمام الحسين؟ من هو الأعلى من سيّد الشهداء؟ یقول الإمام الحسين: أنا آتي وكلّ ما قدّره فهو أعلم بصلاحه، لقد أتيت، أتيت إلى مكّة ولن أبايع يزيد، إنّه على باطل، نحن سنأتي مكّة. تَتَبَّعوا الإمام، وحفظًا لحرمة مكّة ولحفظ الكعبة... فالإمام الحسين كان قادرًا أن يقتل فيها ويقول: ما دام من الضروريّ أن أقتل فلأقتل في الكعبة حتّى يفتضح يزيد أكثر، من باب صبّ النقمة عليه، فما دام هذا الخبيث قد بعث يريد اغتيالي [فليكن الأمر في الكعبة]. ولكنّ الإمام لا يفعل ذلك. لأنّ الإمام ليس لديه انتقام، فالإمام ليس له نفس مثلي ومثلك. الإمام يقول: إن كانوا يريدون أن يقتلوني فلأخرج من مكّة، وليبق احترام الكعبة محفوظًا. هل التفتّم ماذا أريد أن أقول؟ ذلك هو الإمام. لا يفكّر الإمام في أن يخرّب على يزيد، الإمام يفكّر في حفظ الكعبة من لوث الاتّهام. لا يفكّر الإمام أن يفتضح بنو أميّة، بل يفكّر أن يبقى هذا الحرم الإلهيّ مقدّسًا في الأعين وفي الأفكار، وأن لا تذهب هيبته. ذلك الحرم الآمن الذي سمّاه الله تعالى حرم أمن للناس وجعله حرمًا آمنًا ينبغي أن لا يسقط عن الأمن بواسطة الإمام. 

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

11
  • أفهمتم الآن لماذا نقول ليس هناك إلا هؤلاء المعصومين الأربعة عشر؟ ولماذا لا بدّ من اتّباعهم وحدهم؟ فالأئمة المعصومون لا نفس لهم، المعصومون الأربعة عشر ليس في أذهانهم أصلاً هذه المعادلات والمسائل التي عندي وعندك، الأئمّة ليسوا أصلاً في هذا الوادي، فنحن في أيّ شيء نفكّر وهم في أيّ شيء يفكّرون؟ الآن يقوم الإمام الحسين ويقول: لقد دعونا فنلبّي ونعمل على أساس التكليف فنأتي إلى الكوفة. يأتي هؤلاء الكوفيّون إليه أن: عليك بالرجوع! 

  • ـ أنتم أرسلتم إليّ الرسائل. 

  • عجيب جدًّا! فحادثة كربلاء يمكن للإنسان أن يطبّقها في حياته، في القضايا التي تحدث، في علاقاته مع الناس، في كيفيّة حياته، في كيفيّة تعامله، أن يأتي بكلّ واحدة واحدة من كلمات هذا الإمام وخطواته ويتّبعها. الإمام يقول: لقد أريتكم فتفضّلوا. فلا تقولوا إلى هذا الحدّ: يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزًا عظيمًا۱ فالأمر لا يحتاج إلى هذا الكلام، لقد أتيت أنا فتفضّلوا هذا كلامي وهذه أفعالي وهذا مشروعي فاعمل أنت لتكون معي، اعمل. لا يحتاج أن تدّعي لكربلاء، أن نأتي وندّعي ونَبكي ونُبكي ثمّ نقوم بالأعمال الأخرى، هذا غير صحيح. لقد جاء الإمام الحسين وقال: تفضّلوا. طريقي طريق التوحيد، طريقي طريق السير والتطبيق باختيار الله ومشيئته. لقد جئنا نطبّق ما أراده وما شاءه، هو يفعل ويحقّق. فعلينا نحن أن نصحّح فكرنا. وهذه الأمور موجودة في كلّ مكان. فلا نتصوّر أنّنا وضعنا رجلنا في الطريق ونريد أن تكون الأمور كما نحبّ. هذا ما أحب أن أقوله لكم. هذه هي المسألة، لماذا لا نتحدّث نحن بصراحة؟ لماذا نخفي الحقائق؟ 

  • قل (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) لماذا؟ لأنّ المِلكيّة والمُلكيّة والسلطنة والمِلكيّة الحقيقيّة هي لك. حتّى بالنسبة لنبيّه هي اعتباريّة أيضًا، حتّى بالنسبة إلى إمامه هي اعتباريّة، من الناحية الماديّة وفي نظرنا نحن أما من لحاظ آخر سنبيّنه الآن فهي حقيقيّة بالنسبة إليهم. فحتّى بالنسبة إلى النبيّ وحتّى بالنسبة إليهم... فهم يقولون: إلهي إنّ كلّ الملك مختصّ بك، والسلطة مختصّة بك. ألم يكن النبيّ يجمع الناس في مكان ويقول: فلنذهب لقتال الكفّار، وكانوا يمضون إلى بدر، وقد جاء الملائكة وأنهوا الأمر: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ)٢ ففي بدر أيّد الله المؤمنين بالملائکة، في هذه المعركة كان الشيطان قد جاء بهيئة إنسان، الحمد لله كان قد تصرّف في الصورة البرزخيّة لهؤلاء المشركين. هذا الكبير! هذا السيّد! هذا الشيطان! هذا الذي لنا عمل دائم معه في كلّ يوم، والذي اتّحد معنا، هذا كانوا يرونه وكان يؤيّدهم تعالوا نفعل كذا ونهاجم ووو...، ثمّ فجأة رأوا هذا الرجل يهرب ويفرّ ـ وهذا موجود في رواية ـ قالوا: لماذا تفرّ؟ أنت الذي كنت تدعونا. قال: إنّي أرى ما لا ترون. في أمان الله. لقد رأى الملائکة قد وصلت، فيا للعجب، هذا ما لم أكن على علم به. لقد جاءت الملائکة جبرائیل ومیکائیل وغيرهما وكلّ واحد منهم على رأس ألف، هذا ما لا قدرة لي عليه، في أمان الله أنا ذاهب. كانوا يقولون: هذا الذي كان يدعونا قد فرّ ففرّوا هم أيضًا. فهذا ما وقع في معركة بدر. ولكن في معركة أحد: فلنذهب ولنقتل وكذا وكذا! فيأتي الحمزة ـ يقول النبيّ دعونا نواجه في المدينة ـ يا رسول الله هذا عار علينا يقولون يا فلان يدافعون من داخل مدينتهم، أفهل نحن رجال عاطلون عن العمل! علينا أن نخرج! لم يقبل الحمزة ـ حمزة سيّد الشهداء ـ كان رجلاً عظيمًا ولكن على كلّ ليس كلّ الناس كأمير المؤمنين، فخرجوا، وواقعًا كان لحمزة لقب سيّد الشهداء وإلى ما قبل واقعة كربلاء كان لقب سيّد الشهداء مختصًّا بالحمزة، فلنعلم هذا نحن أيضًا. واقعًا التضحيات التي قدّمها كانت عجيبة، ولكن في النهاية مقام أمير المؤمنين ومعرفته شيء آخر، وهذا بحث آخر، ولا بدّ أن يكون الأمر كذلك، والحاصل أنّ الحمزة لم يقبل، وجرّ خلق الله إلى خارج المدينة [قائلاً] نخرج ونقاتل، غير أنّ حمزة نفسه لا يعلم أنّ هناك وحشيًّا غلام هند سيأتي ويضربه بذلك الرمح ويصرعه على الأرض.لم يكن يعلم هذا، فيأتي ويفعل ذلك. وأولئك الذين على الجبل عندما يرون أنّ الأعداء فرّوا قليلاً يأتون، ويلتفّ خالد بن الوليد في خمسمائة مقاتل من الخلف، ويقتلهم جميعًا، كان قد بقي منهم أحد عشر رجلاً فقتلهم وأعاد الأمر لصالحهم وهزم الإسلام، وحصلت معجزة حتّى ذهبوا وظنّوا أنّه قضي الأمر. 

    1. اقتباس من الآية ۷٣ من سورة النساء. 
    2. - سورة آل‌عمران (٣)، الآية ۱٢٤.

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

12
  • النبيّ والإمام ينتصران ويهزمان إظهارًا للتوحيد في سلطان الله

  • عندما يحدث هذا مع النبيّ ترون أنّهم هزموا أي إنّ الله يريد أن يقول: الحكومة لي وحدي. وهذا النبيّ مرّة أجعله يربح ومرّة أجعله يخسر. هذا أمير المؤمنين تارة ينتصر كما في معركة الجمل ومعركة النهروان، وفي معركة صفّين فإنّي أهزم هذا الأمير وأنهي الأمر لصالح معاوية. انظروا! أين تجدون توحيدًا خيرًا من هذا؟ فلو کان لا بدّ أن ـ التفتوا ماذا أريد أن أقول ـ لو كان لا بدّ أن يتحقّق كلّ ما نريد ونصل إلى المبتغى بمجرّد أن دخلنا في طريقٍ محقّ، لدخل الناس كلّهم فيه، ولما شكّ أحد في أحقيّة أمير المؤمنين. من الذي سيشكّ؟ ماذا رأى الناس من أمير المؤمنين فلم يأتوا؟ لقد رأوا! فتارة كان يتّجه هذا الاتّجاه وتارة ذاك، ولم يكن الحال أنّه دائمًا يسير في اتّجاه واحد. فهذا هو أمير المؤمنين وهذا طريقه، ولهذا كانوا يقولون: لا ما دام الأمر كذلك فلنذهب إلى أحد ليس له إلاّ مسير واحد. فلنذهب إلى أبي بكر، فلنذهب إلى عمر، لنذهب إلى معاوية، إلى الموائد الملوّنة، إلى كذا وكذا، فلنذهب إلى ذاك الاتّجاه، وإلاّ فإنّ أمير المؤمنين تارة في هذا الاتّجاه وتارة في ذاك، تارة شدّة وتارة يسر، تارة صحّة وتارة مرض، تارة كذا، هذه هي المسألة وهنا على الإنسان أن لا يضيع هذا الملاك في الشدائد التي تصيبه في الحياة، فإنّ الكون في منهجٍ حقٍّ وموضع حقّ ليس سببًا للنصر ـ النصر الظاهري ـ ليس سببًا للكون في اتّجاه واحد. 

  • فلهذا نرى أنّ هذا النحو من الكلام لا وجود له في كلمات الأئمة: فلنذهب ولنضرب ولنأخذ هذا المكان وسنكون كذا. كلاّ، بل لنذهب أيّها الناس ولنؤدّ وظيفتنا، من الممكن أن نهزم ومن الممكن أن ننتصر، هنا علينا أن نصنع هذا العمل، ومن الممكن أن نهزم ومن الممكن أن ننتصر. هذا مقام العبوديّة الذي لا شيء فيه للعبد من نفسه. ففي يوم من الأيّام يرسله المولى إلى هذا الدار أن اذهب وقم بهذا العمل، وغدًا يرسله المولى إلى دار آخر، أفهل يمكن للعبد أن يقول: لماذا ترسلني في كلّ يوم إلى مكان، أرسلني كلّ يوم إلى نفس المكان؟ یقول: أنت عبد، أقول أوصل هذه الرسالة اليوم إلى هذا المكان، وغدًا أوصلها إلى مكان آخر! ما شأنك أنت بالمكان الذي نرسلك إليه؟! الیوم أعط هذا المال إلى فلان وغدًا تعال وأعط هذا المال... جاء ذاك الرجل واعترض على أمير المؤمنين: يا عليّ! ألك كلّ هذا المال لكي تعطيه لهذا الرجل وهو غير محتاج الآن؟! فقال الإمام أنا أعطي وأنت تبخل؟ أنا أقدر منك على التحديد أم أنت أقدر منّي؟ أنا من يهب فلماذا أنت تبخل؟ فأنا لم أعط من جيبك. 

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

13
  • هذه الحكومة هي الحكومة الواقعيّة، وهذا المِلك هو الملك الواقعيّ. فما دام هذا الملك هو الملك الواقعي فإنّ عالم التشريع وعالم الاعتبار يقوم على هذا الأساس. لماذا نحن مكلّفون أن نطيع أوامر الله ونواهيه؟ لماذا؟ لأنّ الله مالكنا. هل أدركتم ما أريد قوله؟ 

  • استناد عالم التشريع إلى الحقيقة والواقع لا إلى التعبّد المحض

  • فإذن عالم التشريع وعالم الأمر والنهي يقومان على أساس حقيقة، على أساس أصالة. لا على أساس تعبّد محض وأنّ الله قال لا بدّ أن تطيعني فلا بدّ أن تطيعني. لا ليس الأمر على هذا الأساس. لأنّ مرجع هذه الأوامر والنواهي إلى المالكيّة الأصليّة والمالكيّة الحقيقيّة فنحن ملزمون أن نطيع أوامر الله ونواهيه. لأنّ وجودنا من وجود الحقّ، ووجود ظليّ تبعيّ، فلا بد أن نكون مطيعين لذلك الوجود الحقّ. الآن ترون رجلاً في الشارع يأتي ويقول: تفضّل يا سيّد وأطعني، افعل كذا. تقول له: ماذا؟ امض إلى عملك يا سيّد! ولو قام بالتشويش فإنّك تستدعي شرطيًّا: إنّ هذا يؤذيني، يقول لا بدّ أن تطيعني. يقول له الشرطيّ: لماذا تقول هذا الكلام؟ یقول: أحبّ ذلك. تقول: لا يمكن يا سيد! لسنا في دولة تفعل فيها ما تشاء، لا بدّ أن يكون كلامك مستندًا إلى أساس. لماذا تقول لا بدّ أن تطيعني؟ یقول: أنا أكبر. 

  • ـ كبر السنّ ليس سببًا. 

  • يقول: أنا أرتدي عمامة. 

  • ـ ارتداء العمامة ليس سببًا.

  • يقول: مثلاً أنا كذا. 

  • ـ هذا ليس سببًا. 

  • فما هو الملاك لكي تطيع؟ أخبرني. 

  • أمّا لو راجعنا الله نقول له: لماذا تقول لعبادك: لا بدّ أن تطيعوني؟ 

  • یقول الله: لأنّي أنا المالك الأصليّ. فتصمت الألسن عندها، فهذا هو الدين العقلائي. فالدين العقلاني والعقلائي هو الذي ليس في أحكامه تعبّد وعصا. الدين هو دين العقل. ليس في الدين قوّة، الملاك الأصليّ والمعيار الأصليّ في اتّباع الأوامر والنواهي الإلهيّة هو كونها على أساس المنطق وعلى أساس العقل. لأنّ الله تعالى مالكنا فلا بدّ أن نكون تحت إرادته واختياره. والمسألة صحيحة، والعقل يقول هذا. لأنّ هذه الأموال في اختياري يمكنني أن أتصرّف بها، أمّا الآخرون فلا يمكنهم أن يتصرّفوا لأنّه ليس مالهم. لو أنّ إنسانًا جعلته في مكاني حتّى في الغرفة فإنّه يمكنه القيام بما هو ضمن حدود الاختيار، ولا يمكن أن يتعدّى، لأنّه ليس ماله، بل في تلك الحدود المجازة فحسب.

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

14
  • وعلى هذا الأساس، مجرّد الأمر أو النهي لیسا سببًا لأن يطيع الإنسان. لا بدّ أن تكون المسألة مسألة عقلائيّة، فمثلاً لو كان من المقرّر أن تذهب إلى الطبيب، لديك مرض، مرض في معدتك، يقول لك الطبيب ـ طبيب متخصّص ذو خبرة عرف المرض، والدواء معروف أيضًا ـ لو جاء هذا الطبيب وقال لك: يا سيّد! هذا الماء الكائن هنا أريد أن تشربه على أنّه الدواء الفلانيّ دواء "مالكس"، دواء كذا... دواء المعدة مثلاً أقراص "رانيتيدين". هذا الشيء الذي هنا، حبّة السكّر الموجودة هنا اشربها على أنّها كذا. فلو قال ذلك ألف مرّة فإنّ خصوصيّة الدواء لن تأتي إلى ذلك الماء أو ذلك القرص.

  • نقول: لماذا يا سيّد؟ 

  • یقول: يقول لكم طبيبي كل هذا، فهو يحمل مزايا الرانيتيدين. 

  • يقول: يا سيّد! أنا آكل، إنّه حلوى، سكّر. 

  • يقول: تعبّدًا أقول لك لا بدّ أن تقوم بهذا العمل. 

  • يقول: لماذا تفرض بالقوّة؟ إن كنت عالمًا فاكتب لي وصفة لآخذها من الصيدليّة، وإن كنت جاهلاً فلماذا تفرض بالقوّة؟ إن كنت صاحب علم فاكتب لي الوصفة، وإن كنت جاهلاً فلماذا تفرض؟ السكّر سكّر، وتركيبه الجلوكوز والسكّر وكذا وكذا، وله خواصّ مميّزة، ودواء المعدة وآلامها شيء آخر. فالطبيب ولو كان طبيبًا لا يمكنه أن يكذب. هذا الكذب غير عقلائي والأمر ليس هكذا. وبكلام الطبيب لا يحصل شيء ما على خواصّ تأثير الدواء. وبالفرض والإجبار من قبل طبيب أنّ كوبًا من الماء له أثر المنع من السمّ، ولا تحصل آثار الدواء الفلاني، والدواء الفلاني لا يصبح دواء للصدر، ولا يغدو دواء ضدّ الالتهاب. إن أردت أن يكون عندك ضدّ الالتهاب، إن أردت أن يكون لديك مضادّ للالتهاب فصبّ هذا المقدار من الماء في هذه الزجاجة وحلّه لكي يتحسّن حال الطفل. لا بدّ أن يكون هناك مضادّ حيويّ لا أن يكون الماء ماء الأنابيب. ولو قال ألف رجل اشرب هذا اشرب هذا! لماذا! لأنّ كلام الطبيب كلام اعتباريّ، والاعتبار لا يوجد شيئًا في الخارج أبدًا، لا بدّ أن تكون في الخارج حقيقة. فإذن ما دامت حقيقة المسألة ـ دقّقوا الآن فيما أريد أن أقوله والوقت يشرف على الانتهاء ـ ما دامت حقيقة المسألة أنّه إذا كان لا بدّ أن يكون هناك أمر ونهي فلا بدّ أن يكونا مستندين إلى حقيقة. كما أنّه لا يمكن لأيّ أحد أن يأمر الإنسان وينهاه أن افعل هذا الفعل ولا تفعل ذاك، ولا بدّ أن يكون ذلك على أساس حقيقة. من هو الذي يمكنه أن يأمر الإنسان وينهاه؟ إنّه المالك الأصليّ للإنسان. أي إنّ اختياره بالنسبة إلى الإنسان ليس اختيارًا تعبّديًا، ليس اختيارًا اعتباريًّا، الاختيار اختيار أصليّ. الاختيار اختيار المالكيّة. لو أنّ طبيبًا جاء وأراد أن يعطي وصفة فلا بدّ أن تكون خارجة عن التعبّد والاعتبار وذات بعد حقيقيّ وواقعي. عندما يريد أن يعطي المضادّ الحيويّ يقول للرجل: لا بدّ أن تمزج هذا المقدار من السائل، مادة الآنتيبيوتيك التي في الزجاجة الآن. فالماء وحده لا يكفي لو تناولته، لا بدّ أن تمزجه. فإذن لا بدّ أن يكون كلامه مترتّبًا على أمر حقيقيّ وواقعيّ. ولو أراد أن يتكلّم من عند نفسه لمجرّد أنّه طبيب فلا ينبغي للمريض أن يصغي إليه، لأنّه لا تأثير له. يقول له: أنا أموت من ألم المعدة. يقول: اشرب هذا الماء. 

الملكيّة الحقيقيّة لله والاعتباريّة للإنسان

15
  • ـ كم أشرب من هذا الماء؟ لقد شربت دلوًا. 

  • يقول: لا. اشرب أيضًا. ـ أكاد أختنق كم أشرب؟ أحد أنواع التسمّم الموجودة التسمم بالماء، حيث تتوقّف الكلية عن العمل، أحد أنواع التسمّم التسمّم بالماء. 

  • ـ كم أشرب يا سيّد؟ لقد توقّفت معدتي عن العمل، توقّفت كليتي عن العمل، لكلّ شيء حسابه. يقول: لأنّي طبيب فعليك أن ...

  • ـ أنت طبيب ولكن عليك أن تعطي الوصفة بشكل صحيح، لا يكفي أن تكون طبيبًا. 

  • عدم جواز الفتوى لغير المتّصل بالملكوت

  • هنا يأتي كلام الإمام الصادق عليه السلام بناء على الرواية التي في مصباح الشريعة حيث يقول: لا يجوزُ الفُتيا لمَن لا يستَفتي مِن الله بصَفاء سِرِّه و بُرهان مِن رَبّه فى سِرِّه وَ عَلانية۱ لا تجوز الفتوى إلا لمن كان باطنه متّصلاً بالملكوت، فلا يتفوّه بأيّ كلام. وهذه المسألة إن شاء الله للجلسة اللاحقة، وقد كانت هذه الجلسة مقدّمة لكي نصل، ولكن يبدو أنّ المجال انتهى ولمّا نصل... قال: 

  • مجلس تمام گشت و به آخر رسيد عُمْر***ما هم چنان در اوّل وصف تو مانده‌ايم
  • [والمعنى: انقضى المجلس وتصرّم العمر، و لازلنا حائرين في أوّل صفاتك‌]

  • إنّ التمييز بين الحقائق والاعتباريّات هو عمود خيمة السلوك، والحجر الأساس لحركة الإنسان إلى الله. 

  • نسأل الله تعالى أن يجعل أعيننا مفتوحة، وآذاننا واعية، وقلوبنا مستعدّة لتلقّي مصالحنا ومفاسدنا، وأن لا يبعد رؤوسنا في حال من الأحوال عن ظلّ مقام الولاية الكبرى لبقيّة الله أرواحنا فداه، وأن لا يحرمنا في الدنيا والآخرة من زيارته وشفاعته.

  • اللهمَّ صلّ عَلى محمَّد وَ آل مُحمَّد

    1. مصباح الشريعة ص ۱٦ وبحار الأنوار، ج٢، ص ۱٢۰: لا تحل الفتيا لمن لا يستفتي [يصطفى] من الله عز وجل بصفاء سره وإخلاص عمله وعلانيته وبرهان من ربه في كل حال ، لأن من أفتى فقد حكم ، والحكم لا يصح إلا بإذن من الله وبرهانه ، ومن حكم بالخبر بلا معاينة فهو جاهل مأخوذ بجهله مأثوم بحكمه ، قال النبي صلى الله عليه وآله : أجرؤكم بالفتيا أجرؤكم على الله عز وجل . أو لا يعلم المفتي أنه هو الذي يدخل بين الله تعالى وبين عباده وهو الحاجز بين الجنة والنار ؟