المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1438
التوضيح
تحدّث سماحة آية الله السيد محمد محسن الطهراني رضوان الله عليه في هذه المحاضرة عن مقتضى مقام الستارية، وكيفية انعكاسه على تصرّفات العبد، فذكر أربعة أمور: 1- أن النميمة بين الناس خلاف الستارية، 2- أن استعمال الأجهزة الحديثة للتجسس وكشف الأسرار خلاف الستارية، 3- أن تتبع زلات الصوفية مناف لمقام الستارية ، 4- أن مقام الستارية يقتضي حمل الآخرين على الأحسن مهما أمكن.
وجدير بالذكر أن أهم عناوين هذه المحاضرة التي ألقيت ليلة الثاني والعشرين من شهر رمضان لعام 1438 هـ ق. هي كالتالي:
1- تنبيهان قبل البدء: احترام المصحف الشريف وترتيب الأدعية و الزيارات.
2- النميمة بين الناس من أقبح القبائح.
3- لا يجوز استعمال الأجهزة الحديثة في إفشاء الأسرار.
4- تتبّع زلاّت الصوفية خلاف الستارية.
5- الأخطاء والزلات التي صدرت من الفقهاء أكبر من الصوفية.
6- مولانا جلال الدين الرومي يعترف بولاية أمير المؤمنين عليه السلام و يبين حقيقتها.
7- مقتضى الستارية حمل الآخرين على محمل حسن حتّى المخالف.
8- الفقر المحض في الأبيات التي كتبها أمير المؤمنين عليه السلام على قبر سلمان.
هو العليم
أربعة تطبيقات لمقام الستارية
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۸ هـ ق - المحاضرة الرابعة عشرة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى أهل بيته الطاهرين
والّلعنة على أعدائِهم أجمعين
«وَلَو خِفتُ تَعجِیلَ العُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ، لا لِأَنَّکَ أَهوَنُ النَّاظِرِینَ وَأَخَفُّ المُطَّلِعِینَ بَل لِأَنَّکَ یَا رَبِّ خَیرُ السَّاتِرِینَ وَأَحکَمُ الحاکِمِینَ وَأَکرَمُ الأَکرَمِینَ»
لو كنت أخاف تعجيل العقوبة يا ربِّ، لما أذنبت ولما اقتربت من الذنب ولما حُمت حوله؛ وعدم خوفي هذا ليس ناشئًا من اعتقادي بعدم إشرافك على ما أقوم به من تصرّفات وأعمال، أو ما يرد على ذهني من أفكارٍ وعلى نفسي من أمورٍ أخرى، كلّا، ليس الأمر كذلك؛ بل أنا معتقدٌ بأنَّك تمتلك أعلى درجة من درجات الإشراف والاطّلاع والمعرفة بجميع شؤوني؛ فعلى هذا ما الذي يدفع العبد إلى التساهل في ارتكاب المعاصي؟! إنَّ السبب في ذلك يعود إلى كونك أستر الساترين؛ فأنت تستر علينا ولا تُفشي ما نرتكب من ذنوبٍ، فهذا هو الذي يجعلنا نرتكبها ونحن نشعر بالأمان، فنحن نعلم بأنَّ ربنا يُغمض عن كلّ ما نرتكبه من ذنوب، ويرحمنا لصِغَرِنا وضعفنا وقصورنا. وفي مقام الحساب، فأنا أعلم بأنَّك أحكم الحاكمين؛ فأنت تعلم بكلّ دقّة ما الذي تقوم به وكيف تتعامل مع هذا الملف، فلا يمكن لأيّ أحد أن يتدخّل بعملك أو أن يقوم بتزوير ذلك الملف أو التمثيل لإظهار خلاف الواقع.. نعم، لا يستطيع أيّ أحد التمثيل معك. وفي مقام الكرم فإنَّك تمتلك أعلى ما يمكن امتلاكه من الكرم يا ربِّ.
تنبيهان قبل البدء: احترام المصحف الشريف وترتيب الأدعية و الزيارات
أودّ الإشارة ـ وقبل أن أبدأ حديثي ـ إلى أمرين لفتا انتباهي وهما:
أولاً: لاحظت تلك الليلة [والتي كانت إحدى ليالي القدر] بعض الإخوة يضعون القرآن على الأرض، ولعلهم لم يكونوا قد سمعوا بهذا الأمر من قبل؛ إنَّ وضع القرآن على الأرض يعتبر إهانةً له؛ بل يجب أن يوضع القرآن إمّا على رحلٍ، أو إلى جنب الإنسان [وذلك بأن يضعه على فخذه]۱، فلا يجوز وضعه على الأرض.
أمّا الأمر الثاني: فبالنسبة للأدعية والزيارات التي تُتلى في ليالي القدر، فينبغي أن يكون ترتيبها على هذا المنوال ـ من أجل زيادة التوجّه، وجلب الأنوار وتحصيل الفائدة ـ وهو أن تكون قراءة زيارة عاشوراء بعد قراءة الأدعية والتلاوة، فتكون هذه الأمور أوّلًا ثم تُقرأ زيارة عاشوراء فيأتي بعدها الخطبة وذكر المصيبة وما شابه ذلك.
النميمة بين الناس من أقبح القبائح
حسنًا، لقد تحدّثنا في شرح هذه العبارة من كلام الإمام عليه السلام، وقلنا بأنَّ لستّارية الله تعالى درجاتٍ مختلفةً، فأوّل درجة من تلك الدرجات هي أنَّ الله ـ رغم علمه بما يفعله أحد عباده ـ لا يُطلع الآخرين عليه، ما لم يقم الرجل بفضح نفسه بنفسه، كأن يكون قد جاء بذلك العمل على مرأىً ومسمعٍ من الناس، فيطّلع الآخرون عليه ويعلم الجميع به، وإلّا فإنَّ الله لا يستخدم الوسائل والطرق المختلفة لنشر ما يدور في السّر بين اثنين من الناس، فكم سيجرّ مثل هذا العمل من تبعاتٍ وأخطار؟! فلربّما يكون أحدهم قد ذكر أحد عباد الله بسوء؛ ولكنه قد ندم على فعلته تلك، فهل من الصحيح أن يذهب أحدهم ـ وبعد مضي شهرين أو ثلاثة أو بعد مضي عامٍ على ما حصل ـ إلى الرجل الآخر فيقول له: أتعلم ما الذي قاله فلانٌ عنك؟! فيبدأ بسرد ما كان قد سمعه من ذلك الرجل!
ما الذي سيحصل حينئذٍ؟ وكيف يمكن معالجة هذا الأمر بعدها؟ هذا مع أنَّ الرجل لربما يكون قد ندم وتاب عن فعلته واستغفر الله عليها، ولم يكن أيّ أحدٍ آخر قد اطّلع عليها، فكم هو قبيح ووقيح أن يقوم أحدهم بنقل ما كان قد سمعه من الرجل إلى غيره! وكم يكون بعيدًا عن هذا المسير مَنْ يفشي ما اطّلع عليه من خبايا الناس وبواطنهم بواسطة بعض الوسائل؟ فالويل ثمّ الويل له، فهذا من أقبح القبائح!!
يُقال: إنَّ آينشتاين عندما سمع بإلقاء القنبلة الذريّة وقد كان هو منشأها ... هذا مع أنَّ آينشتاين كان رجلًا مؤمنًا، وكان يقوم ـ وعلى طريقته الخاصّة ـ بقراءة الأدعية وما شابهها، وكان يسعى للوصول إلى اكتشاف بعض الأمور؛ فقد كان يقول: ليتني وبدلًا عن اشتغالي في التحقيقات المتعلّقة بعلم الفيزياء، كنت قد أعطيت بعضًا من وقتي للبحث في علوم ما وراء الطبيعة، وليتني كنت قد تعلّمت اللغة الفارسيّة لكي أتمكّن بواسطتها من الاطّلاع على خفايا ما حوته المواضيع التي طرحها كبار العرفاء من أمثال الشيخ حافظ الشيرازي وأمثاله... على أية حال، فلقد كان الرجل رجلًا مؤمنًا، وكان نادمًا جدّاً على ما قام بتطويره من تلك العلوم التي استُغلّت في صناعة القنبلة الذريّة، وكان يُشير إلى هذا الموضوع باستمرار.
كان آينشتاين قد قال في أحد المجالس الذي كان قد عُقد من أجل تكريمه: كان أملي أن تستعمل اكتشافاتي لأجل الصلح والسلام، ولأجل الحفاظ على أرواح الناس، ولم أكن أعلم بأنَّها سوف تستخدم من أجل قتل وإفناء بني البشر، فعليَّ أن أُظهر أسفي هنا على ما وصلت إليه الأمور.
لا يجوز استعمال الأجهزة الحديثة في إفشاء الأسرار
أجل، كيف ينبغي أن يُستفاد من هذه الأجهزة التي صنعها الإنسان؟ فهل ينبغي أن تُستغلّ من أجل إفشاء أسرار الناس؟! كيف ينبغي أن تُستغلّ هذه التكنولوجيا التي سخّرها الله للإنسان؟ وفي أيّة جهة يجب أن يستفاد منها؟ إنَّ الوجدان والفطرة والأخلاق تلعب دورًا مهمًا في هذا المجال، فمن يمتلك الصفات الحسنة ومن يمتلك الأخلاق الحميدة فهو يقوم باستغلالها في كسب رضا الله. والعياذ بالله إن حصل العكس ووقعت تلك الوسائل بيد من يكون فاقدًا لتلك الصفات الحسنة والأخلاق الحميدة والقيم العالية؛ وذلك لأنَّه سيستغلّها في طريق إرضاء الشيطان وجلب سخط الله، وسيقوم بذلك مع أنه يدّعي أنه يقوم بذلك من أجل الله، وهو يبرّر عمله بأنَّ التكليف الشرعي المُلقى على عاتقه يوجب عليه ذلك، فما الذي سيحصل عندها؟!!
يقول الله هنا: لماذا تتجسّس لترى ما الذي قاله هذا العبد أو ذاك؟ فهل أخبرك هو بهذا الأمر؟ أم أنه قام به في العلن؟ ما هي علاقتك بذلك الموضوع؟ فهل طُلب منك ذلك؟ ما هي علاقتك بما يفعله الناس في الخفاء؟ فهل كان قد قام بذلك الفعل أمامك؟ أمّ أنَّه أتى به فيما بينه وبين ربّه؟! فلماذا يُفشى ذلك الأمر ويُنقل إلى الآخرين؟! ولماذا يُحفظ في ملفٍ لوقت الحاجة؛ بحيث يستخرج يومًا، لينظر ما فيه من أسرارٍ؟! وهذا مما يحصل بالفعل.
إنَّ جميع هذه الأمور هي على خلاف طريق الله، فما الذي سيفعله الله والحال هذه؟ إنَّه يقول: ما دمت تتعامل معي ومع عبادي بهذا الشكل، فأنا أعلم كيف سأشغلك؟ نعم سوف أشغلك وأشغلك؛ بحيث سترى بأن عملك لا ينجز من هذه الجهة وبهذه الطريقة فتذهب إلى طريق آخر فلا يتمّ أيضًا، وهكذا سأجعلك تدور حول نفسك دورانَ حمارِ الطاحونة، وسوف لن تجني من سعيك أيّ ثمرٍ؛ فلماذا تجري الأمور معك على هذا النحو؟ لأنَّك تسير على خلاف مسير الله وتعمل على خلاف ما يريد الله وخلافًا لمرضاته.
إنَّ الله ستّار العيوب، ولهذا السبب يُوصى من يكون قد اغتاب أحدًا بأن يسعى إلى ألّا يصل كلامه إلى مسامع ذلك الرجل، لا أن يذهب إليه بنفسه ويخبره باغتيابه له، ثمّ يطلب منه أن يسامحه، ما لم يكن الكلام قد بلغ مسامعه بالفعل، وذلك لأنّ نفس إخبار الرجل باغتيابه له سيعمل على إيجاد أمرٍ ما في نفسه، ذلك الأمر الذي سوف لن يزول من نفسه، فلماذا يقوم الإنسان بتكدير نفس المقابل؟! ولماذا يعمل على تلويثها؟! نعم، إن كان الأمر قد بلغ مسامع الرجل، فيجب عليه أن يذهب إليه ويعتذر منه؛ أمّا إن لم يكن قد بلغ مسامعه، فلا ينبغي له أن يتابع الموضوع، بل عليه أن يكتفي بالاستغفار، فيطلب من الله في الخفاء أن يغفر له، والله سيعينه حينئذٍ بتهيئة الوسائل التي تساعد على إخفاء ذلك الفعل.
هكذا هو مقام ستّارية الله، فالله يعمل على ستر العيوب، لا على إفشائها، كما يفعل البعض من ملاحقة الأشخاص لمعرفة ما هي العيوب التي يتّصفون بها؛ إنَّ هذا لمرضٌ لا بدَّ من البحث عن علاجٍ له، فما هو الدافع وراء ما يقوم به البعض؟
تتبّع زلاّت الصوفية خلاف الستارية
يُلاحظ كيف يقوم البعض بتتبّع زلّات الصوفيّة والدراويش الذين كانوا يعيشون في الأزمنة الماضية، فيقوم بالبحث في الكتب عسى أن يجد فيها كلامًا يتّخذ منه مستمسكًا للطعن فيهم، ولعلّ الكلام الذي يستغلّه كان كلامًا سليمًا، غير أنَّ الرجل يسعى إلى استخراج إشكالٍ من باطن ذلك الكلام، ليقول عن قائله كذا وكذا!
هل أنت بطّال يا عزيزي؟ فتراه ومع كلّ ما بين يديه من مواضيع، ومع كلّ ما لديه من مشاكل، تراه يبحث في أحوال أهل القرن السادس أو السابع الهجري عسى أن يجد له ثغرةً ينفذ من خلالها، كأن يتمسّك بكلام بايزيد البسطامي عندما قال: ليس في جبّتي إلّا الله، و يصوّره على أنّه قال: إنّ الله في جبتي!
أولاً إنَّ بايزيد لم يقل: إنّ الله في جبّتي، فلماذا تتّهم عبد الله بهذا؟ بل قال: الموجود في جبّتي ليس غير الله. فلو كان قد قال: الله في جبتي، أي إنَّ الله قد صغر إلى الدرجة التي جعلته يحلّ في جبتي [لكان لك الحقّ في الاعتراض عليه]، فمتى قال بايزيد مثل هذا الكلام؟! كلّا، لا يمكن له أن يقول كلامًا كهذا، وإنما قال: لا وجود لغير الله، وهو كلامٌ صحيح، وأنا أقول بنفس هذا الكلام؛ فجميع عالم الوجود ما هو إلّا ظهور لتلك الذات البسيطة وغير المتناهية، وهو ما يقول به الجميع، وهو ما أراده بايزيد، وهذا ما جاءت به الروايات والأدعية والآيات القرآنيّة۱. ولكنّك تراه [أي المعترض] يصرّ على أنَّه إنّما يقصد من قوله هذا المعنى [الباطل] بالذات.
أو أن يجد بأنَّ إبراهيم بن أدهم كان قد قال كذا، وتراه يُتلف وقته في البحث هنا وهناك وفي هذا الكتاب وذاك عسى أن يجد له شيئًا يتمسّك به.حسناً، لنفرض يا عزيزي بأنَّك قد عثرت على كلمةٍ في كتبهم، إلاّ أنّ لهم إلى جانبها الآلاف من الكلمات الصحيحة والجميلة والمفيدة في المجالات الاعتقاديّة والأخلاقيّة، فلماذا تترك جميع تلك الكلمات وتتمسّك بهذه الكلمة بالذات؟! إنَّ هذا الأمر يدلّ على وجود مرض لديهم.
إنَّ الإمام السجّاد عليه السلام يعلّمنا هنا ويقول لنا: إنَّك تسلك الطريق الخاطئ يا عزيزي، فإنّ طريق الله لا يتضمّن طيّ مسائلَ من قبيل البحث في الكتب من أجل العثور على خطأٍ فيها! فلو فرضنا وجود نقصٍ فيها، فمن منَّا المبرأ من العيب والنقص؟! فأنا وعندما أتكلّم لمدّة ساعة من الزمان، فمن الممكن أن أخطئ في عشرة مواطنٍ من كلامي، فقد يكون أحد الأخطاء عبارة عن زلّة لسان، وقد أتفوّه بكلمة خاطئةٍ أو ما شابه ذلك؛ فإن قال لي أحدهم: لقد أخطأت في هذا المورد أيّها السيِّد الطهراني، فسأقول له: نعم، لقد أخطأت، ثمّ سأقوم بتصحيح ذلك الخطأ في اليوم التالي. فما الإشكال الذي يترتّب على مثل هذا الأمر؟! فهل أنت بطّال لا شغل لك يا من تشهّر بما يقوله فلان من الناس وبما يفعله أتباعه؟! ألا يوجد لديك عمل غير هذا ينبغي عليك متابعته في حياتك اليوميّة؟!
الأخطاء والزلات التي صدرت من الفقهاء أكبر من الصوفية
هذا والحال أنّه لو أنّ نفس هذا الخطأ أو ما هو أكبر منه بمئة مرّة ظهر من طائفة الفقه والفقهاء فإنّه يقوم بتغطية ذلك بألف طبقة من البلاستيك و الحديد والخرسانة، ويوصدون عليه الأبواب بالشكل الذي لا يمكن أن يظهر إلى العلن وإن كان أكبر مائة مرّة ممّا يبرز من غيرهم.
ظهر علينا أحدهم وبعدما بلغ التسعين من عمره ليكذّب ما يُنقل عن كون عمَر قد قال: إنَّ الرجل ليهجر، فقال: لا يمكن أن يكون هذا الكلام صحيحًا؛ وذلك لأنَّ عمرَ رجلٌ مسلم، ولا يمكن أن يتكلّم بمثل هذا الكلام، فعليكم أن تختاروا بين أن تنكروا إسلام عمر وهذا شيءٌ غير صحيح، فلقد كان الرجل مسلمًا وكان يؤدِّي الصلاة ويصوم شهر رمضان ويُقيم صلاة الجماعة؛ أو أن تقولوا بإسلامه، فإن قلتم بإسلامه، فكيف للمسلم أن يتفوّه بمثل تلك الكلمات؟!
[أريد أن أسالك يا هذا فأقول:] ألم يكن الرجل الذي قطع رأس الإمام الحسين عليه السلام ممن يصلِّي الليل؟! ألم يكن عمر بن سعد يؤدِّي الصلاة؟! ألم يكن شمر كذلك؟! فما هذه الترّهات؟! غير أنَّه ولمّا كان الرجل الذي قال ذلك الكلام من تلك الطائفة، فنراهم يبرّرون له قوله ويقولون: لقد أخطأ في هذا المورد، وتاب وعدل عنه بعد أن نوقش فيه. وقد قرأت عدوله هذا في تلك الرسالة التي أعلن فيها عن ذلك، وقد جاء فيها: أنا أعدل عن رأيي من أجل ألّا يُستغلّ من قبل الأعداء... عمّاذا تتحدّث يا هذا؟! ما الذي سيستغلّه الأعداء يا هذا؟ لقد جئتَ بالأباطيل والأكاذيب، وألصقت بالتشيّع تهماً بكلامك هذا، وخرّبت جميع الأمور! يا هذا، إنّك إن سلبتَ هذه الأمور منّا، فما الذي سيبقى للتشيّع؟!
فمع إنكاره لمسألة بتلك الأهميّة يقومون بتبرير إنكاره هذا بقولهم: نعم لقد أخطأ في ذلك، وبعد أن ناقشناه في المسألة تراجع عنها وقال: لقد رأيت كيف يمكن للأعداء أن يستغلوا ذلك الكلام، لذا فأنا أتراجع عنه. على أنَّ الرجل لم يعترف بكونه قد أخطأ أبدًا، بل كان قد برّر رجوعه عن قوله خشية أن يُستغلّ ذلك القول من قبل الأعداء، وأنَّه لم يكن من المناسب أن يتمّ طرح مثل ذلك الموضوع.
لا قدّر الله أن يكون مولانا قد ذكر مثل هذا الشيء في كتابه المثنوي، فلو كان قد فعل ذلك، فصدّقوني بأنَّهم كانوا سيذيعون ذلك من أعلى شرفة ضرب الطبول الواقعة في حرم الإمام الرضا، نعم لو كان مولانا قد قاله، لكانوا سيعلنون ذلك في كلّ يومٍ يقومون فيه بضرب الطبول هناك ولقالوا: تجمّعوا يا أيّها الناس واستمعوا لما كان مولانا قد قاله، ولكنَّه ولمّا كان ذلك الكلام قد صدر عن فقيه وعالم تراهم يسكتون ويتغاضون عنه، ولا يسمحون بإفشائه والتكلّم بشأنه، و يغلقون الموضوع ويمنعون من متابعته! فلماذا لا يجوز التكلّم بشأنه ولماذا لا نلاحق الموضوع؟!
كما ويأتي آخرُ ليُنكر كون زيارة عاشوراء صادرة عن الإمام المعصوم! وقد توفي الرجل وانتقل إلى رحمة الله وسيجعلونه يرى هناك فيما إن كانت الزيارة صادرة عن المعصوم أم لا؟ ويُنكر ثالثٌ زيارة الناحية ويعدّها زيارةً واهية من دون أن يردَّ عليه أحد! ويأتي ذلك الفقيه رفيع المقام ليذكر في كتابه جواز أن يخطئ المعصوم، وفيماذا يخطئ؟ في مسألة من مسائل الأحكام الشرعية لا في مسألة أخرى.
مولانا جلال الدين الرومي يعترف بولاية أمير المؤمنين عليه السلام و يبين حقيقتها
نعم، تراهم يبرّرون لأولئك الناس أخطاءهم ويقولون: لا بأس في أن يخطئ الفقيه، فهو ليس [بمعصومٍ]. أمّا إن سمعوا من مولانا أنَّه يقول:
هر که را که منم مولا و دوست | *** | ابن عم من علي مولاي اوست |
(يقول: من كان يحبني ويعتبرني مولىً له، فابن عمّي علي هو مولاه)
فتراهم يقولون: بما أنَّه قد ذكر عنوان المحبّة في شعره، فهذا يعني بأنَّه سنيّ المذهب، وإلّا فما كان سيذكر لفظ المحبّة،۱ وهم لا ينظرون إلى ما فسّر به هذا الكلام في الأبيات التي بعده عندما قال:
کیست مولا؟ آنکه آزادت کند | *** | بند رقیت زپایت برکند |
(يقول: من هو المولى؟ إنَّه ذلك الذي يحرّرك، وينزع أغلال العبوديّة من قدميك)
وهو الكلام الذي یعجزون عن الإتيان بواحدٍ بالمائة من مثله، فنراكم تتمسّكون بذكره لكلمة المُحب، وتقولون: بما أنَّه ذكر هذه الكلمة، لذا فهو سنِّيٌّ بلا ريب. ما هو هذا؟ إنه مرض، وينبغي لنا أن نبحث عن علاج له. فأين يمكن العثور على علاجٍ له؟ إنَّ دعاء أبي حمزة الثمالي للإمام السجّاد عليه السلام هو علاجه. ولكن لا ينبغي قراءة الدعاء هذرًا لكي نقول بعدها: ها قد قرأنا الدعاء، كلّا يا عزيزي، بل عليك أن تتمعّن في كلّ فقرة من فقراته، فأنت متعلّم وأنت قادر على فهم معنى تلك العبارات.
يقول الإمام السجّاد عليه السلام: إنَّني وعندما أرتكب الذنب، فأنا إنَّما أرتكبه لعلمي بكونك خير الساترين، وإلّا فلو كنت أخشى تعجيل العقوبة، لما كنت سأرتكبه. إنَّني وعندما علمت بأنَّك خير الساترين، وعندما رأيت عظمتك ورحمتك ورأفتك وعطفك، فكلّ ذلك هو الذي أطلق لي العنان وجعلني أقصّر في مراعاة الدقّة في أمر المراقبة، الأمرُ الذي يجعل بعض الأخطاء تصدر منِّي أحيانًا. ومع كلّ هذا ترانا نتتبّع الكلمات التي صدرت عن مولانا ونحاول تفسيرها بهذا الشكل أو ذاك، فلو أنَّ عبد الله الذي توفي قبل سبعمائة سنة يتواجد بيننا الآن، لقال لنا: لماذا تشكلون عليّ بكل هذا، لقد كان قصدي من كلامي هو هذا، ولماذا لا تنظرون إلى كلامي الحسن والصحيح.
لقد قلت لكم سابقًا: لو جمعتم كافّة عبارات مولانا التي كان قد ذكر فيها عُمر وغيره ـ ولنفرض هنا بأنَّه لم يكن قد قال بحقّ أمير المؤمنين في ديوانه المثنوي أيّ شيءٍ ـ فهل سيشكّل كل ذلك أكثر من صفحة واحدة؟ فقوموا بخلع تلك الصفحة ووضعها جانبًا. فأيّ مرضٍ هذا الذي يجعلكم تتخلّون عن جميع هذا الكتاب ولا تنظرون فيه من الأساس؟! سمعت أحدهم يقول من على المنبر: يجب أن يُمسَك كتاب المثنوي بملقط [ولا يجوز مسكه باليد]. هل يجب أن يُمسك كتاب المثنوي بالملقط؟! هل تعتقدون بأنَّ هذا الزمان لا زال يتلاءم مع مثل هذه الكلمات؟ ألم تقرؤوا ما كان قد مدح به أمير المؤمنين في أماكن مختلفة من شعره ـ ولقد قرأ أحد الإخوة البعض من تلك الأشعار الليلة الماضية ـ هل تستطيعون أن تأتوا بعُشرٍ منها؟! إن كنتم تستطيعون ذلك، فتفضّلوا وقولوا، فمن منكم يستطيع أن يفتح لنا مثل تلك الآفاق التي فتحها عن أمير المؤمنين؟! لقد سمعنا من تلك الأشعار التي قلتموها بحقّ أمير المؤمنين، ونسأل الله أن يأجركم عليها، فلا يحرمنَّكم الأجر، ولكن عليكم أن تكونوا منصفين في تعاملكم، فلو كانت هنالك علاقة قربى تربطكم بمولانا، كأن يكون ابن خالتكم مثلًا، أو حتّى لو كان جاركم أو صديقكم، أكنتم ستنعتونه بمثل ما أنتم تنعتونه به الآن؟! أَ لأنَّه كان يعيش قبل سبعمائة سنة، فأنتم تتناسون كلّ شيء، وتلصقون به من التهم كلّ ما تريدون؟! نعم، لو أنَّ عبد الله هذا الذي قلتم عنه ما قلتم يعيش بيننا الآن في هذه الليلة والتي هي ليلة السبت الموافقة للثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك لعام ألفٍ وأربعمائةٍ وثمانيةٍ وثلاثين للهجرة، فكيف كنتم ستتعاملون معه؟ أكنتم ستبحثون في كتبه أيضًا، عسى أن تجدوا لكم ثغرة تستطيعون أن تستغلّوها؟!
مقتضى الستارية حمل الآخرين على محمل حسن حتّى المخالف
هذه هي الأمور التي ينبغي على كلّ واحد منَّا أن يتفكّر فيها، فهي الكفيلة بتصحيح فكر الإنسان ومسيره. نعم، إنَّ ما سمعتم عنه من مقام الوحدة والإطلاق، فهو ليس من قبيل الزخارف والأباطيل، بل هو أمر واقعي وهو يتمثّل في هذه الأشياء، فما يطرق مسامعنا عن مقام السعة والانبساط والوحدة والتوحيد، فهو مما يمكن التحقّق به عن طريق الالتزام بهذا النهج، فعلينا أن نجعل من هذه الأمور نصب أعيننا دائمًا، وسنعرف عندها كيف يجب علينا أن نتصرّف؟ وكيف سنتعامل مع الآخرين؟
عقد مجلس في منزل المرحوم العلاّمة في فترة ما بعد ارتحاله، وكان بمناسبة عيد الغدير، فجاءني أحدهم وقال: "رأيت فلانًا من الناس جالسًا هناك وهو يقوم بتوزيع النقود والحلوى بهذه المناسبة، فسألته: فأين السيِّد فلان؟ فقال لي: إنَّ أمير المؤمنين موجود في كلّ مكان، أو أنَّه كان قد قال: ليس هنالك من فرق بين حضور أمير المؤمنين أو عدم حضوره. فهذا الشخص بكلامه هذا قد ادّعى دعوى عظيمة!"
فقلت له: ليس هنالك من إشكال في كلامه ذاك، فلعلّه كان يقصد بأنَّ المجلس متعلّق بأمير المؤمنين، فبناءً على هذا، فلا فرق في أن يقوم ذلك السيِّد بتوزيع الحلوى أو أن أقوم أنا بتوزيعها، فأيدينا كلها واحدة، فلعلّ هذا هو ما كان يقصده من كلامه، فلم يقل عندها شيئًا. ثمّ ذهب بعد ذلك إلى رجل آخر وأخبره بما حصل. قال لي الرجل الذي نقل الكلام: إنَّ ذاك الرجل علّق عمّا كنتُ قد أجبته به بقوله: كان ذلك مجرّد تأويل لذلك الكلام، فيمكن أن يؤوّل الكلام بهذا الشكل أيضًا.
ما الذي يعنيه مثل هذا الكلام؟ إنَّه يعني عدم قبوله لكلامي ذاك، وأنَّه مصرّ على البقاء على رأيه وأفكاره. فهنا تكمن المسألة، فإن كنتُ قد قمت بتأويل كلام ذلك الرجل، فكان عليك أن تقبل ذلك التأويل، وأن لا ترى فيه أيّ إشكال؛ إذ هل ينبغي لنا ولكون ذلك الرجل يختلف معنا في بعض الأمور، أن نقوم بحمل كلّ كلامٍ يقوله على محمل الباطل؟ ولماذا لا نحمله على محملٍ حسنٍ؟! فإن كان الرجل يختلف معنا، فليكن ذلك، ولكن بما أن كلامه يمكن أن يؤوّل بتأويل حسن، فعلينا أن نأوّله، فهل يجب علينا أن نقوم بحمله على الوجه غير الصحيح؟!
إنَّ هذا هو واحد من الأمور التي يجب علينا أن نفكّر بشأنها بجدٍّ، فهو أمر أساسي حقًّا؛ أي أنه أمر أساسيّ جدًا في سير الإنسان وسلوكه، فلا يمكن للسالك أن يخطو خطوةً واحدةً في هذا الطريق من غير مراعاته، بل سيستمرّ في الدوران حول نفسه مثل حمار الطاحونة كما قلت لكم آنفًا.
أمّا إن حاول الإنسان إصلاح هذا الجانب في نفسه، فسيكون سيره وحركته سريعة؟ لماذا؟ لأنَّه يكون بذلك قد اقترب من الحقّ كثيرًا، ويكون قد عبر وتخطّى الكثير من العقبات والمهالك، ويكون قد وضع نفسه بحيث تكون هذه النفس مجرىٌ لظهور أسماء الله الحسنى، بدلًا من أن يكون قد جعلها مجرىٌ لظهور الصفات الشيطانيّة، فمع الصفات الشيطانيّة لا يمكنك أن تخطو في هذا المسير قُدُمًا؛ إذ لا يمكنك أن تطوي طريق الله ما دمت مظهرًا للصفات الشيطانيّة؛ لأن ذلك الطريق يقع في الجهة المقابلة من هذا، ولهذا نرى كيف يبقى مثل هؤلاء الناس يراوحون في مكانهم، نعم، هكذا سيبقون، ولقد بقوا بالفعل.
إنَّ الإمام يجعل لنا هنا في موضوع خير الساترين المفتاح لحلّ المشاكل، ويعطينا طريقة الحل التي بواسطتها يمكننا أن نطوي هذا الطريق؛ وذلك بأن تكون عند الشخص هذه الحالة في نفسه وهي أنّه إن رأى من شخص عملًا يحتمل فيه الباطل ـ علمًا بأنه يستطيع أن يفهم الأمور جيّدا، ويستطيع أن يشخّص بشكل واضح لا أننا لا نفهم ـ يحمله على الجانب الحسن، سواء رأى منه عملًا أو أي شيء.
يقول الإمام هنا: إلهي إنَّك خير الساترين، ولمّا كنت كذلك ـ فعلى الرغم من لزوم مراعاتي لأمر المراقبة والحذر، وعلى الرغم من اتّصافي بهذه المسائل ـ إلا أنّه إن صدر خطأ منِّي، فلا يعني ذلك انتهاء الدنيا، بل عليّ أن أتوجه إليك وأطلب العفو منك وأقول لك: اعذرني يا إلهي فأنت الرّبُّ ولا بدَّ من أن يكون هنالك فرق بينك وبيننا، فأنت تُظهر إلهيّتك، ونحن نُظهر من جانبنا عبوديتنا وأخطاءنا وزلّاتنا وتمرّدنا وعصياننا.
الفقر المحض في الأبيات التي كتبها أمير المؤمنين عليه السلام على قبر سلمان
لقد أعطى أمير المؤمنين الموضوع حقّه بأحسن ما يمكن عندما كتب ذلك الشعر على قبر سلمان، وذلك عندما جاء إلى المدائن في وقت ارتحال سلمان عن الدنيا، فقد كان أمير المؤمنين قد وصل المدائن من المدينة في طرفة عينٍ، فدفن سلمان وكتب على قبره بإصبعه هذين البيتين من الشعر كما ذُكر في التواريخ:
وفدّت على الكريم بغير زادٍ | *** | من الحسناتِ والقلبِ السليمِ |
أي: إنَّني قد وفدت على كريمٍ وعظيمٍ من دون أن أحمل معي أيّ شيءٍ، أي جئته وأنا خالي اليدين... كنت أغوص في التفكير في هذه العبارة يومًا، ومهما حاولت لأرى إن كان هناك عبارة أخرى تناسب أن يوصف بها سلمان غير هذه العبارة، فلم أجد؛ فأيّة عبارة يستطيع أمير المؤمنين أن يصف بها سلمان مما هي أفضل من هذه العبارة؟! فإن قال عن سلمان بأنَّه حاز مقام الفناء في الله، أو أنَّه تخطّى نفس، أو أنَّه كان يقوم بجميع ما كان يقوم به من أعماله عن إخلاص، أو أنَّه اندكّ في ذات الله وفي الولاية، أو أنَّه هيمن على ملكوت السموات والأرض، فجميع تلك العبارات لا تصل في دلالتها إلى دلالة تلك العبارة، إنَّ أمير المؤمنين يقول عن سلمان هنا بأنَّه عبد، فما معنى أن يتخطى أو يحوز أو يقدر؟! فالقدرة من الله تعالى والولاية منه والحركة منه؛ بل كل ما عنده منه، فماذا يكون هو[أي سلمان] حينئذٍ؟ لا شيء. ومعنى كونه لا شيء يعني بيت الشعر هذا:
وفدّت على الكريم بغير زادٍ | *** | ... |
أي: أنّني قدمت وعيني على الكريم، وليس معي أيّ شيء؛ فلا يمكنني أن أحسب لصلاتي أو صيامي أو صلاتي بالليل أو الذكر الذي كنت آتي به أو إحساني إلى الغير أو إنفاقي أو مساعدتي للآخرين أو رعايتي للأيتام وما شابه ذلك، نعم، لا يمكنني أن أحسب لكلّ ذلك أيّ حسابٍ، فكلّه كان منك؛ فلولا أنَّك أنت الذي ترسل لي الأموال، لما استطعت أن أجني منها مقدار القشّة، فهل كنت أنا من حصل على كلّ هذا المال الذي جئت أنفق منه الآن؟ فمن هو الذي يسوق أحدهم ليأتي ويشتري منِّي بضاعة ما؟ ولماذا لم يذهب لشرائها من مكانٍ آخر؟ ومن هو الذي أرسل صاحب أحد المشاريع إلى ذلك المهندس ليكلّفه بإنجاز المشروع الذي يريد إنشاءه؟ فقد كان بإمكانه أن يُراجع أحد المكاتب الخاصّة بالهندسة المعماريّة ويوكّل تنفيذ المشروع إليهم، ومن الذي جعل أحد المرضى يراجع فلانًا من الأطباء بالذات؟! كان بإمكانه أن يقوم بمراجعة غيره من الأطبّاء من أجل أن يُجري له العمليّة الجراحيّة؛ نعم، من هو الذي قام بكلّ ذاك؟!
غير أنَّنا ومع كلّ هذا نقوم بنسبة تلك الأعمال إلى أنفسنا وها نحن نخاطب الله قائلين: إلهي لقد أنفقنا ما أنفقنا خلال هذه المدّة! [حينئذٍ سوف يجيبنا الله بالقول:] ومن أجبرك على ذلك؟ فلا تنفق إذًا، فكيف تتباهى عليّ بذلك الإنفاق الذي كنت أنا مصدره؟! إنَّ مثل من يقول هذا الكلام، مثل من يقوم بنصب صنبورٍ للماء، ثم يقوم بالتباهي أمام الآخرين ويقول: أنا الذي قمت بمدّ أنبوب الماء ونصب الصنبور، ما الذي تتباهى بشأنه يا هذا؟ فكلّ ما قمت به هو إنَّك وصلت الأنبوب بأحد الأنابيب الذي هو متصلّ بآخرٍ بدوره وهذا متّصل بغيره ويستمرّ الأمر هكذا حتّى يصل إلى السدّ الذي يُغذي الجميع بالماء، فإن كان هنالك من مجالٍ للتفاخر، فهو إنَّما يتعلّق ببنَاء ذلك السّد، لا بما قمت به أنت من مدّ أنبوبٍ ونصب صنبورٍ للماء، لتأتي بعدها وتتفاخر على غيرك وتقول له: لولا العمل الذي قمت به لكانت حديقتك قد يبست الآن؟ ولولاي لما حصل كذا وكذا!
"من الحسنات والقلب السليم" فلا وجود لا للحسنات ولا للقلب السليم في صحيفة أعمالي. فالقلب السليم هو ذلك القلب السالم والمُسلّم أمره لله، والذي ليس له أيّ إرادة خاصّة به.
وحمل الزاد أقبح كلّ شيءٍ | *** | إذا كان الوفود على الكريم |
كم تبلغ درجة عدم الاحترام وهتك الحرمة والإهانة، عندما يذهب أحدهم إلى بيت صديقه أو بيت أحد العظماء الذي كان قد دعاه، ثمّ يقوم بأخذ طعامه معه؟! ألن يقول له المقابل عندها: لقد دعوتك لتناول طعام الغداء عندي، ثمّ تقوم بجلب طعامك معك؟! ألا تستحي من تصرّفك هذا؟! فاذهب وتناوله في بيتك بدلًا من قدومك إلى هنا. وها نحن وعندما نرد على الله ويسألنا عمّا جلبنا معنا، ترانا نقول له: تعال يا ربِّ وانظر إلى ما جلبته معي، فأنت لستَ بأخفّ المطّلعين ولا بأهون الناظرين، فانظر كيف صرفت كذا مدّة من عمري وأنا أصلِّي، فقد كنت أصلِّي صلاة الظهر والمغرب وكنت أصلّي الصبح في وقتها، بدلًا عن أن أنام في ذلك الوقت، كما وكنت أصوم وأتحمّل العطش نتيجة لذلك، وكنت أحجّ وأعطي الزكاة، نعم، لقد كنت أقوم بجميع تلك الأعمال، فسيقول الله عندها: هل ما كنت تقوم به كان من عندك أم من عندي؟ فمن أين أتيت أنت به؟! فأنت عندما خرجت من بطن أمّك، لم تكن تستطيع أن تقوم بتحريك حتّى يدك، فهل من الصحيح أن تعرض عليّ ما قد منحتك أنا إيّاه؟! أتأخذ شيئاً من خزائني ثم تريني إياه؟!
فبناءً على هذا، فإن سألَنا الله عمّا جلبناه معنا، فعلينا أن نقول: إلهي أنا لم أجلب معي أيّ شيءٍ! نعم، علينا أن نتعلّم ذلك، فها هو أمير المؤمنين يعلّمنا إيّاه، وعلينا أن نتذكّر ذلك بمشيئة الله، فإن غادرنا الدنيا وسألنا الله، سنقول له على الفور: إلهي لقد علّمنا أمير المؤمنين أن نقول بأنَّنا لم نجلب أيّ شيءٍ معنا، فسيقول لنا الله: إن كنتم قد تعلّمتم ذلك منه، فأنا أقبله منكم. ولكن علينا أن نكون صادقين في ذلك.
كان أحد أساتذتي ـ رحمه الله ـ رجلًا قديرًا، وكان مهذّبًا ومتهجّدًا وورعًا، ولم يكن رحمه الله من أهل الدنيا. قال لي في إحدى الليالي: اعلم يا فلان بأنَّني إن ارتحلت عن هذه الدنيا وسألني الله عمّا جلبته معي ـ يبدو أنَّني كنت قد نقلت لكم هذه الحكاية سابقًا ـ فسأقول له: لقد جلبت معي شيئًا واحدًا فقط، فأنا لا أحسب لما كنت أقوم به من بحوثٍ وتدريسٍ أيّ حساب ـ ولقد كان الرجل مدرّسًا ـ وذلك الشيء هو: إنَّني قد أمضيت ستّة أشهر كاملة، ساهرًا فيها ليلي إلى الصباح، وصائمًا نهاري إلى المساء ـ ولقد كان صادقًا في قوله ـ فهذا هو الشيء الوحيد الذي جلبته معي. فقلت في قلبي في تلك اللحظة: أمّا أنا، فحتّى هذا الشيء الوحيد لم أجلبه معي.
وها قد حُرمت توفيق صيام شهر رمضان أيضًا، وكنت قد استأذنت رفيقي الطبيب قبل عدّة ليالٍ للسماح لي بصيام هذا الشهر، فرفض طلبي، وقال: لا أستطيع أن أسمح لك بصيامه، فها قد ارتحت من هذه الناحية أيضًا، فقد سلبت توفيق الصيام ولله الحمد. هذا بالنسبة إلى الصيام، وأمّا فيما يتعلّق بالصلاة، فحال صلاتي معلوم، فبأيّ شيء ستفيدني صلاتي هذه التي أؤدِّيها، فلم يبقَ لديّ أيّ شيءٍ والحال هذه، فأنا لا أستطيع الصيام من جانب ومن الجانب الآخر، فصلاتي قصر ومعطوبة وغير معلومٍ مصيرها.
أنا أوجّه كلامي هذا لمن يمتلك شيئًا، أمّا بالنسبة لي، فأنا لست محتاجًا ـ ومن أول الأمر ـ إلى العمل بوصيّة أمير المؤمنين تلك، فأنا لا أمتلك أيّ شيءٍ من الأساس لكي آخذه بنظر الاعتبار، ولكنّي سعيد بما علّمه إيّانا أمير المؤمنين، نعم، نحن سعداء بوجود إمامٍ لنا مثل أمير المؤمنين الذي يعلّمنا هذه الأمور وهو يُبيّن لنا طريقنا الذي علينا أن نسلكه، ففي بعض الأماكن الأخرى نراهم يعلّمون الناس أشياءً مختلفة؛ فلقد رأيت بنفسي كيف يقول أحدهم: عليكم بكتابة عدد المرّات التي ذهبتم فيها إلى الحجّ وعليكم أن تتذكّروها، وكان أحدهم يقول: عليكم بكتابة هذه الأمور على ورقة ووضعها في أكفانكم. أنا لا أمزح بكلامي هذا، فلقد كان أحد كبار أهل الظاهر يوصي الآخرين ويقول لهم: عليكم أن تدوّنوا الصلاة التي أديتموها وعدد مجالس العزاء التي أقمتموها ومقدار الأموال التي أنفقتموها، فتكتبوها في ورقةٍ وتضعونها معكم في أكفانكم، لكي تخبروا بها منكرًا ونكيرًا عندما يأتون ليسألوكم عنها.
أمّا بالنسبة إلى أمير المؤمنين، فهو يقول: أيّ كلامٍ هذا؟! فمن تكون أنت؟ وما هو إنفاقك وما هي عبادتك وتهجّدك؟ فدع عنك كلّ ذلك، واذهب هناك بمفردك. لماذا؟ لأنَّك ترِد الآن على كريمٍ، فكن مرتاح البال، لأنّ مَنْ تقابله لا يفوقه أحدٌ في الكرم والعظمة والشهامة؛ فما دام الأمر كذلك، فعليك ألّا تستعرض ما لديك أمامه، وألاّ تقول مِثل ذلك الكلام، بل عليك أن تستصغر نفسك، فإن كنت ترى بأنَّك حائز على درجة المائة، فاعمل على تقليلها إلى التسعين، وإن كنت على التسعين، فاجعل منها ثمانينًا أو سبعينًا، وعليك ألّا تأسف على ذلك، لأنَّك سوف لن تخسر شيئًا، بل واجعل منها ستّينًا وخمسينًا وأربعينًا وعشرينًا وعشرة وسبعة وستّة حتّى تصل بها إلى الصفر، فإن بلغت نفسك درجة الصفر، فسيحصل لك عندها شيءٌ، وستظهر لك عندها أمور.
كلّما حاول الإنسان أن يحتفظ لنفسه بشيء، فسيكون قد خسر، فحتّى لو أنَّه قد أبقى لنفسه درجتين، فسيكون قد خسر بمقدار هاتين الدرجتين، بل وحتّى إن أبقى لنفسه مقدار الدرجة الواحدة أو نصف الدرجة. فإن كان العبد لا يريد أن يخسر شيئًا، فعليه أن يجعل من درجته صفرًا. نعم، علينا أن نضع في شهادتنا صفرًا كبيرًا بدلًا عن تلك المائة وتلك الإشارات التي كنَّا نفرح بوجودها في شهاداتنا المدرسيّة. أمّا الآن، فعلينا أن نفرح بالصفر بدلا من المائة. نعم، علينا أن نضع أسفل شهادتنا صفرًا، ثمّ نعرضها على الله ونقول له: هذه هي صحيفة أعمالنا، فليس فيها أيّ شيءٍ، وها نحن نوكل أمرنا إليك.
وحمل الزاد أقبح كلّ شيءٍ | *** | إذا كان الوفودُ على الكريمِ |
فأقبح ما يمكن أن يفعله أحدهم هو أن يجلب معه متاعًا عندما يرد على كريمٍ، ثمّ يقوم باستعراضه أمامه، نعم، من القبيح أن يأخذ طعامًا ومتاعًا معه.
نسأل الله تعالى ألّا يحرمنا في هذا الشهر المبارك من الاستفاضة من حقائق الوحي هذه، وأن يجعل مسيرنا نفس مسير أهل البيت وأوليائه الذين هم وجدوا الطريق، وهم لا غيرهم من يستطيع أن يهدينا للسير في هذا الطريق، فما من رجلٍ أو نموذجٍ أو أسوة أخرى يكون قادرًا على الهداية إلى هذا الطريق، نعم، ما من أحد غير الأئمة عليهم السلام وأولئك الأولياء والعظماء يستطيع ذلك، فثبّت يا ربِّ أقدامنا على طريقهم، واجعلنا نستقيم على هذا الطريق.
الّلهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد