المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1436
التوضيح
ما هي مكانة الله تعالى في عالم الوجود؟ وما هو موقع الإنسان أمامه؟ وكيف ينبغي أن يتعامل معه؟ وما هي الطرق الدقيقة التي بيّنها الأئمّة عليهم السلام في أدعيتهم والأولياء في كلماتهم حول هذا الموضوع؟. هذا ماا تناوله سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الطهراني في هذه المحاضرة من محاضرات شرح دعاء أبي حمزة الثمالي، مستفيدًا من الحديث الشريف اعبد الله كأنك تراه، مبيّنًا مستويين من الشعور بحضور الله، ومستفيدًا من قصّة سؤال السيّد هاشم الحدّاد للمرحوم العلامة الطهراني عن أحد تلامذته ومدى بلوغه إلى رؤية المعطي والآخذ واحدًا في عملية البيع. وأكّد في الختام على ضرورة التعلّق بجانب الرحمة الإلهيّة الواسعة والتوسّل بها كما علمنا الإمام السجّاد عليه السلام.
هو العليم
مكانة الله في عالم الوجود وموقع الإنسان أمامه
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٦ هـ ق - المحاضرة الخامسة عشرة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم
بسمِ الله الرحمنِ الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين
وصلّى الله على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّدٍ
وعلى أهل بيته الطاهرين واللعنة على أعدائِهم أجمعينَ
«هَبْنِي بَفَضْلِكَ وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ؛ أَيْ رَبِّ، جَلِّلْنِي بِسِتْرِكَ وَاعْفُ عَنْ تَوْبِيخِي بِكَرَمِ وَجْهِكَ».
مكانة اللـه في عالم الوجود
تقدَّم الحديث مرارًا حول هذا الموضوع في المجالس السابقة، وقلنا إنَّ الإمام السجّاد عليه السلام يريد أن يشير في هذه الفقرات من الدعاء إلى ثلاثة مواضيع، وأنّ الموضوع الأوّل يتكلّم عن ذات الله تعالى، ومعرفته، وما هي مكانته أو ما هو دوره في عالم الوجود؟
عبارات الإمام السجّاد عليه السلام في دعائه أخلاقيّة مستندة إلى المباني الحكميّة
من الواضح أنَّ هذه العبارات التي يستخدمها الإمام هنا، لا تشبه تلك العبارات الفلسفيّة والحكميّة والمنطقيّة المتداولة على ألسنة الأئمة، فهي ليست من قبيل العبارات المذكورة في نهج البلاغة والتي يصف فيها أمير المؤمنين الله تعالى، أو العبارات التي يستخدمها الإمام موسى بن جعفر أو الإمام الرضا، والتي هي عبارات غاية في العمق؛ حيث إنها تبيّن حقيقة أنّ الله لم يتغيّر فيه شيء إثرَ إيجاده للخلائق؛ وهذه الحقيقة مخالفة لما هو متداول على ألسنة العوامّ من الناس، من أولئك الذين ليس لهم أدنى حظٍّ من المعرفة، فهم يعتقدون بأنَّ الله خلق الخلق واعتزلهم؛ وهو أمر لا يخفى عليكم خطؤه، فلم يرد مثله في أيّ أثرٍ من الآثار المنقولة عن الأئمة المعصومين والأولياء الإلهيّين.
إنَّ العبارات التي يستخدمها الإمام عليه السلام هنا ليست من نوع العبارات الفلسفيّة، بل هي عبارات أخلاقيّة مستندة إلى المبادئ الحِكَميّة والفلسفيّة، حيث تتبلور على هيئة دعاء يتوجّه فيه العبد إلى ربِّه قائلًا: إلهي أنا الفقير الذي لا يتأتّى منه أيّ شيء، ولا يمتلك إرادة مستقلّة؛ فأنت كلّ ما في الوجود يا ربِّ. فهذا هو الموضوع الأول الذي يُبيّن مكانة الله، وكيف يجب على العبد أن يجعل من هذه الحقيقة نصب عينيه في جميع تصرّفاته وعلاقاته.
لقاء المرحوم العلامة بوفد من النساء وقراءته حديث اعبد اللـه كأنك تراه
حضر عدد من النسوة اللواتي ينتمين إلى إحدى الجمعيّات في طهران إلى منزل المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه في مدينة مشهد، فأمر بأن يجلسنَ في الحسينيّة في الطابق الأعلى إلى حين حضوره؛ فجلسنَ هناك، وقمنا بتقديم الشاي لهنَّ، وكان عددهنَّ يقارب الثلاثين أو الأربعين امرأة؛ ثمّ حضر المرحوم العلاّمة بعد ذلك وجلس معهنَّ ما يقارب نصف ساعة، فطلبنَ منه تقديم نصيحة لهنَّ.
كان العديد من الناس من كلا الجنسين يحضرون إلى بيت المرحوم العلاّمة في مدينة مشهد، وكان المرحوم العلاّمة غالبًا ما يكون مشغولًا، فلم يكن يتمكّن من مقابلتهم في كثير من الأحيان؛ غير أنَّه كان يجد لديه بعض الوقت في أحيانٍ أخرى، فكان يسمح لهم بالدخول إلى البيت.
أتذكّر أنَّ اجتماع المرحوم العلاّمة بأولئك النسوة كان بعد الظهر، فقرأ عليهنَّ حديث رسول الله لأبي ذرٍّ استجابة لطلبهنَّ في تقديم النصيحة التي طلبنها، فقال: قال رسول الله: «يَا أَبَا ذَرٍّ، اعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَم تَكُنْ تَرَاه فَإِنَّهُ يَرَاكَ»۱، وجاء في بعض النسخ يا جندب؛ [فمعنى الحديث هو]: اعبُد الله بالنحو الذي تتصوّر فيه أنك تراه، يعني ليكن في ذهنك وفي شهودك وفي اعتقادك أنك تراه؛ فهناك فرق كبير بين أن ترى الله، وبين أن تعلم بوجوده؛ وذلك من حيث عمق تأثير رؤيتك له على النفس، ومن حيث توجّه النفس نحوه، ومن حيث المكانة التي تراها النفس لنفسها جرّاء هذا الارتباط، فإنّ لشعور الإنسان بأنه يرى الله تأثير عميق على نفسه. فعلى الإنسان أن يشعر ويلمس بنفسه بأنَّ الله يراه، كما أراكم الآن وترونني، أي على الإنسان أن يرى الله إلى جنبه دائمًا.
عدم إدراكنا لإحاطة اللـه بنا يشبه عدم إدركنا لإحاطة مقام الولاية بنا
فمثلًا ما هو رأينا في مسألة إشراف صاحب الولاية علينا؟ فكلّنا يعلم بأنَّ للإمام عليه السلام إشرافًا علينا، وهذا مما لا يمكننا إنكاره؛ فعلى أدنى التقديرات نحن نؤمن بأنَّ الإمام يرى ما نقوم به من أعمال ويشعر بها، فلا يمكن القبول باعتقادٍ أدنى من هذا المستوى؛ وذلك مع غضّ النظر عن المراتب الأخرى.. فنحن ولما كنَّا نعتقد بأنَّ الإمام يرانا، فهل نحن نشعر حقًّا بأنَّنا في محضر الإمام على الدوام، وأنّه ملتفت إلينا؟ كلاّ، نحن لا نشعر ولا نلمس هذا الأمر؛ نعم، نحن نعلم بهذا الأمر، ولكنَّنا لا نلمسه لمسًا؛ فالعلم بالشيء أمرٌ، ولمسه والإحساس به أمرٌ آخر؛ فلو كنَّا نلمس بأنفسنا كوننا في محضر الإمام، لما كنَّا نقوم بالأعمال التي لا يرتضيها؛ فقيامنا بمثل تلك الأعمال يدلّ على عدم لمسنا لهذا الأمر وعدم الاعتقاد به اعتقادًا يقينيًّا؛ ولكن عندما نُسأل عن هذا الأمر، ترانا نقول: وهل يمكن أن يعتقد أحدٌ بأنَّ الإمام لا يعلم بما نقوم به من أعمال؟ فلو لم يكن يعلم، لما كان إمامًا والحال هذه؛ فالإمام هو مَنْ يعلم كلّ شيء وله إشراف على كلّ شيء؛ فلا بدّ وأن يكون هناك تفاوت بيننا وبين الإمام، ولو كان ذلك التفاوت طفيفًا!! [على سبيل المزاح من قبل سماحة السيِّد]، فلو لم يكن يعلم، لأصبح مثل أيّ واحد منَّا والحال هذه؛ فها أنا لا أعلم ما الذي يجري في تلك الغرفة، فلماذا لا تراني أعلم ذلك؟ إنَّني لا أعلمه بسبب حجب الجدار لما خلفه عنِّي؛ فلو كان الإمام مثلي، فما هو الفرق بيني وبينه إذًا؟ فسأقوم وبناءً على هذا بإطلاق تسمية الإمام على نفسي، فأقول هنا: على الجميع وابتداءً من هذه اللحظة إطلاق اسم الإمام عليَّ، فما الذي ينقصني لكي لا أفعل ذلك؟ فلو لم يسمّني أحد بالإمام وحتّى رحيلي عن هذه الدنيا، فسيبقى هذا الأمر غصّة في نفسي! ثمّ إنَّه ما الذي سأُجيب به منكرًا ونكيرًا عندما يسألاني عن عدم تسميتي بإمام؟! لا شكّ وأنَّهم إن سألاني عن ذلك فإنَّني سأقول لهم: إنَّه حصل نتيجةً لتقصير الآخرين في هذا الأمر، فكان عليهم أن يعرفوا تكليفهم المترتّب عليهم ويقوموا بواجبهم!! فلا بدّ والحال هذه من أن يكون هناك تفاوت بيننا وبين الإمام [مزاح من سماحة السيٍّد]
عدم لمسنا لإحاطة مقام الولاية بنا يسبّب ارتكابنا للمعاصي
فإن سُئلنا عن هذا الأمر، ترانا نقول: نعم، نحن نعلم ذلك [بأنّ الإمام مطّلع على أعمالنا]؛ فما دمت تعلم ذلك، فلماذا تغتاب الآخرين إذًا؟! ولماذا تتّهمهم بالتهم الباطلة؟! ولماذا ترتكب الذنوب؟! ولماذا تقوم بإيجاد الفتنة والتفرقة بين الآخرين؟! ولماذا تقوم بما لا يجب أن تقوم به؟! فإنَّك تفعل ذلك، لأنَّك لا تلمس رؤية الإمام لك بنفسك ولا تشعر بها؛ وهذا اللمس والحسّ يعني الإيمان [والاعتقاد]، والإيمان بالشيء [والاعتقاد به] غير العلم به. فالتفاوت كبير بين أن يثبت لدى أحدنا بالأدلّة الفلسفيّة والعقليّة أمرٌ ما ـ حيث لا يجد له مفرًّا من الإذعان بصحة ذلك الأمر ـ وبين لمس هذا الأمر والاعتقاد به [والإيمان به].
ضرورة الإنصاف والتفكّر والابتعاد عن المشوّشات في السلوك إلى اللـه
لقد حصل لنا كثيرًا، وهو ممّا يحصل لكلّ واحد منَّا، أن نجد أنّه لا سبيل إلى إنكار أمر ما، إلا أنّنا لا نذعن ولا نسلّم لتلك المسألة، فنقوم بالسعي للفرار من الالتزام بها بأيّ وسيلة كانت؛ فلماذا يحصل مثل هذا، وهو أن يحاول الإنسان عدم القبول بأمرٍ وعدم التسليم به بأيّة وسيلة كانت؟ والحال أنّك تعلم في قرارة نفسك بصحّة هذا الأمر، فتأخذ بالبحث في الكتب التاريخيّة والمصادر الروائيّة وفي الحكايات المنقولة، لعلّك تجد ثغرة تحاول أن تستغلّها لدعم ما تذهب إليه؟ فإن عثرت على ما تبحث عنه، فستقول عندها: أرأيتم كيف أنَّني كنت مُصيبًا في رأيِي؟ فها أنت تطرح ألف كتابٍ قيّمٍ جانبًا، لتتمسّك برواية واحدة لا سند لها، كنت قد عثرت عليها في أحد الكتب؛ فتأتي لتنادي: أيّها الناس، تعالوا وانظروا كيف تدعم هذه الرواية ما ذهبت إليه!!
فماذا عن الألف رواية الأخرى؟!! فها أنت تترك ألف كلام صحيح صادر عن الإمام المعصوم مع كونه صحيح السند وموثّقًا، وتتمسّك بمورد واحد منقول عن أهل السنّة في أحد كتبهم التي لا يقيمون هم أنفسهم لها وزنًا، فتستخرج هكذا رواية منه لتقول لنا: تعالوا وشاهدوا ماذا وجدت في أحد الكتب. من المعلوم بأنَّه لا يفعل ذلك إلاّ من كان في قلبه مرض، فهو لا يريد الانصياع إلى الحقّ؛ مع أنَّه يعتقد في الوقت نفسه وفي قرارة نفسه بصحّة ما يقوله الطرف المقابل؛ إذ إنّه لو اختلى بنفسه وقام بإطفاء النور، وأخذ بالتفكير فيما بينه وبين نفسه، لوجد بأنَّ ما يقوله الطرف المقابل هو الصحيح، فهذا هو مفاد الحديث القائل «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةٍ»۱ فعلى المرء أن يجلس وحده، ويقوم بإطفاء المصباح، ويطلب من الآخرين ألاّ يدخلوا عليه الغرفة لأجل إخباره بما يجري هنا وهناك؛ من حصول زلزال أو نزول صاعقة أو التوصّل إلى حلّ نزاعٍ ما أو عدم التوصّل إليه وما شابه ذلك من قضايا نُلهي بها أنفسنا طيلة مدّة حياتنا.
إنَّ الشيطان خبير بالطرق التي يَرِد منها إلى الإنسان ليمنعه عن سلوك طريق الله، فهو خبير لدرجة أنه يسقط الإنسان في حبائله من حيث لا يعلم، فتراه يمرُّ عليه شهر رمضان بأكمله فيلتفت فجأة إلى أنه قد قضاه في هذه الأخبار...
شهر رمضان شهر الخلوة مع اللـه
نعم، شهر رمضان الذي كان يجب أن يمرّ على الإنسان وهو قد فرّغ قلبه وذهنه وسرّه من كلّ ما سوى الله، وهو الشهر الذي كان يجب أن يختلي فيه المحبّ مع حبيبه؛ شهر رمضان الذي أعطى الله الإنسان فيه الفرصة لكي يتناول من تلك المائدة التي أعدّها له؛ فلا يستطيع الإنسان من أن يدّعي عدم منحه مثل تلك الفرصة؛ فها هو الله يخاطب عبده قائلًا: لقد منحتك الفرصة فها أنا قد جعلت لك بين الاثني عشر شهرًا، شهرًا واحدًا فقط، فأين أنت منه؟ وبماذا تكاملت فيه؟ أمضيته في قراءة الصحف والكتب المختلفة عن الأخبار؟! أهكذا كان يجب عليك أن تلبّي دعوتي التي وجّهتها إليك لكي تحلَّ ضيفًا عليَّ في هذا الشهر؟!
فها أنا وعندما أفكّر في أحوالي وكيفيّة إمضاء أيّامي، أتذكّر تلك الأيام التي مرّت علينا في ذلك الماضي البعيد، نعم، تلك الأيام التي أمضيناها مع المرحوم العلاّمة في مجالس ليالي الثلاثاء، وبأيّة طريقة كان يريد أن يقول لنا: اجلس مكانك. لقد كان يقول على نحو الإشارة والكناية والتلويح أحيانًا، كما وأنَّه كان يصرّح بذلك في أحيانٍ أخرى؛ فكان يقول: فكّر بحالك ونفسك، واهتم بحقيقتك الربطيّة؛ فلا تتوجّه بقلبك إلى هنا وهناك!! ولقد كنَّا نقول: ماذا يريد أن يقول السيِّد العلاّمة من كلامه هذا؟ ولماذا يقول هذا الكلام؟ فها نحن نعيش حياتنا العاديّة ونقوم بواجباتنا الاجتماعيّة، فما الذي يريده من كلامه هذا؟
عمق نظرات أولياء اللـه واستناد نصائحهم إليها
رحمه الله، ونوّر الله مرقده، فها أنا وبعد مضيّ ثلاثين أو خمسة وثلاثين أو أربعين عامًا، ها أنا أتفطّن الآن لما كان يعنيه بقوله ذاك؛ فها هي ستون سنة تمضي من عمري، وها أنا للتوّ أعرف ما الذي كان يعنيه بكلامه ذاك؛ فأين كنَّا نحن الغافلين عمّا كان يقول؟ نعم، لقد كنَّا غافلين عن تلك الأمور، وكنَّا مشغولين بما يجري من التغييرات والتقلبات والحروب وما شابه ذلك، في الوقت الذي كان يرى فيه ما وراء تلك الأحداث بخمسين عمق، وينقل إلينا ما يراه، أمّا ما نراه نحن فلا يتجاوز المتر الواحد أو المترين ممّا هو أمامنا؛ نعم لقد كان يرى أعمق وأبعد من تلك الأحداث بخمسين مرّة، فيوصينا بما يتوجّب علينا القيام به، ويقول لنا: اشتغلوا بأموركم ولا شأن لكم بما يجري هنا وهناك.
تخلية القلب عن الشواغل مقدّمة لتجلي اللـه فيه
فعندما يشتغل القلب بالتفكير في هذا الأمر أو ذاك، فلن يكون هناك موطئ قدم في هذا القلب المشغول لكي يضع المحبوب قدمه فيه ويتّخذ منه منزلًا له؛ فهو يقوم بإلقاء نظرة على هذا القلب، فيجد فيه الأخبار والصواريخ، فيقول عندها: لا يمكن أن يجمعني والصاروخ مكان واحد؛ نعم، يوجد في هذا القلب الصاروخ والدبابة والقنبلة الذريّة؛ فهذا القلب ليس بخالٍ لكي أنزل فيه، لذا قرّرت أن أبقى حيث أنا، فسأبقى في ذلك الأفق الذي أنا فيه؛ فلا يمكنني أن أنزل نزولًا يُذلّني، فعندما أنزل لا بدّ أن أجد محلًّا فارغًا حتّى أنزل فيه؛ فها أنت قد ملأت قلبك بأكمله، فأين هو مكاني الذي أريد أن أنزل فيه؟ فهل أنزل إلى التراب؟! مكاني ليس هو التراب بل مكاني هو القلب، وها أنا أفتّش لي عن مكانٍ فارغ، فمتى ما وجدت مثل هذا المكان، فسوف أنزل فيه وأتخذ منه منزلًا لي.
قصّة ظهور الإمام الرضا عليه السلام لأحد زوّاره في المكاشفة ووصيته بتخلية القلب
قال المرحوم العلاّمة يومًا: كان أحد العظماء ينوي زيارة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام، فزاره أحد الأشخاص المعروفين في المدينة، وقال له حال مغادرته وبعد أن انصرف الناس الموجودون هناك: لي حاجة أرجو أن تطلبها لي من الإمام عليّ بن موسى الرضا؛ فلمّا ذهب الرجل إلى زيارة الإمام الرضا نسي هذا الموضوع تمامًا، ولما لم يتبقّ على عودته إلاّ أيام قلائل، ذهب إلى حرم الإمام لغرض التوديع، وبينما هو جالس إذا بخدّام الحرم قد أخذوا بإخلائه من الزائرين، وخلا الحرم من الزائرين سواه، فخرج عندها الإمام من داخل الضريح، والتفت إليه قائلًا: قلّ لفلان:
آيينه شو جمال پری طلعتان طلب | *** | جارو بزن خانه وپس ميهمان طلب |
(يقول:
كن مرآة ثمّ اطلب رؤية أصحاب الجمال الملائكيّ *** واكنس بيتك ثمّ ادع الضيوف إليك)
يقول الرجل: لقد قال الإمام ذلك وعاد إلى الضريح، ثمّ رأيت بعدها فجأة بأنَّ الناس متواجدون في أماكنهم وعلى نفس الوضع الذي كانوا عليه.
فمن المعلوم بأنَّ ما رآه كان في عالم المكاشفة حيث أوصل الإمام جوابه إلى ذلك الرجل بهذه الطريقة. وعندما عاد الرجل إلى مدينته جاء الناس لزيارته، وكان من بين من أتى ذلك العالم؛ فعندما همّ العالم بالمغادرة، قال له الرجل: ابقَ هنا فلي معك حاجة، فحكى له ما حصل قائلًا: لقد نسيت ما كنت أوصيتني به، ثمّ حصل ما حصل في اليوم الأخير من زيارتي وقبل عودتي.
فالحكاية تتلخّص في أنَّك لم تقم بتنظيف بيت قلبك من الأوساخ، ولم تخله من الغير بعد، فلا يزال هناك الكثير من التعلّق في قلبك، ولا يزال قلبك مشوّشًا ومضطربًا، ولا يزال مليئًا بالأفكار، ولا يزال يتحرّك ذات اليمين وذات الشمال؛ فلا بدّ من إفراغه من جميع تلك التعلّقات.
غرض أدعية الإمام السجّاد ووصايا الأولياء تخلية القلوب عن غير اللـه واستغلال الأعمار
فجميع أدعية الإمام السجّاد عليه السلام قد جاءت من أجل تخلية القلب من هذه الأمور وليصل الإنسان إلى هذه الحقيقة وهي أنّه لا مؤثر في الوجود غير الله؛ نعم، من الممكن أن يدرك الإنسان هذه الحقيقة، وهي أن كل ما سوى الله هباء، ولكن ذلك يحصل بعد فوات الأوان، فيعلم عندها بأنَّه قد أهدر عمره خلال تلك السنين، ولم يعد هناك وقت لتلافي ما فات.
فعندما كان العظماء يوصوننا في ذلك الوقت بالتزامنا لأماكننا وعدم التزحزح عنها، فإنَّما أوصونا بذلك كي لا نعمل على إهدار أوقاتنا وإتلاف أعمارنا؛ فما سنصل إليه بعد خمسين أو ستين سنة، كان من المفترض بنا أن نصل إليه ونحن في سنّ الخامسة والعشرين أو الثلاثين من عمرنا؛ فما كان يجب أن نبلغه ونحن في الثلاثين من العمر، سنبلغه الآن ولكن بعد أن ينقضي من أعمارنا الثلاثون أو العشرون أو العشر من السنوات؛ فقد يصل الإنسان إلى إدراك الأمر، غير أنَّ الفرصة للتدارك ستكون حينها قد فاتت. لأنّ الحركة بعد أن يكون القلب مستعدًّا وفارغًا تحتاج إلى زمان [للوصول]، فكان عليك أن تستغلّ هذه الثلاثين سنة للحركة، أمّا الآن فلم يعد عندك ذلك الوقت، فليس من المعلوم كم يتيحون لك المجال بعدُ. لقد كان المرحوم العلاّمة يقول: تعال وابدأ حركتك من هذه اللحظة يا هذا، فما يمكن أن تدركه بنفسك بعد ثلاثين سنة، فها أنا أخبرك به في هذه الليلة التي هي ليلة الثلاثاء، فها أنا أقول لك: اجلس مكانك؛ وها أنا أكشف لك الآن ما ستصل إليه وأنت في سنّ الثامنة والخمسين أو الستين أو السبعين من عمرك.
فما لك وما يُقال هنا أو هناك، وما لك وما يُطرح على هذا المنبر أو من ذلك المحراب، أو ما يُكتب في هذه المقالة أو تلك الصحيفة، أو ما يقوله ذلك المتكلّم؛ فها أنا أقول لك: اجلس حيث أنت! فترى أحدهم يقول: ولكن هنالك الكثير من الأحداث تحصل هنا وهناك، فيقول له: وأنا أعلم بما يحصل هنا وهناك أيضًا، فهل قمتُ بإغماض عينيّ لكي لا أستطيع رؤية ما الذي يحصل؟ فما تراه أنت، فأنا أراه أيضًا، فعيناي مفتوحتان وأنا أرى ما الذي يحصل، فأنا لم أغمض عينيّ، ومع هذا فها أنا أقول لك: اجلس في مكانك.
ضرورة التصديق كمقدّمة للحركة
وهذا هو الأمر الذي نغفل عنه، ولا يمكن أن يتقدّم الإنسان في مسيره مع وجود مثل هكذا غفلة؛ فيجب أن يتبدّل علمنا بالشيء إلى التصديق به ولمسه والشعور به في داخلنا؛ فإذا حصل التصديق بالأمر، فسيسهُل الطريق على الإنسان، وبالتالي سيتحرّك؛ أيّ إنَّ الحركة إنما توجد [وتكون حقيقية] بعد التصديق، وأما قبل أن يحصل التصديق بأمرٍ ما، فلا يمكن الحركة والسير في ذلك الطريق، بل سيكون مَثَلُ المتحرّك كمَثَل حمار الناعورة الذي يدور النهار كلّه حول نفسه ومن دون أن يتقدّم إلى الأمام ولو لسانتيمترٍ واحدٍ. فما إن يقع امتحان ما، إلاّ وتراه أسوء من عامّة الناس بمائة مرّة، لا أنه مثلهم، فيا ليت حالته كانت كما كانت عليه من قبل!
معنى حديث «اعبد اللـه كأنّك تراه...»
هذه هي المسألة الأولى وهي كما قال المرحوم العلامة لأولئك النسوة... لقد قال المرحوم العلاّمة لهنّ: يجب أن تروا الله إلى جنبكم دائمًا، ثمّ أردف قائلًا: وليس المقصود من عبارة «اعبُد الله...» أن ترى الله إلى جنبك في وقت الصلاة فقط؛ نعم، عليك أن تراه أمامك في الصلاة، غير أنَّ هناك أمرًا آخرًا، ألا وهو أنّ عليك أن ترى الله إلى جنبك وأنت في مقام العبوديّة له؛ فعليك أن ترى كيف تكون علاقة العبد بمولاه، وكيف يتصرّف العبد مع مولاه.
لقد حُلّت هذه المشكلة في عصرنا الحديث حيث نشرت كامرات المراقبة في كل مكان، فتراهم يضعون الكاميرات في الغرف، فعندما يريد الشخص أن يدخل الغرفة فإنه يعلم بأنَّ هناك كاميرات ولاقطات صوت تقوم بتصوريه وتسجيل صوته، فإذا أراد أن يقوم بأيّ حركة فإنه يحسب حسابًا، وكذلك عندما يمشي في الممرّ يجد بأن هناك كامرة، وكذلك في المطبخ، وفي كلّ مكان؛ فيرى الإنسان نفسه مُراقبًا أينما ذهب، فلا يستطيع والحال هذه القيام بأيّ عمل مخالف للضوابط والقوانين، لأنّ الكاميرات ستصوّره أينما ذهب.
فبناءً على هذا فالإنسان يلمس بنفسه بأنَّ مسؤوله معه في كلّ خطوة يخطوها، ويشعر بوجوده إلى جنبه، بل ويشعر بأنَّه يقوم ويقعد معه، وحتّى في تناوله للطعام أو في أيّ شأنٍ يكون فيه؛ فهو يعلم بأنَّ الكاميرات تقوم بتصويره الآن، وفي هذه الحالة ـ بما أنّ مسؤوله يراه ـ فلا فرق في هذه الرؤية بين أن يكون واقفًا إلى جنبه أم في مكتبه وهو يراقب من هناك؛ فما إن يقم بمخالفة التعليمات، إلاّ ويرى بأنَّ الجرس أخذ بالرنين ويسمع صوت رئيسه وهو يقول له: ها أنا أرى ما تفعل وأنا جالس في غرفتي، فلماذا فتحت تلك الخزانة؟ ألم أقم بتنبيهك على عدم فتحها؟! أو لماذا تركت مكان عملك؟! فها أنا أرى جميع تحركاتك وأنا جالس في غرفتي أنظر إلى الشاشة؛ فبناءً على هذا فالموظف يرى مسئوله إلى جنبه في جميع الأحوال.
وهذا هو عين ما يشير إليه الإمام السجّاد عليه السلام في الفقرة التالية التي يقول فيها: «فَلو اطَّلع اليَومَ على ذَنبِي غَيرُكَ ما فَعلْتُه»۱؛ فهذا يعني بأنَّني لو كنت أعلم بوجود كاميرات للمراقبة فوق رأسي، ما كنت لأفعل الذي فعلته.
إنَّ ذلك المعنى الذي أشار إليه المرحوم العلاّمة لمعنى لطيف حقًا، حيث فسّر العبادة في قول رسول الله: «اعبُد الله» بالعبوديّة، أي كنْ عبدًا لله وكن في مقام عبوديّتك لله كأنَّك تراه إلى جنبك، فإن لم تكن كذلك ولم تشعر بأنَّك تراه، فعليك وعلى أقل تقدير أن تشعر بأنَّه يراك. هذا هو الأمر الأول.
وأمّا الأمر الآخر فهو أنّه حين شعورك بأنّ الله معك وحاضر عندك حال الصلاة أو قراءة القرآن أو الصوم أو الإنفاق عليك أن تشعر بأمر آخر؛ ففيما يتعلّق بالإنفاق مثلًا، تارة يقوم الإنسان بمدّ يده إلى جيبه، ويُعطي الفقير المستحقّ للعطاء شيئًا، فيشعر بالسعادة لما قام به من إعطاء، وهذا مما لا بأس به، بل هو أمر مستحسن، فيشعر الإنسان بالسعادة خصوصًا عندما يرى بأنَّ إنفاقه قد وقع في محلّه؛ غير أنَّ هنالك أمرًا آخرًا في هذا المجال، ألا وهو: أن تقوم بإعطاء الفقير شيئًا وأنت لا ترى نفسك المعطي، بل ترى نفسك مجرّد واسطة لهذا العطاء، فترى المعطي غيرك وأنت لم تكن سوى ظهور لذلك الإعطاء، فسيكون هذا شيئًا آخر؛ فما ستناله في مثل هذه الحالة سيكون أمرًا آخر وهو يختلف كثيرًا عمّا ستناله في الحالة الأولى.
ففي الحالة الأولى سنكون سعداء بإعطائنا الفقير شيئًا، فهذا العطاء سيكون عاملًا لدفع البلاء عنَّا، وهو إعطاء وقع في محلّه وذلك بكون منْ ناله العطاء محتاجًا؛ ففي مثل هذه الحالة سيفرح الإنسان بكون الله قد وفّقه للقيام بعمل الخير هذا، فهو يرى هذا العطاء من الله أيضًا؛ فهذا أمر، غير أنَّ هنالك أمرًا آخرًا وهو أن يرى ـ وفي نفس الوقت الذي يقوم فيه بالإنفاق ـ بأنَّ الذي قام بهذا الإنفاق غيره لا هو؛ فسيكون التفاوت بين هاتين الحالتين كالتفاوت بين السماء والأرض، فسيكون له من التأثير على القلب ما للصاعقة والرعد والبرق من تأثير، لا كتأثير هطول المطر قطرة قطرة، فهو سيعمل على إحراق كيان الأنا والتعلّقات النفسيّة للإنسان وتدميرها بالكامل.
قصّة سؤال السيّد الحدّاد للمرحوم العلامة عن بائع القماش ورؤيته التوحيديّة في البيع والشراء
كنَّا جالسين لدى السيِّد الحدّاد في كربلاء بعد عودتنا من الحجّ في ذلك السفر الذي ذكره المرحوم العلاّمة في كتاب الروح المجرّد، فسأل السيِّد الحدّاد المرحوم العلاّمة عن أحد الإخوة ـ وهو من الأصدقاء ولا يزال على قيد الحياة والحمد لله، نسأل الله له التوفيق؛ لقد كان من تلامذة السيِّد الحدّاد السابقين وكان يعمل كبائع للقماش ـ قائلًا: كيف حاله؟ فقال له المرحوم العلاّمة: لقد أدرك الأمر إلى حدٍّ ما، وهذا الأمر لن يتركه وحاله بعد الآن؛ فقال السيِّد الحدّاد: وهل أدرك أيضًا بأنَّ المعطي والآخذ كلاهما واحد؟ أي هل توصّل ذاك البائع الذي يقف في محلّه، ويذرع القماش ويبيعه للمشتري ويستلم قيمته منه، هل توصّل إلى أنَّ معطي القماش والبضاعة والمشتري الذي يقوم بدفع المال كلاهما واحد؟ فقال له المرحوم العلاّمة: لا لم يتوصّل إلى هذا الأمر؛ فقال السيِّد الحدّاد: إن لم يتوصّل إلى هذا الأمر، فلا فائدة من ذلك والحال هذه.
سعي أولياء اللـه في أخذ الآخرين إلى آفاقهم
أترون كيف أنَّ أولياء الله يعيشون في أُفق آخر؛ بل وما هو الأكثر أهمية من ذلك هو كيف أنَّهم يحاولون إلحاقنا بهم إلى ذلك الأفق الذي يعيشون فيه؛ فهم لا يقتنعون لأنفسهم بأن يعيشوا في ذلك الأفق ويتركون الآخرين حيث هم غير مبالين بهم، قائلين: ما دمنا نحن قد علمنا، وبما أننا نتقدّم في سيرنا، فلا شأن لنا بالآخرين وسواء أسلكوا نفس طريقنا أم لم يسلكوا، فها نحن نجلس على تلك المائدة التي أعدّها الله لنا، فإن شاء الآخرون أن يشاركونا، فليأتوا وليتناولوا منها، وإلاّ فدعهم يبقون على جوعهم؛ كلاّ، ليسوا كذلك، وذلك لأنَّ نظرة الوليّ الإلهي والعارف بالله ورحمته وعطفه عامة وشاملة للجميع، فهو ليس سوى ظهور وتجلٍّ لرأفة الله ورحمته وكرمه وفضله، وهو عام وشامل لجميع المخلوقات.
بسیط زمین سفره عام اوست | *** | در این خوان یغما چه دشمن چه دوست |
(يقول: إنَّ البسيطة هي مائدته العامّة، ويجلس عليها الأصدقاء والأعداء على السواء)
فكما أنَّ الله قد أعدَّ مائدته للجميع، فكذا يكون الحال الذي عليه الوليّ، فهو يقول: أنا لا أريد أن أكون هنا وحدي، بل تعال أنت أيضًا وشاركني؛ فلقد كان بإمكان السيِّد الحدّاد أن يقول: ما دام قد أدرك الأمر، فذلك شيء جيّد، فأبلغه سلامي وقل له: أنا أذكرك على الدوام، وأنا أدعو لك في مشاهد الأئمة؛ وما شابه ذلك من الكلمات التي نتبادلها نحن؛ فلا نراه يقول ذلك، بل نراه يريد أن يجعله ينتفض، فهو يقول له: هل توصّل إلى هذه الحقيقة وهي كون المعطي والمستلم واحد؟ فلا أنت تعطيه شيئًا، ولا هو في المقابل يعطيك شيئًا آخر، بل أنت واسطة وظهور للإعطاء، وهو واسطة لاستلام العوض؛ فكلاكما ظهور ليس إلاّ، أنت من هذا الطرف وهو من الطرف الآخر، فكلاكما واحد؛ وكما أنه ينبغي عليك أنت أن تفهم المسائل بهذه الكيفيّة فكذلك ينبغي على الطرف المقابل الذي يشتري منك أن يفهمها بهذه الكيفيّة.
أثر النظرة التوحيديّة التي يوصي بها العرفاء على علاقات الإنسان المختلفة
حسنًا، إن رأينا المسائل بهذه الكيفيّة فما الذي سيحصل للمساومة؟ قد تكون المساومة مطلوبة أحيانًا، ولكن ماذا عن الغش؟! فلا بأس بالمساومة عندما تكون ضمن الحدود المعقولة، وفي محلّها، لا أن يسعى أحد الطرفين إلى تجريد الآخر من ملابسه، فقد تصل المساومة إلى الحد الذي يجعل الطرف المقابل يقول: خذ البضاعة بدون ثمن، بل وأنا مستعدّ لأن أعطيك ضعف قيمتها بشرط أن تكفيني شرّك!!
كنت قد دخلت أحد المحالّ التجاريّة في الحجاز مع عدد من أصدقائي، وكان هناك عدد من الإيرانيين من أهالي إحدى المدن التي لا أذكر اسمها الآن والتي يعرفها الجميع؛ فما إن رآنا صاحب المحلّ إلاّ واستنجد بنا بعد أن عرف بأنَّنا من الإيرانيين، وعلى الرغم من كوننا كنَّا نرتدي الملابس العربية، فقال: قولوا لهم بأنَّني لا أريد منهم أيّ ثمن، فليأخذوا البضاعة مجانًا، فلقد أهلكوني ـ هكذا قالها ـ فالتفتُّ إليهم قائلًا: ما الذي فعلتموه بالرجل بالشكل الذي جعله يقول: فليأخذوا ما يريدون مجانًا؟ قالوا: وهل يعني ما يقول حقًا؟!! فقلت لهم: نعم، إنَّه يعني ما يقول، فخذوا بضاعتكم وغادروا ولا تعودوا! فلا بأس بالمساومة ولكن بشرط ألاّ تصل إلى هذا الحد.
فلماذا تريد أن تغشّ الطرف الآخر؟ ولماذا الكذب؟ ولماذا تقسم قسمًا كاذبًا؟
وهذا الأمر لا يختصّ بالمعاملة التجاريّة فقط، بل ويشمل كافّة نشاطات الحياة اليوميّة؛ فعلى سبيل المثال عندما تجلس خلف طاولة الرئاسة فلماذا تكذب؟ ولماذا تراوغ وتخدع؟ ولماذا تعمل على الإيقاع بخصمك؟
فلو كان الشخص يشارك في هذا المجلس بهذه النيّة ألن تتغيّر طريقة كلامه؟! ولو شارك الشخص في هذه الجلسة بهذه النظرة ألن تتغيّر تصرّفاته؟! محال أن لا تتغيّر.
ما تكلّمنا عنه كان يتعلّق بموضوع البيع والشراء، وهو ينطبق أيضًا على كيفيّة التعامل مع الآخرين، وكذلك على كيفيّة التعامل في إطار العمل بين الرئيس والمرؤوسين، وبين الموظّف والمراجعين؛ فكلّ في محلّه الخاصّ به. ولذا فقد جاء في الروايات بأنَّك إذا أردت مساعدة فقير، فعليك أن تعلم بأنَّ يد الله هي التي تستلم منك النقود أو أيّ شيء آخر تعطيه؛ أي عليك أن تعلم بأنَّ يد الفقير هي يد الله؛ وأيضًا من التوصيات أنه لا تسلّم المساعدة للفقير بل عليك أن تدعها في يدك ليقوم هو بأخذها من يدك.
فنفس هذا المطلب الذي يذكره رسول الله يبيّنه العارف بهذه الكيفيّة، وبهذه العبارات، وذلك لأنَّه قد أدرك هذا الأمر في نفسه، فبعد أن أدرك الأمر في نفسه يأتي هنا ليوضّح لنا المراد من كلام رسول الله أو الإمام عليهما السلام، فيقول معناه هو: إنَّ المعطي والمستلم واحد، فالمعطي هو الله، والمستلم هو الله أيضًا.
فلو كان الشخص يرى الأمور بهذه الكيفيّة فلماذا الكذب؟ ولماذا المعصية؟ ولماذا أسعى لطمس الحقائق؟ ولماذا أقوم ببيان نصف الحقيقة وإخفاء نصفها الآخر؟ ولماذا أقوم بحفظ سرّ كنت قد اطلعت عليه، لأقوم بإفشائه في وقته المناسب؟ فلماذا أعمل على إفشاء أسرار الآخرين؟ وما هو السرّ الذي أريد إفشاءه؟ فإن كان الأمر كذلك، وإن كان أفق معرفتنا عند هذا الحدّ، فلا معنى لهذه الأمور بعد!
ولكن بما أنّ أفق معرفتنا ليس عند هذا الحدّ، ولما كنَّا نقوم بمثل تلك الأعمال، فهل يمكننا والحال هذه أن ندّعي بأنَّ تلك الأعمال التي نقوم بها هي أعمال رحمانيّة؟ كلاّ، لا يمكن القبول بهذا، فالعمل الرحمانيّ، والعمل المؤيّد من قبل الملائكة وعالم الغيب والعالم الربوبي، هو ذلك العمل الذي يكون وفقًا لما يأمر به أولياء الله، والذي يتطابق مع البرامج السلوكيّة الصادرة منهم؛ فإن كان الأمر كذلك، فأيّ تسمية نستطيع أن نطلق على ما يقابلها من الأعمال التي نراها تصدر عن الآخرين، فهل يمكن القول بأنَّها أعمال رحمانيّة أيضًا؟ كلّا بالطبع، فلا يمكن تسميتها بالأعمال الرحمانيّة، فماذا يُطلق عليها إذًا؟ إنَّها أعمال شيطانيّة؛ نعم، إنَّها وبأجمعها تكون من الأعمال الشيطانيّة؛ فلا يمكن أن يجتمع الملَك والشيطان في مكان واحد، فذلك المكان إمّا أن يكون محلًا لنزول الملك أو نزول الشيطان.
يقول الإمام السجّاد هنا: عندما تنظر إلى ما تقوم به من عمل، فعليك أن تضع نُصب عينيك أنَّ الله هو حقيقة عالم الوجود وأن الله هو الحقّ والواقع لا غير؛ فإن كان الأمر كذلك، فما هو دورنا نحن في هذا المجال؟ إنَّنا عبارة عن وسيلة تسعى للوصول إلى تلك الحقيقة؛ فها نحن نشعر بكوننا مختارين، فلسنا مثل الحديد الذي لا يدرك شيئًا، ولسنا مثل هذا العمود الذي لا يفهم شيئًا، بل نحن من بني البشر وها نحن نرى كيف أنَّنا نقوم بترتيب المقدّمات ووضعها إلى جنب بعضها لنتوصلّ من خلالها إلى نتيجة معيّنة؛ فإن كنَّا كذلك، فكيف يمكننا والحال هذه تفسير تلك الحقيقة التي نشاهدها بأعيننا والتي تدلّ على كون كلّ ما في عالم الوجود هو الله، وأنَّ جميع ما سواه هو عبارة عن مرايا يتجلّى فيها الله؟ فعندما نرى تلك الحقيقة فما هي قيمة وجودنا في هذا المجال؟ إنَّ هذا الأمر يتعلّق بالجزء الثاني من موضوع البحث.
قيمة وجود الإنسان أمام الله وما عليه أن يتوقعه منه
يقول الإمام السجّاد عليه السلام هنا: على الإنسان في هذا المقام أن تحصل عنده حالتان: الحالة الأولى: استشعار الفقر المطلق أمام الله
أمّا الأولى فهي: بما أنّه يدرك، وبما أنّه مختار وبما أنّه يدرك أنّه مختار، ويستطيع التميِيز بين الخطأ والصواب؛ وذلك لأنه ليس مثل الحديد أو الخشب أو الفراش أو القدح، بل هو إنسان، وله إرادة، فعليه بناءً على هذا ألاّ يحسب لنفسه حسابًا في قبال الله وحقيقة عالم الوجود؛ فأيًّا كان المقدار من الوجود الذي يريد الإنسان أن يمنحه لنفسه هنا، فسوف يتقاطع هذا المقدار من الوجود مع مقام عظمة الحقّ ومقام كبريائه ومقام بهائه ومقام وجوده المطلق.
فما إن تحسب لنفسك حسابًا حتّى تكون قد أوجدت جدارًا يحول بينك وبين الله، وتكون قد أسدلت ستارًا فيما بينك وبينه؛ قد جعلت لنفسك وجودًا وبذلك المقدار الذي منحته لنفسك، وبمقدار ما ادّخرت لنفسك في كيسك الخاصّ بك، فستكون قد أنقصت من وجود الله بنفس هذا المقدار؛ هذا مع أنّ وجود الله يتّصف بالصمديّة، أي مملوء، لا خلأ فيه ولا فراغ، ولا يمكن أن يتمّ الانتقاص من وجوده؛ فوجوده قد عمّ جميع العوالم بما فيها نفسي الموجودة في هذا المكان والتي تنظر الآن ماذا ينبغي أن تقرّر في هذه القضيّة، فأنا من ضمنها في النهاية.
[فإن أردنا عزل أنفسنا عن عالم الوجود،] فسيكون مَثلنا مَثَلَ من يقوم بإخراج جميع الموجودين في هذه الحسينيّة، ثمّ ينادي بأعلى صوته: يا أيّها الناس اعلموا بأنَّه لا وجود لأحدٍ في هذه الحسينيّة؛ فماذا عنك أنت؟ فهل أنت موجود أم غير موجود؟ فقد تقول مرّة: لا يوجد في هذه الحسينية أحدٌ غيري، فسيكون كلامك صحيحًا والحال هذه، أمّا أن تقول: لا يوجد في هذه الساعة أيّ أحدٍ في هذه الحسينيّة، فلن يكون كلامك صادقًا، وستكون قد ناقضت نفسك بنفسك.
فإن كنَّا معتقدين بصمديّة الله، ومعتقدين بأنَّ هذه الصمديّة هي عامّة وشاملة لجميع الممكنات، وهي صمديّة مطلقة تشمل جميع الممكنات، فسنكون نحن جزءًا منها حينئذٍ؛ فلمّا كنَّا نحن جزءًا منها، فكيف يجب أن تكون طبيعة تفكيرنا في هذه الحالة؟ يأتي الإمام السجّاد هنا ليقول لنا: لا تحسب لنفسك حسابًا، بل أنت جزء من هذه السلسلة المتّصلة لعالم الوجود الشاملة لجميع ما سوى الله، الذي أنت جزء منها؛ لا أنك تعتزل جانبًا وتقف موقف المتفرّج، بل أنت موجود كجزء من هذا القانون السائد وجزء من هذا البناء، فأنت موجود؛ فما دمت موجودًا، فتعال إذًا واستمدّ من فكرك، واستعن بقواك العقليّة لمعرفة قيمتك ومكانتك، وذلك لكي يُعينك الله على إدراك حقيقة الأمر. فيقول الإمام هنا: على كلّ واحد منَّا أن يشعر بكونه صفرًا في مقابل عظمة وجود الله، فهذا ما يتعلّق بالمرتبة الأولى من الأمر.
الحالة الثانية: طلب المعاملة باللطف والرحمة وحسن الظنّ بالله
أمّا ما يتعلّق منه بالمرتبة الثانية: فنرى الإمام عليه السلام يقول: فما دمت صفرًا فعليك أن تجعل شيئًا آخرَ نصب عينيك، فما هو ذلك الشيء؟ ما دمت صفرًا، فعليَّ عندما أقف بين يدي الله أن أطلب منه أحد هذين الأمرين، فإمّا أن أقول له: تستطيع يا ربِّ أن تعاقبني وتوبّخني وتعاملني بغضبك وقهرك، فأنا أستحقّ كلّ ذلك؛ إذ إنَّ الله لا يتعامل مع عباده إلاّ بواحدٍ من هذين الأمرين الذين لا ثالث لهما، فهو إمّا أن يعاملهم بنقمته وغضبه وتوبيخه لهم، أو أن يعاملهم برحمته وبركته ولطفه وكرمه وعفوه.
فيقول لنا الإمام هنا: لا تطلب من الله أن يعاملك وفقًا للشِّق الأوّل من الأمر، ولا تجعل هذا الأمر يجول في فكرك أبدًا؛ لأنَّ نزول أسماء الله وصفاته ـ عندما يقف الإنسان بين يديّ الله ـ في عالم الوجود يتمثّل في مجازاة العبد إما بإدخاله جهنّم أو الجنّة، فلا يمكن أن يجعله معلّقًا بينهما، إذ لا وجود لمقام وسطيّ بين هذين المقامين؛ فهو إمّا أن يُعرّضه لقوته القاهرة ولغضبه وحزمه وعدله، فسيكون معلومًا عندئذٍ المصير الذي سيؤول إليه الإنسان، أو أن يشمله بلطفه وكرمه وعفوه ورحمته وعنايته، حيث سيكون مستقرّه الجنّة وما فيها من مراتب، ويمنُّ عليه بالأُنس به سبحانه؛ فلا ينبغي لنا التحدّث عن الجنّة ومراتبها، فمرتبة القُرب والأُنس بالله هي مرتبة تفوق جميع مراتب الجنان.
يقول الإمام: فما دام هذا هو ظنّك بالله، وما دمت قد رأيت نفسك صفرًا في قباله، فما الذي تتوقعه منه؟ فهل تتوقّع منه أن يعاملك بالغضب والمؤاخذة والعتاب والعقاب؟ أم تتوقّع منه أن يعاملك بالرحمة والعطف والعفو؟ فلماذا تقوم بانتخاب الشِّق الأول من بين هذين الشّقين؟ بل عليك انتخاب الشِّق الثاني؛ إنَّها لعبارة عجيبة وغاية في الدّقة حقًا، وإنَّه لأمر في غاية الأهمية، وإنَّني كنت أرى الناس سابقًا لا تعير هذا الأمر اهتمامًا، وأشعر الآن ايضًا أنهم كذلك!! إنَّ الشيطان يعمل على التقليل من شأن رحمة الله لدى الإنسان، فتراه يقول له: انظر إلى هذا فقد أمضى عشرين سنة من عمره لدى المرحوم العلاّمة، وها قد تخلّى عن هذا الطريق، وانظر إلى ذاك الذي غادر بعد عشر سنوات من تواجده في هذه المدرسة، أو إلى ذاك الذي كان يحضر المجالس ومنذ عهد المرحوم العلاّمة، فانظر إلى المصير الذي آل إليه، وانظر إلى ذاك وذاك؛ حسنًا، فإن كنت تنظر إلى هذا وذاك، فتعال وانظر إلى الطرف الآخر أيضًا، فلماذا تنظر إلى ذلك الجانب فقط؟ ولماذا تتمرّغ في اليأس من الخير والرحمة والبركة والعفو وأنت تطلب حاجتك من الله؟ فلماذا لا تميل إلى الجانب الآخر؟
فعلينا أن نخاطب الله قائلين: إلهي، فما دام كلّ شيء بيدك، فلتشملنا رحمتك وعطفك وعفوك، فما الذي ينقصك إن فعلت ذلك يا ربِّ؟ ما الذي ينقصك إن شملتنا بعطفك ورحمتك وبركتك؟ فما دمنا صفرًا، فأعط هذا الصفر مما لديك من الخير، فها قد أظهرنا العجز والمسكنة لديك وسلّمنا أمرنا إليك، ولم نُبقِ لنا شيئًا نستعرضه أمامك؛ قد يقول الله هنا: لا، بل لازلت تحتفظ لنفسك بالكثير، فأنت غير جادٍّ في كلامك هذا، فراجع نفسك وراجع قلبك، لترى أيّ تعلّق بالدنيا لديك، وأيّ حسابٍ قد فتحت لنفسك؟! فيحصل أن نتعرّض إلى اختبار ما، فيظهر لنا عجزنا وقصورنا.
فعلينا أن نقول هنا: ها قد ألقينا بكلّ ما لدينا جانبًا وها قد سلّمنا أمرنا إليك، وها نحن نراك مصدر كلّ شيء؛ وكما قال ذلك اللصّ للشاه عبّاس الصفوي: آن الأوان لأن تهزَّ لحيتك۱؛ فها نحن نقرّ بكوننا صفرًا، وحتّى وإن كان ذلك من باب المجاز والاعتبار، فأظهر لنا ما تقتضيه ربوبيّتك من الرحمة والعفو يا ربّ؛ نعم، يريد الله من عبده أن يتكلّم معه بهذا الشكل، فهو يستاء من ذلك الذي ييأس من رحمته، وهو يقول: أحبّ ذلك العبد الذي يحسن الظنَّ بي.
جاء في الأحاديث القدسية وفي الآثار المنقولة عن الأئمة المعصومين والعظماء ذكر هذا الحديث كثيرًا: «أنا عِندَ حُسن ظنِّ عبديَ المؤمنِ بي»٢؛ أي إنَّ مقدار علاقتي بعبدي بمقدار علاقته هو بي، وأنا معه بمقدار ما لديه من حسن الظنّ بي، فلا شأن لي بمن يُسيء الظنَّ بي، بل أنا أترك مثل هذا العبد وشأنه؛ أمّا ذلك الذي يُحسن الظنَّ بي، وذلك الذي يعتقد بأنَّني أعفو عن المذنبين، وأنَّ لي القدرة على العفو والتسامح، فأنا أحب مثل هذا عبد، لا ذاك الذي يكون عابس الوجه على الدوام، والذي يُقطّب حاجبيه بالشكل الذي يجعلها تتّخذ شكل الرقم سبعة، والذي كلّما حاولت تليِّينه، لا تراه يلين، وترى اليأس قد غلبه.
أرأيت بعض الناس وكيف إنَّك وكلّما قلت له: إنَّك واحد كبقيّة الناس؟ تراه يقول: كلاّ، فالله قد أعرض بوجهه عنِّي، ولا ينظر إليَّ أبدًا، فلا ينفع معي شيء والحال هذه وسواء صلّيت أم لم أصلِّ، فسوف لن تنفعني الصلاة بشيء، وتراه يردّد كلمات اليأس هذه دائمًا؛ فسيعامله الله ونتيجة لنظرته السلبية هذه بالمثل، فسيقول له الله: فما دمت على هذا الحال، فلا شأن لي بك إذًا؛ فما الذي يمكنني فعله لك، فكلّما قلت لك: سأعفو عنك، تردّ عليَّ قائلًا: كلاّ، لا يمكن أن تعفو عنِّي؛ فلا شأن لي بك إذًا، إذ إنَّ العفو لا يمكن أن يتمّ عنوةً؛ فسأشمل برحمتي من عبادي من يُحسن الظنَّ بي ويراني إلهًا رحيمًا.
غرض العلامة الطهراني من تأليف كتاب معرفة اللـه تعريف اللـه الرحيم إلى خلقه
قال لي المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يومًا: أتدري يا سيِّد محسن ما الذي دعاني لتأليف كتاب معرفة الله؟ بالطبع فقد انتقل إلى رحمة الله وهو ــ على ما يبدو ــ لم يُكمل تأليف الجزء الثالث من الكتاب بعد؛ قال: لقد ألّفت هذا الكتاب من أجل كسر وتحطيم ذلك الغول الذي صوّره أولئك السادة للناس، وتبديله بإلهٍ رحيمٍ وعطوفٍ ورؤوفٍ، وإلى جليسٍ أنيسٍ، يجلس جنب جميع الناس، يحتضنهم ويقبّلهم ويحفظهم في حفظه ويحرسهم بحراسته؛ فكان هدفي هو تنزيل هذا الإله من ذلك الأفق البعيد ووضعه بين أيدي الناس، ليعرفوا بأنَّ الله هو ليس بذلك الغول الذي تكون أسنانه كأسنان الفيل، والذي ما أن يقع نظر أحدهم عليه، حتّى يموت بالسكتة القلبيّة؛ فهو مخيف أكثر من عزرائيل ومنكر ونكير!! [مزاح من السيد]؛ فلقد بذلت جهدي لتحطيم ذلك الإله واستبداله بهذا الإله، فأقول لهم: هذا هو إلهكم، فلماذا تفرّون منه؟ ولماذا تُعرضون عنه؟
بعض البيانات العجيبة في بيان رحمة اللـه الواسعة
هنالك عبارات عجيبة جدًا في هذا المجال، فلو شملني التوفيق الإلهي، فسأتحدّث عنها؛ [غير أنَّه لا يبدو بأنَّني سأتمكّن من الحديث عنها هذا العام]، فلقد شارف شهر رمضان المبارك على الانتهاء وها هي يداي خاليتان من كلّ شيء، غير أنَّني أخاطب الله قائلًا: إلهي هذا هو حالي، فلم أتزود في هذا الشهر من تلك المعارف شيئًا، ولكنَّني أقول: نحن نعرفك على ما وصفك به الإمام السجّاد عليه السلام لنا، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر، فنحن على هذا الحال الذي ذكره الإمام، ثمّ ها قد وُضِع أمامنا خياران، فنحن لا نريد انتخاب الخيار الأول يا ربِّ، بل نحن نطلب منك أن تعاملنا وفقًا للخيار الثاني؛ فهذا مما علّمنا إيّاه العظماء، فلا يمكن لنا من أن نُخدع والحال هذه! نعم، هذا ما علّمونا إيّاه، ونحن نعلم بأنَّهم علّمونا الحقيقة، فهم لم يكذبوننا.
وخلاصة الأمر، أنّ هذه الأمور هي طرق والله والأئمة بيّنوها للسير فيها، فلولاهم لكان علينا أن نلطم رؤوسنا حتّى يوم القيامة؛ فلقد جاء الأئمة والعظماء ليرونا الطريق الصحيح ويدلّونا على الحُفر الموجودة فيه لئلاّ نقع فيها؛ فهم قد دلّونا على الطريق الذي علينا أن نسلكه، والطريق الذي علينا تجنّب السير فيه، وأيّ الطرق المفتوحة للمرور وأيّها المغلق وأيّها ذات الممرّ الواحد وأيّها ذات الممرّين، وأيّها الذي يؤدِّي إلى الهلاك.
فنستطيع استخراج بعض الأسرار من بين طيّات هذه المواضيع وهذه العبارات التي بيّن لنا الأئمة فيها شيئًا عن مقام الرحمة والعطف الإلهيّ العام والشامل؛ فنخاطب الله هنا قائلين: إلهي ليس لك طريق للفرار من مطالبنا [مزحة من سماحة السيِّد]، فقد علّمنا الإمام السجّاد كلّ شيء، وها قد سدّ طريق الهروب أمام وجهك؛ وها نحن نتعامل معك وفقًا لكلام الإمام السجّاد، فنقول لك: أنت كلّ ما في الوجود، حيث شمل وجودك كلّ شيء بما في ذلك هذا العبد الفقير، ولم يبقِ ذّرة واحدة، هذا أولاّ، وثانيًا: فلسنا بتلك الذرّة أيضًا، بل نحن عبارة عن صفر مطلق؛ وثالثًا: فلمّا كان الأمر على هذه الكيفيّة، فكيف ستعاملنا إذًا، فهل ستعاملنا بغضبك وقهرك، أم ستعاملنا برحمتك وعطفك؛ فها نحن نتوسّل إليك يا ربِّ أن تعاملنا وفقًا للشِّق الثاني، فعاملنا بعطفك؛ فسيقول الله هنا: لا بأس عليكم، فإن كنتم قد خطوتم هذه الخطوات فعلًا، وأنتم متمسّكون بهذا الاعتقاد، ولم تُبقوا لأنفسكم أيّ شيء، وتريدون أن تتركوا جميع تعلّقاتكم، فإن كنتم على هذه الحال حقًا، فأنا لست ببخيل؛ ثمّ إنَّني أنا الله، فما الذي أجنيه إن قمت بمعاقبة عبدي بدلًا من أن أشمله برحمتي وعطفي؟
إنَّ الإنسان ليتعجّب حقًا عندما يطّلع على الأدعية التي يقرؤها العظماء وأهل المعرفة في مناجاتهم مع الله؛ فلقد جاء في إحدى العبارات المنقولة عن أمير المؤمنين أو الإمام الحسين ما مضمونه: إلهي ما الذي تجنيه إن عذّبتني بدلًا من أن تشملني برحمتك۱! إنَّها لعبارة عجيبة حقًّا، فما الذي ينقص الله إن قام بذلك في واقع الحال؟ وهل يتحتّم على الله أن يُعاقب عباده؟!
لو عَلِمنا كم هو الله عطوف ورءوف، ولو اطّلعنا على ما اطّلع عليه العظماء في مقاماتهم التي وصلوا إليها وفي مشاهداتهم التي عاينوها، لفعلنا كلّ ما يحلو لنا! وكما خاطب أحدهم الله قائلًا: إلهي لو كشفتُ لعبادك ذرّة من رحمتك، لما عبدك أحد إلى يوم القيامة! فقال الله: لا، لا لا تفش هذا السّر، أنا سأفعل ما تقوله، ولكن انت احفظ السرّ ودع مشاريعنا تنتهي ولا تفسد الدنيا بإفشاء هذا السرّ! ففي النهاية هكذا هي سعة بحر رحمة الله.
ولهذا السبب نرى كيف يدأب العظماء على بثّ روح الأمل بين تلامذتهم، فهم لا يدعونهم لليأس، بل يدعونهم إلى التفاؤل والسعادة والانبساط والابتهاج والانشراح دائمًا؛ فهكذا هو طريق السلوك، أي على السالك أن يطوي طريقه بروح من الأمل والبهجة؛ فإن تزامن طيّ الطريق مع اليأس، فسيتوقف السالك ويبقى يعيش حال الشكّ واليأس وسوف لن يتمكّن من التقدّم ولو لخطوة واحدة في سيره ما لم يتجاوز هذا الحال؛ فلو صلّى ألف ركعة في الليل، لما كان لها فائدة الركعة الواحدة؛ فيجب طيّ هذا الطريق بروح من الأمل، فهذا الأمل هو بمثابة الوقود لمحرّك السيّارة، فلا يمكن للسيّارة أن تتحرّك لو لم يتم تزويدها بالوقود؛ فهذا الأمل الذي يعمل على دفع الإنسان للحركة والتكامل هو بمثابة ذلك الوقود.
لذا نرى الأئمة والعظماء يتضرّعون إلى الله في مناجاتهم ويبكون ويقولون: إلهي نحن لا نرى لأنفسنا وجودًا ولسنا بشيء، بل نحن عدم محض، ولا يمكن أن نحسب لأنفسنا في قبال وجودك حسابًا، ولا نرى لنا أيّة قدرة وليس لنا حقيقة أو وجود أو هوية مستقلّة، وفي نفس هذا الوقت نراهم يطرقون باب الرحمة، فيقولون: إلهي ما الذي يحلّ بنا إن لم تشملنا رحمتك وعفوك وهدايتك؛ فدائمًا ما يتكلّمون عن الرحمة، لا تراهم يتطرّقون إلى موضوع العقاب، بل هم ينادون الله بصفات الرحمة والعفو والعظمة والتغاضي والإغماض، ويطلبون منه أن يأخذ بأيديهم في طريق الهداية وأن يوصلهم إلى غايتهم.
هنالك الكثير ممّا يمكن أن يُقال في هذا المجال من النكات الدقيقة؛ فهناك طرق لجعل هذه المسألة وهذه الحقيقة وجدانيّة، فيشعر بها الإنسان ويلمسها، ولله طرق مختلفة من خلالها يوصل الإنسان إلى هذه الحقيقة وجدانًا، كلّ بحسب ما يناسبه؛ فقد يرتكب الإنسان ذنبًا، ثمّ يتعجّب بعدها من صدور مثل هذا الذنب منه، فتراه يقول: كم أنا عاجز وضعيف بحيث لم أستطع السيطرة على نفسي، وكم أنا عبد لأهوائي النفسيّة بحيث لم أتمكّن من الامتناع عن القيام بذلك العمل.
ففي مثل هذه الحالة، فإن أراد الإنسان الاستمرار في الطريق الذي انتخبه لنفسه، فستراه يسعى إلى التنصّل عن دوره فيما حصل ويقوم بإلقاء المسؤوليّة على عاتق الشيطان، فيقول: ها قد أغواني الشيطان! [فسيُقال له هنا:] وما للشيطان المسكين ولك حتّى يأتي إلى بيتك ليغويك، بل أنت الذي تُعلِّم الشيطان كيفيّة الغواية؛ فتراه يُلقي بالمسؤوليّة على عاتق الشيطان، فيقول: لقد أغواني الشيطان!
لم يغوك الشيطان، بل أنت الذي تُغوي الشيطان، فلا تُلقِ باللوم على الشيطان.
فإن أراد الإنسان التصرّف بهذا الشكل والتهرّب من مسئوليّته، فسوف لن يجني من ذلك نفعًا، أمّا إن قام باستبعاد مسألة غواية الشيطان، ونسب التقصير إلى نفسه وتوجّه إلى الله قائلًا: إلهي، أنا مسكينٌ وضعيفٌ ولقد كنت أحمق حينما ارتكبت تلك المعصية، فسيكون هذا النوع من التصرّف، تصرّفًا سليمًا وسيعمل على الأخذ بيده وإصلاحه والقضاء على ما به من أنانيّة وشعور بالاستقلال، نعم، سيعمل ذلك على القضاء على الأنانيّة.
[أمّا ذلك الذي يلقي باللوم على الشيطان] فسيكون مصيره مصير ذلك الرجل الذي جاء إلى المرحوم العلاّمة وقال له: أصبحت بالشكل الذي لا أتمكّن فيه ـ وبفضل الله ـ من ارتكاب معصية بعد الآن؛ فقال له المرحوم العلاّمة: إنَّ نفس شعورك هذا بعدم ارتكابك للذنب، هو أعظم ذنب أنت ترتكبه الآن، وهو الذنب الذي لا يمكن علاجه؛ فيمكن معالجة غيره من الذنوب بالتوبة، أمّا هذا الحال الذي أنت عليه، فهو ممّا لا علاج له، فهو أعظم ذنب يمكن تصوّره؛ فمثل هذا الذنب يعمل على إخراج الإنسان من تلك المرتبة [مرتبة العبودية]. لذا نرى بأنَّه وفي الكثير من الحالات، يكون ذلك الخطأ الذي يرتكبه الإنسان عبارة عن وسيلة للأخذ بيده في طريق الهداية وتجاوز العقبات، وهو ممّا يجعل الإنسان يعرف مكانته الواقعيّة التي هو عليها.
نسأل الله أن يشملنا جميعًا برحمته، وألاّ يحرمنا من ذلك الفهم وتلك البصيرة، وأن يكشف لنا حقيقة الأمر، ويرينا تلك الحالات التي منَّ بها على العظماء والخواصّ من أوليائه.
الّلهمّ صلِّ على محمّد وآلِ محمّد