المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1436
التوضيح
تعرض سماحة آية الله السيد محمد محسن الطهراني في المحاضرة الثانية عشرة من شرح دعاء أبي حمزة الثمالي، في الليلة العشرون من شهر رمضان لعام 1436هـ ق، في ضمن شرحه لقوله عليه السلام: "هبني بفضلك وتصدق علي بعفوك، أي رب جللني بسترك ، واعف عن توبيخي بكرم وجهك" للنقاط التالية: النظرة التوحيدية لعالم الوجود هي الشرط الأساسي في حركة السالك جميع ما في الوجود هو تجلٍ للذات وظهور له تعالى مقام الذات مغاير لمقام الصفات معرفة النفس مقدمة لمعرفة الله وكيفية تحصيل التوجّه إلى النفس بيان مقام الهوهوية الممكنات هي تجلٍ وظهور للباري تعالى لا انفصال بينهما تساوي المخلوقات جميعاً حتى الأنبياء والأئمة في كونها ظهورات للحق تعالى عدم رسوخ العلوم في النفس يجعل من العالم فرعوناً متكبّراً التواضع هو السمة الغالبة على أهل المعرفة، نماذج من حياة الأئمة رزانة شخصية أولياء الله في السراء والضراء ناشئ من عبوديتهم
هو العليم
الموجودات تجلٍ لذات الباري تعالى
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٦ هـ ق - المحاضرة الثانية عشرة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
«هَبْنِي بَفَضْلِكَ وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ؛ أَيْ رَبِّ، جَلِّلْنِي بِسِتْرِكَ، وَاعْفُ عَنْ تَوْبِيخِي بِكَرَمِ وَجْهِكَ»
النظرة التوحيدية لعالم الوجود هي الشرط الأساسي في حركة السالك
تقدَّم الحديث في الليلة الماضية أنَّ الشرط المهم في حركة السالك هو أن يعلم ـ بالطبع فإنَّه سيصل إلى هذا الأمر في المراتب العالية، فالعظماء يلمسون ذلك ويشاهدونه بأنفسهم في تلك الدرجات العليا؛ وهي درجة الاتحاد والورود في حرم الولاية وشهود جريان المشيئة الإلهيّة ـ بأنَّ هناك حقيقة واحدة حاكمة ونافذة في جميع عوالم الإمكان، وتلك الحقيقة عبارة عن ارتباط الماهيات ـ أي ماهية فرضت وبأيّةِ درجةٍ من الدرجات كانت ــ بالله الموجِد لهذه الماهيات، والمعطي لها الوجود والتحقّق. وتلك الحقيقة الربطيّة هي عبارة عن ظهور الأسماء والصفات الإلهية في جميع العوالم الإمكانية باختلاف مراتبها. وبعبارةٍ أخرى، إنَّ الله تعالى في مرتبة الذات هو عبارة عن تلك الحقيقة البحتة والبسيطة التي لا يمكن أن يُتصوّر لها ثانٍ، فحقيقة الذات هي ذاك الوجود البحت والبسيط، والذي يُعبّر عنه بصرف الحقيقة أيضاً، وكذلك يُعبّر عنه بمقام «الهوهوية»، فذلك الـ «هو» عبارة عن مقام الوجود الصرف، بدون أيّ تعيِّنٍ وبدون أيّ نوعٍ من أنواع الظهور.
جميع ما في الوجود هو تجلٍ للذات وظهور له تعالى
لنضرب مثالاً على ذلك، وهو مما نلمسه نحن بأنفسنا: عندما ننظر إلى أنفسنا، فنحن نلاحظ امتلاكنا لصفات مختلفة؛ منها حسن ومنها قبيح. فنلاحظ امتلاكنا للعلم والقدرة، ويمتلك البعض منَّا صفة الجود والكرم، بينما يمتلك البعض الآخر صفة البخل المذمومة، ويمتاز بعضنا بصفة العطف والرحمة، بينما يكون البعض الآخر قاسياً. فالناسُ يختلفون فيما بينهم من صفات، وهم يلمسون هذا الأمر في أنفسهم، بل يمكن للآخرين معرفة ذلك من خلال أفعالهم، فلا يستطيع أحدنا الاطّلاع على صفات الآخر ما لم يصدر منه فعل معين، هذا في الوقت الذي يعرف فيه الرجل بنفسه ما لديه من صفات.
فالخطّاط قبل أن يمسك بالقلم والدواة ويبدأ بالكتابة على الورق ويُظهر موهبته، لا يمكنك أن تميّز بينه وبين الرجل العادي كبائع الخضار مثلاً، لكن ما إن يغمس القلم في الدواة ويبدأ بالكتابة تقول: يا للعجب! أيّ رجل يجلس أمامي الآن، وأيّ خطّاطٍ هذا! عندها فقط ستعلم بأنَّ هذا الرجل خطّاط. وكذلك الأمر مع العالِم الذي يجلس إلى جنبك، فما لم يتفوّه بشيء، تتصوّر أنّه مجرّد رجل عادي، فكلّ ما ترى منه هو العمامة على رأسه والقباء والعباءة، لا تعرف عنه أكثر من هذا، ولكن ما إن يبدأ بالحديث والإجابة على أسئلتك حتى تقول: يا للعجب! أيّ رجلٍ هذا؟ وأيّ بحرٍ موّاجٍ أقابل الآن؟ وكذا الأمر فيما يتعلّق بالرجل القويّ الجالس إلى جنبك والذي لم يصدر عنه أيّ فعل بعد، فتتصوّر بأنَّه مجرّد رجل عادي، لكن ما إن تراه يقوم برفع ثقلٍ يزيد على المائة كيلوغرام، فستقول عندها: يا للعجب! أيّة قوّةٍ يمتلك هذا الرجل؛ وهكذا الأمر فيما يخصّ جميع الأسماء والصفات الأخرى، فلا يمكن معرفتها ما لم تبرز وتظهر إلى العلن.
نحن نعلم إذاً بامتلاكنا لصفات معيّنة، نعلم مثلاً بامتلاكنا للقدرة وإن لم يظهر منّا ما يدلّ عليها.. أفلا يعلم الخطّاط بامتلاكه لموهبة الخط؟! بلى، إنَّه يعلم ذلك وإن لم يشرع بالخط بعد، وبظهور هذه الموهبة منه إلى العلن، سيحصل لنا الاطّلاع عليها، أمّا هو، فيعلم بامتلاكه لها. وكذا الأمر بالنسبة إلى الرجل القوي والعالمِ، فالرجل القوي يعلم بأنَّه قويّ، والعالِم يعلم بأنَّه عالِم وإن لم يتفوّه بشيء. وهكذا الحال مع بقيّة الصفات.
من هنا ورد في الروايات، وعلى ألسنة العظماء النهي عن الاستهزاء بأيٍّ عبدٍ من عباد الله، إذ قد يكون وليّاً من أولياء الله۱! فهل يكتب وليّ الله على جبهته: أنا وليُّ الله؟! فمنْ يعلم أي مقام للرجل الذي يجلس إلى جنبه، أو ذلك الذي يجلس في زاوية ما، وما هو الحال الذي هو عليه؟! لذا يجب على كلٍّ منَّا أن يراعي هذا الأمر وأن يحترم جميع الناس.
مقام الذات مغاير لمقام الصفات
إذاً كلّ واحدٍ من الناس يعرف ماذا يمتلك من الصفات ويلمس ذلك بنفسه، غير أنَّه يعرف في نفس الوقت بأنَّ تلك الصفات غير مستقلّة بنفسها، بل مرتبطةٌ بذاتٍ، فعندما يقول أحدهم: أنا خطّاط، أو أنا قويّ، أو أنا عالِم، أو حيٌّ، أو جوادٌ كريم، أو شجاع، أو أنا أمتلك صفة الرحمة والعطف؛ فما معنى تلك الـ «أنا» عندما يقول القائل: أنا أمتلك هذه الصفة وذلك الكمال؟ وما معنى هذه الـ «أنا» عندما يقول: (أنا صاحب سلطة وقدرة، ألا تعلم مع من تتكلّم؟ نعم! كن على حذر فلعلّك تتعرّض إلى ما لا يحمد عقباه!) أو أن يعمل آخر على تحدّي الغير بما يمتلك من علم؛ وهكذا بالنسبة لبقية الصفات.
فذلك الذي يقول أنا أمتلك كذا وكذا، من المعلوم بأنَّ الـ «أنا» شيء آخر غير العلم والقوة والرحمة والعطف والشجاعة وما إلى ذلك من الصفات؛ وعندما يقول أحدهم أنا فهذه الـ «أنا» تُسمّى بالذات؛ فذاتنا عبارة عن تلك الحقيقة التي ندركها بأنفسنا والتي لا يمكننا أن نضمَّ إلى جنبها أيّ شيءٍ آخر، إذ كلّ شيءٍ يُضمّ إليها يكون خارجاً عنها.
معرفة النفس مقدمة لمعرفة الله وكيفية تحصيل التوجّه إلى النفس
من البرامج التي يُوصي بها العظماء في السير بالنفس والوصول بها إلى إدراك حقيقتها هو التوجّه نحو النفس۱؛ إنَّ لهذا البرنامج درجات متفاوتة؛ لا يمكنني هنا ذكر الدرجات المتقدّمة منها؛ أمّا الدرجة الأولى فهي: أن يجلس السالك في مكان ما فيغمض عينيه أو لا يغمضهما ـ والأفضل أن يغمضهما ـ ويقوم بإبعاد جميع الخواطر عن ذهنه؛ من فعلٍ قام به أو تصرّفٍ تصرّفه طوال اليوم، فعليه أن يطردها من ذهنه كلها[هذا أولًا]، ثم [ثانيًا] يتقدّم إلى الخطوة التالية الأعمق؛ فيقوم بإبعاد نفسه عن التفكير وتذكّر تلك الصفات التي هي سبب القيام بتلك الأفعال؛ كصفة العلم والقوة والرحمة والعطف والشجاعة والعطاء والرقّة والتفكّر والتعقّل، وما إلى ذلك من الصفات الإنسانية، فعندما تخطر هذه الصفات من تفكّرٍ وتعقّلٍ وقسوةٍ وغيرها على الذهن، يجب عليه دفعها عنه؛ ثم يغوص ويغوص في أعماق نفسه حتّى يصل إلى الحدّ الذي لا يرى فيه لنفسه أيّة صفةٍ، فلا يرى لها علماً ولا قوّةً ولا كرمًا ولا تعقّلاً، بل ولا حتّى تفكّراً أو تأمّلاً، فلا يرى عندها أيّ شيءٍ، لا يرى في قبال نفسه أو إلى جنبها أيّ شيءٍ آخر. هذا ما يُطلق عليه اسم التوجّه إلى النفس، وهذه هي أولى الدرجات التي تتبعها درجات أعمق، لم يأتِ الوقت المناسب للتحديث عنها بعد.
في هذه المرحلة تنكشف للإنسان الكثير من الأمور؛ فعندما يصل إلى حقيقة ذاته ونفسه تبدأ نفسه بالتجلِّي له، ويظهر وينكشف له الكثير مما كان خافياً عنه؛ فهذه المرتبة من مراتب النفس تُسمى بالذات، وتُسمى بمقام الـهوهوية؛ فنحن نمتلك مقام الـهوهوية أيضاً؛ فلا تتصوّروا بأنَّ الله وحده الذي يمتلك ذلك المقام، فها نحن نُثبت لأنفسنا أيضاً وجوداً، فنحن قادرون على أن نصنع لنا إلهاً أكبر وأقوى وأقدر ألف مرّة من إله السموات والأرض؛ فنقول: ألم تكن تعلم ذلك يا ربِّ؟!
إنَّه لشعر عجيب جداً ذلك الشعر الذي قاله النظامي۱:
ای هواهای تو هوا انگیز | *** | وی خدایان تو خدای آزار |
ره رها کردهای از آنی گم | *** | عز ندانستهای از آنی خوار |
[يا من اتخذ هوى نفسه آلهةً تُعبد، إنّ آلهة هواك تُسخط عليك الإله
تنكّبتَ عن الدرب للحظة فضللتَ، وجهلتَ العزّ للحظة فلزمتك المذلّة]
ويستمر في قصيدته، وهي قصيدة جميلة حقاً، حتّى يصل إلى هذا البيت:
دِه بود آن نه دِل که اندر وی | *** | گاو و خر باشد و ضیاع و عقار |
[والقلبُ إن كان مشتملاً على الضياع والعقار والحمير والأبقار، فهو مزرعة لا قلب]
[إنَّه ليس بقلبٍ] ذلك الذي يحتوي على البقر والحمير والأشجار والسيارة والمصيف والمشتى والخدم والحشم والعيادة الطبية، والمكتب والدرس والتلاميذ والمسجد والمحراب والمنبر وكلّ شيء آخر، بدلاً من أن يشتمل على الله وعلى المحبوب. نعم، ذلك الذي يشغله كلّ ما تستطيع قوله من رئاسة، وكرسي، ومنضدة، ومنظّمة، وجمعية، ومؤسسة... هل تريدون أن أضيف أشياء أخرى؟ أم يكفي ذلك؟ فهذا ليس في الحقيقة إلا مزرعة مليئة بالبقر والحمير وغيرها من الأمور التي ذكرناها لكم، وليس بقلب.
ده بود آن نه دل که اندر وی | *** | گاو و خر باشد و ضیاع و عقار |
قايد و سايق صراط الله | *** | به ز قرآن مدان و به ز أخبار |
[لا تعدّ القائد والسائق في صراط الله خيرا من القرآن والأخبار].
رحمة الله عليه.
بيان مقام الهوهوية
فمقام «هو» الذي يمتلكه المرء نفس مقام الذات؛ إذ عندما يُدرك الإنسان ذاته مجرّدةً عن العلم والقدرة والحياة.. نعم حتى عن الحياة؛ فعليه ألا يُدرك أنه حيّ، بل عليه أن يتجاوز عن ذلك، ليكون الموت والحياة في هذا الاتجاه وهذا التفكّر والتأمّل لديه على السواء، ولا يلتفت ولا يتوجّه إلى الموت والحياة.. فسيكون هذا المقام مقام هوهوية النفس. ومقام هوهوية النفس هذا هو نفس مقام هوهوية ذات الله؛ فلا وجود للعلم ولا للقدرة لذات الله في مقام هوهويّته ومقام وجوده؛ فلا يمكن أن يتّصف بالقدرة في ذلك المقام؛ فلا وجود هناك للقادر أو العالِم، بل يوجد هناك الله لا غير. فالله العالِم غير الله الرازق، أمّا في ذلك المقام فلا وجود لغير حقيقة واحدة، ولا معنىً لوجود تفاوت واختلاف في المفاهيم أساساً؛ لأنَّ المفهوم مُتولِّد ومُنتَزع عن النعوت، وبما أنّ النعت منفصل عن الذات هناك، وبما أنّ الذات في مرتبة «الهوهوية» أعمق من أن تتّصف بنعوت وصفات، فلا يمكن والحال هذه من أن يُقال: الله العالِم، أو الله القادر، أو الله الرءوف، أو الله القهّار، بل يُقال: الله [فقط]؛ فتلك المرتبة هي مرتبة الهوهوية، ومرتبة الهوهوية هذه هي نفس ذلك الوجود، وهي نفس مرتبة الذات البسيطة.
وما تلاحظونه مما يُذكر في بعض الأماكن من أنَّهم يعتبرون مرتبة الهوهوية مجرّد مرتبة اعتبارية تعقّلية وتصوّرية للذات، فهو محل تأمّل في الواقع؛ بل الصحيح أنَّ الهوهوية هي نفس مرتبة صرف الوجود، لا شيء آخر مما يعتبره المعتبر، فيَعتبر أنّ هناك مرتبة الهوهوية وهي مرتبة لا بشرط، وهي منفصلة ومتمايزة عن مرتبة بشرط لا.
مرتبة الهوهوية هي نفس مرتبة الذات، ومرتبة الذات نفس مرتبة الأحدية ـ لا الواحدية ـ وعليه فمرتبة الذات ومرتبة الهوهوية ومرتبة الأحدية شيء واحد، لا وجود للاعتبار هنا. فالذات هي التي يُنتزع منها الهوهوية، لا أن نعتبر نحن ذلك اعتباراً، ومن الذات نفسها يتم انتزاع صرف الوجود، لا أن نقوم نحن بهذا الانتزاع [بالاعتبار الذهني]، ومن الذات نفسها يتم انتزاع مرتبة الأحدية، لا أن نجعل منها صرف الوجود، بل هو من انتزاع الذات نفسها. فعندما تحقّقت تلك المرتبة من الذات، نأتي لنرى ما هي خواص تلك الذات؟ هل هي ذات عاطلة وباطلة، أم أنَّها ذات شاعرة وعالمة ومدركة وبصيرة وحيّة وقيّومة وقادرة ورؤوفة، وذات تمتلك سائر الصفات الأخرى، إذ هنالك أيضًا الصفات الخلْقية الخاصة بمرتبة الخلق. فعندما ننظر إلى هذه الذات، نراها ذاتاً عالمة؛ أي وجود يترشّح منه العلم، كما يحصل في ترشّح العلم عن الإنسان؛ فأول مرتبة من مراتب ترشّح العلم عن وجود ذات الإنسان التي هي مرتبة هوهوية الإنسان، هي ترشّح علم الذات الحضوري بالذات؛ أي أنَّ أول شيء تشعر به أنت، والذي لا يكون بالتصوّر والإحضار العلمي، بل بالحضور العيني، هو عبارة عن: علم الذات بالذات، وعندما تشعر بوجود نفسك ـ والذي لا يتم بواسطة العلم أو شيء آخر ـ وعندما تشعر بأنّك شخص، وعندما تشعر بأنَّك تمشي على الأرض، وعندما تشعر بأنَّك موجود كبقيّة الموجودات، فهذا هو علم الذات بالذات.
ففي علم الذات بالذات تطّلع الذات على نفسها، لكن ما هو مصدر ذلك العلم؟ إنَّه ناشيء عن ذلك العلم المنتزع من الذات نفسها حيث يحصل له وجود وتحقّق خارجي؛ فذات الله في مرتبتها تكون متمايزة حتّى عن العلم والقدرة وسائر الصفات الأخرى، ولا يعني هذا التمايز حصول انفصال بين هذه الصفات وبين الذات، بل هي متولّدة عن الذات، فلا يمكن لنا أن نجد لحظة واحدة ـ إنَّ استعمال كلمة لحظة هنا غير صحيح ـ بل لا يوجد آن من الآنات أو مرتبة من المراتب يكون فيها ذات الله جاهلاً بنفسه، وأن تفقد الذات مقامها العلمي، فأيّة مرتبة يمكن تصوّرها، لا بد أن تكون مساوية لعلم وقدرة الذات، ومساوية لمقام الرأفة والعطف والرحمة والرزق وجميع صفات الله، فجميع صفات الله متولّدة من الذات وهي عبارة عن ظهور الذات.
الممكنات هي تجلٍ وظهور للباري تعالى لا انفصال بينهما
ولا تعني كلمة التولّد هنا الانفصال، بل تعني الظهور، والظهور غير التولّد؛ فعندما تلد الأمّ طفلها، ينفصل هذا المولود عن أمّه، فينام إلى جانبها، في الوقت الذي تقوم فيه الأمّ بمراقبته ورعايته.. لا معنى لهذا النوع من التولّد في ذات الله، بل يعتبر ذلك من الشرك والكفر. فعندما يُولد الطفل من أمّه، يكون للأمّ اسم وللطفل اسم مختلف، ويكون لكلّ منهما مكانه الخاص به، أمّا ما يتعلّق بذات الله، فالآية الكريمة تقول: {لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ ، وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}۱. فنفي الولادة المشار إليها في لمْ يَلِدْ تعني عدم حصول انفصال وجود عن وجود آخر؛ بحيث تكوّن هذا الوجود الجديد وانفصل عن الأصل. وعبارة لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ تعني لا هو يلد بحيث ينفصل عنه الخلق بطريقة الولادة، ولا يكون وُلِد هو من موجود آخر.
بناءً على هذا، فإنَّ ظهور جميع مخلوقات الله عنه يكون بمعنى تشكّل وتشخّص وتعيِّن شيء معيّن بالشكل الذي يكون فيه هذا الشيء الجديد، بما لا يقبل الانفكاك والانفصال والافتراق والتمايز المكاني والزماني عن الأصل.
انظروا إلى يدي هذه، فيدي عبارة عن مجموعة من العظام واللّحم والأعصاب وما إلى ذلك، عندما نقول بأنَّ لفلان من الناس يدين، فما الذي يخطر على بالكم عند سماعكم لهذه الجملة؟ هل ستحضر في أذهانكم صورة ليدٍ مقبوضةٍ؟ أم ليدٍ مفتوحة الأصابع؟ أم ليدٍ مضمومة الأصابع؟! لن تحضر في الذهن أيّة صورةٍ من هذه الصور. فعندما يُقال: رجلٌ له يدان، فلن يتم تصوّر يدٍ مقبوضةٍ ولا مفتوحةٍ ولا مضمومة الأصابع ولا أيّة حالة أخرى لها، بل سيتم تصوّر حالة مبهمة لليد تنطوي على جميع تلك الأشكال، فهذه هي التي تُسمى باليد. ومع ذلك، هذه اليد إن ظهرت أمامك، فلا بدَّ أن تظهر بشكل معين؛ فانظروا إلى يدي الآن، فأصابع يدي الخمسة مفتوحة الآن، فهل ستخرج يدي في حالتها هذه عن كونها يداً أم لا؟ حتماً لن تخرج عن كونها يداً، فهي نفس اليد وقد ظهرت الآن بهذا الشكل، وها أنا أضمّ أصابع يدي إلى بعضها، فهل خرجت يدي عن كونها يداً؟ كلاّ، بل لا تزال يداً، وها أنا أثنيها الآن، والحال أنّها لا تزال يداً، وها أنا أقبضها، وهي لا تزال يداً أيضاً، وها أنا أضمّ أصبعين منها إلى بعضهما، وأفتح الثلاثة الأخرى، أو أضمّ أربعة منها إلى بعضهم وهي لا تزال يداً، وهكذا.. فمن الممكن أن أجعل يدي هذه تأخذ عشرين أو ثلاثين صورة مختلفة، دون أن تخرج عن كونها يداً، مع أنّها قد أخذت لنفسها أشكالاً مختلفة.
عندما يريد أحدكم أن يضرب خصمه ويلصقه بالجدار، فهو لا يضربه بيدٍ مفتوحة، بل يضربه بقبضة يده، بل قد يستخدم آلة حديدية يضمها إلى قبضته لتكون الضربة قاضية، فيُلصق خصمه بالجدار بحيث لا يُبقي له أثراً، فهو لا يضربه بيدٍ مفتوحة الأصابع. أمّا عندما تسبح في المسبح أو في البحر، فلا تسبح وكفّ يدك مقبوضة، إذ لن تنفعك يدك عندها بشيء، بل لا بدّ أن تفتح كفّك بحيث يكون محدّباً من الخارج بعض الشيء لكي يساعدك ذلك على دفع الماء عند تحريك يدك إلى الخلف، لذا لا تجعل يدك مقعّرة قائلاً: يعجبني أن أسبح بهذا الشكل؛ لأنَّك إن فعلت ذلك، فسوف تغرق في الماء دفعة واحدة. فهذان مظهران مختلفان لكفّ اليد، ولكلّ منهما ميزته الخاصة به. وكذا عندما تريد أن تضرب جسماً لقطعه إلى نصفين، لا تضربه بشكل أفقي؛ لأنَّ ذلك سيسحقه، بل تضربه بشكل عمودي. في جميع هذه الحالات، اليد هي نفس اليد غير أنَّها ظهرت بأشكال مختلفة، يكون لكل شكل من هذه الأشكال ميزته وظهوره ونوعه الخاص به المختلف عن غيره.
فكيفية ارتباط جميع الخلائق بالله على مثال هذه اليد، لا أعتقد أنَّه بإمكاني أن أضرب لكم مثالاً يقرّب المعنى إلى الأذهان بوضوحٍ أكثر من هذا المثال، فجميع الخلائق هي بحكم هذه الأشكال المختلفة لكف اليد، والتي هي ظهور لأمر واحد؛ فعندما أقبض كفي، لا يقول أحد بأنَّ هذه ليست بكفٍ بل هي قبضة، بل يُقال: إنَّ كفّه أصبحت على شكل قبضة، فتقول: هذه "كفُّهُ"، وهذا يعني بأنَّها هي ذات الكف ظهرت الآن بهذا الشكل، وعندما تكون أصابع الكف مفتوحة، فسيُقال عندها بأنَّ الكف قد ظهرت بهيئة خمسة أصابع مفتوحة، إذ هي لم تنفصل عن الكف، ولم يتم سلب اسم الكف عنها؛ أتلاحظون؟!
فلمّا كانت جميع الخلائق عبارة عن ظهور لله، وقد ظهرت بهذه الأشكال، فسنعرف بأنَّ الأمر ليس من قبيل الولادة وكما يحصل مع الطفل الذي يخلقه الله؛ بحيث يكون الخلق في جانب ويكون الله منفصلاً عنهم جالساً على عرشه؛ ﴿الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى﴾۱؛ فيكون الله قد جلس على عرشه، بينما وقع خلقه في بعضهم البعض يضرب أحدهم الآخر على رأسه، فهذا يضرب ذاك بصاروخ، ويردّ عليه الآخر بقنبلة، ويقوم الثالث بعمل آخر، وهو جالس في مكانه يتفرّج عليهم.. كلا يا عزيزي! بل جميع هذه الخلائق عبارة عن ظهور لله؛ مثلهم في ذلك مثل هذه اليد.
تساوي المخلوقات جميعاً حتى الأنبياء والأئمة في كونها ظهورات للحق تعالى
بناءً على هذا، فهل يمكننا والحال هذه أن نفرّق بين النبي والإمام من جهة ـ عليكم التدقيق فيما أريد أن أطرحه عليكم ـ وبين سائر المخلوقات من جهة أخرى؟ كلاّ، لا يوجد أيّ فرق بينهما، فما هو وجه الاختلاف بينهما؟! هل يمكننا أن نقول: بما أنَّ رسول الله يمتلك ذلك المقام الشامخ، لذا سيكون له حكم آخر وهو مستثنىً من بقية الخلق؟ ثم نلحق برسول الله بقيّة الأئمة، ولكن بدرجة أدنى من درجة النبي، فنعزل هؤلاء الأربعة عشر عن بقية خلق الله، ثمّ نأتي إلى بقية الخلق فنجعل لهم حكماً آخر؛ فهم مخلوقات ممكنة وماهيّات، وتعلّق الوجود بها، وهم في مرتبة أدنى.
وأما النبي والأئمة ففي مرتبة أعلى بحيث لا يمكن القول عنهم بأنَّهم هم الله، ولا يمكن القول عنهم بأنَّهم من الماهيات الممكنة والأشياء الخارجية، بل يحتلّون مرتبة وسطيّة، وهذا هو ما ذهبت إليه فرقة الشيخيّة۱. لذا يُعتبرون من هذه الناحية من المنحرفين عقائدياً، فهم من المبتلين بهذا الأمر، بل ابتلي بهذا الأمر الكثير ممن أرادوا المحافظة على مقام أهل البيت والولاية، فقاموا ـ ومن غير أن يلتفتوا ـ بتخريب كلّ شيءٍ. كلاّ يا عزيزي، فلا وجود لأيّ فرقٍ في ظهور الذات في الأشياء والخلائق والممكنات والماهيات، فجميع الخلائق هي عبارة عن ماهيّات إمكانية تمثّل ظهور تلك الحقيقة، ولا تفاوت بين ممكن وآخر من هذه الناحية. نعم، من الممكن أن يكون وجودٌ ما من ناحية سعته الوجودية وفي مرتبته الوجودية المتقدّمة علّة لوجود آخر، ولا ضير في ذلك من هذه الناحية، غير أنَّ ذلك لا يجعله مستثنىً من تلك القاعدة من كونه مرتبطًا بذات الله؛ فالجميع يخضع لتلك القاعدة.
عندما يناجي الإمام السجّاد عليه السلام الله قائلاً: منْ أكون يا ربّ لكي أرى لي وجوداً مستقلاً، إنَّما يقول ذلك ناظراً إلى هذه المرتبة. فالإمام يرى نفسه ماهيةً قد تجلّى فيها ذلك الوجود البحت والبسيط؛ وهو وجود الحق تعالى، حيث ألبسها لباس الخلق، ذلك اللباس الخلقي والبشري. أمّا تلك الحقيقة الواقعيّة التي هي عبارة عن ظهور الحقّ وتجلّيه، فهي تمثّل كلّ شيء، فكلّ ما هنالك هو الوجود؛ فعندما يقوم ذلك الظهور بتحقيق تلك الماهية وإيجادها، فلا يمكن للماهية والحال هذه أن تتباهى بنفسها وتتفاخر وتقول: أنا الذي تمايزت واختلفتُ عن الآخرين، فأنا صاحبة هذا الامتياز! لماذا؟ لأنَّ الفضل في ذلك يعود إلى نفس الظهور، لا إلى الظاهر، وإلى التجلّي لا إلى المتجلَّى فيه؛ فذلك التجلِّي هو الذي جعل المتجلَّى فيه يظهر بهذا الشكل وبهذه الخصائص وبهذه الكيفية.
إنَّ إدراك الإمام عليه السلام لهذه المسألة أكثر من إدراك جميع الناس؛ وذلك لأنَّ الإمام قد عرف حقيقة الأمر، ولهذا السبب نرى أنّه كلّما ازداد علم الإنسان وإدراكه لحقائق عالم التكوين وعلمه بعالم الوجود، كلّما كان تحقّقه بمقام العبودية والذلّة والمسكنة والخضوع والخشوع أكثر من سائر الناس.
عدم رسوخ العلوم في النفس يجعل من العالم فرعوناً متكبّراً
لذا ترى البعض، مع دراستهم للعلوم الدينيّة ومع كونهم من العلماء ومع كون معرفتهم بهذه الأمور ليست بالقليلة نسبياً، لكن عندما تتحدّث معهم لا تشاهد فيهم من آثار تلك العلوم شيئاً، بل ترى فيهم التكبّر والتفرعن والأنانيّة، وترى أنّ لديه نفساً وشخصانية، ويتعامل وكأنّه هو صاحب الأمر والنهي. وهذا الأمر إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على عدم وصولهم إلى حقيقة هذه المسائل التي درسوها، بل اطلعوا على بعض المعلومات لا غير في هذا الميدان، دون أن تؤثّر تلك العلوم في نفوسهم وتترسّخ وتتجذّر وتتعمّق فيها. وكلّما ازداد اطلاع الإنسان على تلك المعارف، ازداد خضوعه وتواضعه وإحساسه بالذلّة في نفسه أكثر.
إن هذه المسألة ليست أمراً اعتبارياً، [بل هي أمر واقعي] ويستطيع أحدنا مشاهدة ذلك بنفسه، فبمجرّد إلقاء نظرة على الشخص المقابل يعرف إن كان الرجل من المدّعين، أم أنَّه من أهل المعرفة وممنْ ينطوي وجوده على معارف حقّة. نعم، يستطيع معرفة ذلك من النظرة الأولى، فإن لم يتمكّن من معرفته من تلك النظرة، يتمكّن من ذلك بالاستماع إلى كلامه لمدة دقيقتين أو عشرة دقائق، عندها سيعرف أيّ رجل يقابل.
لذا نرى أنَّ الأئمة عليهم السلام يدعونا إلى متابعة أولئك العلماء الذين ترسّخت في أنفسهم تلك الحقائق، لا أولئك الذين تعلّموا علوماً لنقلها إلى الآخرين، وهذا ما نراه في الرواية المنقولة عن الإمام العسكري عن الإمام الصادق عليهما السلام حول العلماء. كما توجد روايات كثيرة عن أمير المؤمنين والإمام السجّاد عليهما السلام في هذا المجال۱؛ حيث نراهم يدعون إلى مجالسة العالم الذي يُذكِّركُم الجنّة٢، لا الذي إذا جلست إليه، فلن تسمع منه إلاّ المديح لنفسه! فمتى تُذكِّر الجنة مجالسة عالمٍ كهذا؟! لا تسمع في مجالسه سوى الحديث عن نفسه وعن أموره الخاصة به! فكيف يُذكِّر هذا الرجل جليسه بالجنّة؟! مهما كان ما يدّعيه، ومهما كانت لحيته طويلة، فذلك لا يُجدي نفعاً. نعم، إنَّ العالِم الذي يُذكِّر الجنّة هو العالم الذي تشعر منه بالخضوع والخشوع عندما يتكلّم.
ذهبت يوماً لمقابلة أحد عباد الله ـ وقد ارتحل عن الدنيا ـ فصافحته وفقاً للمتعارف وجلست، ولم أقبّل يده، فما الذي يحصل إن لم أقبّل يده؟! فهل يتوجّب عليّ تقبيل يده؟! وكنت أحمل إليه رسالة، فسلمّته الرسالة وقلت له: إنَّ هذه الرسالة مرسلة لكم؛ فرأيتُ بأنّه لم يرفع رأسه لينظر إليَّ أبداً، بل أخذ ينظر أمامه؛ فقلت له: هل لاحظتم بأنَّ الرسالة مرسلة إليكم من قِبَل... فقال: نعم، نعم علمت ذلك! فقلت له: أردت أن أبيّن لكم ذلك لكي تهتموا بأمرها، فستقرؤونها إن شاء الله، وتبدون ملاحظاتكم بشأنها إن كان لديكم ملاحظات؛ هل لديكم أمر آخر تودون التفضّل به؟ فنهضت وخرجت.
ليس مطلوباً من أحدهم أن يُبدي الكثير من التواضع، فقد دخلتُ وسلّمت عليك، وكان عليك أن ترفع رأسك لتنظر إليَّ على الأقل؛ [وليس صحيحاً] أن يتصرّف المرء بهذا الشكل، وإلا فما دام الأمر كذلك، فأنا أعرف كيف أتصرّف معك في المقابل، سأقوم بتسليمك الرسالة بدون أن أنظر إليك.
التواضع هو السمة الغالبة على أهل المعرفة، نماذج من حياة الأئمة
لقد كان العظماء من أهل المعرفة والأولياء الإلهيين، ليس أولئك فقط، بل حتى الرجال الآخرون من أهل الصلاح والعلم والتقوى، عندما كان يأتي شخص ليُسلِّم عليهم، كانوا يردّون عليه السلام ويُلاطفونه قائلين: أهلاً وسهلاً بكم، كيف حالكم، تشرّفنا برؤيتكم، تفضّلوا، فهل لكم من حاجة؟ فليس من الصحيح أن يجلس أحدهم ونظره إلى الأرض! فإن قيل له: هذا ما جئت به؛ قال لك: حسناً، ضعه هنا.
يقول الإمام عليه السلام: عليك بمجالسة العالِم الذي إن جالسته ذكّرك الجنّة، فأصحاب الجنّة هم أهل المعرفة والابتسامة والوجه المنشرح وأهل التعامل الصحيح والتواضع، والذين تكون العبودية ظاهرة في كلّ وجودهم من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم، وعندما تجالسهم تلمس منهم ذلك واقعاً، أولئك هم أهل الجنّة. يقول الإمام هنا: عليك مجالسة هذا الصنف من الناس ومخالطتهم ومصادقتهم! نعم، عليك مخالطة هذا النوع من الناس من الذين تلمس منهم كلّ ذلك عند مجالستهم.
كيف كان أمير المؤمنين يتعامل مع الآخرين عند اختلاطه بهم؟ لقد كان يُمازحهم إلى الحدّ الذي قال عنه الخليفة الثاني: رجلٌ فيه دعابة۱، ولا ينبغي لحاكم المسلمين أن يُمازح ويضحك، فكيف يجب أن يكون إذاً؟! عليه أن يعبس بوجه الآخرين ويُنكِّس رأسه إلى الأرض ويُقطّب حاجبيه؛ أي يجب أن يكون مثله ـ أقصد الخليفة الثاني ـ فهكذا يجب أن يكون الحاكم؟!
اضحك ومازح يا هذا، فلن يضرّك ذلك شيئاً، فو الله لن ينقص منك شيء، اضحك ومازح الناس وخالطهم وتحدّث إليهم واستأنس بهم!
كان الإمام الحسن يسير يوماً، فمرَّ على عدد من الفقراء جالسين يتناولون الحساء، فقالوا له: تفضّل وتناول معنا من هذا الطعام، فنزل الإمام عليه السلام عن حصانه وجلس معهم على تلك المائدة. فما الذي يعكسه هذا؟ لا يحتاج المرء إلى التحدّث معه لكي يتمكّن من معرفة شخصيته، بل يكفيه أن يقوم بإلقاء نظرة واحدة عليه ليعرف ذلك، فمن ينظر إلى مظهر الإمام الحسن سيقول: هذا الرجل يختلف عن غيره من الناس! فهل كان معاوية أو يزيد يفعل مثل ذلك؟ وهل كان هارون أو المأمون يفعلون ذلك؟ هل كانوا يجلسون مع الناس ويتعاملون معهم بهذا الشكل؟ أم أنّهم كانوا إذا عبروا من مكان ما، كان يتقدّمهم فرقة من رجال الجيش! ما الذي يجري؟ إنَّ الخليفة يريد أن يعبر من هذا المكان! إن كان الخليفة يريد أن يعبر من هذا المكان، فليعبر تبّاً له.. بل ترى جماعة تتقدّمه وأخرى تتعقّبه، ويراقب القسم الآخر سطوح البيوت المطلّة على الطريق لئلاّ يقوم أحدهم بإلقاء الحجارة عليه، فيتسلّق الجنود سطوح البيوت مسلّحين بالسهام والأقواس، كما تقوم مجموعة أخرى بحراسة الجانب الآخر. يا أخي ما الذي يجري؟! إنَّ الخليفة ينوي العبور من هذا المكان! فليعبر إذاً، لا حاجة له بكلّ ذلك؛ فهل كانت فرقة من رجال الجيش ترافق الإمام الحسن في مسيره؟! وهل كان هنالك من يتولّى حراسته؟ وهل كانوا مجهزين بالأقواس والسهام والنبال لكي لا يمسّه سوء؟
عندما كان أمير المؤمنين يهمّ بمغادرة بيته ليلة التاسع عشر من رمضان، كان الإمام الحسن والإمام الحسين قد استشعرا وجود خطر على حياته، فقالا له: نريد مرافقتك يا والدنا العزيز، فقال لهما: لماذا؟ فإمّا أن يكون أجلي قد حان أو لا! انصرفا إلى أعمالكما؛ فإمّا أن تكون ساعة موتي قد حانت أو أنَّها لم تحن بعد. هكذا كان إمامنا، حيث لم يسمح لولديه بمرافقته إلى المسجد، بل قال: لو أنَّ أوان موتي قد حان، فلو اجتمعت السموات والأرض على منعه لما استطاعت ذلك، وإن لم يحنْ، فلماذا ترافقانني إذاً؟
وكيف كان الإمام الحسين أو الإمام السجّاد أو الإمام الجواد يتصرّف؟ وكيف يتصرّف الآن الأولياء الإلهيين والعرفاء ـ نعم، الأولياء الإلهيين والعرفاء لا الناس العاديِّين من المدّعين ما ليس فيهم ـ عندما كان المرحوم العلاّمة يذهب إلى الحرم، فعندما كان يُلاحظ بأنَّ أحدهم يرافقه، كان يتوقف ويقول له: تفضّل، هل تريد شيئاً منّي؟ فإن كان لديك شيء تريد أن تقوله، فقله الآن، فأنا أريد الذهاب إلى الحرم بمفردي. فترى الرجل يقفز مترين إلى الوراء، لذا لا يلزم من يريد الذهاب إلى الحرم أن يحيط نفسه بخمسين رجلاً! فإن كان يريد زيارة الإمام الرضا، فلماذا يقوم باصطحاب خمسين رجلاً معه؟ فما الذي يريد أن يقوله للإمام الرضا بعمله هذا؟ فهل يريد أن يقول له: ها قد جئتك مع خمسين رجلاً، فتفرّج على موكبي هذا؟ لو قال ذلك، لقال له الإمام الرضا: اذهب إلى حال سبيلك يا هذا! فلديّ الكثير من الزائرين هنا، دعني استقبلهم، ثم سأستقبلك بعد ذلك إن سنح لي الوقت. إنَّ الإمام الرضا يريد منك عندما تذهب لزيارته، أن تذهب بمفردك، وأن تُغطّي رأسك بعباءتك لكي لا يتمكّن أحدهم من التعرّف عليك؛ لا أن تذهب للزيارة فتُسلِّم على هذا وذاك، وتلتفت يمنة ويسرى لتسلم على الناس، بل انظر أمامك حتى لا يضرب رأسك بالجدار، فها أنت ومنذ دخولك الحرم وأنت تُسلِّم على هذا وذاك.
رأيت أحد عباد الله وهو ينظر إلى كلّ شيء ـ باعتقادي ـ سوى الإمام الرضا؛ وكان يُسلّم على من يقابله، حتّى إذا أصبح على مقربة منِّي، استمررت في طريقي غير مبالٍ به، فلم يعجبه ذلك! يا عزيزي أنت تُسلِّم على كلّ من تمرّ به ما عدا الإمام الرضا، توقّف قليلاً، واقرأ إذن الدخول، فأنت داخل إلى الحرم! وهل الحرم مثله مثل الأماكن الأخرى؟! فإنَّ كنت تتصرّف في كلّ مكان بذلك النحو، فهل تتصرف في الحرم كذلك؟! لماذا تفعل ذلك هنا أيضاً؟! فإن هذا المكان هو حريم غيرة الله، وهنا يرقد وجيه العالم؛ فاستحِ يا هذا! فهل يمكن لأحد ورود حريم السلطان وهو لا يراعي الآداب الخاصة بذلك المكان؟! لو فعل ذلك، لضُرب عنقه وذهب إلى قعر جهنّم؛ فهل يستطيع أحد أن يُقدِم على شيء كهذا؟
يُعلّمنا الإمام عليه السلام هنا كيف يجب أن تكون رؤيتنا للعالِم، يقول: أيّها الناس، إنَّ جميع الخلق ابتداءً منِّي أنا الإمام السجّاد وأجدادي، وجدِّي خاتم الأنبياء، وجميع أبنائي وإلى آخرهم ابني إمام الزمان ــ أرواحنا فداه والذي يدير جميع ما سوى الله من عوالم الملك والملكوت بإدارة واحدة كخاتم في اصبعه ــ فكلّ العالم يكون مقابل الله صفراً، إذ كلّ ما في عالم الوجود عبارة عن ظهور الله، لذا عليكم النظر إلى هذا الظهور لا إلى ذاك المظهَر الذي تجلّى فيه الظهور؛ فعندما تنظر إليَّ أنا الإمام، يجب أن يكون نظرك متوجّه إليه تعالى، وعندما تراني أقوم بعمل خارق للعادة، عليك أن تعرف بأنَّه هو الذي يقوم بهذا العمل الآن، وعندما تراني أنا صاحب الولاية أدير جميع هذه العوالم، فعليك أن تعرف بأنَّه هو الذي يُديرها الآن. من هنا نلاحظ بأنَّ الإمام يوجّهنا باتجاه تلك الحقيقة، لا باتجاه نفسه.
بينما ترى أهل الظاهر يدعون الناس إلى أنفسهم، فتراهم يقولون: انظر إلى الآثار التي تركتها خُطبتي التي ألقيتها على الآخرين، أو كتابي الذي ألفته، فكم هو رائع ذلك الكتاب الذي ألفته، وتراهم يكتبون في المواقع الإلكترونية هذه الأيام عن كتاب فلان من الناس، فيقول: الحمد لله لقد شملني التوفيق الإلهي! يا عزيزي إن كنت تعلم بأنَّ ذلك كان بسبب التوفيق الإلهي، فلماذا أنت سعيد إلى هذا الحدّ، وإن كان ذلك بسبب التوفيق الإلهي، فعليك ألاّ تحزن إن جرت الأمور على خلاف المرام في القضية التالية.
رزانة شخصية أولياء الله في السراء والضراء ناشئ عن عبوديتهم
لقد كان حال أمير المؤمنين بعد انتصاره في معركتي الجمل والنهروان لا يختلف أبداً عنه بعد معركة صفين التي خسرها، فلم يتزعزع موقفه أبداً. بل كان هادئاً كهدوء الماء في الإناء الساكن، لكن كيف يمكن أن يحصل ذلك بعد حرب استمرت ثمانية عشر شهراً في ذلك الحرّ والبرد؟! لقد زرت تلك المنطقة الواقعة في محافظة الرقّة ــ والتي تسيطر عليها الجماعات التكفيرية حالياً ــ صيفاً حيث كان صيفها شديد الحرارة، كما زرتها شتاءً وكان شتاؤها بارداً جداً ينزل فيه الثلج.. نعم لقد استمرّت تلك الحرب لمدّة ثمانية عشر شهراً جرى فيها قتال شديد، فلا يُمكن أن يُتوقّع توزيع الحلوى في الحرب، بل هنالك ضرب السيوف والسهام والرماح ورمي الحجارة. ثم ذهبت جهود تلك الثمانية عشر شهراً من الحرب في مهب الرياح بحيلة من الملعون عمرو بن العاص، وعاد أمير المؤمنين وبكلّ بساطةٍ إلى مكانه السابق لإقامة الصلاة في مسجد الكوفة، فلم يحصل أيّ تفاوتٍ في حال أمير المؤمنين نتيجة لذلك أبداً، لماذا؟ لأنَّه لا يرى نفسه سوى ذلك الظهور، فالوجود له وحده؛ أمّا ما يُشاهد في العالم من حركة وسكون فيراه منه، إنَّه يرى ذلك عياناً ووجداناً وشهوداً ويلمسه بنفسه؛ لا أنه يتصوّره تصوّرًا كما يحصل معنا؛ لذا تراه يمتلك شخصية رزينة ثابتة.
كذلك شخصيّة أولياء الله شخصيّة ثابتة، طبعاً هو في الظاهر يتحرّك ويأمر وينهى ويقول: قاتلوا، اضربوا، قوموا، اجلسوا، افعلوا كذا وكذا، فهو لا يعتزل الناس في بيته ويقضي وقته بالنوم، بل تراه يتحدّث ويحثّ الناس ويكتب ويخطب ويأمر وينهى، ويكون عنده مكتب ومجموعة وتشكيلات.. وهذا كلّه في محلّه، أمّا في الباطن فأمره ثابت وهادئ. أرأيتم كيف تظهر الإشارة على الشاشة حين تخطيط القلب، وعندما يتوقّف القلب عن النبض؟ إنَّها تظهر على شكل خطٍّ أُفقيٍّ مستقيم، فهذا يدلّ على توقّف القلب، وقبل التوقف كان هناك تذبذبات تظهر على الشاشة، أمّا عندما يتوقف القلب عن النبض، فيظهر على خطٍّ مستقيم؛ لا تستطيع أن ترسم خطّاً مثله وبتلك الدقّة، ولو بمسطرة. إنّ حال أولياء الله في تقلّبات الحياة اليومية لديهم هي مثل ذلك الخط المستقيم الذي يظهر على الشاشة عندما يتوقّف القلب عن العمل، فيكون حاله مستقراً لا تذبذب فيه، أمّا من حيث الظهور الخارجي فالأمر مختلف؛ وأما ما يجري في الباطن، فذلك أمر آخر.
كان في نيتي أن أتحدّث الليلة عن ليلة القدر، غير أنَّ الحديث قد أخذ مجرىً آخر، فقد نسيت ذلك حقاً واستمررت في حديثي في شرح دعاء أبي حمزة، إذ كان في نيتي أن أتحدّث حول ما سأل عنه الكثير من الإخوة حينما قالوا: ما دامت ليلة القدر هي ليلة الثالث والعشرين من الشهر، فلماذا نقوم بإحياء ليليتين أخريين؟ وما هو حكم الليالي الواقعة بين ليالي القدر، وما الذي ينبغي عمله فيها؟ فربما سأتحدّث عن هذا الموضوع في الليلة القادمة إن شاء الله؛ على أنَّ الإخوة كانوا قد تحدّثوا عن خصوصيات ليالي التاسع عشر والحادي والعشرين والثالث والعشرين، وربما أكمل هذا الحديث في الليلة القادمة عن خصوصيات ليالي التاسع عشر والحادي والعشرين.
يبدو أنَّني تحدّثت عن هذا الموضوع في العام الماضي أو الذي قبله، وأتذكّر بأنَّني قلت بأنَّ ليلة القدر هي أمر مستمر.. هكذا كنت قد شرحت الموضوع، وسأقوم بشرحه بشكل موجز مجدّداً فأقول: إنَّ أمر ليلة القدر هو أمر مستمر يبدأ من ليلة التاسع عشر وما قبلها ويستمرّ حتّى يكون ختامه في ليلة الثالث والعشرين. أعتقد بأنَّ الإخوة يتذكرون بأنَّني كنت قد تحدّثت عن هذا الموضوع، وعلى أيّة حال، سأقوم بالحديث عن هذا الموضوع في الليلة القادمة بشكل مجمل إن شاء الله.
نسأل الله أن يوفقنا ببركة هذه الليالي المباركة والمتعلّقة بصاحب الولاية أمير المؤمنين عليه السلام.. وإنَّه لأمر عجيب حقاً! فكيف ينبغي أن تكون ضربة أمير المؤمنين في ليلة التاسع عشر وليس في ليلة الثامن عشر، وكيف تكون رحلته عن الدنيا في ليلة الحادي والعشرين والتي هي إحدى ليالي القدر، وهي مقدّمة لليلة الثالث والعشرين؟! ففي ذلك الكثير حيث كنَّا نسمع أحياناً أشياء عنه من العظماء.
نسأل الله أن يزيد من فهمنا وإدراكنا لهذا الأمر، وأن يهدينا ببركة ومواهب هذه الليالي المباركة المتعلّقة بالولاية، وأن يسقينا من ذلك الماء المعين الذي خصّ به الخواصّ من أوليائه.
الّلهمّ صلِّ على محمّد وآلِ محمّد