المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1432
التوضيح
وهي المحاضرة الثامنة من محاضرات شرح دعاء أبي حمزة الثمالي التي ألقاها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني قدس سره في مدينة قم المقدسة في الليلة الثانية عشر من ليالي شهر رمضان المبارك، وقد تناول فيها مواضيع عدة أهمها: ضرورة تغليب الرجاء والأمل على اليأس والقنوط، والحمل على الأحسن، والابتعاد عن الجدل والإصرار على طرح الرأي، بل الجدال بالتي هي أحسن، وضرورة نقل التاريخ كما هو للأجيال، مشيراً إلى أن بعض الأعمال تغير مسار الإنسان ومصيره، مؤكداً على عدم وجود التملق والنفاق في شخصية المؤمن، وضرورة إلقاء السلام بالشكل الطبيعي المتعارف، وعدم جواز تكريم من لا يستحق التكريم، وعرض الرؤيا على من دأبه التفاؤل بالخير لا من دأبه التطيّر، ووجوب الصبر على الابتلاء وعدم الشكوى، خاتماً ببيان الفرق بين شخصية السيد الحداد وبين خصومه
هو العليم
تغليب الأمل على اليأس
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٢ هـ ق – المحاضرة الثامنة
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
اللهم صل على محمد وآل محمد
واللعنة على أعدائهم أجمعين
تغليب الرجاء والأمل على اليأس والقنوط
«وقد رجوت أن لا تخيب بين ذين وذين منيتي فحقق رجائي واسمع دعائي يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج».
تقدم الكلام بأنّ الإمام السجّاد يبين في هذه الفقرات دستوراً سلوكياً ويكشف عن طريق عملي في التعاطي مع ربه، وهو عبارة عن غلبة الأمل والرجاء والبشارة ورحمة الله تعالى على اليأس والقنوط والتهاون وإظهار المذلة، فعلى الإنسان أن يكون أمله هو الغالب في التعامل مع الله تعالى، فقد وسعت رحمته كل شيء؛ «اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء»، يجب أن يكون أمل الإنسان برحمة الله أملاً كبيراً، ولا يجعل هذا الأمل يذهب نتيجة أعماله وتصرفاته.
ضرورة الحمل على الأحسن
ذكرنا بالأمس أن الأفراد في هذه القضية مختلفون؛ فبعضهم يغلب عليهم جنبة اليأس، فعندما يتحدث الإنسان إليهم يظهر عليهم حالة اليأس ويغلبونها، يقولون: لا تصير هذه الأمور.. لا فائدة من هذا العمل.. لا تضيع وقتك بمتابعة تلك المسألة.. فالحديث الغالب على لسانهم كلمة "لا"، وهم يتحركون منذ البداية نحو اليأس.. وكذا الحال في مسألة سوء الظن؛ حيث يغلب عند بعض الأفراد سوء الظن على حسن الظن، فهم يسيئون الظن بالناس.. وإذا هُدي أحدهم هدية يقول لا شك بأن أمراً ما وراء هذه الهدية، وأن هناك ضرباً من ضروب الاحتيال يريد صاحب الهدية أن يمرّره.. لا يقول بأن صاحب هذه الهدية يريد أن يؤاخيني، أو يريد أن يظهر محبته اتجاهي. وعندما يمدحه صاحبه يقول لا شك بأن هناك غرض وراء هذا المدح، فأنا لا أستحق هذا المدح وهكذا... هل رأيتم مثل هؤلاء؟ لقد شاهدت الكثير منهم، فبمجرد أن يشاهدوا عملاً أو يسمعوا كلاماً من أحدهم يسعون دائماً إلى وضع احتمال سلبي وجهة سلبية لذلك، ويعملون على تكدير الفضاء والمناخ الروحاني والنوراني الذي ينتج عن هذا العمل، ويحولونه إلى فضاء ظلماني ومكدر..هذا العمل غير صحيح أبداً، بل حتى لو كان هناك احتمال خلاف فلدينا أمر بأن لا نطرح هذا الاحتمال السيئ، بل نحاول أن نحمله على الأحسن دائماً، إذ لعل نفس طرح هذا الاحتمال الحسن يغيّر الوضع، حتى وإن كانت نية الشخص نية سيئة، لكن إذا كان من عادة الإنسان الحمل على الأحسن دون أن يطرح الاحتمال السيّئ، فسوف تأتي الأمور دائماً على الأحسن.. ولن يخسر شيئاً بذلك، ولن يتعرض لأي مشكلة جراء هذا الحمل، فإذا تعود الإنسان على هذا النمط من الحمل على الأحسن دون الحمل على الأسوأ.. فسوف يترتب عليه من الناحية النفسانية والاجتماعية الكثير من النتائج الإيجابية، ولدينا الكثير من النماذج التي تؤيد ذلك.
في زمن المرحوم العلامة نقل أحد الأفراد أمراً عنه، وعندما نقل أحدهم هذا المطلب للمرحوم العلامة قال له: لعل مراد ذاك الشخص غير ذلك.. فلم يحمل الأمر على الأسوأ، بل حمله على الأحسن وقال لعل مراده هذا، ولم يترك فرصة للناقل بالاعتراض عليه وإثبات أن نية ذاك الشخص خلاف الأحسن وأنّ نيّته سيّئة و... .
الجدل والإصرار على طرح الرأي موجب لتوهينه
حيث نرى بعض الأشخاص عندما يصلون إلى أمر معين يبقون يصرون على رأيهم وما توصلوا إليه بأي شكل من الأشكال.. يا أخي لقد ذكرت رأيك مرة واحدة، وهذا يكفي، فإن قبل الطرف المقابل فبها، وإلا فاتركه وشأنه.. كلا بل يأتي ويصرّ بأن ما يقوله هو الصحيح ولا يوجد أي احتمال في أن يكون مشتبهاً أو مخطئاً.. أنت قلت هذا وبينت كلامك.. وأنا قلت كلا.. فلماذا تعيد الكلام مرة أخرى لتثبت رأيك الخاص في أمر ولو كان هذا الرأي مخالفاً.. هذا مرض من أمراض الإنسان، ونحن لدينا مثل هذا المرض، فإذا توصلنا في أمر إلى نتيجة نبقى نحاول إثباتها حتى النهاية.. كلا بل علينا أن نطرح الكلام، فإن وافق الطرف المقابل عليه، وإلا فقد ذكرنا رأينا وانتهى الأمر، إذ هذا الإصرار موجب لأن تنعكس القضية من أساسها، فالإصرار يخرب المسألة، حتى ولو كان الحق معه. وهذا ما يقال عنه بأنه جدال، وهو من عمل الشيطان، والحال أن لدينا {وَ جادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ}؛ بمعنى أنّ عليك أن تعرض الأمر كما هو عليهم، وأن تتكلّم معهم بشكل تلفت الطرف الآخر إلى حقيقة الأمر، أما إذا قال الشخص كلا بل المسألة هي هكذا وهكذا و... فهذا ليس جدالاً بالتي هي أحسن، بل هو جدال بالتي هي أقبح، وعلينا أن نترك هذا النوع من الجدال. إن إحدى الأمور المخالفة التي نقوم بها هي الجدال، وقد رأينا ذلك بأنفسنا.. ترى الرجل يقر فيما بينه وبين نفسه بأن ما يقوله خطأ، لكنه يصر على كلامه هذا.. يا أخي لو فرضنا أن ما تقوله صحيح فإلى أين مدى أنت مكلف بإثبات ذلك، فهل تكليفك يقتضي أن تصر على هذا الأمر ولو أدى إلى أن يضرب رأسه بالجدار.. هل أنت مكلف إلى هذا الحد؟ أو أن تكليفك أن تقول بأن رأيي هو هذا، حتى لو رأيت أن الطرف المقابل لم يقبل به.
الجدال بالتي هي أحسن
من الأمور التي كنت أسعى من البداية أن أطبّقها في نفسي ـ ولا أدري هل وفّقت أم لا وهي مسألة تحتاج إلى جهد كبير لا تحصل في ليلة واحدة ـ وهي أنّه عندما أطرح مسألةً مع بعض الأشخاص، فإذا شعرت أنّ رأيه فيها مختلف عمّا ذهبت إليه أنتقل مباشرة إلى مسألة أخرى، وأترك الحديث فيها. فذاك الذي يريد أن يأخذ موقفاً من قضية قبل الانتهاء من الكلام.. من الحيف أن يبقى الإنسان يتحدّث إليه ويضيّع وقته معه، بينما إذا كان الشخص متوجّهاً إليك ويدقّق في كلامك ويريد أن يفهم منك، لا أنّه يريد أن يأخذ موقفاً من كلامك.. فأمره مختلف. إذ تارة يريد الإنسان الفهم ويسعى إليه، فهذا جيّد.. وليس لدينا خطّ أحمر في الفهم، فمهما طال الكلام في الفهم والتفهيم فهو جيد... فيطرح الإنسان المطلب ويبيّنه، فإن كان هناك إشكال يبيّنه ويجيب عليه، وباب البحث مفتوح دائماً.. مدرستنا مدرسة البحث، فحتى الآن لم نفرّ من أحد في مجال البحث ولم نخف من أحد، ولا زلنا على هذا الأمر إلى وقتنا هذا دون خوف أو فرار. الخوف والفرار إنما يتحقّق من الأشخاص الذين ليس لديهم شيء والذين تكون أيديهم خالية، بينما مطالبنا واضحة، وعلى الإنسان أن لا يخشى من المطالب العلمية؛ لأن العلم موجب للعزة لا أنه يوجب الذلة والخسران، بل العلم والمعرفة والفهم والبصيرة يجب أن تكون دائماً دون أن يكون فيها خطّ أحمر أو خوف، الذي يخاف هو من لا يمتلك الحجة، أمّا الذي يمتلك الحجة دائماً فلا يخاف. نعم عندما يشعر الإنسان بأن الطرف المقابل لا يفهم ولديه عناد فلا يصرف وقته في التكلّم معه، وهذا أمر آخر، عندما يكون الشخص معانداً ومغرضاً ولا يريد الفهم ويريد الكلام في مقام الإثبات.. فالعمر لا يسمح بأن نضيّع الوقت معه، بل ندعه يذهب بحال سبيله.
ضرورة نقل التاريخ كما هو للأجيال
لقد كتب المرحوم العلامة كتاباً باسم «وظيفة الفرد المسلم في حكومة الإسلام»، والمطالب الموجودة في هذا الكتاب مطالب تاريخية ومسائل واقعيّة وحقيقيّة، لم يكتب في هذا الكتاب مسائل خطأ أو كذب.. أخبروني أي خطأ في طيات هذا الكتاب، وأي العبارات فيه غير صحيحة، المطالب التاريخيّة يجب أن تكون مطالب حقيقيّة وواقعيّة، إذ يجب على الإنسان أن ينقل للناس التاريخ كما هو هو، أمّا التاريخ المنتخب فهو تاريخ باطل، هو تاريخ بني أمية، لا تاريخ أهل البيت، تاريخ أهل البيت شفّاف وواضح، وكل واحدة من الحقائق التي وقعت في التاريخ هي عبارة عن مصباح للإنسان، ولا يجوز لنا أن نطفئ مصباحاً ونبقي آخر، بل علينا أن نترك جميع المصابيح مشعلة. نعم أحياناً تكون هناك بعض الأمور السرية والخاصة والتي لا ارتباط لها بالإنسان، فلا كلام فيها، لكن هناك بعض الحقائق التي تؤثر على نظرة الإنسان للتاريخ.. القضايا التي تترك أثراً على فهم الإنسان للتاريخ.. فتلك الأمور من الخيانة أن لا يذكرها المؤرّخ.
إذا فرضنا أن شخصاً أتى إليكم واستشاركم في مسألة زواج ابنته من أحد الشباب الذين تقدموا من ابنته وهو لا يعلم شيئاً عنه، فمسألة طلب البنت ليست مسألة بسيطة كشراء البطيخ والخضار، بل هي مسألة حياتية ومهمة تحدد على أساسها سعادة ومستقبل الفتاة، فالمسألة ليست كمسألة شراء البطيخ إذا لم تكن البطيخة جيدة تشتري غيرها، بل المسألة مسألة بنت ومسألة أن الإنسان هو المطالب بتحصيل سعادة ابنته.. نعم مشيئة الله وإرادته مسألة أخرى، لكن على الإنسان أن لا يقصر بوظيفته في هذه المسألة. حسناً أنت تعلم بأن هذا الشاب غير صالح، أفكاره منحرفة وأفعاله غير صحيحة وعلاقاته علاقات مشكوكة، ومع ذلك تأتي وتقول هذا الشاب جيد باعتبار أنه لا بد أن يحصل هذا الزواج في نهاية المطاف وتحصل هذه العلقة، فتمدحه وتصفه بأوصاف جميلة وتقول بأنا لم نر منه شيئاً خطأ.. لا يمكنك أن تقول ذلك.. هذا حرام؛ لأن هذا الشخص لم يأت إليك لتذكر له مناقبه فقط، بل أتى إليك كي تذكر له حقيقة أمره كما تعرفه، لو كان لديك فتاة هل تزوجه إياها؟ هذا الشخص الذي تمدحه وتذكر مناقبه والحال أنك تعلم أنه خلاف ذلك.. لو كان قد تقدم من ابنتك هل تزوجه إياها؟ كلا لا تزوجه. من هنا على الإنسان أن يقول الحق.. فيقول هذا الشخص لا يصلح لها، أو إن لم تكن تريد أن تذكر له ذلك تقول له لا تسألني في هذا الأمر، اذهب واسأل غيري عنه، هذا المقدار يكفي للمخاطب في إيصال المطلب، فتقول له أنا لا أعطي رأيي فيه، اسأل غيري في هذا الموضوع، وأمثال ذلك، لا أن تمدحه.
أتى شخص إلى المرحوم الأنصاري وسأل عن شخص هل أذهب إليه وأتواصل معه أم لا ـ لم يكن سؤاله عن الزواج ـ والحال أن الارتباط والتواصل معه ليس في صالحه، إذ من الممكن أن يكون هذا الشخص مضلاً له، وقد يكون غير مناسب له.. وقد يحصل هذا الأمر معنا، كأن يأتي شخص ويقول هل أتواصل مع هذا الشخص أم لا؟ أو ما رأيك في الشخص الفلاني؟ أو هل أشاركه في عملي أم لا... وأمثال ذلك. فأجابه المرحوم الأنصاري ليس بالشخص الممدوح كثيراً.. والحال أنه لم يكن دأب المرحوم الأنصاري أن يتحدث كذلك، وعندما خرج ذاك الشخص قيل للشيخ الأنصاري ليس هكذا دأبكم، فقال: لا يمكنني أن ألقي بالأشخاص في شرك الضلالة والفساد، إذ لا يجوز ذلك أبداً.. أما نحن فنأتي ونكتب التاريخ بشكل منتخب ونختار منه ما نريد.. فعندما تنقل للمخاطب الأمور بشكل انتقائي قد يؤدي إلى هلاك بعض الأفراد، وقد يضحي بنفسه في هذا الطريق، وعندئذٍ من يكون المسؤول عنه؟ إذ ليست الأمور كلها سهلة وبسيطة، بل قد تؤدي الأمور أحياناً إلى قطع الرأس، وقد تصل المسألة إلى إضاعة دين الشخص ودنياه، وقد يكون الدستور المعطى في الأمور الخطيرة، وعند ذلك ماذا تفعل؟ وإذا مدحنا شخصاً وقلنا بأنه لا خطأ في كلامه ولا اشتباه في أفعاله وأعماله، وأنه مرتبط بفلان وفلان، وأنه عبر السماوات السبع وغير ذلك.. إذا وصفناه بهذه الأوصاف فمن سيكون المسؤول عن أولئك العوام الذين خدعوا بهذا الكلام وألقوا أنفسهم بأنواع المهالك؟ لا شك أني أنا المسؤول عن ذلك، وعليّ أن أحضر الجواب من الآن، فالمسألة ليست بسيطة كبيع الحمص والحبوب، بل المسألة مسألة دين وروح.. مسألة مهالك ومفاسد.. وفيها ألف مسألة أخرى، هنا تكمن وظيفة المؤرّخ في أن ينقل التاريخ دون خيانة.. أن ينقله كما هو؛ لأنه من الممكن أن تكون مسألة بسيطة مؤثرة في تغيير مستقبل ومصير شخص معين، ولو عرضت هذه المسألة بشكل آخر عليه لكان غيّر مساره باتجاه آخر، ومسؤولية هذا الأمر على الناقل، لذا إما أن لا تقول شيئاً، وإما إذا أردت أن تقول، فعليك أن تعرف بأن هذا الشخص قد اعتمد على نقلك، وإلا لكان أخذ عن آخر، لذا أنت المسؤول عن أخذ هذا الإنسان عنك، وإلا إذا كان لديك مشكلة في نقل الحقيقة فاسكت واعتذر، إذ قد يكون لدى الإنسان إشكال أو ملاحظات أو مصالح ولو كانت مصالح دنيوية، فينبغي أن يقول أنا لا أتكلم في هذا الموضوع، فعلى الأقل هذا الشخص لم يلقِ الآخرين في المهلكة.
بعض الأعمال تغير مسار الإنسان ومصيره
ما أقوله لكم قد ابتليت به بنفسي، حيث كان لدي منذ زمن بعيد اعتقاد خاص ـ بسبب جهلي ـ بالكثير من الأشخاص، ولو بقيت على ذلك الاعتقاد إلى الآن لما كنتم تروني الآن هنا، بل كنت في مسائل أخرى وعالم آخر، فجميع أموري ومصيري قد تغيرت بسبب أمر واحد فقط، والآن بعد مضي خمس وثلاثون سنة فهمت بأنه لو لم تبين تلك القضية التي اتضحت في ذلك اليوم لكنت قطعاً من الهالكين والضالين والمضلين، لا شك في ذلك أبداً، كل ذلك بسبب مسألة واحدة.. لذا على من يطلق الأستاذ؟ يطلق على من يأخذ بيدك في مثل هذه المواقف، وينجيك في هذه المواضع من الضلال.. أما الآن فلن يأتي أحد ويقول لي لقد اشتبهت.. فقد مضى الوقت الذي كنا نقع فيه في الخطأ جهلاً.. وتغيرت المطالب والقضايا واختلفت الأمور، فالآن لا ننظر إلى الأمور بعين مغمضة، بل عيوننا مفتحة، وعندما ننظر الآن إلى المطالب لا ننظر إليها كما كنا في السابق، إذا لم نكن أفضل من الناس في نظرتنا فلا شك أننا لا نقل عنهم في ذلك، وهذا من الأمور من المسلمة في القضايا والمسائل التاريخية.. وعندما ننظر الآن إلى الأمور نرى عجباً، إذ كيف يمكن أن يشتبه الإنسان ويقول خلاف الواقع... نحن ليس لدينا علم الغيب، وقد ذكرت لكم بأن الله تعالى لم يجعل على وجه الإنسان عدّاداً يحصي عليه الأخطاء التي يرتكبها.. بعض الأخطاء التي يقوم بها الإنسان لها درجة واحدة، وعندما يزيد تصير درجتين ـ كما هو الحال في فاتورة الكهرباء التي تأتي بشكل متصاعد، إذ تقفز أحياناً بشكل جنوني ـ وبعض الأعمال يسجل عليها عشر درجات.. كأن يكون عداد الخطايا عند صاحبه في الصباح ۱٢٤، ثم فجأة يصير عند العصر ۱۷۸۰.. ماذا فعلت؟ لو كنت قد كذبت في كل دقيقة كذبة لما كان قد سجل عليك هذا العدد من الخطايا، ما الذي فعلته حتى بدأ العدد يرتفع عندك ألفاً ألفاً؟! هناك أمور تحسب عداد القلب بهذا الشكل، لذا علينا أن نلوذ بالله تعالى ونستجير به من تلك الذنوب التي تكدر القلب.. العناد من الذنوب التي ترفع العداد عشرة آلاف درجة دفعة واحدة، مثلاً الكذب العادي يزيد العداد درجة واحدة، بينما العناد يرفعها عشرة آلاف درجة.. مائة ألف درجة، وكذا الاستكبار مقابل الباري تعالى يزيده مائة ألف درجة، العناد والاستكبار والشعور بالتفوق والأنانية من الأمور التي تزيد العداد مائة ألف ومليون ومائة مليون درجة.. وعندئذٍ لا يمكن أن تصلح الأمور، أما إذا أخطأ خطأ صغيراً أو اشتبه فالله تعالى قد فتح باب التوبة أمامه، لكن إذا انتقلت القضية والذنب إلى مسألة الأنانية ومحورية الذات والتعالي على الحق وعلو النفس والتكبر.. فعند ذلك لا يمكن القيام بشيء، ولا يوجد أمام أولئك سبيلاً، وهذه الأمور هي التي تردي بالإنسان إلى قعر جهنم.
ضرورة عدم التملق والنفاق في شخصية المؤمن
قام المرحوم العلامة بكتابة هذا الكتاب (وظيفة الفرد المسلم في الحكومة الإسلامية)، فإن كان ما كتبه كذباً فقل هذه العبارة كذب.. هذا المطلب كذب.. هذه القضيّة غير صحيحة.. ما نقله حول هذه المسألة ليس صحيحاً، لا يمكن لأحد أن يقول بأنها غير صحيحة، بل يقولون ما هو مراد الكاتب من ذكر هذا المطلب؟ فذكره لها يوجب توهين بعض المسائل، وموجب للتشكيك ببعض الأمور والتقليل من شأنها... لماذا هذا الكلام؟ فهل نحن مجبورون من أول الأمر أن ننحت شخصيّة وهميّة ثمّ نمنع أحداً من التعرّض لهذه الشخصيّة، لماذا؟ ومن الذي قال ذلك؟ لماذا لا ينبغي علينا أن نعرض شخصيّة الأفراد كما هي ونبيّنها لسائر الناس؟ وعندما يقوم الإنسان بذلك سيكون بمثابة الديكور ـ كما ذكرت لكم في الليالي الماضية ـ فتكون أعمالهم ديكور وكلامهم كذلك، بينما باطنهم شيء آخر.. نعم على الإنسان أن يتكلّم ويتصرّف مع الجميع بأخلاق وبشكل ملائم، لكن لا أن يكون بمثابة الديكور، ولا يكون متملّقاً، ولا أن يظهر شيئاً ويبطن آخر.
كنت في أحد الأيام في مشهد وخرجت من منزل المرحوم العلاّمة بعد الظهر، وكان المرحوم العلاّمة مريضاً وكنت أريد الذهاب إلى مكان.. فرأيت أحد الأشخاص متوجّهاً إلينا مع أهل بيته وكان من أقاربه، وعندما وقع نظري عليه ولم يكن بعيداً جداً بل كانت المسافة ما يقرب من ثلاثين أو أربعين متراً.. رأيت أن تصرّفه مع أهل بيته وأولاده كان بشكل صبياني كما لو كان طفلاً ابن خمس سنوات.. نعم يمكن للإنسان أحياناً أن يتكلّم مع زوجته وأولاده بشكل معين لكن لهذا الأمر حدود وضوابط، وبعد ثوان التفت إلي أني قادم فانقلب وضعه ووقف كالوتد وصار وقوراً و.. وعندما رأيته هكذا تعاملت معه بالمثل وسلمت عليه بنبرة هادئة ورسميّة جداً... فنحن نعرف هذه الأمور، صحيح أنّنا لا نفعلها، لكنّنا نعرفها.
ضرورة إلقاء السلام بالشكل الطبيعي المتعارف
ذكر المرحوم العلاّمة بأني كنت في أحد الأيّام ذاهباً إلى الحرم، وفي الصحن رأيت أحد المراجع الذين كنّا ندرس معاً في مدرسة الحجتية.. وعندما وصلت إليه سلّم علي بسلام رسمي جداً ـ والحال أنّ المرحوم العلاّمة لم يكن يعتقد بهذه الأمور، بل كان سلامه سلاماً عاديّاً وطبيعيّاً ـ ثمّ أكملت مسيري إلى الحرم، وبعد الزيارة عدت والتقيت به مرة ثانية، والظاهر أنّه كان يريد الذهاب إلى مكان، فناديته وقلت له توقف! وقلت له ذاك السلام وتلك التحيّة التي ألقيتها عليّ كانت تحيّة مرجعيّة، والآن أريد منك تحيّة أخويّة وسلاماً عاديّاً.. فقال له كيف حالك سيّد محمّد حسين؟ هل تذكر عندما كنّا معاً وماذا حصل معنا؟ وبقينا عدة دقائق وتكلّمنا ومزحنا معاً وافترقنا... أيّهما أفضل؟ السلام الرسمي أو السلام الأخوي؟ كيف كان النبي يلقي السلام على الناس؟ لذا ينبغي أن يسلّم الإنسان بشكل تلقائي، فلماذا علينا أن نحيط أنفسنا بهالة دائماً؟ لم تكن طريقة العظماء في السلام هكذا. السلام إنّما هو لإيجاد المحبّة وإنزال الفيض ورحمة الله إلى القلوب، لا لأجل البعد عن الآخرين، هذا السلام لا يقارب بين القلوب، بل يجعل حجاباً بين القلبين.. يجعل جداراً بينهما، هذا السلام يعني: هذا أنا! تنحّوا جانباً! لا تقتربوا من حرمي! تماماً كالسلطان الذي يجعل لنفسه حدوداً وخطوط حمراء.. يعني أنّه لا ينبغي أن يدخل أحد إلى قلبنا، ولدينا حدود عليك أن تخاطبنا من خلال تلك الحدود.. الإنسان ليس مجبوراً أن يسلّم على مثل هؤلاء الأشخاص، فالسلام يجب أن يكون على أساس المحبّة والأنس، ويجب أن يكون كما أمرنا به.. كيف كان النبي يسلّم على الناس، وكيف كان أمير المؤمنين يسلّم؟ كان النبي يلقي السلام على جميع الناس إلا على الفتاة الشابّة لم يكن يبتدئها السلام؛ لأن جواب السلام واجب والإصغاء للجواب واجب، ولا ينبغي أن يصل صوت الشابة إلى مسامع الرجل، لهذا السبب لم يكن الرسول يسلم على الفتاة الشابّة، نعم كان يلقي السلام على النساء الكبار وكافّة الرجال، وكان يسبق الجميع في السلام، وثواب من يبادر بالسلام ضعف ثواب من يجيب عليه. ألا يشعر الإنسان بوجود محبّة في القلب عندما يسلّم؟ نعم يشعر بذلك.. وهذا من الأمور الطبيعيّة. لكن أحياناً يرى الإنسان أنّ بعض الأشخاص يريدون أن يمرّوا أمامه دون أن تقع عينهم عليه، وعندما يضطرون إلى ذلك يلقون السلام لكن مع شيء من الغيظ والسخط.
في أحد الأيام كنت أمشي في قم ورأيت أحد العلماء ـ وكان كبير السن ـ عندما شاهدني من بعيد حوّل مسيره ودخل في الشارع الآخر حتى لا يلتقي بي ويسلم عليّ. ما يعني هذا؟ ولماذا يفعل ذلك؟! ولكن هؤلاء الأشخاص عندما يصلون إليك مع هذه الحالة يلقون السلام عليك.. إن كان لديك هذه الحالة اتجاهي، فلا شك أن هذا الذي تقوم به كذب، لكن إذا كان الإنسان حراً في أعماله جميعها.. إذا أراد أن يلقي السلام يلقيه، وإلا فلا، وعليه فلا داعي لأن يفر من هنا وهناك، وكل عمل يقوم به الإنسان ينبغي أن يكون بشكل حر ومختار، فأقصى الأمر هو أن يسلم عليه، وقد حصل معي كثيراً أن أمر أمام بعض الأشخاص ولا أسلم عليهم عمداً؛ لأن هذا الشخص يمكن أن يتضرر من مجرد هذا السلام الذي ألقيه عليه، وأنا لا أريد أن أضره في شيء، فأحياناً لا يكون السلام بصالح الرجل، ولا يجب أن يلقي بالسلام على جميع من يمر به حتى لو كان الشمر أو يزيد، إذ لا ينبغي السلام على أمثال هؤلاء، بل يجب ويحسن السلام على الشخص العادي أو المؤمن أو من يؤمل منه الصلاح، لكن إذا كان الرجل معانداً فلا..
عدم جواز تكريم من لا يستحق التكريم
كنا في أحد مجالس العزاء في مشهد ودخل رجل، فقام الجميع له وكنت أنا مع المرحوم العلاّمة وبقي جالساً لم يتحرّك ولم يتحرّك من مكانه أصلاً، وهو الوحيد الذي بقي جالساً وأنا كذلك، ولا يجب القيام في هذه الحالة، إذ لمن نقوم ولماذا نقوم؟ وذاك الشخص أتى وجلس بالقرب من العلاّمة، وبقي العلاّمة كما هو حتّى أنّه لم ينظر إليه بل بقي كما كان، وحينما ألقى السلام أجابه العلاّمة وعليكم السلام دون أن ينظر إليه. هذا الذي يقال له الاستقامة. بينما أولئك الذين قاموا له يتكلمون عليه ألف كلمة، لكن ليس لديهم أي جرأة أن يلتزموا بما يقولونه، بل يضعفون عند الضرورة، والإنسان يشمئزّ منهم. يا أخي إذا كان لديك إشكال على هذا الرجل فلماذا تقوم له؟ ولماذا توقعه أكثر في الضلال نتيجة هذه الأعمال؟ لماذا تتواضع له حتى تجعله يتوغّل أكثر في الكثرات؟ لا تقم! ألا ترى أن هناك شخصين لم يقفا له؟ وهذا الخضوع الذليل هو الذي يجعل البعض يتوغّلون في المجاز أكثر فأكثر، ويجعلهم يتربّعون على غير مجالسهم، وهذا الخضوع والذلّة والسكوت هو الموجب لذلك.. قرأت رواية عن رسول الله منذ مدّة تفيد أنّ التكريم الذي يكون للأشخاص في غير موضعه أشدّ خطراً من الطعن بالسكين والخنجر.. بأن يكرمهم بالقيام وبالصلوات والسلام والضجيج وما إلى ذلك من أمور... فالنفس تأنس بهذه الأمور مقابل الناس، وهذا الأنس يهلك الإنسان أكثر من طعنه بالسكين، فالسكين تقطع بدن الإنسان لا تقطع قلبه، بينما تلك الأمور تقطّع قلب الإنسان، وتقضي عليه، وتسدّ عليه المنافذ وتسلب الصحة والسلامة من القلب...
أولئك الأشخاص يعترضون على المرحوم العلاّمة ويقولون لماذا كتب هذا الكتاب، إذ لا مبرر له أصلاً، بل كتبه لكي يبرز نفسه فقط، ويظهر نفسه على أنّه أعلى من بعض الأشخاص.. وكأنّه ينبغي أن يكون الجميع أقل من بعض الأشخاص، فهل نزلت آية تفيد بأن رجلاًبعينه ينبغي أن يكون أعلى من الجميع، كلا! الأمر ليس كذلك. لذا ينبغي أن ينقل في التاريخ ما هو موجود فعلاً وواقعاً.
وحسن الظن الذي يكون لدى الإنسان لا ينبغي أن يكون مانعاً من نقل الوقائع والحقائق التاريخيّة، هذا خطأ، بل يجب أن يكون حسن الظن في الأشخاص إلى حد لا يؤدّي إلى هلاكهم، نعم لدينا رواية تفيد بأنه إذا كان أكثر الناس في زمن معيّن صالحين فسوء الظن غير صحيح عندئذٍ، وإذا كان أكثرهم في زمان غير صالحين فحسن الظن غير صحيح، وهنا علينا أن نرى في أي زمان نحن، وفي أي محيط نعيش.
هذا دستور سلوكي، إذ يقول الإمام السجّاد عليه السلام إلهي ما نعلمه منك يجعلنا لا نيأس من رحمتك، هذا تكليفنا؛ حيث يقول: «وقد رجوت أن لا تخيّب بين ذين وذين منيتي»، أي لا تجعلني أفقد الأمل بك. وهذا الأمر موجود لدينا في روايات العِشرة والمصاحبة؛ حيث ورد عندنا بأنّه عليك أن تعاشر الأشخاص الذين لديهم حسن الظن، أمّا من لم يكن لديه حسن ظن فلا تصاحبه، لأنّه يترك أثراً عليك.
عرض الرؤيا على من دأبه التفاؤل بالخير لا من دأبه التطيّر
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرؤيا التي تراها حيث كنّا نرى الأولياء قبل أن يعبروا مناماً يقولون إن شاء الله خيراً، يعني أنّهم من أوّل الأمر كانوا يطرحون جهة الخير. وكانوا يقولون أقصص رؤياك على الأشخاص الذين يعبّرونها بالخير. لكن بعض الأشخاص الذين لديهم خصوصيّات نفسانيّة معيّنة عندما يعرض عليهم رؤيا يؤوّلونها دائماً بشكل سيّئ، وأحياناً تصير الأمور كما يقولون، إذ أنّ نفسهم تؤثّر في الرؤيا إلى هذا الحد، لكن نرى بعض الناس عندما يعرض عليهم منام يؤوّلونه بالخير، ويحصل ذلك فعلاً، وهذا من الأمور العجيبة، إذ كيف يمكن لهذه النيّة أن تؤثّر هذا الأثر في عالم المثال والملكوت، لذا يقولون بأنّه عليك أن تذكر رؤياك للأشخاص الذين يحلّلون الأمور ويتعاملون معها بحالة من الانبساط والبشاشة والبهجة، دون الأشخاص الذين لا يبدر منهم في الشدائد إلاّ الشكوى.. فيقول آخ هنا وجع.. آخ عليّ قرض.. وفلان تكلّم عليّ وسبّني وكذا وكذا.. فلا تسمع منه ولو كلمة جميلة، بل تسمع منه كلمة آخ وآي والشكوى فقط.. والحال أنّ هناك بعض الأشخاص الذين لديهم ألف مرض وألف مصيبة لكن لا يسمع منه شيء..
الصبر على الابتلاء وعدم الشكوى
إحدى أقاربنا رحمة الله عليها؛ خالتنا كانت امرأة عظيمة واقعاً، وكانت مبتلاة بأنواع الأمراض.. بالديسك في الظهر وألم في الرجلين والمعدة وغيرها من المشاكل الاجتماعية... لكن عندما كنا نذهب إليها وكانت ترانا كانت تتعامل معنا وكأنّه لا يوجد شيء من تلك الأمور.. بل كانت تتحدّث إلينا وتمزح وتضحك وكأنّها غير مديونة.. وكأنّها غير مهانة من قبل بعض الأشخاص.. وكأنّها لا تشكو من شيء من الأمراض.. وكأنّ أحداً لم يحرمها حقها.. وكانت تتحدّث بحيث ينسى الجالس إليها أنّها لا تستطيع الحراك من شدّة مرضها، هؤلاء هم الفائزون في عمرهم. لكن في المقابل ترى بعض الأشخاص ما إن تسلم عليه حتّى يشرع بالشكوى على فلان وفلان، فمثل هذا الشخص لا يحب الإنسان أن يراه بتاتاً، إذ في كل مرة يراه يشرع بالشكوى ممّا هو فيه، وهؤلاء الأشخاص يتلفون وقت الإنسان ويكدّرون صفوه.. إذ لمن هذه الروايات التي تصف المؤمن بأنّ بشره في وجهه وحزنه في قلبه؟ فالمؤمن يجب أن يكون بشوشاً دائماً، لذا عليه أن يضحك ويمزح، ويخفي سائر مشكلاته في قلبه. نعم الحزن هنا قد يراد به معنى أكثر لطافة وعمقاً وهو الحزن من الهجر وفراق الحبيب وعدم الوصل.. لكن يمكن أن يُحمل على الابتلاءات الدنيويّة أيضاً، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يقوم الإنسان، بدلاً من بيان الأمور الجميلة والسعيدة في حياته، ببيان المصائب والغمّ ويبدأ بالشكوى؟ لماذا يفعل ذلك؟ ما الفائدة من هذا العمل؟ وما الذي يمكن أن يُحلّ بذلك؟ لقد أعطانا العظماء دستوراً بأن نواجه أخوتنا بالأخبار السارّة لا بالأخبار السيّئة، بينما نقوم نحن بترك الأخبار الحسنة لنا وعندما نصل إلى أخينا نطرح عليه الأخبار السيّئة، فنقول له: فلان قال هذا، وفلان قال كذا... هذا العمل مخالف لما أمرنا به. هنا لدينا الكثير من الكلام، وهناك الكثير من الدستورات من العظماء في هذا المجال، وأعتقد بأنّا تكلّمنا حول بعضها في جلسات عنوان البصري.
هؤلاء العظماء يمكنهم من جهة أن يتقدّموا في سيرهم، ومن جهة أخرى يمكنهم أن يهيّئوا أمر الآخرين للتقدّم والترقّي، وكم هو جميل أن نقوم بتغيير أنفسنا، فمن الآن نصمّم أنّه إذا التقينا مع بعضنا البعض لا نشكو ولا ننقل للآخرين ما بنا من أمور ومشاكل، ونتعامل مع ذلك على أنّه دستور سلوكي، وأن لا نعود نتكلّم بأي شيء يوجب إزعاج الآخرين.. من هذه الليلة.. ليلة الثاني عشر من شهر رمضان، وهي الليلة التي توفي فيها المرحوم السيّد الحدّاد، وما أنقله لكم هو ما شاهدته من هذا الرجل، لم يحصل أن التقيت مرّة بالسيّد الحدّاد وسمعت منه خبراً سيئاً؛ كأن يقول لديّ وجع هنا.. وعليّ قرض هناك.. لم أسمع منه شيئاً من ذلك، والحال أنّه كان غارقاً بالدين من رأسه إلى أخمص قدميه، بالإضافة إلى مرضه وابتلائه بأنواع البلاء في أولاده وسائر الأشخاص وأمثال ذلك... وعندما كنّا نلتقي به كان يبدو وكأنّه لا يشكو من شيء من هذه الأمور، وكأنّه لا يشكو من الفقر ومن الأوجاع والابتلاء والمشقّة.. أبداً بل كان يضحك ويتحدّث ويقول: تعال سيّد محمّد محسن وأخبرنا ما لديكم وكأنّه ليس في هذه الدنيا.. والحال أنّي كنت أعلم ما يعانيه من بلاء.. فكنّا نتعجّب من ذلك.. ما هذا؟ هذا درس بالنسبة إلينا.
الفرق بين شخصية السيد الحداد وبين خصومه
عندما تشرّفنا بالذهاب إلى العتبات العالية بعد سفر الحجّ الأوّل وكنّا هناك في محضر المرحوم السيّد الحدّاد، كان في كل يوم يتفضّل علينا ببيان شيء من مكارم الأخلاق وكيفيّة الارتباط وسائر المسائل والتي تعدّ كل منها بمثابة نموذج لنا وسيرة، ولا زلت حتّى الآن أستفيد من تلك المطالب التي كان يلقيها علينا في تلك المدّة، وهي الآن بمثابة الحلّ للمشاكل التي نقع فيها، وهي التي تنقذنا ممّا نحن فيه، والحال أنّ الآخرين يدّعون هذه الأمور إلاّ أنّهم مبتلون دائماً بحالة من الضيق، فهل تتصوّرون أنّ الأمور التي جرت بعد وفاة المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه كان يمكن أن تحلّ وحدها؟ كان بعض الأشخاص يتداولون فيما بينهم بأنّ فلاناً لا يستطيع المداومة أكثر من ستّة أشهر، وكانوا يقولون اصبروا ستّة أشهر وانظروا ماذا سيجري.. وكنّا نضحك على هذا الكلام، ففي نفس الوقت الذي كنّا نعمل وفق تكليفنا وما هو مطلوب منّا.. كنّا نضحك على هذه المطالب، لماذا؟ لأنّا نعلم ماذا يجب علينا أن نفعل.. لأنّ العظماء بيّنوا لنا الطريق. والآن الأمر كذلك، دون أيّ فرق أبداً، فالإنسان عليه أن يعمل بتكليفه، سواء قال ذاك كذا، أو قال كذا.. فليقل ما شاء إلى أن يتعب فيسكت، وإذا لم يتعب فلا إشكال.. ماذا قال الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري؟ قال: «قل: إن قلت عشراً لم تسمع واحدة»، هل يجب علينا أن نعمل بهذا الكلام أم لا؟ بل يجب أن نعمل به مهما صار. عندما كنّا في محضر السيّد الحدّاد ذاك الشهر وصلنا إلى أنّه يجب أن نوكل أعمالنا إلى الله تعالى، وقد فهمنا أنّه لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله، أي في العمل والقول والفعل والتقرير.. فهمنا أنّ العبد يجب أن يكون مسلماً لربّه.. لقد لمسنا ذلك بتمام وجودنا، في ذلك الشهر الذي أقمناه مع السيّد الحدّاد فهمنا السلوك، فهمنا كيف يجب على الإنسان أن يسلك، وكيف يوجد العلاقة بين العبد والله تعالى حتّى يستطيع الاستفادة من تلك الفيوضات ويفتح قلبه لها، لا أن يغلقه في وجهها. وهذه المطالب التي كان يلقيها علينا في ذلك الزمن وكان يلتزم بها عمليّاً عجيبة جدّاً، هذا هو مسار السيّد الحدّاد. وفي المقابل كنّا نرى الأشخاص الذين كانوا من المخالفين له والمعاندين عندما كانوا يتحدّثون إلى الإنسان كانوا يتكلّمون في عالم الكثرات والدنيا والتحزّبات وجمع الأنصار والتهم والغيبة والأمور المرهقة للنفس، إذ مجرّد أن يستمع الإنسان إليهم دقيقتين كان يشعر بالتعب والملل، وكانت مجالس المخالفين له تطفح بهذه المطالب؛ بالغيبة والافتراء على السيّد الحدّاد والمرحوم العلاّمة وسائر الأشخاص.. لماذا هذه الأمور؟ عندما لا تستطيع أن تجد مأخذاً عليه تبدأ بالتهمة والافتراء، فهل يمكن للإنسان أن يسير بالافتراء والاتهام؟ كانوا يقولون بأنّ هؤلاء ليسوا من أهل الولاية ولا من أهل التوسّل، بل يقتصرون على القرآن فقط، والحال أنّ هذا كذب واضح.. بل كان نفس السيّد الحدّاد يأمر في صباح أيّام عاشوراء بقراءة زيارة عاشوراء بصوت عال أمام جمع من الحضور، وبعد ذلك كان يقيم مجلس عزاء في المساء ويقدّم العشاء، ما عليك إلاّ أن تأتي وتلقي نظرة على هذه الجلسة، إذ لم يغلق الباب أمام أحد من الناس، تعال وافهم ذلك بنفسك، دون الحاجة إلى علم الرمل والاصطرلاب، يمكنك أن تدرك هذه الحقيقة بنفسك، يمكنك أن تدرك هذه الروحانيّة والنورانيّة الموجودة.. وعندما كانوا يتكلّمون عليه كان السيّد الحدّاد يضحك منهم، وكان في عالم آخر، ويقول لا أحد يردّ عليهم، فالمجالس التي نحن فيها وقتها أفضل وأغلى من ذلك، فلماذا نردّ عليهم؟ فإذا تحدّثوا من ورائنا فليتحدّثوا.. وكان يردّد هذه الآية: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، دعهم وشأنهم لا يأتون إلى مجالسنا ويلهونا عمّا نحن فيه، فسوف يعلمون غداً مع من الحق، فالدار التي نحن فيها دار امتحان، إذ يجب أن يكون لدى الناس مكانة ويمتحنون بها.. ما كان هؤلاء العظماء يدعونا إليه في حياتهم هو الاستقامة في الطريق، كانوا يصرّون أوّلاً على فهم المطالب، ثمّ الإرادة والهمّة والاستقامة على الطريق، ثمّ عدم الاعتناء بشيء من هذه الأراجيف.. هذه الأمور التي تثار هنا وهناك لا يلتفت إليها الإنسان أبداً.. فالباطل يزول بزوال اسمه. لذا على الإنسان أن لا يتوجّه إلى هذه الأمور، وهذا من الدستورات التي أمرنا بها هؤلاء العظماء، بل يمضي في طريقه، وهذا ما يقوله الإمام السجّاد عليه السلام، يقول إلهي لا تخيّب أملي، والحال أنّي عرفت مدى رحمتك وعطفك ولطفك وجودك وكرمك، وإن كان لساني عاص لك وعملي لا ينسجم مع ما أمرتني به، ومع ذلك كلّي أمل فيك، فلا تخيّب أملي.
نترك المطالب الأخرى لليالي التالية إن شاء الله.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد