المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1415
التوضيح
وهي محاضرة ألقاها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني في شهر رمضان سنة 1415 هجرية، وقد أشار فيها إلى أنه ينبغي على العبد السائر إلى الله بقدم العلم والعمل أن لا يرى الاستقلال في نفسه لنيل النجاة والاستقامة والصلاح؛ لأن الله تعالى شأنه مصدر الخير ومنبع الكمال، فما عداه مراة لهذا الجمال المطلق ومظهر لذلك الخير المحض. كما تعرض إلى مباحث هامة في السلوك إلى الله جل جلاله من قبيل: دور الولي في وصول العبد إلى الحق والحقائق الكلية، وبيان تغير الذاتيات وتبدل الماهيات، والسر في لزوم استشعار الفقر والفاقة إلى الله، مع الإشارة إلى ضرورة إخلاص العمل لوجهه الذي لا بقاء لما عداه واجتناب الوقوع في شوب الشرك ولوث الرياء.
هو العليم
أهميّة فهم الدقائق السلوكية
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤۱٥ هـ ق- المحاضرة الرابعة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
قوله عليه السلام: «مِنْ أَيْنَ لِيَ النَّجَاةُ وَلاَ تُسْتَطَاعُ إِلاَّ بِكَ»
لقد أوضحنا في المجلس السابق أنّ النجاة من عند الله؛ وذلك لأنّ النجاة تعني الخلاص من الهلكة، فهي إمّا بمعنى الفلاح أو بمعنى أعمّ من الفلاح كما في قوله: {رَبِّ نَجِّني مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمينَ} يعني خلصّني من الهلكة. فالنجاة تعني: الوصول من البحر إلى الساحل، والخروج من الضيق إلى السعة، والانتقال من التعب إلى الراحة، ومن الشدّة إلى اليسر، هذا هو معنى النجاة، وهذه مصاديق النجاة.
وعندما يكون ابتعاد الإنسان هو المنشأ لهذه الشرور ويكون الجنوح عن مقام القرب والانغمار في الدنيا ومظاهرها مصدر الشرور والهلكة، سيكون الطرف المقابل بالضرورة هو الخير والسعادة التي يعبّر الإمام عنها بقوله: «مِنْ أَيْنَ لِيَ الْخَيْرُ يَا رَبِ وَ لاَ يُوجَدُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِك»، فإنّ هذا الخير هو بالطبع من ناحية الله عزّ وجلّ، والعبارة الأولى تفسّر العبارة الثانية، والعبارة الثانية يمكن أن نقول بأنّها بدل أو عطف بيان للعبارة الأولى.
من أيّ مكان تتيسّر لي النجاة؟ وكيف لي أن أخرج من عالم الطبع الذي هو عالم المادة؟ فهل لي القدرة لأن أتحرّك خطوة إلى الأمام ولو بمقدار رأس الإبرة؟
كلا! فليس لي قدرة حتّى لأخطو خطوة واحدة.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوب}. فإن لم يكن لدينا القدرة ولو قليلاً لأن نخطو خطوة بمقدار جناح بعوضة، فكيف لنا أن نحصّل النجاة من أنفسنا؟! وهؤلاء الذين ابتلوا في هذه المخمصة والبلاء وقعوا فيها بسبب أمور أخرى، نعم.
طرف من موانع السير إلى الله
ولابن سينا كلام في هذا الصدد، مع أنه لم يكن كسائر الناس، نعم كان رجلاً ذا قدرات خارقة، قال في إحدى عباراته: "إذا كان هناك شخص يستطيع أن يطّلع على حقائق وأسرار عالم الوجود فهو أنا"، وعندما قال هذه العبارة سقط على الأرض، وقيل كان في آخر عمره يبكي حوالي ۱۰ ساعات يومياً، وكان يقول: "إلهي يدي تقصر عن كلّ شيء وأنا في حال ارتحال". وفي أواخر عمره تغيّرت أحواله، فأدرك أنّه لا يملك من الأمر شيئاً.
وفي يوم من الأيام، كان لأحد أصدقائنا بعض الحالات، فأتى وأخبرني بحالاته، وكانت حالاته بنحو يوجب الحسرة لسائر الأصدقاء والرفقاء. نعم، كان في حالة من البهجة الشديدة، كان يقول: أنا عندما أذهب لزيارة العلامة، أذهب مع كيس من الورد ويد مملوءة إلى سماحته ـ ولم يكن يعجبني منه هذا الكلام ـ وكان يقول: أحوال الناس مختلفة، أحوال الأشخاص في تشرّفهم بمحضر العلامة مخلتفة، فبعضهم لديهم الاستعداد لهذا الطريق، وبعضهم ليس لديهم ذلك الاستعداد، وأنا أرى في نفسي أنّي أستطيع أن أطوي هذا الطريق، إلا أنّه في نهاية المطاف تغيّرت أحواله وساءت أوضاعه.
«مِنْ أَيْنَ لِيَ النَّجَاةُ»؟ ما هذا الكلام؟! ما معنى: أنا أرى في نفسي الاستعداد؟! «مِنْ أَيْنَ لِيَ النَّجَاةُ»؟ من أين أحصل على النجاة؟ من أين النجاة؟
فالله تعالى يقول لنبيّه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ، وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ ، الَّذي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ، وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ} وقبل ذلك يقول: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى ، وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى} ، أنت كنت ضالاً!
يصف الله عبوديّة الإنسان له هنا من خلال قَوْلَبتها في شخص النبيّ، فأيّ فرق بينك وبين باقي الناس؟! وقوله:{ضالاً} الخطاب وإن كان متّوجهاً نحو النبيّ إلا أنّ المقصود منه جميع الناس، فلولا اتّصال النبيّ بمقام الربوبيّة، لم يكن بين النبيّ ويزيد أيّ فرق! لم يكن بينهما أيّ فرق! أبداً! فعندما يقول النبيّ: «ربّنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً في الدنيا والآخرة» فهو صادق في قوله، وهو يعني ما يقول، فهذا رأيه.
التوحيد والولاية
قام الولائيّون بوضع مجال يفصل بين التوحيد والكثرة، ثمّ أنشأوا برزخاً في الوسط سمّوه الولاية
ونحن نعتقد أنّهم يتسامحون في هذا الأمر، لكنّه حقّ وأمر واقعيّ لا يخالطه الشكّ أبداً، لكنّنا نعتقد أنّ الوليّ يتسامح فيه.
وكلّ من يريد أن ينسب هذه المسألة إلى نفسه ولو بمقدار رأس الإبرة ويريد أن يفصل حسابه عن حساب الآخرين، فعليه أن يعلم أنّه هبط عندها إلى مرتبة من مراتب جهنم، وأنّه ابتعد بنفس ذلك المقدار عن الجنّة وعن رضوان الله. وكلّما رأينا في أنفسنا حالة المسكنة فلنعلم أنّنا ربحنا؛ لأنّ حقيقة ماهيّتنا تكمن في الفقر والحاجة، وحقيقة هويّة الله عزّ وجلّ هي الغنى وعدم الحاجة، وكلّما نسبنا الخيرات والبرّ والحسن إلى منشأ الكمالات، نكون عندها قد اقتربنا من الحقّ، وكلّما رأينا في أنفسنا العجز كلّما اقتربنا من الحقّ أكثر، وينبغي أن لا نغيّر مكان كَفْتيّ هذا الميزان و نبدّلها، بأن نجعل الحقّ باطلاً والباطل حقّاً، وكلّ هذه الأمور تعود إلى أنّنا لم نستطع أن نستردّ مكانتنا الحقيقية.
لقد استطاع مولانا في هذا المقام أن يعرض حكاية أياز والسلطان محمود بشكل رائع جداً، لا استحضر شعره الآن، ولكن قصّته معبّرة جداً؛ حيث كان أياز رجلاً فهيماً ولديه شمة من الحق واستطاع بفهمه هذا أن ينتصر على الوشاة، لقد كان يفهم الحقيقة، ولكن بالطبع كان يفهمها من جانب السلطان، من الجهة الظاهريّة، وأدرك أصل الفكرة وأصل المسألة، وفهمها في علاقته بالسلطان.
هذا المثل لنا نحن، فنحن الذين أتينا إلى هنا ينبغي علينا أن نعلم أنّه لولا انتسابنا إلى حضرة العلامة لما كان لنا شيء.
الله مصدر الخير والكمال
إن هذه الخيرات ومظاهر الجمال والعنايات التي نراها عند الأعاظم هي "إشراقة من وجه الساقي انعكست في الكأس" ۱، عناية واحدة تضفي على تلك الماهية السوداء العمياء الظلماء التي لا قيمة لها عوالم من الوجود بمجرّد نظر الولاية إليها، مثلاً: نرى أحياناً بعض الناس الذين لا صلة بيننا وبينهم ولكن بمجرّد أن نسمع أنّهم قد خطوا في طريق تهذيب النفس والتقوا بالسيد الوالد حتّى يتغيّر حالنا معهم، ماذا حصل؟ لقد صار هذا من المرتبطين بالولاية، ولذلك نجده قد تغيّر، ننظر إلى وجهه فنجد أنّ حاله قد تغيّر عمّا كان عليه قبل هذا الارتباط!
للأنطاكي كتاب اسمه "لماذا اخترت مذهب التشيّع" وفيه صورتان له، صورة قبل تشيّعه وصورة بعده، والفرق بينهما واضح فهو في الصورة الأولى يشبه عمر!! أمّا في الصورة الثانية بعد اختياره مذهب أهل البيت عليهم السلام، فترى كم يتمتّع فيها بحال من الانبساط وحال من الخضوع!! وذلك ظاهر في عينيه، أصلاً لا داعي لأن يخبروك، بل يكفي أن تضع الصورتين أمامك لتحدّد تاريخ كلّ منهما، وأنّ أيّاً منهما التقطت في زمان التشيّع وأيّهما قبل ذلك، فهذه فعلاً يشبه فيها عمر، عيناه في هيئة خاصّة ووجهه... أما تلك فانقياده للحقّ ينبئ عن أنّ الولاية قد سلخت جلده، وفعلت فيه فعلها ورتّبت له أمره ترتيباً!! في الصورة الأولى تظهر في نفسه آثار عمر، والآن تراه ألقى كلّ ذلك وراءه.. لقد خضع للعديد من الامتحانات القاسية، وها هو الآن رجل هادئ.. لقد أصبحتَ الآن إنساناً جيّداً.. كل ذلك لماذا؟ كل ذلك بسبب إكسير العشق:
اين همه عكس مى و نقش و نگارى كه نمود | *** | يك فروغ رخ ساقى است كه در جام افتاد |
اكسير عشق در مسم آميخت زر شده ام | *** | گفت گويند روى تو چه زرد کرد سعديا |
... | *** | اكسير عشق در مسم آميخت زرد شده ام |
(يقول: لقد مزج إكسير العشق في نحاسي فجعلني ذهباً، فراحوا يسألون: ما الذي جعل وجهك أصفر يا سعدي؟ أجبتهم: إنّ إكسير العشق قد امتزج بنحاسي فصيّرني أصفر اللون).
ماذا يصنع العشق بحيث أنّه عندما يوضع على شيء يبدّله إلى ذهب، صحيح أنّ لون هذا الشيء سينخطف ويصبح أصفر، ولكنه سيتحوّل إلى ذهب، لقد كان ذلك الشيء نحاساً، وكان مجازاً ومجرّد لون أو صبغة؛ فبعضهم يصنع أواني من الجصّ ويطليها بلون الذهب وبمجرّد أن تحكّها بظفرك تظهر حقيقتها، وكلّما حككتها أكثر صارت حقيقتها لك أجلى وأوضح.
دور الولي في الوصول إلى الحق والحقيقة
إنّ الارتباط بالوليّ يفعل في الإنسان فعل الإكسير والكيمياء، ماذا يؤثّر؟ يبدّل حقيقته، والإنسان يشعر بهذا التبدّل. وقد سمعت أحدهم يقول لآخر: لقد غرسنا بذرة الولاية فيك، وعليك أنت أن تقوم برعايتها، وما يجب علينا فعله قمنا به، وإذا ما أهملت أنت فهذا أمر آخر، انظروا الآن وتأمّلوا من هم الذين لا يوفّقهم الله للارتباط بهذه الدائرة على وجه الأرض؟ من هم؟ «من أين لي النجاة»؟ لا يدري الإنسان ماذا يصنع؟ يبقى حائراً. أتى الإمام الحسين عليه السلام بنفسه إلى عبيد الله بن الحر، نعم صاحب مقام الولاية الأرفع يقوم بنفسه ويمشي نحو خيمة إنسان لا شيء له في الدنيا والآخرة، يأتي ويقول له: لقد جئت لآخذ بيدك، لأضع التاج على رأسك، فقال: خذ سيفي وهذا فرسي فرس جيّد، فقال له: أيها الأحمقّ لو كنت أبحث عن سيف وفرس لبايعت يزيد، ماذا أصنع في كربلاء؟ هذا من جهة ومن جهة أخرى نجد أنّ زهير بن القين كان يفرّ من الإمام الحسين عليه السلام، فإذا نزل الإمام وخيّم تقدّم هو في السير، وإذا سار الإمام تخلّف هو، وكان يفصل بينهما دائماً منزل واحد، حتى لحق به الإمام عليه السلام في النهاية، فأرسل إليه فأتاه، فمزج نحاسه بإكسير العشق... ، فالإمام بنفسه يأتي إليك، ولكن «من أين لي النجاة»؟ فالوليّ بنفسه يأتي إلى إنسان فيدعوه فيقول: لا أريد! لا آتي معك! هذه المطالب التي نراها هنا وهناك من الأولياء العظام هي متابعة من قبلهم ودعوتهم، كلّ ذلك هو عرض لما عندهم. سمعت من أحدهم يقول: ها نحن قد بسطنا المائدة فمن يلبّي؟ لقد جاء بعضهم في وقت من الأوقات ثمّ رجع ثم عاد، ثمّ انقلب، من شاء أن يرجع فليرجع ولكن لماذا السخرية؟ ولماذا الخداع؟ ولماذا الطعنات؟ لقد جاء أخ المرحوم الوالد مع كلّ تلك الخصوصيّات، ثم رجع، من الذي بخل أو منعه؟ لقد كنت بنفسي شاهداً، وكذلك الشيخ فلان كان يأتي مدّة إلى المرحوم العلامة، وقد بيّن له الكثير من المطالب، إلا أنّه ختم علاقته بقوله: أنا أظنّ أنّ كلام هؤلاء لا يتلاءم مع مظاهر الشريعة. ونحوه سماحة الشيخ مرتضى مطهّري حيث التزم لسنوات، وكانت أحواله قد تبدّلت، ولكنّه على أيّ حال اختار طريقاً آخر، ولم يستشر المرحوم العلامة في أهمّ مسألة من مسائل حياته واستقلّ برأيه فيها، وقد كان المرحوم العلامة قد واجه مثلها من قبل، لكنه وبإشارة واحدة من السيّد الحدّاد أزيحت كافّة المسائل جانباً، لماذا كلّ ذلك؟ لأنّ هذا قد انتُخب من البداية فسيستمرّ وذاك لم ينتخَب، لقد كان الخواجة عبد الله يقول: الناس كلّهم يخافون من العاقبة وأنا أخاف من البداية أنْ ماذا كتبت لي فيها؟ البداية ليست بمعنى الزمن الأوّل، بل منذ كانت بيننا معيّة، فأنا أخاف مما قدّر لي في الأزل، هذا ما أنظر إليه. فهؤلاء الأفراد الذين رجعوا، كان حدّهم هو ذلك وحظّهم هو الرجوع؛ تعال إلينا! تعال واقترب ثم اقترب، إلى هنا توقّف! وهنا كانت تبدأ السخرية والتعاطي مع الأمور بالهزل والباطل، وهنا كان يبدأ بجمع الأتباع والمريدين؛
طوطيان در شكرستان كامرانى مىكنند | *** | وز تحسّر دست بر سر مىزند مسكين مگس۱ |
(يقول: تمرح طيور العشق في حقول السكّر بينما تضرب الذبابة المسكينة على رأسها تحسّراً).
هر عنايت كه داري اى درويش | *** | هديه حق شمرد نه كرده خويش |
(يقول: كلّ عناية حظيت بها أيّها الدرويش انظر إليها كهديّة من الحقّ تعالى، لا أنها شيء من صنع نفسك).
وإذا اعتبرنا أنّ هذه النجاة والاستقامة هي من عند أنفسنا فإنّنا سنواجه المشكلات هناك، فلا بدّ أن نعلم أنّا نكون من المطلوبين والمقرّبين والمرضيّ عنهم إذا ما كنّا على معرفة تامّة بالحال التي نحن عليها، وتحصيل ذلك أمر ممكن، ينبغي أن تكون مكانتنا واضحة لنا.
قصة الحاج جعفر كبوتر
لقد كان الاختلاف بين المرحوم الحاج جعفر كبوتر آهنگی وبعض الكبار حول هذه المسألة، هل أنّ الذاتيّات تتغيّر، وهل ماهية كلّ إنسان قابلة للتغيّر أم لا؟ فقد كان يقول: إنّها تتغيّر، بينما كان الآخرون يقولون: إنّها لا تتغيّر وتبقى على الحالة التي جعلت عليها، وهذا محلّ بحث، المهمّ قالوا له ماذا نصنع بيّن لنا أنّها قابلة للتغيير، أي: ماهيّات الأفراد من عوارض وذاتيّات وشقاء وسعادة، فقال اذهب وائت لي بأحد الناس، ذهب فوجد رجلاً صاحب كلاب، فقال: لا أجد خيراً منه في هذا البلد، وقال له: خذ هذا المال وامض معي، فجاء معه إلى المرحوم الحاج جعفر كبوتر آهنكي ـ وكان من المجتهدين والعلماء وكان مرجع تقليد ـ فنظر إليه المرحوم نظرة جعلته يتأوّه ويسقط على الأرض والدموع تنهمر من عينيه؛ فالنجاة من أين إذاً؟ إنّها من نَفَس وليّ، مِن نَفَس درويش، مِن نَفَسٍ إلهيّ، أما نحن فمن نكون؟ وماذا نكون؟ الآن إذا ارتبطنا بالسيّد العلامة فهل يرتفع الحساب والكتاب..!!؟ لا! فالسيّد العلاّمة يتعامل معنا بتواضع شديد، ولم يكن ذلك من سيرة الماضين، كان يتواضع بشدّة، ولو اطلعنا على ما كان يجري في قلبه وكيف نتعامل معه، لما أمكننا أن ننظر إلى وجهه من شدّة الخجل، ولأغلِق الباب في وجهنا ولما فتح أبداً، ولقلنا علينا أن نعمل بما يمليه علينا رأينا.
بيان السر في الفقر والفاقة إلى الله
وبعضهم يمنّون بأنّهم ارتبطوا، فليتركوا ولا يرتبطوا! من طلب منك أن ترتبط بالعلامة؟ لقد كان افتخار أمير المؤمنين أنّه «عبد من عبيد محمّد»، كان ذلك افتخاره لأنّه يفهم هذه الحقيقة، كان يدرك أنّ كلّ ما لديه هو من محمّد صلى الله عليه وآله، وإلا فما الفرق بينه وبين أخيه عقيل الذي ذهب إلى معاوية فأغدق عليه المال، هذا أخ وهذا أخ، ولم يكن قد وصله شيء من أمير المؤمنين سوى تلك الحديدة التي أحماها له، فقال: حسناً! إن لم تعطني ذهبت إلى معاوية. فذهب إلى معاوية وملأ له جيبه، فهذا عليّ وهذا عقيل. لذا فنحن نشاهد مسألة الفقر والحاجة في كافة أدعية أهل البيت عليهم السلام، فانظروا إلى أمير المؤمنين في دعاء كميل، وانظروا إلى الإمام الحسين في دعاء عرفة، نجد صراخاً وعويلاً: أنا فقير، فالإمام الحسين يصرخ ويبكي ونحن نقول: لا، نحن أغنياء، ونحن نملك كذا وكذا.
ولذا يقال: إنّ القِيم في آخر الزمان قد اختلفت، فالعارف يطلق على من؟ على الطفل ذي الثلاثة عشرة سنة، فالعرفاء في زماننا هذا هم أبناء هذا السنّ!! العالم والمتعهّد والوكيل والمسؤول على من تطلق؟ جيّد فهذا آخر الزمان في النهاية، من الذي يطلقون عليه لفظ العالم؟! لقد تغيّرت جميع هذه الأسماء وصارت تُطلق على غير أهلها، فنحن قد صرنا في آخر الزمان، و صارت هذه المصطلحات مقلوبة.
الإمام الحسين يقول الحق وينطق بالحقيقة، أمّا نحن فماذا نفعل؟ نحن مصرّون على اختيار الطرف المقابل! ومن هنا علينا أن نعلم أنّ أولئك الذين وضعوا أنفسهم في المقام الصحيح، وكانوا يطلبون الوصول إلى الحق، فإنّ الله سيوصلهم بأي طريقة وبأيّ وسيلة إلى الحقّ، ولا ينبغي أن نخدع أنفسنا، فالشخص الذي يريد أن يفهم المسألة والواقع، ويكون صادقاً فيما بينه وبين الله في هذا الطلب، فإنّه سيصل وسيفهم، وسيلهمه الله الحقّ سواء في المنام أو في اليقظة، فالمناط ليس القرب والبعد المكانيّ الظاهريّ والماديّ، بل العمدة والقاعدة هي: "دع نفسك وتعال"؛ اذهب وحقّق مسألة "دع نفسك"وعند ذلك فالوصول مضمون، والمطلب سيصل إليك حتّى لو من رفيف الطير، ولو من حركة حيوان ما، ولو من إشارة أو كناية، ولو بالإلهام أو المكاشفة، سوف يصل المطلب إليك بشرط أن تكون في المقام والمكانة اللازمة للتلقّي، بشرط أن نكون صادقين في التلقّي وطلب الفهم، فلا نخدع أنفسنا ولا نسمح لمسائل أخرى أن تدخل وتؤثّر، فإذا تأكّدنا من ذلك فإنّ المطلب سيصل إلينا بالتأكيد، والرواية الواردة عن الإمام العسكري تشير إلى هذا الأمر وتؤكّده.
بل الأمر أعلى من ذلك وأرقى؛ حيث إنّه لو كان الإنسان طالباً للحق واقعاً، فمن الممكن أن يدخل الله سبحانه أشخاصاً آخرين في هذا المخاض باعتبارهم واسطة؛ وذلك من أجل هداية ذلك الشخص المخلص وجذبه إلى الحقّ. وكثيراً من الأحيان يكون العديد من الأشخاص المؤثّرين في إحدى القضايا وسائط وأدوات لهداية غيرهم، نسأل الله أن لا يجعلنا مجرّد وسائط لهداية غيرنا فقط، فأحياناً يأتي شخص ما ويغيّر مسار القضيّة وتحصل أحداث وأمور...، ممّا يؤدي إلى دخول شخص آخر في الموضوع، ولكنّ الواقع أنّ الهدف هو هداية هذا الشخص الثاني، وأمّا الشخص الأوّل فلم يكن إلا واسطة ووسيلة فقط، وأمّا هو فهل يصل إليه نفع أو فائدة من الموضوع برمّته أم لا؟ هذا موضوع آخر ومطلب آخر، ولكنّ الهدف من هذا الحدث كان هداية ذلك الشخص الثاني.
بناء على ذلك، إنّ ما يشكّل الحجر الأساس في السير والسلوك، والأمر الذي يعتبر بمثابة عمود الخيمة في بناء السالك هو هذه الجهة؛ جهة الفقر والحاجة، وعدم رؤية النفس في مقابل حقّانيّة الوليّ، وفي مقابل الحقّ ـ طبعاً في مقام الولاية لا فرق بينهما ـ فإذا بدأنا بتدعيم وإحكام هذا الأساس بشكل صحيح أوّلاً، فسوف نرتقي ونرتفع بشكل سليم من بداية الطريق، وأمّا إذا لم نحكمه من أول الأمر فإنّ بناءنا سيكون مائلاً مهزوزاً، يميل تارة إلى هنا وتارة إلى هناك، وأحياناً يكون الميل والانحراف كبيراً، وأحياناً قد يكون صغيراً، وهذا يرجع إلى رحمة الله ولطفه.
ولذا يجب أن ندعو الله ونسأله أن يوفقّنا لتحقيق هذه المسألة في نفوسنا بأسرع وقت ممكن؛ لأنّ هذا التوفيق إذا كان من نصيبنا وتم إحكام هذه المسألة وتحقيقها في نفوسنا، فإنّ الطريق بعد ذلك سيكون سهلاً يسيراً، وسيكون بمثابة النزول من مرتفع، ليس فيه صعوبة ولا عناء، قال تعالى {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْض}۱؛ يعني هؤلاء جاؤوا وكفروا وعصوا وطغوا، فماذا فعلنا بهم؟ أمهلناهم.
ضرورة الإخلاص في العمل
ورد لدينا في الروايات، أنّه عندما تصلّوا ينبغي أن تكون الصلاة خالصة لوجه الله، ولكن إذا جعلنا لله شريكاً فيها، فإنّ الله يقول: أنا غيور، وغيرتي تجعلني لا أرضى أن يكون لي شريك في أي عمل ينتسب إليّ، وأنا أعطي سهمي من هذا العمل للغير الذي كان شريكي فيه. فالله عزّ وجلّ لا يقبل أن يكون شريكاً في أيّ فعل من الأفعال المنسوبة له ولو بمقدار رأس إبرة. والآن انظروا ماذا سيكون لو دخل قلب غير هذا القلب، فماذا سيفعل الله حينها؟ حينها لا محيص من أن خروجه تعالى، ثم دخول ذلك الغير إلى القلب. والآن يخطر على بالي أنّ الدعاء الوحيد الذي يمكن لنا أن ندعوه وأن نتوجّه به من بين أدعيتنا وأفكارنا وفي تأمّلنا في أنفسنا، هو نفس مسألة شقائنا وانعدام الحيلة من أيدينا، وضلالتنا الذاتية التي يعبّر عنها بـ {وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى} وأن نلتف إلى أنّنا:
بی عنايات حق وخاصان حق | *** | گر ملك باشد سيا هستش ورق |
(من دون عنايات الحقّ وخواصّ الحق *** حتّى الملك وجوده حبر على الورق)
فهذا الأمر لنا، وكلّ ما لدينا من امتياز عن الآخرين، ليس إلاّ تلك الالتفاتة التي التفت فيها الوليّ نحونا، هذه هي ميزتنا، فأين هو المتاع الذي جلبناه نحن إلى السوق؟! ماذا صنعنا نحن؟! لا شيء، لم نصنع أيّ شيء.
أنا لا أدري هل ذكرت هذه القصّة أم لم أذكرها! وهي التي يذكر فيها "مولانا" ۱ قصّة ذلك القاضي الذي كان في حلب وحاصلها: أنّ ما أتينا به هو لا شيء، أمّا الباقي ما هو؟ لا شيء. فكلّ الأشياء وسائر الآثار ومظاهر الكمال هذه ـ إن شاء الله تكمل كلّها وتتمّ بأكملها ـ جميعها عبارة عن نظرة من الولي لا غير. فإذا التفت التفاتة تأتي العنايات والفيوضات كلّها، أمّا إن لم يلتفت فلا تسأل عن خبر من الأخبار.
لقد رأيت بعض الأفراد الذين كانت لديهم حالات؛ بحيث لو أنّا رأينا حالاتهم لدهشنا من ذلك، لقد كان لديهم حالات توحيديّة، لا مجرّد مكاشفات صوريّة!! ولكن عندما أشاح الوليّ بنظره عنهم، ذهب هؤلاء إلى قعر جهنّم، فيا ليتهم توقّفوا في مكانهم فقط، واقتصر هبوطهم على ذهاب حالاتهم وفقط، بل أحرقوا القرآن، أحرقوا كتاب المفاتيح، وأنا رأيت الأمر بعيني، لم كان كلّ ذلك؟ لأنّه أشاح بوجهه عنهم.
لماذا حصل معهم ذلك؟ لأنّه قال لهم: اصنعوا الأمر الفلاني. فقالوا: لقد قال هذا الأمر لك، ولم يقله لي، وأنا سأفعل الفعل الفلاني. لقد وقفوا في قبال الوليّ. قال: لا، أنا بحسب رأيي هذا الأمر جيّد، فقام بما يحلو له. ثمّ انظروا إلى ما حلّ به.
لا تعتقدوا أنّ الأمر حصل دفعة واحدة، لا، بل رويداً رويداً، فإذا كان يفترض أن يسلب ما كان عنده، فإنّ الأمر يحصل رويداً وبالتدريج.
لذا ينبغي أن نسأل الله عزّ وجلّ أن يستجيب لنا أدعية الإمام السجّاد، وأن يلفت نظرنا إلى هذه المسألة الأساسيّة، وإلى نقصاننا الواقعي؛ من أنّ كل ذلك ناشئ من جهلنا، فنحن جهلاء. لقد أرونا الطريق، فلم نقبل، فماذا يمكن أن نفعل أكثر من ذلك؟
عندما قلت لأحد الأشخاص: يا سيّدي هذه المسألة التي ذكرتها مع وضوحها الذي لا يعلوه غبار لماذا لا يقبلون بها؟ فقال: ماذا تفعل إن لم يشأ الله أن يهدي شخصاً من الأشخاص، وأيّ سبيل يمكن أن تسلكه معه.
فمهما تفعل لا يقبلون، تدخل له من هذا الطريق، وتسلك معه ذلك الأسلوب، وتتودّد له، وتتلاطف معه، وتبيّن له المسألة، لكنّه لا يريد. فماذا تفعل أكثر من ذلك؟
بعد ذلك قال: اللهم اجعل عواقب أمورنا خيراً.
اللهم صلّ على محمّد وآل ومحمّد