المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةإكمال بحث حجية أولياء الله
التوضيح
بيّن سماحة آية اللـه السيد محمد محسن الطهراني قدس سره في هذه المحاضرة أنّ المقصود من "ولي اللـه" الذي له حجية ذاتية ليس كل من امتلك خوارق العادات، موضّحا المراد والمقصود من الولي الإلهي، ثمّ شرع سماحته في بيان بعض الإشكالات النقضية التي ترد على من يلتزم بوجوب عرض افعال أولياء اللـه على الأدلة الظاهرية نفيا و إثباتا كما ذكر الإجابة على بعض الإشكالات المطروحة على القول بالحجية و الجواب عليها، و ختم المحاضرة ببيان ما التصرف الصحيح الذي ينبغي للسالك أن يفعله عندما يشكّ في صحة فعل أولياء اللـه.
هو العليم
من هو وليّ اللـه الذي له الحجية الذاتية؟
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱٩٦
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
إذا كان الإخوة يتذكّرون، فقد كان الكلام حول الاتّحاد العيني والاتّحاد الذاتيّ والاتّحاد الوصفي والاتّحاد العملي بين الأولياء الإلهيين وبين ذات الإمام المعصوم عليه السلام. وكان البحث حول هذه المسألة وهي أنّه: كما أنّ فعل الإمام وقوله وأمره ونهيه لها حجّية ذاتيّة... وذلك فضلاً عن أنّه من الناحية التشريعيّة قد ورد من ناحية اللـه في حقّ الإمام عليه السلام ما يثبت الحجيّة الاعتبارية له أيضاً، حيث ورد في هذا الباب العديد من الآيات الشريـفة والروايات المنقولة عن رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله ما يحكي عن هذه المسألة، كقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللـه وأَطيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم}۱، والمقصود من {أولي الأمر} في هذه الآية هو الأئمّة المعصومون عليهم السلام.
[أجل.. فكما أنّ للإمام عليه السلام حجّية ذاتية] فكذلك الأمر بالنسبة لوليّ اللـه.
ليس المقصود بولي اللـه كلّ من امتلك أمراً خارقاً للعادة!!
ولا شكّ أن الرفقاء الكرام ملتفتون إلى أنّ المقصود بالولي الإلهيّ ليس كلّ شخص عنده اطّلاع على التعابير والاصطلاحات، وليس المقصود أيّ شخص عنده بعض المدرَكات وبعض الانكشافات؛ وذلك أنّ الأفراد في هذا المجال عندهم مراتب متعدّدة، بل حتّى من الممكن أن تنكشف بعض المسائل والحقائق لشخص غير مسلمٍ أصلاً! فأهل الرياضات يحصلون على بعض مراتب المعرفة، فهم قد يطّلعون على بعض حقائق البرزخ وعالم المثال المنفصل، وتنكشف لهم بعض الأمور منها، والحقير قد التقى بعض هؤلاء فرأيت منهم بعض الأمور، وقاموا بالإخبار عن بعض المسائل، وكان ما ذكروه واقعيّاً وصحيحاً بالرغم من أنّهم لم يكونوا حتّى من المسلمين!
وذلك يشبه المنامات التي يشاهدها بعض الأفراد، ويكون لهذا المنام تفسيرٌ صحيحٌ وواقعيّ في الخارج، ويمكن أن يكون الشخص الذي شاهد المنام مسيحيّاً أو يهوديّاً، وربّما يكون طفلاً.. علماً أنّ هذه المسألة تكثر في الأطفال، فيرى الطفل مثلاً أنّ المسألة الفلانية ستقع بعد أسبوع، فيحدث ذلك بالفعل! فهل يجعله ذلك من أولياء اللـه؟!! مثلاً يمكن أن يشاهد الطفل في المنام أن المرأة الفلانية ستضع مولوداً بعد شهر، ويعيّن جنس المولود هل هو ذكر أم أنثى، بل إنّه يعيّن اسم ذلك المولود، ويكون الاسم الذي عيّنه اسماً غير متداول في تلك العائلة أصلاً، ولا يخطر في بالهم أن يسموه بهذا الاسم، بحيث أنّ الجميع يتعجّب من كلامه!
وأنا لديّ اطّلاع على قضيّة واقعيّة من هذا القبيل.. حيث رأى طفلٌ عمره عشـرة أو اثنتي عشرة سنة تقريباً في المنام أنّ المرأة الفلانيّة بنت العائلة الفلانيّة ستضعُ مولوداً ذكراً اسمه (مصطفى)، والحال أنّ تلك العائلة كانت أجواؤها بعيدةً جداً عن مثل هذا الاسم، فهم كانوا يفضّلون هذه الأسماء العجيبة الغريبة التي صارت رائجةً في هذه الأيّام، وصار الناس يعتبرون التسمية بها فناً من الفنون، ويفتخرون بأنّهم اختاروا اسماً عجيباً من التراث الإيراني، وما شابه ذلك من أمور لا قيمة لها، والحقيقة أنّهم إنّما يلجؤون لمثل هذه التصرفات من أجل تفريغ عقدهم النفسيّة!!
حسناً.. بعد شهرين، وضعت هذه المرأة مولوداً ذكراً، ووقع الاختلاف بين أسرته في الاسم الذي ينبغي انتخابه له، وفي النهاية اتّفقوا من أجل حلّ الخلاف على انتخاب شخص يقوم بالتفؤّل لهم، على أن يسمّوا هذا الطفل بأيّ اسم يأتي به ذلك التفؤّل ، وهذا ما حصل فكانت نتيجة ذلك التفؤّل انتخاب اسم مصطفى لذلك المولود ، وقبل الجميع به!! حسناً.. من أين علم ذلك الطفل كلّ هذه الأمور، والحال أنّ تلك الأسرة كانت تعارض أمثال هذه الأسماء وكان جوّها بعيداً كلّ البعد عن أمثال هذه المطالب، فهم من النوع الذي يتبرّأ من أمثال هذه الأسماء ويهرب منها، ولم يكن يخطر في بالهم مطلقاً أن يسمّوا ابنهم بمثل هذا الاسم! فانظروا إلى هذا الطفل ذي العشـر سنوات الذي جاء وأخبر بخبرٍ صحيح في المستقبل، ووقع ما أخبر به تماماً، فهل يجعله ذلك من أولياء اللـه؟!! كلاّ بالطبع ليس كذلك!
إنّ أمثال هذه الأمور قد تحصل مع أيّ واحد منّا؛ إمّا على شكل منام، أو بصورة إرهاصٍ وخطور، كما أنّه قد يحصل لأفراد آخرين سواءً كانوا من المسلمين أو من غيرهم، وكما قلت سابقاً فأنا كنت وما زلت أعرف أشخاصاً مسيحيين ويهود وحتّى من الديانة البوذية عندهم مثل هذه القدرات، وهم أحياناً يخبرون بأمور يثبت لنا أنّها واقعية وصحيحة، وذلك يحكي عن امتلاكهم لبعض الحالات الباطنيّة. حسناً، ولكن من الواضح أنّ ذلك لا يجعلهم من أولياء اللـه!
ولو تجاوزنا عن هؤلاء ونظرنا إلى المسلمين، فسنجد أنّ هناك العديد من الأفراد الذين يهتمّون بتزكية النفس وبالرياضات وأمثال ذلك من الأمور، وكانت تصدر منهم بعض الأعمال الخارقة للعادة، مع أنّ بعض هؤلاء من أهل السنّة، وهم يقومون بأعمال لا يقدر الأفراد العاديّون على أدائها بالرغم من كونهم من أهل السنّة!! فمثلاً هو يغيّر بعض الأمور بمجرّد إرادته، وهذا الحقير قد شاهد بعض هذه الأمور بنفسه أيضاً، والحال أنّ هؤلاء من السنّة الذين لا يؤمنون بإمامة الأئمّة عليهم السلام وولايتهم. حسناً فكيف يمكن لمثل هذه الأمور العجيبة أن تصدر من أمثال هؤلاء؟!
كيف نفسّر صدور خوارق العادات من غير الشيعة المؤمنين؟
إنّ الجواب على كلّ هذه التساؤلات هو ما أفاده الأعاظم والأولياء في كتبهم أنْ: إذا رأيتم أنّ شخصاً عنده بعض خوارق العادات، فذلك من الآثار الناشئة من النفس، وذلك أنّ اللـه تعالى قد خلق نفس الإنسان بهذا الشكل، فكما أنّ البشر من الناحية الظاهرية عنده بعض القدرات والقوى ... (وأرجو أن تنتبهوا هنا لما أقوله لأنّ هذه المسألة دقيقة جداً، والكثير من الاشتباهات والأخطاء التي نرى العديد من الأفراد قد ابتُلوا بها سببها الخلط والاشتباه في هذا المطلب!! وهذا قد يصيب حتّى بعض تلاميذ الأولياء، وذلك كلّه كان وما يزال ناشئاً من الخطأ في هذه المسألة خصوصاً!!) ... كما أنّ اللـه تعالى خلق بدن الإنسان بحيث أنّه قادر على أداء بعض الأعمال، مثل رفع بعض الأحمال من الأرض، وكالحركة والانتقال وما شابه ذلك من الأعمال التي يؤدّيها الناس في حياتهم العاديّة كلٌّ بحسب قدرته وطاقته، دون أن يكون لذلك أيّ علاقة بالإسلام أو الكفر.. فلو نظرنا إلى المسابقات الرياضيّة التي تجري في كلّ مكان كمسابقات الجري مثلاً؛ فهل كلّ شخص يفوز فيها لا بدّ أن يكون مسلماً شيعيّاً إماميّاً ؟! ليس الأمر كذلك طبعاً، فأكثر هؤلاء حتّى لم يسمعوا باسم الأئمّة عليهم السلام، وكلّ ما في الأمر أنّه شخص قويّ قد تمرّن على الجري، فصارت قدرته على ذلك أقوى من منافسيه حتّى المسلمين والموحّدين منهم، ولذا فهو يسبقهم ويفوز في المسابقة، وكذلك الأمر بالنسبة للمباريات الأخرى في كرة القدم وغيرها من الألعاب المنتشرة حاليّاً، فهي ليست من الأمور التي تحتاج إلى عنايات خاصّة من قبل اللـه تعالى لمجموعة خاصّة من الأفراد دون غيرهم، بل هذا اللاعب إنسان عادي، يبذل جهداً كبيراً في التمرين والجري خلف الكرة! فهو بدلاً من أن يقضـي عمره في البحث عن اللـه تعالى؛ يقضي عمره في الجري خلف الكرة! فكأنّ الكرة تجرّه وتقوده خلفها!! يا عزيزي، إنّ الكرة ليست إلا قطعة من البلاستيك فلماذا تجري وراءها ؟! [يبتسم سماحة السيّد] ، فأينما ذهبتْ الكرة ذهب وراءها، والأعجب أن الدنيا كلّها تتابع ذلك!! الدنيا كلّها تتابع هذه المهزلة!! إنّ الرياضة أمرٌ جيّد، ولكن ليس بهذا الشكل ولا بهذه الطريقة! فالحقير لا يعارض الرياضة أبداً، ولكنني أعارض هذا النوع من المسائل، وأعارض هذه المصاريف الكبيرة التي تهدر على أمثال هذه الأمور التي ينبغي أن تصرف بدلاً من ذلك في عمران الدول وسدّ حاجة الفقراء، فإذا بها تصرف على أيّ شيء؟! على رمي الكرة هنا وهناك!! هل التفتّم ؟ إنّ جميع هذه الأمور من مخطّطات الاستعمار ومؤامراته.
ممّا لا شكّ فيه أنّ الرياضة جيّدة، وأنّ على الجميع أن يمارسوا الرياضة في الصباح والمساء أيضاً، ولكن الرياضة ليست منحصرة بالكرة، أليس كذلك؟! والإسلام قد حثّنا على الرياضة أيضاً، فمن الرياضات المفيدة جداً ركوب الخيل، وكذلك الرماية والسباحة وتسلّق الجبال والمشي وغيرها من الرياضات التي يمكن للإنسان أن يمارسها، فلا يوجد داعٍ لأن يبني الإنسان حياته على أن يضـرب الكرة ويجري وراءها هنا وهناك!
على كلّ حال، ليس هذا وقت هذا الموضوع، ولكن ينبغي أن نعلم بأنّه يجب أن يكون افتخارنا بأمور أخرى، فإن كان ولا بدّ من الفخر، فيجب أن يكون موضع افتخارنا أشياء أخرى.. يجب أن نبحث عن افتخاراتنا في المسائل العلميّة لا في ركل الكرة وتسجيل الأهداف! ومن العجيب كيف أنّ الناس يفرحون إذا دخلت الكرة في الشبكة، ويصرخون ويصفّقون ابتهاجاً بذلك! كيف يمكن لإنسان عاقل أن يصـرف من وقته ساعة كاملة في مشاهدة أمثال هذه الأمور ويعقد المؤتمرات ويصدر البيانات حولها؟!
حسناً.. لماذا يفوز غير المسلمين في هذه المسابقات؟ لأنّ هذا الأمر غير مربوط بدين الإنسان ومذهبه؛ فالإنسان إذا تمرّن على تقوية الجانب الظاهري منه فإنّ ذلك الجانب سيصير قويّاً، فمثلاً لو كنتَ الآن قادراً على رفع ثقل وزنه عشرون كيلو جراماً، فإنّك لو تمرّنت وتدرّبت فسوف تصير قادراً على حمل ثلاثين كيلو جراماً ثمّ أربعين كيلو جراماً حتّى يصل الأمر إلى أوزان ثقيلة. فما هو سبب ذلك؟ سببه التمرين ليس إلاّ، ولا علاقة للإسلام والتشيّع والولاية بذلك، والدليل على ذلك أنّ أكثر هؤلاء اللاعبين هم من غير المسلمين.
ونفس هذا الأمر يتكرّر في أغلب الفنون أيضاً، فالفنّان إذا أراد أن يظهر فنّه والرسّام إذا أراد أن يبدع لوحة فنّية لا يلزم عليه أن يكون مسلماً وموحّداً حتّى يتمكّن من ذلك.. كلاّ ليس الأمر كذلك أبداً، بل إنّ الكثير من الفنّانين والرسامين لم يكونوا من المسلمين، ويشهد على ذلك هذه الفنون الموجودة في الكنائس الواقعة في دول العالم المختلفة؛ فهل كان صانع هذه اللوحات والفنون مسلماً؟! بالطبع لم يكن كذلك، وإنما كان مسيحياً، بل إنّه يوجد في البلاد المسيحية بعض الأعمال الفنية التي لا نظير لها في بلادنا الإسلامية، وقد حاول المسلمون تقليدهم فيها، وحتّى القصور التي بناها حكّام الأندلس وما زالت آثارها باقية ومعروفة فقد كان الفنّانون اللذين صمّموها من المسيحيّين، فالفنّ المسيحي هو الذي تمّ إعماله في تشييد هذه القصور! وكذلك الأمر في بعض الكنائس الموجودة في الدول الأخرى، فهذه الكنائس العملاقة لا نظير لها في البلاد الإسلاميّة! فمن الذي أوجد هذه الفنون؟ الفنّانون المسيحيّون ولا ريب.
ليست العمارة والفنون مجال فخر الإسلام و تميزه
وهؤلاء اللذين يزعمون أنّ الفنون المعماريّة من مفاخر الإسلام إمّا أنّ اطّلاعهم قليل أو لا أدري على أيّ أساس يبنون كلامهم. فكلامهم من أساسه خاطئ، فما يتميّز به الإسلام ليس إنشاء العمارات الناطحة للسحاب وأمثال هذه الأمور التي تجلب الأنظار، فذلك أمرٌ يقدر الجميع على الإتيان بمثله! خذ مثلاً التمثال الذي صنعوه للسيّد المسيح عليه السلام في كنيسة سانت بيتر في الفاتيكان قد استغرق صنعه سبعة وعشرين سنة، وأثار دهشة كلّ من رآه. فأين تجدون نظيراً لهذا التمثال في البلاد الإسلامية؟! ومن الواضح طبعاً أنّ صنع التماثيل حرامٌ، وهذه التماثيل التي يضعونها في الميادين العامّة كلّها حرامٌ شرعاً، ولكن بحثنا ليس متعلّقاً بحرمتها الشـرعيّة الآن، بل نحن نتحدّث عن دقّة صناعتها، ففي ذلك التمثال يمكنكم أن تشاهدوا حتّى الشعرات التي على يده، وقد عمل في صناعته ثلاثة نحّاتون لمدّة سبعة وعشرين سنة، فأيّ واحد منهم كان مسلماً؟! وإن كنتم تدّعون أنّ الإسلام يتميّز بأمثال هذه الأمور؛ فأحضروا لنا عملاً فنّياً يضاهي هذا العمل! فأيّ عمل فنيّ إسلاميّ شيعيّ يمكنكم أن تقدّموه في مقابل هذا؟! لا يوجد لديكم عمل فنيّ في البلاد الإسلاميّة يبلغ معشار ذاك العمل!
[لكنّ هذا ليس هو الميدان الذي يتميّز به الإسلام]، بل إنّ ما يتميّز به الإسلام هو أنّه يأخذ شخصاً قد بلغ من الانحطاط الفكري والإنساني إلى الحدّ الذي يجعله يدفن ابنته الصغير وهي حيّة... يأخذ شخصاً مثل هذا ويربّيه حتّى يصل به إلى مقام يغبطه عليه الأنبياء!! هذا هو فنّ الإسلام وهذا هو ما يتميّز به الإسلام! وأمّا بناء المباني وما شابه ذلك فليس أمراً ذا بال! بل فنّ الإسلام وما يتميّز به هو قدرته على تربية إنسانٍ في أدنى المراتب بحيث لو أردنا أن نقيس رتبته في ارتباطه باللـه وعبوديّته فسوف نجده أدنى من الحيوان الوحشي، وسنرى أنّه أشدّ وحشيّة منه (كما نرى فعلاً بأمّ أعيننا)، فيأتي الإسلام ويضعه في جوّ من التربية والتعالي ويغيّره ويحوّله حتّى يصل به إلى مرتبة تغبطه عليها الملائكة!! هذا هو فنّ الإسلام وما يتميّز به!
الجانب الباطني للإنسان قابل للتقوية كالجانب الظاهري
أجل.. هذا الذي بيّناه متعلّق بالقدرات الظاهرية للإنسان.. يعني إنّ اللـه خلق الإنسان وجعله بنحو يستطيع من خلال التدريب أن يقوّي هذا الظاهر، وينقله من حالة الضعف إلى القوّة. انظروا إلى هذا العمود؛ إنّ هذا العمود له قدرة معيّنة، فهو يستطيع أن يتحمّل وزناً معيّناً محدوداً، فإذا حمّلتم عليه وزناً أكثر من قدرته فإنّه سوف ينكسر ويسقط على الأرض وسينهار السقف الذي يحمله! أليس كذلك؟ وهذه القدرة التي لديه ثابتة لا تتغيّر بمرور الزمان. ولكنّ الإنسان ليس كذلك؛ فالإنسان يستطيع أن يقوّي بدنه، وأن يرفع من حدود قدرته واستطاعته، سواء كان هذا الشخص منضوياً تحت الإسلام والتشيّع أو تحت اليهوديّة أو النصرانيّة أو أيّ دين ومذهب؛ فالدين لا علاقة له بذلك أصلاً، بل هو أمر من خصائص هذا البدن الظاهري للإنسان.
إنّ هذا الأمر ينطبق كذلك على الجانب الباطني للإنسان، فهذا الإنسان ـ بغضّ النظر عن دينه ـ له نوع اتّصال بالعوالم العليا والعوالم الربوبيّة، وحتّى هو لا علم له بهذا الاتّصال، و يمكن لهذا الاتّصال أن يزداد قوّة بواسطة حصول بعض الأمور الاختياريّة أو غير الاختياريّة، فإذا قوِيَ هذا الاتّصال، فإنّ بعض المطالب سوف تنكشف لهذا الإنسان أيّاً كان دينه واعتقاده. وهذه الأمور كما قلنا قد تكون اختيارية أو بدون اختيار من الإنسان نفسه، وهذا أمر مشاهد فعلاً، فبعض الأفراد بواسطة أداء بعض الرياضات انكشفت لهم بعض المسائل، والحال أنّهم من الملحدين! يعني هم لا يؤمنون باللـه أصلاً فضلاً عن الالتزام بالدين! كما أنّه قد شوهد بعض الأفراد الذين حصلت لهم بعض الحالات بسبب تحمّل بعض المشاكل والمصائب، فهو مثلاً قد فَقَدَ ولده، ولكن بسبب هذه المصيبة التي حلّت به انفتحت عينه فصار قادراً على مشاهدة بعض المسائل، وشوهد أنّ بعض الأفراد أصيبوا بمرض معيّن، وبعد أن برئوا منه انكشفت لهم بعض الحقائق، وشوهد أفراد آخرون حلّت بهم مصيبةٌ ما، فأدّى ذلك لأن تتجلّى لهم بعض المسائل، فتغيّر مسار حياتهم بسبب ذلك، وشوهد أفرادٌ آخرون يمارسون بعض الرياضات، وبسبب تحمّل هذه الرياضات الصعبة فإنّ اتّصالهم بعالم المثال والبرزخ صار قويّاً! إنّ هذه الأمور قد وقعت فعلاً وشوهدت ودوّنت في الكتب، وهي موجودة في كلّ أنحاء العالم حتّى في هذا الزمان، وأخبار هذه الأمور تُتناقل كثيراً. والآن في بلاد الهند، حيث تكثر أمثال هذه الأمور، نلاحظ أن خمسة وتسعين بالمائة من المرتاضين الذين يشتغلون بأمثال هذه الأمور ليسوا من المسلمين أصلاً! وهم يستطيعون أداء أمورٍ عجيبة، ويفعلون أموراً خارقة للعادة لا يستطيع أحدٌ منّا أن يفعلها ... نحن الشيعة الإماميّة لا نستطيع أداء هذه الأفعال التي يؤدّونها!
فما هو السبب في ذلك؟! سببه أنّ هذا الأمر من خصائص البشر [بغض النظر عن دينهم]، فالإنسان بمجرد أن يولد من بطن أمّه يسجّلون في ملفه: هذا بشرٌ!! وهذا البشر يحمل معه هذه القابليّات، ولا علاقة لذلك بالدين والمذهب والاعتقادات التي يؤمن بها، بل هذه المسألة ترافقه بغض النظر عن ذلك كلّه. ولهذا السبب نحن نشاهد بعض الأفراد يمتلكون بعض الحالات والقدرات التي قد توجب حيرة الإنسان وتعجّبه، فهل ينبغي علينا إذا رأينا أمثال ذلك من أحد الأشخاص أن نعتبر أنّه قد بلغ أعلى المراتب؟! وأنّ الأمر قد انتهى بالنسبة له؟! وهل ينبغي أن نعتبره من أولياء اللـه الكاملين؟! أم لا؟! في الحقيقة إنّ هذا الشخص قد وصل إلى درجتين من درجات المعرفة فحسب، ولكن كم بقي من درجات المعرفة التي لم يصل إليها بعد؟ بقي مليارات الدرجات!! وهذا لم يُعط إلا درجتين منها! ومع ذلك نحن نتعجّب ونحتار في أمره! يا عزيزي، هذا لم يُعطَ إلا هذا المقدار القليل، وبقي له مليارات الدرجات لكي يصل إلى مرتبة الإنسان الكامل! إنّ ما أقوله لكم ليس من باب المبالغة أبداً! وسأخبركم بهذا المقدار فقط: إنّ الإنسان بشكل عام ، وليس خصوص النبي والأئمّة المعصومين عليهم السلام، بل كلّ أفراد البشر بما فيهم ذلك اليهودي و النصراني والبوذي وحتّى الملحد الذي لا يؤمن باللـه.. هذا الإنسان يمكن أن يصل بواسطة التربية الإلهية إلى مقامٍ بحيث يستطيع أن يقوم بأيّ أمر يخطر في بالكم! وليس الكلام عن المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام!
إنّ هذا الذي نبيّنه الآن سوف نحتاجه بعد قليل في المباحث اللاحقة إذا سمح الوقت لنا؛ فالإخوة الكرام قد قرّروا أنّهم إذا رأونا قد تجاوزنا الوقت الذي سمح لنا به الأطباء فإنّه سيعطّلون المجلس بأنفسهم [يضحك سماحة السيّد] ! ونحن قد وعدناهم بالالتزام بذلك أيضاً. ولهذا السبب فإذا وصلنا إلى نصف مبحثٍ ما وانتهى الوقت فإنّنا سنضطر لقطع الحديث فيه وإكماله في الجلسات اللاحقة، ونحن ننوي أن نكمل البحث في جلستين أو ثلاث إن شاء اللـه، ومن المقرّر أن يتكرّم الرفقاء بتدوين هذا المطلب على صورة كتاب، مع بعض الإضافات التي رأينا أنّ هذه المجالس لا تتحمّلها، ولذا فإنّ الحقير سيقوم بتدوين تلك الإضافات، ويتمّ طباعة البحث على صورة كتاب، فهذا البحث مهمّ جداً جداً.
أجل.. هؤلاء البشر يمكنهم الوصول إلى هذا المستوى وهذه المرتبة، وهي أنّه يمكنه القيام بأي فعل يريد القيام به مهما كان! هذا هو الوليّ الإلهي!
من هو الولّي الإلهي الذي ندّعي بأنّ لقوله و فعله حجية ذاتية؟
ومن هنا يظهر المراد مّما ذكرناه في المجلّد الثاني من كتاب "أسرار الملكوت"، وتتمّته ستأتي في الجزء الثالث منه، الذي لا يزال العمل عليه قائماً فعلاً... يظهر ما ذكرناه من أنّ كلمة "الوليّ الإلهي" لا تطلق على أيّ شخص يمكنه أن يقوم ببعض الأفعال العجيبة أو بأمر غير عادي، أو لمجرّد قدرته على الإخبار عن الغيب.. فإن الكثير من الناس يمكنهم القيام بذلك، وهناك العديد من هؤلاء الأشخاص الذين لديهم مطالب واضحة، ولديهم قوى، وقد وصلوا إلى مراحل بحيث استطاعوا القيام بأعمال خارقة للعادة لا يستطيع العرف والناس العاديّين القيام بها.. بل إنّ الوليّ الإلهي المقصود في عباراتنا هو مثل سلمان الفارسي الذي قال في حقّه رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله: لو كان الإيمان عشر درجات لكان سلمان في العاشرة۱ حتى صار "منّا أهل البيت".. أو ما ورد في سلمان: " لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لكفّره" أو "قتله"، وكذا الحال فيما ورد عن بعض أصحاب الأئمّة عليهم السلام الذين وصلوا إلى هذه المرتبة؛ مرتبة السـر والباطن والاندكاك في الباطن، هذا هو وليّ اللـه!! وهذا الولي،" نقول بأنّ لقوله وفعله حجيّة ذاتيّة بالنسبة إلى الفرد الذي يخاطبه، هذا هو المراد بالولي في كلامنا.
عرض فعل وليّ اللـه على الثقلين نفياً وإثباتاً مثل عرض فعل الإمام على الكتاب
وقد ذكرنا أنّ مسألة عرض فعل وليّ اللـه على الكتاب والسنّة نفياً وإثباتاً مثله مثل عرض فعل الإمام المعصوم عليه السلام على الكتاب، دون أيّ فرق في المقام. ألا يجب علينا عرض فعل الإمام المعصوم على الكتاب والسنّة؟ ألم يقل الإمام عليه السلام اعرضوا كلامنا على الكتاب والسنة: "ما وافق كتاب اللـه فخذوه وما خالف كتاب اللـه فدعوه"، وقد ضربنا أمثلة على هذا الأمر، وذكرنا مصاديق وأنه ما هو المراد من موافقة كتاب اللـه، وأيّ آية يوافق؟ إذ القرآن يشتمل على آيات مختلفة من أوّل سورة الحمد إلى آخر سورة الناس تصل إلى ما يزيد على ستّة آلاف آية.. فأيّ آية من آيات القرآن الكريم تتوافق مع ما طلبه الإمام الصادق عليه السلام من الرجل الخراساني عندما أمره بالدخول في التنّور الملتهب ناراً.. مع أيّ آية ينطبق أمر الإمام هذا؟ أليس لدينا في القرآن: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}٢؟ فلماذا يطيعه في ذلك؟ وهل يجب عليه أن يطيعه في هذا الأمر؟ من الطبيعي أنه يجب عليه الإطاعة... فإمّا أن نقول بأنّ الرواية كاذبة وغير صحيحة.. ونفعل ما يفعله البعض هذه الأيّام بأن ننعت كلّ شيء بالكذب في هذه الأيام؛ حيث يقولون عن أي شيء بأنه لا سند له وأنّه كذب، حتى وصل الأمر إلى نهج البلاغة فقالوا بأنّه لا سند له، فلم يبق لنا شيء!! والحال أنّها ليست كاذبة بل هي صحيحة دون شكّ!
حسناً.. إن زعمتم أنّ الرواية غير صحيحة فماذا تفعلون بآيات القرآن الكريم؟! فآيات القرآن لا يمكن التشكيك بصحّتها، وإن زعمتم أنّ هذه الروايات وأنّ نهج البلاغة سندها ضعيف؛ فماذا تفعلون بقوله تعالى: { إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُك}۱؟! فهذه آية قرآنيّة، وماذا عن قصّة الخضر التي أوردها اللـه تعالى في القرآن حيث يقول: {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَه}٢؟! فهذه آيات قرآنيّة ولا يمكن التشكيك في سند هذه الآيات!! أم أنكم تقولون أيضاً بأنّ هذه الآيات لا سند لها وأنّها مضافة إلى القرآن؟ هل أضيفت قصة النبي إبراهيم إلى القرآن ولم تكن موجودة؟!
لماذا ذُكرت قصّتا الخضر وإبراهيم عليهما السلام في القرآن الكريم؟
ثمّ من العجيب بأنّ اللـه لماذا أورد هذه القصص في القرآن؟! فبماذا ننتفع بها؟! ولماذا علينا أن نعرف هذا الأمر الذي قام به شخصٌ ما؟! هل فكّرنا في هذا الأمر؟ هل يصح أن يُقتل غلام في العاشرة من عمره؟ ما السرّ الذي علينا أن نفهمه في هذا الأمر؟ هل يريد اللـه تعالى أن يحكي لنا قصة وتاريخاً بأنه جرى هذا الأمر منذ ألفي سنة؟! إذا كان الأمر كذلك، فما دخلي أنا بذلك؟ وما علاقتي بتلك الأمور؟ لو فرضنا أنّ المسألة حصلت قبل ألفي سنة أو ثلاثة آلاف سنة، فلماذا يأتي اللـه تعالى ويبيّنها لي الآن؟! إنّه يريد أن يبيّن لنا أنّ لدينا في نظام التشـريع ونظام التكوين مسائل من هذا القبيل!! فماذا تقولون في ذلك؟ فالنبي إبراهيم حمل السكّين وأراد أن يذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام، والمسألة لم تكن مسألة مزاح.. فإبراهيم عليه السلام حمل السكّين وضغط به وهو يريد أن يذبح إسماعيل عليه السلام بكلّ جدّية سواءً قامت السكّين بالقطع فعلاً أم أنّها امتنعت فذلك كلام آخر ولا علاقة لبحثنا به.. فإبراهيم حاول جهده أن يؤدّي الذبح ولكن السكّين قالت له: الخليل يأمرني والجليل ينهاني، وهذا أمرٌ آخر. ولكنّ الكلام في أنّه : ألم يقم بهذا الأمر ويؤدّي ما طلب منه؟ يعني عندما كان النبي إبراهيم يحزّ رقبة ابنه إسماعيل، فهل كان يعلم بأنّ هذه السكّين لا تقطع؟! إذا كان الأمر كذلك فهو لم يقم بشيء مهم!! وحتّى أنا يمكنني أن أقوم بذلك.. بل لو أنّ اللـه أعطاني عشرة أولاد لكنت وضعتهم في صف واحد وفعلت ذلك، لأنّي أعلم بأن السكّين لن تذبح!! فهل هذا العمل صعب؟ ليس صعباً! وهذا ليس امتحاناً، فالامتحان إنّما يكون امتحاناً فيما إذا لم يكن الشخص يعلم بحقيقة الأمر! بل كان يحسَب بأنّ هذه السكّين ستذبح قطعاً، فهو يعلم أنّها حادّة وماضية، وأنّها حادّة كـ "فرند السيف"، وهو مع علمه بذلك فإنّه يمتثل الأمر المتوجّه إليه.
إنّ النبي إبراهيم لم يعترض على اللـه تعالى ويقلْ: إنّ قتل النفس المؤمنة حرام! وأين يوجد في الوحي الذي أوحيتَه إليّ حتّى الآن بأنّ قتل النفس أمر جائز؟! والآن عندما وصل الأمر إليّ أرى أنّك تأمرني بقتل ولدي إسماعيل الذي لا مثيل لشعرة من شعراته في العالم أجمع؟! كلاّ.. لم يقل ذلك ولم يعترض بل أقدم على هذا الفعل مع علمه بأنّ هذا السكّين حادّ وقاطع. هل كان إبراهيم عليه السلام يحتمل أنّ الأمر بخلاف ذلك وأنّ السكين لن يقطع؟ كلاّ ، فمن المسلّم به أنّه كان عالماً قطعاً بأنّ هذا السكّين سيذبح ولده ويمزّقه ويقتله، لكن لماذا قبل بهذا الأمر؟ لقد ذكرنا فيما سبق بأنّه كما أنّ حرمة قتل النفس قد شرّعت من قبل الباري تعالى، فكذلك الأمر بقتل النفس نشأ من ذلك المبدأ بعينه، فهنا لا مخالفة.
لابدّ أن يكون الإنسان على يقين بتوجّه التكليف الخاص إليه قبل تنفيذه
نعم، لا بد أن يكون قاطعاً بتوجّه الأمر إليه لا محتملاً له؛ حيث ورد لدينا في الروايات بأنّ النبي إبراهيم عليه السلام كان شاكّاً في هذا الأمر في البداية، ثم رأى في الليلة الثانية نفس الرؤيا، وهكذا في الليلة الثالثة حتى وصل إلى يقين بأن هذا الأمر هو من اللـه قطعاً، إذ لا يتصوّر بأنّ الذي يأمر النبي بهذا الأمر هو الشيطان! فعندما وصل الأمر إلى مرحلة القطع، علم أنّه تكليف من قبل اللـه! وهنا قام إبراهيم بحساب الأمر وقال في نفسه: إنّ الوحي الذي كان يأتيه من قبل اللـه تعالى: بما أنّه أتاه من ناحية اللـه ومن الناحية الربوبيّة فهو كان حجّة، وهذا الوحي الآتي من قبل اللـه تعالى قد يتبدّل إلى أمرٍ مخالفٍ ولكنّه نابع من نفس المصدر الربوبي، وعندئذٍ يكون حجّة أيضاً، وعندما يصير حجّة، يأتي ويحلّ محلّ الأمر الأوّل؛ فحتّى الآن كنتُ أقول لك : إنّ قتل النفس حرامٌ! أمّا الآن فأقول لك: إنّ قتل النفس المحترمة وذبح ولدك إسماعيل أمر واجب!! لا أنّ الحرمة ترتفع فقط، بل حتّى الكراهة والاستحباب يرتفع ويحلّ محلّه الوجوب! وهو ما يقابل الأمر الأوّل بمائة وثمانين درجة. فلماذا لم يعترض النبي إبراهيم على اللـه تعالى بشيء؟ لأنّه يعلم بأنّ ما يأتي من قبل اللـه هو الحقّ، وإذا كان حقّاً، فليس لدينا تعدّد في الحقّ، فالحقّ في الأمس كان هذا، واليوم ذلك، وهذا الأمر ليس بيدي ولا بيدك ولا علاقة لنا به، فبالأمس كان اللـه تعالى يقول: إنّ قتل إسماعيل حرام ويسبّب دخول جهنّم؛ {فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فيها}۱، ألم يرد في القرآن بأنّ قتل الإنسان يوجب الخلود في جهنّم؟ هذا العمل الذي يوجب الخلود في جهنّم، يتبدّل إلى أن يصير سبباً للخلود في الجنّة! فاليوم نقول لك: إذا كنت تريد الخلود في الجنّة، فيجب عليك أن تتخلّى عن ولدك! وقد ذكرتُ لكم بأنّ هذه المسألة قد تحصل معنا جميعاً.. لا بخصوص مسألة ذبح ابننا، بل قد تحصل بشكل آخر في حياتنا.. كلٌّ بحسب وضعه وخصوصيّاته.
قبول الإمام الحسين عليه السلام للتكليف الخاصّ وبلوغه مقام الشفاعة الكبرى بذلك
ألم يحصل هذا الأمر بالنسبة إلى سيّد الشهداء عليه السلام، ألم يقل الإمام إنّ اللـه شاء أن يراك قتيلاً، عندما عزم الإمام على الخروج من المدينة، ماذا قال لأخيه محمد بن الحنفيّة؟ قال: لقد رأيت رسول اللـه في المنام وقال لي: اخرج إلى العراق فإنّ اللـه شاء أن يراك قتيلاً! ماذا فعل الإمام؟ هنا علم الإمام يقيناً بأنّ تكليفه هو الذهاب فعلاً. فقيل له: لماذا تحمل النساء والذراري معك؟! فقال: إنّ اللـه شاء أن يراهنّ سبايا. فقد شاء اللـه أن يراني قتيلاً، وأن يراهنّ سبايا، فلدينا مشيئتان! وتقديران! فإن كنت تريد أن تصل إلى مرتبة الشفاعة الكبرى، ومعنى الشفاعة الكبرى ليس الشفاعة التي تشمل فقط أصحاب الذنوب والمذنبين وأمثالهم، بل هي الشفاعة الشاملة لجميع الأنبياء والمرسلين، فسيّد الشهداء شفيع لجميع الأنبياء، غاية الأمر أنّ الأنبياء لم يقترفوا ذنباً، بل الأنبياء بحاجة إلى شفاعة سيّد الشهداء عليه السلام للوصول إلى كمالهم، والأولياء لم يذنبوا، لكنّهم بحاجة إلى شفاعة سيّد الشهداء للوصول إلى مقام الذات!! هذا الذي يسمّى الشفاعة الكبرى. ولنقِسْ على هذا سائر الأمور لنعرف ماذا هناك! جميع هؤلاء بحاجة إلى شفاعة سيّد الشهداء، وأنت عندما أتيت إلى هنا، أتيت بشفاعة سيّد الشهداء، وإلاّ لما أتيت. وأنا الآن عندما أتحدّث، أتحدّث بشفاعة سيّد الشهداء، وإلا لما استطعت أن أنبس بكلمة. كثيرٌ من الافراد يشفعون، لكنّ الشفاعة الكبرى شيء آخر تماماً. حركة عالم الوجود من ابتداء الخلقة إلى ما دام الوجود موجوداً، كلها بشفاعة سيّد الشهداء، هل التفتّم؟ الصلاة التي نصلّيها.. صلاة المغرب والعشاء التي صلّيناها الليلة.. هذه الصلاة التي صلّيناها الليلة إنّما صلّيناها بشفاعة سيّد الشهداء، والصلاة التي سنصلّيها غداً هي بشفاعة سيّد الشهداء. وعندما يرفع الستار غداً نعرف ـ وقد رفع بالنسبة إلى الكثير من الأشخاص فعرفوا! ـ عندها سنعرف من هو الذي يقف وراء تلك الصلاة التي كنت تصلّيها! عند ذلك نلتفت إلى حقيقة الأمر! والبحث هنا صار أكثر دقّة وعمقاً... لقد سمعت من العظماء أموراً لا يمكنني أن أتفوّه بها أساساً.. وأنّ حقيقة القضيّة ما هي، لا يمكن الحديث بها أبداً إلاّ أن يصل الإنسان بنفسه إلى تلك المراتب ويقف على حقيقة الأمر بنفسه! نسأل اللـه تعالى أن يوصلنا إلى تلك المراتب، وعند ذلك نفهم الأمر.. هذه هي الشفاعة الكبرى.
كيف تحصل هذه الشفاعة؟ تحصل من خلال التضحية بعليّ الأكبر، والتضحية بعليّ الأصغر والتضحية بأبي الفضل العباس.. والذين لا يمكن أن نحصل على مثيل لشعرة من شعراتهم إلى يوم القيامة. يجب أن يضحّي بمثل هؤلاء الأشخاص، لا مجرّد التضحية العاديّة، بل بتلك الطريقة التي جرت في يوم عاشوراء وتلك المسائل كانت عجيبة جداً، ومسائل عالية جداً. إذاً ينبغي عليه أن يضحّي بمثل هؤلاء الأشخاص.. يجب أن تتخلّى عن تعلّقات النفس بأجمعها.. وسوف نريك سبي نسائك وبناتك أمام عينيك، ونريك نساءك ظُهر عاشوراء بأيّ وضعيّة سوف يكونوا؟ فالناس سوف ينظرون إليهنّ.. سوف يشاهدهم الناس في الأسواق والأزقّة، وفي مجلس ابن زياد، ومجلس يزيد، بل سوف يتم التعريض بالزواج منهنّ في مجلس يزيد!!! هل هناك أعظم من هذا؟! ألم يقع ذلك فعلاً؟! لقد شاهد الإمام الحسين عليه السلام جميع هذه الأمور بحذافيرها، وقيل له: هل تقبل بهذا الأمر أم لا؟! إذا أردت مقام الشفاعة الكبرى لا بدّ من القبول بذلك. عليك أن تقبل بجميع هذه الأمور؛ عليك أن تقبل بسبي النساء، وسائر المصائب التي جرت عليه وعلى نسائه.
هل تعتقدون بأن مسألة سبي السيّدة زينب كانت أقلّ من مصيبة عاشوراء؟! إنّ مسألة عاشوراء كانت يوماً من الصباح إلى المساء، ولكنّ مصيبة كربلاء بدأت في الحقيقة من اليوم الحادي عشـر.. وكذلك قصّة الإمام السجاد وما جرى عليه، كان كل يوم منها عبارة عن مصيبة عاشوراء.. لقد بُيّنت هذه المسائل جميعها للإمام الحسين عليه السلام مقدّماً، وسئل هل تقبل بها أم لا؟
يوم الغدير كان يوم بداية المصائب لأمير المؤمنين عليه السلام
في يوم الغدير بُيّن لأمير المؤمنين حال أولئك الرجال الفاسقين الذين أتوا إلى أمام منزله وأشعلوا النار بالباب.. فقد شاهد أمير المؤمنين عليه السلام ذلك كلّه يوم الغدير. يعني أنّ نفس ذاك اليوم الذي توّج فيه أمير المؤمنين بتاج الولاية من قبل رسول اللـه ولبس خلعة ولاية اللـه، بعد ساعة من تلك المبايعة جيء بأمير المؤمنين وجُعل يرى جميع ما سوف يجري عليه بالتمام، وأنّهم سوف يشعلون النار ببيته وما إلى ذلك من أمور.. فقد أتى جبرائيل وبيّن جميع ذلك للنبي وقال له: بلّغ ذلك لأمير المؤمنين، وكان علي يجيب : لقد صبرت على ذلك!! هل تعتقدون [أنّ المسألة كانت بهذه البساطة:] بأنّ النبي أتى ووقف على أقتاب الإبل يوم الغدير ونصّب علياً على المسلمين بعنوانه إماماً ووليّاً، وقال: "من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه"، ثم جاء القوم وسلّموا عليه ـ بما فيهم الثاني الذي لم يعرف اللـه أبداً ـ وقالوا له بخ بخ لك يا علي! عجيب من هؤلاء المتلاعبين والمحتالين.. وفي الواقع عندما يرى الإنسان شخصاً محتالاً يتذكّر أولئك الأشخاص.. [ضحك] فإنّ الأساس لهؤلاء المحتالين والمخادعين هم أولئك الذين كانوا يقولون لعلي :بخ بخ لك يا علي يوم الغدير.. فإنّهم من جهة يأتون ويقولون هذا الكلام لعلي، ثم في الليل يذهبون ويعقدون مجلساً للانقلاب عليه.. وكان فيهم عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد وهذين الاثنين.. هذا هو الاحتيال والخداع.
أجل لقد ذكر جبرائيل جميع هذه الأمور للنبي وقال: بيّنها لعلي عليه السلام، وكان علي يقول: صبرت على ذلك. هكذا كانت المسألة، لا أنّه عليه السلام كان فرحاً لما جرى له، وكان واضعاً رجلاً على أخرى معتبراً أنّ الوسادة قد ثنيت له.. لا! بل إنّ المشاكل ووجع الرأس قد بدأ للتوّ لأمير المؤمنين، وكذا سائر المسائل الأخرى التي لا يمكننا أن نتحمّلها أبداً.. وسوف أبيّن سراً منها هذه الليلة وهو أنّه عندما نُصّب أمير المؤمنين عليه السلام وليّاً وجد الإمام في نفسه ارتباطاً بينه وبين جميع الكائنات دفعةً واحدة، وبواسطة هذا الارتباط تجلّت في نفسه حالة من الأبوّة اتجاه الجميع!!
فإن كان لدينا أب وكان لديه عدّة أولاد، وكان واحدٌ منهم فاسداً، فكم يتأذّى هذا الوالد من سوء فعل ولده؟ لديه ولدان مثلاً من أهل الصلاح والعبادة والصلاة ومن أهل الدعاء والتوجّه، بينما الثالث فاسد، يأتونه كل يوم بخبر عنه؛ فيوماً يخبرونه بأنّه دخل بيت الناس دون إذن.. ويوماً يتّصلون به من قبل الشرطة ويوماً كذا وكذا .. فما حال هذا الأب؟ ثمّ يقولون له أصلح ولدك هذا! وبعد أن يجهد نفسه بإصلاحه، بعد شهر يأتيه خبر بأنّه سرق بنكاً.. يا ويلي! القضيّة السابقة لم تنته بعد! حتى تأتي القضيّة الثانية.. فاذهب الآن وأصلح هذه القضيّة أيضاً؛ فاذهب إلى المخفر والمحكمة وما إلى ذلك.. وبعد مدّة يأتيه خبر بأنّه قتل شخصاً، ففي كلّ شهر يأتيه خبر مفرح من هذه الأخبار.. فكما أنّ وجود هذا الأب يضطرب عند سماع مثل هذه الأخبار، ويشعر بأذيّة شديدة نتيجة ذلك ـ وهذا الكلام لا أقوله من نفسي ـ وهو ينتظر ما هي الأخبار المترقّب سماعها هذا الشهر عن ولده المبارك الذي يجعله يذهب هنا وهناك حتّى يصلح ما أفسده بفعله.. ويجعلك كأب تعيش قلقاً.. كذلك شعر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بمثل هذه الحالة بالنسبة إلى جميع الأشخاص إلى يوم القيامة! وذلك بعد وصوله إلى مرتبة الولاية. وإذا كان الأمر كذلك، فمن أين سيفرح أمير المؤمنين بهذه الولاية؟ إذ إنّه سيشعر بجميع الأشخاص وجميع الكفّار، فإنّه أب بالنسبة إليهم أيضاً.
لو كنّا نحن في هذا الموضع، فهل يمكننا أن نتحمّل ولو بمقدار جزء من مليار؟ لو شعرنا بجزء من مليار من هذه المسألة لكنّا في تلك اللحظة قد منينا بسكتة قلبيّة ووقعنا ميّتين فوراً.. ماذا كان ذلك؟! وأيّة قدرة وصبر كان لدى أمير المؤمنين بحيث عليه أن يتحمّل هذه الأمور؟! حسناً! علينا أن نفكّر في هذه المسألة لنرى ما هي حقيقة الأمر؟! ومن جهة أخرى، يوجد هناك ما يوجب السعادة أيضاً؛ فالأشخاص الذين يصلون إلى المراتب العالية...
لكن علينا أن ننظر إلى هذه المسألة أيضاً: فهؤلاء الذين يأتون ويقولون بأن الأئمة لم يفعلوا شيئاً وبالتالي فلا يمكن أن يكونوا أسوة، إذ كان لديهم هذا الأمر من الأول.. [نقول لهؤلاء:] هل هذا الأمر بسيط؟ هذا الأمر الذي لا يمكنك أن تتحمّل جزءاً من مليار منه.. لا يمكنك أن تتحمّل جزءاً منه أبداً.. فلو أنّ طفلاً من أطفالك ارتكب معصية... دعنا من طفلك، لو أنّ أحد رفقائك ارتكب معصية، أفلا يشغل ذلك بالك؟! أفلا يُؤرّقك ذلك في الليل؟! أفلا يشغل تفكيرك كلّه؟! تخلّص من ذلك إن استطعت! فهذه الأمور متعلّقة بهذه المرتبة، وإذا أردت أن تصل إلى هناك، عليك أن تقوم بهذه الأعمال. فهذا هو وليّ اللـه! هل فهمتم الآن؟! إنّ وليّ اللـه يصل إلى مرتبة تصير فيها نفسه هي نفس الإمام عليه السلام، وهذا هو وليّ اللـه الذي تُصبح لأفعاله حجّية ذاتيّة.
إشكال على القول بحجيّة وليّ اللـه: الإمام له مقام الجامعية بخلاف وليّ اللـه
حسناً، فإذا جئنا نحن ـ والحال هذه ـ وشرعنا بالاعتراض والقول بأنّ الأئمّة والمعصومين عليهم السلام هم في مقام الجامعيّة من حيث المظهريّة للأسماء والصفات، وأمّا بالنسبة للأولياء، فليس بالضرورة أن يكونوا قد وصلوا إلى هذا المقام.. وقد ذكر بعضهم بالفعل مثل هذه الإشكالات الواهية، وهؤلاء هم من الذين يتفوّهون بكلّ ما يخطر على بالهم [أي من دون تأمّل وتحقيق]. فهم يدّعون بأنّه: بما أنّ الإمام يمتلك المظهريّة لجميع الأسماء والصفات، فهو الذي يحقّ له أن يأمر وينهى، وحتّى إذا أمر بشـيء فيه هلاك أو إهلاك، فلا ضير في ذلك؛ لأنّ الإمام جامع لكافّة الأسماء والصفات الإلهيّة، وحينئذٍ، تكون له إحاطة كلّية بالإنسان من جميع النواحي ومن حيث جميع الأسماء؛ فيستطيع ـ من خلال هذه الإحاطة الكليّة ـ أن يأمر وينهى. وأمّا بالنسبة لوليّ اللـه، فيُمكن أن يكون له ظهور على مستوى اسمين أو ثلاثة أسماء من الأسماء الإلهيّة فقط؛ ولهذا، فهو لا يستطيع [أن يأمر وينهى].
الجواب على الإشكال
والجواب عن ذلك هو: من أين أتيتم بهذه الكلمات الملفّقة؟! من قال بأنّ وليّ اللـه له ظهور في اسم واحد فقط من الأسماء الإلهيّة؟! كما أنّنا بدورنا نسألكم: ما هو هذا الاسم الذي ظهر فيه وليّ اللـه دون غيره؟ فنحن نعلم أنّ للـه تعالى ثلاثة أسماء ذاتيّة، وبقيّة الأسماء هي متفرّعة ومتولّدة عن هذه الأسماء الثلاثة (وهي اسم العليم، واسم القدير واسم الحيّ)، وبقيّة الأسماء هي معلولة لهذه الأسماء الثلاثة. فالإحياء والإماتة والرزق .. فاللـه هو الرزّاق العليم و هو القهّار.. و كذلك صفات الغضب والرأفة والرحمة و غيرها من الصفات .. جميعُها متولّدة عن هذه الأسماء الثلاثة. هل هذا واضح؟ فالإمام عليه السلام جامع لهذه الأسماء الثلاثة (أي اسم الحيّ والقدير والعليم)، ومن خلال ذلك يكون مالكاً لجميع الأسماء الواقعة تحت حيطة هذه الأسماء الثلاثة. وعلى هذا، يكون فعله متّصفاً بالحجّية الذاتيّة بالنسبة للإنسان. لكنّ هذا الحقير يسألكم: ما هو الاسم الذي يفتقر إليه وليّ اللـه لكي يكون ـ بسبب هذا الافتقار ـ غير قادر على إلقاء الخطابات للناس؟! هل يفتقر للاسم العليم؟! يُمكنكم أن تسألوا وليّ اللـه عن كلّ شيء تُريدونه، فهل سيتمكّن من الإجابة أم لا؟ فلتجربّوا بأنفسكم. اسألوه حول أيّ شيء كنتم تُفكّرون فيه بالأمس، وسوف يُخبركم. ولقد جرّبت ذلك بنفسي، فقد كان المرحوم العلاّمة يُنبئنا عن كلّ ما كان يدور في بالنا.. ثمّ ماذا! يا سيّدي، ماذا حصل في السنة الماضية؟ سيجيبك: لقد حصل الأمر الكذائي. فما الذي قاله المرحوم السيّد الحدّاد للحاج محمّد علي خلف زادة؟ هذا مع أنّ الحاج محمّد علي خلف زادة لم يكن من الأشخاص العاديّين، بحيث أنّ العديد من الأشخاص لا يبلغون ظفراً من أظفاره، وقد رأيت منه بنفسي الكثير من الأمور في تلك السنوات، و أغلبنا لم يصل إلى ذرّة من المراتب والحالات التي وصل إليها. واضح؟! حسناً.. لقد حاول هذا الحاج أن يُخفي أحد المسائل عن أستاذه السيّد الحدّاد، ونحن نعلم أنّ السيّد الحدّاد لم يكن إماماً معصوماً، بل كان وليّاً من أولياء اللـه تعالى وعبداً من عباد اللـه الصالحين، وليس من ضمن المعصومين الأربعة عشر، ولا من ضمن الأنبياء والمرسلين. لقد أراد [الحاجّ محمّد علي خلف زادة] أن يُخفي عنه شيئاً في مرتبة من مراتبه، فقال له السيّد الحدّاد بكلّ صراحة: هل تُريد أن تخفي عنّي الأمر الفلانيّ؟! يا عزيزي لو حاولت أن تخفيه في السماء الرابعة، لأتيتك به من هناك ووضعته بين يديك، فما الذي تُريد أن تخفيه عنّي؟! تفضّل، هذه هي علامته!
كنت في أحد الأيّام جالساً مع السيّد الحدّاد رضوان اللـه عليه أتحدّث إليه، فخطرت ببالي فجأةً إحدى المسائل التي لها علاقة بأمرٍ معيّن، وقبل أن أشرع في السؤال، قال لي: بالنسبة لذلك الأمر، عليك أن تقوم بالعمل الكذائي. فهل يُمكننا ـ حينئذٍ ـ القول بأنّ هذا الولي غير مطّلع؟! قولوا لي إذن ما هو الاسم الذي يفتقر إليه وليّ اللـه، هل هو اسم العليم؟ إنّ وليّ اللـه أعلم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وقد برهن على ذلك بنفسه! لكنّه في بعض الأحيان قد لا يُظهر ذلك، وعدم الإظهار لا يُعدّ دليلاً على العدم والافتقار. وقد كان ذلك الوليّ بنفسه يحكي لي عن المسائل والأحداث التي تقع حاليّاً، غير أنّني تحدّثت عن بعضها وأعرضت عن الكثير منها إلى أن يحين الوقت المناسب؛ لأنّني لا أستطيع أن أظهرها الآن، إذ لا يجوز للإنسان أن يفصح عن كلّ شيء. وقد تحقّق بالفعل كلّ ما كان يحكي عنه واحداً واحداً، هذا مع أنّه ليس من ضمن الأئمّة المعصومين الأربعة عشـر.
إنّ الشخص الذي يتحدّث عمّا سيحصل بعد خمسين سنة، ثمّ يقع ذلك حذو النعل بالنعل، هل يمكن أن نعدّه مفتقراً إلى أيّ اسم من الأسماء التي تقع تحت حيطة الاسم العليم؟ لا. قولوا لي إذن ما هو الاسم الذي سيكون مفتقراً إليه؟! وهل يوجد طلب تقدّمتم به إلى وليّ من أولياء اللـه فلم يستطع تحقيقه ولم يكن قادراً على إنجازه؟! فإذا قلتم بأنّ أولياء اللـه ليسوا مثل الإمام عليه السلام، بل هم مظاهر لبعض الأسماء فقط، فإنّني أسألكم: ما هي الأسماء التي يفتقرون إليها؟ لأنّ جميع الأسماء ترجع في الأخير إلى أحد هذه الأسماء الثلاثة (الحيّ أو العليم أو القدير)؛ وقد تعرّضنا لاسم العليم وعرفنا بأنّ وليّ اللـه مطّلع على كلّ شيء سواء خطر على بالنا أم لم يخطر.
هذا فيما يخصّ الاسم الأوّل، لنبحث الآن حول اسم القدير: فما هي المسألة التي لا يقدر وليّ اللـه على أدائها؟! أفلا يستطيع وليّ اللـه أن يُميت؟ لقد قام وليّ اللـه بالإماتة لمرّات عديدة! أفلا يستطيع أن يُحيي؟! لقد قام بذلك أيضاً، وهو أمر مشهود وطبيعي بالنسبة إليه. أفلا يستطيع وليّ اللـه أن يتصرّف في الكائنات؟! بلى يُمكنه فعل ذلك! فهل يبقى حينئذٍ شيءٌ لم يفعله وليّ اللـه؟! وما هي المسألة التي لن يقوى وليّ اللـه على أدائها والتي سيُعاني فيها من الضعف؟! ونحن نقصد من وليّ اللـه ذلك الذي كنّا نتحدّث عنه وضربنا عليه بعض الأمثلة، وليس كلّ من ادّعى الوصول وامتلاك المراتب.
ما هي المسألة التي سيعجز وليّ اللـه عن إنجازها؟! وما هي تلك الرغبة وذلك التصوّر الذي يكون في ذهن الإنسان، ولا يستطيع وليّ اللـه أن يُدخله حيّز التنفيذ؟! هل هذا واضح؟ فآصف بن برخيا لم يكن نبيّاً ولا رسولاً، ولم يكن أيضاً من المعصومين الأربعة عشر، لكن ما الذي قام به؟ لقد تمكّن من إحضار عرش بلقيس عن طريق إرادته وقدرته الربطيّة. كما أنّه استطاع أن يوقف الشمس، لكي يُؤدّي حضرة النبيّ سليمان صلاة العصر قبل أن يحين وقت القضاء. فمن الذي قام بذلك؟ هل هو حضرة سليمان؟ لا، بل آصف هو من قام بذلك مع أنّه لم يكن نبيّاً ولا رسولاً، بل كان وزيراً لحضرة سليمان. وعليه، أفلا يستطيع وليّ اللـه أن يردّ الشمس؟! أفلا يستطيع وليّ اللـه أن يتصرّف في الكائنات؟! لقد كان هذا متعلّقاًّ بالاسم القدير.
وبناءً عليه، فإنّ ما يقوله بعضهم من أنّ وليّ اللـه يُعدّ مظهراً لاسم من الأسماء الإلهيّة فقط، لا لجميعها هو كلام فارغ ولا أساس له من الصحّة. وأنا بدوري أسألكم: ما هو الاسم الذي يفتقر إليه وليّ اللـه؟ أجيبوني عن ذلك، فهذه أسماء اللـه تعالى، وهي إمّا أن ترجع إلى اسم الحيّ أو العليم أو القدير، وباقي الأسماء هي متولّدة عن هذه الأسماء؛ فلله تعالى عدّة أسماء، من بينها الرحمن، الرحيم، الرؤوف، القهّار، المحيي، المميت، الخالق، الرزّاق، وهي بأجمعها أسماء للـه تعالى. حسن جدّاً، أفلا يستطيع وليّ اللـه أن يخلق؟! {وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} فهل يعجز وليّ اللـه عن فعل ذلك؟ بلى يُمكنه ذلك!! أفلا يستطيع وليّ اللـه أن يُميت؟! {يُحْيي ويُميتُ} فاللـه هو المحيي واللـه هو المميت، وكذلك الأمر بالنسبة لوليّ اللـه، فهو محيي وهو مميت، وقد رأينا بأنفسنا الكثير من هذه المسائل.
الفرق بين الإمام و وليّ اللـه هو في السعة والوجودية
نعم، يبقى أنّ السعة الوجوديّة للمعصومين ـ كما أشرنا إليه في الجلسات السابقة ـ تختلف عن السعة الوجوديّة لأولياء اللـه تعالى، وهي مسألة طبيعيّة وبديهيّة، إذ يبقى أنّهم أئمّة، وأمّا وليّ اللـه، فهو مأموم على الدوام، غير أنّ نفس تلك الحقيقة الوجوديّة هي نفسها... فلنأخذ من باب المثال هذا الإبريق من الماء، ثمّ لنسكب الماء في كأس، حينئذ سيكون عندنا إبريق يحتوي على ثلاثة ليترات من الماء، أمّا الكأس فيحتوي على ربع ليتر من الماء، ومع ذلك يبقى أنّ كلّ واحد منهما يحتوي على ماء، لا أنّ في أحدهما ماءً وفي الآخر شمندر! كلا.. في كليهما يوجد الماء نفسه، غاية الأمر أنّ هذا يمتلك هذا المقدار من السعة، وذاك يمتلك ذلك المقدار من السعة، فلا إشكال في الأمر.
حينئذٍ، إذا أردتّم أن تتّبعوا أحد الأولياء، هل من المحتّم أن يكون متوفّراً على إبريق من الماء؟ فإذا كنتم ترغبون في الشرب، فحتّى الكأس يوجد فيه ماء، وكلاهما [من هذه الناحية] شيء واحد. فسواءً شربتم من ماء الإبريق، أو شربتم من ماء الكأس، فالنتيجة واحدة، بل إنّ الشرب من الكأس يكون مريحاً أكثر! انظروا هكذا [سماحة السيّد يشرب من الكأس]. فكلاهما شيء واحد، ولا فرق بينهما بتاتاً. وهذه هي المسألة التي أراد أولياء اللـه تعالى أن يُحدّثونا عنها، وحينما كانوا يقولون: كلامنا هو عين كلام الإمام، فقد كان مرادهم هو هذا.
كيف ينبغي للسالك أن يتصرّف عندما يبدو له أن تصرّف ولي اللـه خطأ
في أحد الأيّام، أتيت مع المرحوم العلاّمة من مشهد إلى قمّ ـ وسوف أختم كلامي بالحديث عن هذه المسألة ثمّ نترك بقيّة المطالب إلى المجلس القادم إن شاء الله ـ ، وكان ذهني مشغولاً بمسألة ما، حيث كان [المرحوم العلاّمة] قد قام بفعل معيّن، فحصل لي نوع من الانزعاج، وبدا لي أنّه كان بإمكانه أن يُؤدّي ذلك العمل بطريقة مغايرة، فلماذا اختار هذه الطريقة بالذات؟! وقد بقيت هذه المسألة عالقةً في ذهني من دون أن أُفصح عنها. فمرّ شهران أو ثلاثة أشهر على حدوث هذا الأمر، إلى أن جئنا إلى قمّ في إحدى المناسبات من أجل التشرّف بالزيارة؛ حيث أنّ محلّ سكنانا كان يومئذٍ في مشهد، قبل أن آتي في السنوات الثلاث الأخيرة إلى قمّ. وفي إحدى الليالي الشتويّة ـ بعدما وصلنا إلى هناك ، كنّا جالسين نتجاذب أطراف الحديث، ثمّ خيّم علينا السكوت في لحظة من اللحظات. وقبل ذلك حينما كان يتحدّث عن بعض المطالب، خطر في بالي هذا الأمر: و هو أنّ ما ذكره سماحته الآن يشبه تلك المسألة السابقة؛ ولهذا سوف يرد عليها نفس الإشكال السابق. و عندما خطر ذلك على ذهني قال لي المرحوم العلاّمة: إنّ ما يفعله وليّ اللـه هو عين فعل الإمام، وعلى الإنسان أن ينظر إلى كلام أولياء اللـه بنفس النظرة التي ينظر بها إلى فعل الإمام وكلامه، حتّى لو كان لا يستطيع أن يفهم سرّ قولهم أو فعلهم.
لاحظوا معي، هل هو مطّلع أم لا؟ فلو أنّه لم يكن مطّلعاً، لما قال لي ذلك! فهو يريد أن يقول: يوجد لديك الآن اعتراض على هذا الأمر، حسناً.. لو افترضنا أنّ نفس هذه المسألة صدرت من طرف الإمام، فما الذي كنت ستفعله؟ كنت ستُلغي اعتراضك بالطبع، وتقول هو إمام! عندما تكون مع أولياء اللـه، عليك أن تكون هكذا أيضاً. وعليه، من الواضح أنّه مطّلع؛ لأنّه برهن على ذلك، فلا يوجد أيّ شكّ في الأمر، فقد برهن على أنّه مطّلع على الأمر، كما أنّه قدّم الحلّ لمثل هذه الحالة التي يمكن أن تواجه الإنسان أيضاً، ومفاده: حينما تحصل مسألة من هذا القبيل، ويكون لديك اعتراض عليها، فينبغي عليك أن تُرجع هذا الاعتراض إلى ضعفك أنت، لا أن تعدّ هذا الاعتراض سبباً للحكم بضعف أولياء اللـه ونقصهم؛ لأنّ أولياء اللـه لا يُعانون من الضعف، بل أنت الذي تُعاني من الضعف والنقص، فتحسب بسبب ذلك أنّ الولي الإلهي قد أخطأ! وسيتّضح لك الأمر فيما بعد، ويتبيّن لك سرّ ما حسبته خطأً.
حسناً، ما الذي ينبغي فعله حينئذٍ؟ فهل يجب عليّ في هذه الحالة أن أطيع أم لا؟ فإذا كان من المقرّر ألاّ أقوم بأداء الأمر الصادر عن وليّ اللـه إلاّ إذا كنت مطّلعاً على صحّته أو سقمه؛ فبأيّ شيء يتميّز وليّ اللـه إذن عن بقيّة الناس؟! سوف لن يختلفوا عن بعضهم في أيّ شيء! ونفس الشـيء سيُقال بالنسبة للأشخاص العاديّين، حيث سيكون كلام بائع الخيار في الشارع [تبسّم من سماحة السيّد] إمّا متطابقاً مع الشرع (فيجب حينئذٍ اتّباعه)، أو غير متطابق مع الشرع (فلا يجب اتّباعه). وعليه، فلا فرق بينه وبين وليّ اللـه. ونفس الشيء ينطبق عليكم: فإمّا أن يكون كلامكم متطابقاً مع الشرع، فينبغي حينئذٍ العمل به، وإمّا ألاّ يكون متطابقاً مع الشرع (وتحسّون بذلك)، فلا تعملون به. وبالتالي، فما هو الفارق بين كلام أحد الرفقاء وكلام وليّ اللـه؟! لن يبقى فرق حينئذٍ بينهما أبداً! هل هذا واضح؟ إنّ مرجع جميع هذه الأمور هو قلّة الفهم والجهل وعدم اطّلاع الإنسان على المباني.
لا مانع من عرض فعل الإمام والولي على الكتاب بشرط أن نعرف على أيّ آية نعرضه
نعم، يبقى أنّه من اللازم أيضاً ـ كما ذكرت ذلك سابقاً ـ عرض فعل الإمام على الكتاب، غاية الأمر أنّه علينا أن نعرف أيّ آية يجب علينا عرض فعل الإمام عليها. فإذا كانت هي آية {وَ لا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة}۱، فقد تعرُض للإنسان حينئذٍ بعض الشبهات، لكنّنا سنذكر في الجلسة القادمة أنّه لا دلالة لهذه الآية على هذا الأمر بتاتاً، وأنّه مثلما ينبغي عرض فعل وليّ اللـه على الكتاب، من اللازم أيضاً عرض فعل الإمام على الكتاب، غاية الأمر علينا أن نرى على أيّة آية ينبغي عرضه، وما هو الفهم الذي يُمكن للإنسان استنباطه من الكتاب والسنّة فيما يخصّ فعل الإمام، لكي يتمكّن ـ من خلال هذا الفهم وهذه النظرة ـ من هضم هذه المطالب. وعليه، حينما قال الإمام الصادق عليه السلام لذلك الخراساني: ادخل إلى التنّور، فإنّه لا يستطيع أن يقول له بأنّنا عندنا آية قرآنيّة تقول: {وَ لا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة}؛ لأنّ الكلام الذي يصدر من فم الإمام الصادق لا يُعدّ أمراً بإهلاك النفس، بل هو أمر بالإحياء، وليس أمراً بالإماتة، ولكنّنا نحن الذين نتصوّره إماتةً. فلو أنّ ذلك الخراساني دخل إلى قعر التنّور، فإنّه كان سيُحيى، لكنّه الآن ميّت، على الرغم من أنّه يمـشي بين الأحياء! فذلك الشخص هو الآن ميّت، على الرغم من أنّه يتنفّس! وذلك الشخص هو الآن فاقد للروح، على الرغم من أنّه يرى بعينيه! {فَإِنَّها لا تَعْمَى الأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتي فِي الصُّدُور}٢. فالذي تلبّس الآن بالعمى الحقيقي، والموت الحقيقي، والفقدان الحقيقي للروح هو هذا الشخص، والإمام الصادق يُريد أن يُحييه، غاية الأمر أنّ هذا الإحياء لا يتحقّق من خلال الحلوى والأرزّ الزعفراني، بل يتحقّق عن طريق الدخول في التنّور!
أوامر الإمام و الولي أوامر إحياء و إن بدا للإنسان خلاف ذلك
لقد كان سيّد الشهداء يرغب في إحياء أصحابه، غاية الأمر أنّ هذا الإحياء لا يُمكن أن يتحقّق من خلال بساتين الكوفة الخضراء وأشجار الفواكه المزروعة فيها، بل يتحقّق عن طريق الوقوف في وجه سهام سنان وخولي؛ ولهذا سُمح للناس بالفرار في تلك الليلة حينما أغلقت الأبواب. فسيّد الشهداء لم يدعُ إلى إهلاك النفس، بل دعا إلى الإحياء والحياة الأبديّة والخالدة، لكنّنا لا نقبل بذلك، ونقول: لا، نحن نريد أن نظلّ ميّتين، نريد أن نبقى هكذا. حسناً، تُريد أن تبقى كذلك، فلتبق! فنحن لا علاقة لنا بك! فكم بقي من الناس [مع الإمام الحسين عليه السلام]؟ ثلاثون شخصاً. فثلاثون شخصاً فقط قالوا بأنّهم يرغبون في أن يُصبحوا أحياءً.. عابس اختار أن يُصبح حيّاً، وزهير قال بأنّه يُريد أن يُصبح حيّاً، ونفس الأمر بالنسبة لحبيب ومسلم بن عوسجة، وكذلك الحرّ الذي قال في آخر لحظة بأنّه يُريد أن يُصبح حيّاً. فهؤلاء هم الذين قالوا بأنّهم يريدون أن يُصبحوا أحياءً، وأمّا الباقي، فقالوا أنّهم يرغبون في أن يظلّوا ميّتين، وأن يبقوا هكذا من دون روح. فقال لهم عليهم السلام: هل تُريدون أن تبقوا كذلك، تفضّلوا إذن، فأطفأ المصباح.. "هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً"، قوموا وارحلوا، فأنتم أموات وعليكم أن تُغادروا خيمة الأحياء. وعليه، فلا علاقة للآية التي تقول {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} بالإمام الحسين، ولا علاقة لها بالإمام الصادق، بل هي ترتبط بالإهلاك الظاهري ومسائل من هذا القبيل. فحينما تأتي إلى خيمة الإمام الحسين، فلا مجال هناك للإهلاك، بل هناك يوجد الإحياء، وحينما تأتي إلى منزل الإمام الصادق، فلا مجال أيضاً هناك للإهلاك، بل يوجد هناك الإحياء. وحينما تقع في حضن الخضر، فلا مجال أيضاً هناك للإهلاك، بل يوجد هناك الإحياء. وعليه، فإنّ الخضر قد أحيى ذلك الغلام، ولم يُهلكه، كما أنّ حضرة إبراهيم قام بإحياء إسماعيل، وأحيى نفسه أيضاً.. {وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً}٣، الآن فقط أصبحت حيّاً، وأمّا في السابق، فكنت لا تزال مفتقراً إلى بذل الجهد. {فَأَتَمَّهُنَّ} لقد أنهى امتحاناته، وحينما أنهى امتحاناته، ووصل الدور إلى آخر امتحان، أي قطع التعلّق عن البقايا الوجوديّة؛ لأنّ وجود الابن هو وجود باقٍ.. فعندما يُضحّي الإنسان بولده فإنّه في الحقيقة يُضحّي بوجوده هو، وقد كانت مسألة حضرة إسماعيل بمثابة الامتحان الأخير..{فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً}. وعليه، فلا حضرة إبراهيم أُمر هنا من قبل اللـه تعالى بالإهلاك، ولا كان ذلك الأمر هو أمراً بالإهلاك كما تصوّر ذلك نبيّ اللـه إسماعيل، بل كان ذلك الأمر هو أمراً بالإحياء من قبل اللـه تعالى، وفي نفس الوقت، فقد كان أمراً منه لحضرة إسماعيل أيضاً بالإحياء. لاحظوا معي، فقد انقلبت الصورة!
وجميع أوامر الأئمّة هي من هذا القبيل، فجميعها حياة وإحياء. وعليه، هل توجد آية تتعارض مع هذه الأوامر؟! لا توجد. وفي هذا المجال، توجد آيات أخرى تُعالج مسألة انطباق فعل الإمام على الكتاب، حيث نرى نحن أيضاً أنّ فعل الإمام منطبق على الكتاب، غاية الأمر أنّ رؤيتنا لهذا الأمر مختلفة، كما أنّ فعل اللـه هو منطبق أيضاً... وعليه، متى قلتُ أنّه لا ينبغي مطابقة فعل الوليّ بالكتاب؟! بل غاية ما ذكرتُه هو: إذا قلتم بأنّه يجب مطابقة فعل الولي بالكتاب ـ استناداً إلى النظر الظاهري واعتماداً على الفهم الظاهـري، فمن اللازم أيضاً مطابقة فعل الإمام بالكتاب؛ لأنّنا نرى حصول تنافٍ بينه وبين فهمنا للقرآن. وإذا كان مرادكم هو عدم وجود أمر بالإهلاك في كلام الإمام الصادق، فإنّنا نقول أيضاً بعدم وجود أمر بالإهلاك في كلام وليّ اللـه، وإذا كنتم تريدون أن تقولوا أنّ الإمام جامع لكافّة الأسماء والصفات الإلهيّة الكماليّة (ولهذا يكون فعله حجّة)، فإنّي أقول أنّ وليّ اللـه جامع أيضاً لكافّة الصفات الإلهيّة الكماليّة، لكن بمرتبة أدنى. غير أنّ دنوّ المرتبة لا يرتبط أصلاً بمسألة مخالفة المصلحة والتكوين.
وأمّا فيما يخصّ بقيّة المطالب، فنكِلها إن شاء اللـه تعالى للجلسة القادمة.
اللـهمّ صلّ على محمد وآل محمد.