المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةسبيل الفلاح
التوضيح
و أهم عناوين هذه المحاضرة: 1ـ الطّاعة هي خروج الإنسان من إرادته و السّلوك طبق إرادة الله و مشيئته. 2ـ وجوب رجوع الجاهل للعالم يشمل الأمور المادّية و المعنوية. 3ـ الأستاذ الباطني يهدي الإنسان إلی حقيقة الصّلاة و العبادات. 4ـ العمل بالعبادات الظّاهرية لا يكفي لوحده للعروج بالإنسان في سلّم القرب. 5ـ معلّم العرفان يرشد الإنسان إلی الإقتداء بالإمام في كلّ الأمور. 6ـ الطّاعة هي بروز للعبودية التي تعني خروج الإنسان من ذاته و أفكاره الخاصّة. 7ـ بعض النّماذج الإيجابية و السّلبية في مجال التّحقّق بالطّاعة.
هو العليم
ضَرُوْرَةُ الاتبَاعِ التَامِّ للأُسْتَاذِ فِيْ السَيْرِ وَالسُلُوْكِ إِلَى اللـهِ
سبيل الفلاح - الجَلسَةُ الرَابِعَةُ
محاضرات ألقاها
سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أَعُوذُ بِاللـَهِ مِنَ الشَيْطَانِ الرَجِيْم
بِسْمِ اللـهِ الرَحْمَنِ الرَحِيْم
وَصَلّى اللـَهُ عَلى مُحَمّدٍ وَآلِهِ الطَاهِريْن
وَلَعْنَةُ اللـه عَلى أَعْدَائِهِم أَجْمَعِيْن
عرضٌ لبعض الكتب المهمّة في السير والسلوك وتلخيصٌ لما مضى
هناك عددٌ من الأمور التي قرّرها الأساتذة الكبار وعلماء علم الأخلاق كمقدّمات لسبيل معرفة الله، وقد ذكرتُ سابقًا بأنّه على الإنسان أن يُراعيها بنحوٍ تامٍّ؛ وبالطبع جاءت هذه الأمور في الكتب الأخلاقيّة وفي كلٍّ من «رسالة لبّ اللباب» و«رسالة السير والسلوك» المنسوبة لبحر العلوم وكذلك في «زاد السالك» الذي هو من تأليف المرحوم الفيض [الكاشاني]؛ ولكنّنا نبّهنا على عددٍ من الأمور المهمّة جدّاً.
أحدها: الهمّة العالية، إذ ينبغي أن يكون قصد السالك هو الله، فلا ينحني لغير الله، فلا يطلب منامًا أو يقظةً أو مكاشفةً أو مقامًا أو علمًا، فجميع هذه الأمور تعني الفراق! على الإنسان أن يقوم بعمله من أجل الله، وبعد ذلك فليُعطِ الله ما يُعطيه.
الأمر الثاني: الاستقامة والصبر والمثابرة۱ بحيث لا يتعب الإنسان، فلا يخرج الإنسان من الساحة حينما تأتيه الامتحانات، بل يصبر ويتحمّل إلى أن يصل ـ إن شاء الله ـ إلى النتيجة.
والأمر الثالث: كتمان السرّ٢، حيث يحصل أمرٌ للإنسان، فعليه أن لا يُفشيه لأيّ شخصٍ، إذ لا يعرف حالة الإنسان إلّا الله، والآن لو أنّني قمتُ ببيان حالتي الباطنيّة لشخصٍ من الأشخاص ولم يكن لذلك الشخص استعدادٌ، لما أمكنه أن يستمع؛ ولذا لا ينبغي للإنسان أن يتكلّم. وأصلًا، ما معنى أن يستعرض الإنسان بأحواله الباطنيّة؟! فالآن لو رأى الشخص منامًا، أو حصلت له مكاشفةٌ، أو حصلت له حالةٌ؛ أو انكشف له مطلبٌ نوراني، فهذا الأمر مختصٌّ بنفس الإنسان.
وإظهار الحالة الخاصّة للغير كشفٌ للسرّ، والله لا يُحبّ كشف السرّ؛ ولذا أُمر الإنسان أن يكون كتومًا في هذه المسائل حتمًا.
الأمر الرابع من الأمور المهمّة في السير والسلوك: الطاعة
ومن الأمور المهمّة جدّاً [في السير والسلوك] هي الطاعة، فنفس الإنسان يجب أن تكون مطيعةً، ما معنى أن تكون مطيعة؟ يعني: أن لا تُبدي رأيًا من تلقاء نفسها.
فنحن لدينا قرآن وسنّة ومنهاج، ويجب العمل طبقًا لها، مثلًا: يقول الله: «عليك أن تُصلّي»، والآن لو كُنّا في مكانٍ ولم يعد من صلاحنا أن نُصلّي، أو أنّ السُنّة والاستحباب هي أن نُصلّي صلاة المغرب والعشاء جهرًا، فنقول نحن: إذا صلّينا المغرب والعشاء جهارًا فذلك رياء، دعنا نُصلّيها إخفاتًا، وذلك مثلما سمعنا عن بعض الطوائف الصوفيّة التي تفعل ذلك، فهذا الفعل خاطئٌ.
إذا قال النبيّ: صلّوا صلاتكم جهارًا، علينا أن نقول: سمعًا وطاعةً؛ ولو حصل الرياء فما شأننا نحن؟! نفس صاحب الشريعة هو الذي أمر، هو يُحبّ الرياء في تلك الحالة، يعني: إذا قال: صلِّ صلاتك بصوتٍ مرتفعٍ، أو اذهب إلى أعلى المئذنة وقل: «أَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إلّا اللَه» وأَسمِع الناس صوتك، فعليك أن تصعد المئذنة في منتصف الليل وأن ترفع صوتك، وعليك أن تُوصل صوتك إلى الناس، بحيث يستيقظ الناس من النوم، فأنا أناديكم.
وعليك [في الحجّ] أن تجعل رأسك حسيرًا، وأن تكشف عن قدميك كذلك، وأن ترتدي الإحرام، وأن تطوف حول الكعبة أمام جميع الناس مُظهرًا نفسك؛ إذ نفس هذا العمل هو إظهارٌ للنفس، وهو موجبٌ لرضا الله. ولكن لو قال الإنسان: أنا لا أريد أن أحلق رأسي؛ لأنّ الناس سيقولون: إنّ هذا السيّد ذهب وحجّ والآن يُريد أن يُبرز نفسه؛ أو يقول: لا أريد أن أمشي برجلٍ مكشوفةٍ، أو لن أُحرِم بالطريقة الكذائيّة، فهذا غلطٌ.
فإذن الطاعة أمرٌ لازمٌ، وليس هناك من نبيٍّ أرسله الله، إلّا وأمر الناس أن يُطيعوا شريعته؛ يعني: يجب على أهل تلك الأمّة أن يُطيعوا ذلك النبيّ.
وقد ورد لدينا في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}۱.
فيجب أن تُطيعوا الله وأن تطيعوا الرسول، وقد ورد الأمر بإطاعة الله في آيات القرآن، وكذلك ينبغي أن نُطيع النبيّ، فعلينا أن نسمع كلّ ما يقوله، الآن نحن نقبل بالقرآن، ولكن إذا قلنا بأنّ كلام النبيّ إنّما يصدر عن رأيه واجتهاده، ونحن لدينا في مقابله رأيٌ واجتهادٌ؛ فهذا الكلام خاطئ.
وكذلك أولي الأمر، فيجب علينا أن نُطيع أوامر الأئمّة، فلا يكفي أن نُطيع الله والرسول، بل يجب أن نُطيع الأئمّة؛ لأنّهم أولياء عرش الولاية والإمامة والحقيقة، فعلينا أن نتّبعهم في المنهج الذي يدلّوننا عليه.
لقد ذكر الله في سورة الشعراء كُلًّا من النبيّ لوط ونوح وشعيب و...، وذلك في خمسة مواطن على ما يبدو، ثمّ قال: لقد جاؤوا بأجمعهم ودعوا قومهم، وقالوا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}٢؛ [ولم يكتفِ بالأمر بالتقوى فقط] لأنّ التمسّك بالتقوى [لوحدها ليس بالأمر العسير]، وسوف يقول الجميع عن أنفسهم بأنّهم متّقون؛ بل لا بدّ أن تروا ما سُنّتي؟ وما هو كلامي؟
معنى الطاعة
ما معنى الطاعة؟ تعني: تخلّى عن نيّتك وإرادتك، وتصرّف بناءً لإرادتي، فإذا قال: حارب، أو قال: صالح، أو قال: تزوّج، فعلينا أن نمتثل؛ أو قال: لا تفعل، فإنّنا لا نفعل؛ وإذا قال: اسكن في هذا المكان، فعليك أن تُنفّذ؛ وإذا قال: اسكن في ذلك الطرف من الدنيا، فعليك أن تمتثل؛ وإذا قال: هاجر، ينبغي أن تُهاجر، وإذا قال: اذهب وحارب ومُتْ، فعليك أن تفعل؛ هذا هو معنى الطاعة.
وهذا العمل صعبٌ. لماذا؟ لأنّ الإنسان يُحبّ بطبعه أن يعمل طبقًا لرغباته وما تُريده نفسه، وكلّ إنسانٍ يُحبّ أن يكون مختارًا بنفسه.
أهميّة الطاعة وضرورتها
بعد ذلك يأتي الأنبياء ويسلبونه اختياره الشخصيّ، ويُربّونه في صراطٍ معيّنٍ؛ وإلّا فإنّ الإنسان إذا لم يكن تحت أمر النبيّ مطيعًا له، فسوف يكون مثل الشجرة البريّة، حتّى لو بقيت ألف عامٍ فلن تُثمر، بل ينبغي أن يأتي ذلك المُزارع ويُطعِّمها ويُقلّم أغصانها ويرْعاها حتّى تُصبح قابلةً للاستفادة، إلّا أنّ الشجرة لا ترضى أن يقوم المزارع بتقليمها؛ لأنّ قطع الأغصان أو تطعيمها صعبٌ بالنسبة لها. أو أنّ تلك الشجرة تُحبّ شرب الكثير من الماء، إلّا أنّ ذلك سيجعل جذورها تتعفّن وتفسد؛ فيجب أن يأتي المُزارع ويُتابع أمور هذه الشجرة، فيسقيها الماء بنحوٍ صحيحٍ، ويتولّى تربيتها في الظروف المناسبة ويُطعّمها في موضع التطعيم ويُقلّم ما ينبغي تقليمه؛ حتّى تُصبح هذه الشجرة قابلةً للاستفادة، وتصل إلى كمالها. وكلّ زهرةٍ كذلك أيضًا؛ يجب أن تُربّى على يد المُزارع، وهذا هو حال الإنسان أيضًا.
افترضوا أنّ مريضًا جاء إلى الطبيب، وقال: «أنا مريض».
ـ «ما هو مرضك يا سيّدي؟»
ـ «لديّ وجعٌ في بطني، وأرجو منك أن تُعالج وجع بطني».
فيُعاينه الطبيب، ويقول: «يا سيّدي، مرضك ليس في البطن أصلًا! بل مرضك في القلب».
فيقول: «من أين تقول بأنّ مرضي في القلب؟ بطني هي التي تؤلمني».
إنّ الطبيب يقول: «لديك مرضٌ في القلب، وعليك أن تذهب فورًا إلى المستشفى، وأن تعمل تخطيط قلب، وأن تأخذ صورةً للقلب».
حسنًا، إذا لم يرغب هذا الشخص بأن يطيع أمر الطبيب، فقد قضى على نفسه منذ البداية، فعليه أن يذهب إلى المستشفى وأن يُطيع كلام الطبيب، وأن يعمل تخطيط القلب وأن يأخذ صورةً لقلبه، ثمّ يأخذونه إلى غرفةٍ ويقولون له: «لا يتكلّمنّ أحدٌ معه»؛ ويُعلّقون ورقةً أمام الغرفة مكتوب عليها: « الزيارة ممنوعةٌ»؛ ويقولون له: عليكَ أن تبقى في غرفتك يومين أو أسبوعين، ويُمنع عليك أن تتكلّم مع أيّ شخصٍ، وينبغي أن يبقى المُغذّي (المصل) في يدك، وفي بعض الأيّام ـ مثلًا: يوم في الأسبوع ـ عليك أن تَحقِن الإبرة الفلانيّة؛ وفي اليوم الفلاني أو كلّ يومٍ عليك أن تأخذ ثلاثة أقراص صباحًا وظهرًا ومساءً، فإذا أطاع الكلام واقعًا سوف يُشفى.
وينبغي أن لا يقول: «في السابق كُنتُ أخطب لمدّة ساعةٍ، ولذا لن أطبّق هذه الأوامر؛ لماذا يقولون لي الآن: اسكت؟! وأنا الذي كنتُ آكل الكباب والأرز، لماذا لا يُعطونني الطعام، ولماذا يضعون المُغذّي في يدي؟! وأنا الذي كنتُ أرفع الأثقال، فلماذا يقولون لي الآن: لا تنزل عن سريرك؟! وأنا أرى أنّه كي تُصبح حالتي أفضل، فبدلًا ممّا ذكره جناب الطبيب بأن آخذ الحقنة الفلانية مرّةً في الأسبوع، سوف آخذها كلّ يومٍ كي أتعافى بنحوٍ أسرع؛ أو هذه الأقراص الفلانيّة ليست جيّدة لمزاجي، هم قالوا: خذ ثلاثة أقراصٍ في اليوم، وأنا سآخذ قرصين فقط، واحدٌ في الصباح والآخر في الليل».
حسنًا، لقد أضرّ هذا الشخص بنفسه مئةً بالمئة من خلال هذه التدخّلات، ومشى في مسيرٍ خاطئ؛ لماذا؟ لأنّ ذلك الطبيب ذهب وصرف قدراته في هذا المجال، وأصبح مُتخصّصًا في هذا الفنّ؛ يعني: أصبح مجتهدًا في هذا الفنّ، وهذا المريض جاهلٌ بالنسبة له.
قاعدة لزوم اتّباع الجاهل للعالم جاريةٌ في جميع المجالات
ولا شكّ بأنّه على الجاهل أن يضع يده في يد العالم۱، فإذا كان الإنسان مريضًا ولم يكن طبيبًا بالنسبة لمرضه، فيجب عليه أن يذهب إلى المُتخصّص، إلى مُتخصّصِ العين أو القلب أو الأذن أو الرئة بحسب مرضه، فالمتخصّص هو الذي يستطيع أن يفهم ما هو مرض هذا الشخص، وأن يعرف ما هو وجعه، ويعرف كيف يُعالجه، فهو قد عمل في مجال الطبابة، وأعلم منه بذلك.
ولو عمل المريض طبقًا لتعليماته، فسوف يصل إلى كماله؛ وسوف تتحسّن حالته رويدًا رويدًا، ولكن بالطبع عليه أن يصبر، فهناك وحدةٌ ومرارةٌ نوعًا ما في المستشفى، والآن لو قال الأطباء لشخصٍ اعتاد أن يكون بين الناس: «يجب أن لا يتكلّم معه أحدٌ لمدّة أسبوعين، ويجب أن لا يتناول طعامًا لذيذًا وذا نكهةٍ أصلًا، ويجب أن يُوضع المُغذّي (المصل) في يده، ويجب أن يُحقن بالإبر، وفي بعض الأحيان لا بدّ من إجراء عمليّات جراحيّة عليه»، فإذا قال: «أنا لا أقبل أن يتمّ تخديري، ولا تفتحوا بطني، ولا ينبغي أن تمسّ السكين جسمي»؛ فسوف يقولون له: «هناك غدّةٌ في بطنك، فمُباركٌ لك بها».
فإذن، على الإنسان أن ينظر ماذا عليه أن يفعل، وعليه أن يُجري العمليّة ويلتزم بالتعليمات والتوصيات حتّى يتعافى، فإذا كان الإنسان عاقلًا، فإنّه يقوم بهذا الفعل، يعني: يجب عليه أن يُسلّم نفسه إلى الطبيب مئةً في المئة؛ وأيّ تدخّلٍ منه فهو اشتباهٌ، فأنا لا أعرف شيئًا عن هذه المسألة، ولا أعرف ما هي مادته، ولا أعرف ما هو الكورتيكوستيرويد، ولا أعرف من أين استخرجوه، ولم أبحث في الأمر، إنّني جاهلٌ في هذه المسألة بكلّ ما للكلمة من معنى، وأرى أنّ الطبيب عالمٌ، فإذا قال لي: قُم بهذا الفعل. [فينبغي أن أقول:] سمعًا وطاعةً، وإذا قُمنا بهذا الفعل استفدنا، وإذا لم نفعله فلا شكّ أنّنا أوقعنا أنفسنا في التهلكة بأيدينا.
والمسألة في الأمور المعنويّة هي كذلك أيضًا، بل لا يقتصر الأمر على الأمور المعنويّة، بل في كلّ شيءٍ أيضًا؛ فإذا أراد الإنسان أن يبني بيتًا، يجب عليه أن يذهب إلى مهندسٍ؛ كيف نبني هذا الأساس؟ كم حجمه؟ وأيّ مادّةٍ نستخدم؟ وما هو وزن هذا البناء مثلًا؟ وما مقدار الأساسات؟ عليه أن يحسب قدرة تحمّل المواد والأساسات، ثمّ يرسم خريطةً ويُقدّمها للشخص؛ وفي هذه الحالة يكون المنزل قد بُني بنحوٍ صحيحٍ. والآن لو أنّ الإنسان أتى وتدخّل من نفسه، وقال: يا سيّدي لا حاجة لهذا الأساس هنا، وهذه الأرض صلبةٌ، فلا حاجة للخرسانة، ولن أضع إسمنت؛ فسوف يسقط المنزل وينهدم. أو يقول المهندس مثلًا: يجب بالنسبة لهذا الإسمنت الذي تستخدمه أن تضع مقابل كلّ كيس من الإسمنت ثلاثة أكياس من التراب؛ فيقول الشخص: لا، أنا سوف أضع أربع أكياس بحيث أوفّر في الإسمنت.
ففي نهاية المطاف ذلك الشخص خبيرٌ في المسألة، وقد حسب جميع الحسابات، وتخصّص في هذا الجانب، ويجب على الإنسان أن لا يتدخّل في عمله.
إذا أراد الإنسان أن يشتري سجّادًا، يجب عليه أن يذهب إلى أهل الخبرة، وإذا أراد أن يخيط ثيابًا، فإذا لم يكن هو نفسه خيّاطًا، عليه أن يذهب إلى الخيّاط؛ وإلّا إذا أراد أن يقصّ القماش بنفسه، وأن يخيط الملابس بنفسه فسوف تكون إمّا ضيّقةً عليه أو واسعةً، أمّا الخيّاط، فقد صرف عمره في هذا العمل.
بناءً على هذا، نحن جُهلاء في كلّ الأمور باستثناء التخصّص الذي تخصّصنا فيه، ولا خجل في هذا الأمر؛ وعلى الإنسان أن يعود في كلّ أمرٍ هو جاهلٌ فيه إلى المتخصّص في ذلك الفنّ، ولا شُبهة في ذلك، وحينئذٍ يكون قد عمل طبقًا للقرآن؛ لأنّ القرآن يقول: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}۱.
والأشخاص الجهلاء عليهم أن يأخذوا الأحكام من المُجتهد، لأنّهم لا يعرفون، وهذا المجتهد يقول: أنا ذهبتُ واجتهدتُ وأعرف كيف أستنبط الأحكام من الكتاب والسنّة، وأن أبيّنها لكم. طبعًا هو لا يُريد أن يقول: هذا الأمر مُختصٌّ بي، ولي فضيلةٌ عليكم؛ لا، ليس هناك أيُّ فضيلةٍ؛ أنا ذهبتُ وصرفتُ رأس مالي الوجودي في هذه المسائل، وأنتم صرفتموها في تلك المسائل، فأنتم تُعينونني في تلك المسائل، وأنا أعينكم في هذه المسائل، وجميع أفراد البشر يعملون مع بعضهم البعض بهذا النحو، وسوف يُعطيهم الله أجرهم كلٌّ بحسب نيته.
بعض فوائد إرشادات الأستاذ الأخلاقي
إرشاداته تجعل العبادات مؤثّرةً
بناءً على هذا، فالطاعة من اللوازم الحتميّة، ولا يقتصر الأمر على أنّه يجب على الإنسان الطاعة في الأمور الشرعيّة والمسائل والأحكام الظاهريّة فحسب، بل ينبغي أن يكون مطيعًا حتّى في الإرشادات الأخلاقيّة والأمور الباطنيّة؛ لأنّ الإنسان إذا قال فقط: «أنا أصلي وأصوم أيضًا، وأقرأ القرآن وأؤدّي الصدقة وهذه الأمور العامّة كافيةٌ بالنسبة لي»، فهذا ليس كافيًا؛ لماذا؟ لأنّه ينبغي أن تكون هناك ميزة في تلك الصلاة بحيث تجعل الإنسان يتقدّم؛ وإلّا فمن الممكن للإنسان أن يُصلّي تسعين عامًا، ويبقى على ما هو عليه، ولا يتطوّر قلبه أصلًا، ولا يتقدّم، ومع انقضاء العمر وعدم طيّه لمرحلةٍ من المراحل أو لمنزلٍ من المنازل فيكون مغبونًا؛ لأنّ الإنسان يقول: «أنا أصلّي، وصلاتي تكون بحيث تُسقط التكليف أيضًا».
وأمّا معلّمه الباطني، فيأتي ويعطيه إرشاداتٍ للصلاة، ويُنير له الطريق، فيقول: «صلِّ هذه الصلاة مع حضور القلب، وحضور القلب يكون بهذا النحو، مثلًا: ينبغي أن يُفرّغ نفسه بعيدًا عن الضوضاء والضجّة والناس والازدحام وأمثال ذلك لمدّةٍ من الزمن، وعند الصلاة لا تجعل صورةً أمامك، ولا تجعل مصباحًا أمامك، ولا يكن أمامك بابٌ مفتوحٌ، وعلى الإنسان أن يمتنع عن مكروهات الصلاة، وعليك أن تفرش سجّادةً، وعليك أن تُركّز حواسك، وأن تلتفتَ إلى أنّ هذه الصلاة التي تُصلّيها إنّما تُصلّيها للّه، وإلى أنّك تتكلّم فيها مع الله ـ فالصلاة هي كلام العبد مع الله، وقراءة القرآن هي كلام الله مع العبد ـ وعليك أن تلتفت إلى أنّ هذه الصلاة التي تُصلّيها للّه، هل يُجيبك الله أيضًا أم لا، هل يقول لك: لبيك، أم لا يقول؟! فلربّما قال الله لك: لبيك قبل ذلك، بحيث أنّه وفّقك للصلاة، فلو أنّه لم يقل لك: لبّيك، لما أمكنك أن تُصلّي».
وهذه الإرشادات تُعطى للإنسان، وهي تُوقظه وتلفت نظره إلى أنّه ينبغي أن يُصلّي، إنّ الله لم يكن بحاجةٍ إلى أن يُكلّف البشر كي يركعوا له ويسجدوا، وأن يقوموا بأمرٍ تكراريٍّ دائمًا بحيث لا يكون لهذا العمل جوهرٌ ومغزى، ولذا ينبغي أن يكون في العمل قربى، يعني: ينبغي للصلاة أن ترفع الحجاب عن الإنسان، وأن تحصّل له القُرب؛ أصلّي صلاتي مُتقرّبًا إلى الله، يعني: صلاتنا هذه تُقرّبنا إلى الله.
الاقتراب من ماذا؟ من أن يذهب الإنسان إلى السماء أو في الجبال والصحاري أو تحت الأرض، هل يقترب هناك من الله؟! الله ليس له مكانٌ، إنّ الاقتراب من الله هو الاقتراب من ناحية سير النفس وعرفان النفس، ورفع الحُجُب عن النفس؛ مثل: البُخل، والحسد، والكبر، والرياء، والغفلة.
إنّ الأستاذ يأتي ويُبيّن هذه الأمور للإنسان، فيقول له: يا سيّدي! إذا أردتَ أن تُصلّي، فعليك أن تكون هكذا أوّلًا، يجب أن تتّجه نحو القبلة، ويجب أن تكون صلاتك بهذا النحو، ويجب أن يكون خاتمك بهذا النحو، وعليك أن تتعطّر، وينبغي أن لا يكون لباسك ذا لونٍ غامقٍ، فالملابس السوداء والرماديّة والبُنيّة ليست جيّدة بشكلٍ عامٍ لأن تكون لباسًا للمُصلّي، لا بدّ أن تكون ملابس الإنسان بسيطةً وذات لونٍ جميلٍ، ينبغي أن يكون لونها فاتحًا، فيكون لونها أبيضًا أو أصفرًا؛ لأنّ الملائكة تُحبّ هذه الألوان، وتكره الألوان الغامقة، تكره المنزل الذي يكون أسودًا وذا لونٍ غامقٍ؛ ولا تحتفظ بكلبٍ داخل منزلك، ولا تضع فيه صورةً؛ لأنّ الملائكة لا تدخل إليه أبدًا؛ ولا تترك القمامة في الليل في المنزل أبدًا، ضعها في الخارج؛ وإذا تركْتها في المنزل، فضع غطاء الزبالة عليها، ضع عليها غطاءً؛ لأنّ الملائكة لا تأتي.
فإذن، نحن لا نستطيع أن نقول: إنّ الله أراد منّا أن نُصلّي صلاةً، وقد صلينا تلك الصلاة؛ فماذا يُريد منّا بعد ذلك؟ رفعٌ للتكليف! ليست الصلاة رفع للتكليف؛ وهي ليست لعبةً، وليست مسرحًا للدمى المتحرّكة.
إنّ الصلاة دستورٌ لتكاملنا، وقد أُمِرنا بها على أساس الحقّ، إنّنا إذا صلينا تقدّمنا؛ ولكن إذا كرّرنا عملًا من تلقاء أنفسنا ومن دون إرشادٍ وهدايةٍ باطنيّة لمدّة تسعين عامًا، فسوف يكون هذا الأمر من ضمن تكرار المُكرّرات، ولن يفيدنا في شيءٍ؛ فمن جهة إسقاط التكليف، تمّ إسقاط التكليف، ولكنّها لم تُعطي للإنسان درجةً ولا مقامًا، فيأتي الإنسان إلى الدنيا أعمىً ويرحل عنها أعمى، {وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}۱، أيّ عمىً هو المقصود؟ هل هو عمى العين؟ لا؛ لأنّه ورد لدينا في القرآن: {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتي فِي الصُّدُور}٢، فلا يُطلق أصلًا على الأشخاص المصابين بالعمى في الدنيا بأنّهم عُمي، فهذا ليس هو العمى، إنّ العمى هو عبارةٌ عن عمى تلك العيون الموجودة في قلب الإنسان، ذلك هو العمى.
بناءً على هذا، فالشخص الذي تكون عينه عمياء في هذا المجال هو الأعمى، فتأتي الصلاة وتفتح عين الإنسان؛ وحتّى لو كانت عيناه الدنيويّتان عمياوتين، إلّا أنّ تلك العين [الباطنيّة] تُصبح مفتوحةً.
وذلك المعلّم الروحاني يقوم بهذا الإرشاد، يعني: هذا هو فنّ المعلّم الأخلاقي. مثلًا: في الصلاة، لا يقتصر على أن يستنبط ويجتهد في أنّ صلاة الظهر ينبغي أن تكون أربع ركعاتٍ، وإذا شكّ بين الثانية والثالثة بطلت صلاته۱، وأنّ الشكّ في الصلاة الثنائيّة والثلاثيّة توجب بطلان الصلاة، أمّا الشكّ في الرُباعيّة فلا يُبطلها؛ لا يقتصر في بحثه فقط على هذه الناحية الخاصّة وعلى حدود الصلاة وحسب، بل ذهب ووصل إلى أسرار الصلاة، فكتب أسرار الصلاة أو تعلّم أسرار الصلاة؛ ووصل إلى ماهيّة أسرار الصلاة، فعلم ماهيّة القنوت، وماهيّة السجود، ومعنى أن يهوي الإنسان على التراب من أجل الله، ومعنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}٢، ومعنى الصلاة من الأساس.
وهذه المسائل ليست مجموعةً من المسائل التي تقتصر على كونها ظاهريّةً؛ ولذا هناك مجموعة من الدساتير الكليّة في جميع أمور الإنسان من الصلاة والطهارة والصوم والحجّ والمعاملة والنكاح، وذلك المعلّم والمُربّي الأخلاقي والروحاني والعرفاني الذي يعرف هذه الدساتير ويعرف أحكام الشريعة، يأتي ويغوص في باطن سرّها، ويجعل الإنسان يمشي في ذلك المستوى المعنوي، ويجعله يواجه ذلك المعنى النوراني كي يستفيض الإنسان من هذه الظواهر.
ولو أنّ الإنسان عمل بهذه الظواهر لمدّة ألف سنة، ولكن لم يكن عمله توأمًا مع الحقيقة، فلن تأخذ هذه الأعمال بيده؛ مثلما لو أنّ الإنسان أخذ جوزةً فلم يستفد ممّا في داخلها ومن خواصّها، ولم يستفدّ إلّا من قشرتها؛ ولو قال شخصٌ كذلك أنا لا أريد قشرها، فسوف أذهب وآكل لُبّها فقط، فكذلك لا فائدة في ذلك. إنّ الله يقول للإنسان: إنّ حقيقة خاصيّة الجوز واللوز موجودةٌ في بذرة الجوز واللوز، وخاصيّة التفاح موجودةٌ في نفس التفاحة وليس في غيرها، وعلى الإنسان أن يأكل التفاح حتّى يحصل على خاصيّتها، وعليه أن يأكل الجوز حتّى يحصل على خواصّه.
وعلى الإنسان أن يقوم ويصلّي، وعليه أن يُحرّك بدنه باتّجاه القبلة، فيركع ويسجد مع ذلك المعنى وتلك الحقيقة بحيث يتّجه من خلال البدن إلى كعبة الله، ولا يُعطّل بدنه؛ وكذلك عليه أن يتجّه إلى الله من خلال مثاله وقوّته الإدراكيّة، وكذلك من خلال قلبه؛ فينبغي أن تُصلّي جميع شراشر الإنسان للّه؛ هذه الصلاة صلاةٌ كاملةٌ، وهذا هو الحرم، ولو أنّ الله وفّق الإنسان لأن يُصلّي ركعتين بهذا النحو؛ فإنّ ذلك سوف يكون حديثًا مع الله.
أين هو الله حتّى نُريد أن نجد الله؟! هل الله في السماء؟ في الشرق؟ في الغرب؟ تحت الأرض؟ أم أنّ الله معنا؟ إنّه مُحيطٌ بكلّ موجودٍ من الموجوادات، وقبل أن نتكلّم، فإنّ الله معنا، إنّ الله معنا نحن، إنّ الله أمامنا.
«ما رَأَيتُ شَيئًا إلّا ورَأَيتُ اللَهَ قَبلَهُ وبَعدَهُ ومَعَهُ»۱، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: أنا لم أنظر إلى شيءٍ إلّا ورأيت الله قبل هذا الشيء وبعده ومعه، حسنًا! لو أنّنا صليّنا صلاةً كهذه الصلاة، ألن نرى الله؟! هل سنراه في السماء؟! إنّ الله موجودٌ في وجودنا وسرّنا، ألن تُحصّل هذه الصلاة النورانيّة للإنسان؟! ألن تُقرّبه؟! ألن تجعله يتحرّك؟! إنّ هذه الحركة تلزم عن هذا العلم، فهذا السلوك هو بنفسه علمٌ.
في السابق كان هناك مناهج علميّة وتربويّة في الحوزات الكبيرة، فكان مُعلّمو علم الأخلاق والمجتهدون الكبار يقومون بتربية تلامذتهم، كان البعض يتكفّل بإدارة أمور الناس، ولكن بعض المجتهدين الكبار كانوا مربّين أخلاقيّين؛ ففي الأزمنة السابقة كان هناك الشهيد الأوّل، والشهيد الثاني، وابن مسكويه، وابن فهد، وابن طاووس، والمرحوم السيّد مهدي بحر العلوم؛ وفي الأزمنة الأخيرة هناك الآخوند الملّا حسين قلي الهمداني، وتلامذته المبرّزين، فهؤلاء كانوا أستاذةً كبارًا في العرفان والأخلاق، وكم هي عجيبة المراتب والمعاني التي طواها هؤلاء، لقد كان كلّ واحدٍ منهم أعجوبةَ زمانه، وكان كلّ واحدٍ منهم وحيد عصره، وكان كلّ واحدٍ منهم وَتدًا في الأرض؛ وكان عملهم هو هذا؛ وكانوا يُربّون الأفراد الذين يطلبون هذا المقام.
فليس جميع الأفراد يطلبون هذا المقام، ولا يتحمّلونه أيضًا؛ ولذا فقد أعلن الله للجميع: «من أراد فليأتِ، ومن لا يريد فلا يأتِ؛ فالاختيار بأيديكم»٢.
إنّ الله عزّ وجلّ قال للإنسان: صلِّ الصلاة الواجبة، ولكنّ الله لا يُسيطر على الإنسان بحيث يأتي ويأخذ بيد الإنسان ويُصحّح تفكير الإنسان من خلال الزناجير، قال: أنا أوجب الصلاة، فإذا أردتَ أن تُسقط التكليف وأن لا تذهب إلى النار، فهو حسنٌ أيضًا، وصلِّ صلاتك هذه، وقُم بأعمال الخير والمبرّات، ونحن لا نذهب بك إلى جهنّم، وسنجعلك من أصحاب اليمين أيضًا، ولكن إذا أردتَ أن تجعل فكرك مفتوحًا، وأن تَصِل إلى مقام الإنسانيّة، وأن تُصبح إنسانًا كاملًا، وإذا أردتَ أن توصل القوى والاستعدادات والقابليّات التي منحك الله إيّاها إلى الفعليّة والتحقّق، فهذا الأمر مُحالٌ بدون معرفة الله وبدون لقاء الله.
الأستاذ الأخلاقي يُعلّم السالك كيف يزيل الحجب وكيفيّة المراقبة
«عَبدي أَطِعني حَتَّى أَجعَلَك مِثلي (أو مَثَلي)»۱، وعند ذلك سوف يعرف الإنسانُ اللهَ كما ينبغي أن يعرفه؛ سيرى الله بدون حجاب، وليس من وراء نظّاراتٍ رماديّةٍ أو حمراء أو صفراء أو سوداء، حيث يُمكن للشخص الذي يضع نظّاراتٍ رماديّةٍ أن يرى الأشياء، ولكنّه سيراها رماديّةً، وسيقول: الشمس رماديّةٌ والقمر رماديٌّ، والأنوار رماديّةٌ، والجدار رماديٌّ، والبرتقال رماديٌّ، والعنب رماديٌّ، والورق رماديٌّ؛ وسيرى الشخص الذي يضع نظّارةً حمراء جميع الموجودات حمراء؛ وإذا وضع نظّارات صفراء فكذلك الأمر؛ وإذا وضعها خضراء فكذلك؛ فهل الموجودات بهذا اللون واقعًا؟ لا بل هذا ناشئٌ عن الحجاب، هناك حجابٌ موضوعٌ أمام عينيه بعد ذلك حينما يأتي ذلك النور الأزلي الذي يُظهر الموجودات بنوره الواقعي، فيتصرّف من نفسه، يتصرّف تصرّفًا نفسيّاً، يقول: حسنًا، ضع تصرّف النفس هذا جانبًا، وعند ذلك شاهد الأمور بلا تصرّف النفس، انزع النظّارات الرماديّة والحمراء والخضراء عن عينيك، وانظر من خلال العينين التي منحهما الله لك، انظر من خلال النظّارات التي لا تتصرّف، تلك البيضاء المحضة والشفّافة، لكي تتعرّف على كل موجودٍ، فحينما يضع الإنسان النظّارات الحمراء، فإنّه سيرى كلًّا من الشيء الأحمر والشيء الأبيض أحمرًا؛ ولكن حينما يضع نظّرات بلا لون، فسوف يقول: هذا أحمر وذاك أبيض، هذا أصفر وذاك أخضر.
عندما ينظر الإنسان بنظّارات البُخل والحسد والكِبر والحُبّ والرياسة وكذا وكذا وبنظّارات الانغمار في الشهوات، أو بنظّارات الجبّاريّة والعياذ بالله، و...؛ وافرضوا أنّه يُصلّي صلاته أيضًا، ويصوم أيضًا، وفي ليلةٍ من الليالي يستغفل نفسه ويُطيل شعر لحيته فإنّه يُصبح مقدّسًا [بنظر الناس] ولكن لا فائدة في ذلك.
العرفان لا يختصّ بالسجّادة والمناجاة في منتصف الليالي
إنّك ترى في بعض الأحيان تاجرًا في البازار يُعاوض مئتي تومان بشكلٍ ربويٍّ مع علبةٍ من الكبريت؛ هذا الأمر ليس صحيحًا، وإذا كان الإنسان يُريد طريق الله فيجب أن لا يعمل هكذا، افترضوا أنّه يحتال، يحتال بحيلةٍ شرعيّةٍ، والحيلة الشرعيّة تُصحّح الموضوع، مثلًا: الشرع يقول: إنّ الربا محرّم أيّها المحترم، فيأتي هذا الشخص ويأخذ مئتي ألف تومان بالربا، ويعمل حيلةً شرعيّةً لذلك، فهذا خطأ.
إنّ المعلّم الأخلاقي يقول للإنسان: في منتصف الليل عليك أن تُناجي الله؛ وحينما تذهب إلى باب السوق وتتعامل مع زبونٍ غريبٍ وريفيٍّ، فهناك يجب أن يكون الوضع كالوضع في الليل ومنتصف الليل [فأنت هنا تتعامل مع الله أيضًا]؛ وإذا احتلتَ بقرشٍ من النحاس، فذلك جُرمٌ وتلبيسٌ، والاحتيال هو عملٌ خاطئ.
ليس العرفان في السجّادة والليل والمناجاة والعتمة؛ العرفان يعني: التعامل في السوق، يعني: التعامل في الكليّة، يعني: التعامل في الشارع، يعني: التعامل في الباص، يعني: التعامل مع الزوجة، يعني: التعامل مع الطفل، يعني: التعامل مع الجار، يعني: التعامل مع كلب المنزل، والتعامل مع قطّة المنزل، فجميع هذه الأمور معاملة، ما معنى ذلك؟ يعني: يجب عليك أن تُعطي زوجتك حقّها، وأن تُعطي قطّة المنزل حقّها، وأن لا يتكلّم الإنسان مع خادمه بنحوٍ سيّءٍ، وإذا أراد الخادم أن يتناول الطعام فعليك أن تعطيه الطعام، وعلى الإنسان أن يتناول الطعام معه، وأن لا يرى أنّ طعامه أعلى من طعام الخادم؛ وعلى الإنسان أن يتناول الطعام مع سائقه، وأن لا ينظر لمن يعمل تحت يده على أنّهم تحت يده؛ سواء أكان عبدًا أم كان مستخدمًا مثلًا أو كذا ...، لقد عيّن الله له هذا المسير، وعيّن لك هذا المسير أيضًا، فمِن أين نعلم بأنّه ليس أعلا منك؟! ومِن أين نعلم أنّ قلبه ليس أصفى، وأنّ إدراكه بين نفسه وبين الله ليس أفضل؟! فالله جعله أسود اللون وجعلنا بيضًا، جعله فقيرًا وجعل هذا الشخص غنيّاً، جعل هذا رئيسًا وذاك مرؤوسًا.
[على الإنسان أن يفعل] مثلما كان يفعل الإمام الرضا عليه السلام، حيث كان يجمع جميع غلمانه ويجلس معهم على سفرةٍ واحدةٍ ويتناول الطعام؛ وكان يستأنس جدّاً۱؛ هذا يُسمّونه: عرفان.
ومعلّم العرفان يُبيّن بأنّه على الإنسان أن يكون مثل الإمام الرضا، على الإنسان أن يتّخذ الإمام أسوةً وأن يتصرّف مثله، [يأتي شخصٌ ويقول:] الآن شخصيتي تقتضي أنّني إذا دخلتُ مكانًا فينبغي أن يدخل خلفي عشرة أشخاصٍ خلفي وأن يُعظّمونني، إنّ هذا الكلام اعتباطيٌّ، «إنّ الطريق هو مثلما ذهب أصحاب الطريق».
لقد كان النبيّ أعظم رجلٍ، كان أعظم رجال العالم، وأعظم موجودٍ في عالم الخلقة؛ فكيف كان؟ كيف كان يمشي؟ كيف كان تواضعه؟ كان يجلس مع الغلمان، وكان يأكل مع الغلمان۱، وكان النساء يأتون إليه ويُحضِرون إليه الأطفال ليُسمّيهم، فكان يُجلسهم في حضنه، وكان الطفل يبول في حضن النبيّ؛ فكانت تقوم قيامة الناس! أمّا النبيّ فكان يقول: «حسنٌ جدّاً! أعطوني قليلًا من الماء، لم يحصل أمرٌ مهمٌّ، لماذا هذا الصياح؟! فليُنهي الطفل بوله، لماذا كلّ هذا الصياح؟» ثمّ كان النبيّ يقوم بغسل ثيابه بنفسه، ولم يكن يُعطيه لزوجاته؛ وبالطبع الثوب يَطْهُر بكفٍّ من الماء٢.
قصّة النبيّ مع المرأة العجوز
كان النبيّ يمشي يومًا من الأيّام في أحد الأزقّة، وكانت هناك امرأةٌ تجلس إلى جانب الزقاق، فنادته: «يا رسول الله! تعال واجلس إلى جانبي»، فذهب النبيّ وجلس عندها، فقالت له: «كُل من طعامي هذا»؛ فتناول النبيّ لقمةً ووضعها في فمه، فقالت: «يا رسول الله! أُحبُّ أن تستخرج تلك اللقمة التي في فمك وأن تُعطيها لي». فأخرجها النبيّ، فتناولتها٣.
ما سرّ ذلك؟! وما هي رؤيته واقعًا؟! فهذا النبيّ مع ذلك المقام ومع ما له من كمالٍ، ينظر إليها بنظرةٍ إلهيّةٍ، إنّها مخلوقٌ للّه، وهي مرتبطةٌ بالله، إنّها إنسانٌ، تقول له: تعالَ واجلس بجانبي، إنّه طلبٌ صغيرٌ، ثمّ تطلب منّي أن تعالَ وتناول من طعامي، بعد ذلك تأتي وتطلب هذا الأمر منّي؛ حسنًا؟ فأنا أقول: «الآن بما أنّني نبيّ، إذن ليس من شأني أن أجلس معكِ»، في هذا الموطن هذا الأمر ممنوعٌ، فالشأنيّة هنا لا تنفع.
هنا تأتي أمثال تلك الآيات القرآنيّة التي تزجر وتحذّر وتقول: «إيّاك أيّها النبيّ! إيّاك أن تقترب من هؤلاء الكفّار، فإنّك لو اقتربت من الشرك وعبادة الأصنام والعناد و... بمقدار رأس إبرة فإنّنا سوف نُسقطك من جميع الوجود»٤.
إنّ نورانيّة النبيّ معناها الجلوس مع امرأةٍ من أبناء السبيل تجلس على طرف الزقاق وفقيرةٍ وتجلس على التراب؛ والنبيّ يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمين، أنا أفقر الفقراء، وأيّ فقيرٍ أفقر منّي؟»٥ وهذه هي الحقيقة، فإنّ النبيّ إذا عاد إلى نفسه، فإنّه يرى نفسه فقيرًا جدّاً، الله هو الغنيّ وحسْب، كلّ شخصٍ يدّعي الغنى لنفسه فهذا الادّعاء باطلٌ، وسوف يُريه الله بأنّ ادّعاءه باطلٌ؛ فإذا ادّعى الإنسان الغنى لبدنه، فسوف يُريه الله بأنّ هذا الادعاء غلطٌ، وسوف يأخذ منه [قوّة] بدنه؛ وإذا اعتمد الإنسان على عينه، أو على إدراكه، أو على فهمه، أو على أيّ شيءٍ آخر، ففي نهاية المطاف هناك الموت، وستأتي الجرّافة وستُسوّي التراب، ثمّ تذهب، وينتهي الأمر.
فإذن على الإنسان أن يقول: يا إلهي، هذه العين التي منحتني إيّاها هي نعمةٌ وآيةٌ من آياتك، فوفّقني لكي أنفقها في سبيلك؛ ويدي لك، وقلبي لك، وإدراكي لك، وكلّ نعمةٍ أنعمتَ بها عليّ هي لك، وهي ليست لي، فأنا فقيرٌ. وقولك: «أنا فقير» يعني: أنّك عبدٌ، يعني: أنّ عليك أن تُطيع كلام المولى، يعني: أن تقول: أنا مطيعٌ.
تأتي هذه المرأة وتقول: يا رسول الله تعالَ واجلس معي؛ وهذا النبيّ هو عبدٌ للّه، فيستجيب إلى طلبها ويقول: سمعًا وطاعةً؛ هذا يُقال له: عبدٌ.
«أشهَدُ أنّ محمّدًا عَبدُهُ ورَسولُه»، إنّ الشهادة في هذه العبارة على العبوديّة مُقدَّمةٌ على الشهادة على الرسالة، ومقام العبوديّة أعلى من الرسالة؛ فأوّلًا ينبغي أن يكون الإنسان عبدًا حتّى يجعله الله رسولًا، لا أنّ الله يجعله رسولًا أوّلًا ثمّ بعدها يُعطيه مقام العبوديّة، هذا غلطٌ؛ فطالما لم يُصبح الإنسان عبدًا فهو غير مؤهّلٍ للرسالة.
بيان معنى العبد
العبد يعني: ذلك الشخص الذي خرج من جميع أنانيّته ورأيه الشخصي وفكره الشخصي، ومثله مثل ذلك المريض في المستشفى بالضبط، يجب أن يخرج من جميع إرادته؛ ويجب أن يكون مثل الشمع [يتشكّل بأيّ شكلٍ يُريد صاحبه أن يُشكله فيه]، وأن يُسلّم نفسه إلى يدي الطبيب، فإذا وجّهه إلى تلك الجهة قال: سمعًا وطاعةً. وإذا وجهه إلى تلك الجهة؛ سمعًا وطاعةً. سأحقنك بإبرةٍ هنا؛ سمعًا وطاعةً. وسأحقنك هناك؛ سمعًا وطاعةً. يا سيّد لا تتناول اليوم الطعام؛ سمعًا وطاعةً. ويا سيّد تعال تحت سكّين الجرّاح؛ سمعًا وطاعةً.
أمّا أن يسأل: كم سوف يطول تخديري العام؟ [فيخبرونه]، ثمّ يقول: هذا المقدار من التخدير كثيرٌ عليّ! يُقال له: يا سيّد التدخّل في هذا الأمر ممنوع! فلماذا تُضيّع وقتك؟! هذه هي القاعدة، هذا من يُطلقون عليه بأنّه عبدٌ، وهذا المقام مقامٌ عالٍ جدّاً، فكم لديه من الصفاء! وكم لديه من الخضوع!
لو أنّ الإنسان نظر إلى حالة النبيّ هذه واقعًا، فإنّه سيرى أنّه يعيش في أيّ عالمٍ، وكيف أنّه يرى أنّ جميع وجوده في مرأى ومنظر الله عزّ وجلّ، وأنّه في حال تكلّمٍ ومناجاةٍ دائمةٍ مع الله، يعني: كان مع الله دائمًا، واقعًا كان في حالةٍ من السرور الشديد.
تأتي هذه المرأة وتقول: تعالَ واجلس عندي، فهل يشعر النبيّ في نفسه في البداية شعورًا بعلوّ القدر والرفعة ثمّ يتنازل ويأتي ويجلس؟! لا، فلو كان كذلك لكان خطأ؛ بل إنّ النبيّ على درجة من الصفاء والنقاء كالماء الزلال بحيث إنّه بمجرّد أن قالت: تعالَ واجلس، ذهبَ وجلسَ؛ هذا المقام هو الذي يُطلق عليه: «مقام العبوديّة»؛ ويتمّ تحصيل هذا المقام على إثر إطاعة أمر الله عزّ وجلّ.
نتيجة الطاعة
لقد جاء رسول الله والأئمّة ليجعلونا نمشي في هذا المنهاج، يعني: من أجل أن يُوضّحوا الفكرة للإنسان، ويقولوا: «أيّها البشر! أنتم بشرٌ، وسوف تصلون إلى مقام التوحيد وأنتم مظهرٌ لجميع أسماء الله وصفاته، أنتم خليفة الله، والقابليّة والاستعداد الممنوحان لكم من الله هما قابليّةٌ واستعدادٌ غير متناهيان؛ وإذا ما صرفتموهما في سبيله، فسوف تُصبحون مثل سلمان وأبي ذرّ والمقداد ورُشيد وكُميل والأصبغ بن نباتة وحبيب بن مظاهر، فهؤلاء لم يدرسوا في الجامعات، ولم يكونوا يعرفون مصطلحات العلوم. نعم، لا شكّ في هذا الأمر أبدًا».
ولكن على إثر الطاعة نجد أنّ النبيّ قال عن سلمان: «سَلمانُ مِنّا أَهلَ البَيت»۱، لقد أصبح منّا أهل البيت، منّا!
ما الذي أدّى إلى ذلك؟ الطاعة، فقد وصل إلى النبيّ وآمن به؛ قُم بهذا العمل؛ سمعًا وطاعةً. وقُم بذلك الفعل؛ سمعًا وطاعةً. ولم يكن يُبدي رأيًا من نفسه، ولم يكن يأمر النبيّ بأمرٍ، ولم يكن يدلّ النبيّ على الطريق.
أمّا عُمَر وأمثاله فبعد أن أسلموا؛ بدؤوا يُرشدون إلى الطريق، وينتقدون، وكانوا يقومون بتوجيه أفعال النبيّ [إلى وجهة معيّنة]؛ يا رسول الله! لو أنّك تفعل كذا لكان أفضل؛ يا رسول الله! قم بهذا الفعل.
لقد جاء عُمر في غزوة تبوك إلى النبيّ وقال: «يا رَسولَ اللَه لا تَفعَلْ!»٢. فهو لم يخرج من نفسه، وبقي في قالب نفسه.
ثمّ جاء عُمر بعد ارتحال رسول الله وأزال «حَيَّ علَى خَيرِ العَمَل» من الأذان، وقال: نحن إذا قُلنا: «حَيَّ علَى خَيرِ العَمَل»، فمعنى ذلك: أنّ الصلاة هي أفضل الأعمال؛ وبالتالي لن يذهب أحدٌ إلى الجهاد، ولذا أزيلوا هذا الفقرة، فأزالوها. وما زال الأمر كذلك حتّى الآن٣.
حسنًا، ألا يفهم رسول الله هذا الكلام؟! فأيّ جهادٍ في سبيل الله هو الذي له فضيلةٌ؟ ذلك الجهاد الذي يكون في ظلّ الصلاة أم الذي يكون بدون الصلاة؟! هل على الإنسان أن يكون مصليّاً أوّلًا ثمّ يُصبح مجاهدًا؟ أم يكون مجاهدًا أوّلًا ثمّ يُصلّي؟! إنّ ذات الإنسان يجب أن تكون مصلّيةً للّه. إذن الصلاة هي خَيرُ العَمَل لا الجهاد، الإسلام من أجل الصلاة، والجهاد من أجل الصلاة، والمسلم يذهب إلى الحرب حتّى يُصبح الكفّار من أهل الصلاة، ولكي يقتربوا من حرم الله، وليُعطيهم معراجًا، «الصَّلَاةُ قُربانُ كُلِّ تَقيٍّ»۱؛ إنّها تخرج جميع نفوس البشر من الهواجس والأماني والحُجب النفسانيّة، وتسوقها نحو عالم الأنس والخلوة مع الله، هذه هي خصوصيّة الصلاة.
يقول الإمام الصادق عليه السلام: ما أعلَمُ شَيئًا تحتَ السّماءِ أفضَلَ وأشْرَف مِن هَذه الصَّلاة٢؛ [ويقول الله عزّ وجلّ:] {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}٣ وذكر الله هو الصلاة، وهي أعلى وأكبر من كلّ شيءٍ.
ثمّ نأتي نحن ونقول: لن نذكر «حَيَّ عَلَى خَيرِ العَمَل»؛ كي يذهب الناس إلى الجهاد، إلّا أنّه جهادٌ خالٍ من الصلاة؛ ولذا نجد أنّهم جاهدوا، واستولوا على الدنيا، ولكنّهم لم يجعلوا أهل الدنيا مصلّين حقيقيّين.
هذا مُضادٌّ لمنهج أمير المؤمنين، فإنّ منهج أمير المؤمنين يقول: يجب أن يكون الإنسان مصلّيًا أوّلًا، ثمّ يذهب إلى الجهاد، إنّهم تركوا الصلاة وذهبوا إلى الجهاد! فاستولوا على الدنيا، ولكن لم يُوجِدوا مصلّين، فذهب كلّ شيء، وإلى الآن لا توجد صلاةٌ في الدنيا.
ونحن بدورنا نسير خلف إمام الزمان، وهو يأتي ويصنع مُصلّيًا؛ ويجعل الناس مُصلّين؛ ويجعل الناس تتحرّك من الباطن باتجاه الله، ويُوصلهم.
خلاصة الأمر، جميع ذلك كان على إثر الطاعة، وسلمان إنّما وصل إلى مقام أولياء الله على إثر الطاعة، فرَفَع الحُجب وأَخرَج جميع قابليّاته وأوصلها إلى الفعليّة وأصبح إنسانًا كاملًا، والآن لو أنّ الإنسان لم يطوِ سبيل الطاعة، ومشى طبق ذهنه وسليقته، فحتّى لو كان يدرس، ولو كان مُجتهدًا أيضًا، ولو حصّل مقاماتٍ عاليةٍ أيضًا، فإنّه لا يستطيع أن يُحصّل هذه الحالات القلبيّة.
مثلًا الشخص الذي يُريد أن يحلّ معادلةً من الدرجة الثانية، فحتمًا يجب أن يذهب إلى ذلك الصفّ، وإلّا لا يُمكن أن يرسم منحنى من الدرجة الثانية؛ فهو لا يستطيع أن يستنتج جذرًا من هذا المجهول، وأن يحسب أنّ كذا وكذا يُساوي كذا؛ بل يجب حتمًا أن يأتي إلى الصفّ، وأن يذهب إلى أستاذٍ ليتعلّم ذلك.
إنّ درس الطهارة والمعرفة والأخلاق هو درس رسول الله، وهو ينطبق مع سنّة رسول الله؛ فماذا كان يفعل؟ قال النبيّ: يجب أن تنهض في الليل، ويجب أن تُناجي، ويجب أن تخلو مع الله، وأن تبثّ شكواك للّه؛ فالصلاة هي بثٌّ للشكوى مع الله، وعرضٌ للحاجة على الله، وطلبٌ لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فإنّ معنى «اللَهُ أكبَر»: هو أنّه ما من موجودٍ مؤثّرٍ إلّا الله، فـ «اللَهُ أكبَرُ مِن أن يُوصَف»۱؛ وحينما يكون «اللَهُ أكبَرُ مِن أن يُوصَف» فلماذا يعير الإنسان اهتمامًا للشيطان؟! لماذا يخاف من الشيطان؟! يعني: يأتي الشيطان ويُقارع الله؟! ويتقدّم على الله، ويُؤخّر حكم الله، ويُسيطر على الله؟! لا، لا يحصل ذلك، اللَهُ أكبَرُ مِن أن يُوصَف.
حينما يقول الإنسان: الله، فهذا نورٌ، فمن خلال كلمة «الله» واحدة، يُضاء مصباحٌ ذو ألف شمعةٍ أو أكثر، ويُضاءُ منزلٌ، وتذهب جميع الظلمات، ومن خلال «الله أكبر» واحدة، تأتي شمسٌ فوق السماء وتُنير الأرض، وهذه الإنارة قلبٌ، فماذا يُمكن للشيطان أن يصنع هناك بعد الآن؟! إنّ الشيطان هو للأشخاص الذين لا يقولون: الله أكبر، والذين يقبعون في الغفلة، والمغرورين بأنفسهم، فهؤلاء يعيشون في عنادٍ وتكذيبٍ وجحودٍ.
لقد ورد في القرآن المجيد: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}٢، فهذا الإنكار لهم، وليس للأشخاص الذين يقولون: نحن نُريد أن نكتسب سرّ التسليم، ويا الله أرِنا الطريق! ونحن مُخلصون لك أيضًا، ونحن نمشي أيضًا، فإنّ الله يُحبّ هؤلاء، ويستقبلهم بالأحضان، ويجعلهم تحت كنفه، ويمسح على رؤوسهم ـ وطبعًا هذه العبارات للتشبيه ـ وتشملهم رحمته، ويُرسل ملائكته، ويجعل قلبهم مسرورًا، ويزهرهم، ويشرح صدورهم؛ {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ}٣، ينشرح صدرهم، يعني: يخرجهم من الضيق، وتجلس معاني الإسلام والتسليم في صدورهم، فالعالم ليس ضيّقًا بالنسبة له، وله سعةٌ وسيطرةٌ على العالم، وله حكومةٌ على العالم؛ يعني: يرى أنّ جميع الموجودات مرتبطةٌ بالله، وكلّما قابل موجودًا فإنّه ينظر إليه من وجهة نظر اللطف والرحمة، وليس من وجهة نظر الغضب؛ لأنّ الجميع مُسخّرٌ ليد قدرة الله عزّ وجلّ، وهو ينظر إلى الموجودات بنفس هذه النظرة الإلهيّة لا بالنظر النفسي؛ لأنّه أصبح عبدًا وخرج من نفسه، فما معنى أنّه أصبح عبدًا؟ يعني: أطاع الله عزّ وجلّ، وعند ذلك نرى بأنّ المخالفين حتّى لو كان صوتهم عاليًا، إلّا أنّهم لا يستطيعون فعل شيءٍ.
نتيجة ترك الطاعة
لقد جاء عُمَر وأصبح خليفةً، وحارب إيران وفعل كذا وفعل كذا، وقد وصلت حكومته في ذلك الزمان إلى تلك البقاع؛ ولكن نفس إبداء الرأي؛ يا رسول الله! افعل هذا الفعل. يا رسول الله! افعل ذلك الفعل. نفس إبداء الرأي هذا أدّى إلى ضياعه كذلك؛ فهل كان رسول الله أقلّ في عقله منك؟! واقعًا، هل كان عقله أصغر؟! هل كان إدراك رسول الله أقل؟! هل تقبل أنت برسول الله وبالنبوّة وبالنورانيّة والولاية؟! أنتَ الذي وصلتَ للتوّ إلى النبيّ، ألم ترَ جميع تلك المعجزات والكرامات من النبيّ؟! فما معنى هذه الأوامر إذن؟! لماذا تُؤذي النبيّ؟!
لقد كانوا يُؤذون النبيّ حتّى نزلت آيات القرآن، ففي نهاية المطاف النبيّ لديه خجلٌ وحياءٌ؛ مثلًا: كانوا يأتون إلى داخل منزل النبيّ، حسنًا كان للنبيّ تُسع حجرٍ؛ وكانت كلّ واحدةٍ من زوجاته في حجرةٍ؛ لم تكن عشرة منازل، بل عشر حجرٍ؛ وهؤلاء كانوا يأتون مثلًا إلى غرفة النبيّ ويجلسون لتناول الطعام، وكانوا يُطيلون الجلوس ساعتين ويتحدّثون، فماذا يصنع النبيّ؟! هل يقول: قوموا واخرجوا من منزلي، كان يخجل أن يقول ذلك، لقد كان النبيّ رجلًا حَيِيّاً، أي: كان كتلةً من الحياء؛ وعند ذلك كيف تنزل آيات القرآن لتفهيم الناس أن لا تذهبوا وتؤذوا النبيّ إلى هذا الحدّ، حينما يدعوكم اذهبوا، ولكن إذا دعاكم فلا تذهبوا قبل الميعاد بساعةٍ وتنتظروا حتّى يضع لكم صحن الطعام، {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا}۱، ففي هذه الآية دلالةٌ على أنّهم كانوا يؤذون النبيّ.
لا تذهبوا إلى نساء النبيّ، ولا تتكلّموا معهنّ إلّا من وراء حجاب، كانوا يذهبون ويتكلّمون معهنّ، ويقولون مثلًا: إذا ارتحل النبيّ عن الدنيا فسوف نتّخذكنّ أزواجًا لنا، وأمثال ذلك؛ فجاءت آيات القرآن لتبيّن أنّه: لا يجوز الزواج بنساء النبيّ بعد النبيّ أبدًا٢، فقد نزلت آيات القرآن وهدّدتهم، والآن انظر أنتَ في أيّ وضعٍ كان النبيّ؟!
لقد كان العلّامة الطباطبائي أستاذنا، وكان سماحته موجودًا يُمثّل تجسّمًا للحياء، مثله مثل معصومٍ من المعصومين، كان كُتلةً من الحياء، وكلّما أردتُ أن أضرب مثالًا بأنّه إذا أراد الإنسان أن يعرف الأئمّة، وأن يفهم كيف كان مقام الإمام، فعليه أن ينظر إليه فهو آيةٌ، وعند ذلك نعرف ما هو مقامهم. لقد كان العلّامة الطباطبائي رجلًا حَيِيّاً.
يقول القرآن المجيد عن النبيّ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ}۱، وروح النبوّة أعلى من العلّامة [الطباطبائي] بمئة درجةٍ بل بألف درجةٍ، أصلًا لا يُمكن المقارنة بينهما لنعرف ما الأمر هناك! ولكن في بعض الأوقات كانوا يأتون ويُؤذون النبيّ، وكانوا يأمرونه، بينما لم يكن أمير المؤمنين وسلمان يفعلون ذلك، كان أمير المؤمنين يقول: أنا عبدٌ من عبيد النبيّ، أنا خادمٌ للنبيّ، وروحي فداءٌ للنبيّ؛ لو وضعني تحت الصخرة وقطّعني قطعةً قطعةً وقال: اذهب، فسوف أقول: سمعًا وطاعةً؛ تعالَ، سمعًا وطاعةً؛ مُتْ، سمعًا وطاعةً؛ حارب، سمعًا وطاعةً؛ صالح، سمعًا وطاعةً؛ اذهب إلى اليمن وخذ الجزية وأحضرها، سمعًا وطاعةً؛ ولذا حصّل على تلك المقامات وتلك الدرجات، والآن هذا هونهج البلاغة كتاب أمير المؤمنين عليه السلام.
فأين نهجُ بلاغةِ عُمَر؟! وأين نهجُ بلاغةِ أبي بكر؟! وأين نهجُ بلاغة عثمان؟! لقد كانت خلافتهم أكثر زمانًا، إذ كانت خلافة أمير المؤمنين خمس سنواتٍ، كانت خلافةً مختصرةً، وقد جُمعت هذه الخُطب في هذه المدّة، فقد جلس الإمام طيلة خمسةٍ وعشرين عامًا في منزله وكان يعمل مزارعًا، يزرع ولا يتدخّل في نظام السياسة، فأين خُطب عُمَر؟! وأين أوامره؟!
هذه الخُطب [للإمام علي] التي تُمثّل كلّ جملةٍ منها عالمًا من الحكمة والإدراك والوصول إلى تلك التُخوم والبطون من المعارف، وكأنّه جالسٌ في حرم الله، فيُخبر عن عالم العرش والكرسي وعن العالم الربوبي وما سوى الله، من أجل ماذا كلّ هذا؟ من أجل أنّه كان يقول: «أنَا عَبدٌ مِن عَبيدِ مُحمَّد»٢، يعني: أنا عبدٌ؛ فإذا قال لي النبيّ: «يا عليّ! افعل هذا الفعل» فلا أقول بعد ذلك للنبيّ: «الآن يا رسول الله؟! من الجيّد لو أنّك تفوّض هذه المأموريّة إلى شخصٍ آخر؛ فأنا مُتعبٌ، أو لا أستطيع القيام بها».
«يا علي! اذهب واملأ القربة بالماء».
ففي معركة بدر، كان الليل مظلمًا، والجوّ جوّ حربٍ، والوقت متأخّرٌ، والمكان مليءٌ بالأعداء، فأعطى النبيّ قربةً إلى سعد بن أبي وقّاص،أن اذهب إلى البئر الفلاني وأملأها وأحضرها، ولا تخف؛ فلم يستطع، ولم يذهب أيّ شخصٍ طلب منه النبيّ!
فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام القربة۱ [وذهب لوحده، وكانت الصحراء مليئةً بالظلام، كانت صحراء مظلمةً، سوداء وباردةً، وكان جميع الأعداء قد أحاطوا بأرض بدر، فذهب إلى داخل البئر، وملأ القربة بالماء، ثمّ خرج وأخرج القربة من البئر، وحينما تحرّك باتّجاه النبيّ، هبت ريحٌ شديدةٌ جدّاً ثلاث مرّات، بحيث أنّ أمير المؤمنين جلس من شدّة الريح؛ ثمّ ذهب إلى محضر النبيّ.
«يا عليّ! لماذا تأخّرتَ؟».
«لقد هبّت الريح ثلاث مرّاتٍ».
فقال النبيّ: «تلك الرياح الثلاث هي جبرائيل وإسرافيل وميكائيل، وكان مع كلّ واحدٍ منهم ألف ملكٍ، نزلوا من السماء ليُباركوا لك عملك وليهنّئوك على ما فعلت، فإنّ الملائكة افتخروا بك، وباهوا بك، وهؤلاء الثلاثة آلاف مَلَك سوف يُساعدونك غدًا، وسوف يكون النصر على يديك»]٢.
اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وآلِ مُحمَّد