المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةسبيل الفلاح
التوضيح
هو العليم
ضَرُورَةُ عَدَمِ الالْتِفَاتِ إِلَى مَا سِوَى اللـهِ مِنْ أَجْلِ الوُصُولِ إِلَى اللـهِ
سبيل الفلاح - الجَلسَةُ الثانِيَةُ
محاضرات ألقاها
سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أَعُوذُ بِاللـَهِ مِنَ الشَيْطَانِ الرَجِيْم
بِسْمِ اللـهِ الرَحْمَنِ الرَحِيْم
وَصَلّى اللـَهُ عَلى مُحَمّدٍ وَآلِهِ الطَاهِريْن
وَلَعْنَةُ اللـه عَلى أَعْدَائِهِم أَجْمَعِيْن
سبب صعوبة الطريق إلى الله وسبب سهولته
من جهةٍ يعتبر اجتياز الطريق نحو الله أصعب الأعمال، ومن جهةٍ أخرى هو أسهلها.
أمّا كونه أصعب عملٍ فلأنّ نفس الإنسان اعتادت على الأمور المتكثّرة في هذا العالم، اعتادت على الشهوة والغفلة وعلى لون الدنيا ورائحتها، فيتوجّب على الإنسان أن يتجاوز جميع هذه الأمور من أجل الله، وهذا هو أصعب عملٍ.
وأمّا كونه أسهل عملٍ، فلأنّ هذه العادة وهذا الأنس الذي للإنسان مع هذه الأمور المُتكثّرة في الدنيا، ليست سعادة الإنسان، إنّها وبالٌ، إنّها أسرٌ، ظلمةٌ وإزعاجٌ. والاتّصال بالله عبارةٌ عن العبور عن هذه الأمور، والذهاب إلى عالم السعة والإطلاق، والذهاب إلى الرَوح والرحمة، مضافًا إلى أنّ الله يساعدنا، وبالتالي فالارتباط بالله هو أسهل الأعمال.
لقد ذُكرت أشياء عديدة حول هذا الطريق في كلٍّ من «رسالة لبّ اللباب» و«رسالة السير والسلوك المنسوبة للمرحوم بحر العلوم»، وهي ممّا ينبغي مراعاتها، وطبعًا سأذكر هنا بدوري بعض تلك الأمور المهمّة بنحو الإجمال، وهي من الأمور التي ينبغي على الإنسان أن يضعها نصب عينه دائمًا، فهي تمدّه وتُعِدّه إلى آخر السلوك أيضًا، فالأمر يحتاج إلى محاسبةٍ، ويحتاج إلى ذكرٍ، ويحتاج إلى عبادةٍ.
ما يحتاج إليه السالك لطيّ الطريق
الأمر الأوّل: الهمّة العالية
أحد تلك الأمور هو الهمّة العالية يعني: على الإنسان أن لا يرى في هذا الطريق إلّا الله وحسب، وينبغي أن يكون عمله لله، وأن لا يتنازل عن الله، ولا يقنع بما دون الله، ولا يقوم بعملٍ لغير الله، لأنّه مهما عمل الإنسان من عملٍ لغير الله، فإنّ نفسه لن تطمئنّ، وفي المقابل إنّ العمل الذي يقوم به الإنسان لغير الله لن يجعله يشبع حين يصل إلى ذلك المقصد والمقصود؛ لأنّ الأجر الذي سوف يُعطى للإنسان هو نفس ذلك الهدف والمقصد الذي عمل الإنسان من أجله.
مثلًا: إذا قام شخصٌ بعملٍ من أجل أن يُقال عنه بأنّه عالمٌ، فماذا سيستفيد من الله يوم القيامة؟! سيُقال له: لقد قيل لك في الدنيا ما ترغب أن يُقال لك، ولكن ماذا أحضرتَ لنا؟ وإذا أنفق شخصٌ ومدّ السفرة تلو السفرة لكي يُقال عنه: يا سيدي إنّ هذا الشخص مُتديّنٌ ومن أهل الإنفاق ويُساعد المُستضعفين وهو رجلٌ غنيٌّ. حسنًا! لقد قالوا هذا الأمر بحقّه. ولكن ماذا أحضر الإنسان للّه؟!
في المقابل إذا قام الإنسان بهذا العمل من أجل الله، وكان قصده من هذا العمل هو الله، فماذا سيكون أجر الإنسان حينئذٍ؟ نفس الله، وانتهى الأمر.
ينبغي أن يكون الشيء الذي يُعاوض الإنسان نفسه عليه هو الله وحسب، محبّة الله وعشق الله وذكر الله فقط {أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ}۱. وإذا تنازل الإنسان واقتنع بما دون الله، وقام بعمله لغير الله، فلن تشبع نفسه، ولن يزول عطشه وجوعه، ولن يصل إلى الهدف أيضًا.
على السالك أن يقوم بأعماله للّه، فلا يُصلّي أو يصوم أو يُنفق إلّا للّه؛ لأنّه هو الذي أمرنا أن نقوم بهذه الأمور. فإذا كان عبداً لله عليه القيام بما أمره به، لا أن يقوم بهذه الأعمال من أجل رؤية منامٍ جيّدٍ؛ لأنّه طبعًا حينما تتمّ تزكية نفس الإنسان، سوف يرى منامًا جيّدًا، ولكن لا ينبغي على الإنسان أن يكون قصده من العمل تحصيل المكاشفة، أو الاطلاع على بعض المعاني في اليقظة، أو لكي يحصل على حالٍ معيّنةٍ بحيث يُخبر عن أفكار الناس وما يجري في أذهانهم وما يخطر على بالهم، بحيث يُمكنه أن يقرأ أذهان الناس، ويعرف ما الذي فعله فلانٌ بالأمس؛ أو مثلًا: يقوم بشفاء مريضٍ بإرادةٍ منه، أو يقوم بالتصرّف في مواد الكائنات، فيقوم بتخريب جبلٍ ـ مثلًا ـ بإرادةٍ منه، أو يُوقف قطارًا وأمثال هذه الأمور، هذه الأمور ليست موجودةً في السير والسلوك ولا في طريق العرفان وطريق الله؛ لأنّ جميع هذه الأمور هي مقاصدُ صغيرةٌ ودون الله، أمّا في العرفان فالمقصد هو لقاء الله والفناء في ذات الله وعرفان الله فقط.
افترضوا أنّ شخصًا قام بجهدٍ ما، فعَلِم بما تتحدّث به هاتان الحمامتان الذكر والأنثى اللتان تطيران في الهواء، وأخبر بذلك، واتّضح بأنّ ما يقوله صحيحٌ، فكان يفهم لغة الطيور، فهو كان قد قام ببعض الأعمال من أجل ذلك، وصار يعرف لغتها، ومعرفته كانت صحيحةً أيضًا، حسنًا! فأيُّ كمالٍ لنفس الإنسان في ذلك؟! ليس فيه أيّ كمالٍ لنفسه، مثلُه مثل سائر العلوم التي لدى الناس في الدنيا، من أجل الدنيا، مثلًا: يستطيع البعض من خلال الآلات التي صنعوها كالراديو والرادار أن يعرف بما يحصل في ذلك الجانب من الدنيا، كذلك فإنّ البعض يستطيع من خلال نفسه أن يطّلع على ما يحصل لدى بعض المخلوقات، فيعلم بما يجري من حديثٍ بين الحمامتين، أو يعلم ماذا يوجد خلف الجبل.
إنّ هذه العلوم للدنيا، وفائدتها محدودةٌ بوقت الموت، وحينما ينتقل الإنسان عن هذا العالم لا يكون قد اكتسب كمالًا بواسطتها، ولا يكون قد حصّل قربًا من الله.
قصّة المُرتاض الهندي مع الإمام الصادق عليه السلام
لقد جاء أحد هؤلاء المرتاضين اليوغيّين۱ إلى محضر الإمام الصادق عليه السلام.
السائل: هل كان مسلمًا؟
العلامة: لا، لم يكن مسلمًا، بل كان مُشركًا.
قال للإمام: «أنا أستطيع أن أُخبر عن الأمر الفلاني، وأنا أعرف الغيب»، وأمثال هذا الكلام، فقال الإمام: «حسنًا أخبرني ماذا يُوجد في يدي؟»، ففكّر وقال: «بيضة الحمامة الفلانيّة التي تقع في الجبل الفلاني، في المكان الفلاني من الدنيا؛ لأنّي نظرت الآن إلى كلّ الأماكن، فرأيتُ أنّ كلّ الأشياء في مكانها إلّا بيضةَ الحمامة تلك، ولذا في يدك بيضة الحمامة»، ففتح الإمام يده، وقال: «صحيحٌ ما تقوله»، ثمّ قال له: «كيف وصلت إلى هذا المقام؟»، قال: «خالفتُ نفسي»، فقال الإمام: «أسلِم!» فقال: «لا أُسلِم»، فقال الإمام: «خالف نفسكَ!»، فقال: «أشهدُ أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ مُحمّدًا رسول الله».
انتبه للأمر! ثمّ أغلق الإمام يده مرّةً أخرى، وقال: «ماذا في يدي؟» ففكّر وفكّر ثمّ قال: «لا أعلم»، ففتح الإمام يده وقال: «نفسُ تلك البيضة، انظر!»٢.
انتهى ما كان لديه، ذهب في حال سبيله، وقد وصل إلى التوحيد، يعني: من خلال هذه الـ «أشهدُ أن لا إله إلّا الله» وصل إلى نورٍ توحيديٍّ وحصل له ارتباطٌ بالله عزّ وجلّ بحيث إنّ هذه العلوم كانت صفرًا مقابله، وفقد كلّ ما كان لديه؛ لأنّ تلك العلوم والشهادات هي علومٌ وشهاداتٌ من أجل هذا العالم، من أجل عالم المادّة، وكان قد أجهد نفسه حتّى حصّلها ولكنّه حصّلها بدون الله، دون الاتّصال بالتوحيد؛ أمّا الآن فقد وصل إلى نقطة التوحيد تلك، إلى ذروة التوحيد تلك، وما يُفاض عليه من هناك، فهو ذو قيمةٍ وسيبقى له {مَا عِندَكُمۡ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٖۗ}٣.
لقد جلب الإمام بيضة الطائر بواسطة النور الإلهي، وأراه إيّاها، وهذا الأمر يبقى للإمام، ولذا في المرّة الثانية حينما أراه إيّاها كانت نفس البيضة وكان قد اطّلع سابقًا على جميع الدنيا أيضًا، ولكن لم يبقَ ذلك له؛ لأنّ طريقه كان خاطئًا، وعندما أسلم ووصل إلى التوحيد، زالت هذه العلوم المتكثّرة الضائعة الناشئة من ظلمة النفس، زالت بأجمعها وطهُرت نفسه، ومن الآن فصاعدًا مهما يُفاض عليه في عالم التوحيد فهو يُفاض عليه من قبل الله، وهي علومٌ حقّةٌ حقيقيّةٌ ولذا تبقى.
على الإنسان أن يعمل للّه، على العبد أن يعمل من أجل مولاه، إنّ اختيار العبد ليس بيده، بل العبد مِلكٌ للّه، وعليه أن يعمل للّه، وإذا قام بعملٍ لغير الله فقيمة عمله تُساوي نفس قيمة قصده.
إذا سلّم الإنسان على شخصٍ من أجل أن يُسلّم على إنسانٍ وحسب، فقيمة سلام الإنسان هو سلامُه عليه، وهذا هو أجره، ولا ينتظر الكثير منه، ولكن إذا سلّم على الشخص فقط من أجل أن يُسعد قلبه ويجعله مسرورًا، أو من أجل أن يدعوَ له بدعاءٍ، فالآن سواء أراد أن يُسلّم على إنسانٍ أو لا يُسلّم، فهذا المعنى هو معنى أعلى.
إنّ الإنسان يقوم ببعض العبادات والأعمال الصالحة من أجل أن يُدخله الله ـ مثلًا ـ إلى الجنّة، والجنّة أمرٌ حسنٌ جدّاً، ولكن ذلك العمل الذي قام به الإنسان من أجل نفس الجنّة، هو عملٌ ينقصه الله؛ لا من باب أنّ الجنّة ظهورٌ للّه وتجلّي للّه ومحلٌّ لإرادة الله ومشيئته، ولا من باب أنّ الجنّة مخلوقٌ للّه وقد ظهرت آيات الله وتجلّياته في جميع شؤونات الجنّة، ولا من باب أنّ هذه الجنة التي تُمنح له إنّما تُمنح له من قِبَل الله وهو يقبل بهذا الإنسان لأنّه محلٌّ لإمضائه ورضاه. لا بل قام بعمله فقط من أجل الحور العين، ومن أجل تلك اللذّات التي في الجنّة وأمثال ذلك؛ وإذا قام الإنسان بالأعمال من أجل هذه الأمور، فإنّ الله سوف يعطيه الجنّة لأنّه قام بالعمل من أجلها، ولكن ليس له حقٌّ بالأمور الأعلى، ولا يستطيع أن يقول: إلهي إنّني أريد لقاءك أيضًا، فلماذا أدخلتني إلى الجنّة ولم تُوفّقني للقائك؟ ولماذا لم تجعلني مستحقّاً لمقام الرضوان؟ ولماذا لا يصدق عليّ {رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ}۱؟ سيقول الله له: لماذا قُمتَ بهذا العمل؟ من أجل الحور العين؟ الأشجار؟ {جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ}٢؟ تفضل، بسم اللَه!
وإذا قام شخصٌ بالأعمال خوفًا من نار جهنّم، فكذلك من المُسلّم لن يُدخله الله إلى نار جهنّم، ولكن لا يُمكنه أن يطلب من الله يوم القيامة: إلهي! أنا أريد لقاءك، أريد أن أجلس معك وأن أُكلّمك، أريد أن أُصبح كليم الله؛ إنّك لم تقم بعملك من أجل هذا، نعم أنتَ قُمت بالأعمال وهذا صحيحٌ، ولذا لن أُدخلك إلى جهنّم [ولكن لا تطلب أكثر من ذلك].
كلام أمير المؤمنين عليه السلام في تقسيم عبادة العبّاد إلى ثلاثة أقسام
يقول أمير المؤمنين عليه السلام بأنّ الناس على ثلاثة أصنافٍ:
قَوْمٌ عَبَدُوا اللهَ رَغْبَةً وَطَمَعًا بالجَنّة فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ.
وقومٌ عَبَدُوا اللهَ رَهْبَةً وخَوفًا مِنَ النّارِ فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ.
وقَوْمٌ عَبَدُوا اللهَ حُبّاً لَه۱
نحن نُريدك أنت، لا أنّنا نُطيق جهنّم! ولا أنّنا لا نُحبّ الجنّة! لا! فنحن ليس لنا طاقة على جهنّم، وإذا رميتنا في جهنّم فليس لدينا الطاقة لتحمّلها، ولكنّنا قُمنا بعملنا من أجلك أنتَ، إنّ عملنا وعوض عملنا ونيّتنا وعقيدتنا وأجر ذلك هو أنتَ، محبّتك أنتَ، نحن عبيدك أنتَ، ونعمل لك أنتَ، والآن إذا أردتَ فأدخلنا إلى جهنم! وإذا أردتَ فأدخلنا إلى الجنّة! لا شأن لنا بذلك، نحن إنّما عملنا من أجلك أنتَ.
في عالم العرفان على السالك أن يعمل من أجل الله، فلا سمح الله أن تكون نيّتي هي القيام بالعمل من أجل أن أرى منامًا جيّدًا، أو أن تحصل لي مكاشفة، أو تحصل لي حالةٌ جيّدة، أو أصل إلى مقاماتٍ ودرجاتٍ، أو يضعوني يوم القيامة على منبر الوسيلة، أو لكي أُعطى مقام الشفاعة، أو لكي أُصبح جليس الملائكة، أبدًا ليس هناك هذا الكلام في هذه المسألة؛ أنا إنّما أعمل من أجل الله!
إذا جاء جبرائيل للسالك وقال له: ماذا تُريد؟ سوف نُعطيك كلّ ما تريد، لقد أمرنا الله أن نأخذك إلى الجنّة ونعيدك، فهل هناك أعلى من ذلك؟! ماذا على الإنسان أن يقول؟ يقول: أنا عبد الله، ومولاي هو الله، وأنا لا أريد شيئًا غير الله. إذا جاء وقال: إنّ الله يُريد أن يُعطيك مقام الشفاعة، فاقبل بذلك! يجب أن يقول: أنا عبد الله، إذا أعطى فقد أعطى، وإن لم يُعطِ فالأمر بيده، أنا لا آتي وأختار مقابل الله، أنا أختار مقام الشفاعة الكبرى مقابل الله؟! لا، أنا لا أقوم بعملٍ كهذا. جاء جبرائيل وقال: إنّ رزقك الآن سوف يأتيك دون أيّة مشقّةٍ، بلا أيّ تعبٍ أو مشقّةٍ، إنّ الله هو الذي سيُعطيك رزقك، فهل تريد شيئًا كهذا؟! ولو أنّ الإنسان قال: نعم أريد، فسوف يعطونه، لا نتخيّل بأنّهم لن يُعطوه، بل سيُعطونه ولكن ستنتهي المسألة هناك.
قصّة المرحوم القاضي والميرزا إبراهيم عرب بجانب الشطّ
كان المرحوم القاضي ـ رحمة الله عليه ـ من أعاظم العرفاء ومن الأساتذة ومن الأفراد النادرين في هذا القرن، وكان الميرزا إبراهيم عرب ـ وهو من سُكّان الكاظمَين ـ يأتي إلى محضر المرحوم القاضي فيأخذ الدستور [السلوكي] ويذهب.
وفي أوّل مرّةٍ جاء فيها إلى محضر المرحوم القاضي، كان المرحوم القاضي يمشي آنذاك من مسجد الكوفة بجانب الشاطئ إلى مسجد السهلة ـ وكان المرحوم القاضي يذهب كثيرًا إلى مسجد السهلة، يبقى في الليالي ويُقوم بالعبادات هناك ـ والمرحوم القاضي كان رجلًا مُسنّاً أيضًا، فكان يمشي رويدًا رويدًا بجانب الشاطئ إلى مسجد السهلة، وقد صادفه هذا الميرزا إبراهيم عرب وطلب منه أن يقبل أن يأتي إليه وأن يأخذ منه دستورًا [سلوكيّاً]، قال: نحن أتينا إلى محضر سماحتكم ونريد دستورًا ـ وهو نفسه كان قد قام ببعض الأعمال، وبعض الرياضات، وذهب إلى بعض أرباب المعرفة، ولكن يده لم تصل إلى شيءٍ، فوصل إلى محضر هذا الرجل العظيم كي تُفتح له الأمور إن شاء الله، وينفتح له الطريق، كي يصل إلى ذلك المقصد الحقيقي للعرفان، إلى التوحيد المحض للّه عزّ وجلّ، يعني: كان لديه بعض الصفوف المقدّماتيّة السابقة في هذا المضمار ـ كانا يمشيان معًا بجانب الشاطئ كي يقتربا من مسجد السهلة، وكان المرحوم القاضي يسأله بعض الأسئلة، إلى أن سأله:
«قُل لي: ما هو عملك؟».
فقال: «ليس لي عملٌ».
فسأله المرحوم القاضي: «كيف ليس لديك عمل؟».
فقال: «لأنّني إذا أردتُ أيّ شيءٍ ففي نفس الوقت يتوفّر، انظر، الآن ستقفز سمكةٌ من الماء»، وما إن أتمّ جملته حتّى قفزت سمكةٌ من داخل الشطّ إلى الخارج؛ فقال: «كلّما أردتُ شيئًا في أيّ وقتٍ، فالوضع بالنسبة لي هكذا»، فلم يقل المرحوم القاضي أيّ شيءٍ بعد ذلك، وقد تحدّثا حتّى بلغا مسجد السهلة فجلسا وأعطاه الدستورات [السلوكيّة]، ثمّ قال: «يجب أن تعمل! في الإسلام ينبغي أن يكون هناك عملٌ، وعليك أن تعمل».
ومنذ ذلك الحين لم يعد للمرحوم الحاجّ الميرزا إبراهيم عرب تلك الإرادة، يعني: مهما أراد لم يكن ليحصل ما يُريد، لو أراد سمكةً لم تخرج، أراد قمحًا، أراد خبزًا، أراد ماءً.. أبدًا انتهى الأمر وذهبت تلك القوّة، قام المرحوم القاضي بأخذ كلّ ما لديه في نفس ذلك المجلس۱.
هل التفتم للأمر؟ ذلك لأنّه الآن يُريد أن يأتي إلى صراط التوحيد.
ما معنى صراط التوحيد؟ يعني: العبوديّة، والعبد هو عبدٌ لله؛ فما معنى أريد سمكًا، أريد دجاجًا، أو أريد الطعام الفلاني؟! ما معنى أن لا أعمل؟! ما هذا الكلام؟!
على العبد أن يقول: ماذا قال الله؟ ماذا قال رسول الله؟ وعليه أن يقول بإرادةٍ واحدةٍ حتّى لو وضعوا أمامه سُفَر الدنيا بألوانها: أنا سآكل الخبز والخلّ إذا قال الله ذلك؛ عليه أن يقول: أنا سأضع المِعوَل على عاتقي، وسوف أحفر الآبار كما فعل أمير المؤمنين عليه السلام، وسوف أزرع أشجار النخيل كي يرضى عنّي مولايَ؛ هكذا ينبغي للإنسان أن يفعل [ولمّا لم يكن الميرزا إبراهيم بهذا النحو آنذاك] لذا نجد أنّ هذه المسائل ليست موجودة فيه.
أمّا أولياء الله؛ الرسول والأئمّة الأطهار وأمير المؤمنين عليهم السلام، فقد كانت لديهم بالنحو الأكمل، وكانوا يستطيعون أن يُحيوا الميّت بإرادةٍ واحدةٍ. وعندما نعلم ذلك نتساءل: كيف كان أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يحمل المعول ويذهب إلى مزارع النخيل ويزرع أشجار النخيل؟! ويدخل إلى القناة ويتصبّب عرقًا، أفلا يُمكنه بإرادةٍ واحدةٍ أن يفعل مثل الميرزا إبراهيم عرب ويقول: اخرجي أيّتها السمكة من الشاطيء، ثمّ يأخذها ويقليها ويأكلها؟! مع أنّ الدرجات والمقامات التي بلغها لم تكن لدى ألف شخصٍ مثل الحاجّ الميرزا إبراهيم عرب.
على الشخص الذي يُريد أن يصل إلى مقام التوحيد أن يتجاوز هذه الأمور، وعليه أن يقوم بما قام به الميرزا إبراهيم الذي أخذ بيده المرحوم القاضي ليحصل على هذه المقامات، فأدخله إلى دستور عالم التوحيد، فحصلت له حالاتٌ عجيبةٌ وغريبةٌ جدّاً؛ وحالاتٌ توحيديّةٌ. أنا لم أكن قد رأيت الميرزا إبراهيم عرب، ولكن حينما كنتُ في النجف، توفي في الكاظمين بسبب مصابيح الزينة في أحد الأعياد، حيث كانت هناك مصابيح زينة أمام أحد الدكاكين، فصعقته الكهرباء وارتحل عن الدنيا.
ينبغي أن يكون العمل في عالم العرفان والسير والسلوك للّه، وسواء رأى الإنسان منامًا جيدًا أم لم يرَ، ينبغي أن لا يسعى وراء ذلك؛ فإذا حصلت له مكاشفةٌ فهي من الله، ويجب أن لا يسعى لحصولها؛ فما يعطيه الله بنفسه هو الذي له قيمة، لا أن يطلبه الإنسان؛ إذن من الأساس ينبغي تجنُّب الطلب من غير الله، فذلك المنام الجيّد الذي يراه الإنسان بدون أن يكون هناك سعيٌ في ذهنه، وتلك المكاشفة الجيّدة التي يصادف فيها الإنسان الأرواح المجرّدة الصالحة، وتلك المشاهدة الجيّدة التي تحصل له في عالم الأنوار، والتي لم يسعَ الإنسان لحصولها، بل حصلت له من تلقاء نفسها، هي التي تمتلك قيمةً.
إذن، ينبغي للسالك أن لا يضع في باله غير الله من بداية السلوك إلى آخره، وأن لا يعمل لغير الله، ولا ينبغي أن يضع شيئًا يعادل الله، لا ينبغي أن يقبل عوضًا لعمله بما دون الله؛ ومهما حصل في الطريق فليحصل، وكذلك لو لم يحصل، فليكن، فلا حصوله علامة قُربٍ، ولا عدم حصوله علامة بُعدٍ.
علامة القرب وعلامة البُعد
علامة القرب هي التوجّه إلى الله، وذكر الله، والدخول في حرم الله؛ وأمّا علامة البُعد فعدم الميل إلى العبادة، وعدم الميل إلى ذكر الله، والميل للأمور المتكثّرة والشهوانيّة والغفلة، والإعراض عن الله، وحبّ الجاه والمال والرئاسة و... ، أو حبّ نفس الأنوار القاهرة والنورانيّة التي هي الحُجب النورانيّة، فجميع هذه الأمور تزول ولا يبقى سوى الله فقط، وهذه علامة القرب، ولذا فقد ورد في الأدعية:
«اللَهُمَّ ارزُقنا التَّجافَي عَن دارِ الغُرورِ، والإنابَةَ إلَى دارِ الخُلودِ، والاستِعدادَ لِلمَوتِ قَبلَ نُزولِهِ»۱.
علامة صحّة الطريق: أن يرى الإنسان في باطنه وفي نفسه أنّه يميل نحو عالم المعنى والحقيقة، ونحو عالم النور والطهارة والصدق والخلوص أكثر؛ وأن تنفر نفسه من عالم الكثرة ودار الغرور والاعتبارات والسعي وراء المصالح الفارغة، والحروب والنزاعات بين النفوس والتي تجري من أجل أن يتغلّب شخصٌ على الآخر، وينتصر كلّ واحدٍ على الآخر كي يرفع بذلك مقامه ويزيد من ماله.
علامة صحّة الطريق هو أن يزداد توجّه الإنسان إلى ذلك العالم أكثر، وأن يتخلّى عن هذا العالم دائمًا، وأن يستعدّ الإنسان قبل أن يحلّ الموت، يعني: أن يتحرّك نحو عالم المجرّدات، ونحو عالم القدس وعالم الخلوص، هذه هي علامة صحّة الطريق.
والآن، لا فرق بين أن يمتلك الإنسان سجّادًا وأن لا يمتلك؛ فلا امتلاك السجّاد مُضرٌّ ولا عدم امتلاكه مُفيدٌ؛ إنّ المسألة أعلى من ذلك، يعني: الإنسان يُصبح عبدًا للّه حينما يكون السجّاد على الأرض وليس في قلبه، فإذا دخل السجّاد إلى القلب، فسلاسل هذا السجّاد تكون قد تعلّقت بالقلب، وهذه هي الآفة، وهذا الأمر لا يقتصر على السجّاد فقط، بل حتّى لو كان بساطًا من الصوف أو حصيرًا، فإذا جلس الإنسان عليه وتعلّقت سلاسله بالقلب، وأصبح في قلب الإنسان حصيرٌ وبساطٌ، فهو نارٌ؛ لأنّ الإنسان يأتي ـ مثلًا ـ ويستعمل النوع العادي من السجّاد أو يستعمل بساطًا والذي يُعتبر ذا شأنٍ أقلّ في العرف والعادة، فينظر الناس إليه على أنّه زاهدٌ، ويقومون بتقديسه، فهذه آفةٌ ونارٌ؛ ولكن إذا كان ثمّة سجّادٌ ولم تتعلّق سلاسله بالقلب، فإنّ الإنسان يقول: اجلسوا على هذا السجاد لأنّ الله أمر بذلك.
لا ينبغي للإنسان أن يذوب كثيرًا مع العُرف والعادات والرسوم بحيث يكون مغاليًا، ولا أن يُهملها بحيث يُشير الناس إليه بأصابعهم ويقولوا: يا سيّدي، هذا زاهدٌ، انظر إليه! على الإنسان أن يُسكت ألسنة الناس، وأن يقوم بعمله، ولذا ليس هناك من ضررٍ بأن يكون للإنسان منزلٌ ومسكنٌ يرفع حاجته وحاجة عائلته، ويتخلّص من القلق المُصاحب للاستئجار، ويكون مرتاح البال، فجميع هذه الأمور تدخل في حساب الله وليست في حساب النفس والشيطان.
ولكن إذا لم يكن كذلك، وكان لديه بساطٌ من الصوف، فحينما يحسب له حسابًا ويأتي أمر الله ويقول: أعطِ! فلن يكون بإمكان الإنسان أن يُعطي؛ يُقال له: افعل كذا في هذا الموقف! فلا يفعل؛ مثلًا: الدرويش المتعلّق بـ «تَبَرْزِينِه»۱ أو بـ «كشكوله»٢، فتعلّقه هذا حجابٌ بينه وبين الله؛ ونفس هذا الكشكول وهذا التَبَرْزين (الفأس) حجابان، ولكن إذا كان شخصٌ آخر ليس كذلك، وافترضوا بأنّه جالسٌ في البستان بجانب حوضٍ من الماء ولكنّه لا يحسب أصلًا أيّ حسابٍ لهذه الأمور، فسوف يكون مستغرقًا بأكمله في عالم النور والأنوار.
إنّ مسألة العرفان مسألةٌ دقيقةٌ ولطيفةٌ وظريفةٌ ومحسوبةٌ، ولا تقوم على أساس التوهّم والتخيّل والابتداع والتصنّع، بل هي مسألةٌ متحقّقةٌ بالحقّ؛ لأنّ الحركة تكون نحو الحقّ، ولذا فإنّ الإنسان يخرج من كلّ ما فيه شائبةُ الموهومات والخرافات والإضافات والتقيّدات والتعيّنات الدنيئة، ويُحرق جميع هذه الأفكار والتخيّلات الحقيرة والدنيئة، ويتحرّك في عالمٍ عالٍ، وفكرٍ عالٍ، ونيّةٍ عاليةٍ، وصراطٍ عالٍ، وهذا من العرفان. إذن على الإنسان أن يُدقّق جيّدًا في هذه المسألة كي تكون إطاعته للّه، وعليه أن يسجد في مرقده ويقول: «الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي أَحياني بَعدَ ما أَماتَني وإلَيهِ النُّشور»٣، والنشور هو الحركة نحو الله، «الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي رَدَّ عَلَيَّ روحي لِأَحمِدَهُ وأَعبُدَه»٤، والآن عندما عُدتُ من الموت (يعني: حينما استيقظتُ من هذا النوم) فلأجل ماذا؟ عُدتُ لِأَحمِدَهُ وأَعبُدَه؛ ولذا فالعبادة للّه؛ وكلّ فعلٍ يقوم به السالك فهو ليس له، بل هو للّه.
وهذه مسألةٌ من المسائل.
الأمر الثاني: الاستقامة والتحمّل والصبر أمام العقبات
وأمّا الأمر الآخر من الأمور التي تُعدّ من الشروط المهمّة جدّاً، والتي ينبغي للسالك أن يضعها في باله، هي قضيّة الاستقامة والتحمّل والصبر؛ فعليه تحمّل المشكلات والصبر والتجلّد في الظروف الصعبة؛ لأنّ هذا الطريق طريقٌ يسير نحو الله، وكلّ طريقٍ يُريد الإنسان أن يسير فيه، ففيه موانع، وإذا تعب الإنسان من تلك الموانع، فسوف يتخلّف ويبقى، ففي هذه الطرق التي يُريد الإنسان أن يسلكها إذا واجه الإنسان في الطريق أرضًا مليئةً بالصخور أو نهرًا أو حفرةً، فقال: لا يُمكنني العبور! فسوف يبقى هناك؛ وأمّا ذلك الشخص الذي يُريد الذهاب إلى مكّة، عليه أن يعبر النهر والخندق، وأن يُزيل موانع الطريق من أمامه، وأن يتحلّى بالهمّة، عليه أن يعبر هذا الطريق في نهاية المطاف.
إنّ الموانع الموجودة في طريق السير والسلوك أكثر من الموانع الموجودة في الطرق العاديّة والمقاصد الدنيويّة، وذلك من جهة أنّ الموانع والمعدّات والظروف الموجودة في الطُرق الدنيويّة عبارةٌ عن أشياء مألوفة للنفس، ولذا فالإنسان لا يُعيرها أهميّةً ويعبر عنها، لكن بما أنّ موانع طريق السير والسلوك غير مأنوسةٍ نوعًا ما، فإنّ الإنسان يُعطيها أهميّة، وإلّا فهي ليست أكثر.
مثلًا: هناك موانع تواجه الشخص الذي يُريد أن يُصبح طبيبًا، فعلى الشخص الذي يُريد أن يُصبح طبيبًا مُتخصّصًا أن يُحطّم الموانع، وعليه أن يختار الغربة، وعليه أن يتحمّل ألف مشقّةٍ وبلاءٍ وألف مصيبةٍ، إذا أراد أن يُطالع في الليل، عليه أن يترك الراحة والنزهة وجميع الأعمال لكي يأتي ويُطالع. جميع هذه الأمور موانعٌ؛ وينبغي أن يكون لديه صبرٌ وتحمّلٌ وجلدٌ كي يُوصل عمله إلى غايته المنشودة.
وكذلك الأمر بالنسبة للشخص الذي يريد أن يكون تاجرًا، والشخص الذي يريد أن يكون سُلطانًا في الأرض، تواجهه ألف مشكلةٍ؛ فلا تظنّوا أنّ الأشخاص الذين يُصبحون سلاطين في الدنيا أو رؤساء جمهوريّات قد وصلوا إلى هذه المناصب بسهولةٍ؛ لقد بذلوا دماء قلوبهم ألف مرّةٍ، وسافروا ألف سفرٍ في البحر واليابسة، ووضعوا أنفسهم عند فكّ الحوت، وفي أيدي العدوّ، وتجاوزوا كلّ هذه الأمور حتّى وَصَل هذا المقام إلى أيديهم.
أنواع الموانع والحُجب في السير والسلوك
والأمر كذلك في الطريق إلى الله، حيث لا بدّ من العبور عن النفس والحُجب الظلمانيّة والنورانيّة.
فالحجب الظلمانيّة مثل: حبّ الجاه والاعتبار، وحبّ الرئاسة والبخل والحسد والحقد والصفات الرذيلة الموجودة في النفس.
أمّا الحجب النورانيّة فمثلًا: على الإنسان أن يتجاوز الحور العين، ويجب عليه أن يتجاوز المقامات الأخرويّة، وأن يسعى إلى أعلى من ذلك من أجل الوصول إلى الله، فإنّه إذا جعلوه يرى شيئًا هناك ولم يتمكّن من العبور عنه فسوف يتوقّف هناك.
قصّة العلامة الطباطبائي مع الحور العين في مسجد الكوفة
هناك مسألةٌ نُقلت في كتاب الشّمس الساطعة۱ عن المرحوم العلّامة الطباطبائي، حيث كان مشغولًا بالذكر في مسجد الكوفة، وجاءت إليه إحدى الحور العين، حسنًا الأمر عجيبٌ جدّاً! فحور العين هذه كانت له.
المستمع: ألم يكن ذلك السيد الكلبايكاني؟!
العلاّمة الطهراني: لا! التي أتت في مسجد الكوفة كانت لنفس سماحة العلّامة الطباطبائي.
السائل: نعم، نعم! ولكن للسيّد الكلبايكاني قصّةٌ مشابهةٌ؟
العلّامة الطهراني: السيّد الكلبايكاني.. نعم هو أيضًا رأى في المكاشفة أنّه دخل إلى روضةٍ وحوضٍ وكان لهذا الحوض حافّةٌ جلست عليها فتياتٌ شابّاتٌ، وطبعًا هؤلاء كنّ مُلكًا له، ولو فعل أيّ شيءٍ معهنّ ففعله حلالٌ، ولكن إذا فعل، فسوف يتوقّف ويبقى هناك، وهذه الأمور التي رآها، كانت مِلكًا طلْقًا له، وجعلوه يرى ذلك، هي من أجل أن يصل إلى مقامٍ أعلى؛ لأنّه عبارةٌ عن صفٍّ دراسيٍّ، وهم يجعلونه يعبر هذا الصفّ: أن اُنظر إنّ هؤلاء مِلكٌ لك وعليك أن تعبر هذا المكان. إذا توقّفَ فسوف يتوقّف هنا، عليه أن يعبر؛ ولذا قال عبارةً صحيحةً: «رأيتُ أنّهنّ حرامٌ عليَّ» ومعنى أنّهنّ حرامٌ عليه، أي: ممنوعين، وإذا انشغلتُ بهنّ فسوف أبقى هنا، لذا قال: «خرجتُ من باب الروضة»، وكلامه هذا صحيحٌ وحسنٌ جدّاً، والشكر للّه أنّه خرج منها، وإلّا لبقي هناك۱.
أو نفس قضيّة العلّامة الطباطبائي حيث قال: «جاءت الحور العين، وتأثّرت من تجاهلي لها، وذهبت ثمّ جاءت من جهةٍ أخرى، وحاولت أن تجاملني»، وقد قال سماحته: «ما زال قلبي يحترق حتّى الآن على تلك الحوريّة حينما أتذكّرها بسبب التأثّر الذي حصل لها بسببي»، ولم يكن هناك من حلٍّ آخر؛ لأنّ أستاذه كان قد أمره حينما تكون متوجّهًا إلى الله، فعليك أن لا تذكر إلّا الله وحسب.
ومن باب المثال: إذا كان الإنسان يُصلّي، وكان لديه توجّهٌ وحضورٌ نحو الله، ولو كان هناك امرأةٌ جميلةٌ وجمالها من الطراز الأوّل في الدنيا، وقيل له في ذلك الوقت: إنّها حلالٌ عليك، وأصلًا هي زوجتك، فانظر إليها وإلى جمالها. والآن هل يُمكن للإنسان أن ينظر إليها أثناء الصلاة؟! حتماً سيزول حضور قلبه.
ولو أنّ نفس هذه المسألة حصلتْ في الذهن فحصلت مكاشفةٌ في الذهن، بحيث جاءت حورٌ عينٌ للإنسان أثناء صلاته، ومثلما حصل بالنسبة لتلك المرأة التي في الخارج، حصل له هنا، وعلم بأنّها له وحلالٌ عليه، فهل يُمكنه في هذه المكاشفة التي تحصل له أثناء الصلاة أن يتوجّه إليها؟ لا يُمكنه ذلك؛ لأنّه يتكلّم مع الله، وهو فوق جميع الحور العين، وقيمة الخلوة معه للحظةٍ تُضاهي آلاف الحور العين، فإنّ جميع حسنهنّ منه، وجمالهنّ منه، وكمالهنّ منه، إنّهنّ ظهورٌ له، هو خالق الحسن وخلّاق الحسن والكمال، والسالك يُريد أن يصل إلى قمّة ذلك الجبل، وأن يجلس على تلك السفوح الخضراء لذلك الجبل. عليه أن يذهب إلى أعلى قِمّة التوحيد، والذهاب إلى قمّة التوحيد مشكلٌ؛ حيث يجب على الإنسان أن يتحمّل الحرّ والقرّ، وأن يأتي بعصا معه، وأن يُحضر الزاد والراحلة.
ولو قالوا للإنسان: يا سيّد إلى أين تذهب؟! ما هذا الذي تفعله؟! لماذا أصبحتَ زاهدًا؟! أنت أيضًا تعال مثل باقي الرؤساء وقم بهذا الفعل، وقم بذلك الفعل، لماذا لا تهتم بعمرك؟ إنّك في بداية شبابك، فتعال وشارك في هذا المؤتمر العلمي وذلك المؤتمر، تغلّب على منافسك! إنّه أقلّ منك، ودرجته أقلّ منك، أو تعال واحصل على قصرٍ ربيعيّ وصيفيّ، أو مثلًا: اجلب لنفسك السيّارة الكذائيّة، والشيطان يأتي دائمًا ويُقدّم الأمور للإنسان، والإنسان إذا ما أُعجب بهذه الأمور، فسوف يبقى ويتوقّف هنا.
وأمّا الشخص الذي يُريد أن يصل إلى قمّة الجبل، فلا يُمكنه أن يصحب معه سجّادةً عجميّةً حريريّةً مطرّزةً، ولا يستطيع أن يحمل على عاتقه مذياعًا وتلفازًا، بل يجب أن يكون خفيفًا، ومن هنا نجد أنّ الأشخاص الذين يتسلّقون الجبال يقولون بأنّ لباسهم يكون أخفّ الألبسة، وأحذيتهم أخفّ الأحذية وزنًا، ولا يأخذون طعامًا معهم، بل يكتفون بقطعٍ من الحلوى والتمر، وكلّما جاعوا أكلوا حبّةً من التمر فقط حتّى يتقوّوا بها، وإلّا فإنّ الشخص الذي يُريد أن يصعد إلى قمّة الجبل، إذا أراد أن يُحضر معه المرق والفسنجون۱ والحَجَل والسُمّان والدجاج، فلن يستطيع أن يصعد إلى أعلى الجبل ولن يكون بإمكانه الوصول إلى غايته.
كيفيّة تجاوز العقبات السلوكيّة
والأمر كذلك بالنسبة لمسألة التوحيد، فهناك مشكلاتٌ، وعلى الإنسان أن يُحطّم هذه المشاكل بتوفيقٍ من الله، ويجب أن تكون لديه همّةٌ عاليةٌ، كما يجب على الإنسان أن يطلب من الله أن يرفع عنه هذه المشاكل. ويجب عليه أن يتوكّل على الله، ويتوسّل بالأئمّة عليهم السلام، وبالأخصّ التوسّل بحضرة إمام الزمان المهديّ ـ عجّل الله فرجه الشريف ـ صاحب مقام الولاية الكليّة والإلهيّة لحضرة الحقّ؛ وهكذا يجب على الإنسان أن يتوجّه إلى الله في الجلوة والخلوة وفي اليقظة والنوم، والإمام واسطة الفيض لإفاضة تلك الأنوار، ومن خلال التوكّل على الله والتوسّل بالأئمّة سوف ترتفع الموانع.
يأتي زيدٌ من الناس ويقول: «تعال الليلة لنذهب معًا إلى المجلس الفلاني أو السهرة الفلانية أو الجلسة الفلانية»، وهي من الأمور غير المحرّمة، وحتمًا ليست حرامًا بل هي حلالٌ، ولكنّها لا تُفيد الإنسان، ولن يحصل منها إلّا على إتلاف عمره، يجب أن يقول: «يا سيدي! لديّ مانعٌ، ولا يمكنني الذهاب».
ويأتي آخر ويقول: «يا سيدي كأنّك تقوم بسجدةٍ طويلةٍ؟! كأنّك أصبحت من الصوفيّة؟! هل جلستَ مع الصوفيّة؟! إنّ الذين يقومون بالسجدات الطويلة هم الصوفيّة، فلماذا تقوم بذلك؟!» لو أنّ الإنسان استمع إلى ما يقولون ورتّب عليه أثرًا، لانتهى أمره. فمن أين كانت السجدة الطويلة للصوفيّة؟! إذا كان هؤلاء الصوفيّة الذين يمشون خلاف الممشى والطريقة يقومون بالسجدات الطويلة للّه، فهنيئًا لهم بذلك.
إنّ السجدة الطويلة من مختصّات الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، والسجدة الطويلة من مختصّات الإمام السجّاد عليه السلام، والسجدة الطويلة من مختصّات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام؛ فهل كانت تلك الحالات وتلك الصلوات وذلك الذوبان من الأساطير، وهؤلاء الصوفيّة هم الذين جلبوها لنا؟!
إذن، فكلّما أراد شخصٌ أن يتحقّق بالحقّ، ويُطهِّر نفسه قليلًا، ويُصحّح ويُعدّل نفسه قليلًا، ويتفكّر في أموره قليلًا، ويقترب من هؤلاء الأعاظم قليلًا، فإنّك تجدهم يُسارعون إليه ويُلصقون به العناوين ويقومون بإسقاط هذا المسكين ذو الحظّ القليل، فيقولون: «إنّه يتقدّس ويتزهّد تصنّعًا، إنّه صوفيٌّ يسجد سجدةً طويلةً، ويقول الأذكار، وكلامه قليلٌ، ومنعزلٌ، ولماذا أصبح هكذا؟».
يا عزيزي! في نهاية المطاف أنت لا تعرف الوجع الذي لدى هذا الشخص، ولا تعرف ما الذي يجري في قلبه! حسنًا، انشغل إذن بعملك، انشغل بجميع هذه العقبات والمشاكل التي أوجدتها لنفسك، وجعلت نفسك تعمل من الصبح إلى المغرب، وكما يقول جنابكم: يأخذ قلم رصاصٍ أو قلم حبرٍ من أملاك بيت المال، ويضعه في جيبه، ويذهب به إلى المنزل، وقلبه مسرورٌ فرحٌ، فهل هذه هي الغاية وباقي الأشياء لا قيمة لها؟! وجميع الأعمال والتعيّنات الدنيويّة لا تتجاوز ذلك.
أنا لي ألمٌ، وألمي ووجعي هو الله، وطالما لم أصل إليه، فلن أهدأ. إنّك لا تعرف شيئًا عن ألم النار التي تشتعل في قلبي! وإلّا لو كنت تعلم، لبقيت صامتًا مثلي، أنا لا أريد أن أصمت تصنّعًا، ولكن ذلك الغمّ والغصّة وذلك الحزن الذي في قلبي، وتلك الشرارة التي اشتعلت وأحرقت كلّ وجودي، لا تجعلني أتمكّن بعد الآن من أن آتي للجلوس في المجالس العاديّة التي لكم، وأن أتناقش معكم، وأتسامر وأقهقه معكم، وأن أمازحكم، وأغتاب هذا، وأغتاب ذاك، وأن أذكر أمورًا سيئةً عن فلان، وأمورًا جيّدةً عن فلان، وأقوم بالتمجيد والتعظيم والتكذيب في غير موقعه، لم يعد بإمكاني بعد الآن أن أقوم بهذه الأمور، والآن قولوا كلّ ما شئتم أن تقولوه.
وعند ذلك، هذه هي المواطن تحتاج إلى الصبر كي يتمكّن الإنسان من طيّ الطريق، وإلّا إذا لم يكن لدى الإنسان الصبر والجَلَد، فسوف تأتيه الآفات من كلّ حدبٍ وصوبٍ؛ سيُوجّه إليه انتقادٌ، سيسمع كلامًا مؤذيًا، سيسمع مديحًا في غير محلّه، فعليه أن يُقصي هذه الأمور عن نفسه؛ لأنّه إذا استقرّ هذا ـ المديح الذي هو في غير محلّه ـ في قلبه، فسوف يُصبح مانعًا من الطريق، ولكي لا يقبل به، عليه أن يصبر، ويقول: طريقي هو الله، والمديح لا ينفعني بشيءٍ؛ وكذلك إذا جاء الانتقاد فعليه أن يُقصيه جانبًا ويقول: إنّني إنّما أعمل من أجل الله، وحينما أعلم بأنّ الله راضٍ عن عملي، فانتقدوني [ولن يؤثّر بي هذا الانتقاد]!
وبالطبع لا ينبغي للإنسان أن يتجادل مع الناس، بل عليه أن يمضي في طريقه؛ {وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا}۱، عباد الله {وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ} والعباد المنتسبين إلى الله ليسوا عبيد الأرض والشهوة والغفلة، وليسوا عبيدًا لغير الله، وإنّما هم عبيدٌ للّه، وهؤلاء العباد يمشون على الأرض هونًا ويقطعون طريقهم بالسكينة والطمأنينة، وعندما يُخاطبهم الجاهلون ويتعرّضون لهم، فإنّهم يقومون بعملهم ويتجاوزونهم بسلامةٍ.
افترضوا إنسانًا كان يعبر بجانب حائطٍ أو زقاقٍ، وكان هناك كلبٌ وصار ينبح عليه، ففي هذه الحالة لا نجد أيّ إنسانٍ يذهب إلى ذلك الكلب ويقول له: لماذا تفعل معي ذلك؟! أنا لا أنظر إليك نظرة سوءٍ، ولذا عليك أن لا تفعل هذا الفعل معي. ومن هنا يجب على الإنسان أن يقوم بعمله بسرعةٍ، ولا ينبغي له أن يدخل في جدالٍ مع الجاهلين ولا أن يُقارعهم ويُواجههم أو يُحاول إقناعهم بأنّ عمله صحيح.
نعم! أحيانًا يتحاور الإنسان معهم وذلك حينما يكون الأمر مفيدًا لهم، يُقرّبهم إلى الله، يُنير لهم الطريق؛ أمّا الجهلاء فيُريدون أن يسحبوا الإنسان ويأتوا به إلى جماعتهم ومحيط أفكارهم، ويُريدونه أن يكون مثلهم.
وقد ورد في عبارات الأعاظم بأنّه حينما تحصل هذه الكلاب على جيفةٍ، فإنّهم يتقاتلون فيما بينهم عليها، كلّ واحدٌ منهم يريد أن يأخذ تلك الجیفة لنفسه، ولكن حينما يعبر رجلٌ ما بجانب الزقاق، فإنّ جميع هذه الكلاب تهجم عليه، لماذا يهجمون بأجمعهم؟ لأنّ هدفهم واحدٌ عند أكل الجيفة، أكل الجيفة هدفٌ لهم بأجمعهم، ولكن بما أنّ مسلك هذا الرجل يختلف عن مسلكهم، فإنّهم يهجمون عليه بأجمعهم، ولسان حالهم يقول: لماذا أنت إنسانٌ؟! لماذا لستَ على مسلكنا وفي نفس طبَقتِنا؟! فهؤلاء الذين لم يصدر لهم صوتٌ عند أكل الجيفة، تجدهم الآن ينبحون بأجمعهم على هذا الإنسان، وأنّه لماذا أنتَ إنسانٌ؟! هؤلاء الناس الجهلاء، لهم نفس الوضع أيضًا، فأنتَ إذا تحدّثت مع أيّ شخصٍ من الأشخاص الذين الذين اتخذوا سبيلًا غير طريق الله وغير السلوك إلى الله، فستجد أنّهم يُريدون أن يضمّوا الإنسان إلى مجموعتهم.
قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «الناس ثلاثةٌ: عالِمٌ رَبّاني ومُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبيلِ النَّجاة وهَمَجٌ رُعاعٌ»۱.
إنّ الهمج الرعاع يقولون: تعالَ إلينا! تعالَ وفكّر كما نُفكّر! تعالَ وانظر للأمور مثلنا! تعالَ واعتقد بما نعتقد! تعالَ واختلط معنا! تعالَ وكن واحدًا منّا! وإذا أَعطى الإنسان نفسه قليلًا، سيُصبح مثل ناقة الأضحية التي يُنحر رأسها، ثمّ يُقطّعونها قطعةً قطعةً، ثمّ يأخذونها.
على المؤمن أن يستمدّ من قوّة الإيمان والتوكّل على الله، وعليه أن يقف في مكانه بثباتٍ، «المُؤمِنُ كَالجَبَلِ الرّاسِخِ لا تُحَرِّكُهُ العَوَاصِفُ»٢ إنّ الرياح حينما تعصف تُحرّك الأشجار وتقلع بعض الأسقف المعدنيّة وتُخرّب المنازل؛ ولكنّنا لم نر أبدًا أنّه حتّى أكبر العواصف وأشدّ الأعاصير التي تقع بين السماء والأرض، استطاعت أن تُحرّك جبلًا من مكانه، والمؤمن هكذا أيضًا: كَالجَبَلِ الرّاسِخ.
إنّ هبوب الرياح ـ ولو كانت هذه الرياح أعاصير شديدة ـ لا تهزّ الجبال، وهذا المؤمن الذي يسير في صراط الحقّ مع قوّة الحقّ، وقد شخّص في قلبه ما هو الصراط وما هو الطريق، وهو يقيس جميع هذه العواصف وهذه الأفكار وهذه الخيالات وهذه الدعوات التي تصله، يقيسها بأجمعها من خلال قلبه، ويقول: «لا، هؤلاء على خطأ، وأنا إنْ ذهبتُ في هذا الطريق، سأفعل حرامًا وسأخسر وأكون محرومًا، وذلك الشخص الذي دعاني ساعةً إلى المكان الفلاني، أضاع من عمري ساعةً كاملةً، ولا يقتصر الأمر على ساعةٍ واحدةٍ، بل لمدّة ساعةٍ سارت روحي ونفسي في هذا المسير وتوقّفتُ عن القيام بأعمالي؛ ولا بدّ لي أن أكون على صراط الإيمان وأن أتحرّك» وفي هذه الحالة يكون المؤمن موفّقًا.
تشبيه السالكين بالطيور في كتاب منطق الطير
للشيخ العطّار حكايةٌ في «منطق الطّير»، وقد استوعبت مجموع كتابه، يقول: اجتمعت الطيور مع بعضها البعض، وقالت: تعالوا نذهب سويًا لنبحث عن طائر «السيمرغ»٣ علّنا نجده، واستمرّوا يقولون: سيمرغ، سيمرغ، سيمرغ، ونحن لم نر حتّى الآن أيّ سيمرغ، تعالوا نذهب لنجد السيمرغ! أكثر من نصف الطيور قالوا: «ما هذا الكلام؟! حسنًا لو كان السيمرغ موجودًا لكان رآه شخصٌ! ولكن بما أنّه لم يره أحدٌ حتّى الآن، وهو أسطورةٌ وخيالٌ من الأساس، لذا أخرجوا الباطل من رؤوسكم، ونحن لسنا من أهل هذا الطريق».
إلّا أنّ مجموعةً من الطيور تحرّكت وطارت إلى السماء تبحث عن السيمرغ، وقد وصلوا إلى أماكن مليئة بالخضرة وينابيع الماء، فأُعجب بعضهم بالعيون والماء والنباتات، فنزلوا وتوقّفوا هناك، أمّا البقیّة فقد واصلوا الطريق؛ لكنّ البعض مثل البطّة، عندما وصلوا إلى بحرٍ وإلى البحيرة أو المستنقع نزلوا إليها، كذلك الإوز نزل إلى أحد الأماكن، ونزل النسر إلى أحد الأماكن ليتناول الجيف، وهكذا يُعدّد أصناف الطيور التي نزل كلّ واحدٍ منها في مكانٍ من الأمكنة.
كذلك فإنّ مجموعةً تقدّمت جدّاً إلى الأمام ولم يعتنوا بهم، وحينما رأوا بأنّ شمس الصيف حارّةٌ، قالوا: هذا السفر سفرٌ خطرٌ، وتغلّب عليهم الخوف، وقالوا: نحن إذا تقدّمنا سوف نموت، ولذا فقد نزلوا هناك.
وبقيت مجموعةٌ فقط، وكان عددهم ثلاثين طائرًا (سي مرغ)، وهؤلاء هم الذين تقدّموا وتقدّموا وتقدّموا وتقدّموا حتّى وصلوا إلى «جبل قاف» ؛ لأنّه كان يُقال بأنّ السيمرغ يجلس على قمّة جبل قاف، فذهبوا وجلسوا على قمّة جبل قاف، وأرادوا أن يجدوا السي مرغ، فنظروا هنا وهناك، ورأوا أنّه يا للعجب! هم أنّفسهم الـ (سي مرغ)، لقد وجدوا السيمرغ.
يعني: إذا كنتَ تُريد أن تجد الله، فعليك أن تجد نفسك، عيبنا هو أنّنا أضعنا أنفسنا، ولم نعرف أنفسنا، ولم نسعَ نحو معرفة أنفسنا، لنرى من نكون نحن؟! بل ذهبنا نسعى خلف علوم الخارج، فأصبح أحدنا طبيبًا والآخر فيزيائيّاً وآخر كيميائيّاً، والآخر مهندسًا، والآخر صار عالمًا دينيّاً ـ مثلًا: صار مُفسّرًا أو محدّثًا أو فقيهًا ـ وكلّها بدون عرفان؛ ولكنّنا لم نذهب لنجد أنفسنا لنعرف من نكون نحن؟ فأنا إذا عرفتُ نفسي، وبعد أن [حصلتُ هذه المعرفة و] أصبحتُ مستغنيًا عن معرفة نفسي، ذهبتُ إلى العلوم الخارجيّة، فهذا العلم سيكون مباركًا، غير أنّي [في الواقع لم أفعل ذلك، بل] ما زلت مسكينًا لا أعرف نفسي بعدُ.
إنّ مقولة «مَن عَرَفَ نَفسَه فَقَد عَرَفَ رَبَّه»۱ مِن أنفس المقولات التي وردتنا وعليها شواهد عجيبةٌ وغريبةٌ، هذا هو المطلوب، على الإنسان أن يجد الله في نفسه، ففي ذات الإنسان يُوجد سرّ الله؛ وللّه معيّةٌ مع ذات الإنسان، قال تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ}٢، مع حقيقتكم، فاذهبوا وجِدوا أنفسكم واعرفوها! كي تجدوا الله.
إنّ السيمرغ ليس موجودًا خارجًا عن الحقيقة، ولذا لا يُرى أيضًا، ولذا في حكاية الطيور لم يُرَ؛ لأنّه غير قابلٍ للرؤية في هذا الشكل؛ ولكن حقيقة ذلك السيمرغ، هي نفس الطيور الثلاثين (سي مرغ). اذهب واعبر عن هذه المراحل، عن هذه الشهوات، وعن هذه الغفلات، عن هذه الينابيع والمياه والمستنقعات، وعن هذه الأهوار، وعن هذه الجِيف، كي تتمكّن من الوصول إلى مقام السيمرغ وتجده.
وهذه كنايةٌ عن أنّه ينبغي أن تكون همّة الإنسان عاليةً دائمًا، مثل أولئك الطيور الثلاثين حيث قالوا: علينا أن نذهب ونجده؛ ولم ينخدعوا بينابيع الماء، فمثلًا مجموعة الحمام مالوا إلى الحمائم أمثالهم، فنزلوا في أحد الأماكن، أمّا هؤلاء فرأوا أمثالهم ولم ينخدعوا بهم؛ لم ينخدعوا بأمثال الإنسان في الشرف والمقام والأمور الكذائيّة، بل استمرّوا وذهبوا وذهبوا وذهبوا، وقالوا: سنبقى نسعى خلف السيمرغ حتّى نجده؛ ففي النهاية إلى متى نبقى قابعين في الجهالة؟! كانت الشمس تُحرقهم بلهيبها، ومع ذلك لم يهتمّوا، فمضوا ووصلوا إلى مقصدهم. إنّ هذه الحكاية لطيفةٌ جدّاً، وهي تُجسّد هذا المعنى للإنسان بشكلٍ لطيفٍ وجميلٍ.
إنّ قضيّة «مَن عَرَفَ نَفسَه فَقَد عَرَفَ رَبَّه»، تُمثّل عكس النقيض۱ ـ بحسب المصطلح المنطقي ـ لآية {نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ}٢، فهذه الآية التي في القرآن تقول: {نَسُواْ ٱللَّهَ} فجعلهم الله ينسون أنفسهم، ما معنى ذلك؟
يعني: الشخص الذي لا ينسى نفسه ويلتفت لها على الدوام، والذي يكون عارفًا بنفسه، ويكون دائمًا في حالةٍ من الذكر للّه والذكر للقاء الله وعرفانه. فعرفان الله مترتّبٌ على ماذا؟ مُترتّبٌ على معرفة الإنسان نفسه؛ وهذه الطُرق التي ذُكرت في الشريعة المُطهّرة كلّها من أجل هذا المعنى، معناها هو أنّ يُزكّي الإنسان نفسه، ولذا نقول: كلّ عملٍ يكون للّه فهو مقبول، ولكن ما معنى أن يكون للّه؟ يعني: أن لا ينطوي على غرضٍ أو مرضٍ أو نيّةِ رياءٍ ولا يكون فيه شيءٌ، بل ينبغي أن يكون لله، وعندها سيُطهّر هذا العمل الإنسان ويُوصله إلى السيمرغ وإلى ذلك المقصد.
يُصلّي صلاته من أجل طهارة النفس؛ ويصوم من أجل طهارة النفس، ويُنفق من أجل طهارة النفس، ألا يستطيع الله أن يمنح المال مثلًا، وأن يُغني جميع فقراء الدنيا؟! لماذا يقول لنا: عليكم أن تُجهدوا أنفسكم وأن تتصبّبوا عرقًا، وعندها ادفعوا خمس أموالكم؟! حسنًا هذا هو التطهير؛ دفع الخمس تطهيرٌ، فإنّ للإنسان تعلّق بالمال، وإعطاء المال في سبيل الله ـ لا في سبيلِ غير الله ـ يُؤدّي إلى تطهير الإنسان، ويُؤدّي إلى تقرّبه، ألا يستطيع الله أن تكون إرادته بحيث لا يستيقظ الإنسان في الليل وفي منتصف ليلةٍ شتويّةٍ كي يتوضّأ ليُصلّي ركعتين للّه؛ لكنّه قال: عليك أن تفعل هذا العمل كي تطهّر نفسك وتزول منها الأوساخ. وعند ذلك، نرى فجأةً أنّ ما قيل للإنسان ـ وظنّه خيالًا، وتصوّره كذبًا ـ عن تحقّق القيامة ولقاء الله والروحانيّة والمعنويّة، كلّ ذلك كان صحيحًا.
اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وآلِ مُحمَّد