1

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج1

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج1 13536
مشاهدة المتن

المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسم الفقه والأصول

المجموعة ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام

مجلدات الكتاب (4 مجلدات)

التوضيح

تتحدّث هذه المجموعة حول ولاية الفقيه في حكومة الإسلام، وقد جرى بيانه بعد طبع كتاب (وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام) حيث جُمعت ونظمت من قبل اثنين من الفضلاء في مجلّدات أربعة تضم 48 درساً.
وقد جرى في هذه المجموعة البحث والتحقيق في مطالب من قبيل: دلائل ولاية الفقيه وشرائطها وموانعها، حقيقة ولاية الإمام والفقيه العادل الجامع للشرائط وحدودها وثغراتها، وأسلوب الحكم في الإسلام وواجب الناس تجاهه، وذلك بالاستفادة من الآيات القرآنية والروايات والأبحاث الفقهيّة والعلميّة والشواهد التأريخية والاجتماعية.

/۲٦۱
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

1

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

2
  •  

  •  

  • المقدمة

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

3
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • شكراً لا حدّ له، و حمداً و ثناءً لا أمد له، للّه المستمكن بولايته الكلّيّة المطلقة و الشاملة العامّة علي عرش الوجود و عالم التكوين. {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً}.۱

  • و الذي رفع ميزان الولاية للأنام بإنزال نور الوجود في طبقات السماء العلويّة و مظاهر الأرض المترامية السفليّة، و سقي كلّ موجود من هذا الشراب الزلال الهانئ بمقدار سعته الوجوديّة و ظرفيّته الماهويّة، لكي يتمتّع عباده الذين هم أشرف مخلوقاته و أفضل كائناته بهذه المائدة علي النحو الأتمّ و الأكمل و لا يتجاوزوا الحدّ في أعمال الولاية، و لا يطغوا أو يفرّطوا بالحجب النفسيّة.

    1. الآية ٤٤ من السورة ۱۸: الكهف.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

4
  • و لذا نبّههم بالعبارة الرشيقة: {وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ، وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ، وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ} ۱ و ذلك بعد قوله البليغ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ ، الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ، وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ}.٢

  • إلي أنّ عالم الإيجاد و نشأة الوجود كلّه عظمة، و جمال و كمال، و نور و بهاء، و حقّ و حقيقة، و واقعيّة و أصالة، فيجب أن لا ينظر إليه بعين حولاء، و لا أن يلاحظ بتلك العين ذلك الترابط المنسجم الذي هو خير محض و محض الخير. يقول حافظ:

  • پير ما گفت خطا بر قلم صنع نرفت***آفرين بر نظر پاك خطا پوشش‌٣ باد
  • أجل! فالقبائح و السيّئات و الشرور ناشئة من التعيّنات و حدود و قوالب الماهيّات، فهي منّا نحن لا من نوره البحت و خيره المحض. و يقول حافظ:

  • هرچه هست از قامت ناساز بى‌اندام ماست***ورنه تشريف تو بر بالي كس كوتاه‌٤ نيست‌
    1. الآيات ۷ إلي ۱۰ من السورة ٥٥: الرحمن.
    2. الآيات ۱ إلي ٦: من السورة ٥٥: الرحمن.
    3. «ديوان حافظ» البيت ۱٦۷ من طبعة پژمان، ص ۷٥.
      و ترجمته: قال شيخنا: ما أصاب قلم التكوين من خطأ، فمرحي لنظره الطاهر الساتر للخطأ.
    4. «ديوان حافظ» البيت ٢۸ من طبعة پژمان، ص ٦.
      و ترجمته: كلّ ما كان (من عيب) فهو في قامتنا المعوجّة التي لا تليق و إلّا فإنّ خلعتك الشريفة لا تقصر عن قامة أحد.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

5
  • و هو القائم بالقسط علي نظام العدل و الإنصاف و الشاهد هو و ملائكة العالَم العلويّ و اولو العلم و الدراية الذين يحملون البصيرة و الفطانة بوحدانيّته و بأنّه: قائم بالقسط في جميع مراحل التكوين و نزول نور الوجود إلي هذا العالم الأرضيّ الذي هو أظلم العوالم، و قد سار في جميع منازل التشريع و نشرِ الحكم و القانون علي أساس العدل و الإنصاف و بسط راية القسط و العدالة {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ}.۱

  • فالجميع مشمول بالقسط، سواء في السير النزوليّ و الهبوط إلي هذا العالم، إذ: {وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.٢

  • أو في السير الصعوديّ و العروج إلي ذلك العالم، حيث: {وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ}.٣

  • فيا لروعة هذه الدورة الكاملة! حيث امتزجت فيها جميع حركة أطوار الوجود بالقسط امتزاجاً و تلاحماً لطيفاً و دقيقاً بحيث صار الصفة و الموصوف يتبادلون مواضعهما أحياناً، و كأنّهما قد نسيا بعضهما البعض.

  • فلسنا ندري: هل أنّ هذا العالَم متّصفٌ بالقسط، أم أنّ القسط قد ضمَّ إليه هذا العالم فوهبه الحياة؟

  • لقد كان الأنبياء- و هم قادة هذه القافلة إلي الذروة- في الحركة نحو معاده إذ: {وَ أَنَّ إِلى‌ رَبِّكَ الْمُنْتَهى}‌،٤ يمتلكون الولاية في مرحلتي التكوين‌

    1. صدر الآية ۱۸، من السورة ٣: آل عمران.
    2. من الآية ٢٥، من السورة ٥۷: الحديد.
    3. صدر الآية ٤۷، من السورة ٢۱: الأنبياء.
    4. الآية ٤٢، من السورة ٥٣: النجم.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

6
  • و التشريع، و ولايتهم هي عين الحقّ و القسط و العدالة.

  • {كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‌ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}‌.۱

  • و قد أنزل الله سبحانه قرآنه الكريم علي نبيّه الأكرم من بين الأنبياء لكي يحكم بين الناس بالولاية الكلّيّة، و الرؤية الباطنيّة، و الإدراكات العميقة، و نور الموهبة الإلهيّة. و ليقودهم علي الصراط المستقيم و الطريق السويّ إلي منزل السعادة و الفوز و النجاح و النجاة، إلي حدّ التمتّع و الاستفادة من أقصى درجات الكمال الإنسانيّ، و الفناء في الأنوار القدسيّة القاهرة لنور التوحيد و التجلّيات الذاتيّة {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ}‌.٢

  • و ليأمر المؤمنين من خلال خطابه الملكوتي بعدم تجاوز الحدّ أو التقصير في جميع شئونهم، و بالعمل في الميزان بالقسطاس و المعيار المستقيم.

  • {وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.٣

  • و ليتعامل مع الناس بالعدل و الإنصاف و جعل حكمهم باستمرار علي‌

    1. الآية ٢۱٣، من السورة ٢: البقرة.
    2. من الآية ۱۰٥، من السورة ٤: النساء.
    3. الآية ٣٥، من السورة ۱۷: الإسراء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

7
  • أساس هذا المعيار الصحيح‌ {وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}‌.۱

  • و العجيب أنّه قد مزج الولاء التكوينيّ بالولاية التشريعيّة، كما يُمزج الحليب و السكّر ببعضهما و طعّم البرعم اليافع لهذه الروضة بهذا العقد، بنحوٍ كان معه فصلهما و عزلهما عن بعضهما، أمراً مشكلًا بل ممتنعاً.

  • من هنا صار يسوق هذه القافلة بمقولة واحدة و اسلوب واحد، بسياط: {وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ}‌.٢

  • من جهة، و من جهة اخرى فإنّه جعلها تترنّم بنغم: {وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ}.٣

  • أجل، فحيث إنّه قد كانت لنا أبحاث حول لزوم تأسيس حكومة الإسلام مع إخواننا من الطلاب و أخلّاء الإيمان من سكّان مدينة مشهد المقدسة، علي شاهدها آلاف التحيّة و السلام. و قد حرّرت و طبعت تحت عنوان «وظيفة فرد مسلمان در احياى حكومت اسلام»٤ فقد رأينا من المناسب الشروع في بحث حول «ولاية الفقيه في حكومة الإسلام» بشكل موسّع، لإيضاح حدود الولاية و مشخّصاتها، و آثارها و مسائلها، و لإزالة النقاب عنها بنحو أفضل و أكثر تفصيلًا، و لكي تتبيّن مقدّماتها و معدّاتها و شرائطها و موانعها، فتتضح بذلك حقيقة ولاية الإمام و الفقيه العادل الجامع للشرائط، و مفادها و محتواها و حدودها و أنحائها. و عند ذلك تكون قد اتّضحت ولاية الفقيه بنظر الإسلام و مداركها الفقهيّة بكل ما للكلمة من‌

    1. من الآية ٥۸، من السورة ٤: النساء.
    2. من الآية ٤۱، من السورة ۱٣: الرعد.
    3. ذيل الآية ٢٤۷، من السورة ٢: البقرة.
    4. هذا عنوان الكتاب المطبوع بالفارسيّة، و ترجمته: «وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام».

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

8
  • معني. لذا شرعنا ببحث ليس من الاختصار بحيث يقتصر علي رءوس المطالب فحسب، و لا من التفصيل بحيث يستغرق بيان جميع الشقوق و الشعب بنحو موسّع، و اتّبعنا الطريق الوسط و الحدّ المتوسّط من ناحية الأدلّة الفقهيّة، ليكون ذلك فاتحاً للطريق للطلاب ذوي العزّة و الاحترام ليقوموا ببيان تفرّعاته و تفصيلاته، و ليتمكّنوا في الوقوف علي جزئيّات المسائل بأنفسهم.

  • و قد بدأت هذه الأبحاث بشكل متسلسل بعد شهر رمضان المبارك سنة ۱٤۱۰ هـ. ق.

  • بدأت منذ الثامن من شهر شوّال المكرّم، و استمرّت بشكل منتظم مع ضمّ أيّام الخميس إلي أيّام التدريس، إلي أن وصلت إلي ثمانية و أربعين درساً و كانت نهايتها في اليوم الحادي و العشرين في شهر ذي الحجّة الحرام.

  • و لقد استغرق كلّ درس ساعةً كاملة، تلتها أوقات الأسئلة و الأجوبة، و كان من المناسب أن تقرّر هذه الدروس و تطبع بالعربيّة لكي لا نتجاوز بركات اللغة العربيّة، لغة القرآن الكريم و النبيّ الأكرم و المعصومين ذوي الولاية التامّة الكلّيّة صلوات الله عليهم أجمعين و المنهج الفقهيّ لكتب فقهائنا الأعلام أوّلًا. و لتكون في معرض استفادة جميع مسلمي العالم، الذين يجب أن تكون اللغة العربيّة لغتهم المشتركة ثانياً.۱ إلي أن يجري‌

    1. في المجلّد الرابع من كتاب «نور ملكوت القرآن» من سلسلة مجلّدات «أنوار الملكوت»، البحث التاسع، و خلال البحث عن عظمة القرآن قمت ببحث تفصيليّ حول أهميّة اللغة العربيّة. ذكرت هناك أهميّة: أنّ اللغة الأساسيّة و الامّ لكلّ مسلم يجب أن تكون العربيّة، و ليس اللغة المشتركة و المستعملة فحسب. فعظمة هذه اللغة كانت هي السبب الذي كان وراء تقبّل العالم الإسلاميّ للغة العربيّة بعد الفتح الإسلاميّ، و قد كانت كتبنا العلميّة طوال أربعة عشر قرناً- سواء في التفسير و التأريخ و الحديث و الفقه و الحكمة و العرفان، و العلوم الطبيعيّة من هيئة و طبّ و صيدلة و كيمياء و فيزياء، و رياضيّات و غيرها كلّها باللغة العربيّة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

9
  • ترجمتها فيها بعد للغة الفارسيّة لكي يستفيد منها إخواننا الناطقين بالفارسيّة.

  • لكن و بسبب الاستعجال في تحرير هذه الآثار و طباعتها و إيصالها إلي متناول الأحبّة و الأعِزّة من الأصدقاء و الراغبين في مطالعتها، فقد نسخت و حرّرت بالنحو الذي سجّلت فيه علي أشرطة التسجيل، و قام جمع من الفضلاء العظام بتنقيحها، كما تولّي صاحب الفضيلة حجّة الإسلام الحاجّ الشيخ محسن سعيديان و الشيخ محمّد حسين راجي دامت معاليهما أمر تنظيمها و ترتيبها. و من ثمّ قام العبد الفقير إلي رحمة ربّه- و لمزيد من الإتقان- بمطالعة كلّ بحث علي حدة، و النظر فيه و التعليق عليه، لكي يكون قد تمّ إعمال غاية الدقّة في نسبة هذه البحوث و كيفيّة أدلّتها و أسانيدها للعبد الفقير.

  • و ها هي هذه الدروس تقدّم للقرّاء الكرام ضمن أربعة أجزاء.

  • وَ لِلّهِ الْحَمْدُ وَ لَهُ الْمِنَّةُ عَلَى إنْعامِهِ وَ إتْمَامِهِ، و السَّلَامُ عَلَيْنَا وَ علَى جَمِيعِ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَ سَائِرِ شِيعَةِ أميرِ الْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكَاتُهُ.

  • الخامس عشر من محرّم الحرام سنة ۱٤۱۱ هـ، مشهد المقدّسة

  • السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

11
  •  

  •  

  • الدرس الاوّل: الْوَلايَةُ، أصْلُهَا اللُّغَوِيُّ، وَ مَعْنَاهَا الاصطِلاحِيُّ.

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

13
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • قال الله الحكيم في كتابه الكريم:

  • ‌{هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً}.۱

  • يدور بحثنا هذه الأيّام، إن شاء الله، حول مسألة «الولاية» من وجهة: حقيقة الولاية، و معناها و أنواعها و شئونها. و ولاية الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام، و ولاية الفقيه، و حدودها و أطرافها و شرائطها و آثارها، و أخيراً فإنّ مصبّ البحث و مداره حول شروط ولاية الفقيه و حدودها و ملامحها حيث سنختم البحث بها إن شاء الله تعالي. و بالطبع ستكون هذه المجموعة هي الدورة الثانية من بحث «وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام».

    1. الآية ٤٤، من السورة ۱۸: الكهف.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

14
  • ذلك لأنّه قد تمّ في العام الماضي في نفس هذه الأيّام (بعد رحيل القائد الكبير آية الله الخمينيّ قدس الله نفسه) تشكيل بعض اللقاءات في نفس هذا المكان و صير إلي تحديد وظيفة الفرد المسلم. و ها نحن نقوم، و نحن علي مشارف تلك الأيّام، ببيان بعض المطالب تتمّة لذلك البحث. و بالطبع فقد كانت المطالب التي أوردت العام المنصرم أبسط و أقلّ عمقاً إلي حدٍّ ما، أمّا في هذا العام فإنّنا سنقوم إن شاء الله ببيان امور أكثر عمقاً و استدلالًا. نعم، سوف لن تكون عميقة و استدلاليّة إلي الحدّ الذي يعسر معه استيعابها من قبل الغالبيّة، و إنّما بالقدر الذين تكون فيه كافية و وافية بالنسبة للبحث الفقهيّ. و عليه فإنّنا لن نقوم ببسط البحث إلي الحدّ الذي يتناول جميع أطراف المسائل و التفاصيل، لأنّ ذلك يحتاج إلي جلسات عديدة يجب أن يبحث ضمنها- علي التحقيق- دورة في الاجتهاد و التقليد بنحو تفصيليّ و مبسوط، ممّا يستمرّ أكثر من سنة واحدة علي الأقل. إلّا أنّنا نأمل إن شاء الله أن نبحث في هذين الشهرين أو الثلاثة و بعناية الله ذلك المقدار الذي يكون لازماً للموضوع و محقّقاً للمطلوب.

  • إنّ «الولاية» أمر في غاية الأهميّة، ترتبط به حقيقة ديني الإنسان و دنياه، لأنّ من شئون الولاية، الآمريّة و الحكومة علي المسلمين، بل علي جميع أفراد البشر. و هي الطريق الوحيد الذي يرتبط به جميع مصاديق السعادة و الشقاوة، و الخير و الشرّ، و النفع و الضرر، و الجنّة و النار، و أخيراً أمر نجاة الناس. فكلّ كمال وصلت إليه امّة من الامم فإنّما نالته بسبب ولاية وليّها، و كلّ امّة سارت نحو الشقاوة و الضلالة فقد كان ذلك بسبب ولاية وليِّها الذي جرّها باتّجاه آرائه و أهوائه الشخصيّة، و صدّها عن المنهاج القويم و الصراط المستقيم.

  • و لقد جري البحث كثيراً في الأخبار عن موضوع الولاية، بل يجب‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

15
  • القول أساساً بأنّ الولاية هي المؤسّس لمذهب التشيّع، و أنّ أصل مذهب التشيّع يقوم علي هذا الأساس كما أنّ الآيات القرآنيّة و الأخبار التي تتناول هذه المسألة كثيرة جدّاً.

  • و يدور بحثنا اليوم إن شاء الله حول المعني اللغويّ للوَلاية فحسب. أي الولاية في أيّ معني وردت في اللغة؟ و ما هو المقصود من الولاية في الآيات الشريفة؟ و ما معني الروايات التي ورد فيها لفظ الولاية أو مشتقّاته؟ ثمّ نقوم بتحليل و مصاديق الولاية واحداً بعد واحد و استعمالاتها في المجتمعات الإسلاميّة من زمان نزول القرآن إلي اليوم.

  • الولاية معني واحد لا غير و سوى ذلك كلّه مصاديق و موارد له‌

  • لقد تصوّر البعض أنّ «الوَلَاية» لها معان مختلفة فقالوا مثلًا: إنّ أحد معانيها النصرة: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ}‌۱ أي إنّما ناصركم الله و رسوله. أو قالوا: إنّه بمعني المحبّ، أو بمعني المُعتِق، أو المُعتق، أو الأشخاص الذين يمتّون بصلة قرب إلي الشخص (سواء كانت قرابة نَسَبيّة أو زمانيّة أو مكانيّة)، أو أنّ الشخصين اللذين يشاركان بعضهما البعض يُسمّى كلّ منها «وليّ» الآخر. و الخلاصة أنّهم ذكروا للولاية في كتب اللغة معانٍ مختلفة إلي درجة أنّ كتاب «تاج العروس» يعرض لها واحداً و عشرين معني مع ذكره لشواهدها. فلنتأمّل هل أنّ الأمر كذلك واقعاً؟ و هل أنّ هذه المعاني هي معان مختلفة للولاية؟ أي هل أنَّ واضع اللغة قد وضع هذا اللفظ لهذه المعاني المختلفة بأوضاع مختلفة علي نحو الاشتراك اللفظيّ؟ أم أنّ الأمر ليس كذلك و أنّ معني الولاية هو معني واحد استُعمل في جميع هذه الموارد بعناية و قرينة؟

  • و بعبارة اخرى فإنّ استعماله في المصاديق المختلفة غير الموضوع‌

    1. صدر الآية ٥٥، من السورة ٥: المائدة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

16
  • لها، كان استعمالًا مجازيّاً؟ أم أنّ الأمر ليس علي هذا النحو أصلًا أيضاً، و إنّما الولاية لها معني واحد، و أنّ المراد في جميع هذه المصاديق و المعاني و الموارد هو نفس المعني الذي لاحظه الواضع، غاية الأمر أنّ مصاديق مختلفة حصلت له لخصوصيّة المورد، و أنّ محطّ النظر في الاستعمال إنّما هو نفس المعني الوضعيّ الأوّليّ، فيكون هذا المعني مشتركاً معنويّاً؟

  • و بناء علي هذا فإنّ الولاية لا تمتلك إلّا معني واحد لا أكثر، و قد لوحظ و قصد نفس معناها الأوّل هذا في جميع المصاديق التي ذكرها كبار أهل اللغة. و لم يكن في الأمر ثمّة خروج عن المعني اللغويّ و الوضعيّ، و لا تعدّد وضع، و لا اشتراك و كثرة استعمال.

  • تمسّك أهل اللغة بموارد الاستعمال و استشهادهم بها

  • لقد وردت في كتب اللغة أبحاث تفصيليّة حول معني «الولاية» لكنَّ ما نحن في صدر بيانه اليوم لن يتجاوز عدّة كتب هي: «المصباح المنير»، «صحاح اللغة»، «تاج العروس» و «لسان العرب» التي تُعدُّ من كتب اللغة القيّمة، و خاصّة الكتب الثلاثة «الصحاح» و «اللسان» و «المصباح» التي كان المرحوم «آية الله البروجرديّ» يعتمد عليها، و كانت في متناول يده دائماً و كان يديم مطالعتها باستمرار.

  • نعم، سنذكر إن شاء الله تعالي بعض المطالب أيضاً من بعض كتب اللغة الاخرى كـ«النهاية» لابن الأثير، و «مجمع البحرين»، و «مفردات الراغب».

  • لقد وردت كلمة «الولاية» و هي مصدر أو اسم مصدر في القرآن الكريم مع كثير من اشتقاقاتها مثل: وَلِيٌّ، وَ موْلَى، وَ وَالِي، وَ أوْلِيَاء، و مَوَالِي، وَ أوْلَى، و تَوَلَّى، وَ وِلَاية.

  • و أمّا معناها اللغويّ فيقول في «المصباح المنير»: الوَلْيُ مِثْلُ فَلْسٍ‌

  • [بمعني‌] القرب و [و فيه لغتان:

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

17
  • الاولي‌]: «وَلِيَهُ، يَلِيهِ» بكسرتين [من باب حَسِبَ، يَحْسِبُ‌]. و الثانية: [وَلَاهُ، يَلِيهِ‌] من باب وَعَدَ يَعِدُ. و هي قليلة الاستعمال ... وَ وَلِيتُ عَلَى الصَّبيِّ وَ المَرأةِ [أي صارت لي عليهما ولاية] و الفاعل «والٍ» و الجمع ولاة، [و يقال لكلٍّ من‌] المرأة و الطفل مُوَلَّى عليه. و الوَلايَة و الوِلاية بالفتح و الكسر [بمعني‌] النصرة. و استولى عليه. أي تغلّب عليه و تمكّن منه.

  • و يقول في «صحاح اللغة»: الوَلِي بمعني القرب و الدنو. يقال: تباعَدَ بَعْدَ وَلِيٍ (أي تباعد بعد قرب) و كُلْ مِمَّا يَلِيكَ. أي ممّا يقاربك.

  • ثمّ يتابع المطلب الي أن يصل حيث يقول: الوَلِيّ ضدّ العدوّ. يقال منه: تَوَلَّاه و الْمَولَى: الْمُعتِق، و المُعتَق، و ابن العمّ، و الناصر، و الجار. و الوَلِيّ: الصهر وَ كلُّ من وَلِيَ، أمر أحد فهو وليُّهُ.

  • ثمّ يتابع المطلب أيضاً إلي أن يقول: و الوِلاية بالكسر: السلطان. و الوَلَاية و الوِلَاية، النصرة.

  • و قال سيبويه: الوَلاية بالفتح المصدر. و الوِلَاية بالكسر: الاسم مثل الأمارة و الإمارة و النَّقابة و النِّقَابَة، لأنّه اسم لما تولّيته و قمت به. فإذا أرادوا المصدر فتحوا.

  • و يقول الطُرَيحيّ في «مجمع البحرين»: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ}‌،۱ يعني أحَقَّهُم مِنه بِهِ وَ أقْرَبَهُمْ مِنه مِن «الوَلْي» و هُوَ القُرْبُ [و الوَلَاية] قوله تعالي‌ {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ}‌،٢ هي بالفتح: الربوبيّة يعني يومئذٍ يتولّون الله و يؤمنون به و يتبرّءون ممّا كانوا يعبدون.

  • وَ الوَلَاية بالفتح: المحبّة، و بالكسر، التولية و السلطان. و مثله الوِلاء

    1. صدر الآية ٦۸، من السورة ٣: آل عمران.
    2. صدر الآية ٤٤، من السورة ۱۸: الكهف.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

18
  • بالكسر عن ابن السكّيت. و الوليّ: الوَالِي: و كلّ مَن ولي أمر أحد فهو وليّه.

  • و الوَلِيّ هو الذي له النصرة و المعونة. و الوَلِيّ هو الذي يدبّر الأمر، يقال: فلان ولِيٌّ المرأة إذا كان يريد نكاحها.

  • وَ وَلِيّ الدَّم من كان إليه المطالبة بالقود [من القاتل أو الجارح‌].

  • و السلطان وَلِيُّ أمر الرعيّة. و منه قول الكميت في حقّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام:

  • وَ نِعْمَ وَلِيٌّ الأمْرِ بَعْدَ وَلِيِّهِ***وَ مُنْتَجَعُ التَّقْوَى وَ نِعْمَ الْمُقَرِّبُ‌۱
  • و يتابع الطريحيّ في «مجمع البحرين» المطلب إلي أن يصل حيث يقول: قال الشيخ أبو علي حول الآية {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ}‌.٢ المعني: الذي يتولّى تدبيركم و يلي اموركم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين هذه صفاتهم، الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون.

  • ثمّ يتابع المطلب إلي أن يقول: و نقل أنّه اجتمع جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله في مسجد المدينة، فقال بعضهم لبعض: إن كفرنا بهذه الآية كفرنا بسائرها، و إن آمنّا صارت فيما يقول، وَ لَكِنَّا نَتَوَلَّى وَ لَا نُطِيعُ عَلِيّاً فِيمَا أمَرَ؛ فَنَزلَتْ {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها}.٣

  • و قوله تعالي: {النَّبِيُّ أَوْلى‌ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ‌} روي عن الباقر

    1. راجع «امام‌شناسى»/ «معرفة الإمام» ج ٥، ص ٢۰۸ بالفارسيّة للمؤلّف. نقلًا عن «تفسير أبي الفتوح الرازيّ» طبع مظفّري ج ٢، ص ۱۷٦. و قد ذكر بدل «المُقَرِّبُ»، «الْمُؤَدِّبُ».
    2. الآية ٥٥، من السورة ٥: المائدة.
    3. صدر الآية ۸٣، من السورة ۱٦: النحل.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

19
  • عليه السلام «أنّها نزلت في الإمرة» يعني في الإمارة. أي أنّه صلّى الله عليه و آله أحقّ بهم من أنفسهم، حتّى لو احتاج إلي مملوك لأحد، هو محتاج إليه، جاز [له‌] أخذه منه.

  • و منه الحديث: "النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آله وَ سَلَّم أوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ وَ كَذَا عَلِيُّ مِنْ بَعْدِهِ."

  • و قول الله تعالي: {وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ}‌۱ الوليّ ما يقوم مقامه في امور تختصّ به لعجزه، كوليّ الطفل و المجنون، فيلزم أن يكون مُحتاجاً إلي الوليّ و هو محال لكونه غنيّاً مطلقاً.

  • و أيضا إن كان الوليّ محتاجاً إليه تعالي لزم الدور المحال و إلّا كان مشاركاً له. [و كلتا الصورتين مستحيلتين‌].

  • من جملة أسماء الله تعالي الوليّ أي الناصر و المتولّي لُامور العالَم‌

  • يقول ابن الأثير الجزريّ في «النهاية»: من أسماء الله تعالي الوَلِيّ هو الناصر؛ و قيل: المتولّي لُامور العالَم و الخلائق القائم بها.

  • و من أسمائه عزّ و جلّ الوالِي و هو مالك الأشياء جميعها و المتصرّف بها. و كأنّ الوِلاية تشعر بالتدبير و القدرة و الفعل، و ما يجتمع ذلك فيها لم يطلق عليه اسم الوالي. إلي أن يقول:

  • و قد تكرّر لفظ المَوْلَى في الحديث و هو اسم يقع علي جماعة كثيرة، فهو الربّ، و المالك، و السيّد، و المنعِم، و المعتِق، و الناصر، و المحبّ، و التابع، و الجار، و ابن العمّ، و الحليف، و العقيد، و الصهر، و العبد، و المعتَق، و المنعَم عليه. و أكثرها قد جاءت في الحديث فيضاف كلّ واحد إلي ما يقتضيه الحديث الوارد فيه. و كلّ من وَلِيَ أمراً أو قام به فهو مولاه و وليّه.

    1. من الآية ۱۱۱، من السورة ۱۷: الإسراء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

20
  • و هذه المطالب نقلناها عن «النهاية» لابن الأثير.

  • و يقول الزبيديّ في «تاج العروس»: و الوليّ له معانٍ كثيرة. فمنها المحبّ و هو ضدّ العدوّ. اسم من والاهُ إذا أحبّه. و منها الصديق و منها النصير و من والاه إذا نصره.

  • و وليّ الشي‌ء و ولي عليه وِلاية و وَلاية بالكسر و الفتح، أو هي- أي بالفتح- مصدر و بالكسر الاسم مثل: الإمارة و النِّقابة، لأنّه اسم لما تولّيته و قمت به. فإذا أرادوا المصدر فتحوا، هذا نص سيبويه. و قيل: الوِلَاية بالكسر الخطّة و الإمارة، و نصّ «المحكم» كالإمارة. و قال ابن السكّيت: الولاية بالكسر بمعني السلطان.

  • و بعد أن يذكر معاني مختلفه للمولى- كما أوردناه- يقول: و كمثل المَولَى الوَلِيّ: الَّذِي يَلِي عَلَيْكَ أمْرَكَ [أي الذي يتكفّل بامورك و يتولّى القيام بها بنحو التسلّط و الاستعلاء] و هما بمعني واحد، و منه الحديث: أيُّمَا امْرَأةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا. و رواه بعضهم بغير إذن وليّها [أيُّما امْرَأةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا (فيستفاد من هذا أنّ للمَوْلَى وَ الْوَلِيِّ معنىً واحداً)].

  • إلي أن يصل حيث يقول: و ممّا يستدرك عليه «الوَلِيّ» في أسماء الله تعالي هو الناصر. و قيل: المتولّي لُامور العالَم القائم بها و أيضاً الوالي و هو مالك الأشياء جميعها المتصرِّف فيها.

  • [ثمّ يقول‌]: قال ابن الأثير: و لأنّ الولاية تشعر بالتدبير و القدرة و الفعل. و ما لم يجتمع ذلك فيه لم يطلق اسم الوالي.

  • هذا و قد أورد في «لسان العرب» عين ما نقلناه عن «النهاية» و «تاج العروس» فلا داعي لتكراره.

  • و يقول الراغب الأصفهانيّ في «المفردات»: الوَلَاءُ و التَّوالِي أنْ يَحْصُلَ شَيْئانِ فَصَاعِداً حُصُولًا لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَا لَيْسَ مِنْهُمَا. و يستعار ذلك‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

21
  • للقرب من حيث المكان و من حيث النسبة، و من حيث الدين، و من حيث الصداقة، و النصرة، و الاعتقاد.

  • و الوِلايَة (بالكسر) النصرة، و الوَلاية (بالفتح) تولّي الأمر. و قيل الوِلاية و الوَلاية نحو الدِّلالة و الدَّلالة، و حقيقته تولّي الأمر.

  • اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ‌؛ نِعْمَ الْمَوْلى‌؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ‌

  • و الوَلِيُّ و المَوْلَى يستعملان في ذلك كلُّ واحد منهما يقال في معني الفاعل أي المُوالِي، و في معني المفعول أي المُوالى. [و الوليّ علي زنة القتيل يأتي تارة بمعني اسم الفاعل كالقابل و اخرى باسم المفعول كالمقتول‌]. يقال للمؤمن هو وَلِيُّ اللهَ عزّ و جلّ و لم يَرد مولاه، و قد يقال: اللهُ تَعَالىَ ولِيُّ الْمُؤمِنِينَ وَ مَولَاهُمْ. فمن الاول [و هو بمعني الفاعل‌] و قال الله تعالي: ‌ {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}،۱ {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ}‌،٢ {وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}‌،٣ {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا}،٤ {نِعْمَ الْمَوْلى‌ وَ نِعْمَ النَّصِيرُ} ،٥ {وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى}‌،٦ قال عزّ و جلّ‌ {قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ}‌،۷ {وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ}۸ {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ‌}.٩

    1. صدر الآية ٢٥۷، من السورة ٢: البقرة.
    2. صدر الآية ۱٩٦، من السورة ۷: الأعراف.
    3. ذيل الآية ٦۸، من السورة ٣: آل عمران.
    4. صدر الآية ۱۱، من السورة ٤۷: محمّد.
    5. ذيل الآية ٤۰، من السورة ۸: الأنفال.
    6. ذيل الآية ۷۸، من السورة ٢٢: الحجّ.
    7. صدر الآية ٦، من السورة ٦٢: الجمعة.
    8. ۸- من الآية ٤، من السورة ٦٦: التحريم.
    9. صدر الآية ٦٢، من السورة ٦: الأنعام.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

22
  • كانت هذه هي الآيات التي أوردها الراغب الأصفهانيّ في «المفردات» كشاهد علي أنّ «الوَلِيَّ» و «المَوْلَى» فيها بمعني اسم الفاعل. ثمّ قال: و الوالي الذي في قوله تعالي‌ {وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ}‌۱ بمعني الوَلِيّ.

  • ثمّ يورد الراغب الكثير من آيات القرآن التي ذكر فيها اسم «الوَلِيّ»، و التي نفت الولاية عن غير الله، و نهت عن تولّي اليهود و النصارى و أعداء الله. و الكثير من الآيات التي ذكرت فيها مشتقّات هذه المادّة، و يبيّن معناها المناسب، متوسّعاً في بيان هذه المعاني.

  • أجل، لقد أوردنا هنا ما يلزم من كتب اللغة في معني الولاية و مشتقّاتها لكي يطّلع الخبير البصير علي خصوصيّات المعاني و موارد استعمالاتها و يستنتج بالتأمّل و التدبّر أنّ: جميع هذه المعاني المختلفة التي ذكروها للوَلاية و الوليّ و المولي و غيرها- و كما يقول في «تاج العروس» إنّ معاني الوَلِيّ تصل إلي واحد و عشرين معني- ترجع إلي معني واحد هو أصل و منشأ معني الولاية، و أنّ بقيّة المعاني أيضاً قد اخذت منه علي نحو الاستعارة.

  • و بعبارة اخرى: فإنّ أصل معني الولاية محفوظ في جميع موارد الاستعمال هذه، غاية الأمر أنّه قد لوحظ ذلك المعني الأصليّ لجهة من الجهات مع ضمّ الخصوصيّة التي لوحظت في مقام الاستعمال. و ذلك الأصل هو نفس المعني الذي ذكره الراغب في «المفردات» حيث يقول حول مادّة «وَلي»: الْوَلاءُ وَ التَّوالِي أن يَحْصُلَ شَيئَانِ فَصَاعِداً حُصُولًا لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَا لَيْسَ مِنْهُمَا». و هذا بمعني أن لا يكون بينهما أيّ حجاب‌

    1. ذيل الآية ۱۱، من السورة ۱٣: الرعد.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

23
  • و مانع و فصل و تميّز و افتراق و غيريّة و بينونة، بحيث لو فرض وجود شي‌ء بينهما لكان منهما لا من غيرهما.

  • فمثلًا مقام الواحدانيّة و الوحدة الحاصل بين العبد و ربّه بحيث لا يبقي هناك ثمّة حجاب و ستار في أيّة مرحلة من مراحل: الطبع و المثال و النفس و الروح و السرّ يسمّي «وَلاية» و مقام الوحدة الحاصل بين الحبيب و المحبوب، و العاشق و المعشوق، و الذاكر و المذكور، و الطالب و المطلوب، بنحو لا يبقي في الأمر أيّ افتراق بوجه من الوجوه يسمّي «ولاية».

  • و علي هذا الأساس فإنّ الله تعالي «وَلِيُّ» جميع الموجودات في عالم التكوين بشكل مطلق كما جميع الموجودات أيضاً- بلا استثناء- أولياء للّه تكويناً. و ذلك لأنّه ليس ثمّة حجاب أو فاصل بين الله الذي هو الربّ و بين الموجودات التي هي المربوبة، إلّا أن يكون ذلك الحجاب في نفس تلك الموجودات. و أمّا في عالم التشريع و العرفان فولاية الحقّ تختصّ باولئك الذين تخطّوا مراحل الشرك الخفي بشكل مطلق، و تجاوزوا جميع الحجب النفسانيّة، و استقروا في النقطة الأصليّة و حقيقة العبوديّة.

  • تحقّق الولاية في عباد الله بواسطة الهوهوية التي تحصل نتيجة الفناء في الله‌

  • و وفقاً لهذا الميزان فإنّ اسم «الوَلِيّ» يُطلق علي كلٍّ من طرفي النسبة و الإضافة، أى أنَّ البينونة و الغيريّة قد ارتفعت بشكل تامّ، و أنَّ الهُوهُويَّة قد تحقّقت.

  • فالله وليّ المؤمن، و المؤمن وليّ الله أيضاً. و نسمّي المؤمن وليّ الله و جمعه أولياء الله كما أنّ الله وليّهم أيضاً: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ}.۱ و قد استعمل لفظ «الوليّ» هنا بين المؤمن و الله‌

    1. صدر الآية ٢٥۷، من السورة ٢: البقرة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

24
  • بعناية واحدة بكلّ ما للكلمة من معني. و هذا هو حقيقة معني  «الوَلاية» .

  • و نستنتج من هنا أوّلًا: تكون جميع آثار و خصوصيّات الوليّ بمعني الفاعل مشهودة في الوليّ بمعني المفعول حيث إنّه يعكس في نفسه الصورة الكاملة لصاحب الصورة، كما تفعل المرآة دون إظهار شي‌ء من نفسه، أو كمثل الماء الصافي، أو القدح الزجاجيّ دون أدني ظهور لذاته.

  • تحقّق المعاني المختلفة للولاية في مصاديقها هو بنحو الاشتراك المعنوي لا اللفظيّ‌

  • و ثانياً: أنّ جميع المشتقّات التي صدرت من «الوَلِيّ» و جميع المعاني التي ذكرت له كلّها علي أساس هذا الميزان و طبقاً له. إذ إنّ لازم الولاية القرب، و القرب بدوره له أنواع و أشكال مختلفة، حيث لوحظت حقيقة الولاية تلك في كلّ واحد من مظاهر القرب و الدنو- بكل ما للكلمة من معني- مع لحاظ خصوصيّة القرب هذه.

  • و عليه فليس صواباً أن نقول بأنّ: الوَلَايَةَ وَ الوَلِيّ وَ الْمَوْلَى و سائر مشتقّاتها المستعملة في المعاني المختلفة هي علي نحو الاشتراك اللفظيّ. كلّا فالأمر ليس كذلك، و إنّما هو علي نحو الاشتراك المعنويّ، و استعمال اللفظ في ذلك المعني الواحد الذي لوحظ فيه بواسطة قرينة مقاميّة أو مقاليّة نحو خصوصيّة القرب و الدنو من ذلك المعني العامّ. و هذا النحو من الاستعمال استعمال حقيقيّ في جميع الموارد.

  • و علي هذا الأساس فحيثما وجدنا لفظ الوَلَايَة أو الْوَلِيّ أو المَوْلَى و لم يكن ثمّة قَرينة خاصّة تدلّ علي أحد المصاديق بخصوصها، فيجب أن نستفيد ذلك المعني العامّ و نعتبره مراد اللفظ و معناه دون أيّ قيد. فلو قيل مثلًا: الوَلاية لله. فيجب القول: إنّ المراد هو معيّة الله لجميع الموجودات. و لو قيل: لقد وصل الشخص الفلاني إلي مقام الولاية. فيجب القول: إنّ المراد هو أنّه قد وصل في مراحل السير و السلوك و العرفان و الشهود الإلهيّ إلي مرحلة لا يوجد فيها بينه و بين الله أيّ حجاب نفسانيّ، و إلي‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

25
  • حيث اضمحلّت جميع شوائب الفرعونيّة و الربوبيّة من وجوده، و أنّه وصل إلي مقام العبوديّة المطلقة المحضة للحقّ جلّ و علا.

  • فيعلم من هذا البيان الذي ذكرناه أنّه: حيث استعملت كلمة «الولاية» أو «الوَلِيّ» فهناك نحو جهة من اتّحاد و وحدة بين شيئين، و علي هذا الأساس جي‌ء باللفظ و استعمل في المقام. مثلًا النسبة التي بين المالك و المملوك التي ربطت بينهما و وصلتها ببعضهما سبّبت تسمية كلٍّ منهما «بالوَلِيّ» و كذلك الأمر في النسبة التي بين السيّد و عبده و النسبة التي بين المُنْعِم و المُنْعَم عليه، التي تضع الشخصين تحت عنوان خاصّ، و لذا يطلق علي كلّ منهما «وَلِيّ». من هذا القبيل أيضاً النسبة الموجودة التي بين المعتِق و المعتَق التي تستتبع هذا العنوان، و النسبة التي بين الحليفين و المتعاقدين، و بين المحبّ و الحبيب. كما أنّ الصِّهر أيضاً يقال له وَلِيّ لأنّه قد صار في كثير من الامور من ضمن العائلة بواسطة القرابة الحاصلة. و يُدعى ابن العم بالوليّ لأنّه من أفراد العاقلة و يتحمّل دية الخطأ، كما أنّ له في الكثير من الموارد حكم الأخ و المعين و المساعد.

  • و حيثما وجدت قرينة خاصّة علي إرادة إحدى هذه المعاني فيجب حمل اللفظ عليه، و إلّا تبادر نفس معني الولاية العامّ من دون قرينة، و كان ذلك المعني هو مراد المتكلّم.

  • و من الجليّ أنّ المالكيّة في التدبير، و تكفّل الامور، و تولّي أحكام و مسائل المُوَلَّى عليه لازم و نتاج للولاية، لا أصل حقيقتها و معناها المطابقيّ.

  • و حيثما شوهد أنّ الولاية فُسِّرت أحياناً بالحكومة و الإمارة و السلطان و المراقبة و الحراسة و المحافظة، فإنّهم سيكونون قد فسّروها بلوازم المعني، لا ببيان معناها الحقيقيّ و الواقعيّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

26
  • و علي هذا المنوال فسّر استاذنا الجليل: سماحة آية الحقّ و العرفان و سند العلم و الإيقان المرحوم آية الله العلّامة الطباطبائيّ أفاض الله علينا من بركات تربته و نفسه كلمة الولاية في رسالة «الولاية»۱ و في تفسير «الميزان».

  • الولاية هي الكمال الأخير الحقيقيّ للإنسان و انتهاء الفرض الأخير من تشريع الشّريعة الحقّة الإلهيّة

  • لقد جعل استاذنا منهجه في «رسالة الولاية»- و التي هي من نفائس كتبه و من الرسائل القيّمة للغاية و الغنيّة في مضمونها- علي هذا الأساس و قال: «الوَلَايَةُ هِيَ الْكَمَالُ الأخِيرُ الْحَقِيقِيُّ للإنسَانِ، وَ إنَّهَا الْغَرَضُ الأخِيرُ مِنْ تَشْرِيعِ الشَّرِيعَةِ الْحَقَّةِ الإلَهيَّةِ».٢

  • و قال في تفسير «الميزان»: «و إن كانوا قد ذكروا للولاية معاني كثيرة، و لكنّ الأصل في معناها ارتفاع الواسطة الحائلة بين الشيئين بحيث لا يكون بينهما ما ليس منهما.٣ و من ثمّ استعيرت لقرب شي‌ء من شي‌ء آخر بأنحاء من وجوه القرب و الدنوّ، كالقرب النسبيّ و المكانيّ، و القرب‌

    1. رسالة «الولاية» من نفائس الرسائل المؤلّفة للعلّامة و التي الّفت بشكل مستقلّ. و قد قام الحقير باستنساخها عن خطّ المؤلّف مع رسالة «النبوّة و الإمامة» التي الّفت مستقلّة هي الاخرى، مع سبع رسائل اخرى مخطوطة بأجمعها في مجلّد واحد، و قمت بتجليدها في مجلّد واحد.
      و لم تُطبع هذه الرسائل في حياة المرحوم العلّامة، لكنّ رسالة «الولاية» بالخصوص طُبعت بعد وفاته ضمن كتاب عن حياته بعنوان «يادنامه مفسّر كبير استاد علّامة سيّد محمّد حسين طباطبائي» من الصفحة ٢٥۱ إلي ٣۰٥.
      نعم، لقد طبعت تلك الرسائل السبع و هي: «الإنسان قبل الدنيا و بعد الدنيا و في الدنيا و رسالة الله و أسماء الله و أفعال الله و رسالة الوسائط» فيما بعد بشكل سيّئ للغاية، و نأمل أن تُطبع إن شاء الله تعالي بنحو جيّد وراق.
    2. «رسالة الولاية». طبعة مؤسّسة آل البيت، ص ٤.
    3. تفسير «الميزان»، ج ۱۰، ص ۸٩.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

27
  • في المنزلة و الصداقة، و غير ذلك.

  • و بهذه المناسبة يقال لكلّ من طرفي الولاية «وَلِيّ» و خاصّة لامتلاك كلّ منهما حالة من القرب بالنسبة للآخر لا يمتلكها غيره. و بناء علي هذا فالله تعالي «وَلِيُّ» عبده المؤمن، لكون اموره تحت نظره، فهو يقوم بتدبير شئونه، و يهديه في صراطه المستقيم، و يأمره و ينهاه بما ينبغي له أو لا ينبغي له، و ينصره في الدنيا و الآخرة. كما أنّ المؤمن الحقيقيّ أيضاً «وَلِيٌّ» لربِّه لأنّه قد أدخله تحت ولايته في أوامره و نواهيه. و جميع البركات المعنويّة أيضاً من الهداية و التوفيق و التأييد و التسديد، و ما يستتبعه من التكريم بواسطة رُقيّ المرتبة إلي الجنّة و مقام رضوان الله إنمّا هو في ظلّ ولاية إلهه و قبوله له.

  • و بناء علي هذا، فأولياء الله- هم اولئك الأشخاص الواصلون إلي هذه الدرجة من مقام القرب. أولياء الله هم خاصّة المؤمنين الذين يَعُدُّ الله نفسه ولِيّاً لهم و مُتَوَلِّياً لُامورهم في الحياة المعنويّة الخالدة فيقول: {وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}‌.۱

  • كانت هذه المطالب ممّا نقلناه عن تفسير «الميزان» و بشكل إجماليّ عن رسالة «الولاية» حيث يستفاد منها أنّ العلّامة رحمه الله قد اختار «للوليّ» نفس المعني الواحد الذي اختاره الراغب الأصفهانيّ و هو: اتّحاد شيئين مع بعضهما بنحو ترتفع معه من بينهما كلّ الحجب و لا يكون ثمّة فاصلة و بينونة بينهما غير ذاتهما و وجودهما، بحيث إنّ كلّ ما وُجد بينهما فهو منهما.

  • و بناء عليه فإنّ معاني الولاية الواردة في القرآن: من النصرة و الإعانة

    1. ذيل الآية ٦۸، من السورة ٣: آل عمران.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

28
  • و المحبّة و سائر المشتقّات ترجع جميعاً إلي هذا الأصل. و كمال الإنسان الحقيقيّ إنّما هو بالولاية: {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً}۱. حيث يصل المؤمن إلي حيث لا يكون بينه و بين ربّه أيّ فاصل أو حجاب- بأيّ من الوجوه- سوي ذات الإنسان و ذات الله، و تزول جميع الحجب و كلّ شوائب الاثنينيّة و الغيريّة، و يبقي الإنسان و الربّ، و هناك تتحقّق الهُوهُويّة و يستجاب هذا الدعاء:

  • بَينِي وَ بَيْنَكَ إنِّيِّي يُنَازِعُنِي***فَارْفَعْ بِلُطْفِكَ إنّيِّي مِنَ الْبَيْنِ٢
  • و هذا مقام سام للغاية و من المحتمل أن نذكر إن شاء الله أنّ جميع الأنبياء الذين وصلوا إلي درجة الإخلاص العالية إنّما نالوها بواسطة هذه الولاية، و أنّ قيمة الأئمّة و علوّ شأنهم أيضاً إنمّا هو بواسطة مسألة الولاية هذه، و المؤمن الخالص أيضاً عند ما يصبح محلّا لنظر الله فإنّما يكون ذلك بواسطة وصوله إلي مقام الولاية هذا.

  • كان هذا إجمالًا للمسائل التي بحثناها اليوم حول المعني اللغويّ للولاية،٣ و سنشرع إن شاء الله و بتوفيقه و عونه تعالي في الأيّام المقبلة في البحث حول مصاديقها من ولاية النبيّ و الأئمّة و الفقهاء الحائزين لهذه الصفة في عصر الغيبة.

  •  

  • اللهُمَّ صلِّ علي محمّدٍ و آل محمّد

    1. الآية ٤٤، من السورة ۱۸: الكهف.
    2. رسالة «سير و سلوك منسوب به بحر العلوم»(/ رسالة السير و السلوك المنسوبة إلي بحر العلوم) ص ٩۸.
    3. راجع التحقيق في المعني اللغويّ للولاية في كتاب «امام‌شناسى»/ «معرفة الإمام» من دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة. ج ٥، من ص ٩ إلي ص ٣٣.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

29
  •  

  •  

  • الدرس الثاني: ولايةُ الإمامِ و تفسير آيةِ: أطِيعُوا اللهَ وَ أطِيعُوا الرَّسُولَ وَ اولِي الأمْرِ مِنكُمْ.

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

31
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِه الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • يدور البحث حول مسألة الولاية، و قد بحثنا في الدرس الماضي حول معناها اللغويّ بالمقدار الكافي.

  • من المعاني القريبة إلي الأصل و المنشأ اللغويّ للولاية- أي المعني الساري في جميع مصاديقها- التصرّف في الامور و الحماية و الحفظ و الإدارة و تكميل و ترميم نقاط الضعف الموجودة في الأشخاص المولّى عليهم، تلك النقاط التي يمكن تداركها بواسطة ولاية الوالي سواء كان ذلك المُوَلَّى عليه امرأةً أو رجلًا، صغيراً أو كبيراً، حاضراً أو غائباً. أو الولاية علي المجتمع، حيث أنّه في ظلّ ولاية الوالي تصل تلك النقاط إلي كمالها، في العلاقات الاجتماعيّة التي يحتاج الناس إلي تكميلها و ترميمها، كما أنّ الإمارة و الحكومة عليهم من شُعَب الولاية.

  • و الولاية أمر عظيم للغاية، له درجة عالية من الأهميّة و الجلالة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

32
  • و العظمة، إذ أنَّ الولاية حكومة علي النفوسُ و الأموال و الأعراض و النواميس و سائر شئون الناس، و الوالي يتصرّف في شئون الناس كما يريد، و في الواقع فإنّ الولاية تقود العامّة باتّجاه مصالحها و نتيجتها الاستغلال لجميع المواهب الإلهيّة، و فعليّة الاستعدادات الكامنة، و المكنونة في نفوس الناس، و المذخورة في طبائعهم.

  • يصل الخلائق نتيجة ولاية الإمام المعصوم إلي أقصى درجة كمال الإنسانيّة

  • و بواسطة ولاية الوالي تصل جميع الاستعدادات و القابليّات إلي مرحلة الظهور و البروز. و يستفيد الناس من غاية درجة فعليّتها و كمالها. أي أنّ قيادة و زعامة و إمامة شخص الوالي هي السبب في حركة المجتمع في الصراط المستقيم.

  • و بناء علي هذا فلو اوكل منصب الولاية و الحكومة و التي هي من لوازم نفس الولاية إلي أهله، و وقع في محلّه، لتنعّم الناس في الدنيا و الآخرة، و لساروا باتّجاه كمالهم الحقيقيّ، و لأمضوا أيّامهم في هذه الدنيا بأفضل حياة و أهنأ و أرغده و لتمتّعوا بالمواهب الإلهيّة علي أكمل وجه و أفضله، و لعاشوا أعمارهم حتّى النهاية دون أيّ اضطراب أو قلق. مع الوصول إلي غاية الدرجات المقدّرة لهم في سيرهم الكماليّ، و مع ضمان نيلهم في النهاية لأعلى درجة في السير الكماليّ التي قدرها الله تعالي لعباده. و لتلذّذوا في الآخرة أيضاً بثمرات مساعيهم في الدنيا. قال رسول الله صلي الله عليه و آله: "الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ،۱ و الدنيا مَتْجَرَةُ الآخِرَةَ (أو مِتْجَرَة الآخرِة)".

    1. «مجموعة ورّام»، طبعة الآخوندي ص ۱٩۱، باب ما يُحمد من الجاه. و قد وردت في «شرح الغرور و الدرر» للآمديّ طبعة جامعة طهران، ج ۱ ص ۱٢۰ بهذا اللفظ: «الدُّنْيَا مَعْبَرَةُ الآخِرَة».

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

33
  • فالدنيا آلات و معدّات قد اتيحت للإنسان لأجل وصوله إلي الآخرة، و عليه فإنّ الناس سيصلون إلي الآخرة الحسنة المرضيّة و يتنعّمون بـ{... ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ‌}۱ في ظلّ ولاية الوليّ الصالح فضلًا عن إفادتهم من كمالاتهم في الدنيا علي خير نحو. و كما أنّه في القرآن الكريم أيضاً: {وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ}.٢

  • أمّا إذا لم تقع تلك الولاية في محلّها، و سُلِّمت للغير و انيطت به، فإنّ جميع النفوس سوف تضيع و تتلف مع ما تنطوي عليه من استعدادات. فالحقّ سوف لن يصل إلي صاحبه و الحياة و المعيشة ستصبح معيشة البهائم و الحيوانات، و علي أساس الوهم و الشهوة و الغضب فسوف يخال كلُّ إنسان حياته في موت الآخرين و صحّته في سقمهم و مرضهم، و غناه في فقرهم، و شأنه و وجاهته في إذلال و تحقير و تسافل أبناء جنسه. و يتحوّل المجتمع بذلك إلي غابة للسباع، و تجمّع للحيوانات المفترسة، و الكلاب المتوحّشة، و البهائم السافلة، حيث يبني كلّ شخص أساس حياته علي حبّ ذاته، و استجلاب المنفعة لنفسه، و العمل ضدّ المجتمع بأقصى ما يمتلكه من طاقة.

  • و لذا فقد جعل القرآن المجيد الولاية علي كاهل الرجال الإلهيّين المتحقّقين بالحقّ، و الهادين إلي الحقّ. و لقد دعا القرآن الناس إلي اتّباع هؤلاء الأشخاص الإلهيّين فحسب و هم المعصومون عليهم السلام فقط، الذين خرجوا من هوي النفس الأمّارة بالسوء، و من الزلل و الأخطاء، و تحرّروا من الأنانيّة و الغرور و الدعوة للنفس و طلب الجاه- و لو في الزوايا

    1. من الآية ۷۱، من السورة ٤٣: الزخرف.
    2. الآية ٣، من السورة ٥۰. ق. {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ}.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

34
  • و النقاط المستورة من القلب- و صاروا مطهَّرين منزَّهين بكلّ ما للكلمة من معني.

  • فهؤلاء، هم الذين يستطيعون تحريك الناس إلي ذلك النبع المَعين لماء الحياة الخالدة و إيصالهم إلي كمالهم دون ما أدني لوث أو دنس. و هذه المسألة غاية في العلوِّ و السموّ.

  • و ليس في القرآن المجيد آية تجعل النبيّ و الرسول وليّاً علي الناس لكونه نبيّاً أو رسولًا (خلافاً للفظ الإمام و الخليفة الذي يساوق نفس الأئمّة و القادة المعصومين، حيث إنّ لدينا آيات دالّة عصمة اولئك الولاة)، و ذلك أنّ منصب النبوّة و عنوان الرسالة، لا يساوق عنوان الولاية و امتلاك التصرّف و تولّي أزمّة الامور و القيادة.

  • فالنبوّة حالة شخصيّة توجد في بعض الأشخاص، فينالون بواسطتها الاتّصال بعالم الغيب فيرسل الله تعالي لهم الوحي، و يدركون بعض الامور المتعلّقة بالعالم العلويّ. فهذا هو معني النبوّة. فالنبيّ هو ذلك المخبر و المنبئ، سواءً أ كان مالكاً لوظيفة قيادة الناس و تولّي زمامهم، أو لم يكن. أمّا الإمام فليس كذلك، لأنّ الإمام هو الشخص الذي له الإمامة و القيادة و الولاية، و يأمر و ينهي، و يتسلّم زمام المجتمع، و يسوق الناس نحو كمالهم.

  • وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا- وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا

  • و ليس هناك في القرآن المجيد آية تدلّ علي أن جميع الأنبياء كانوا أئمّة، و قد صُرّح في بعض الآيات بإمامة بعضهم. كآية: {وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا}،۱ و ذلك بعد ذكر إبراهيم و لوط و إسحاق و يعقوب عليهم السلام. و كآية: {وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا}،٢ بعد ذكر موسى عليه‌

    1. صدر الآية ۷٣، من السورة ٢۱: الأنبياء.
    2. صدر الآية ٢٤، من السورة ٣٢: السجدة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

35
  • السلام، و إنّنا قد اخترنا من بني إسرائيل أئمّة.

  • و لم يكن امتلاك الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم لمقام الولاية بسبب نفس نبوّته، و إنّما بسبب امتلاكه لمقام الإمامة، أي أنّ رسول الله كان إماماً و نبيّاً معاً، مثله مثل إبراهيم عليه السلام الذي يقول القرآن فيه: {وَ إِذِ ابْتَلى‌ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً}.۱

  • فبعد أن كان إبراهيم عليه السلام نبيّاً يوحي الله إليه، فقد قال تعالي في القرآن: لقد ابتلينا إبراهيم بامتحانات و اختبرناه بكلمات فنجح في ذلك الامتحان و الاختبار و أتمّ تلكم الكلمات، لذا فقد جعلناه إثر تلك الابتلاءات و نجاحه فيها إماماً في الأرض. فإبراهيم عليه السلام إذاً كان يمتلك النبوّة كما كان يمتلك الإمامة. و رسول الله هو الآخر كان نبيّاً و إماماً معاً، خلافاً لأئمّتنا الذين لم تكن لديهم نبوّة، و إنّما لهم الإمامة فحسب.

  • و وفقاً للشواهد و الروايات ذات الصدور القطعيّ التي في أيدينا، فإنّ الإمام أمير المؤمنين هو الأفضل من بين الأئمّة الاثني عشر، بينما رسول الله أفضل من أمير المؤمنين.

  • و الخلاصة، فإنّ مقام الإمامة هذا الذي نريد دراسة ولايته حاليّاً هو بعنوان الإمامة، أعمّ من أن يكون صاحبه نبيّاً أو لا يكون. فنحن نبحث عن الولاية التي يمتلكها الإمام، و نريد أن نستفيد من القرآن المجيد عن نوع الولاية التي للإمام، و ما الذي يترتّب عليها؟ و من هو ذلك الإمام الذي يمتلك هذه الولاية؟ و ما معني كون العصمة من شروطها؟

  • فهذا البحث إذَنْ يدور فقط حول عنوان الإمام، أينما وُجد ذلك‌

    1. صدر الآية ۱٢٤، من السورة ٢: البقرة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

36
  • العنوان، سواء اجتمع مع النبوّة كما هي الحال في النبيّ إبراهيم عليه السلام، أم لم يجتمع كما هو الأمر بالنسبة للأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين الذين كانوا أئمّة لكنّهم لم يكونوا أنبياء.

  • إطاعة الله اتّباع القرآن و إطاعة الرسول العمل بالسنّة و إطاعة أُولي الامر هي ...

  • و إحدى الآيات القرآنيّة التي تدلّ علي ولاية و إمارة و حكومة الأئمّة عليهم السلام هذه الآية:

  • {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.۱

  • أي أنّكم لو سرتم في هذا الطريق فإنّ عاقبتكم ستكون خير عاقبة، ستتمتّعون و تفيدون في المجال الاجتماعيّ من جميع المواهب، و ستصلون من ناحية سيركم الكماليّ إلي حيث يجب أن تصلوا!

  • و سنستدل بهذه الآية علي ولاية المعصوم، و نستفيد منها أنّ اولي الأمر يجب أن يكونوا معصومين حتماً. و هذه الآية من الآيات القرآنيّة الواضحة و البارزة في القرآن التي تعتبر «اولي الأمر» محصورين في الأئمّة الأطهار عليهم السلام، كما تعدّ المعصومين من واجبي الطاعة بعنوان الولاية.

  • و تقريب الاستدلال بهذا النحو. بأن نقول: إنّ إطاعة الله في الآية الشريفة: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ‌}. هي اتّباع الأحكام الإلهيّة المبيّنة في القرآن الكريم‌ {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى‌ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}‌.٢ فإطاعة الله تعني إطاعة كتاب الله و آياته. فحيث كان الكلام‌

    1. الآية ٥٩، من السورة ٤: النساء.
    2. الآية ۱٩٣ و ۱٩٤، من السورة ٢٦: الشعراء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

37
  • عن إطاعة الله فالمقصود هو إطاعة الآيات النازلة علي النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في القرآن الكريم. هذا بالنسبة لإطاعة الله.

  • و من المعلوم بالطبع أنّ القرآن المجيد لم يتطرّق إلي تفاصيل الامور و جزئيّاتها، و إنّما هو تعرّض للُامور الكلّيّة و الأحكام العامّة، كمثل وجوب الصلاة و الزكاة و الحجّ و الجهاد و غير ذلك، لكنّه لم يبيّن خصوصيّاتها.

  • و تنقسم إطاعة الرسول‌ {وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ}‌ إلي قسمين:

  • القسم الأوّل: الإطاعة في الأحكام الجزئيّة التي بَيَّنها النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم لأجل تعيين حدود الأحكام الكلّيّة و قيودها و شروطها، و هذا يرجع إلي ناحية التشريع. أي أنّ رسول الله قد قام بتشريع الحدود و القيود لأحكام كتاب الله الكلّيّة. فالقرآن يقول مثلًا حول الصلاة: {وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}‌.۱

  • أما كيفيّة أداء الصلاة، و كون الواجب منها سبع عشرة ركعة، و أنّ صلاة الظهر أربع ركعات، و أنّه يجب الإتيان بها بلباس طاهر، و في مكان مباح، و مع استقبال القبلة، و أنّه لا يجوز للرجال فيها لبس الذهب و الحرير، فهي خصوصيّات لم تُبَيَّن في القرآن المجيد.

  • و كذلك وردت مسائل كثير، في باب الصلاة، يقول الإمام الصادق عليه السلام في إحدى الروايات إنّ للصلاة أربعة آلاف مسألة، ألفان في الواجبات و ألفان في المستحبّات و السنن، و هي امور غير موجودة في القرآن. و إنّما الوارد في القرآن هو: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} و حسب. و أمّا كيفيّتها فتشخيصها بيد النبيّ. و لذا فقد قام النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فصلّى ثمّ قال: "صَلُّوا كما رَأيَتُمُونِي اصَلِّي"‌ فتشريع هذه الجزئيّات و الحدود و القيود

    1. الآية ٣۱، من السورة ٣۰: الروم.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

38
  • و الشروط و الموانع و المعدّات بيد النبيّ. و هذا هو معني تشريع الشريعة، فالقرآن مشرِّعٌ علي نحو الحكم الكلّيّ بينما النبيّ يقوم بذلك بالنسبة للجزئيّات و الخصوصيّات و المشخّصات.

  • و لقد ورد في القرآن هذا المقدار أن: آتوا الزكاة- لا أكثر- أمّا بيان موارد الزكاة، و شروط وجوبها، و بيان نصاب الزكاة و مقدارها و متعلّقاتها، فلم تُبيّن في القرآن. و إنّما قام بذلك النبيّ.

  • كما ورد في القرآن الكريم: {وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.۱

  • حيث إنّ قصد بيت الله و الذهاب إليه للمستطيع من الناس كان من الامور التي فرضها الله عليهم و جعلها كفريضة واجبة. أمّا كيفيّة الحجّ، و كيفيّة العمرة و الطواف ببيت الله (سبعة أشواط)، و جميع الخصوصيّات و الجزئيّات الواردة في كتاب الحجّ مع كثرة تشعّباتها و مسائلها، فهي غير موجودة في القرآن المجيد. و إنّما قام رسول الله بتعيينها و تحديدها و الأمر بها كلّها.

  • و قد أدّى بنفسه الحجّ في السنة العاشرة للهجرة و خاطب الناس قائلًا: انظروا كيف أقوم بالحجّ فاعملوا مثل عملي.٢ و كانوا يرجعون إليه في كلّ مورد كان يشتبهون فيه، أو يحتاجون فيه إلي سؤال، فيجيبهم. كما قام بتعيين المواقيت، لكي يقوم الحجّاج بالإحرام منها. و بيّن أنّ المراد بالقاطنين علي مسافة عن البيت الحرام: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}‌. الذين يبعدون عن بيت الله بأكثر من ستّة عشر فرسخاً.

    1. من الآية ٩۷ من السورة ٣: آل عمران.
    2. كلام الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم بالمضمون لا بالنصّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

39
  • و هكذا الأمر في سائر مسائل الحجّ العديدة التي لم تُبَيّن في القرآن، فهي في عهدة النبيّ صلّى الله عليه و آله إذ إنّ الحجّ إنّما ذكر في القرآن بالاسم فقط. و هكذا الأمر في مسائل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و مسائل الجهاد، مع جميع خصوصيّاتها و جزئيّاتها التي بيَّن فيها- من خلال حضوره بنفسه في ساحة الحرب- كيفيّة التعامل مع المشركين و اليهود و النصارى أو المرتدّين و أموالهم، فبيان و توضيح جميع هذه الخصوصيّات راجع إلي تشريع رسول الله صلّى الله عليه و آله.

  • و هذا هو معني إطاعة رسول الله. فرسول الله- إذَن- هو مشرِّع و مقيِّد و محدِّد و معيِّن و مشخِّص للحدود و الثغور. و تشخّصات الأحكام الكلّيّة الواردة في القرآن المجيد.

  • القسم الثاني: الإطاعة لرسول الله في الأحكام الوِلايتيّة بلحاظ ولايته و إمامته علي الناس، كنصبه لشخصٍ ما أميراً للجيش و كإعطائه الراية لزيد، أو وضع شخص آخر في قلب الجيش، و أمثال ذلك. فالنبيّ واجب الإطاعة في جميع هذه الخصوصيّات، و يجب علينا الالتزام بطاعته حتّى في هذه الامور، و لا يجوز لنا مخالفته. و هذا النحو من إطاعته ليس إطاعته في التشريع، إذ إنّ الأحكام الولايتيّة ليس ضمن دائرة التشريع، و إنّما هذه الأوامر و النواهي قد صدرت بلحاظ ولاية رسول الله صلي الله عليه و آله و سلّم و إمامته للناس، و إطاعتها واجبة.

  • بناء عليه فإنّنا نلاحظ أنّ لإطاعة رسول الله جانبين: الأوّل في نفس الأحكام الجزئيّة، و الآخر في الامور الولايتيّة. و هذان الجانبان كلاهما غير إطاعة الله التي هي عبارة عن إطاعة الأحكام الكلّيّة الواردة في القرآن. لذا فقد كُرّر لفظ {أطِيعُوا} في هذه الآية حيث قال تعالي‌: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ‌} إذ إنّ إطاعة الله غير إطاعة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

40
  • الرسول. فإطاعة الله إطاعة الكتاب أي القرآن، أمّا إطاعة الرسول في الأحكام الجزئيّة و الامور الولايتيّة. لذا ورد لفظ {أَطِيعُوا} متعلّقاً بنفس الرسول أيضاً، ففصل إطاعة الرسول عن إطاعة الله.

  • ثمّ قال تعالي: {وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}.

  • و يتّضح من هذا البيان بشكل جيّد أنّ التشريع مختصّ برسول الله، أمّا اولو الأمر فلا يحقّ لهم التشريع مطلقاً. و يعني التشريع بيان الخصوصيّات و جعل الأحكام الجزئيّة، و هذا إنّما كان يرجع لشخص رسول الله، أمّا اولو الأمر فهم المبيِّنون لتشريع رسول الله ذاك، فهم لا يشرِّعون.

  • لقد وصل الشرع بواسطة رسول الله إلي الناس، لا بواسطة اولي الأمر. و قد تمّت الشريعة بواسطة تشريع رسول الله و نزلت آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}.۱

  • و توضيح هذا الأمر- من لزوم إطاعة اولي الأمر- هو أنّ إطاعة اولي الأمر إنّما تتحقّق في جهة واحدة فقط و هي إطاعتهم في الامور الولايتيّة بحسب كونهم والين للناس. و ذلك أنّ الإطاعة في الامور التشريعيّة كما بيّنا مختصّة برسول الله. و عليه فإنّ الإطاعة لُاولي الأمر ستكون محصورة في مجال الأحكام الولايتيّة. و بما أنّ اولي الأمر مشتركون مع رسول الله في هذه الجهة- أي الإطاعة في الامور الولايتيّة- فإنّ لفظ «أطيعوا» لم يتكرّر هنا، فلم يقل تعالي: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ}‌ وَ أطِيعُوا {أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}‌. و ذلك لأنّ إطاعة الأمر متّخذة مع إطاعة الرسول من هذه الجهة. و الآية الشريفة توجب إطاعة الله و الرسول و اولي الأمر بسياق‌

    1. من الآية ٣، من السورة ٥: المائدة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

41
  • واحد و منهج واحد و لحاظ واحد. و علي ذلك فإنّ تحقّق مقام العصمة في اولي الأمر ضروريّ و إلّا فلا معني لإطاعتهم علي نحو الإطلاق.

  • يستفاد من الآية عصمة القرآن و الرسول و أُولي الامر

  • {أَطِيعُوا اللَّهَ}‌، يعني أنّه يجب عليكم أن تطيعوا القرآن! لما ذا؟ لأنّ القرآن مصون.

  • القرآن ليس كلام البشر، و ليس كلام هوى و هوس، و لا نتيجة أفكار أحد. بل هو كتاب حقّ و فصل، و ليس بكتاب هزل.

  • و القرآن مصون، أي أنّ القرآن هو الكتاب الوحيد الذي نزل علي القلب المبارك للنبيّ بعين عباراته دون تغيير «فاء» أو «واو». و لقد نزل الإنجيل و التوراة بالمعني، و عباراتهما هي عبارات نفس موسى و عيسى عليهما السلام. أمّا القرآن فليس كذلك، و إنّما عباراته نفس الوحي، و لا يوجد في العالم كتاب كالقرآن ألفاظه وحي، و هذا هو منتهي المصونيّة.

  • و إنّما يجب علي الإنسان إطاعة المصون، لأنّه حقّ. المصون يعني الحقّ و المتحقّق بالحقّ في مقابل الباطل‌ {فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}‌.۱ فالقرآن إذَن كتاب حقّ، و علي الإنسان أن يتَّبعه. و عليه فالقرآن معصوم و مصون.

  • ثمّ إنّه تعالي يقول: {وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ}‌. لما ذا؟ لأنّ الرسول معصوم لا يرتكب الخطأ و الذنب. و في هذه الحال فلا تناقض هناك في إطاعة الله و إطاعة الرسول، و إلّا فلو لا كان الرسول يُخطئ أحياناً و يقول شيئاً بخلاف القرآن لما قال الله سبحانه و تعالي أطيعوا الله و أطيعوا الرسول، فالأمر ليس كذلك بالطبع.

    1. ذيل الآية ٣٢، من السورة ۱۰: يونس.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

42
  • فهو إذَن حين يقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ}، فإنّ معناه أنّ إطاعة رسول الله لجهة المصونيّة و المحفوظيّة في صفّ إطاعة الله- التي هي إطاعة آيات القرآن- و أنّ هاتين الإطاعتين في مساق واحد. و أنّ رسول الله معصوم هو الآخر، و أنّ هاتين الطاعتين ليستا إطاعتين متضادّتين.

  • أمّا بالنسبة لُاولي الأمر فإنّ المطلب بهذا النحو أيضاً. أي بنفس النحو الذي يقول فيه: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول. فإنّه يقول أيضاً: أطيعوا اولي الأمر، فأُولو الأمر أيضاً معصومون، و أوامرهم ليست خلاف أوامر الكتاب و ليست خلاف آيات الله، و لا خلاف إطاعة رسول الله، سواء من ناحية التشريع أو من ناحية خصوصيّات الأوامر الولايتيّة الصادرة عنهم.

  • و عليه فإنّ هذه الآية تدلّ إجمالًا علي أنّ اولي الأمر يجب أن يكونوا معصومين حتماً، و قد أمرنا الله تعالي بسياق واحد بوجوب طاعتهم، و أنّهم واجبي الطاعة.

  • مورد النزاع في‌ {تَنازَعْتُمْ} لا يمكن أن يشمل النزاع مع أُولي الامر في أمر الولاية

  • ثمّ يقول تعالي بعد ذلك‌ {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ‌} و بما أنّ الخطاب خطابٌ للمؤمنين: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}‌. فإذا تنازعتم أو تخاصمتم في اموركم الشخصيّة و الحياتيّة فأرجعوا فصل خصومتكم إلي الله و رسوله، و اجعلوا مرجعكم في حلّ المشكلة الله و رسولَه.

  • فَلِمَ لَمْ يقل: فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ و الرَّسُولِ وَ اولِي الأمْرِ؟

  • ذلك لأنّه قد بُيِّن أنّ اولي الأمر ليس لهم شأنيّة التشريع، و إنّما وظيفتهم إصدار الأوامر الولايتيّة فحسب. و الله تعالي يريد القول هنا إنّكم‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

43
  • إذا تنازعتم فإنّ مرجعكم تلك الأحكام الكلّيّة الموجودة في الكتاب، أو الجزئيّة التي بيّنها رسول الله، و أولو الأمر أيضاً تابعون لرسول الله في الأحكام الجزئيّة، و لا استقلال لهم من أنفسهم. فالمرجع في رفع الخصومة إذَن (في ناحية توضيح المسألة و بيانها و حلّها) يجب أن يكون كتاب الله في الأحكام الكلّيّة، و سنّة رسول الله في المصاديق و الأحكام الجزئيّة. و هو أمر بيّن و جليّ أنّكم إذا اختلفتم أيّها المؤمنون- المخاطبون من قبلي- فمرجعكم هو الله و رسوله. و لذا لم يرد لفظ «اولي الأمر» هنا لهذا السبب.

  • و نستفيد من هنا عدم صحّة ما ذُكِر في بعض تفاسير أهل السنّة و تفاسير بعض من حذا حذوهم حيث قالوا: إنّ السبب في أنّه تعالي لم يقل هنا: فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَ الرَّسُولِ وَ اولِي الأمْرِ هو أنّه: فَإن تَنَازَعْتُمْ أي تنازعتم مع نفس اولي الأمر في أصل مسألة الولاية. كما لو قال اولو الأمر مثلا: نحن أصحاب الولاية و كان رأيكم بخلاف ذلك. ففي هذه الصورة يكون مرجعكم كتاب الله و رسوله. ذلك أنّ اولي الأمر أنفسهم أحد أطراف النزاع، و لم يبقي ثمّة معني هنا لأن نقول ارجعوا إلي اولي الأمر و لذا فإنّه تعالي لم يقل هنا و إلي اولي الأمر منكم.

  • و هذا الكلام خاطئ، جدّاً و باطل، و ذلك لأنّه عند ما يوجب الله تعالي في صدر الآية إطاعة اولي الأمر علي نحو الإطلاق، فلا معني لأن يقول بعد ذلك: إذا تنازعتم مع اولي الأمر في أصل مسألة الولاية فارجعوا إلي الله و رسوله! فيجعل إطاعة اولي الأمر من جهة واجبة علي الناس بينما يقول من جهة اخرى: إذا تنازعتم معهم فارجعوا إلي الله و الرسول!

  • كأن يقول الله تعالي: أطيعوا الرسول لكن إذا تنازعتم معه فافعلوا الشي‌ء الفلاني. أو يقول: أطيعوا القرآن «أطيعوا الله» لكنّكم إذا وجدتم في بعض الموارد إشكالًا في القرآن فارجعوا إلي التوراة مثلًا! فهذا الكلام‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

44
  • خطأ.

  • و هكذا عند ما يقول الله تعالي: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}‌. فيوجب علينا إطاعة اولي الأمر ثمّ يقول: إذا تنازعتم مع اولي الأمر فافعلوا كذا، فإنّ هذا التفريع سيكون خطأً و لا معني له.

  • علّة عدم الإرجاع إلي أُولي الامر في التنازع هي عدم كونهم مشرّعين‌

  • فليست علّة عدم ذكر اولي الأمر- إذَن- ما توهّمه اولئك، و إنّما ما ذكرناه من أنّ اولي الأمر لا شأن لهم بتشريع الأحكام.

  • لقد كان دور الإمام الصادق و الإمام الباقر و الرضا و صاحب الزمان عليهم السلام بأجمعهم بيان الأحكام، فَهل عثرتم حتّى الآن علي مسألة قام فيها الإمام الصادق عليه السلام بجعل تشريع ما؟! فهل قال في موضع ما: صلّوا الظهر ثلاث ركعات؟! أو قال في موضع آخر، آمركم بإتيان المحرّم الفلاني؟! أو يترك الحلال الفلاني؟! أو أنّه قال إنّي اشرِّع من الآن فصاعداً أن لا صلاح في لزوم أن يصلّي الناس الصبح قبل أن تطلع الشمس، فلو صلّوها إلي ما بعد الطلوع بنصف ساعة مثلًا فلا إشكال. و أمثال ذلك.

  • من الواضح أنّ هذا لم يحصل، فجميعهم عليهم السلام يقولون نحن إنّما نقوم ببيان تشريع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلم، و بتوضيح الحدود و القيود التي حدّدها رسول الله لخصوصيّات الأحكام. فالمشرّع إذَن هو الله و رسوله، و علي الإنسان أن يرجع في موارد النزاع التي تواجهه إلي كتاب الله و رسوله، لكي يتعرّف علي وظيفته من تلك المصادر.

  • فهذا هو السبب- إذن- في عدم ذكر اولي الامر هنا، لا ما ذكروه من ذلك التوهّم الباطل.

  • أمّا الآن و قد اتّضحت هذه المسألة فلو أشكل و قيل: إنّه لا شكّ في أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان في حياته يرسل ولاة إلي الأطراف و النواحي كالطائف و اليمن و مكّة و أمثالها، فيُرئسهم علي الناس فكانوا

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

45
  • يأمرون و ينهون، و يعلّمون الناس القرآن. أو أنّه كان يرسل البعض في الحروب بصفة وليّ أو والي، فيكون قائداً و أميراً يقاتل الناس بين يديه، و يكون أمره واجب الإطاعة، مع أنّ هؤلاء الولاة و الامراء لم يكونوا معصومين.

  • أو أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان ينصّب ولاةً من قبله فيرسلهم إلي البلاد المختلفة، و كانوا واجبي الطاعة أيضاً. فالوليّ أو الوالي الذي كان يُرسل من قبل أمير المؤمنين إلي مدينة البصرة مثلًا يجب علي الناس أن يطيعوه مع أنّه ليس معصوماً، و مع أنّه كان يُخطئ أحياناً. لكن بما أنّ أصل جعل و نصب هذا الوالي مشتمل علي مصالح كثيرة، فلو صدر منه خطأ ما في بعض الأحيان، أو اشتبه في بعض ما يأمر به أو ينهي عنه، فإنّ هذا الخطأ يُتدارك بما في جعله من مصلحة.

  • و هذا ما يسمّي بـ «المصلحة المتداركة». أي أنّنا نوافق علي أنّ الولاة يخطئون في بعض الأحيان، لكنّ خطأهم قليل إلي درجة أنّه يُتدارك بمصلحة أصل تعيينهم. و أساس الأمر أنّ أصل تعيينهم يجب أن يحصل، و إذا دار الأمر بين ألّا يرسل أمير المؤمنين والياً إلي البصرة فتبقي البصرة بلا والٍ، أو أن يرسل والياً قد تصدر منه بعض الاشتباهات، فمن المؤكّد أنّ إرسال ذلك الوالي الذي يُخطئ في بعض الامور أفضل من عدم إرساله والياً أساساً و من ترك الناس دون والٍ و مدبّر.

  • فما الإشكال إذَن فيما لو قلنا بهذا أيضاً في آية: «اولي الأمر» فنقول: إنّ الله تعالي يقول في الآية {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}‌. إنّه أطيعوا اولي أمركم (كمثل الأفراد الذين يرسلهم رسول الله أو أمير المؤمنين عليهما السلام بصفة قادة في الحرب أو ولاة علي المدن) فهؤلاء أيضاً واجبي الطاعة، ذلك أنّ المصلحة التي يتضمّنها أصل تعيينهم‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

46
  • كبيرة إلي درجة تغلب مفسدة الأخطاء التي قد تصدر منهم. فما الإشكال لو قلنا إنّ اولي الأمر ليسوا معصومين، و إنّما هم نفس اولئك الولاة و الذين يسمّون في العرف و العادة باولي الأمر!

  • و الجواب هو أنّ هذا التصوّر في حدّ نفسه و في مقام الثبوت و الفرض لا إشكال فيه (بأن يقوم النبيّ بعمل كهذا، فينصِّب شخصاً غير معصوم لأجل تلك المصلحة، و يكون ذلك الشخص بالطبع الأفضل مائة بالمائة بالنسبة إلي بقية الأشخاص، لكنّه ليس معصوماً و يصدر منه الخطأ) لكنّ كلامنا ليس في مقام التصوّر و الإمكان و الثبوت و إنّما هو في ظهور الآية. فالآية لها ظهور في أنّ عليكم اتّباع اولي الأمر، و أنّهم معصومون. و ذلك لأنّ الآية الشريفة توجب إطاعة الله و رسوله و اولي الأمر باسلوب واحد و سياق واحد. و كما أنّ العصمة موجودة حتماً في إطاعة الله و الرسول فقد أوجبت إطاعة اولي الأمر أيضاً علي هذا الأساس، و الآية ظاهرة في ذلك.

  • فالآية إذَن تقول: يجب إطاعة اولي الأمر لأنّهم معصومون، و بحثنا الآن في ظهور الآية و مفادها، أمّا إمكان إطلاق عنوان اولي الأمر في نفسه و بحسب المعني اللغويّ علي غير المعصوم أيضاً فهو محفوظ في محلّه.

  • و ما يتّصل ببحثنا هو الظهور الذي نريد استفادته من الآية، و الآية أيضاً ظاهرة في هذا المعني، لا شكّ في ذلك و لا ريب.

  • و قد اعترف الفخر الرازيّ أيضاً بهذا في تفسيره، و إن كان لا يري عصمة اولي الأمر۱ لكنّه يقول: مَهما يكن من أمر فإنّ اولي الأمر يجب أن يكونوا معصومين. و من ثمّ لكي يحفظ العصمة في اولي الأمر يقول:

  • يجب أن يجتمع أشخاص من أهل الحلّ و العقد مع بعضهم، و عندها

    1. «تفسير الفخر الرازيّ» ذيل آية اولي الأمر: الآية ٥٩، من السورة ٤: النساء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

47
  • يجعل الله العصمة لاجتماع هؤلاء الأشخاص الذين ينتخبون «ولي أمر» لشئونهم، فتجعل هذه المشورة التي بين أهل الحلّ و العقد معصوماً. إذَن هذا الرأي الناتج عن المشورة يمتلك العصمة. و أراد ترتيب الأمر بهذا النحو مع أنّ نفس هذا الكلام فيه إشكالات. و كلامنا حاليّاً في هذه الجهة فقط، و هي اعتراف الفخر الرازيّ- و هو من مخالفينا- بأنّ اولي الأمر مهما كانوا يجب أن يكونوا معصومين.

  • و عليه فلا مفرَّ من الالتزام بأنّ اولي الأمر أشخاص معصومون عن الخطأ و الذنب. و جميع المسلمين مجمعون علي أنّ أحداً لم يدَّع العصمة الولايتيّة في هذه الآية في حقّ أحد إلّا ما تدَّعيه الشيعة في حقّ أئمّتهم الاثني عشر صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين، و عليه فالآية طبعاً تنطبق عليه فحسب.

  • عهد أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر مبينٌ لتفسيرنا

  • و الشاهد علي هذا المطلب هو العهد الذي كتبه أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر حين ولّاه علي مصر حيث يقول فيه: "وَ ارْدُدْ إلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطْوبِ وَ يَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الامُور؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِقَوْم أحَبَّ إرشَادَهُمْ: «يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللهَ وَ أطِيعُوا الرَّسُولَ وَ اولِي الأمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَي‌ءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَ الرَّسُولِ» فَالرَّدُّ إلَى اللهِ: الأخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ وَ الرَّدُّ إلَى الرَّسُولِ: الأخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمَفَرِّقَةِ".۱

  • ما يضلعك من الخطوب أي تلك المشكلات التي تصيب جنبك و ضلعك، و تصيبك من أطرافك و جوانبك، و فعليك أن تردّ تلك الامور الهامّة

  •  

    1. «نهج البلاغة» باب الرسائل، الرسالة ٥٣، و بطبعة مصر مع تعليقة الشيخ محمّد عبده، ج ٢، ص ٩٣ و ٩٤.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

48
  • إلي الله و رسوله، و أن تردّ أيضاً تلك الامور التي تشتبه عليك إلي الله و رسوله، لأنّ الله تعالي قال لُاولئك الذين أحبّ إرشادهم و هدايتهم: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ‌} فما الذي يعنيه الردّ إلي الله؟

  • هو الأخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ‌، فهذا هو الرّد إلي الله، وَ الرَّدُّ إلَى الرَّسُولِ: الأخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ.

  • سنّته الجامعة: أي التي تجمع جميع المصالح و جميع الأشخاص، كلّ القلوب و كلّ المحاسن و ليست مفرّقة، و لا مسبّبة للفرقة و الانفصام.

  • و عليه، يجب الرجوع إذَن في كلّ المشكلات و الخطوب إلي محكم الكتاب و سنّة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، الجامعة و الغير مفرّقة.

  • كان هذا بحثنا حول هذه الآية المباركة، و التي كانت أوّل آية من القرآن تدلّ علي عصمة الأئمّة و وجوب إطاعة الإمام المعصوم بقيد كونه معصوماً. و نأمل بهذا التوضيح الذي قمنا به ألّا يبقي و لا يكون هناك محلّ للإشكال و الشبهات، و ليس هناك من إشكال إن شاء الله تعالي.

  • و لذا نري أنّ كبار علماء الإسلام من الزمان الأوّل إلي الآن أمثال الشيخ المفيد، و الحرّاس الولائيّين من المتكلّمين من أمثال الخواجة نصير الدين الطوسيّ، و العلّامة الحلّيّ، و كبار مفسّري الشيعة قد أخذوا هذه الآية علي أنّها من الآيات الدالّة علي عصمة الأئمّة عليهم السلام و ولايتهم.

  •  

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

49
  • الدَّرْسُ الثَّالِثُ: الآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى وَلَايَةِ الإمَامِ الْمَعْصُومِ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

51
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى‌ فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}‌۱

  • هذه آية اخرى من الآيات الدالّة علي وجوب طاعة الإمام المعصوم، و أنّ مَن يستطيع أوّلًا و بالذات أن يحكم بين الناس و يكون واجب الإطاعة هو الممتلك لمقام العصمة، فإنّ علمه علم حضوريّ و إلهيّ، و قلبه متّصل بالحقّ تعالي، و ليست علومه علوماً اكتسابيّة.

  • و شاهدنا في هذه الآية المباركة الاستدلال علي ولاية الإمام لا ولاية الفقيه.

  • و تقريب الاستدلال بهذا النحو: أنّ احتجاج آيات القرآن هنا مبنيّ علي لزوم اتّباع الحقّ. فعلي الإنسان أن يتّبع الحقّ الذي هو عين الواقعيّة و الأصالة و الحقيقة، في مقابل الباطل الفاقد للأصالة و الواقعيّة، و المبتني‌

    1. ذيل الآية ٣٥، من السورة ۱۰: يونس.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

52
  • علي أساس الاعتبارات و الأوهام و الامور السرابيّة و الوهميّة و الخياليّة. الحقّ هو صلب الواقع. و العلوم الحضوريّة للأئمّة عليهم السلام هي عين الحقّ، لأنّ الباطل ليس له طريق إليها، خلافاً للعلوم التي يكتسبها الإنسان من الخارج و المشوبة بالباطل و المحتملة للخطأ و الاشتباه.

  • و لذا يقول الله تعالي في هذه الآية المباركة: إنّ الإنسان يجب أن يتّبع مَن كان قلبه متّصلًا بالحقّ و الحقيقة، لا تدخل فيه أيّة شائبة من البطلان و الآراء الشخصيّة و الأهواء النفسانيّة. و خلاصة الأمر مَنْ لا يميل قلبُه إلي الباطل بأيّ وجه من الوجوه.

  • فبناء الاستدلال في هذه الآيات المباركة الواردة في هذه السورة الشريفة علي هذا الأساس: أي الاستدلال علي لزوم اتّباع الحقّ لأنّ الله تعالي يقول: قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ.

  • فبعد أن أخذ الله تعالي بواسطة الاستفهام الإنكاريّ إقراراً بالمعني من المشركين، قبل هذه الجملة: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ} بأنّ الشركاء الذين جعلوهم للّه تعالي لا يستطيعون هداية الإنسان إلي الحقّ، أجاب بلا فصل: {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِ}‌. و من البديهيّ أنّ المقام يستلزم الإجابة الفوريّة علي هذا السؤال و لا ينتظر جواب المخاطب، لذا فقد أجاب فوراً بهذا الشكل فقال: {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِ} ثمّ قالَ: {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى}‌.

  • و نلاحظ هنا أنّه علي أساس مبني لزوم متابعة الحقّ هذا، فقد جعل الله تعالي معادلة بين قوله: {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ} و قوله: {أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى}‌. و الاستفهام يجب أن يكون له طرفان- لأنّ الاستفهام يتردّد دوماً بين النفي و الإثبات- و أحد طرفي الاستفهام هنا: {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ} و طرفه الآخر {أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى} و نحن نعلم أنّ «يَهدِّي» من‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

53
  • باب الافتعال، و أصلها يَهتدي، لأنّه يجوز قلب «التاء» «دالّا» و إدغامها بالدال الاخرى و كسر «الهاء» للمناسبة، فتصبح يَهْتَدِي: يَهْدِي، فلا يهدِّي إذَنْ تعني لا يهتدي، و نري في هذه الصورة أنّ طرفي المعادلة هذين لا يستقبحان في هذا للاستفهام، ذلك لأنّ المعادلة الصحيحة يجب أن تكون بين النفي و الإثبات، فنقول مثلًا: هل جاء زيد أم لم يأت؟ و هو استفهام بين النفي و الإثبات. لكن هل يمكن القول يا تري: هل جاء زيد أم أنّ غرفته مُظلمة؟ كلّا بالطبع فهذا استفهام غير صحيح، فظلمة غرفة زيد لا يمكن أن تكون عِدلًا لمجي‌ء زيد. و علينا أن نقول إذَن: هل جاء زيد أم لم يأت؟ أو نقول مثلًا: هل ذكرت هذا الأمر لعمر و أم لم تذكره؟ بحيث يدور الاستفهام دوماً بين النفي و الإثبات.

  • الآية الشّريفة: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى‌

  • لو كانت هذه الآية هنا: {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي}‌. (يَهْدِي أوْ لَا يَهْدِي) فكان نفياً و إثباتاً، فلا إشكال في الأمر. لكنّ المعادلة في هذه الآية بنحو آخر، فهي تقول: هل الذي يهدي إلي الحقّ أحقّ أن يتَّبعه الإنسان (هَدَى يَهْدِي فعل متعدّي) أم ذلك الذي لا يهتدي إلّا أن يُهدي؟! و الذي لا يهتدي ليس عِدلًا لمن يهدي.

  • و علينا القول هنا: إنّ هذه المعادلة إنّما تصحّ فيما لو كان في كلّ طرف جملة مقدَّرة، كما لو سألتكم: هل جاء زيد أم أنّ غرفته مظلمة؟ و ظلمة غرفة زيد ليس عِدلًا لمجيئه في الاستفهام، لكن حيث إنّا علمنا بالملازمة الخارجيّة أنّ زيداً كلّما جاء أضاء غرفته، و حين لا يكون قد أتي فإنّ غرفته ستكون مظلمة، فعندئذٍ و بدلًا من أن نذكر جزئيّ كلتا الملازمين فإنّنا نذكر إحداها في طرف و الاخرى في الطرف الآخر و نحذف من [كلا] طرفي المعادلة جزءاً.

  • أي بدلًا من أن نقول: هل جاء زيد و غرفته مضاءة أم لم يأت و غرفته‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

54
  • مظلمة؟ فإنّنا نقول: هل جاء زيد أم أنّ غرفته مظلمة؟ و هناك الكثير من الاستعمالات بهذا النحو.

  • و الآية محلّ البحث من هذا القبيل أيضاً و السبب في ذلك هو أنّ لَا يَهِدِّي (لَا يَهتَدِي) إلَّا أن يُهْدَى لا يمكنها أن تكون عِدلًا لـ أ فَمَن يَهْدِي لتكون عِدلًا لهذه المعادلة إلّا بتقدير جملتين: إحداها في جانب الإثبات و الاخرى في جانب النفي.

  • فتأتي المعادلة إذَن بهذه الصورة: {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ}‌ وَ يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ‌ {أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا} يَهْدِي إلى الْحَقِّ وَ لَا يَهْتَدِي‌ {إِلَّا أَنْ يُهْدى}‌.

  • بما أنّ في الطرف الآخر للمعادلة: {أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى}‌ أي من لا يهتدي إلّا أن يقوم غيرُه من الناس بهدايته، أي أنّ هدايته غيريّة، ففي هذا الطرف من المعادلة يكون مَن يَهْتَدِي بِنَفْسِه أي من تكون هدايته ذاتيّة دون ما تعلّم أو تعليم أو هداية من الآخرين.

  • فالآية إذَن تريد أن تقول: إنّ مَن يَهدي يجب أن تكون هدايته ذاتيّة و لا يكون ممّن يُهْدَى بالغير و يَهْتَدِي بالتعليم و التدريس، و إنّما يَهْتَدِي بنفسه، و هذا هو العلم الحضوريّ. فالذين يمتلكون العلم الحضوريّ قد اهتدوا بأنفسهم بالهداية الإلهيّة.

  • و علي هذا فإنّنا نجعل جملة: أحَقُّ أن يُتَّبَعَ مثل «لسان الميزان» و نقول أنّ في هذا الطرف من المعادلة {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ}‌ وَ يَهْتَدِي بِدُون أن يُهْدَى أي من لا تكون هدايته بالغير، و إنّما من اهتدى بنفسه بهداية ذاتيّة، فهذا أحَقُّ أن يُتَّبَعَ.

  • بينما نقول إنّ في ذاك الطرف من المعادلة {أَمَّنْ لا يَهِدِّي} إلَى الْحَقِّ وَ لَا يَهِدِّي‌ {إِلَّا أَنْ يُهْدى} أي مَن كانت هدايته بالغير. و نتيجة هذه المعادلة هي: إنّ كلّ مَن كانت هدايته غيريّة لا يمكن أن يهدي إلي الحقّ، فالذي‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

55
  • يهدي إلي عين الحقّ يجب أن تكون هدايته ذاتيّة و نفسيّة، و الذي يهدي إلي الحقّ هو من تكون هدايته ذاتيّة و إلهيّة.

  • أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ‌ وَ يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ‌ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي‌ إلى ...

  • و هذا هو معني العلم الحضوريّ الذي له الفعليّة و الذي يكون علماً فعليّاً للشخص الذي يحصل عليه و يُعطاه، فيصونه الله تعالي بواسطة هذا العلم الحضوريّ من جميع الزلّات و الخطايا: و ظهور الآية في هذا المعني- بعد هذا البيان الدقيق- واضح و بيّن جدّاً. و عند ما تكلّمت فيما مضي مع أحد علماء مشهد حول هذه الآية قال: ما هذا الذي تقوله أيّها السيّد! إذ معني الآية ظاهر، و هو أنّه هل من الأفضل اتّباع الذي يهدي الي الحقِّ أم الذي لا يهدي؟ فكيف تستفيدون العصمة من هذا؟!

  • فقلت له: نعم لو كان الشقّ الآخر من الآية: أمَّن لا يَهْدِي و كانت الآية بهذا النحو: أ فَمَن يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أحَقُّ أن يُتَّبَعَ أمَّن لا يَهْدِي و كان هناك نفي و إثبات لكان كلامكم تامّاً. و لكن للقرآن في كلماته و عباراته في كلّ «واو» و «فاء» معني، و قد حصل مكان لَا يَهْدِي، لَا يَهِدِّي و لكي يبيّن أنّ: «يَهِدِّي» ليست هداية ذاتيّة أتي بعبارة إلَّا أن يُهْدَى.

  • و هذا القرآن قول‌ {فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ}‌.۱ فكيف نستطيع أن نأخذ يَهِدِّي الواردة هنا علي أنّها يَهْدِي من دون دليل؟! فنجعل الفعل اللازم متعدّياً، و نضع المعني و المراد الخاصّ بنا في قالب القرآن؟! فهذا ليس بالأمر الصحيح. و يُفهم ممّا بيّنّاه و شرحناه أنّ هذه الآية إنّما وردت فقط في عصمة الإمام (الإمام المعصوم القائم بالامور و الذي يجب أن يقضي و يحكم بين الناس).

  • و من هنا يتّضح أنّ استدلال بعض الأعلام بهذه الآية علي ولاية الفقيه‌

    1. الآية ۱٤، من السورة ۸٤: الطارق.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

56
  • - كما سمعت ذلك بنفسي أحد الأيّام التي كانت تُقام فيها صلاة الجمعة في مقبرة جنّة الزهراء و كنت حاضراً۱- استدلال غير صحيح.

  • اتّحاد مفاد الآية مع آية: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا

  • و هذه الآية من حيث المجموع بمثابة قول الله تعالي‌ {وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ}.٢ يَهْدُونَ بِأمْرِنَا: أي أنّ أمرنا بأيديهم فنحن نمسك برباط قلوبهم من عالم الأمر المختصّ بنا {وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}.٣

  • فيدعون الناس بأمرنا إلي الصراط المستقيم. الأمر يعني نفس المشيئة الحقيقيّة الإلهيّة التي لا خطأ فيها.

  • و علاوة علي هذا فإنّه في جملة {وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ} لم يقل: وَ أوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات، أي ائتوا بالأعمال الحسنة أو أقيموا الصلاة، و إنّما أوحينا إليهم نفس فعل الخيرات، أوحينا إليهم الصلاة، و أوحينا إليهم الزكاة. يعني أنّ وجودهم مصداق للصلاة و الزكاة.

  • و هذه الآية بعد ذكر إبراهيم عليه السلام‌ {فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً}٤. و قولهم‌ {حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ}‌.٥. و بعد ذكر لوط و إسحاق و يعقوب عليهم السلام الذين وهبهم الله لإبراهيم بصفة نافلة. لقد وردت هذه الآية بعد ذلك و قالت وَ {جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا}. و بناءً عليه فإنّ ضمير «هُمْ» يرجع إلي هؤلاء الأنبياء المذكورين.

    1. مقبرة عامّة قرب مدينة طهران تسمّي (بهشت زهراء) في فترة اقيمت فيها صلاة الجمعة. (م)
    2. الآية ۷٣، من السورة ٢۱: الأنبياء.
    3. الآية ٥۰، من السورة ٥٤: القمر.
    4. صدر الآية ٥۸، من السورة ٢۱: الأنبياء.
    5. جزء من الآية ٦۸، من السورة ٢۱: الأنبياء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

57
  • و هذه الهداية للأمر هي نفس العلم الحضوريّ، كما أنّ الشخص الذي يهديه الله من عالم الأمر لا يعود بحاجة إلي العلوم الاكتسابيّة و الأهواء و الآراء و النيّات و أباطيل الناس التي لم يتميّز فيها الحقّ من الباطل، و لم يصر فيها العلم علماً صِرفاً و خالصاً. فهؤلاء يُهدون من هذا العالم لعالم الأمر الذي هو أمر الله، و لا توجد هناك أيّة شائبة بطلان و زَلَلٍ و اشتباه.

  • و هي كذلك بمثابة الآية الاخرى من القرآن التي تقول: {وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ‌}.۱ و هذه الآية جاءت بعد ذكر موسى عليه السلام في قوله تعالي: {وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ‌}.٢

  • و بناءً عليه فإنّ ضمير جمع الغائب في قوله تعالي: {وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} يرجع إلي بني إسرائيل. أي أنّ الله قد جعل بعض أنبياء بني إسرائيل أئمّة، و فوّض إليهم من بين الأنبياء سمة الولاية و الإمارة هذه. و هي آية اخرى من آيات القرآن الدالّة علي العصمة و لزوم متابعة الإمام. حيث يجب أن يكون الإمام ممتلكاً للمصونيّة من الباطل و الآراء الشخصيّة و الأهواء. و يجب أن يكون علمه حضوريّاً و متحقّقاً بالحقّ بشكل حتميّ.

  • آية: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ‌

  • و من الآيات الاخرى التي تدلّ علي ولاية المعصوم قوله تعالي: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‌ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.٣

  • و هو خطاب من الله تعالي إلي داود علي نبيّنا و آله و عليه السلام.

    1. الآية ٢٤، من السورة ٣٢: السجدة.
    2. الآية ٢٣، من السورة ٣٢: السجدة.
    3. صدر الآية ٢٦، من السورة ٣۸: ص.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

58
  • خَلِيفَة الله: هُوَ الَّذِي تَجْتَمِعُ فِيهِ الصِّفَاتُ الْعَبُودِيّةِ بِتَمَامِهَا الْمُحَاذِيَةُ لِلصِّفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ لِذَاتِهِ جَلَّ شَأنُهُ بِتَمَامِهَا، وَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْعِصْمَةِ «عَبْدِي أطِعْنِي حَتَّى أجْعَلَكَ مِثْلِي، أوْ مَثَلَي» و هذه الخلافة بهذه الخصوصيّة التي بُيّنت بنحو الإطلاق و التي لم تكن خلافة من جهة دون جهة لا تتحقّق إلّا بالعصمة. أي أنّ ذلك الشخص الذي له العصمة بكلّ ما للكلمة من معني هو الذي يكون خليفة الله بكلّ ما للكلمة من معني. و إلّا كان خليفة الله في جهة دون جهة؛ أي كان فيه نقصان من جهة و مزيّة من جهة اخرى، و بناءً عليه فالعصمة من لوازم و آثار هذه الخلافة.

  • و تقريب الاستدلال بهذه الآية الشريفة هو أن نقول: إنّ الله تعالي قد فرّع هنا جواز الحكم بين الناس علي كون داود خليفة الله في الأرض‌ {إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}. فعلي أيّ شي‌ء تفرّع الحكم بين الناس؟ علي كونه خليفة الله.

  • فإذا ما اعترض أحد أوّلًا بأنّ الآية الشريفة جعلت وجوب الحكم متفرّعاً علي الخلافة، و عليه فلن تكون نافية للجواز عن غير النبيّ أو الوصيّ.

  • و ثانياً: بأنّ الحكم بالحقّ بين الناس هو الذي فُرِّع علي الخلافة، لا أصل الحكم، و عليه فإنّ التفريع في الآية سيرجع إلي قيد الحكم، الذي هو «بالحقّ»، فالآية الشريفة إذَن لا تكون متعلّقة ببحث «إثبات ولاية و حكومة المعصوم».

  • فيجب أن نقول جواباً علي كلا الإشكالين كما قال المرحوم الحاجّ الشيخ محمّد حسن الآشتيانيّ في كتاب القضاء أنّه أوّلًا: إنّ الأمر إذا وقع في مقام توهّم الخطر فإنّه يفيد الجواز، لا الوجوب. و ثانياً: إنّ ظهور الآية في تفريع الحكم بالحقّ، بنحو القيد و المقيّد جميعاً، علي الخلافة الإلهيّة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

59
  • بلا إشكال.

  • و من الآيات الاخرى التي يمكن الاستدلال بها علي لزوم اتّباع الإمام المعصوم هي الآية المباركة التي يقول الله تعالي فيها لرسوله الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم:

  • {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً}.۱ بل لتكون مدافعاً عن المؤمنين ضد الخائنين.

  • و الاستدلال بهذه الآية متوقّف أيضاً علي لزوم انحصار التبعيّة للحقّ، و عدم وجود فصل بين الحقّ و الباطل. حيث جاء في القرآن الكريم: {فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ‌}.٢. فليس ثمّة فاصل بين الحقّ و الباطل. فإذا عدلتم عن الحقّ وقعتم في شراك الباطل. و لا يمكن أن يجد الإنسان مكاناً يكون برزخاً بين الحقّ و الباطل. فإذا كان ثمّة أمر متحقّق بالحقّ و كان واقعيّاً صرِفاً فذلك هو الحقّ، و إلّا فهو باطل. و لا وجود لبرزخ بين الحقّ و الباطل.

  • و الآية هنا تقول: لقد أنزلنا إليك القرآن بالحقّ. يعني عين الحقّ و الحقيقة و صلب الواقع و الأصالة، بحيث لا تكون فيه شائبة من الآراء الشيطانيّة و الأفكار النفسانيّة و الآراء الشخصيّة و المطالب التي لا تنطبق علي حقيقة الواقع. و إنّما أنزلنا عليك من أخبار الماضين و القوانين و المعارف ما هو صلب الواقع و حاقّ الحقيقة، لكي تحكم‌ {بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ}.

  • فتلك الرؤية التي أعطاكها الله تعالي إذَن رؤية معطاة علي أساس هذا

    1. الآية ۱۰٥، من السورة ٤: النساء.
    2. ذيل الآية ٣٢، من السورة ۱۰: يونس.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

60
  • الحقّ و أساس حقيقة نزول القرآن هذه. و رؤيتك تلك علم حضوريّ و وجدانيّ، لأنّنا إنّما أنزلنا عليك القرآن لتحكم‌ {بِما أَراكَ اللَّهُ} أمّا إذا لم يكن نازلًا بالحقّ لم تكن رؤيتك رؤية إلهيّة، و لكانت رؤية شخصيّة و مشوبة بالباطل.

  • و عليه فإنّنا عند ما أنزلنا القرآن بالحقّ فلأجل أن تكون نظرتك و فكرك حقّاً متّصلًا بالغيب و الأصالة و الحقيقة (و هذا معني العلم الحضوريّ و الوجدانيّ)، لكي تحكم بين الناس‌ {بِما أَراكَ اللَّهُ}‌. و هذا متفرّع علي نزول القرآن بالحقّ. فنزول القرآن بالحقّ علي قلب النبيّ- و هو الواعي للوحي الإلهيّ، و المتلقّي للأسرار اللاهوتيّة و الجبروتيّة و الملكوتيّة للّه- علّة لكي يترتّب عليه معلوله. و معلوله هو الحكم بين الناس بما أراه الله و هو الحقّ. فنحن أنزلنا القرآن لكي تحكم بين الناس بما أراك الله الذي هو الحقّ.

  • آية: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ‌

  • و من الآيات القرآنيّة الاخرى هذه الآية: {كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}.۱

  • في هذه الآية أيضاً كان الحكم بين الناس في المسائل المختلف فيها متفرّعاً علي نزول الكتب علي الأنبياء بالحقّ. و يُستفاد هنا أيضاً بنفس التقريب الذي بيّناه في الآية السابقة أنّ الحكم بين الناس يجب أن يكون مترتّباً بالحقّ. و هو نزول الكتاب بالحقّ علي الأنبياء.

  • و من الآيات الاخرى هذه الآية: {وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ‌٢ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ‌

    1. صدر الآية ٢۱٣، من السورة ٢: البقرة.
    2. أي التوراة و الإنجيل و غيرهما.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

61
  • وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}.۱

  • فهو لم يقل: لا تتبع أقوالهم و لا كلامهم و لا حتّى فكرهم، و ذلك لأنّ لها أصالة و واقعيّة، لذا لم يذكر أيّاً من هذه التعبيرات، و إنّما قال‌ {وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ}‌ و الأهواء تعني الأفكار الخالية و الجوفاء بلا محتوى.

  • و قد استعمل هذا اللفظ في كثير من آيات القرآن المجيد، أي أنّ أفكارهم جوفاء و أهواء و باطل. لقد أنزلنا القرآن عليك بالحقّ لكي تحكم بينهم‌ {بِما أَنْزَلَ اللَّهُ}، حيث إنّ ذلك الحكم بالحقّ. و بالطبع فإنّ هذا الحقّ قد صار متحقّقاً، {وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ}‌ ثمّ يقول بُعَيْد هذا الكلام: {وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}‌.٢

  • فاحذر أن تتأثّر و لو شيئاً قليلًا بآرائهم الشخصيّة و خيالاتهم، لأنّ تلك الأهواء باطلة و شيطانيّة لا أصالة لها، و أنّ ما أنزله الله إليك هو عين الحقّ و الحقيقة.

  • و تقريب الاستدلال بهذه الآية الكريمة أيضاً علي وجوب اتّباع المعصوم كما سبق، و ذلك لأنّ الحكم بما أنزل الله قد فُرِّع علي نزول الكتاب بالحقّ، أي أنّه بما أنّا أنزلنا الكتاب عليك بالحقّ، لذا فإنّك أنت الذي يجب أن تحكم بين الناس، أمّا مَن لم يتحقّق بالحقّ، فليس له حقّ الحكم بين الناس.

  • و من آيات القرآن المباركة الاخرى هذه الآية: {فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ‌

    1. صدر الآية ٤۸، من السورة ٥: المائدة.
    2. صدر الآية ٤٩، من السورة ٥: المائدة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

62
  • وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.۱

  • فلا يكون هناك حرج و لا ضيق في صدر مَن يُحكم عليه، إذ إنّه من الطبيعيّ أن يكون الحكم لشخص علي شخص، وَ يُسلِّمُوا تَسْلِيماً بِكُلّ ما للكلمة من معني، كأن يكون الحكم للشخص علي حدّ سواء، كان الحقّ له أو عليه.

  • و هذا هو الإيمان، و في تلك الحال فإنّهم سيكونون قد آمنوا، و الأمر كذلك أيضاً في الواقع. و ذلك لأنّ قلب النبيّ و وجوده عين الحقّ و عين الواقع، أ فيمكن أن يحكم بالباطل؟! إنّ مثله في ذلك مثل الله، فهل يمكن أن يحكم الله بالباطل. مع اطّلاعه علي جميع العلوم و الوقائع؟! و عليه فإنّ وجود الموجودات هو العلم الحضوريّ للّه، و العلم الفعليّ الحضوريّ للّه هو نفس الموجودات.

  • لقد أراد النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم أن يُقسّم خُمس غنائم حُنين فأعطي سهماً أكبر بقليل لبعض المسلمين حديثي العهد بالإسلام، فجاءه أحد أصحابه و قال له: يا رسول الله اعدِل! فأجابه النبيّ: "وَيْحَكَ! إنْ لَمْ أعْدِل فَمَنْ يَعْدِل؟!"

  • و حصل في إحدى تلك التقسيمات أيضاً أن قيل إنّ محمّداً صلّى الله عليه و آله و سلّم لم يعدل في التقسيم، فسمع ابن مسعود بهذا الأمر فقال: و الله لا أبرح حتّى أذهب إلي النبيّ و أنقل له ما قاله ذلك الشخص في حقّه. فجاء إلي النبيّ و نقل له ذلك. فانزعج النبيّ و صار في منتهي الغضب و التأثّر، و قال ما مضمونه. ما ذا أفعل يا ربّ؟! و الله لقد تحمّل أخي موسى من أنواع الأذى هذا و صبَر علي كلام قومه، فإن أنا لم أعدل فمن الذي‌

    1. الآية ٦٥، من السورة ٤: النساء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

63
  • يعدل؟!

  • لقد كان هذا الشخص يحبِّ أن يحكم النبيّ لصالحه و يعطيه مائة ناقة أو ألف ناقة من هذه الغنائم، لكنّ النبيّ لم يعطه ذلك، و قسّم الغنائم وفق المصلحة التي يراها (و بالطبع فلم يكن تصرّفه ذلك في المقدار الذي كان يجب تقسيمه بين الجميع بالسواسية، بل في ذلك المقدار من الخمس من الغنائم الذي كان للنبيّ حرّيّة أن يتصرّف فيه) و حين لا ينال الناس ذلك فإنّهم ينزعجون.

  • بَيْدَ أنّ هؤلاء لا يؤمنون، و لا يصلون إلي حقيقة الإيمان إلّا حين يأتون في جميع مُرافعاتهم و مشاجراتهم إليك أنت لا إلي غيرك فيحكّموك بينهم، و حين تحكم بينهم يرجعون من عندك بمنتهى طمأنينة القلب و سكون الخاطر دون أيّ قلق أو دغدغة في صدورهم، فعندها سيكونون مؤمنين.

  • لقد جعل الله تبارك و تعالي هنا نفس النبيّ مركز الحكم بنحو يتوجّب معه علي جميع الناس أن يلتفّوا حوله و يطوفوا به، و أن يجعلوه محوراً لحلّ مشاجراتهم و مخاصماتهم، و أن لا يكون ثمّة إحجام عنه أبداً. فالنبيّ المعصوم- إذَن- هو مركز الحكم، و يجب علي الناس اتّباعه، و هذا هو معني الولاية، أي وجوب إطاعة الناس للأوامر و النواهي و الأحكام التي يصدرها النبيّ، سواءً في المخاصمات و المشاجرات أو في الامور الاخرى التي يصدر الأوامر الولايتيّة بين الناس فيها.

  • إن قضاء و حكم النبيّ منشعب من نورانيّته النفسيّة صلّى الله عليه و آله و سلّم حيث إنّ نور الله قد تجلّي فيها، فصارت متخلّقة بأسماء و صفات الله سبحانه و تعالي و متحقّقة بالعلوم الكلّيّة. لقد تجاوز قلب النبيّ الجزئيّة و ارتبط بالكلّيّة، و تحقّق بالعلوم الكلّيّة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

64
  • آية: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ‌

  • و الآية السابقة لهذه الآية هي: {وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}‌ (حيث يستفاد من هذه الآية أيضاً وجوب الإطاعة، إذ إنّ لكلّ نبيّ ولاية، و علي الناس أن يتّبعوه و يطيعوه) {وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}.۱ أي أنّ الله سيعفو عنهم.

  • و لكن ما العمل؟ فإنّ الناس لا ينصاعون و لا يخضعون و لا يُسلّموا تسليماً. فهم لا يرجعون إلي النبيّ أصلًا، فكيف يجعلونه حكماً دون أن يحسّوا في قلوبهم بأيّ حرج.

  • نتيجة اتباع الولاية هي المعية معها

  • و يقول تعالي بعد هذه الآية: {وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ}.٢

  • مع أنّه‌ {وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً ، وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ، وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً}.٣

  • ثمّ يقول: {وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ، ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفى‌ بِاللَّهِ عَلِيماً}.٤

  • حيث إنّ الذين يتّبعون النبيّ يصلون بسبب ولايتهم للنبيّ، إلي حيث يكونون في حالة معيّة معه، و هذا بنفسه ولاية، لذا يمكن استفادة الولاية من هذه الآية، كما يمكن استفادة وجوب اتّباع هؤلاء الأشخاص الذين‌

    1. الآية ٦٤، من السورة ٤: النساء.
    2. صدر الآية ٦٦، من السورة ٤: النساء.
    3. الآية ٦٦ و ٦۷، من السورة ٤: النساء.
    4. الآية ٦٩ و ۷۰، من السورة ٤: النساء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

65
  • يكونون في حالة من المعيّة مع النبيّ.

  • و مفاد هذه الآية هو نفس مفاد الآية التي نقرأها كلّ يوم في الصلاة: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ}‌.۱

  • و هنا يقول تعالي أيضاً {وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً}، و إنّهم يصيرون مع النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين. و خلاصة الأمر أنّهم يتّحدون معهم فيدخلون بأجمعهم في معدن الولاية الإلهيّة حيث لا انقطاع هناك و لا تميّز و {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ}.

  •  

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّد

    1. الآية ٦ و ۷، من السورة ۱: الفاتحة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

67
  •  

  •  

  • الدرس الرابع: بقيةُ الآيات و بعضُ الروايات: الدَّالَّةِ عَلَى وَلَايَةِ الإمَامِ الْمَعْصُومِ.

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

69
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • إحدى الآيات القرآنيّة المباركة التي يمكن الاستدلال بها علي ولاية رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم هذه الآية:

  • {وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً}.۱

  • {وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ} «مؤمن» و «مؤمنة» جاءا نكرة في سياق النفي، لذا يفيدان العموم. أي أنّه ليس لرجل مؤمن أو امرأة مؤمنة- سواء كانا في زمان رسول الله أم بعده إلي يوم القيامة- و كلّ من يصدق عليه عنوان المؤمن و المؤمنة بلا فرق بين العرب و العجم، و الأبيض و الأسود: و مهما كان و أيّاً كان إذا ما حكم الله و رسوله بأمر في حقّه أو اتّخذا قراراً

    1. الآية ٣٦، من السورة ٣٣: الأحزاب.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

70
  • بشأنه، فلا خيار له في نفسه، فأمر الله و رسوله و قرارهما بشأنه مقدّم.

  • {قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ‌}: حُكم الله هو حكم الكتاب و القرآن الكريم، أمّا حكم رسول الله فهو الأحكام الأعمّ من المسائل و الموارد الجزئيّة (التي تفريعها بيد النبيّ) أو الامور الولايتيّة (الأمر و النهي). و قد ذكرنا سابقاً في ذيل آية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ}‌ أنّ إطاعة الله هي بمعني إطاعة القرآن و الأحكام الواردة فيه بالخصوص.

  • فبعد أن يرد حكم من الله في القرآن فإنّ أحداً لا يمكنه التخلّف و سواء كان هذا الحكم عامّاً أم وارداً في مسألة خاصّة.

  • فقد نزلت هذه الآية الكريمة مثلًا حول ولاية أمير المؤمنين عليه السلام بخصوصها و هي قوله تعالي:

  • {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ}‌.۱ و هذا حكم شخصيّ.

  • و الأمر كذلك في الأحكام الكلّيّة، فعند ما يحكم الله و رسوله بحكم (من أمر أو نهي في حقّ مؤمن أو مؤمنة) فإنّهم- أي المؤمن و المؤمنة- لا يملكون آنذاك حقّ الاختيار. أي أنّهم يجب أن يجعلوا إرادتهم و اختيارهم تحت اختيار و إرادة الله و رسوله، و يجب أن تحكم عليهم مشيئة الله و رسوله و إرادتهما، و أن يكونوا تحت سيطرة اختيار الله و رسوله، و أن يروا اختيار الله و رسوله مقدَّماً علي اختيارهم. و هذا أمر واجب و لازم و حياتيّ يعدّ التمرّد عليه معصيةً كبيرة و ضلالًا مبيناً.

  • {وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ}‌ أي كلّ من يعص ما حكم الله به في القرآن الكريم أو ما أمره به رسوله أو نهاه عنه في الموارد الجزئيّة {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا

    1. صدر الآية ٦۷، من السورة ٥: المائدة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

71
  • مُبِيناً} و ذلك لأنّ ما يختاره الإنسان لنفسه هو ما يرتضيه لنفسه. و كلّ إنسان إنّما يرتضي لنفسه ضمن حدود فكره و درايته لا أكثر.

  • آية: النَّبِيُّ أَوْلى‌ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ‌

  • الله و رسوله هما اللذان يمتلكان الإحاطة العلميّة و الإحاطة الحضوريّة لجميع الموجودات، من الإنسان و غيره، و ينظران إلي الإنسان من موقع أعلى و أسمي من افق إدراكاته، و يريان بواطن الإنسان ببصيرة أعجب و دراية أعمق، و يُشخّصان طريق الفساد و الصلاح و يدركان و يعلمان مُنجيات كلّ شخص و مُهلكاته، و هما اللذان يأمران الإنسان من ذلك الافق. و من المؤكّد أنّ أمرهما يوصل الإنسان إلي السعادة و النجاة المطلقة، و هذا أرقي بكثير من تلك المصلحة التي يشخّصها الإنسان و يسعى خلفها بحسب نظره الطفوليّ و علي أساس آرائه و أهوائه الشخصيّة.

  • و هذا بالضبط كمثل ولاية الأب علي ابنه الصغير. فالولد يجب أن يكون خاضعاً لأمر أبويه. فهو بحسب نظره يري في الأمر الفلاني صلاحاً له لكنّ وليّه لا يرتضيه له، لذا يأمره أن يقوم بشي‌ء آخر، فإن خالفه الولد سقط في المتاهات و ابتلي بالمرض و تردّي في مهاوي الهلكة، ذلك لأنّ علمه قليل و درايته ناقصة، و لأنّ تجارب أبيه أكثر منه بكثير و إدراكاته أرقي منه، و لذا فهو خاضع لولايته.

  • و بهذا المنوال فإنّ رسول الله حين يأمر ببعض الأوامر، فلأنّه يمتلك جنبة إحاطة، و لأنّ علمه علم حضوريّ، و ينظر في افق أعلى من افق عامّة الناس، فهو يمتلك العصمة و هو مصون في إدراكاته، لذا يجب علي كلّ مؤمن و مؤمنة أن يخضعوا لأوامره و إلّا هلكوا و قضي عليهم و سقطوا في متاهات عميقه في الضلال.

  • و كذلك فإنّ «أمْراً» في قوله تعالي: {إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً} نكرة أيضاً حيث يستفاد منه العموم بمقدّمات الحكمة أيضاً. فالأمر مهما كان‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

72
  • خاصّاً أم عامّاً تشريعيّاً أم ولايتيّاً، في الامور الشخصيّة أم النوعيّة، عند ما يرد من الله و رسوله فإنّ علي الإنسان أن يطيع دون ما تردّد أو سؤال.

  • و لقد جعل الله العليّ الأعلى في هذه الآية المباركة إطاعة الرسول مع إطاعته تعالي في ميزان واحد و سياق واحد. فقد ورد حكم الله و حكم رسول الله في سياق واحد: {إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ}‌.

  • و هذا يدلّ علي أنّ الأحكام الصادرة من رسول الله و الأقضية و الأحكام التي يحكم بها عالية جدّاً، تلي في المرتبة قضاء الله، بل هي عين قضاء الله. و قد قلنا أنّ الفرق هو في أنّ قضاء الله هو آيات القرآن و الأحكام العامّة. بينما قضاء رسول الله الأحكام الجزئيّة و الأوامر الولايتيّة، و إلّا فليس ثمّة تفاوت بينهما.

  • فعند ما يأمر الله و رسوله فإنّ الاختيار يسقط من جميع الامّة من المؤمنين و المؤمنات فلا يكون لهم «خِيَرَة» في مقابل الله و رسوله، و لا إرادة لهم مقابل إرادة الله و رسوله. و حكم رسول الله هو حكم الله في متانته و إحكامه و استقامته.

  • من الآيات القرآنيّة المباركة الاخرى التي يمكن استفادة ولاية المعصوم منها هذه الآية: {النَّبِيُّ أَوْلى‌ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‌ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى‌ أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً}.۱

  • المقصود من «النبيّ» هو نبيّ الإسلام، حيث إنّ له تلك الأولويّة بالنسبة للمؤمنين.

    1. الآية ٦، من السورة ٣٣: الأحزاب.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

73
  • آية أُولُوا الْأَرْحامِ‌، نسخت آية التوارث بالأخوّة

  • و ولاية النبيّ علي المؤمنين أكثر من ولايتهم علي أنفسهم‌ {وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ}، و عليه فالنبيّ الأكرم يكون أباً للمؤمنين. و لذا قال‌ "أنَا وَ عَلِيّ أبَوَا هَذِهِ الامَّةِ"۱ و ذلك لأنّ جهة رسول الله الولايتيّة جهة فعل؛ و أبَوَا هَذِهِ الامَّةِ ليس بمعني أب و امّ هذه الامّة و إنّما بمعني أنّ كليهما أب للُامّة، فرسول الله أب، و كذلك أمير المؤمنين.

  • {وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‌ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ}.

  • أي أنّ بعضهم أولي ببعض من المؤمنين و المهاجرين الذين يرثون بعضهم.

  • ذلك أن الناس في صدر الإسلام لم يكونوا يرثون بعضهم علي أساس علاقة الرحم و إنّما كانت الوراثة علي أساس الاخوّة الدينيّة. فكان المؤمن يرث المؤمن، و كان الإخوان في الدين يرثون بعضهم بينما لا يرثهم أقرباءهم.

  • و قد عقد النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم بين أصحابه عقدي اخوّة: الأوّل في مكّة بين المهاجرين، و الآخر في المدينة بين المهاجرين و الأنصار، فكانوا إخوة لبعضهم علي أساس عقد الاخوَّة. و حتّى في الإرث أيضاً كان كلّ منهم يرث الآخر عند موته مثل الأخوين.

    1. ينقل ابن شهرآشوب هذه الرواية في كتاب «المناقب» طبعة المطبعة العلميّة في قم: ج ٣، ص ۱۰٥ بألفاظ مختلفة عن كتب العامّة و الخاصّة- و من جملتها «مفردات القرآن» للراغب الأصفهانيّ مع تذييل لطيف:
      قَالَ النَّبِيُ‌ [صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ‌]: «يَا عَلِيُّ! أنَا وَ أنْتَ أبَوَا هَذِهِ الامَّةِ، وَ لَحَقُّنَا عَلَيْهِمْ أعْظَمُ مِنْ حَقِّ أبَوي وِلَادَتِهِمْ فَإنَّا نُنْقِذُهُمْ إن أطَاعُونَا مِنَ النَّارِ إلى دَارِ الْقَرَارِ وَ نُلْحِقُهُمْ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ بِخِيَارِ الأحْرَار». و قد نقل المرحوم المجلسيّ هذا الذيل عن «المفردات» أيضاً في «بحار الأنوار»: ج ٣٦، ص ۱۱، و لكنّ هذا الذيل قد حذف من الطبعات الأخيرة «للمفردات».

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

74
  • و في الواقع فإنّ الأمر يجب أن يكون بهذا النحو، و ذلك لأنّ المؤمنين كانوا في صدر الإسلام قلّة و كان أقرباؤهم في غالبيّتهم كفرة، و إذا لم يرث المؤمنون بعضهم ورثهم الأقرباء الكافرون، فإنّ النتيجة ستكون آنذاك مضرّة للمؤمنين، فقد كانوا يعيشون في غاية الشدّة و العسر، و لم يكن صحيحاً بوجه من الوجوه أن يرثهم الكفّار.

  • و علاوة علي ذلك فإنّ الإيمان هو الذي يبثّ الحياة في الإنسان و يمنحه الروح، و علي الإنسان القيام ببذل المساعي المشتركة في جميع الامور علي أساس الإيمان. و حتّى في الإرث، فالإرث خاصّ بالمسلم و الكافر لا يستطيع أن يرث المسلم.

  • أمّا بعد أن نزلت الآية المباركة: {وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‌ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ}. فقد نسخ ذلك الحكم الأوّليّ و زال حكم الاخوّة من هذه الجهة. و تقرّر أن يرث الناس بعضهم علي أساس علاقة الرحم (فالأب يرث الابن و الابن يرث الأب، و هكذا سائر الأرحام من الطبقات الثلاث للورثة) و أن تكون الأولويّة في الإرث أيضاً بحسب قرب درجة الرحميّة و بُعدها. فبُني التوارث منذ ذلك الحين علي أساس الرحميّة طبقاً لهذه الآية الشريفة.

  • ثمّ يقول تعالي: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى‌ أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً} أي إلّا إذا أردتم أن توصوا من ثلث ما لكم إلي بعض أوليائكم- سواء كانوا الإخوة في الدين أو بعض الأصدقاء الآخرين الذين لا رحم بينكم و بينهم- فهذا أمر لا إشكال فيه، و لكم أن توصوا لهم، فيصل من أموالكم إلي اولئك المؤمنين الذين ليسوا من الأرحام أو ممّن ليس لهم أولويّة في الإرث. و هذا أيضاً عمل حسن.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

75
  • {كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً}. أي أنّه قانون موضوع، فالإنسان يستطيع أن يوصي بثلث أمواله- حيث لا تضييع لحقّ الورثة الرحميّين- فليهبها لإخوانه في الدين. و هذه الوصيّة مقدّمة علي الإرث أيضاً.

  • و بناء علي هذا فإنّ ذلك الباب من المعروف لم يُغلق بشكل كامل، بل أفسح للمؤمنين المجال ليتمكّنوا من إعطاء الثلث من أموالهم علي أساس من الاخوّة لإخوانهم في الدين.

  • و سيبقى هذا الحكم (الإرث من ناحية الرحميّة) إلي زمان ظهور صاحب العصر و الزمان عجّل الله تعالي فرجه الشريف. فيرجع عند ذلك حكم الإرث- حَسب رواية يرويها الشيخ الصدوق- علي أساس الاخوّة الدينيّة أيضاً لا علي أساس العلاقة الرحميّة.

  • روي المرحوم الصدوق في آخر كتاب الإرث من كتاب «من لا يحضره الفقيه» عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى آخي بَيْنَ الأرْوَاحِ فِي الأظِلَّةِ قَبْلَ أن يَخْلُقَ الأجْسَادَ بِألْفَي عَامٍ، فَلَوْ قَدْ قَامَ قَائِمنَا أهْلَ الْبَيْتِ وَرَّثَ الأخَ الَّذِي آخَى بَيْنَهُمَا فِي الأظِلَّةِ وَ لَمْ يُوَرّثِ الأخَ فِي الوِلَادَةِ"۱ و معني في الأظِلَّةِ أي في الأصل و الظلال حيث لم يكن قد وجد عالم الخلق بعد، فقد آخى بين الأرواح التي كانت قريبة جدّاً من بعضها هناك.

  • يمكن استخراج كتاب من أحكام الولاية من آية: النَّبِيُّ أوْلَى بِالْمُؤمِنِينَ‌

  • و لم تكن هذه المطالب شاهدنا في هذه الآية المباركة، و إنّما ذكرت بمناسبة تفسير الآية، و كان شاهدنا منحصراً في صدر الآية فقط في قوله تعالي: {النَّبِيُّ أَوْلى‌ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ‌}.

    1. «من لا يحضره الفقيه» ج ٤، باب نوادر المواريث، ص ٢٥٤ من طبعة النجف، الرواية الأخيرة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

76
  • فالإنسان هو صاحب الاختيار في نفسه، و هو أقرب إلي نفسه من أيّ شخص آخر، و يملك اختيار نفسه أكثر و ليس هناك من أحد له السلطة علي الإنسان و التصرّف فيه أكثر من نفسه، فحركة الإنسان و سكونه كلاهما له فحسب، و خلاصة الأمر فإنّ الاختيار جزء من فطرة الإنسان.

  • يقول تعالي في هذه الآية المباركة إنّ ولاية النبيّ علي المؤمنين أشدّ من ولايتهم و اختيارهم في أنفسهم، و من تدبيرهم و تصرّفهم الذي يقومون به في امورهم، و من إرادتهم و مشيئتهم التي يمتلكونها في جميع أفعالهم و سكناتهم، أي أنّ النبيّ في المرتبة الاولي و من بعده الإنسان، النبيّ أوّلًا و من بعده اختيار الإنسان، النبيّ أوّلًا و من بعد مشيئة الإنسان و إرادته. و هذا الولاية علي نحو مطلق.

  • {النَّبِيُّ أَوْلى‌ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} حسب الأمر. فهذا النبيُّ ولايته علي المؤمنين جميعاً أكثر من ولايتهم علي أنفسهم في كلّ أمر من الامور علي نحو الإطلاق، مثل‌ {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}‌.

  • فكيف نستنتج هذه الفروع الكثيرة من جملة {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}‌۱ و يؤلَّف منها كتاب من عبارة واحدة فقط؟ و هي‌ {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا}؟

  • يقولون: إنّ الأمر يشكل علي الفقيه في باب العبادات و باب الصلاة من كثرة الروايات و تضاربها، بينما الإشكال في قسم المعاملات قلّة هذه الروايات! و إنّ كتاب «المكاسب» الذي ألَّفه المرحوم الشيخ الأنصاريّ رضوان الله عليه إنّما هو قائم علي إطلاق: {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ‌} و أمثالها، مثل آية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ٢ و آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا

    1. جزء من الآية ٢۷٥، من السورة ٢: البقرة.
    2. صدر الآية ۱، من السورة ٥: المائدة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

77
  • {تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ}.۱ و العمدة هي‌ {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} هذه. و رواية أو روايتين مثل: "النَّاسُ مُسَلَّطُونَ عَلَى أمْوَالِهِم"، و "الْمُؤمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِم" و ما شابه ذلك. فكما استفيد من إطلاق‌ {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ففرّعت عنها الفروع، فإنّ الأمر في‌ {النَّبِيُّ أَوْلى‌ بِالْمُؤْمِنِينَ‌ بهذا النحو أيضاً، فهذه العبارة لها إطلاق بحيث يمكنكم تفريع الفروع و استنتاج النتائج من إطلاقها و بقدر ما تشاءون، و هي من الآيات الواضحة جدّاً دلالتها علي ولاية النبيّ.

  • إذاً فعند ما يأمر النبيّ بشي‌ء أو ينهي عنه، فإنّ جميع المؤمنين يجب أن يخضعوا لأمره، لأنّ ولايته بالنسبة للإنسان أشدّ من ولاية الإنسان علي نفسه.

  • و من الآيات القرآنيّة التي يمكن الاستدلال بها علي ولاية المعصومين هذه الآية: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}.

  • إذ إنّه بملاحظة الآية التي ذكرت سابقاً (حيث جعل الله تعالي إبراهيم إماماً) {قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً}.٢

  • و هذه الآية- التي جعلت أقرب الناس لإبراهيم و أولاهم به، الذين اتّبعوه و اتّبعوا هذا النبيّ (الرسول الأكرم) هؤلاء لهم ولاية بالنسبة لإبراهيم أكثر من الجميع- لذا يمكن استفادة الولاية منها لهؤلاء الأشخاص.

  • و ذلك لأنّ‌ {أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ}‌ أي اولئك الذين يحوزون مقام‌

    1. صدر الآية ٢٩، من السورة ٤: النساء.
    2. جزء من الآية ۱٢٤، من السورة ٢: البقرة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

78
  • الولاية القادرين علي الأمر و النهي بحسب درجة قربهم من إبراهيم. أمّا بالنسبة لقوله تعالي‌ {هذَا النَّبِيُ‌} فالأمر واضح و جليّ. و كذلك قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا}، أي أنّهم بحسب درجات الإيمان كلّما اقتربوا من النبيّ و إبراهيم أكثر كلّما ازدادت ولايتهم أكثر.

  • كانت هذه مجموعة من الآيات التي استخرجناها من القرآن الكريم لإثبات ولاية الإمام لا ولاية الفقيه، إذ إنّ ذلك له بحث مستقلّ.

  • و أمّا الروايات التي تدلّ علي انحصار الحكم في المعصومين- سواء كان المعصوم رسول الله أو الأئمّة عليهم السلام- فهي كثيرة جدّاً.

  • منها: الرواية التي رواها المشايخ الثلاثة (الكلينيّ و الطوسيّ و الصدوق) حول النهي عن القضاء و الحكومة، و خطر الحكومة و عظم أمرها، و أنّها مقام رفيع يختصّ بالنبيّ أو الوصيّ.

  • روي الكلينيّ و الصدوق- حول كلام أمير المؤمنين عليه السلام لشريح- أنّه قال له بأنّ عمله هذا عظيم الخطر و أنّ عليه أن ينتبه إلي مجلسه الذي جلسه و إلي خطره و عظمته و درجة الأهمّيّة التي يحوزها!

  • و ينقل المشايخ الثلاثة هذه الرواية جميعاً في كتاب القضاء إلّا أنّ‌ الكلينيّ يروي بسنده عن محمّد بن يحيي، عن محمّد بن أحمد، عن يعقوب بن يزيد، عن يحيي بن مبارك، عن عبد الله بن جَبَلَة، عن أبي جميلة، عن إسحاق بن عمّار، عن الصادق عليه السلام أنّه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام لشريح‌: "يَا شُرَيحُ! قَد جَلَسْتَ مَجْلِساً لا يَجْلِسُهُ إلَّا نَبِيٌّ أوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ أوْ شَقِيٌ"‌،۱ أي أنّ من يجلس في هذا المجلس يجب‌

    1. «فروع الكافي» ج ۷، كتاب القضاء و الأحكام، ص ٤۰٦، باب أنّ الحكومة إنّما هي للإمام عليه السلام، الحديث ٢.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

79
  • أن يكون نبيّاً أو وصيّ نبيّ و إلّا فهو شقيّ، و عليه فإنّ غير الشقيّ لا يجلس في هذا المسند لأنّه سيكون قد غصب مقام النبوّة أو الوصاية. و خلاصة الأمر أنّ هذا المجلس مختصّ بالنبيّ أو وصيّ النبيّ.

  • قَدْ جَلَسْتَ مَجْلِساً لا يَجلِسُهُ إِلَّا نبيّ أوْ وَصِيّ نَبِيّ أوْ شَقِيّ‌

  • و ينقل الشيخ الطوسيّ في كتاب القضاء من «التهذيب»۱ عين هذه الرواية التي ذكرناها عن الكلينيّ. لكنّ الصدوق في «من لا يحضره الفقيه» ينقل بشكل مرسل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "يا شُرَيْحُ! قَدْ جَلَسْتَ مَجْلِساً مَا جَلَسَهُ إلَّا نبيٌّ أوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ أوْ شَقِيٌّ".٢

  • في الرواية الاولي و هي رواية الشيخ الطوسيّ و الكلينيّ لفظ لا يجلسه بينما ورد في رواية الصدوق ما جلسه و يختلف المعني شيئاً ما باختلاف هاتين الصيغتين و الرواية الاولي أهمّ.

  • يقول عليه السلام: "قَدْ جَلَسْتَ مَجْلِساً لَا يَجْلِسُهُ" أي هذا المجلس ليس من شأنه أن يجلسه سوي النبيّ أو وصيّ النبيّ أو الشقيّ.

  • و يستفاد من هذه الرواية صعوبة القضاء و أنّ القضاء صعب و مهمّ إلي درجة انحصاره بالمعصوم، سواء كان نبيّاً أو وصيّ نبيّ، و إلّا كان المتولي له شقيّاً.

  • أمّا الرواية الثانية التي تقول: "مَا جَلَسَهُ إلَّا نبيُ"‌ فيفهم أنّه لم يجلس لحدّ الآن في هذا المجلس إلّا نبيّ أو وصيّ أو شقيّ.

  • فلنبحث الآن في هذا المطلب و لنري أنّه إذا كان القضاء و الحكم منحصراً بالنبيّ أو وصيّ النبيّ فما هو وضع الحكومات [و الأقضية] التي تتمّ في زماننا و التي يقوم بها المجتهدون، و الخصومات التي يقومون بفصلها،

    1. «التهذيب» ج ٦، ص ٢۱۷، كتاب القضاء و الأحكام، الباب ۸۷، الحديث ۱.
    2. «من لا يحضره الفقيه» ج ٣، ص ٥، باب اتّقاء الحكومة، الحديث ٣٢٢٣.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

80
  • أو الأحكام الولايتيّة التي يصدرونها في عصر الغيبة الكبرى أو حتّى في نفس زمان المعصومين عليهم السلام؟ و ما هو معني الانحصار؟

  • فهل يعني ذلك أنّ علينا إغلاق باب الاجتهاد بشكل تامّ و القول بأنّ أحداً لا يملك الحقّ في الحكم إلّا أن يكون نبيّاً أو وصيّ نبيّ. و هذا يلزم منه تعطيل حكم الله بشكل كامل.

  • كان النبي الاكرم و المعصومون عليهم السلام يرسلون أشخاصاً كولاة إلي المدن‌

  • فإمام العصر و الزمان عليه السلام غائب، و الناس لا يمكنهم الوصول إليه، فإذا تقرّر ألّا يرجع الناس في مرافعاتهم و منازعاتهم إلي المجتهدين أيضاً، لزم تعطيل الأحكام بشكل كامل. مع أنّ من المسلَّم أنّ الأمر ليس كذلك، و ذلك لأنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم كان في زمانه يرسل بنفسه أشخاصاً للحكم و القضاء إلي الأطراف البعيدة كاليمن و الطائف كما قام في مكّة بعد الفتح باستخلاف شخص مكانه يلي امور الناس، و يقضي بينهم، و يحلّ خصوماتهم، مع أنّ هؤلاء الأشخاص (المبعوثين أو المستخلفين) لم يكونوا أنبياء و لا أوصياء أنبياء!

  • و في زمان الأئمّة عليهم السلام كان الأمر بهذا النحو أيضاً. فقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يرسل أشخاصاً للحكم في المناطق المختلفة و لم يكن اولئكم أنبياء و لا أوصياء أنبياء، و كثيراً ما كانت تصدر منهم الأخطاء أيضاً. نعم لم تكن أخطاؤهم عن عمد، إذ إنّ المجتهد يبذل غاية الجهد للتوصّل إلي الأحكام، و إذا اتّفق ارتكابه الخطأ فلا تثريب عليه، و ذلك ممكن، إذ إنّ المجتهد ليس مصيباً علي الدوام.

  • و أفضل دليل علي هذا المطلب اختلاف آراء المجتهدين، إذ إنّ اختلاف الآراء دليل علي أنّهم ليسوا جميعاً مصيبين، و إلّا لما حصل في آرائهم اختلاف.

  • و لقد كان الإمام الصادق عليه السلام يربّي الطلّاب و يرسلهم إلي

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

81
  • الأطراف، أو أنّ البعض كان يأتيه فيتعلّمون منه ثمّ يعودون إلي أوطانهم ليقوموا بالتدريس و التعليم و الحكم و القضاء بين الناس. فكان الشيعة يرجعون إليهم، كما كان الإمام عليه السلام يأمرهم بذلك.

  • و لقد كان يونس بن عبد الرحمن- هو من كبار أصحاب الإمام عليه السلام- يجلس في مسجد الكوفة، فيأتي إليه الناس و يسألونه عن مسائلهم، فيفتيهم و يفصل الخصومات بينهم. "و قد سُئل الإمام عليه السلام: يُونُسُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثِقَةٌ، آخُذُ عَنْهُ مَعَالِمَ دِينِي؟ قَالَ: نَعَمْ". و ذَلك في الوقت الذي كان فيه الإمام في المدينة و يونس في الكوفة.

  • و بالإضافة إلي ذلك فإنّ الوصول إلي المعصوم في زمانه لم يكن ميسوراً لكلّ أحد، و الزمن الآن زمن غيبة، و إمام العصر غائب، و علي فرض حضوره فإنّ وصول جميع الناس إليه لن يكون مقدوراً. أ فلم يكن الإمام الصادق عليه السلام حاضراً؟!

  • أوّلًا أنّه عليه السلام كان في المدينة بينما كان أهالي البلاد الاخرى كالكوفة و الشام و مكّة و غيرها منقطعين عن المدينة، فلم يكونوا يصلون إليه ليراجعوه في أبسط المسائل.

  • و حتّى في نفس المدينة فإنّ الجميع لم يكونوا ليصلوا إلي الإمام بنحو يراجعه فيه كلّ رجل و كلّ امرأة في أبسط المسائل، فهذا النحو من الاستيعاب لم يكن ممكناً.

  • إضافة إلي أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا غالباً في حالة تقيّة و خوف، و كانوا مراقبين من قبل السلطات فلم يكن بمقدور أحد الالتقاء بهم. و لهذه الجهات فقد كانوا عليهم السلام أنفسهم ينهون [الناس‌] عن المجي‌ء إليهم و مراجعتهم، و يطلبون منهم الرجوع إلي رواة أحاديثهم و الذين ينظرون في حلالهم و حرامهم و جعلهم حكّاماً بينهم، و يبيّنون أنّ حكمهم حكم الأئمّة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

82
  • عليهم السلام.

  • لقد كان باب الاجتهاد مفتوحاً في زمن الأئمّة أنفسهم و بالتالي ليس الاجتهاد منحصراً بزمن الغيبة.

  • كان الائمّة عليهم السلام يعلّمون طلّابهم كيفيّة الاجتهاد

  • فقد كان تلامذة الإمام الصادق عليه السلام مجتهدين، و كان الإمام يعلّمهم كيفيّة إصدار الفتوى، و كانوا يفتون بحسب نظرهم.

  • فمثلًا قضيّة المرارة الواردة في كتب الفقه من أنّ شخصاً زلّت قدمه فكسر عظم قدمه (محلّ المسح) فوضع عليها مرارة (مرارة خروف أو عجل و ما شابه).

  • ثمّ جاء إلي الإمام الصادق عليه السلام و سأله عن كيفيّة مسحه في الوضوء: فقال الإمام عليه السلام: "يُعْرَفُ هَذَا وَ أشْبَاهُهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، امْسَحْ عَلَى الْمَرَارَةِ". فلا لزوم لرفع المرارة، و لا إشكال في المسح علي الرجل.

  • و بهذا النحو علّمه الإمام حكم الجبيرة. و هذا هو معني الجبيرة، و قد كان الإمام في مقام تعليم هذا الأمر: أنّ القرآن قد أوجب عليك الوضوء ابتداءً {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}.۱ فيجب مسح الأرجل إلي الكعبين. إذَن فقد ضمّ عليه السلام أصل آية وجوب الوضوء مع آية: {ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}‌،٢ فإذا رُفعت المرارة أو الجبيرة و مُسح علي القدم فإنّ ذلك سيكون مسبّباً للحرج. لذا فإنّ أصل الوضوء إذَن ثابت، و حرجيّته مرفوعة، فتكون النتيجة أن‌ امْسَحْ عَلَى الْمَرَارَةِ.

    1. من الآية ٦، من السورة ٥: المائدة.
    2. من الآية ۷۸، من السورة ٢٢: الحجّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

83
  • و كذلك الأمر في مسألة ذلك المريض الذي أجنب حين مرضه، فقام أقرباؤه بغسله ممّا سبّب موته، فقد جاء في الرواية فَكُزَّ فَمَاتَ أي ابتلِي بمرض الكُزاز و مات، و حين سمع الإمام بذلك انزعج انزعاجاً شديداً و قال: "قَتَلُوهُ! قَاتَلَهُمُ اللهُ، أ لَا يَمَّمُوهُ؟ أ لَا سَألُوا"؟

  • ما ذا تعني‌ أ لَا يَمَّمُوهُ‌؟ إنّها تعني أنّ عليهم أن يعرفوا وظيفتهم من أنّه إذا ما مرض شخص ما و كان استعمال الماء مضرّاً له فإنّ هذا الشخص لا يكون واجداً للماء. و في القرآن المجيد: {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}.۱ و لقد كان الإمام يريد إفهامهم أنّ عدم وجدان الماء ليس عدم وجدانه في الخارج فحسب و إنّما المقصود من عدم الوجدان عدم التمكّن. فلو لم تكونوا متمكّنين من الماء، سواء لعدم وجدانه في الخارج أم بسبب المرض و نحوه فأنتم غير واجدين للماء. و عند ما تكونون غير واجدين للماء فالوظيفة هي التيمّم.

  • لقد كان يجب عليكم أن تيمّموا هذا المسكين، فأخذتموه و غسّلتموه متشبثين برأيكم فقتلتموه: "قَتَلُوهُ! قَاتَلَهُمُ الله".

  • يقول الإمام عليه السلام: علينا تعليم الاصول و الأحكام الكلّيّة و بيانها لكم و عليكم تفريع الفروع. لقد كان أصحاب الإمام و طلّابه يبلغون الاجتهاد في فنّ تفريع الفروع، و كانوا يفعلون ذلك بأنفسهم و يستدلّون بآيات القرآن. و كان هذا هو منهج الإمامين الباقر و الصادق و سائر الأئمّة عليهم السلام.

  • كان النهي عن الولاية و القضاء لغير المعصوم نهياً عن الولاية و القضاء

  • بناءً عليه فقد كان باب الاجتهاد مفتوحاً في زمان نفس الأئمّة عليهم السلام. و كان هناك مجتهدون في كلّ مدينة من كبار المؤمنين الشيعة

    1. من الآية ٤٣، من السورة ٤: النساء. و الآية ٦، من السورة ٥: المائدة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

84
  • و أهل الوثوق و العدالة، يرجع الناس إليهم و كانوا يقومون بالإفتاء و القضاء في البلاد بين الناس بصفتهم وكلاء عن الإمام المعصوم.

  • فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن القول بأنّ القضاء و الحكومة منحصران بالنبيّ أو وصيّ النبيّ؟!

  • و قد أجاب العلّامة المرحوم المجلسيّ رضوان الله عليه عن هذه المسألة في «مرآة العقول» وفقاً لهذه الروايات التي بيّناها، فقال: وَ لَا يَخْفَى أنَّ هَذِهِ الأخْبَارَ تَدُلُّ بِظَواهِرِها عَلَى عَدَم جَوازِ الْقَضَاءِ لِغَيْرِ الْمَعْصُومِ؛ وَ لَا رَيْبَ أنَّهُمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانُوا يَبْعَثُونَ الْقُضاةَ إلَى الْبِلادِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى أنَّ الْقَضَاءَ بِالأصَالَةِ لَهُمْ، وَ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ تَصَدِّي ذَلِكَ إلَّا بِإذْنِهِمْ، وَ كَذَا فِي قَولِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «لَا يَجْلِسُهُ إلَّا نَبِيُّ» أي بِالأصَالَةِ. و الْحَاصِلُ: أنَّ الْحَصْرَ إضافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ جَلَسَ فِيهَا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ وَ نَصِيبِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلام.۱

  • فمفاد جوابه رحمه الله هو أنّنا بعد أن علمنا و كان مسلّماً لدينا أنّ نفس الأئمّة عليهم السلام كانوا يرسلون أشخاصاً غير معصومين إلي الأطراف للقضاء بين الناس، فيجب علينا أن نحمل هذه الأخبار علي القضاء بالأصالة. أي أنّه من المحرَّم و غير الجائز أن يقوم شخص ما بالقضاء في مكان ما من قِبَل نفسه و دون ما إذْن من الإمام أو إجازة و تنصيب منه. و أنّ من يقوم بهذا العمل سيكون شقيّاً حتماً و تشمله و اتَّقُوا الْحُكُومَةَ.

  • أمّا إذا كان ذلك بإذن منهم و نيابة عنهم و كان منصوباً و مجازاً من‌

    1. «مرآة العقول»، ج ٤، ص ٢٦٥. «كتاب القضاء»، الطبعة الحديثة، و كذلك في ج ٤، ص ٣۱، من الطبعة الحجريّة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

85
  • قِبَلهم عليهم السلام فكأنّه أنفسهم. و لا تنافي بين هاتين المجموعتين من الأخبار. فيجب- إذَن- حمل هذه الأخبار علي أنّ القضاء بالأصالة مختصّ بالنبيّ الأكرم و الأئمّة المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين.

  • فقوله عليه السلام: "لَا يَجْلِسُهُ إلَّا نبيٌ"‌ أي بالأصالة. ففي هذا المجلس الذي جلسه شريح لا يجلس بالأصالة إلَّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ. أمّا إذا كان ذلك بالإذْن و النيابة فإنّ الأمر ليس كذلك، بل يجلس في هذا المجلس غير النبيّ و الوصيّ و الشقيّ أيضاً، مثل شريح الذي قد جلس في هذا المجلس من قبل أمير المؤمنين عليه السلام حيث نصّبه الإمام عليه السلام فيه.

  • شريح له تأريخ طويل، فقد كان إيرانيّ الأصل و مقيماً في اليمن، و كان من اولئك الإيرانيّين الذين أرسلهم أنوشيروان- و هم حوالي اثنا عشر ألف رجل- إلي اليمن لمساعدة أهلها، فقام المهاجرون القادمون من إفريقيا الذين أخذوا تلك الولاية بإخراجهم جميعاً. و السبب في أنّ عدداً كبيراً من الإيرانيّين كانوا ساكنين في اليمن هو كونهم من هؤلاء. و من بين هؤلاء: باذان (ملك اليمن) و رسولاه بابويه و خرخُسره اللذان جاءا إلي النبيّ و حملا جواب رسالة خسرو پرويز عند ما مزّق رسالة النبيّ. و قد كانا إيرانيّين، و شريح هذا منهم؛ هذا و قد نصّبه عمر في زمان خلافته للقضاء في الكوفة، و كان متولّياً للقضاء طوال مدّة خلافة عثمان أيضاً، كما كان باقياً في ذلك العمل زمان أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً فنال تجربة طويلة الأمد و صار متمكّناً للغاية، كما بلغ غاية الشيخوخة و الهرم، و قيل إنّه عاش أكثر من مائة سنة.

  • و في زمان أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن صلوات الله عليه راضياً كثيراً عن أحكامه القضائيّة، فقد كان تصدر منه بعض الأخطاء

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

86
  • أحياناً. لذا عزله الإمام عليه السلام ممّا أثار ضجيج و غوغاء بعض الناس بزعم أنّ عليّاً عليه السلام قد عزل قاضياً ذا تجربة طويلة مارس القضاء هنا ما يقارب عشرين سنة من زمان عمر و عثمان إلي الآن! فاضطرّ الإمام عليه السلام إلي إعادة نصبه.

  • و الإمام عليه السلام يُشير إليه ليلتفت إلي مقامه و مركزه و أنّ هذا المقام دقيق إلي درجة أنّ هذا المجلس إمّا مجلس نبيّ أو شقيّ، و أنّه لو خرج عن الحدّ لكان شقيّاً قطعاً.

  • و أتمّ و أكمل رواية وردت حول ولاية الإمام عليه السلام هي الرواية التي يرويها الكلينيّ قدّس سرّه عن أبي محمّد القاسم بن العلاء، مرفوعاً عن عبد العزيز بن مسلم، عن الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام، و هي رواية طويلة جدّاً. حيث يأتي عزيز بن مسلم إلي الإمام في مرو و يقول له ما مضمونه: لقد كنت في المسجد و رأيت الناس يتكلّمون حول الإمامة و الحكومة و أمثال ذلك من المسائل. فأجابه الإمام عليه السلام بجواب طويل.

  • و قد نُقلت هذه الرواية بكاملها في «الكافي» و هي تنطوي علي مضامين راقية جدّاً، و أنّ الولاية في الأساس هي من شأن الإمام و من مختصّاته و قد وضعت لأجله.

  • مِن جملة الامور التي بيّنتها هذه الرواية هو "أنَّ الإمَامَةَ أجَلُّ قَدْراً و أعْظَمُ شَأناً وَ أعْلى مَكَاناً وَ أمْنَعُ جَانِباً وَ أبْعَدُ غَوْراً مِنْ أن يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ أوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ أوْ يُقِيمُوا إمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ"‌۱

    1. «اصول الكافي» ج ۱، ص ۱٩۸، باب نادر جامع في فضل الإمام و صفاته، الحديث ۱.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

87
  • لأنّ ذلك الشخص الذي يختاره الناس إنّما يكون وفقاً لإدراكهم و درايتهم، بينما مقام الإمام موضع لا يناله فكر أحدٍ و لا يصل إليه، فكيف ينصّب الإنسان شخصاً للإمامة باختياره. فالإمامة إذَن ليست انتخابيّة و إنّما هي بالتعيين من الله جلّ شأنه. و علي الناس اتّباعُ إمامهم المعصوم وفقاً لكرائم الآيات القرآنيّة.

  • كانت هذه روايات حول ولاية الإمام. و سنورد فيما يلي بحث ولاية الفقيه إن شاء الله لنري من أيّ طريق يمكن إثباتها.

  •  

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

89
  •  

  •  

  • الدرس الخامس: ولاية المعصومِ، عينُ و لآيةِ اللهِ، وَ لَا يُعْقَلُ أيُّ اخْتِلافٍ فِي مَوَارِدِهَا وَ مَصَادِيقَها.

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

91
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • كان في نيّتنا اليوم أن ندخل بحث ولاية الفقيه لكنّ بعض السادة أشكل علي النحو التالي:

  • أنّه وفقاً لما ذكر حول ولاية الأئمّة و النبيّ و أنّ ولايتهم في الأمر و النهي قد استفيدت من القرآن بشكل مطلق، «فلو أمر الإمام الإنسان بارتكاب معصية فما الذي سيحصل؟»

  • لذا نقوم الآن بحلّ هذا الإشكال فنقول:

  • لا بدّ هنا أن ندرس هذه المسألة بشكل عميق فننظر ما هو مسار و مجال ولاية الإمام؟ و ما هي حقيقتها؟ و بأيّ نحو يكون أمر الإمام؟ و هل يأمر النبيّ أو الإمام بالمعصية أساساً و لو في الموارد الاستثنائيّة؟ أم أنّ المسألة بنحو آخر؟ و بعد ذلك ندخل في بحث ولاية الفقيه إن شاء الله تعالي.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

92
  • يجب أن نعلم أنّه حيث اطلقت ولاية الإمام و ولاية المعصوم بشكل عامّ فهي نفس ولاية الله، و لا معني للفصل و البينونة بين هاتين الولايتين.

  • فالولاية التي يمتلكونها لم يعطهم الله إيّاها بنحو التفويض لكي تكون مستقلّة عنه و معطاة لهم؛ أو تكون له تعالي ولاية و يعطي لهم ولاية متشابهة لولايته. بنحو توجد معه ولايتان، غاية الأمر أنّ ولاية الله أعلى و ولايتهم أدني، أو أنّهما متساويتان فالأمر ليس كذلك، إذ يلزم من ذلك التعدّد، و لا تعدّد في عالم التوحيد، فالإعطاء- إذَن- ليس بمعني الفصل، و ليس تفويضاً؛ و التسليم ليس بمعني الإيكال و الاستقلال.

  • الولاية تجلّ، و الله لا يأمر بالمعصية

  • و عليه فإنّ الذي يبقي و حسب هو أنّ تلك الولاية المعطاة لهم هي علي نحو الظهور و التجلّي. أي أنّ نفس ولاية الله هي التي ظهرت و تجلّت فيهم. و الفرق بين التفويض و التجلّي أكثر ممّا بين السماء و الأرض و الشي‌ء الذي يتجلّى في شي‌ء هو نفسه الذي يظهر فيه و يبرز من خلاله. و بناءً عليه فمن المحال أن يتجلّى شي‌ء في شي‌ء آخر فيظهر هناك شي‌ء غير ذلك الشي‌ء السابق.

  • كما أنّ الشخص الذي ينظر في المرآة- مثلًا- ستتجلّى ملامحه فيها و تنعكس صورته هو في المرآة. فالمرآة تُظهِر له نفسه، و من المحال أن تظهر شيئاً آخر، أو تعكس موجوداً آخر، أو تعكس عيناً اخرى و أنفاً آخر، فهذا أمر محال، لأنّها ليست إلّا تجلٍّ له.

  • و خلافاً لذلك معني الاستقلال، إذ إنّ الأمر لا يكون في الاستقلال علي هذا النحو. فالمرآة التي أصابها الصدأ أو التصدّع مثلًا إذا ما نظر فيها الإنسان فإنّها ستظهر تصدّعاً أو نقطة سوداء، مع أنّ هذا التصدّع و هذه النقطة السوداء غير موجودين في وجه الإنسان؛ فهذا العيب من نفس المرآة، إذ لم تستطع إظهار الصورة بشكل جيّد. و هذا بسبب الجهة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

93
  • الاستقلاليّة التي كانت في المرآة. ثمّ إنّ الشمس عند ما تشعّ فإنّ لازم إشعاعها النور، إذ لا تصدر منها ظلمة. فتجلّي الشمس تجلٍّ للنور، و حيثما كانت أزالت الظلام، كما أنّ تجلّي شخص العالِم هو العلم فلا يرشح الجهل من العالِم، و إلّا كان خلاف الفرض. و لا يمكن أن يصدر من التقيّ- بعنوان أنّه مُتَّقٍ- الذنب، لأنّ هذا خلاف الفرض. و أخيراً فإنّ «كلّ إناء بالذي فيه ينضح».

  • فإذا تجلّي الله تعالي في موجود ما فإنّ هذا الموجود إنّما يُظهر الله بكل ما للكلمة من معني، و لا يمكن أن يُظهر غيره، لأنّه مجرّد تجلّ و ظهور. لا أن يكون ذلك الشي‌ء ذا استقلالٍ و شخصيّة و أنانيّة و نفسانيّة. و فرض كمال المعصومين إنّما يكون بهذا النحو أيضاً، حيث إنّهم يمتلكون مقام الهوهويّة، و ليس في عالم الوحدة الولايتيّة إلّا ثمّة ولاية واحدة لا أكثر، و هي ولاية مختصّة بالله أيضاً، و قد تجلّت و ظهرت في هذه الأوعية.

  • و بناءً علي هذا فإنّهم عليهم السلام إنّما يُظهرون الله و الله لا يأمر بالمعصية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ}.۱ {وَ يَنْهى‌ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ}.٢ و {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}.٣

  • و بناءً علي هذا فإنّ النظام الوجوديّ للنبيّ و الأئمّة عليهم السلام علي نحوٍ بحيث يرشح منهم الخير- لا الشرّ- بشكل حتميّ، وَ الشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ٤

    1. جزء من الآية ٢۸، من السورة ۷: الأعراف.
    2. جزء من الآية ٩۰، من السورة ۱٦: النحل.
    3. صدر الآية ٢٩، من السورة ۷: الأعراف.
    4. من جملة الأدعية الواردة بين التكبيرات السبعة الافتتاحيّة للصلاة «لَبَّيْكَ وَ سَعْدَيْكَ وَ الْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَ الشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ وَ الْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتُ» «مصباح الكفعميّ» الطبعة الحجريّة، ص ۱٥.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

94
  • و لا توجد لديهم نيّة سوء. و بالطبع فإنّنا لا نريد القول بأنّ هذا التجلّي بنحو يكونون معه مضطرّين و مجبرين، كلّا بل هم مختارون و التجلي يكون بهذا النحو باختيارهم و بسبب كمالهم.

  • الائمّة عليهم السلام مختارون لكنّهم يتقنون العمل الحسن بهذا الاختيار

  • و كما أنّ الله أيضاً هو نفسه مختار و لا يصدر منه العمل القبيح. و هذا لا ينافي اختياره، فهو مختار، و لكنّه مع هذا الاختيار يختار الحسن دوماً.

  • فالأئمّة عليهم السلام مختارون هم أيضاً، لكنّهم مع هذا الاختيار يختارون العمل الحسن. فوجود الأئمّة، و فكرهم، و خيالهم، و نومهم، و يقظتهم، و سكونهم، و حركتهم، و باختصار جميع أطوارهم، حقّ و مظهر لإرادة الله، سواء في التكوين و التشريع، و سواء في النظام الوجوديّ أو في المدركات الذهنيّة و الفكريّة. فهم لا يقومون بأيّ تخيّل باطل في حال من الأحوال، و لا يرون رؤيا مضطربة، لأنّهم خير، و لا يولد من الخير إلّا الخير.

  • و الشواهد علي هذا المطلب كثيرة، و إذا ما التفتنا إلي آيات القرآن، و تأمّلنا في الخطابات الموجّهة من الله تعالي إلي رسوله و الأوامر التي يخضعه لها لوجدنا النبيّ يتصاغر أمامها بكلّ خشوع و تذلّل، تماماً كمثل العبد قبال مولاه القادر و القاهر المسلّط عليه، و قد أصغي إليه بكلّ وجوده لكيلا تصدر منه أدني مخالفة، و إلّا كان محلًّا للمؤاخذة، لذا فقد كان عليه في نهجه و طريقة عمله أن يعمل بمستوى من الدقّة ليكون عبداً حتّى في إدراكه و خياله و في فعله و جميع شراشر۱ وجوده. أي مَظهراً و عبوديّة و تسليماً. و ألّا يقوم بأيّ ظهور مقابل ربوبيّة ربّه، و لا يبرز أيّة إنّيّة، و لا يصدر منه أيّ أمر و نهي فيما يتعلّق به شخصيّاً باعتبار عبوديّته.

    1. شراشر: كامل أعضاء جسمه و نفسه.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

95
  • فاللّه إذَن لا يأمر بالمعصية، و رسوله لا يأمر بذلك أيضاً. و ليست لله نفس، و لا يعمل عملًا علي أساس من الشهوة أو الغضب أو الوهم، و النبيّ لا يفعل ذلك أيضاً. بل إنّ المعصية من الشيطان. و الله قد نهي عنها، و نهي عنها النبيّ أيضاً، و قال: المعصية من الشيطان. أيّ أنّها تختصّ بمسار مضادّ للمسار الذي نحن فيه، إذ إنّ الشيطان باطل، و موجود مُمَوِّه يُظهر الحقَّ باطلًا. و يُخرج الباطل بصورة الحقّ، و هذا خلاف تحقّق و واقعيّة الحقّ.

  • و أمّا الله فهو حقّ، يهدي إلي الحقّ‌ {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِ}‌۱ و آيات القرآن توضّح هذا المطلب بجلاء، و تدلّنا علي أنّ النبيّ مسلِّم لأوامر الله تعالي بحيث إنّه لو رأي مخالفة ما مهما صغرت في أفكاره و نيّته و شخصيّته فإنّه سوف يري نفسه في تلك اللحظة محلّاً لقهر الله و عذابه.

  • و يوضّح القرآن- دون أيّة مجاملة- كيفيّة إصغاء النبيّ و انتباهه لصدور أيّ أمر من الله تعالي لكي يقوم بتنفيذه.

  • أي أنّ ولايته ولاية الله، و أمره أمر الله، و نهيه نهي الله، و اختياره اختيار الله، و ليس الأمر كما نتخيّل من أنّ النبيّ باعتبار امتلاكه للولاية فإنّه يختار بنات الناس لنفسه، أو يأخذ لنفسه أموال الناس ما حَسُن و نَفُس، إذ لم يعطه الله الولاية ليقوم بهذه الأعمال أبداً.

  • و لا ليوزّع ما اختاره من بنات الناس أو الأسرى بين قومه و أقربائه، أو ليعطي من تلك الأموال النفيسة لابنته لأنّها ابنته. فإنّ هذه المعاني بعيدة إلي درجة تجعلها معاكسة للنهج الإلهيّ بشكل كامل.

  • إنّ النبيّ يري جميع النساء بناتاً له، و يعتبر جميع الرجال أبناءه،

    1. جزء من الآية ٣۰، من السورة ۱۰: يونس.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

96
  • و يري المشركين أبناءه و يجاهد لأجل هدايتهم، و يواجه ألف مشكلة في سبيل ذلك.

  • إنّ للنبيّ نظرة شاملة و تواضع جمّ بحيث كان ينام علي التراب لأجل هداية الناس. فسيرة النبيّ عجيبة و دقيقة للغاية، و علي الإنسان أن يلاحظ ما ذا كان أمر النبيّ و نهيه؟ بما ذا كان يأمر؟ عمَّ كان ينهي؟

  • أجل، فلو أمر النبيّ بشي‌ء في موضع فعلي الإنسان أن يأتي به، لأنّ أمر النبيّ مبنيّ علي هذه الضوابط، و نفس النبيّ يعلم أنّ إرادة الله قد تعلّقت هنا في أن يقوم الإنسان بهذا العمل، و أنّ إرادة الله نزلت و ترشّحت علي الإنسان مِن علي لسان النبيّ و فكره.

  • و لأجل توضيح المسألة جيّداً نذكر بعض الشواهد:

  • ورد في روايات العامّة أنّ اسامة بن زيد، الذي كان محبوباً و محترماً عند النبيّ، و الذي اصطحبه معه علي الجمل في حجّة الوداع من عرفات إلي مني و الذي كان النبيّ الأكرم يحبّه كثيراً و الذي كان قد ولّاه الجيش الذي أراد إرساله إلي نواحي الشام و جعل تحت لوائه كبار المهاجرين و الأنصار، أنّ اسامة هذا جاء إلي النبيّ و شفع في امرأة شريفة و محترمة كانت قد سرقت لكي لا يُقيم الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم الحدّ عليها و لا يقطع يدها.

  • فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ‌: "وَيْحَكَ! أ تَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ وَ اللهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ سَرَقتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا! إنَّمَا أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ إذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَ إذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ أقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ".۱ (و إنّما للحصر) فالمعني أنّ الذي أهلكهم هو هذا الأمر فقط.

    1. «ثمَّ اهتديت» ص ۱٥۷.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

97
  • و يذكر الصدوق رحمة الله عليه في كتاب «صفات الشيعة» رواية عجيبة للغاية علي الإنسان أن يحفظها باستمرار و كتاب «صفات الشيعة» كتاب معتبر جدّاً، و من نفائس كتب الشيعة، و كذلك كتاب «فضائل الشيعة» و كلاهما للشيخ الصدوق، و لم يُطبع هذان الكتابان لحدّ الآن، و أتذكر أنّه قبل حوالي خمسة و أربعين عاماً عند ما جاء المرحوم خال والدي سماحة آية الله الميرزا محمّد الطهرانيّ قدّس الله نفسه من سامراء إلي إيران في السفر الذي تشرّفت فيه بمعيّته إلي مدينة مشهد المقدّسة أنّه أعطاني هذا الكتاب لأستنسخه له، و كان كتاباً صغيراً جدّاً، ربّما لم يكن أكثر من خمس عشرة صفحة، و لم يكن قد طبع بعد. نعم قد نُقلت في «بحار الأنوار» و كتب شيعية اخرى روايات عن «صفات الشيعة» لكنّ ذلك الكتاب بتلك النسخة كان عند المرحوم فقط. و بالطبع فإنّ نسخه غير منحصر بشخص معيّن، و قد استنسخت له نسخته إلي ما قبل سبع و عشرين سنة تقريباً، أي سنة ۱٣۸٣ هـ حيث قام ابنه الأكبر المرحوم آية الله الميرزا نجم الدين شريف العسكريّ- هو مؤلّف خبير ألّف الكثير من الكتب منها «عليّ و الشيعة»- بطبعه مع كتاب «فضائل الشيعة» ضمن مجموعة [بمجلّد واحد]، و قد أرسله ذلك الوقت لي أيضاً بخطّه، و كان قد طبع هذا الكتاب أيضاً عن نسخته الخطيّة التي كان قد استنسخها بنفسه، و هذه الرواية هي الحديث الثامن في كتاب «صفات الشيعة»، و هي كما يلي:

  • رواية كتاب «صفات الشيعة» في قول رسول الله: إِنَّ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ‌

  • يقول المرحوم الصدوق: حَدَثَّنَا مُحَمَّدُ بنُ مُوسَى الْمُتَوَكِّلِ رَحِمَهُ اللهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيرِيّ عَنِ احْمَدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بنِ رِئابِ، عَنْ أبِي عُبَيْدَة الْحَذَّاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: "لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ مَكَّةَ، قَامَ عَلَى الصَّفَا فَقَالَ: يَا بَنِي هَاشِمٍ، يَا بَنِي عَبْدِ

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

98
  • الْمُطَّلِبِ! إنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ وَ إنِّي شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ، لَا تَقُولُوا! إنَّ مُحَمَّداً مِنَّا! فَوَ اللهِ مَا أوْلِيَائِي مِنْكُمْ وَ لَا مِنْ غَيْرِكُمْ إلَّا الْمُتَّقُونَ! ألَا فَلَا أعْرِفُكُمْ تَأتُونِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْمِلُونَ الدُّنْيَا عَلَى رِقَابِكُمْ، وَ يَأتِي النَّاسُ يَحْمِلُونَ الآخِرَةَ، ألَا وَ إنِّي قَدْ أعْذَرْتُ فِيمَا بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ فِيمَا بَيْنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ بَيْنَكُمْ، وَ إنَّ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ".۱

  • و ينقل المرحوم المجلسيّ رضوان الله عليه هذه الرواية في «بحار الأنوار»٢ عن «صفات الشيعة»، لكنّ للشيخ المرحوم الصدوق في سند المجلسيّ إشكال، و هو سقوط اسم شخصين منه، أحدهما محمّد بن موسى بن المتوكّل، إذ إنّ سند الصدوق يتّصل بالحِميَريّ عن طريق محمّد بن موسى بن المتوكل. و الآخر أحمد بن محمّد بن عليّ الذي يروي عنه الحِميَري. و علي أيّ تقدير فهذه الرواية موجودة في كتب العامّة و الخاصّة.

  • لا يُنْجِي إِلَّا عَمَلٌ مَعَ رَحْمَةٍ، وَ لَوْ عَصَيْتُ لَهَوَيْتُ‌

  • و كذلك يقول الشيخ المفيد رحمه الله في كتاب «الإرشاد» إنّه عند ما أحسّ رسول الله صلّى الله عليه و آله بالموت، أخذ بيد عليّ عليه السلام، و اتّبعه جماعة من الناس، و توجّه إلي البقيع، فقال لمن اتّبعه: إنّي امِرتُ بالاستغفار لأهل البقيع. فانطَلقوا معه حتّى وقف بين أظهرهم و قال: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أهْلَ الْقُبُورِ لِيُهَنِّئْكُمْ مَا أصْبَحْتُمْ فِيهِ، مِمَّا فِيهِ النَّاسُ، أقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ أوَّلَهَا آخِرُهَا".

  • ثمَّ استغفر لأهل البقيع طويلًا، و أقبل علي أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: إنَّ جبرائيل عليه السلام كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرةً و قد

    1. ص ۱٦٥، من مجموعة «علي و الشيعة و فضائل الشيعة و صفات الشيعة».
    2. «بحار الأنوار» الطبعة الجديدة الحروفيّة، ج ٢۱، ص ۱۱۱.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

99
  • عرضه عليّ العام مرّتين، و لا أراه إلّا لحضور أجلي.

  • ثمّ قال: يا عليّ إنّي خُيّرت بين خزائن الدنيا و الخلود فيها أو الجنّة، فاخترت لقاء ربّي و الجنّة، فإذا أنا مت فغسّلني، و استر عورتي، فإنّه لا يراها أحد إلّا اكمِه.

  • ثمّ عاد إلي منزله، فمكث ثلاثة أيّام موعوكاً، ثمّ خرج إلي المسجد معصوب الرأس، معتمداً علي أمير المؤمنين عليه السلام بيمنى يديه، و علي الفضل بن العبّاس باليد الاخرى، حتّى صعد المنبر فجلس عليه، ثمّ قال:

  • "مَعَاشِرَ النَّاسِ! قَدْ حَانَ مِنِّي خُفُوقٌ مِنْ بَيْنِ أظهُرِكُمْ. فَمَن كَانَ لَهُ عِنْدِي عِدَةٌ فَلْيَأتِنِي اعْطِهِ إيَّاهَا؛ وَ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيَّ دَيْنٌ فَلْيُخْبِرْنِي بِهِ.

  • مَعَاشِرَ النَّاسُ! لَيْسَ بَيْنَ اللهِ وَ بَيْنَ أحَدٍ شَي‌ءٌ يُعْطِيهِ بِهِ خَيْراً أوْ يَصْرِفُ عَنْهُ بِهِ شَرّاً إلَّا الْعَمَلُ.

  • أيُّهَا النَّاسُ! لَا يَدَّعِي مُدَّعٍ وَ لَا يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَ الَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيّاً لَا يُنْجِي إلَّا عَمَلٌ مَعَ رَحْمَةٍ؛ وَ لَوْ عَصَيْتُ لَهَوَيْتُ. اللّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟"۱

  • و لقد أورد ابن أبي الحديد هذه الرواية أيضاً في «شرح نهج البلاغة» في شرح الخطبة رقم ۱٩٥، و التي تتصدّرها هذه العبارة:

  • "وَ لَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، أنِّي لَمْ أرُدَّ عَلَى اللهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ".

  • لقد كان رسول الله ينفّذ أوامر الله و يقيم الحدود دون أيّ تسامح.

    1. «الإرشاد» للشيخ المفيد، طبعة الآخوندي، ص ۸٥ و ۸٦؛ و الطبعة الحجريّة، ص ٩۸. و «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد، طبعة بيروت، ج ٢، ص ٥٦٣. و قد أوردناها في دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة، قسم «امام‌شناسى» أي «معرفة الإمام» ج ۱٣، ص ۷۸.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

100
  • نعم هناك مورد واحد لم يتمكّن فيه من إقامة الحدّ، و ذلك علي عبد الله بن ابيّ الذي كان من رءوس المنافقين في المدينة، و كان يؤيّده جماعة كبيرة من أنصار المدينة، و كان تحت إمرته ألف رجل مسلّح، أي نصف المدينة، و الكثير من الأعمال التي صدرت ضد الإسلام في زمان رسول الله كانت بسبب نفاق هذا الرجل.

  • و لـ«عبد الله بن ابيّ» قصّة عجيبة غريبة، فهو الذي وصل إلي نصف الطريق في المسير إلي حرب احد ثمّ رجع إلي المدينة و أعاد معه سبعمائة شخص، و قال: لا أرى من المصلحة أن تقاتلوا خارج المدينة، فهؤلاء الشبّان هم الذين أخذوا محمّداً خارجها، و قد أطاعهم محمّد فهُزم. و قد كان له من هذه الامور النفاقيّة الكثير جدّاً. و أنّ تاريخ الإسلام لكثير الشكوى من عبد الله بن ابيّ.

  • و كان ابيّ هو الشخص الذي قذف عائشة بالزنا، و لم يتمكّن رسول الله من إقامة حدّ القذف عليه. و قد اتّخذ علماء الشيعة الكبار ذلك دليلًا للردّ علي المعترضين علي أمير المؤمنين و الشيعة من أنّه لو كان الحقّ مع عليّ فَلِمَ لَمْ يلجأ بعد رسول الله إلي السيف و لِمَ لَمْ ينهض بالسلاح؟

  • فيجيب علماء الشيعة بأنّه لم يستطع. فيتساءلون: كيف لم يستطع؟ عند ما يكون الحقّ له و عند ما يعلم الجميع بذلك أيضاً، و حين يكون ذلك قد ورد في خطبة الغدير و في موارد اخرى، فكيف لم يستطع؟

  • فيجيبون أنّه كما لم يتمكّن رسول الله من إقامة الحدّ علي عبد الله بن ابَيّ.۱ أي أنّ من الممكن أن تكون للشخص مكانة لدي الناس‌

    1. «شرح روضة الكافي» الملّا صالح المازندرانيّ، ج ۱۱، ص ٢۸۱.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

101
  • بشكل لا يستطيع الإنسان معه أن يفعل شيئاً اتّجاهه. فإنّ الطرف المقابل قويّ إلي درجة كبيرة و يملك من القدرة علي الحركة و الغوغائيّة و العناصر الخاضعة له ما يتكفّل بقلب الأوضاع دفعة واحدة في المدينة.

  • و عبد الله بن ابيّ هذا هو ذلك الشخص الذي قال عند ما خرج النبيّ إلي غزوة بني المصطلق: إذا رجعنا إلي المدينة {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}.۱ و مراده أنّه هو و أتباعه الأعزّة الأقوياء و أنّ الرسول و المسلمين الأذلّة و أنّه سيخرجهم من المدينة.

  • لقد كان عبد الله بن ابيّ منافقاً لم يتمكّن حتّى النبيّ من إقامة الحدّ عليه و إن كان الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم لا يريد تعطيل حدٍّ واحد من حدود الله.

  • الآية القرآنية في ردع رسول الله: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ‌

  • عند ما جاء النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في معركة احد، تلك المعركة العجيبة الغريبة التي حصلت للمسلمين و التي قتل فيها حمزة و مُثِّل به، و وقعت عيناه علي حمزة (و كان قد شُقّت معدته و اخرجت أمعاؤه و أحشاؤه، و قطعت اذنه و قلعت عيناه، و في بعض روايات العامّة قطعت مذاكِره) بذلك الوضع العجيب الذي يذكره الواقديّ بقوله: وَ رَأى رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مَثْلًا شَدِيداً، فَأحزَنَهُ ذَلِكَ المَثْلُ ثُمَّ قَالَ: "لَئِنْ ظَفَرْتُ بِقُرَيْشٍ لُامَثِّلَنَّ بِثَلَاثِينَ مِنْهُمْ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.٢ فَعَفا رَسُولَ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، فَلَمْ يُمَثِّلْ بِأحَدٍ".٣

    1. جزء من الآية ۸، من السورة ٦٣: المنافقون.
    2. الآية ۱٢٦، من السورة ۱٦: النحل.
    3. «المغازي» للواقديّ ج ۱، ص ٢٩۰.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

102
  • و ينبغي الالتفات إلي هذا الوجه في المسألة. فعند ما يري النبيّ جناية المشركين و يقسم إنّه إذا ظفر ليُمثلنّ بسبعين شخصاً حسب بعض الروايات، و ثلاثين حسب أكثر الروايات، فما هو الإشكال في التمثيل بالمشركين الذين يسفكون دماء المسلمين؟ لكنّه ما أن يقول: «لَئِن ظَفَرتُ» فإنّ الله يوقفه و يمنعه من الإقدام، و يأمره بالمعاقبة بالمثل، و يرغّبه بأنّ العفو أفضل فانظروا مستوي النبيّ في مقام عبوديّته لله عزّ و جلّ و الحال التي يمتلكها، حين يري جسد حمزة بتلك الكيفيّة قطعة قطعة و قد صنعتْ هند امّ معاوية و بعض النساء الاخريات من كبده و أمعائه و أحشائه التي كنَّ قد أخذنها معهن إلي مكّة قلائد، جعلنها زينة لهنّ، و علّقنها في أعناقهن، فيأمره الله بالصبر- و انظروا هنا العبوديّة- فيختار النبيّ أيضاً الخيار الآخر مع أنّ الله قد سمح له بالتمثيل بشخص واحد لكنَّه يختار الصبر. و يصبر و يعفو و لا يمثِّل- جزاء لهذا العمل- و لا بشخص واحد إلي آخر عمره. فهذه أيضاً قضيّة عجيبة.

  • الَّذِي صَنَعَ الله لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ

  • و في معركة احد التي هزم فيها الكفّار المسلمين- و إن كان النصر في البداية للمسلمين لكنّ مخالفة بعض المسلمين للنبيّ سبّبت هزيمة الإسلام و المسلمين- أخذ عبد الله بن ابيّ هذا و المنافقون في الشماتة بالمسلمين، و ارتاحوا لإصابة النبيّ و جرحه، و لمقتل سبعين شخصاً من المسلمين، و لكون الغلبة للكفّار. و أخذوا يتكلّمون بكلام قبيح جدّاً. و عبد الله بن ابيّ هذا لم يذهب إلي الحرب مع عدد من أعوانه، بل رجع من منتصف الطريق، بينما ذهبت عدّة اخرى منهم مع النبيّ و رجعوا بجراح في أبدانهم.

  • و لقد كان ابن عبد الله بن ابيّ هذا أحد أصحاب النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، و كان مسلماً حسن الإسلام، و كان مخالفاً لأبيه. و اسمه‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

103
  • عبد الله بن عبد الله بن ابيّ فالأب اسمه عبد الله، و كذلك الابن. و كانت له تضحيات كبيرة في سبيل الله، و كان يخالف أبيه و يواجهه دفاعاً عن رسول الله باستمرار، و له قصص مطوّلة، و كان رسول الله أيضاً يساير الأب قليلًا مراعاة منه للابن. و قد اصيب هذا الابن في المعركة أيضاً و عاد إلي المدينة جريحاً، و لم يتمكّن من النوم تلك الليلة إلي الصباح، حيث قاموا بكيّ الجراحات التي في بدنه إلي أن التأمت، و كانوا يكوونها بالنار لكي لا تلتهب.

  • و كان عبد الله بن ابيّ يشاهد هذا الوضع فيشمت بالنبيّ و أصحابه، و يسمعهم الكلام المقذع و يخاطب ابنه: لقد خرجت إلي الحرب يا بنيّ علي رأي هذا الرجل- أي محمّد- وَ عَصَانِي مُحَمَّدٌ وَ أطَاعَ الْوِلْدَانَ فلم يصغ إلي كلامنا نحن الشيوخ المجرّبين الذين عركنا الدهر وَ اللهِ لَكَأنِّي كُنْتُ أنْظُرْ إلَى هَذَا.

  • فأجابه الابن: الَّذِي صَنَعَ اللهُ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ (و لم يوجّه أيّ كلام قبيح أو سيّئ، بل اقتصر علي هذه).

  • ثمّ أخذ اليهود بإساءة القول أيضاً، من أنّ محمّداً قد خرج و عاد مهزوماً وَ مَا مُحَمَّدٌ إلّا طَالِبُ مُلْكٍ فما هو بنبيّ، لو كان نبيّاً لما حمل السيف، و لما أسلم نفسه للعدوّ في معركة بهذا النحو لكي يهزموه، فهو طالب مُلك، و عليه أن ينتهي في زاوية يعيش فيها. فهذا الخطّ من الدعوة ليس بدعوة نبوّة، مَا اصِيبَ هَكَذَا نَبِيُّ قَطُّ، اصِيبَ فِي بَدَنِهِ وَ اصِيبَ فِي أصْحَابِه.

  • كان هذا كلام اليهود. أمّا المنافقون فقد شرعوا أيضاً بقبيح القول و خذلان المسلمين و إذلالهم، و إساءة القول كذلك في حقّ النبيّ و توبيخ المسلمين و أمرهم بالانفضاض من حول النبيّ، و كانوا يقولون لهم لو كان‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

104
  • قد بقي معنا هؤلاء الذين خرجوا معكم و قتلوا لما قتلوا، و لقد أطاعوا هذا الرجل- محمّد- فقتلوا.

  • نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله‌

  • وصل هذا الكلام إلي أحد أصحاب النبيّ، فأتي إليه طالباً منه الإذن بقتل من يتكلّم بهذا من اليهود و المنافقين.

  • فقال له رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: "إنَّ اللهَ مُظْهِرُ دِينِه وَ مُعِزُّ نَبِيِّهِ؛ و لِلْيَهُودِ ذِمَّةٌ فَلَا أقْتُلُهُمْ"‌. إنّهم ليسوا كفّاراً حربيّين، بل ذمّيّين، و قد تعهّدت بحفظهم و حمايتهم، و لئن تكلّموا الآن بما يسي‌ء فليكن، فلا أستطيع قتلهم بسبب الكلام.

  • فقال: فَهَؤلاءِ الْمُنَافِقُونَ يَا رَسُولَ اللهِ!

  • فَقَال رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ و سَلَّمَ:" أ لَيْسَ يُظْهِرُونَ أن لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَ أنِّي رَسُولُ اللهِ؟

  • قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، وَ إنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تعَوُّذاً مِنَ السَّيْفِ؛ فَقَدْ بَانَ لَهُمْ أمْرُهُمْ وَ أبدى اللهُ أضْغَانَهُمْ عِنْدَ هَذِهِ النَّكْبَةِ.

  • فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ و آلِهِ و سَلَّمَ: نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ". و هذه الرواية ينقلها الواقديّ.۱

  • فانظروا هذا النبيّ إلي أيّ درجة هو في صراط العبوديّة؟! و كم هو عبد ذليل مطيع لأوامر الله تعالي؟! حيث يصبر علي كلّ هذه الإساءات القوليّة ثمّ يمنع أصحابه الذي جاءوا بسيوفهم المشرعة بهدف الانتقام، و يقول لهم: دعوهم و شأنهم، دعوهم يقولون ما شاءوا، فقد أمرني الله سبحانه بعدم قتل من تلفّظ بالشهادتين مهما كان قلبه، فلست مكلّفاً

    1. «المغازي» ج ۱، ص ٣۱۷. و قد أوردناها في دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة، قسم «امام‌شناسى» أي «معرفة الإمام» ج ۱٣، ص ٥۸.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

105
  • بالباطن، و إنّما بالظاهر حيث أمرني الله بقتال الناس حتّى يقولوا: أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ. فإذا قالوها فقد عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَ أمْوَالَهُمْ.

  • لقد قال النبيّ هذه الجملة عدّة مرّات في مواطن متعدّدة. و هذه قضيّة عجيبة للغاية أيضاً، يجب أن توجّه الإنسان و تلفت انتباهه إلي نمط عبودية رسول الله بحيث لا يجوّز لنفسه أدني تعدّ و تجاوز للخطّ الذي رسمه الله، و لأنّه يريد القيام بعمل خير، فالخير هو في أن يكون عبد للّه، و أن يجعل ولايته في مسار ولاية الله.

  • فلو أراد أن يبدي رأياً من عند نفسه لحصل اختلاف في الاتّجاه بين هذه الولاية و ولاية الله، و لكان هو بنفسه مسئولًا، أي لكان قد بدّل عمله الحسن بالسيّئ، أي أنّ العمل الذي نتيجته الشفاعة الكبرى و العمل الذي نتيجته الإمساك بلواء الحمد و ارتقاء منبر الوسيلة و الشفاعة للأوّلين و الآخرين‌ {وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ}‌.۱

  • نتيجته مؤاخذة الله له. و لقد كان النبيّ يمتلك نفسيّة كهذه!

  • فانظروا إلي هذه النفس كم هي خاضعة و خاشعة و ذليلة و مسكينة و مستكينة في مقام العبوديّة لله، ليس فيها أيّ جهة أمر أو نهي أو حبّ ظهور أو أنانيّة و محوريّة إلّا فيما يأذن فيه الله.

  • هذا هو معني الولاية، ولاية الأئمّة، ولاية أمير المؤمنين، ولاية إمام العصر عليهم السلام، و جميعهم علي هذا النهج. هؤلاء الذين يمتلكون الولاية لا يعني أنّهم يستغلّون ولايتهم تلك يوم القيامة فيقومون بإدخال أقوامهم إلي الجنّة و جميع مخالفيهم- لا المخالفين عقائديّاً فقط، بل حتّى‌

    1. الآية ۱۰۷، من السورة ٢۱: الأنبياء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

106
  • المخالفين عشائريّاً- إلي النار. كلّا فالأمر ليس كذلك علي الإطلاق. فكلّ هذه الامور قائمة علي أساس المعني و الحقيقة. فمن يدخل إلي الجنّة هو ذلك الذي يمتلك علاقة معهم. و ذلك الذي يدخل إلي النار هو من يكون منقطعاً عنهم. فولايتهم ولاية الله و أمرهم و نهيهم أمر الله و نهيه.

  •  

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

107
  •  

  •  

  • الدرس السادس: المَوَارِدُ الَّتِي يَبْدُو فيهَا حُكْمُ الْمَعْصُوم مُخَالِفاً لِحُكْمِ اللهِ، أمّا فِي الْوَاقِع فَهُوَ عَيْنُ حُكْمِ اللهِ.

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

109
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • لقد بيّنا أن رسول الله و الأئمّة عليهم السلام يمتلكون الولاية المطلقة الكلّيّة، و لازم الولاية هو التشؤن بشئون و مظهريّة أسماء و صفات الله العليّ الأعلى. و أنّ أمرهم الولايتيّ يكون حتماً في مسار كلام الله و الأوامر و القوانين الدينيّة. و أنّ من المحال أن يصدر منهم أمر أو نهي علي خلاف هذا النهج.

  • و نبيّن الآن أنّ من الممكن أن تصدر منهم في بعض الموارد أوامر و نواهٍ تكون مخالفة- بحسب النظر البدائي للإنسان طبعاً- لظواهر الشرع. و لكنّ المنشأ و المسار هو القانون و السنّة، و ليس هناك أيّ تخطٍّ عن الكتاب و السنّة.

  • و هذه الموارد حسبما تأمّلت في أطرافها تنحصر في ثلاثة موارد فقط

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

110
  • و إذا ما وُجِدت موارد اخرى أيضاً فهي إنّما ترجع إلي هذه الموارد الثلاثة.

  • الأوّل: تبدّل الحكم بواسطة تبدّل الموضوع‌

  • أحد تلك الموارد هو أن يأمر الإمام أو المعصوم علي أساس الكيفيّة و الحالة الموجودة في الإنسان، بينما يظنّ الإنسان نفسه خارج تلك الحالة، و يري نفسه منضوياً تحت حكم آخر، و يتخيّل أنّ هذا الحكم مخالف لحكم الله، مع أنّ الأمر ليس كذلك.

  • و كمثال علي ذلك أن يأمر المعصوم إنساناً بالأكل من لحم الميتة، مع أنّ الميتة حرام‌ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}.۱ فيخيّل للإنسان أنّ هذا الأمر الذي قد أمره به علي خلاف حكم القرآن، بينما يكون أمر المعصوم للإنسان بأكل الميتة في صورة إيجاب الضرورة، كأن يبتلي مثلًا بمخمصة أو مجاعة أو يكون في صحراء بنحو إذا لم يأكل الميتة فإنّه سيموت جوعاً فليس هناك من شي‌ء غيرها. أو كمثل الدواء المحرّم الذي يصفه له الطبيب لأجل انحصار معالجته به، و أمثال ذلك.

  • فقد يتوهّم الإنسان هنا أنّ أمر المعصوم بأكل الميتة مخالف لحكم الله، مع أنّه لو دقّقنا لوجدنا أن ليس ثمّة مخالفة، و ذلك لأنّ نفس الشارع الذي قال للإنسان: الميتة حرام و قال له: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}. قد عدّ ذلك جائزاً في صورة الاضطرار، فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.٢ و كذلك الآية الشريفة: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ}.٣ فمن يبتلي بمخمصة و مجاعة و يضطرّ لأكل شي‌ء من الميتة دفعاً للضرورة فلا تثريب عليه و يجب عليه أن يأكل.

    1. صدر الآية ٣، من السورة ٥: المائدة.
    2. ذيل الآية ٣، من السورة ٥: المائدة.
    3. جزء من الآية ۱۱٩، من السورة ٦: الأنعام.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

111
  • فهنا حيث قد ورد الحكم بحلّيّة أكل الميتة، لم يكن في الحقيقة ثمّة تبدّل للحكم، و إنمّا هو تبدّل للموضوع لذا فإنّنا نستطيع القول إنّ هذا الاستثناء «إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ» قد جعل الموضوع في الواقع موضوعيين: أحدهما: المكلّف في غير حال الاضطرار، و الآخر: المكلّف في حال الاضطرار. ففي غير حال الاضطرار: حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْمَيْتَةِ، و في حال الاضطرار: حُلِّلَتْ لَهُ الْمَيْتَةُ.

  • و لدينا موارد كثيرة نظير هذا المورد. فمثلًا في صلاة القصر و التمام هناك للمكلّف حالتان: إحداهما حالة الحضر، و الاخرى حالة السفر، فالصلاة حال الحضر أربع ركعات، أمّا في حال السفر ركعتان. و هناك موضوعان إذَن و في شهر رمضان علي الحاضر أن يصوم، بينما يجب علي المسافر أن يفطر. و هناك موضوعان أيضاً. و من خلال تبدّل الموضوع يتبدّل الحكم أيضاً، لا أن يكون هناك حكمان مختلفان يتعلّقان بموضوع واحد. و في الحقيقة فهذه صورة استثناء، و ذلك أنّ الاستثناء يرجع إلي تبدّل الموضوع، و لئن كان {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ‌} قد وردت هنا بصفة استثناء، لكنّ الموضوع في الحقيقة قد تبدّل و ملاك التكليف قد اختلف. فالمكلّف له ملاكان: أحدهما في حال اضطرار، و الآخر في غير حالة الاضطرار. و ينصبّ عليه حكمان مختلفان بحسب هذين الملاكين.

  • فالصوم واجب علي الشخص الحاضر، و حرام علي المسافر {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ}.۱ إلي أن يصل حيث يقول: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى‌ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.٢ فلو أمر رسول الله عندها

    1. صدر الآية ۱۸٣، من السورة ٢: البقرة.
    2. جزء من الآية ۱۸٤، من السورة ٢: البقرة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

112
  • إنساناً بالإفطار حال السفر لا ينبغي أن نقول إنّ أمره الولايتيّ هذا مخالف لنهج الكتاب، و إنّما هو بيان لحكم شخص الإنسان بسبب تبدّل الموضوع.

  • و كما حصل في معركة بدر التي وقعت في شهر رمضان حيث تحرّك رسول الله صلّى الله عليه و آله مع أصحابه و نزلت الآية التي تأمر بالإفطار في السفر، فأمرهم النبيّ بلزوم الإفطار، فلم يفطر كثير منهم، فقال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: "يَا مَعْشَرَ الْعُصَاةِ! إنِّي مُفْطِرٌ فَأفْطِرُوا!"

  • كان هذا أحد الموارد التي يمكن أن يأمر فيها المعصوم الإنسان بأمر فيظهر بحسب النظر البدائي مخالفاً لحكم الله، بينما ليس هناك في الواقع ثمّة مخالفة و إنّما ظهر كذلك في نظر الإنسان، و ذلك لأنّ هذا الأمر له سند و ملاك شرعيّ.

  • الثاني: أن يظهر للمعصوم شي‌ء يكون خافياً علي غيره‌

  • المورد الثاني: عند ما يكون للمعصوم علم بالواقع و الحقيقة. و هو يمتلكه دوماً، لكنّه هنا يقوم ببيان أمرٍ ما للإنسان علي أساس ذلك العلم، في الوقت الذي يكون فيه الوصول إلي تلك الحقيقة و ذلك الواقع أمراً مشكلًا أو محالًا بلحاظ إدراك الإنسان، كأن يعطي سيفاً لشخص فيأمره بالذهاب إلي قتل إنسان ما. فيأمر المعصوم و النبيّ و الإمام بهذا الأمر بينما يكون قتل المؤمن بنظر ذلك الشخص أمراً غير جائز، أمّا بنظر المعصوم الواقف علي المصالح و المفاسد و العواقب و الخصوصيّات و المقتضيات و الظروف و الممتلك للعلم الشامل الكلّيّ، فإنّ هذا الأمر عين الواقعيّة، لكنّه فوق مستوي إدراكنا.

  • و لقد كان النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم جالساً في المسجد يوماً فقال لأبي بكر: خذ هذا السيف و اذهب خلف المسجد و اقتل الشخص الواقف هناك. فأخذ أبو بكر السيف و ذهب خلف المسجد، فوجد ذلك الشخص في حال الصلاة، فرجع إلي النبيّ، فسأله النبيّ: أ قتلته؟ فأجاب‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

113
  • بالنفي، معلّلًا بأنّه كان متخشّعاً يصلّي.

  • فأعطي النبيّ السيف لعمر و قال له: اذهب فاقتله. فجاء هو أيضاً فوجد ذلك الشخص في الصلاة، فرجع، فسأله النبيّ إن كان قد قتله؟ فأجاب بالنفي. و عند ما سأله النبيّ عن السبب، قال: لأنّه كان متخشّعاً يصلّي.

  • ثمّ إنّ رسول الله صبر حتّى جاء أمير المؤمنين عليه السلام، فالتفت إليه و قال له: يا عليّ خذ السيف و اذهب خلف المسجد و اقتل ذلك الشخص، فأخذ الإمام السيف و ذهب إلي هناك، فوجد ذلك الشخص قد ذهب، فرجع أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً. فسأله النبيّ: هل قتلته يا عليّ؟ فقال: كلّا. فسأله عن السبب، فقال: لم أرَ أحداً هناك. فقال النبيّ: لو قُتل ما اختلف من امّتي رجلان.

  • فهذا الرجل رئيس الفتنة و أساس الفساد. و كم سيصدر من هذا الرجل من فتن عجيبة و غريبة فيما يأتي من الزمان من عالم الإسلام.۱

  • و كان و هذا الرجل حُرْقوص بن زُهَيْر المعروف بـ «ذي الخويصرة» الذي كان منذ ذلك الزمان يقوم بإيجاد الخلافات و الفتن بين المسلمين، إلي أن انتهى به الأمر إلي معركة النهروان فكان من رؤساء الخوارج فيها، حيث قتل بيد أصحاب عليّ عليه السلام.

  • و ها هي بنفسها مسألة و قضيّة: أنّه لما ذا يأمر المعصوم بقتله؟ فيقوم أمير المؤمنين بالذهاب و لو وجده لقتله وفقاً لأمر رسول الله. و ذلك لأنه‌

    1. كتاب «المراجعات» القيّم. تأليف العلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين، المراجعة ٩٤، نقلًا عن المصادر المهمّة عند أهل السنّة. و كذلك كتاب «الفصول المهمّة في تأليف الامّة» طبعة النجف، ص ۱۰۸ فما بعد، نقلًا عن كتبهم المهمّة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

114
  • لو وجده فلا شكّ في أنّه سيقتله حتّى لو كان في الصلاة، بل حال السجود، و لو كانت دموعه جارية علي ثيابه و أطرافه أيضاً. إذ إنّ هذا أمر رسول الله. أمّا اولئكم فليسوا كذلك، بل كانوا يقولون إنّه في حال الصلاة. أي أنّ نظرهم ظاهر الصلاة لا إلي باطن الأمر و عمقه.

  • الفرق بين السنّة و الشيعة هو في تجويز الاجتهاد في مقابل النصّ و عدمه‌

  • و هذه المسألة هي الفارق بين مذهب الشيعة و مذهب العامّة. فمذهب الشيعة كان موجوداً منذ زمن رسول الله إلي اليوم، و كذلك مذهب العامّة كان موجوداً هو الآخر منذ ذلك الزمان إلي اليوم. الشيعة أي أمير المؤمنين عليه السلام و أتباعه هم الأشخاص الذين يتّبعون النصّ و لا يجوّزون الاجتهاد مقابل النصّ، بينما يجتهد اولئكم و يبدون النظر في مقابل النصّ.

  • و جميع المسائل التي يختلف فيها الشيعة مع السنّة من ذلك الزمان إلي اليوم إنّما ترجع إلي هذا الأصل فقط، حيث يتعبّد الشيعة بالنصّ، بينما يتجاوز اولئكم النصّ و يقولون حتّى لو ورد في المسألة نصّ قرآنيّ أو سنّة نبويّة مسلّمة لكن لا مصلحة من العمل وفقاً لهما، فنحن أيضاً لنا نظرنا و رأينا، فنحن نري أنّ ذلك الشخص الذي وقف خلف المسجد و قد أمرنا النبيّ بقتله مشغولًا بالصلاة، و لا يصحّ أن يقتل المسلم، و المصلّي لا ينبغي أن يُقتل، فيقومون بإبداء النظر و الاجتهاد في مقابل النصّ. و هذه هي المسألة التي يختلف فيها الشيعة و السنّة.

  • و هي عيناً مثل قصّة موسى و الخضر علي نبيّنا و آله و عليهما السلام، حيث تقول الآية الكريمة: {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}.۱

  • لقد سار موسى و الخضر عليهما السلام حتّى وصلا مكاناً فيه أطفال‌

    1. الآية ۷٤، من السورة ۱۸: الكهف.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

115
  • يلعبون، فقتل الخضر أحدهم فاعترض عليه موسى أنّه كيف تقتل نفساً طاهرة بلا ذنب و لا حقّ أو قصاص؟! فهذا الطفل لم يقتل أحداً لكي يكون قتله قصاصاً جائزاً {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}. لكنّ الخضر قام بهذا العمل، ثمّ بيّن مصلحته لموسى فيما بعد.

  • و شاهدنا هو أنّ عمل الخضر (في قتل ذلك الغلام من دون دية و قصاص و من دون أن يكون قد قام بقتل نفس محترمة) إنّما كان علي أساس إدراك معيّن و نظرة لعواقب الامور لدي الخضر، فقد كان واضحاً لديه أنّ هذا الغلام إذا كبر فسيجعل أبويه كافرين مشركين و يردّهما عن الدين فيجب إزالته من الطريق. لقد كان هذا إدراكه.

  • أمّا النبيّ موسى فقد كان لديه إشكال حول هذا العمل، فكان يقول: إنّ هذا العمل عمل منكر و لا يجوز أن يُرتكب. فهل كان عمل الخضر و قوله صحيحاً؟ أم أنّ الصحيح ما قاله موسى؟ مع العلم بأنّ موسى عليه السلام يمتلك مقام النبوّة و هو نبيّ من اولي العزم و صاحب شريعة و معصوم، و لا شكّ لدينا في هذه الموارد. فأيّها صاحب الموقف الصحيح إذن؟

  • الجواب: أنّ كلًّا منهما قد اتّخذ موقفاً صحيحاً.

  • إثبات الحلّ من غير الطرق المشروعة حرام‌

  • فالنبيّ موسى لديه شريعة فهو يقول: إنّ كلّ عمل يجب أن يكون علي أساس قانون و دستور، فالإنسان لا يستطيع القيام بهذا العمل دون قانون، و لم يرد في الشريعة أن يُقتل إنسان دون سبب و علّة، إلّا أن يكون قد قتل بنفسه شخصاً، فيمكن للإنسان أن يقتصّ منه حينها علي أساس قتل النفس الذي ارتكبه، لكن لا يمكن قتل أحد دون سبب.

  • أمّا الخضر فكان ينظر من منظار آخر، و لم يكن قتل ذلك الغلام من منظار علمه الذي كان علماً خاصّاً به جائزاً فحسب، بل كان واجباً أيضاً.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

116
  • أمّا النبيّ موسى الذي عليه أن يكون حافظ الشريعة فلا يمكنه تجاوز شريعته. فذلك الشخص الذي جاء بالشريعة و الحكم للناس و أتي بحكم القصاص، و الذي أنزل الله عليه كتاب التوراة، و أمره بالحكم بين الناس علي أساسه، لا يستطيع أن يرتكب هذا العمل، فيداه مكبّلتان و لا يستطيع أن يقتل أحداً بهذا النحو بأيّ وجه من الوجوه.

  • و لذا فقد أمر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم هو الآخر في بعض الموارد الاستثنائيّة فقط مثل قضيّة «ذي الخويصرة» هذه، بقتل الشخص الفلاني مثلًا، أمّا في بقيّة الموارد كموارد القصاص و المنازعات و المخاصمات فلم يتصرّف بعلم الغيب الذي عنده، و قال‌ "إنَّمَا أقضِي بَيْنَكُمْ بالأيمَانِ و الْبَيِّنَاتِ"‌ (أي بشاهدين عدلين، أو بالقَسَم الذي يحلفه المنكر بعد إقامة الدعوي من طرف المدّعي) فأنا أحكم بـ: "الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعي و الْيَمِين عَلَى مَنْ أنْكَرَ".۱

  • ثمّ إنّ الأمر يجب أن يكون علي هذا النحو بالضرورة، ذلك أنّ الشريعة لها محكمة و حكم و قواعد و قوانين، إذا أراد الإنسان أن يتجاوزها و يتخطّاها فإنّ الهرج و المرج سيسودان في العالم.٢

    1. نفس المصدر، الباب ٣، الأحاديث من ۱ إلي ٦.
    2. روي الغزاليّ في «إحياء العلوم» ج ٢، ص ۱۷٦، أنّ عمر رضي الله عنه كان يعسّ بالمدينة ذات ليلة فرأي رجلًا و امرأة علي فاحشة، فلمّا أصبح قال للناس أ رأيتم لو أنّ إماماً رأي رجلًا و امرأة علي فاحشة فأقام عليهما الحدّ ما كنتم فاعلين؟ قالوا: إنّما أنت إمام‌ [قال الغزاليّ هنا]: هذا يشير إلي أنّ عمر رضي الله عنه كان متردّداً في أنّ الوالي هل له أن يقضي بعلمه في حدود الله؟ فلذلك راجعهم في معرض التقدير لا في معرض الإخبار خيفة من أن لا يكون له ذلك فيكون قاذفاً بإخباره، و مال رأي عليّ إلي أنّه ليس له ذلك و هذا من أعظم الأدلّة علي طلب الشرع لستر الفواحش فإنّ أفحشها الزنا و قد نيط بأربعة من العدول يشاهدون ذلك من في ذلك منها كالمرود في المكحلة و هذا قطّ لا يتّفق. و إن علمه القاضي تحقيقاً لم يكن له أن يكشف عنه. فقال عليّ عليه السلام: «ليس لك ذلك! إذاً يقام عليك الحدّ. إنّ الله لم يأمن علي هذا الأمر أقلّ من أربعة شهود ثمّ تركهم ما شاء أن يتركهم».
      و قال الغزاليّ هنا: في هذه الواقعة إشارة إلي أنّ عمر كان متردّداً في أنّه هل لوليّ المسلمين الحقّ في العمل بعلمه في حدود الله أم لا؟ و لذا جعل الأمر بشكل سؤال و فرض تقدير خوفاً من ألّا يكون له هذا الحقّ و يجعل نفسه بإخباره أنّه واجه حادثة كهذه مورداً لحدّ القذف أيضاً.
      و حاصل رأي عليّ عليه السلام أنّه ليس له مثل هذا الحقّ. و هذا أكبر دليل علي أنّ الشرع المقدّس يطلب الستر و التغطية للأعمال المنكرة و القبيحة، و ذلك لأنّ أقبح الفحشاء و المنكر عمل الزنا، و هو منوط بشهادة أربعة رجال عدول فقط بأنّهم شاهدوا عضو الرجوليّة للرجل في آلة الأنوثيّة للمرأة كمثل الميل في المكحلة، و هذا لم يتّفق علي الإطلاق. و لو علم القاضي شخصاً ما قام بهذا العمل فلا حقّ له في ذكره- انتهى كلام الغزاليّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

117
  • فيجب أن يُؤتي باللصّ إلي المحكمة و يشهد علي سرقته رجلان عدلان بأنّهما شاهداه قد سرق كما أنّ ذلك يجب أن يكون وفق تلك الشروط المذكورة في كتاب الحدود، و عندها علي الحاكم أن يقطع يده فوراً. و إلّا لما جاز قطعها.

  • فإذا قال الحاكم: إنّي لأعلم أنّه قد سرق فلا يجوز له أن يحكم بعلمه، و ذلك لأنّه إذا قال الحاكم إنّه قد ثبت لي من بعض الطرق غير المتعارفة أنّ هذا الشخص قد سرق، كما لو قاموا بتنويم طفل بواسطة التنويم المغناطيسيّ و أمثال ذلك، فشاهد السارق و دلّ عليه، مع أنّه لا يكون قد شاهد اللصّ لحدّ الآن، و لا كان يعرف شكله أيضاً، فقام بالتدليل علي جميع خصوصيّات اللصّ، بأنّه مثلًا أخو نفس صاحب البيت، و ثيابه و هيئته بهذا النحو، و أنّه أتي و أخذ هذا الشي‌ء الخاصّ ثمّ ذهب. فهذا يورث اليقين‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

118
  • عند الحاكم في كثير من الموارد، لكنّه لا يستطيع الحكم طبق هذا الأمر.

  • و قد يتّصل الإنسان بأرواح الجنّ و بعض الأرواح الاخرى و يطّلع علي الكثير من المغيّبات و يستطيع الإخبار عنها، لكنّه لا يستطيع التصرّف وفقها. و من الممكن كذلك بواسطة تسخير الشمس و القمر و أمثالها الاطّلاع علي بعض الامور الخفيّة، لكنّه لا يستطيع الإخبار عنها.

  • و لو كانت هذه الطرق مفتوحة لامتلأ العالم من الفساد. فالله تعالي لا يريد إراقة ماء وجوه الناس و إظهار فسادهم. الفساد ممتزج و متراكم في جميع النفوس. أمّا ذلك اليوم يوم الجزاء فسيكون يوماً آخراً. و هذا العالم الذي نعيش فيه عالم دنيّ و مغطّى و محجوب، و جميع المعايب هنا مستورة.

  • و في تلك الموارد التي أمر فيها بالإتيان بالعاصي و إقامة الحدّ عليه بقطع يد السارق مثلًا فإنّما حين يكون الأمر ظاهراً و قد شاهده أحد ما، و يثبت ذلك من الطريق الخاصّ، و هذا لا يتّفق في كلّ ألف مورد سرقة مرّة واحدة، و لا يتّفق بين كلّ ألف حالة زنا مرّة واحدة. كما أنّ قوانين القصاص و الجزاء إنّما هي لمنع تلك الجنايات لا لإتلاف النفوس، و إلّا فإنّ الكثير من الناس يرتكبون هذه الأعمال و يقومون بالمعاصي دون أن يطّلع عليهم أحد.

  • و إذا حاول الإنسان أن يكتشف معاصي أحد بغير الطرق الشرعيّة فهو حرام شرعاً. و لذا فجميع هذه العلوم محرّمة أيضاً، جميع العلوم التي يستطيع الإنسان بواسطتها التوصّل إلي وقائع معيّنة لها جانب موضوعيّ أيضاً إلّا أنّ الشرع لم يجعلها طريقاً، فهي محرّمة، فالشرع لم يجعل التنويم المغناطيسيّ طريقاً، و لم يسمح بالاتّصال بالجنّ طريقاً، و قد سدّ طريق الكهانة و السحر، فجميع هذه العلوم محرّمة، مع أنّ من المسلّم إصابة بعضها

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

119
  • للواقع، و لا كلام في ذلك، لكنّ الطريق غلط.

  • كما أنّ الموسيقي علم له موضوع صحيح، و تُوجِد الألحان المختلفة- وفق التعليمات الخاصّة- آثاراً علي روح الإنسان فتوقع الإنسان في حالة من البكاء أو الضحك أو تجعله مجنوناً، فهناك آثار موضوعيّة مترتّبة عليها، لكنّ الشرع قد نفاها و حرّمها. إذَن لا نستطيع القول بأنّها حلال لأجل موضوعيّتها و تحقّقها، لأنّ بين الحلال و الواقعيّة فارق كبير. فهناك امور كثيرة في الخارج لها واقعيّة لكنّها في الشرع ممنوعة، فالشرع يقول: يجب اتّباع هذا الطريق و الوصول إلي الواقع من خلاله. الحكم بين الناس يجب أن يكون من طريق الأيمان و البيّنات و إذا أردت الادّعاء علي شخص فعليك أن تأتي بشهود، و إلّا فأتِ بالطرف المقابل ليقسم، فإن لم يقسم، رجع القسم عليك و صار عليك أنت أن تقسم. و أخيراً فإنّ الأمر يُحلّ من هذا الطريق فقط، و الطرق الاخرى مسدودة، مع أنّك متيقّن و قد شاهدت اللصّ بعينيك يدخل إلي بيتك و يحمل أموالك و يأخذها معه. فهل هناك يقين أكثر من هذا؟!

  • فإذا ذهبت في هذه الحال إلي الحاكم و شهدت علي السرقة فإنّ شهادتك غير مقبولة. و ذلك لأنّها شهادة لنفسك، و يجب أن تأتي بشاهدين آخرين، و يجب أن يكون الشاهدان صادقين مستقيمين أيضاً، فإذا ما شهدا فالحكم نافذ، و إلّا فلا، و يبقي إلي يوم القيامة حيث يقوم الله بالمجازاة. و ذلك لأنّ الطريق الشرعيّ منحصر في هذا.

  • شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً

  • {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً}.۱ معناه أنّه علي الإنسان أن يرد هذه الشريعة و ذلك المنهل عن طريق ما أوصي به الله نوحاً و إبراهيم‌

    1. صدر الآية ۱٣، من السورة ٤٢: الشوري.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

120
  • و عيسى و موسى و النبيّ من‌ {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}.

  • علي الإنسان أن يرد إلي الماء من تلك الشريعة و ذلك المنهل (في الأنهار الكبيرة مثل دجلة و الفرات و التي هي دوماً في حالة مدّ و جزر، و حيث يواجه الناس فيها مشقّات كبيرة في سبيل تحصيل الماء، فهم يصنعون مكاناً لأجل النزول التحصيل الماء، و يتوصّلون إليه عن هذا الطريق، و يسمّونه بالشريعة، و لا يستطيعون تحصيل الماء عن غير هذا الطريق.)

  • الشريعة تعني ذلك الطريق الذي فُتح لنا لأجل تحصيل الماء من النهر أو البحر، و إذا لم تكن هذه الشريعة و أراد الإنسان أن يُلقي بنفسه في النهر أو البحر لتحصيل الماء فسوف يختنق أو يُحرم من الحصول علي الماء. أمّا الشريعة فهي دين واضح و مشاهد و طريق مستوٍ و مستقيم لا يواجه فيه الإنسان أيّ خطر. و طريق الشريعة هذا و تشريعه و تعيينه بيد الشارع، فهو يقول: إنّي قد جعلت لكم هذا الطريق لأجل الوصول إلي الحكم الواقعيّ و أغلقت جميع الطرق الاخرى، فما ذا تقولون؟! لو قلت لكم: من الواجب عليكم أن تتشرّفوا اليوم بزيارة الإمام الرضا عليه السلام، لكنّ طريقكم هو ما اعيّنه لكم و لا يجوز لكم أن تسلكوا طريقاً آخر أبداً لأنّي أعلم أنّ هذا الطريق طريق مستوٍ و واضح و مباشر لا خطر فيه، أمّا في الطرق الاخرى فثمّة خطر يتهدّدكم، إذ إنّ من الممكن أن يكون في إحداها مستشفى أوبئة مثلًا، فإذا أردتم العبور من هناك أصبتم بالوباء، بينما يكون في طريق أخر منها بئر مغطّى إذا سرتم منه سقطتم في ذلك البئر، و في طريق ثالث هناك أشخاص يريدون الفتك بكم لاغتيالكم و هكذا سائر الطرق.

  • أو أنّ هناك طريقاً آخر أيضاً بعيداً جدّاً و إن لم يكن فيه خطر عليكم، لكن عليكم أن تصرفوا أعماركم كي تتمكّنوا من الوصول إلي‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

121
  • المقصد. فإذا انحصر الطريق بهذا الممرّ فعلي الإنسان أن يختاره حتماً، لأنّه ليس خالٍ من احتمال الضرر فحسب، بل إنّ منفعته أيضاً ستكون أكثر من باقي الطرق.

  • لا يستطيع النبيّ موسى عليه السلام أن يتجاوز شريعته‌

  • و هكذا فإنّ حاكم الشرع لا يستطيع أن يحكم بين الناس بغير كتاب الله و سنّة النبيّ حتّى لو كان عنده علم بالواقع كأن يطّلع علي الأخبار الصحيحة بواسطة العلقة و الاتّصال مع بعض أفراد الجنّ أو الأرواح. و بشكل عامّ فإنّ هذا الاتّصال يورث الظلمة للإنسان، و هذا بنفسه علامة و دليل علي عدم صحّة الطريق، و قد منع الشرع المطهّر عنه.

  • و حاكم الشرع لا يستطيع أن يحكم بين الناس علي أساس الرؤيا، حتّى لو كانت صحيحة أو بواسطة المكاشفة و ادّعاء الاتّصال بعالم الغيب، فقوله غير مقبول.

  • إنّ علم حاكم الشرع مختصّ به، و يجب عليه أن يحكم بين الناس علي أساس القواعد و القوانين و البيّنة و اليمين، و قد كانت سيرة النبيّ بهذا النحو، و سيظلّ الأمر كذلك إلي زمن ظهور إمام العصر و الزمان عجّل الله تعالي فرجه الشريف. لكنّ في ذلك الزمان- و وفقاً لبعض الروايات الواردة- فإنّ الإمام عليه السلام سوف يحكم بالواقع، أي تزول الأيمان و البيّنات، و ستنكشف الحقائق و سيحكم بين الناس بهذا الميزان مثل النبيّ داود عليه السلام. فقد ورد في الروايات أنّ داود عليه السلام كان يحكم بهذا النحو، و أنّ كلّ من جاءه في منازعة فإنّه كان يحكم فيها علي أساس الواقع.

  • أمّا في شريعة الإسلام- و التي هي شريعة كاملة تجمع بين الظاهر و الباطن و تستر معايب الناس، فالحكم علي أساس الأيمان و البيّنات.

  • و لذا فقد كان النبيّ و أمير المؤمنين و بقيّة الأئمّة عليهم السلام و هم‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

122
  • مصدر و معدن العلم يقولون: إنّما نحكم بينكم بالأيمان و البيّنات.

  • و بناءً علي هذا فقد كان اعتراض النبيّ موسى علي الخضر حيث قال له: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً۱ صحيحاً علي أساس نهجه و طريقه، لأنّه كان يمتلك شريعة، و شريعته لا تسمح له بارتكاب مثل هذه التصرّفات. و الخضر أيضاً كان يعلم ما ذا يفعل، فعمله لا علاقة له بموسى. لكنّ موسى عليه السلام المأمور من قبل الله بالشريعة لا ينبغي له أن يحكم بحكم ولايتيّ مخالف للشريعة.

  • لقد كان هذا هو المورد الثاني من الموارد التي قد يبدو فيها حكم الحاكم و حكم الإمام المعصوم بنظرنا مخالفاً للواقع. بَيدَ أنّه يتحصّل من هذا البيان أنّه في الحقيقة مطابق للواقع.

  • الثالث: المورد الذي يظنّ الإنسان بخلافه انطلاقاً من العادات الجاهليّة

  • الموارد الثالث: حين يحكم النبيّ أو الإمام للإنسان بحكم، لكنّ ذلك الإنسان- باعتباره غارقاً في مجتمع جاهليّ و أفكار معوجّة و سنن و آداب قوميّة لا تعدو كونها اموراً اعتباريّة و موهومة و أفكار خرافيّة- و قد اعتاد الإنسان عليها و أنس بها- فإنّ ذلك الحكم سيبدو له مخالفاً، و سيستوحش من العمل به، و سيستغرب في نفسه صدور هذه الكلمة من النبيّ و الإمام، مع أنّ الحكم فيها خلاف الواقع. أمّا تعمّقتم في المسألة بالتحليل العقليّ لوجدتم أنّه ليس ثمّة مخالفة أصلًا. و إنّما المخالفة في فكر الإنسان الذي تربّي علي أساس الأوهام و التخيّلات غير الواقعيّة و التي لا أصالة لها. و الذي قام من ثمّ بقياس أصالة واقعيّة الخارج وِفْقَهُ. و هو أمر خاطئ، لذا فإنّ علي النبيّ أو الإمام أن يقوم بتكليفه. و علي الإنسان أن يدع هذه الأوهام و المتخيّلات جانباً. و الإسلام قائم علي هذا الأساس. الإسلام دين‌

    1. ذيل الآية ۷٤، من السورة ۱۸: الكهف.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

123
  • مطابق للحقّ و مطابق للواقع. كلّ حكم قائم علي أساس التخيّل و الاعتبار و لا يستند إلي الحقيقة فهو باطل مهما كان.

  • القرآن كتاب حقّ، و قد استعمل لفظ الحقّ في القرآن كثيراً، فهو ينسب الأنبياء إلي الحقّ، و ينسب الأحكام إلي الحقّ. يقول تعالي: {وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ}.۱ و يقول في آية اخرى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.٢ فحتّى لو كره الكافرون ذلك، فإنّ علي الإنسان أن يحقّ الحقّ و يبطل الباطل.

  • و لقد كانت بعض أوامر رسول الله بهذا النحو. و من المناسب جدّاً للتأمّل و الدقّة أن نشخّص هذه الموارد جيّداً، و ننظر فيها بتمعّن، و نميّزها عن بعضها، كي لا نبتلي- لا سمح الله- في بعض الأحيان بهذه الآراء الشخصيّة و الأحكام القوميّة و السنن الجاهليّة. و الآداب المجوسيّة و الزرادشتيّة، أو بآداب و ثقافة الأجانب الشائعة بيننا بكثرة و لكي لا نتجاوز سنّة النبيّ.

  • و نقوم الآن ببيان موردٍ واضح جدّاً تلك الموارد.

  • من جملة موارد أعمال الولاية التشريعيّة لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قصّة زينب التي زوّجها رسول الله بأمره الولائيّ إلي ابنه بالتبنّي و عتيقه زيد بن حارثة. و بعد أن طلّقها زيد قام النبيّ بالتزوّج بها بأمره الولائيّ أيضاً.

  • و القصّة علي هذا النحو: لقد كانت زينب ابنة عمّة الرسول، أي بنت اميمة بنت عبد المطلب، فقد تزوّجت اميمة رجلًا اسمه جحش، و ولدت‌

    1. جزء من الآية ۷، من السورة ۸: الأنفال.
    2. الآية ۸، من السورة ۸: الأنفال.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

124
  • منه بنتاً اسمها زينب، إذَن زينب بنت جحش هي بنت اميمة بنت عبد المطلب، و ابنة عمّة رسول الله.

  • و كان زيد بن حارثة غلام رسول الله، و كان قد أعتقه النبيّ ثمّ تبنّاه بعد أن أعتقه. (و كان التبنّي متعارفاً و متداولًا بكثرة بين الناس في ذلك الزمان) و لقد كانت جميع أعمال رسول الله علي أساس الحكمة و المصلحة، حيث نقوم الآن ببيان شي‌ء من ذلك هنا:

  • لقد كان العرب في الجاهليّة يعتبرون الابن بالتبنّي- و الذي يسمّي بـ«الدعيّ»- ابناً حقيقيّاً، و يعدّونه ابناً واقعيّاً في جميع أحكام البنوّة كالنكاح و الإرث و سائر الامور. و لذا كانوا يعدّون زوجة الابن بالتبنّي زوجة ابن حقيقيّة و يعتبرونها محرماً، و لم يكونوا يتزوّجونها بعد أن يطلّقها دعيّهم. لأنّهم كانوا يقولون إنّها زوجة ابنهم و هي محرّمة بالحرمة الأبديّة.

  • و من جهة اخرى فقد كانت الطبقيّة شائعة بين العرب، فلم تكن أيّة امرأة وجيهة و ذات شخصيّة من الأشراف مستعدّة للزواج من مولي لا يملك وجاهة و اعتباراً من ناحية النسب.

  • و كان كبراء العرب يزوّجون بناتهم إلي الأشخاص المعروفين و المنتخبين إلي القبائل و العشائر و لذوي النسب و الوجاهة. و كانوا يعدّون تزويج الفقراء و المحتاجين و الموالي المعتقين من أكبر العار، و كانوا مستعدّين للموت أو ترك بناتهم بلا تزويج علي أن يخضعوا لزواجٍ كهذا.

  • فأمر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عزّ و جلّ بإزالة أحكام الجاهليّة هذه. بأن يعلن للناس.

  • أوّلًا: أنّ شرف المؤمن إنّما هو بالإيمان و التقوي لا بالمال و الحسب و النسب. و بناء عليه فإنّ لكلّ رجل مسلم و فقير- و إن كان عبداً و مولي معتق- الحقّ في أن يتزوّج من بنات الأشراف. كما أنّ في مقدور المرأة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

125
  • الشريفة و الأصيلة أيضاً أن تتزوّج من أحد المؤمنين الفقراء، فالتكافؤ في الزواج و اختيار الزوجة أو الزوج، أي التساوي في النمط و الطبقة إنّما هو في الإيمان و التقوي، لا التساوي في النمط و التكافؤ في المال و الاعتبار و العشيرة و القوم و القبيلة.

  • ثانياً: أن يعلن للناس أنّ دعيَّ الإنسان ليس ابناً له: و لا يترتّب عليه أيّ من آثار النسب. أي أنّ الابن بالتبنّي ليس ابناً، و البنت بالتبَنّي ليست بنتاً، فلا يرثان و لا يورّثان، كما أنّ البنت بالتبنّي ليست محرماً، و الابن بالتبنّي ليس محرماً علي زوجة المتبنّيّ. كما لا تعدّ زوجة الدعيّ زوجة ابن للإنسان أيضاً، و لا تصير محرماً علي الإنسان. فلو طلّقها الدعيّ بعد ذلك فإنّ في مقدور الإنسان أن يتزوّجها، و ذلك لأنّها امرأة أجنبيّة بكلّ معني الكلمة، و لا تُعدُّ من المحارم.

  • لقد أزال الإسلام هذه السنّة الجاهليّة و لم يجعل حكماً خاصّاً للدعيّ لا في الإرث و لا في المحرميّة و لا في حرمة النكاح. و بناء عليه و بحكم القرآن الصريح فليس هناك أيّ فرق بين الدعيّ و غيره، و أنّ عنوان الدعيّ لا يدخله في النسب بوجه من الوجوه.

  • وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ‌ ... ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ‌

  • لقد ورد هذا الحكم في الآيتين الرابعة و الخامسة من سورة الأحزاب، حيث يقول تعالي:

  • وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ، ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ.۱

  • و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ينوي تنفيذ هذا الحكم،

    1. ذيل الآية ٤، و صدر الآية ٥، من السورة ٣٣: الأحزاب.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

126
  • لكنّه كان يخشي من الناس حديثي العهد بالإسلام أن يستوحشوا و لا يخضعوا و يعودون عن الدين قائلين: إنّ محمّداً قد أتي بشريعة و العياذ بالله كالمجوس تروّج نكاح المحارم. و لذا كان خوف رسول الله من الناس لأجل حفظ الدين و لأجل الله. لكنّ الله يأمره ألّا يهتمّ لهذا الخوف، و أن يكون خوفه من الله وحده و أنّ عليه أن ينفّذ هذا الحكم.

  • لقد كان رسول الله صلّى الله عليه و آله حين نزول الأحكام الشديدة التي لم يكن الناس يتحمّلونها في بداية الأمر يقوم بتنفيذ ذلك الحكم في حقّ نفسه و قومه و أقربائه أوّلًا، و يعمل بها لكي يعلم الناس أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قد خضع لهذا الحكم بنفسه و بما يملك، و طبّقه علي نفسه، و بالتالي يزول استيحاشهم و تردّدهم أو يخفّ علي الأقلّ.

  • فعند ما أراد مثلًا إلغاء الربا و الحكم بتحريمه و نقض الأموال الربويّة التي كانت للناس علي بعضهم في الجاهليّة و إسقاطها عن درجة الاعتبار قام بتطبيق ذلك في حقّ عمّه العبّاس أوّلًا فأسقط جميع الأموال الربويّة التي كانت له علي الناس، كما ورد في «السيرة الحلبيّة» حول خطبة حجّة الوداع التي أوردها في عرفات أنّه «وَ وَضَعَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ وَ أوَّلُ رِباً وَضَعَهَ رِبَا عَمِّهِ الْعَبَّاسِ».

  • و كذلك حين أراد إسقاط قيمة دم المشركين و غير المسلمين أسقط أوّلًا دم ابن عمّه ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب الذي سفك في الشرك و الجاهليّة، و كانت هُذَيل قد قتلته كما ذكره الحلبيّ بقوله:

  • وَ وَضَعَ الدِّمَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَ أوَّلُ دَمٍ وَضَعَهُ دَمُ ابْنِ عَمِّهِ رَبِيعَةِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَتَلَهُ هُذَيْلٌ، فَقَالَ: أوَّلُ دَمٍ أبْدَأ مِنْ دِماءِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٍ؛ فَلَا يُطْلَقُ بِهِ فِي الإسْلَامِ.

  • و قد قال النبيّ في نفس هذه الخطبة: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَ أمْوَالَكُمْ حَرَامٌ‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

127
  • عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، ثُمّ ألَا كُلُّ شَي‌ءٍ مِنْ أمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ، وَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَ أوَّلُ رِباً أضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ".۱

  • قصّة زينب بنت جحش و زواجها من رسول الله‌

  • أجل فقد أراد النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و لكي ينفّذ الأمر الأوّل، و هو الزواج بين طبقة الأشراف و طبقة الضعفاء. أن يطبّقه في المرّة الاولي في حقّ عائلته- فجاء إلي ابنة عمّته زينب بنت جحش و خطبها لزيد بن حارثة مولاه و ابنه بالتبنّي. فأنفت زينب من هذا الأمر، كما ورد في تفسير «الدرّ المنثور» من أنّه: أخْرَجَ ابْنُ جُرَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَاسْتَنْكَفَتْ مِنْهُ وَ قَالَتْ: أنَا خَيْرٌ مِنْهُ حَسَباً، وَ كَانَتِ امْرَأةً فِيهَا حِدَّةٌ.

  • فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً}.٢

  • فقبلت زينب الزواج من زيد، و صارت في حبالته التزاماً بالأمر الولايتيّ لرسول الله. و لم يكن هذا الزواج- بالطبع- هادئاً و ساكناً، فكانت زينب تشعر في نفسها بالشرف و الكبر باستمرار، و تعدّ زيداً زوجها غلام و مولي ابن خالها محمّد رسول الله. و لقد ضيّق هذا التنافر النفسيّ الأمر علي زيد، فجاء إلي رسول الله مراراً طالباً الإذن في طلاق زينب، فلم يكن النبيّ يأذن له، و كان يأمره بإمساك زوجه و عدم طلاقها.

  • {وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ‌

    1. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩۸.
    2. الآية ٣٦، من السورة ٣٣: الأحزاب.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

128
  • وَ اتَّقِ اللَّهَ}.۱

  • و عمل زيد بأمر النبيّ، و صبر علي جفاء زينب إلي أن نفدت طاقته، فجاء إلي رسول الله و أخبره بنفاد صبره و تحمّله لها طالباً الإذن بطلاقها. فأذن له النبيّ فطلّقها.

  • و هنا امر النبيّ بأمر من الله بتنفيذ الحكم الثاني، و هو إلغاء آثار التبنّي. و كان ذلك أيضاً في المرحلة الاولي في حقّ نفسه بأن يتزوّج التي هي زوجة دعيِّه و في حكم زوجة ابنه، لكي يتّضح للناس عمليّاً أنّ زوجة الابن بالتبنّي ليست زوجة ابن و أنّ نكاحها لا إشكال فيه. لكن النبيّ كان في خوف و قلق من الناس. إذ إنّ هذا الأمر لم تكن له سابقة عندهم، فلو تزوّج من زينب لقالوا إنّ رسول الله قد تزوّج زوجة ابنه و لرجعوا عن الدين. و كان من المحتمل كثيراً أن ينقلب وضع الإسلام في تلك المراحل.

  • فنزلت الآية، و مضمونها نهي النبيّ عن خشية الناس، و أمره بتنفيذ أمر الله، و أنّ الله أحقّ بأن يخشاه، و أنّ ما يخفيه في نفسه من أمر الله له (في الزواج من زينب) و عدم ذكره للناس سوف يُظهره الله: {وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ}.٢

  • فقام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بالزواج من زينب بأمر من الله من أجل إزالة هذه البدعة الجاهليّة.

  •  

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّد

    1. صدر الآية ٣۷، من السورة ٣٣: الأحزاب.
    2. جزء من الآية ٣۷، من السورة ٣٣: الأحزاب.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

129
  •  

  •  

  • الدرس السابع: تَحْقِيقٌ فِي الأوَامِرِ الوَلَايَتِيَّةِ شِبْهِ الامْتِحَانِيَّة الَّتِي لَيْسَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيها فِي الْمَأمُورِ بِهِ.

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

131
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • {فَلَمَّا قَضى‌ زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}.۱

  • لقد ورد قضاء الوطر هنا (و الذي بيّنا أنّه يعني الاستمتاع و الدخول) في موضعين، الأوّل: {فَلَمَّا قَضى‌ زَيْدٌ مِنْها وَطَراً}. و الثاني: في ذيل الآية: {فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً}.

  • و زوجة الابن بالتبنّي ليست بزوجة ابن، سواء كان قد دخل بها أم لا، فلا يختصّ هذا الحكم بصورة عدم الدخول.

  • كانت هذه بشكل عامّ حقيقة قصّة زينب و الأمر الولايتيّ لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و التي جري بيانها وفقاً للآية القرآنيّة الشريفة

    1. ذيل الآية ٣۷، من السورة ٣٣: الأحزاب.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

132
  • و لتفاسير الشيعة. و قد عرفنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قد واجه إشكالًا، في زواجه من زينب إذ يأمره الله تعالي من جهة بإتمام هذا الزواج، بينما الحميّة الجاهليّة الباقية بين الناس و اضطراب الحال و عدم مساعدة الظرف لا تفسح المجال لذلك من جهة اخرى و قد أقدم النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم علي ذلك انطلاقاً من أمر الله، لا بسب ميله الباطنيّ نحو زينب. هذا هو واقع القصّة و حقيقتها.

  • بعض تفاسير العامّة قد حرّقت قضيّة زينب بشكل قبيح‌

  • لكنّ الكثير من تفاسير أهل السنّة تبيّن هذه القصّة بصورة غير حسنة. و كذلك فعل المستشرقون لأنّهم تعرّفوا علي الإسلام و معارفه من خلال تواريخ و تفاسير أهل السنّة، لذا فهم يرون الإسلام من هذه الزاوية و يبتلون بالإشكالات.

  • و علي أيّ تقدير فإنّ قضيّة زينب و زواج النبيّ منها، و قضيّة إخراج الدعيّ و الولد المتبنّي من النسب، و كذلك زواج المرأة الشريفة من الرجل الفقير، كانا أمرين وَلايَتِيَّيْنِ سبّبا أن يتصرّف النبيّ بهذا النحو الذي ذكر.

  • و لئن كان تصرّف رسول الله، يبدو مخالفة بحسب الظاهر، لكنّه يتّضح بعد التأمّل أنّه عين الواقع و عين الشريعة، و ليس تخطّياً عن حكم الله و الشريعة.

  • أحد الأوامر الولايتيّة الاخرى لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم هو أمره لأمير المؤمنين عليه السلام فيما يتعلّق بقتل «مابور» الذي كان عند «مارية القِبْطِيَّة».۱

    1. ورد في «تنقيح المقال» ج ٢، ص ۸٢، من فصل النساء ما يلي: الضبط «مَارِيَة» بالميم و الألف و الراء و المهملة المكسورة و الياء المثنّاة من تحت المفتوحة و الهاء «القطا» و تسمّي به الإناث.
      و ورد في «مجمع البحرين» ج ۱، ص ٣٩٢: مارِيَة- بالتحتانيّة الخفيفة- القبطيّة: جارية رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم امّ إبراهيم ابن النبيّ، صلّى الله عليه و آله و سلّم.
      و أوردوا «مارية» في كتب اللغة أيضاً بتخفيف الياء، و قالوا: اسم امرأة ضرب بها المثل، كانت ابنة أرقم بن ثعلبة. بتشديد الياء أيضاً بمعني: «القطاة الملساء». و امرأة مارية: بيضاء برّاقة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

133
  • فَلْنَرَ ما ذا كان هذا الأمر؟ و ما هي حقيقته؟ لأنّه قد قلنا إنّ الأوامر الولايتيّة لرسول الله لا تعدو تلك الطرق الثلاثة التي بيّناها.

  • فَلْنَرَ الآن من أيّ قسم كان أمر النبيّ لأمير المؤمنين.

  • لقد كان المقوقس حاكم الإسكندريّة قد أرسل جاريتين للنبيّ بعنوان هدية. إحداهما اسمها مارية، و الاخرى نسرين. و كانتا اختين من الأقباط (من مصر)، فأرسلها المقوقس إلي النبيّ مع شخص أمين اسمه «مابور» و هو قبطيّ أيضاً. و قد ورد في الروايات أنّ مابور قد كان خصيّاً، و الخصيّ: هو من تُسَلُّ خصيتاه لكي تسلب رجولته. و كان هذا العمل شائعاً في الماضي كثيراً، خصوصاً في العوائل الحاكمة و المالكة فكانوا يخصون الرجال الذين كانوا يتردّدون بين الحريم و يحتاج إلي دخولهم إلي بيت الحريم لأجل الخدمة و سائر الأعمال اللازمة لكي يُطمأن بشكل كامل إلي عدم صدور خيانة منهم.

  • و لقد أرسل المقوقس «مابور» و الذي كان بحسب بعض الروايات من قوم مارية و نسرين، و بحسب بعضها الآخر من الروم لأجل الخدمة و المساعدة و المرافقة و الحماية، و بملاحظة أمانته فقد أرسله معهما إلي النبيّ.

  • و بالطبع فإنّهم لم يكونوا وحدهم، بل كان يرافقهم في رجوعه أحد أصحاب النبيّ الذي كان ذاهباً إلي مصر في مهمّة حاملًا رسالة من النبيّ‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

134
  • فقام أثناء الطريق بتعليم الرجل و المرأتين الكثير من التعاليم الدينية.

  • و ورد في بعض الروايات أنّ مابور قد أسلم أثناء الطريق و قبل الوصول إلي الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم. و قد اصطفى النبيّ من بين الجاريتين مارية لنفسه، بينما وهب نسرين لحسّان بن ثابت.

  • و كانت بعض نساء النبيّ- و خصوصاً عائشة و حفصة- تؤذيه و تقول: ما هذا العمل! أ وَ لسنا نحن نساؤك و لدينا كذا و كذا من الصفات؟

  • و مع أنّ اقتناء الجواري أمر حلال و جائز للنبيّ لكن بما أنّ مارية امرأة جميلة و تملك صفات متميّزة فقد حسدنها و صعّبن الأمر علي النبيّ إلي أن تعب صلّى الله عليه و آله و سلّم فأخذ مارية و أسكنها في أعالي المدينة المتّصلة بنجد، إذ كان هناك بساتين و قد حفر لها أيضاً بئر ماء، و تسمّي الآن أيضاً بـ «مشربة امّ إبراهيم» و يسكن هناك بعض الشيعة.

  • و كان النبيّ يذهب لرؤية مارية هناك لأنّها بعيدة عن المدينة و عن فتنة نسائه و حسدهن.

  • و قد كانت مارية امرأة غاية في الجلالة و الإيمان و الفهم و حسن الشخصيّة و الأدب و التربية و المحافظة، و تعدّ من محبّي الزهراء و أمير المؤمنين عليهما الصلاة و السلام. و كانت هذه الامور من خصائصها البارزة التي ربّما كانت هي المسبّبة لحسد الآخرين لها.

  • مسألة اتّهام مارية القبطيّة بواسطة عائشة

  • و قد وهب الله رسوله من مارية ابناً اسمه إبراهيم، تُوفّي بعد أن بلغ سنة و ثمانية أشهر تقريباً.

  • و قد استعظمت عائشة كثيراً إتيان مارية بولد، إذ إنّها لم تكن تملك ولداً، ممّا كان يذكي شعلة الحسد في أعماق قلبها.

  • و قد ذكر ابن أبي الحديد و آخرون أيضاً أنّ مقداراً من حسدها للزهراء سلام الله عليها كان لهذا السبب، إذ رأت أنّ الزهراء عندها عدّة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

135
  • أولاد هم أولاد حقيقيّون للنبيّ، و كان يقوم بتقبيلهم و تدليلهم، فكان يثقل عليها أن تري نفسها بلا ولد، بينما بنت الرسول التي هي في عمرها لها عدّة أولاد، هم أولاد حقيقيّون للنبيّ، و يبدي لهم تلك المحبّة و العناية. و كان الأمر بالنسبة لمارية علي هذا النحو إلي حدّ ما، و بالطبع فإنّه لم يصل إلي ما كان عليه بالنسبة إلي الزهراء عليها السلام، لكنّ حسد عائشة وصل إلي الحدّ الذي جعلها تقول للنبيّ صلّى الله عليه و آله إنّ هذا الابن الذي أتت به مارية ليس ابنك، و إنّها و العياذ بالله قد جاءت به من ذلك الرجل الذي يخدمها. و الدليل علي ذلك أنّه منذ أن جئت المدينة لم تأت بولدٍ من نسائك لا منّي و لا من غيري، و ليس عندك أولاد سوي من خديجة في مكّة.

  • و كان أمير المؤمنين عليه السلام حاضراً، فقال له رسول الله: يا عليّ اذهب و اقتل ذلك الرجل الذي مع مارية.

  • فقام أمير المؤمنين عليه السلام و قال: أ أنفّذ أمرك رأساً يا رسول الله أم تعطيني حريّة الرأي و التصرّف أيضاً؟ فقال النبيّ لك ذلك، فاذهب و انظر ما الأمر و تصرّف حسبما تري.

  • فذهب أمير المؤمنين عليه السلام إلي هناك، و ما أن سار نحو «مابور» بالسيف حتّى فرّ منه و صعد إلي نخلة كانت هناك و رمي نفسه منها إلي الأرض رافعاً رجليه نحو السماء بنحو انكشفت منه عورته، و قد أراد بهذا التصرّف أن يُرى نفسه. فرأي أمير المؤمنين عليه السلام أنّه ليس برجل أصلًا، و حتّى أنّه ليس بخصيّ أيضاً- و الخصيّ من تسلّ خصيتاه لكي تسلب رجولته- و إنّما هو أجبّ أمسح، أي قد ولد لا يمتلك عضو الرجوليّة: مَا لَهُ مِمَّا لِلرَّجُلِ قَلِيلٌ وَ لَا كَثِيرٌ.

  • فأغمد أمير المؤمنين عليه السلام سيفه و رجع إلي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلم و حكي له القصّة. فقال النبيّ صلّى الله عليه و آله‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

136
  • و سلّم: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَصْرِفُ عَنَّا أهْلَ الْبَيْتِ الامْتِحَانَ".

  • إخبار أمير المؤمنين الرسول الاكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم ببراءة مابور

  • و نذكر هذه الرواية طبقاً لما نقله المرحوم العالم الكبير و الفقيه الجليل و مفخرة الإسلام ابن شهرآشوب في «المناقب» لنبحث الموضوع من خلالها:

  • يقول ابن شهرآشوب‌۱: يروي التاريخيّ في تاريخه و [أبو نعيم‌] الأصفهانيّ في «حلية الأولياء» عن محمد بن الحنفيّة: إنَّ الَّذِي قُذِفَتْ بِهِ مَارِيَةُ وَ هُوَ خَصِيُّ اسْمُهُ مَابُورُ؛ وَ كانَ الْمُقَوْقِسُ أهْدَاهُ مَعَ الْجَارِيَتَيْنِ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ. فَبَعَثَ النَّبِيُّ عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلامُ وَ أمَرَهُ بِقَتْلِهِ. فَلَمَّا رَأى عَلِيّاً وَ مَا يُرِيدُ بِهِ تَكَشَّفَ حَتَّى بَيَّنَ لِعَلِيٍّ أنَّهُ أجَبُّ، لَا شَي‌ءَ مَعَهُ مِمَّا يَكُونُ مَعَ الرِّجَالِ؛ فَكَفَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

  • و يقول كذلك‌ ابن شهرآشوب ٢- عن أبي نعيم الأصفهانيّ في «حلية الأولياء» في خبر بإسناده عن محمّد بن إسحاق: "إنَّهُ كَانَ ابْنُ عَمٍّ لَهَا يَزُورُهَا فَأنْفَذَ عَلِيّاً لِيَقْتُلَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أكُونُ فِي أمْرِكَ إذَا أرْسَلْتَنِي كَالسَّبَكَةِ٢ المُحْمَاةِ؟!- وَ فِي رِوَايَةٍ: كَالْمِسْمَارِ المُحْمَى فِي الْوَبَرِ- وَ لَا يَثْنِينِي شَي‌ءٌ حَتَّى أمْضِيَ لِمَا أرْسَلْتَنِي بِهِ؟! وَ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ!

  • فَقَالَ: بَلِ الشَّاهِدُ قَد يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ.

  • فَأقْبَلْتُ مُتَوَشِّحاً٣ السَّيْفَ فوَجَدْتُهُ عِنْدَهَا؛ فَاخْتَرَطْتُ‌٤ السَّيْفَ؛

    1. ۱ و ٢- «المناقب» طبعة المطبعة العلميّة، قم، ج ٢، ص ٢٢٥.
    2. لم نجد هذا الأصل اللغويّ في المعاجم، نعم يوجد «سبيكة» علي وزن شريفة، و هي القطعة في الفضّة و ما شابه المذابة و المسكوبة في قالب، و جمعها «سبائك». و أظنّ أنّ الصحيح هو «كالسكّة» و هي قطعة المعدن التي تربط إلي الثيران و تحرث بها الأرض.
    3. تَوَشَّحَ: لَبَسَ الوشَاحَ. و تَوَشَّحَ بِالسَّيْفِ: تَقَلَّدَ بِهِ.
    4. اخْتَرَطَ السَّيْفَ: اسْتَلَّه.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

137
  • فَلَمَّا أقْبَلْتُ نَحْوَهُ عَرَفَ أنِّي ارِيدُهُ؛ فَأتَى نَخْلَةً فَرَقي فِيهَا، ثُمَّ رَمَى بِنَفْسِهِ عَلَى قَفَاهُ وَ شَغَرَ۱ بِرِجْلَيْهِ، فَإذَا هُوَ أجَبُّ أمْسَحُ مَا لَهُ مِمَّا لِلرَّجُلِ قَلِيلٌ وَ لَا كَثِيرٌ. فَأغْمَدْتُ سَيْفِي ثُمَّ أتَيْتُ إلَى النَّبِيِّ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلّمَ‌] فَأخْبَرْتُهُ؛ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَصْرِفُ عَنَّا أهْلَ الْبَيْتِ الامْتِحَانَ".

  • و يروي ابن شهرآشوب‌٢ كذلك، عن ابن بابويه، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "قَالَ أمِيرُ الْمُؤْمِنِين عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آخِرِ احْتِجَاجِهِ عَلَى أبي بَكْرٍ بِثَلَاثٍ وَ عِشْرِينَ خَصْلَةً: نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ؟ هَلْ عَلِمْتُمْ أنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ: إنَّ إبْرَاهِيمَ لَيْسَ مِنْكَ وَ إنَّهُ مِنْ فُلَانٍ الْقِبْطِيِّ؛ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ فَاذْهَبْ فَاقْتُلْهُ! فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إذَا بَعَثْتَنِي أكُونُ كَالْمِسْمَارِ الْمُحْمَى فِي الْوَبَرِ لِمَا أمَرْتَنِي؟!"

  • و ليس هناك أيّ تفاوت بين معني هذه الرواية و الرواية السابقة التي ذكرناها.

  • يقول في الرواية التي ذكرناها عن «حلية الأولياء» "أكُونُ فِي أمْرِكَ إذَا أرْسَلْتَنِي كَالسَّبَكَةِ الْمُحْمَاةِ؟!"

  • و لم أجد في اللغة معني للسبكة، أمّا السبيكة فهي القطعة من الفضّة أو الذهب أو غيرهما من المعادن التي تذاب و تجعل في قالب إلي أن تصبح علي الشكل المعروف [للسبيكة]، و جمعها سبائك. و هذا أيضاً معني جيّد. فكالسبكة المحماة، أي مثل هذه السبائك المحماة في القوالب بهذا الشكل، و هذه حيثما وضعت خصوصاً إذا وصلت للصوف أو القطن تُحرِقه و تُتلِفه، فهل أعمل كذلك؟!

    1. شَغَرَ الْكَلْبُ: رَفَعَ إحْدَي رِجْلَيْهِ وَ بَالَ.
    2. «المناقب» طبعة المطبعة العلميّة قم، ج ٢، ص ٢٢٥.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

138
  • و لقد رأينا أيضاً أنّه في بعض الروايات يقول أمير المؤمنين عليه السلام: أكُونُ كَالسِّكَّةِ الْمُحْمَاة؟ وَ السّكَّة هي المحراث الحديديّ الذي يُشدّ إلي الثيران و تُشقّ به الأرض. أي أذهب كتلك السكّة (انفِّذ مهمَّتي. و في نفس الرواية كَالمِسْمَارِ الْمُحْمَى؟ أي أذهب كالمسمار دون سؤال و جواب، أم أعمل بغير ذلك «وَ الشَّاهِدُ يري ما لا يَرَى الْغَائِبُ»؟ فَقال له النبيّ: بل الشاهد يري ما لا يري الغائب. و كان هذا أصل المطلب.۱

  • فلنبحث الآن في هذا المسألة و نري علي أيّ أساس بُني الأمر:

  • فالمسألة فيها إشكال فقهيّ و إشكال كلاميّ.

  • أمّا الإشكال الفقهيّ فهو أنّه كيف يأمر رسول الله صلّى الله عليه و آله أمير المؤمنين بأن يذهب فيقتل مابور؟! و علي أساس أيّة مسئوليّة أو جريمة؟ إذ إنّه لم يكن قد ارتكب ذنباً ليكون مستحقّاً للقتل.

  • و أمّا الإشكال الكلاميّ فهو أنّ ذلك الشخص كان مجبوباً، أي أنّه وُلِدَ ممسوحاً، و رسول الله صلّى الله عليه و آله يعلم الغيب، و كان مابور يتردّد علي مارية لفترة طويلة، فكيف يكون النبيّ غير مطّلع علي كونه مجبوباً و أنّه شخص أمين و أنّ تُهْمة عائشة لا محلّ لها؟ حتّى يأمر أمير المؤمنين عليه السلام بقتله. و هذا يعتبر إشكالًا مهمّاً من الناحية الكلاميّة.

  • و لذا فعند ما شاهدت هذه الرواية فيما سلف من الزمان و بحثت حولها مع بعض الأجِلَّة قالوا بأنّ معني هذه الرواية غير واضح بالنسبة إلينا بأيّ‌

    1. في جملة المصادر التي ذكرت قصّة مهمّة مارية «كنز العمّال» ج ٥ طبعة بيروت، ص ٤٥٤، الحديث ۱٣٥٩٣؛ و «النصّ و الاجتهاد» طبعة النجف، ص ٣۱٦، المورد ۷٦؛ و «اسد الغابة» طبعة المكتبة الإسلاميّة، ج ٥، ص ٥٤٣.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

139
  • وجه من الوجوه، مع أنّها منقولة من قِبل الخاصّة و العامّة. و لذا حاول البعض إنكار هذه الرواية و القول بأنّها لا تتعلّق بمارية و إنّما بعائشة في السفر الذي اصطحبها معه فيه رسول الله و تخلّفت عن القافلة شيئاً ما في الطريق، و اتّهمها عبد الله بن ابيّ بالزنا. و لكي يرفع أهل السنّة تهمة الزنا عن عائشة نسبوها إلي مارية. بينما قال البعض أيضاً بأنّهم لم يفهموا حقيقة هذه القضية.

  • أمر رسول الله بقتل مابور كان نظير الاوامر الامتحانيّة

  • و على ما يبدو فهو أنّ أمر رسول الله لأمير المؤمنين عليه السلام نظير الأوامر الامتحانيّة و ليس أمراً حقيقيّاً.

  • و توضيح ذلك: أنّ الأوامر علي نوعين: حقيقية و امتحانيّة. في الأوامر الحقيقيّة تكون المصلحة في المأمور به، بينما في الأوامر الامتحانيّة تكون المصلحة في نفس الأمر لا المأمور به، و ذلك كأمر اللهُ النبيّ إبراهيم بذبح ولده اسماعيل‌ {يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‌ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى}‌۱. لأنّ أمر الله لإبراهيم بقتل ولده ليست المصلحة فيه في المأمور به، أي ليس هناك مصلحة في الخارج في ذبح إسماعيل بيد إبراهيم، و إنّما المصلحة هنا في نفس الأمر.

  • المصلحة في هذا الأمر هو في إقدام إبراهيم علي تنفيذه لا في تحقّقه الخارجيّ. و بناء عليه فلو أتي بهذه المأموريّة لتمّت المصلحة الأمريّة، و إلّا فلا. و المصلحة الأمريّة هي نفس حالة التسليم و الانقياد من لدن إبراهيم عليه السلام. أمّا المأمور به الظاهريّ الذي هو ذبح إسماعيل في الخارج فلم يكن محلًّا لطلب الله منذ البداية، فلم يكن مراداً لله أن يقتل إبراهيم إسماعيل منذ البداية. لذا فعند ما صدر الأمر بقتل إسماعيل و وجد الله‌

    1. جزء من الآية ۱۰٢، من السورة ٣۷: الصّافات.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

140
  • إبراهيم مطيعاً، فقد تحقّقت المصلحة الأمريّة و لم يبق ثمّة مورد لتحقّق المأمور به الظاهريّ، لذا قال تعالي: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا}،۱ فلم يعد من اللازم أن تقتله لأنّ المقصود من الأمر قد تحقّق.

  • و تسمّي هذه بالأوامر الامتحانيّة حيث تكون المصلحة في نفس الأمر فقط.

  • و المسألة هنا علي هذا النحو، فأمر رسول الله لأمير المؤمنين عليهما السلام نظير الأوامر الامتحانيّة، لا أنّه بنفسه أمر امتحانيّ، لأنّه لم يكن ثمّة مصلحة في المأمور به فيه، و إنّما المصلحة في نفس الأمر و لو لغاية اخرى غير المصلحة الأمريّة. و هذا يسمّي نظير الأوامر الامتحانيّة. لم يكن المراد من أمر رسول الله قتل «مابور» واقعاً، و إنّما كان المراد كشف هذه الامور المستورة أمام الناس.

  • و ما هي المصلحة في هذا الأمر؟ لقد قذفت عائشة مارية و اتّهمتها بالزنا و اعتبرت ابن رسول الله و العياذ بالله ابن زنا. و ينبغي التأمّل هنا في الموقف الذي سيتّخذه رسول الله تجاه هذه القضيّة و تجاه هذا الاتّهام. فإنّه لو لم يهتمّ بالقضيّة لتكرّس ذلك الاتّهام، و لقال أهل المدينة من المنافقين و النصارى و اليهود: إنّ بعض مخدّرات النبيّ و جواريه كانت زانية و قد وَلَدَتْ من الزنا ولداً اعتبره الرسول ابناً له أيضاً. و لبقي هذا العار لاصقاً ببيت الوحي إلي الأبد.٢

    1. صدر الآية ۱۰٥، من السورة ٣۷: الصافّات.
    2. إنّ عوائل الأنبياء جميعاً مُنزّهون عن نسبة الزنا و الفحشاء. و ذلك لأنّ نسبة الزنا توجب تلوّث النسب و زوال قداسة أبنائهم. و نساء الأنبياء و إن ابتلين بأيّ نوع من أنواع الفساد الأخلاقيّ إلّا أنّه من الواجب عقلًا و شرعاً أن يكنَّ مُنزّهات عن الفحشاء، و حتّى بالنسبة لامرأتي نوح و لوط اللتان ذكرهما الله تعالي في سورة التحريم كمثالين و نموذجين للمرأة 
      (تابع الهامش فی الصفحة التالية ...).

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

141
  • ...۱

  • إذ لم يكن في وسع النبيّ أن يبقي ساكتاً أمام تُهمة عائشة هذه فيجب عليه أن يكشف الحقيقة. فكيف يمكن كشف الحقيقة يا تري؟ هل يحضر «مابور» إلي المحكمة و يستنطقه و يجعله يُقسم؟ ففي هذه الصورة سيُقال بأنّه أقسم كاذباً و حلف خوفاً من إقامة الحدّ عليه.

    1. (...تتمة الهامش من صفحة السابقة)
      الكافرة و الشقيّة و جعل الأمر بدخولهما النار حتميّاً فإنّ ذلك لم يكن بسبب أعمال الفحشاء و القبيح الجنسيّ، و إنّما بسبب تمرّدهما علي الإيمان و استكبارهما و تمرّدهما عن اتّباع زوجيهما نوح و لوط عليهما السلام. و الشيعة مجمعون علي هذه المسألة، و يرون طهارة نساء النبيّ و إن كان بعضهن قد ارتكبن الأعمال قُبحاً كحرب الجمل. لكنّ علماء الشيعة سَلَفاً و خَلَفاً جميعهم مصرّحون في كُتبهم بطهارة عائشة، و يردّون ما نسبه إليها عبد الله بن ابيّ رئيس منافقي المدينة، و هم يرون ابن ابيّ من أهل النار بسبب هذا الاتّهام، و جميعهم يقبلون‌ [دلالة] الآيات القرآنيّة الواردة في دفع الاتّهام عن عائشة، و لهم أبحاث و مقالات حول قداسة عوائل الأنبياء و رفع شبهة كلّ تلوّث جنسيّ. و نكتفي هنا بنقل كلام آية الله السيّد عبد الحسين شرف الدين العامليّ رضوان الله عليه في كتابه القيّم «الفصول المهمّة» الطبعة الثانية ص ۱٤٥ إلي ص ۱٤۷ لكي تتّضح في هذا المجال بشكل كامل عقيدة الشيعة في هذه القضيّة. يقول رحمه الله:
      الوجه الخامس من الوجوه التي اعتبرها الشيخ نوح الحنفيّ في باب: الردّة و التعزير من كتابي «الفتاوي الحامديّة» و تنقيحه: أنّ الموجب لكفر الشيعة و وجوب قتلهم هو أنّ الشيعة يطوّلون ألسنتهم علي عائشة الصدّيقة رضي الله عنها، و يتكلّمون في حقّها من أمر الإفك و العياذ بالله ما لا يليق بشأنها ...! إلي آخر إفكه و بهتانه.
      و الجواب: أنّها عند الإماميّة و في نفس الأمر و الواقع أنقي جَيباً، و أطهَر ثَوباً و أعلى نَفْساً، و أغلي عِرْضاً، و أمنَع صوناً، و أرفَع جناباً، و أعَزُّ خِدراً، و أسمي مَقَامَاً من أن يجوز عليها غير النزاهة، أو يمكن في حقّها إلّا العفّة و الصيانة، و كتب الإماميّة قديمها و حديثها شاهدة عدل بما أقول، علي أنّ اصولهم في عصمة الأنبياء تحيل ما بهتها به أهل الإفك بتاتاً، و قواعدهم تمنع وقوعه عقلًا. و لذا صرّح فقيه الطائفة و ثقتها استاذنا المقدّس الشيخ محمّد طه النجفيّ أعلى الله مقامه و هو علي منبر الدرس بوجوب عصمتها من مضمون الإفك، عملًا بما يستقلّ بحكمة العقل من وجوب نزاهة الأنبياء عن أقلّ عائبة، و لزوم 
      (تابع الهامش في الصفحة التاليه...)

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

142
  • ...۱

  • حقيقة هذه الواقعة مجهولة بالنسبة لبعض الأجلّاء

  • هل يجب إحضار مارية و جعلها تواجه عائشة؟ فهذا أيضاً لا يوصل إلي نتيجة. فطرفا الدعوة أي عائشة و مارية كلتاهما تتشبّثان بكلامهما. علاوة علي ذلك و علي فرض أنّ النبيّ قال لعائشة إنّ هذا الاتّهام ناشئ من توهّمها و افترائها و ليس له أيّ نصيب من الواقع فستكون في مقام الإنكار و تدّعي ثبوت الواقعة. و عليه فلن تصل المسألة إلي نتيجة إيجابيّة.

  • و هل يأمر رسول الله أمير المؤمنين عليه السلام بالذهاب و تفتيش‌

    1. (...تتمة الهامش من صفحة السابقة)
      طهارة أعراضهم عن أدني و صمة. فنحن و الله لا نحتاج في براءتها إلي دليل، و لا نجوّز عليها و لا علي غيرها من أزواج الأنبياء و الأوصياء كلّ ما كان من هذا القبيل.
      قال سيّدنا الإمام الشريف المرتضى علم الهدي في المجلس رقم ٣۸ من الجزء الثاني من أماليه ردّاً علي من نسب الخنا إلي امرأة نوح ما هذا لفظه: إنّ الأنبياء عليهم الصلاة و السلام يجب عقلًا أن ينزّهوا عن مثل هذه الحال، لأنّها تعرّ و تشين و تغضّ من القدر، و قد جنّب الله تعالي أنبياءه عليهم الصلاة و السلام ما هو دون ذلك، تعظيماً لهم، و توقيراً لكلّ ما ينفّر عن القبول منهم ... إلي آخر كلامه الدالّ علي وجوب نزاهة امرأة نوح و امرأة لوط من الخنا، و علي ذلك إجماع مفسّري الشيعة و متكلّميهم و سائر علمائهم.
      نعم، ننتقد من أفعال امّ المؤمنين خروجها من بيتها بعد قوله تعالي {وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} و ركوبها الجمل بعد تحذيرها من ذلك، و مجيئها إلي البصرة تقود جيشاً عرمرماً تطلب علي زعمها بدم عثمان، و هي التي أمالت حربه و ألّبت عليه و قالت فيما قالت، و نلومها علي أفعالها في البصرة يوم الجمل الأصغر مع عثمان بن حنيف، و حكيم بن جبلة، و نستنكر أعمالها يوم الجمل الأكبر مع أمير المؤمنين، و يوم البغل حيث ظنّت أنّ بني هاشم يريدون دفن الحسن المجتبي عند جدّه صلّى الله عليه و آله و سلّم فكان ما كان منها و من مروان، بل نعتب عليها في سائر سيرتها مع أهل البيت عليهم السلام، و الناصب الكاذب (الشيخ نوح الحنفيّ) بلغ في عداوة الشيعة إلي حدّ لا يبلغه مسلم، و تَجشّم في بغضائهم مسلكاً لا يسلكه موحّد، إذ وصم الإسلام و أهله بما افتراه في هذا الوجه علي الشيعة و هم نصف المسلمين و صمة أقرّ بها عيون الكافرين، و فري بها حرائر الموحّدين، و ظلم امّ المؤمنين و جميع المسلمين، وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيم.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

143
  • «مابور» و كشف عورته ليري هل أنّه رجل واقعاً أم امرأة أم خصيّ؟ فهذا الأمر من النبيّ غير معقول و لا مقبول، و هو أمر خاطئ غير صائب. فالنبيّ يعلم الأمر جيّداً، و لا محلّ للشبهة بالنسبة له، فالأنبياء مطّلعون علي جميع نيّاتنا و «مابور» متّهم و جاهل بالأمر، لكنّ الأمر بكشف عورته خطأ، و نتيجته هي أنّ كلّ من يُتّهم بالزنا يجب أن تُكشف عورته قبل أيّ تحقيق في حقّه لكي يتّضح هل هو رجل أم لا. فإذا كان رجلًا حوكم. فكلّ من يريدون إقامة الحدّ عليه يجب أن تُكشف عورته أوّلًا، إذ لو أردنا كشف الحقيقة في الخارج فلا طريق ممكن غير هذا الطريق. مع أنّ هذه الطرق مسدودة و غير مسموح بها بنظر الشرع.

  • لو لم يحصل الامر الامتحانيّ من النبيّ لظلّ بيت الوحي و الرسالة مضغة في الأفواه‌

  • و حقيقة المسألة بهذا النحو: فرسول الله و أمير المؤمنين عليهما السلام كلاهما كانا يعلمان بجميع خصوصيّات المسألة من عفّة و عصمة و جلالة و طهارة ولادة إبراهيم و الحقد السابق لعائشة، و كون هذا القذف مختلقاً، و يعلمان طهارة ذيل مارية، و براءة خادمها «مابور» و كانت المسألة عندهما واضحة وضوح الشمس، لكنّ الرسول أراد توضيح القضيّة للناس لكي يغسل هذا الاتّهام إلي يوم القيامة عن البري‌ء و يُبقي و صمة عار علي المفتري.

  • فلنفكّر واقعاً و لِنَرَ هل كان يستطيع النبيّ أن يقوم بعمل أفضل من هذا، بأن يأمر أمير المؤمنين عليه السلام بالاتّجاه نحو «مابور» بالسيف ليقوم هو بكشف عورته بهذه الصورة أيضاً لكي يخرج نفسه من التهمة. أو وفقاً لرواية «حلية الأولياء» و حيث إنّه رجل محترم لا يريد كشف عورته فقد ألقي نفسه رافعاً رجليه متظاهراً بأنّه كان يريد ارتقاء النخلة، و أنّه لم يكشف عورته و أنّ رجليه ارتفعتا قهراً، لكي تتّضح القضيّة.

  • تأمّلوا جيّداً في هذه الصورة حيث ينقل أمير المؤمنين عليه السلام‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

144
  • حقيقة الأمر لرسول الله، بينما يقوم النبيّ بتوضيح الأمر للناس، و أنّ هذا الاتّهام الذي نسبوه لمابور سبب بانتفاء الموضوع، و أنّهم قد ارتكبوا ذنباً عظيماً بتوجيه اتّهام كهذا لمارية القبطيّة، تلك المرأة العفيفة النجيبة، و لإبراهيم الذي قال فيه رسول الله: لو كان هناك نبيّ بعدي (و لم تختم النبوّة به) لكانت النبوّة لإبراهيم. لقد كان لديه هذا المستوي في القابليّة، و بهذا الانكشاف في الخارج فقد اريق ماء وجه عائشة و سائر المفسدين بشكل كامل.

  • و لم يقل رسول الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَصْرِف عَنَّا الْعَارَ، و إنّما قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَصْرِف عَنَّا الامْتِحَان وَ الَّذِي أزَالَ عَنَّا سُمْعَةَ السُّوءِ. المترتّبة علي الفتنة و الفساد. و أوضح جيّداً لعائشة و حفصة و أبويهما و للمنافقين و اليهود و النصارى و سائر الناس حقيقة الأمر. لقد كان هذا أمراً باطنيّاً و متبانياً عليه بين رسول الله و أمير المؤمنين عليهما السلام. قد تحقّق في هذه الواقعة فقط. فهل ورد في رواية في غير هذا المورد أنّ رسول الله يأمر أمير المؤمنين بأمر فيطلب منه أن يعطيه حرّيّة التصرّف؟ ففي كلّ مورد لكن يصدر عن رسول الله أمر كان الإمام ينفّذه دون تأمّل. فالسبب إذَنْ في أنّه طلب حقّ الاختيار [و حرّيّة التصرّف‌] من رسول الله في هذا المورد هو لهذه الغاية.

  • لم يكن أمر رسول الله بأن يقتل «مابور» في الخارج، و ذلك لأنّه كان بريئاً، و إنّما كان الهدف كشف القضيّة وَ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ. فالقضيّة كانت بهذا النحو.

  • فلاحظوا بأيّ نحو حسن و لطيف و دقيق تمّ إنجاز الأمر بواسطة أمر النبيّ هذا الذي هو نظير الأوامر الامتحانيّة. و الشاهد علي هذا المطلب أنّ أمير المؤمنين عليه السلام يعدُّ هذه المهمّة من فضائله، و يحسب هذا العمل‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

145
  • فضيلة خاصّة له من بين ثلاثة و عشرين خصلة من فضائله التي احتجّ بها علي أبي بكر. و هذا بنفسه دليل علي أنّ هذا الأمر كان نظير الأوامر الامتحانيّة، و كان سرّاً بينه و بين رسول الله لم يطّلع عليه غيره.

  • و لو كان هذا أمراً حقيقيّاً، و كان أمير المؤمنين عليه السلام قد ذهب لقتل «مابور» فقام بارتقاء النخلة و فعل ما فعل، ثمّ رجع أمير المؤمنين بالجواب الذي رجع به إلي الرسول، لما كانت هذه منقبة له و لا عُدّت فضيلة له. لقد أراد أمير المؤمنين إفهام أبي بكر- و قد صدّقه هو أيضاً علي ذلك- أنّ هذا المطلب كان سرّاً بينه و بين النبيّ لم يطّلع عليه أحد. و هذا السرّ إنّما يمتلكه من يكون عالماً بالغيب و إلّا لما استطاع تنفيذ هذه المهمّة بهذه الصورة، و لم يكن هناك أحد غيره عالم بالغيب و مطّلع علي براءة مارية و إبراهيم و مابور، و علي حقيقة التهمة التي صدرت من عائشة. و قد كان المطلب واضحاً لديه و عين انكشافه لرسول الله، و هذه الفضيلة مختصّة به، و لم يكن هناك أحد غيره يملك هذا العلم.

  • و لذا يذكر عليه السلام هذه القضيّة كاحتجاج و استشهاد علي أبي بكر من بين ثلاث و عشرين منقبة له. و هذا بنفسه دليل علي أنّ أمر رسول الله و طلبه هذا لم يكن أمراً تقتضيه المصلحة، و أنّ المصلحة كانت في نفس الأمر بالشكل الذي ذكرناه.

  • و قد قلنا أنّ هذا الأمر هو نظير الأوامر الامتحانيّة، لا أنّه من الأوامر الامتحانيّة. و ذلك لأنّ مراد رسول الله لم يكن اختبار أمير المؤمنين عليهما السلام، و إنّما كان مراده كشف القضيّة للآخرين، لكنّه يشترك مع الأوامر الامتحانيّة في جهة أنّه لم يكن المراد به إتيان المأمور به في الخارج.

  • فبحمد الله قد انزاح كلا الإشكالين الفقهيّ و الكلاميّ، بل اتّضحت كلتا المسألتين.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

146
  • و ينبغي التأمّل و التفكير فيما لو نسب أحد السوء لا سمح الله إلي عيالكم أو أبنائكم و أردتم توضيح المسألة و حقيقة الأمر في الخارج، فهل هناك ثمّة طريقة أفضل من هذه للقيام بذلك؟! الجواب هو النفي الحتميّ.

  • فمن المحال القيام بعمل آخر غير هذا بنحو يفحم جميع المستشرقين و اليهود و النصارى و المجوس و المنافقين و غيرهم، و يجعلكم تخرجون من القضيّة مرفوعي الرأس.

  • طريق رفع التهمة عن مارية من عجائب أسرار الولاية

  • لقد اعتبر أمير المؤمنين عليه السلام طريقة رفع التهمة من مفاخره‌

  • و أنّ هذا المطلب لهو من فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، و من جهات عظمة رسول الله صلّى الله عليه و آله حقّاً. و نعود الآن ثانية إلي تلك القضيّة التي أمر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السلام بالذهاب و قتل ذلك الرجل الذي خلف المسجد، فذهب الإمام عليه السلام فوجده قد ذهب، مع أنّه صلوات الله عليه كان قد سبق و أن أمر أبا بكر بالذهاب فذهب ثمّ عاد و قال: كيف أقتل رجلًا منهمكاً بصلاته؟! فأمر عمر، فقال: يا رسول الله إنّه منهمك في صلاته فكيف أقتله؟! ثمّ أمر أمير المؤمنين عليه السلام فأخبره بأنّ ذلك الرجل قد ذهب.

  • و كما بيَّنا فإنّ اسم ذلك الشخص كان حرقوص بن زهير (ذو الخويصرة) و قد قال رسول الله في حقّه: لو قُتل هذا الرجل لارتفعت الفتنة بشكل كامل، و لما بقي وجود للفتنة في الإسلام. و ذلك أنّ هذا الرجل هو مصدر جميع الاختلاف و الفتن، و هو نفس ذلك الشخص الذي قتل في معركة النهروان.

  • أمّا الإشكال الفقهيّ فهو: بأيّ مجوّز يأمر الرسول بالذهاب و قتل هذا الرجل، في حين أنّه لم يرتكب جنايةً بعد؟ فقد كان يؤدّي الصلاة خلف المسجد، لم يسفك دماً لكي يُقتل قصاصاً، كما أنّه لم يرتدّ عن‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

147
  • الإسلام، فعلي أيّ أساس كان أمر النبيّ بقتله؟

  • و نظير ذلك‌ "عند ما جي‌ء إلي أمير المؤمنين عليه السلام فقيل له: اقتلْ بن ملجم! أو أنّ نفس ابن ملجم قال له: يا أمير المؤمنين إذا كنت أنا قاتلك فاقتلني أنت. فقال عليه السلام: كيف أقتل من لم يرتكب جناية؟ أ أقتلُ قاتلي؟!"

  • و عليه بأيّ دليل و مجوّز يأمر رسول الله عليّاً بقتل ذلك الرجل؟! أو يأمر أبا بكر و عمر بذلك؟! ناهيك عن أنّ الفتك و الاغتيال حرام في الإسلام. فإذا قتلوا رجلًا حال صلاته عُدّ ذلك فتكاً، و قد قال رسول الله‌ "الإسْلَامُ قَيَّدَ الْفَتْكَ"‌۱ فلا يجوز قتل أحد فتكاً.

  • أمّا الإشكال الكلاميّ فهو: أنّ رسول الله عالم بالغيب، فهو يري ما خلف حائط المسجد، فكيف يسلِّم هؤلاء سيفاً و يأمر بقتل ذلك الرجل؛ لو قُتل هذا الشخص فلن يبقي له وجود أو حياة، و لن يتحقّق منه فساد في الخارج، بينما رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: إنّ جميع الفساد يترشّح من هذا الرجل، ثمّ يقول: اقتلوه! فلو قُتل فمن الذي سيقوم وفقاً لهذا الخبر بجميع هذا الفساد؟

  • إذا كان علم رسول الله صحيحاً و كان ذلك الرجل سيبقى حيّاً واقعاً فيقتل في معركة النهروان فإنّ قتله الآن خلف المسجد سوف يكون محالًا، و إذا قتل في هذا الزمان فلن يبقي هناك أحد لكي يقوم بالفساد!

  • و أمّا الجواب عن الإشكال الفقهيّ فهو نفس الجواب الذي ذكرناه حول مسألة مارية من أنّ أمر رسول الله، لأبي بكر و عمر و أمير المؤمنين‌

    1. يرجع للاطّلاع علي المصادر إلي دورة العلوم و المعارف الإسلامية. قسم «امام‌شناسى» أي «معرفة الإمام»، ج ۱۰، ص ٢۸۸.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

148
  • عليه السلام كان نظير الأوامر الامتحانيّة، لا أمراً حقيقيّاً! فالنبيّ لم يرد أن يفتك به حقيقة. لقد كانت تلك الحوادث و الفتن التي سيقوم بها ذو الخويصرة إلي أن ينتهي إلي حرب النهروان جميعها في مرأى و منظر من رسول الله. كانت كلّها أمامه، و كأنّ النبيّ يشاهدها كلّها. و لذا لم يأمر أمير المؤمنين و الشيخين بقتله حقيقة، و لم يكن مطلوب النبيّ تحقّق المأمور به و صيرورته واقعاً في الخارج، و إنّما كانت المصلحة في نفس الأمر. فلقد أراد النبيّ بهذا الأمر أن يبيّن أنّ أبا بكر و عمر رجلان متمرّدان و معتديان صاحبا رأي و مزاج و اجتهاد في مقابل النصّ، و أنّ أمير المؤمنين عليه السلام رجل مطيع و تابع للنصّ.

  • و هكذا فقد أمر النبيّ أبا بكر بحمل السيف و الذهاب لقتل ذلك الشخص. فيرجع أبو بكر معتذراً بأنّه وجد الرجل يصلّي، أ فهل يُقتل المصلي؟! و بهذا ترك أمر رسول الله جانباً. و مرجع هذه القضيّة إلي أنّه إنّما ينفّذ أمر رسول الله إلّا أن يصل الأمر إلي الصلاة، و عندها لا يعود أمره صلّى الله عليه و آله و سلّم قابلًا للتنفيذ بالنسبة له. أي أنّ الصلاة الظاهريّة لذلك الرجل كانت أثمن و أغلي عنده من أمر النبيّ. مع أنّ نفس هذه الصلاة إنّما كانت بأمر رسول الله.

  • عند ما يأمر النبيّ أبا بكر بالذهاب و قتل الرجل فهذا يعني أنّه يقول له اقتله و لا قيمة لتلك الصلاة بعد. فيعود أبو بكر تاركاً الرسول و حكمه و حكم الله التفاتاً منه إلي صلاة الرجل الظاهريّة.

  • ثمّ قام عمر بنفسي هذا العمل أيضاً. و هكذا تمسّك أبو بكر و عمر كلاهما بهذه الامور الظاهريّة و تركا الحقيقة و رسول الله جانباً.

  • كما نجد في جميع المهالك التي حصلت في زمان رسول الله إلي حين رحلته أنّ عمر كان يبدي ذوقه [و مزاجه‌] و يردّ كلام رسول الله. و في تلك‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

149
  • الحادثة التي وقعت في آخر عُمْرِ النبيّ حين قال صلّى الله عليه و آله و سلّم «ائتوني بكتفٍ و دواة لأكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي أبداً» أبدي عمر رأيه و قال: «حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ» و لم توجب بدعة الشؤم هذه التعاسة و الانحراف للماضين فحسب، بل لحقت و ستلحق أعقابهم أيضاً.

  • إنّ «التشيّع» لم يوجد منذ زمن الجماعة الفلانيّة أو الملك الفلانيّ، بل لم يوجد كذلك منذ رحيل النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، و إنّما وُجد في نفس زمان رسول الله، فالتشيّع يعني العمل بالنصّ و رفض الآراء الشخصيّة، و رفض الاجتهاد مقابل النصّ.

  • و كان هناك جماعة اخرى مقابل الشيعة تجتهد و تبدي الرأي مقابل أمر رسول الله. و هذا اجتهاد في مقابل النصّ. و قد استمرّ هذان النهجان مقابل بعضهما في زمان رسول الله و بعده. و قد قام السلاطين و الخلفاء بسبب عدائهم للشيعة بتقوية الجماعة المخالفة و تأييدها و جعل الشيعة أقليّة، و استئصالهم بأنواع المحن و البلايا من القتل و النفي و الأسر و التعذيب و الإغارة و هتك الأعراض، و صارت الأكثريّة في الخارج للمخالفين، و إلّا فإنّ الأكثريّة الواقعيّة و الحقيقيّة هي لنفس مذهب رسول الله‌ {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ}‌۱ {... فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.٢

  • و نتيجة البحث هي أنّ رسول الله قد بيّن للناس من خلال هذه القضيّة و أمره الامتحانيّ تمرّد هذين الشخصين و انصياع أمير المؤمنين عليه السلام. و عليه فلا يترتّب علي ذلك إشكال فقهيّ. فلم يأمر رسول الله‌

    1. جزء من الآية ٥٩، من السورة ٤: النساء.
    2. صدر الآية ٦٥، من السورة ٤: النساء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

150
  • بالفتك، كما أنّه لم يحصل فتك في الخارج. و لم يُسفك دم مسلم دون ما جرم ظاهريّ. فرسول الله قد أمر بالقتل لكنّه كان يعلم أنّ هذا القتل لا يقع.

  • و كذلك في قصّة إبراهيم، فقد أمر الله إبراهيم بذبح إسماعيل، مع أنّه كان يعلم أنّ هذا الذبح لن يحصل؛ إذ إنّه نَسَخَهُ فيما بعد. فقد كانت المصلحة إذَن في نفس الأمر، لا في المأمور به.

  • و أمّا الجواب عن الإشكال الكلاميّ فهو واضح أيضاً، إذ لو كان النبيّ قد أمر بالقتل، و كان مقصوده تحقّق قتله في الخارج، لكان هذا منافياً لاستمرار حياته إلي حين حصول وقعة النهروان.

  • أمّا إذا كانت مقتوليّته غير مطلوبة، و كان هذا الأمر لمصلحة ما، فما المنافاة بين الأمر بقتله و بين حياته و تبعات ذلك الوجود؟! فإخبار النبيّ مع إنشائه في جهة واحدة، و لا تنافي.

  • إنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم خاضع لأمر الله بشكل كامل، و عبد ذليل له، بلحاظ تنفيذ أوامره، لا يقوم بأيّ تدخّل أو تصرّف من عند نفسه. فولاية رسول الله و تنفيذ أمره بالنسبة للناس عين أمر الله دون أيّ زيادة أو نقيصة.

  • و لقد شُجَّ جبين رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في معركة احد وفقاً لبعض الروايات. و لم يكن شجّ جبينه مهمّاً للغاية، و إنّما المهمّ كان كسر عظمتي خدّيه، (و هما اللتان تكونان بارزتين في الوجه) فلقد حزب ابن قَمِيئة بسيفه خوذة رسول الله، فنزلت حلقات الخوذة في عظام خدّي النبيّ صلّى الله عليه و آله، فانكسرت تلك العظمتان. حتّى أنّ أسنانه كُسرت أيضاً عند ما جرح خدّاه. و لقد كان الجرح بليغاً إلي درجة أنّه سري إلي الفكّ فكسرت السنّ الرباعيّة السفلي للنبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم،

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

151
  • و نزلت حلقات الخوذة في عظامه، فلم تخرج، و جري الدم من خدّيه، و كلّما حاولوا إخراج هذه الحلقات لم يتمكّنوا من ذلك، لأنّها كانت قد علقت بين العظام.

  • حسناً فلنلتفت إلي هذه المسألة عند ما رأي النبيّ هذا المنظر قال- وفقاً لهذه الرواية-: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ؟!"

  • ينقل ابن أبي الحديد عن الواقديّ أنّه قال: إنّ الشخص الذي شجّ جبين رسول الله كان ابن شهاب. و الذي كسر السنّ الرباعيّة للنبيّ و جعل الدماء تجري من شفتيه هو عتبة بن أبي وقّاص. و الذي كسر عظمتي خدّ النبيّ حتّى دخلت حلقات الخوذة فيها هو ابن قميئة. و قد جري الدم من إصابات النبيّ بحيث غطّي لحيته. فقام سالم مولي أبي حذيفة بغسل الدم عن وجه النبيّ، و النبيّ يقول:

  • "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَ هُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ تَعَالَى؟"

  • عندها نزلت هذه الآية {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‌ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ}. يقول النبيّ من باب التعجب "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ". فَيؤاخذه الله فوراً بأنّ الأمر ليس بيدك و إنّما بيد الله.

  • هنا تتجلّى عظمة الذات الأحديّة المقدّسة أكثر فأكثر، و يظهر مقام عزّته بنحو يردُّ فيه التماس النبيّ أيضاً. إنّي أنا الله، و أنا قادر إذا شئت علي هدايتهم، فلا تقل حتّى علي نحو الاستفهام و لا علي نحو «كيف» أيضاً. لا تقل: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ!"

  •  

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّد.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

153
  •  

  •  

  • الدرس الثامن: سَعَةُ وَلَايَةِ رَسُولِ اللهِ، عَيْنُ الْعُبُودِيَّة وَ التَّسْلِيم لَا إظْهَاراً للرَّأي فِي قِبَالِ الْحَقِ‌

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

155
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • {وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ}‌.۱

  • الوتين عرق في القلب يسري منه الدم إلي جميع البدن، و جمعه أوتِنَة و وُتُن.

  • لو قال النبيّ شيئاً من عند نفسه لأخذنا بيد القدرة و قضينا عليه بشكل كامل. فنحن لم نفوّض إليه سلطتنا لكي يأمر و ينهي بحسب مزاجه و مشتهياته، و إنّما هو عبد مأمور بكلّ ما للكلمة من معني. كما أنّه لم يقم بإبداء أيّ وجهة نظر أو رأي من عنده بنحو ينسبه إلينا، كما أنّه لم يخرج من تحت ولايتنا، و يستند إلي ولاية نفسه، فولايته عين ولايتنا.

    1. الآية ٤٤، إلي ٤۷، من السورة ٦٩: الحاقّة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

156
  • {وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ، وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا ، إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً}.۱

  • تفسير آية: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ‌، و آية: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ...

  • هذه الآيات وفقاً للتفاسير الواردة، و خصوصاً تفسير استاذنا آية الله العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه «الميزان»، راجعة إلي أنّ كفّار قريش في مكّة أتوا إلي النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، و مهما سعوا لإرجاع النبيّ عن هذه النيّة (الدعوة إلي التوحيد) لم يتوصّلوا إلي نتيجة، لذا فإنّهم قالوا: الآن نقترح عليك أنّه إذا أردت دعوة الناس إلي التوحيد فلا مانع من ذلك، و لن نمنعك من القيام بأيّ عمل تريده، لكنّ عليك اجتناب هذين الأمرين فقط: الأوّل: لا تسب آلهتنا، و الثاني: أنّ اعتباراتنا و شئوننا تقتضي أن لا يُشارك الأشخاص الفقراء و الموالي و الضعفاء في مجالسنا، فأنت أيضاً لا تخالطهم عندنا.

  • و بالطبع فأنّ هذا الكلام كان بصورة كلام جميل وقور. و لو كان موجّهاً لأيّ شخص منّا لصدّقه و قال: ما الإشكال في الأمر، ندعو الناس إلي التوحيد ثمّ إنّنا نوافق أيضاً هذين الاقتراحين من أجل إنجاز و تقدّم العمل، تقدّماً سريعاً حتّى يقترب الإسلام من هدفه و لتمهيد السبيل للأهداف الأهمّ من خلال استمالة المشركين بالقبول المؤقّت لهذين الشرطين إلي حين نضج الإسلام و وصوله إلي القوّة و القدرة. ثمّ نبادر إلي الطريقة المقبولة المرضيّة بعد استيلاء الإسلام علي الشرك و استحكام أركان التوحيد.

  • لقد كان هذان همام المطلبان اللذان طلبوهما من النبيّ، و هذه الآية

    1. الآية ۷٣ إلي ۷٥، من السورة ۱۷: الإسراء.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

157
  • أيضاً لا تقول إنّك قد وعدتهم و قبلت، و إنّما تقول: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا}. أي أنّكَ أوشَكت أن تلتفت و تركن إليهم قليلًا، و لو لم نحفظك فاقتربت منهم قليلًا، لأخذناك بالعذاب الشديد. و لأذقناك ضعف العذاب الذي نعذّبه للآخرين، أو للأنبياء في الحياة و الممات، و هنا ينبغي الالتفات إلي حقيقة المسألة.

  • {وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا}.۱

  • تفسير آية: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‌ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ‌

  • {وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ}.٢

  • فليس من شأن أيّ نبيّ و لا من دأبه أن يكون له غلّ أو غشّ في عمله.

  • (الغلول يعني إظهار الباطل حقّاً، و الحقّ باطلًا. و الغش: يعني المكر و الحيلة).

  • و ليس هناك نبيّ «جنس النبيّ» ينسجم مع هذه المادّة [أي مع الغلول‌] و من يغلّ و يغشّ يأتي بما غلّ يوم القيامة، ثمّ توفيّ كلّ نفس مكتسباتها و يعاد إليها عملها الذي اجترحته دون أن يظلمهم الله تعالي.

  • {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‌ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}.٣

    1. الآية ۸٦، من السورة ۱۷: الإسراء.
    2. الآية ۱٦۱، من السورة ٣: آل عمران.
    3. الآية ٦۷ و ٦۸، من السورة ۸: الأنفال.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

158
  • لقد نزلت هذه الآية في غزوة بدر، بعد أن قاتل المسلمون و أخذوا سبعين أسيراً من الكفّار.

  • يقول الله تعالي في هاتين الآيتين: إنّ وظيفة المسلمين في الحرب مع المشركين هي سفك دماء هؤلاء، لا أسرهم من أجل استرقاقهم أو بيعهم أو تحريرهم مقابل فدية. و بما أنّ المسلمين في هذه الغزوة عدا قتلهم سبعين شخصاً قد أسروا سبعين شخصاً آخرين أيضاً، لذا عاتبهم الله تعالي علي أخذهم الأسرى لأجل مفاداتهم فيما بعد. بأنّ هذه الفدية متاع و فائدة دنيويّة. و مظهر و زينة للحياة المنحطّة و الحيوانيّة التي لا تنسجم مع روح تشريع قانون سفك دماء المشركين، أي أنّ أخذ الأسرى بالنسبة لكم لم يكن له أيّ مجوّز منذ البداية، لا أنّه يجب عليكم بعد أسرهم أن تقتلوهم و لا تفادوهم. فبعد الأسر لا إلزام بقتلهم، و من حقّكم في حالة كهذه أن تفعلوا ما ترون فيه مصلحة لكم من قتلهم أو تحريرهم و أخذ الفدية منهم. و أمّا خطؤكم فهو في أنّكم قد أسرتموهم إلي أن وصلتم إلي حالة كهذه فواجهتم هذين الطريقين. لقد كان حقّ القضيّة منذ البداية في قتلهم و عدم أسرهم. و بناء عليه فجملة {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‌ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}‌ تُفهم أنّه كان علي المؤمنين منذ الوهلة الاولي أن لا يأخذوا أسري بنيّة أخذ الفدية مقابل تحريرهم. و لا تفيد وجوب قتلهم و حرمة أخذ الفدية عنهم في حالة المخالفة و أخذ الأسرى.

  • تفسير العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه حول هذه الآية

  • لقد سار استاذنا العلّامة قدّس الله نفسه الشريفة في تفسيره علي هذا المنهج فقال: آية {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى}‌ عتاب من الله سبحانه لأهل بدر حين أخذوا الأسرى من المشركين. ثمّ اقترحوا علي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أن لا يقتلهم و يأخذ منهم الفداء ليصلح به حالهم و يتقوّوا بذلك علي أعداء الدين.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

159
  • و قد شدّد سبحانه في العتاب إلّا أنّه أجابهم إلي مقترحهم و أباح لهم التصرّف من الغنائم، بما يشمل الفداء.

  • ثمّ يتابع المطلب إلي أن يقول: و قد اختلف المفسّرون في تفسير الآيات بعد اتّفاقهم علي أنّها إنّما نزلت بعد وقعة بدر تعاتب أهل بدر و تبيح لهم الغنائم.

  • و السبب: في اختلاف ما ورد في سبب نزولها و معاني جملها من الأخبار المختلفة. و لو صحّت الروايات لكان التأمّل فيها قاضياً بتوسّعٍ عجيب في نقل الحديث بالمعني، حتّى ربما اختلفت الروايات كالأخبار المتعارضة.

  • فاختلفت التفاسير بحسب اختلافها، فمن ظاهر في أنّ العتاب و التهديد متوجّه إلي النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و المؤمنين جميعاً، أو إلي النبيّ و المؤمنين ما عدا عمر، أو ما عدا عمر و سعد بن معاذ، أو إلي المؤمنين دون النبيّ، أو إلي شخص أو أشخاص أشاروا عليه بالفداء بعد ما استشارهم. و من قال إنّ العتاب إنّما هو علي أخذهم الفداء، أو علي استحلالهم الغنيمة قبل الإباحة من جانب الله، و النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم يشاركهم في ذلك لمّا بدأ باستشارتهم، مع أنّ القوم إنّما أخذوا الفداء بعد نزول الآيات لا قبله حتّى يعاتبوا عليه، و النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أجلّ من أن يجوّز في حقّه استحلال شي‌ء قبل أن يأذن الله سبحانه له فيه. و يوحي بذلك إليه و حاشا ساحة الحقّ سبحانه أن يهدّد نبيّه بعذاب عظيم ليس من شأنه أن ينزل عليه من غير جرم أجرمه و قد عصمه من المعاصي، و العذاب العظيم لا ينزل إلّا علي جرم عظيم، لا كما قيل: أنّ المراد به الصغائر.

  • فالذي ينبغي أن يقال: إنّ قوله تعالي: {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

160
  • أَسْرى‌ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}‌ أنّ السنّة الجارية في الأنبياء الماضين عليهم السلام أنّهم كانوا إذا حاربوا أعداءهم و ظفروا بهم ينكّلونهم بالقتل ليعتبر بهم مَن وراءهم فيكفّوا عن محادَّة الله و رسوله.

  • و كانوا لا يأخذون أسري حتّى يثخنوا في الأرض و يستقرّ دينهم بين الناس، فلا مانع بعد ذلك من الأسر، ثمّ المنّ أو الفداء، كما قال تعالي فيما يوحي إلي نبيّه صلّى الله عليه و آله و سلّم بعد ما علا أمر الإسلام و استقرّ في الحجاز و اليمن: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً}.۱

  • و العتاب علي ما يهدي إليه سياق الكلام في الآية الاولي إنّما هو علي أخذهم الأسرى، كما يشهد به أيضاً قوله تعالي في الآية الثانية: {لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ‌} أي في أخذكم، و إنّما كانوا أخذوا- عند نزول الآيات- الأسرى دون الفداء، و ليس العتاب علي استباحة الفداء أو أخذه كما احتمل.

  • إلي أن يقول: فقد كانوا سألوا النبيّ صلّى الله عليه و آله أن يعطيهم الغنائم و يأخذ لهم منهم الفداء فعاتبهم الله مباشرة علي أخذهم الأسرى. ثمّ أباح لهم ما أخذوا الأسرى لأجله و هو الفداء، لا لأنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله شاركهم مني استباحة الفداء و استشارهم في الفداء و القتل حتّى يشاركهم في العتاب المتوجّه إليهم.

  • و من الدليل من لفظ الآية علي أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم لا يشاركهم في العتاب أنّ العتاب في الآية متعلّق بأخذ الأسرى، و ليس فيها ما يُشعر بأنّه استشارهم فيه أو رضي بذلك. و لم يرد في شي‌ء من الآثار

    1. صدر الآية ٤، من السورة ٤۷: محمّد.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

161
  • أنّه صلّى الله عليه و آله وصّاهم بأخذ الأسرى، و لا قال قولًا يُشعر بالرضا بذلك، بل كان ذلك ممّا أقدمت عليه عامّة المهاجرين و الأنصار علي قاعدتهم في الحروب، إذا ظفروا بعدوّهم أخذوا الأسرى للاسترقاق أو الفداء.

  • و قد ورد في الآثار أنّهم بالغوا في الأسر، و كان الرجل يقي أسيره أن يناله الناس بسوء إلّا عليّ عليه السلام فقد أكثر من قتل الرجل و لم يأخذ أسيراً.

  • فمعني الآيات: ما كان لنبيّ و لم يعهد في سُنَّة الله في أنبيائه أن يَكُونَ لَهُ أسْرَى وَ يحقّ له أن يأخذهم و يستدرّ علي ذلك شيئاً «حَتَّى يُثْخِنَ» و يغلظ «في الأرْضِ» و يستقرّ دينه بين الناس. «تُرِيدُونَ» أنتم معاشر أهل بدر- و خطاب الجميع بهذا العموم المشتمل علي عتاب الجميع لكون أكثرهم متلبّسين باقتراح الفداء علي النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم- «عَرَضَ الدُّنْيَا» و متاعها السريع الزوال، «وَ اللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ» بتشريع الدين و الأمر بقتال الكفّار. ثمّ في هذه السُنّة التي أخبر بها في كلامه؛ «وَ اللهُ عَزِيزٌ» لا يُغلب؛ و «حَكِيمٌ» لا يلغو في أحكامه المتقنة.

  • إلي أن يقول رحمه الله في بحثه الروائيّ: قال في مجمع البيان: و روي عُبَيْدةُ السلمانيّ عن رسول الله صلّى الله عليه و آله أنّه قال لأصحابه يوم بدر في الأسارى: "إن شِئتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ؛ وَ إن شِئتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ؛ وَ استُشْهِدَ مِنكُمْ بعِدَّتِهِمْ" و كانت الأسارى سبعين. فقالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع به و نتقوّى به علي عدوّنا و ليستشهد منّا بعدّتهم. قال عبيدة: طَلَبُوا الخِيرَتَينِ كِلْتَيْهِمَا. ۱ فقتل منهم يوم احد سبعون.

  • ۱- قال العلّامة في التعليقة: لكنّ قوله تعالي في عتابهم «تريدون عرض الدنيا» يُخطّئ عبيدة في قوله. ( «الميزان» ج ٩ ص ۱٣۸).

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

162
  • و في كتاب عليّ بن إبراهيم: لمّا قتل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم النضر بن حارث و عُقبة بن أبي مُعيط خافت الأنصار أن يقتل الأسارى، فقالوا: يا رسول الله قتلنا سبعين و هم قومك و اسرتك؛ أ تجذّ أصلهم؟! فخذ يا رسول الله منهم الفداء. و كانوا قد أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش، فلمّا طلبوا إليه و سألوه نزلت الآية {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‌...}  الآيات، فأطلق لهم ذلك.

  • إلي أن يقول رحمه الله: قال في «مجمع البيان»: و روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم كره أخذ الفداء حتّى رأي سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه فقال: يا رسول الله هذا أوّل حرب لقينا فئة المشركين، و الإثخان في القتل أحبّ إليَّ من استبقاء الرجال. و قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! كذّبوك و أخرجوك، فقدّمهم و اضرب أعناقهم، و مكّن عليّاً من عقيل فيضرب عنقه. و مكّني من فلان أضرب عنقه فإنّ هؤلاء أئمّة الكفر.

  • و قال أبو بكر: أهلك و قومك استأنّ بهم و استبقهم و خذ منهم فدية فيكون لنا قوّة علي الكفّار. قال ابن زيد: فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: "لَو نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ مَا نَجَا مِنْكُم أحَدٌ غَيْرُ عُمَرَ و سَعْدِ بنِ مَعَاذٍ".

  • إلي أن يقول رحمه الله: قال: فجي‌ء بالعبّاس فقيل له: افد نفسك وافد ابني أخيك فقال: يا محمّد! تتركني أسأل قريشاً في كفّي؟ فقال صلّى الله عليه و آله و سلّم له:

  • "أعْطِ ممَّا خَلَّفْتَ عِنْدَ امِّ الفَضْلِ وَ قُلْتَ لَهَا: إن أصَابَنِي شَي‌ءٌ فِي 

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

163
  • وَجْهِيَ فَأنْفِقِيهِ عَلَى وُلْدِكِ وَ نَفْسِكِ. قال: يَا بْنَ أخِي مَنْ أخْبَرَكَ بِهَذَا؟

  • فقال رسول الله: أتَانِي بِهِ جَبْرَئِيلُ.

  • فقال: و محلوفة ما علم بهذا إلّا أنا و هي. أشْهَدُ أنَّك رَسُولُ اللهِ!

  • قال: فرجع الأسارى كلّهم مشركين إلّا العبّاس و عقيل و نوفل بن الحارث، و فيهم نزلت هذه الآية: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى‌ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.۱

  • كان هذه خلاصة و مجمل تحقيقات استاذنا العلّامة.٢ أمّا العلّامة السيّد شرف الدين العامليّ فقد سلك في كتابه «النصّ و الاجتهاد» طريقاً آخر، فقد ادّعي أنّ آية {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‌ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}‌. ليست حول أسر غزوة بدر، و إنّما هي حول أسر قافلة أبي سُفيان الذي فرّ و انهزم إلي مكّة قبل أن يصل إليه أصحاب رسول الله.

  • فهو يقول: إنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان له نظرة محبّة تجاه عمّه العبّاس، و كان قلقاً من تشدّد عمر بقتله بعد الأسر. و بشكل عامّ فإنّ ما ورد في هذا المجال في التفاسير و الروايات هو خلاف شأن النزول و الروايات مجهولة و موضوعة، فرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان في جميع أفعاله منطقاً من الحكمة و الحميّة و الرحمة، بينما كان تشدّد عمر ناشئاً من حسّ الانتقام و الحقد، و ساحة النبيّ الأكرم بريئة من ذلك.

  • و بيان كلامه رحمه الله بهذا النحو: و ذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال لأصحابه و قد حمي الوطيس يوم بدر: عرفتُ رجالًا من بني هاشم و غيرهم اخرجوا كرهاً لا حاجة لهم لقتالنا، فمن لقي أحداً

    1. الآية ۷۰، من السورة ۸: الأنفال.
    2. «الميزان في تفسير القرآن» ج ٩، ص ۱٣٦ إلى ۱٤٣.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

164
  • من بني هاشم فلا يقتله، و من لقي أبا البختريّ بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، و من لقي العبّاس بن عبد المطّلب عمّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فلا يقتله، فإنّه خرج مستكرهاً.

  • تراه صلّى الله عليه و آله و سلّم نهي عن قتل بني هاشم عامّة، ثمّ نهي عن قتل عمّه العبّاس بالخصوص، تأكيداً للمنع من قتله، و تشديداً و مبالغة في ذلك، و لمّا اسر العبّاس بات رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ساهراً أرقاً، فقال له أصحابه- كما نصّ عليه كلّ من أرّخ وقعة بدر من أهل السير و الأخبار- يا رسول الله! ما لك لا تنام؟ قال صلّى الله عليه و آله: "سَمِعْتُ تَضَوُّرَ عَمِّيَ العَبَّاسِ فِي وَثَاقِهِ فَمَنَعَنِي النَّومَ"‌، فقاموا إليه فأطلقوه، فنام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.

  • و عن يحيي بن أبي كثير: أنّه لمّا كان يوم بدر أسر المسلمون من المشركين سبعين رجلًا، فكان ممّن اسر العبّاس عمّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فولِي وثاقه عمر بن الخطاب، فقال العبّاس: أمَا وَ اللهِ يَا عُمَرُ! مَا يَحْمِلُكَ عَلَى شَدِّ وَثَاقِي إلَّا لَطْمِي إيَّاكَ فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ. قال: فكان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يسمع أنين العبّاس فلا يأتيه النوم. فقالوا: يا رسول الله ما يمنعك من النوم؟ فقال رسول الله: "كَيفَ أنَامُ وَ أنَا أسْمَعُ أنِينَ عَمِّي؟" فأطلقه الأنصار.

  • و كان أصحاب رسول الله كافّة من مهاجرين و أنصار و غيرهم يعلمون ما لأبي الفضل العبّاس من المنزلة عند رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و حبّ السلامة له و الكرامة، و لمّا بلغه صلّى الله عليه و آله و سلّم كلمة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس- و كان معه في بدر- إذ قال: أ نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَ أبْنَاءَنَا وَ إخْوَانَنَا وَ نَتْرُكُ الْعَبَّاسَ؟ وَ اللهِ لَئِنْ لَقِيتُهُ لألْجَمَنَّهُ‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

165
  • بِالسَّيْفِ! ساءه صلّى الله عليه و آله و سلّم ذلك من أبي حذيفة، فاستنجد بعمر يقول له مثيراً حفيظته: يَا أبَا حَفْصٍ! أ يُضْرَبُ وَجْهُ عَمَّ رَسُولِ اللهِ بِالسَّيْفِ؟ قال عمر: و الله، إنّه لأوّل يوم كنّاني فيه رسول الله بأبي حفص.

  • و ما أن وضعت الحرب أوزارها- و نصر الله عبده، و أعزّ جنده، و قتل من الطواغيت سبعين و أسر سبعين آخرين، و جي‌ء بهم موثوقين- حتّى قام أبو حفص يحرّض علي قتلهم بأشدّ لهجة قائلًا: يا رسول الله إنّهم كذّبوك و أخرجوك و قاتلوك فمكّني من فلان- لقريب أم نسيب له- فأضرب عنقه، و مكِّنْ عليّاً من أخيه عقيل فيضرب عنقه، و مكِّنْ حمزةَ من أخيه العبّاس فيضرب عنقه.

  • تفسير العلّامة السيّد شرف الدين العامليّ قدّس الله سرّه حول هذه الآية

  • يقول آية الله العامليّ هنا: يا سبحان الله لم يكن عبّاس و لا عقيل ممّن كذّبوا رسول الله، و لا ممّن أخرجوه، و لا ممّن آذوه، و قد كانوا معه في الشعب أيّام حصرهم فيه يكابدون معه تلك المحن، و قد اخرجا إلي بدر كرهاً بشهادة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لهما بذلك. و نهي رسول الله عن قتلهم و الحرب قائمة علي ساقها، فكيف يقتلان و هما أسيران؟ و إذا كان تضوّر العبّاس أقلق رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و منعه النوم فما ظنّك بقتله صبراً بلا مقتض لذلك، فإنّ العبّاس كان من قبل ذلك مسلماً، و إنّما كتم إسلامه لحكمة كان لله و رسوله فيها رضيً، و له و للُامة فيها صلاح.۱

  • و يقول آية الله العامليّ رحمه الله أيضاً:

    1. «النصّ و الاجتهاد»: الطبعة الثانية، ص ٢٣۸ إلي ٢٤۱، المورد ٤۷ من موارد الاجتهاد في مقابل النصّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

166
  • لمّا نصر الله عزّ و جلّ عبده و رسوله‌ {يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ}‌ في بدر، و جي‌ء بالأسرى إليه، علم من عزمه أنّه سيبقى عليهم، أملًا بأن يهديهم الله- فيما بعد- لدينه، و يوفّقهم لما دعا إليه من سبيله- كما وقع ذلك و الحمد لله- و هذا هو النصح لله تعالي و لعباده.

  • لكن قرّر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم- مع العفو عنهم- أخذ الفداء منهم ليضعفهم عن مقاومته، و يقوي به عليهم، و هذا هو الأصلح في الواقع للفريقين، و فيه النصح لله تعالي و لعباده أيضاً كما لا يخفي‌ {وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‌ ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى} علي أنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم كان مطبوعاً علي الرحمة ما وجد إليها سبيلًا.

  • و كان من رأي عمر بن الخطّاب أن يُقتَلُوا بأجمعهم، جزاءً بما كذّبوا و آذوا و همّوا بما لم ينالوا، و أخرجوا و قاتلوا، و كان قويّ العزيمة شديد الشكيمة في استئصالهم قتلًا بأيدي أرحامهم من المسلمين، حتّى لا يبقي منهم أحد.

  • لكنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم مثل فيهم كلمته التي حكاها الله تعالي عنه في محكم فرقانه العظيم ألا و هي قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‌ إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.۱

  • فخلّي سبيلهم- عفواً عنهم و كرماً- بعد أن أخذ منهم الفداء، فكان الجاهلون بعصمته و حكمته بعد ذلك‌ {لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا} إنّما كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في بقياه عليهم، و أخذه الفداء منهم مجتهداً، و كان الصواب قتلهم و استئصال شأفتهم، محتجّين بأحاديث ملفّقة لا يجيزها عقل‌

    1. ذيل الآية ۱٥، من السورة ۱۰: يونس.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

167
  • و لا نقل.

  • فمنها: أنّ عمر غدا علي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بعد أخذه الفداء فإذا هو و أبو بكر يبكيان. فقال: ما يبكيكما، فإن وجدت بكاء بكيت و إلّا تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: "إن كَادَ لَيَمَسُّنَا فِي خِلَافِ ابْنِ الْخطَّابِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَ لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مَا أفْلَتَ مِنْهُ إلَّا ابْنُ الْخَطَّابِ".۱

  • قالوا: و أنزل الله تعالي: {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‌ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}.٢ ... الآيات.

  • يقول السيّد شرف الدين هنا: {وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}‌٣ إذ أمعنوا في التيه. فجوّزوا الاجتهاد علي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و الله تعالي يقول: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى}‌٤ و قد أوغلوا في الجهل إذ نسبوا إليه الخطأ، و تسكعوا في الضلال، إذ آثروا قول غيره، و اشتبهت عليهم- في هذه الآية- معالم القصد، و عميت لديهم- فيها- وجوه الرشد، فقالوا بنزولها في التنديد برسول الله و أصحابه، حيث آثروا- بزعم هؤلاء الحمقى- عَرَضَ الدنيا علي الآخرة فاتّخذوا الأسرى، و أخذوا منهم الفداء

    1. «النصّ و الاجتهاد» طبعة دار النهج، لبنان، ص ٢٤٣، نقلًا عن الجزء الأوّل من «السيرة النبويّة» للدحلانيّ، ص ٥۱٢. و تجد غير هذا اللفظ ممّا هو في معناه في «السيرة النبويّة» للدحلانيّ و في «السيرة الحلبيّة» و في «البداية و النهاية» لابن كثير نقلًا عن كلّ من الإمام أحمد و مسلم و أبي داود و الترمذيّ بالإسناد إلي عمر بن الخطّاب.
    2. الآية ٦۷ و ٦۸، من السورة ۸: الأنفال.
    3. صدر الآية ٩۱، من السورة ٦: الأنعام.
    4. الآية ٤، من السورة ٥٣: النجم.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

168
  • قبل أن يثخنوا في الأرض، و زعموا أنّه لم يسْلَم يومئذٍ من هذه الخطيئة إلّا عمر، و أنّه لو نزل العذاب لم يفلت منه إلّا ابن الخطّاب.

  • و كذب من زعم أنّه اتّخذ الأسرى و أخذ منهم الفداء قبل أن يُثخن في الأرض، فإنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم إنّما فعل ذلك بعد أن أثخن في الأرض، و قتل صناديد قريش و طواغيتها كأبي جهل بن هشام، و عتبة، و شيبة بن أبي ربيعة، و الوليد بن عتبة، و العاص بن سعيد ...

  • و بعد أن يذكر صاحب الكتاب خمسة و ثلاثين من أسماء المقتولين واحداً بعد واحداً يقول: إلي سبعين من رؤساء الكفر و زعماء الشرك كما هو معلوم بالضرورة، فكيف يمكن بعد هذا أن يكون صلّى الله عليه و آله و سلّم قد أخذ الفداء قبل أن يثخن في الأرض لو كانوا يعقلون؟ و كيف يتناوله هذا اللوم بعد إثخانه يا مسلمون؟! و قد تنزَّه رسول الله و تعالي الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

  • إنّ هذه الآية حول أسر عير و قافلة أبي سفيان، لا حول النفير و الأسر

  • و الصواب أنّ الآية إنّما نزلت في التنديد بالذين كانوا يودّون العِير و أصحابه علي ما حكاه الله تعالي عنهم في قوله- عن هذه الواقعة- عزّ من قائل: {وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ}.۱

  • و كان صلّى الله عليه و آله و سلّم قد استشار أصحابه فقال لهم: "إنَّ القَومَ قَدْ خَرَجُوا عَلَى كُلِّ صَعْبٍ وَ ذَلُولٍ فَمَا تَقُولُونَ؟ العِيرُ أحَبُّ إلَيْكُمْ أمِ النَّفِيرُ؟ قَالُوا: بَلِ العِيرُ أحَبُّ إلَينَا مِنْ لِقَاءِ العَدُوِّ.

  • و قال بعضهم حين رآه صلّى الله عليه و آله و سلّم مصرّاً علي القتال:

    1. الآية ۷، من السورة ۸: الأنفال.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

169
  • هَلَّا ذَكَرْتَ لَنَا القِتَالَ لنَتَأهَّبَ لَهُ؟ إنَّا خَرَجْنَا لِلْعِيرِ لَا لِلْقِتَالِ، فتغيّر وجه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فأنزل الله تعالي: {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ ، يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ}.۱

  • و حيث أراد الله عزّ و جلّ أن يقنعهم بمعذرة النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم في إصراره علي القتال، و عدم مبالاته بالعير و أصحابه قال عزَّ من قائل‌ {ما كانَ لِنَبِيٍ}‌ من الأنبياء المرسلين قبل نبيّكم محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم‌ {أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‌ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}‌ فنبيّكم لا يكون له أسري حتّى يثخن في الأرض علي سنن غيره من الأنبياء الذين اتّخذوا أسري، و لذلك لم يبال إذ فاته أسري أبي سفيان و أصحابه حين هربوا بعيرهم إلي مكّة، لكنّكم أنتم تُريدُونَ إذ تودّون أخذ العير و أسر أصحابه‌ {عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}باستئصال ذات الشوكة من أعدائه‌ {وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} و العزّة و الحكمة تقتضيان يومئذٍ اجتثاث عزّ العدوّ، و إطفاء جمرته، ثمّ قال تنديداً بهم‌ {لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} في علمه الأذلي بأن يمنعكم من أخذ العير و أسر أصحابه لأسرتم القوم و أخذتم عيرهم، و لو فعلتم ذلك‌ {لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ} قبل أن تثخنوا في الأرض‌ {عَذابٌ عَظِيمٌ}.

  • و يقول هنا آية الله العامليّ: هذا معني الآية الكريمة، و لا يصحّ حملها علي غيره، علي أنّي لا أعلم أحداً سبقني إليه، إذ أوردت الآية و فسّرتها في الفصل الثامن من «الفصول المهمّة»٢

    1. الآية ٥ و ٦ من السورة ۸: الأنفال.
    2. «النصّ و الاجتهاد» الطبعة الثانية، ملخّصاً من ص ٢٣٩ إلي ص ٢٤٥، الموردان ٤۷ و ٤۸ من موارد الاجتهاد في مقابل النصّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

170
  • ذهب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و بدعوة عبد الله بن عبد الله بن ابيّ إلي عيادة أبيه عبد الله بن ابيّ و صلّى عليه بعد موته أيضاً و طلب له المغفرة، فنزلت عندها هذه الآية:

  • {ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى‌ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ}.۱

  • {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.٢

  • استأذنت حَفْصة يوماً من رسول الله و خرجت إلي بيت أبيها، فجاءت مارية القبطيّة جارية رسول الله إلي حجرة حفصة- و قد ذكرنا سابقاً خصوصيّات قصّة مارية القبطيّة- و قد قام رسول الله طبقاً لبعض الروايات بمضاجعة مارية هناك، و في هذه الأثناء رجعت حفصة إلي حجرتها فوجدت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم مع مارية، فقامت بالصياح و العويل متّهمة النبيّ بأنّه قد أهانها و حقّر شأنها و منزلتها إذ إنّه ضاجع جاريته في حجرتها و التي هي حقّها.

  • انظر الآن إلي هذا الصياح و الضجيج و البكاء مع ذلك الحياء الذي كان معروفاً عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، و الذي ورد في الأحاديث و التواريخ بشكل مستفيض، عندها سوف ترون أيّ وضع قد مرَّ علي النبيّ، و نتعرّض لذلك الأمر بشكل مختصر ثمّ نتجاوز عنه.

  • طلب النبيّ هنا- وفقاً لبعض الروايات- من حفصة أن تسكت.

  • و نقول: أ في مضاجعة الإنسان جاريته ذنب؟ و أنتِ من أين جئت‌

    1. الآية ۱۱٣، من السورة ٩: التوبة.
    2. الآية ۱، من السورة ٦٦: التحريم.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

171
  • بهذا البيت؟ فهل وصل إليك من ملك أبيك؟ إنّ هذا البيت هو بيت النبيّ، صلّى الله عليه و آله، و الحجرة هي له، ثمّ إنّك لم تكوني في حجرتك، بل كنت قد ذهبت إلي منزل أبيك، ثمّ عدت- الآن من غير سبب، علي أنّ مضاجعة الإنسان لجاريته حلال، و أيّ ذنب في ذلك؟ لاحظوا أيّة مصائب مرّت علي النبيّ صلّى الله عليه و آله، إنّ هؤلاء هم الذين أخرجوا مارية من المدينة لكي لا يستطيع النبيّ الوصول إليها بشكل من الأشكال.

  • تفسير آية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ‌

  • و علي كلّ حال، فقد طلب النبيّ منها عدم إحداث أيّ ضجيج و عاهدها أن لا يضاجع مارية مرّة اخرى. و لذا حرَّم مارية علي نفسه، فنزلت الآية:

  • {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}‌، إنّ جاريتك حلال لك فلِمَ حرّمتها علي نفسك؟! {تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

  • {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ}.۱

  • عند ما خرج رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلي غزوة تبوك أمر بالتعبئة العامّة (حيث إنّ قصّة و مسألة المنافقين طويلة جدّاً، إذ إنّ الذهاب إلي الحرب كان صعباً عليهم للغاية، فقد كان الفصل صيفاً، و الهواء حارّاً، و المسافة بعيدة، و الذهاب و الرجوع عسير جدّاً، و كانت التعبئة أيضاً تعبئة عامّة). فجاء بعض المنافقين إلي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و تمسّكوا بمختلف الأعذار، فقال بعضهم: أنا مريض و لا أستطيع المجي‌ء معكم فَأذَنْ لي يا رسول الله بالبقاء بالمدينة، و جاء آخر و تعلّل بعذر آخر للنبيّ بشكل مفصّل، مقدّماً و مؤخّراً، مبيّناً عدم طاقته علي ذلك، و أنّ 

    1. الآية ٤٣، من السورة ٩: التوبة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

172
  • ضعف‌ بدنه يمنعه من المشاركة، و أنّه لا يتمكّن طيّ كل تلك المسافة الطويلة. و خلاصة الأمر فإنّ هؤلاء المنافقين المعروفين، و الذين لم تكن أعدادهم كثيرة جدّاً بالطبع، لكنّهم كانوا جماعة معتدّاً بها. حين جاءوا إلي النبيّ و استأذنوه بترك الذهاب، فأذن لهم النبيّ بإشارة من رأسه، فنزلت الآية:

  • {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ}.

  • انظر إلي حالة الحياء و الخجل و الجلالة و سعة الصدر عند النبيّ، ففي نفس الوقت الذي كان يريد فيه الذهاب إلي معركة تبوك، الحرب التي وقع جميع مسئوليتها علي عاتقه، جاءه شخص طالباً منه الإذن متعلّلًا بمرض أو عذر فلو لم يسمح له النبيّ لقال كم هو قاسي القلب و عديم الرحمة هذا الرجل، فهو يأخذ الجميع إلي الحرب حتّى أنّي- أنا المريض- أطلب منه الإذن للبقاء في المدينة فيمتنع عن ذلك.

  • و من جهة اخرى فإنّه ما إن يأذن لهؤلاء الأشخاص المعدودين حتّى يصل هذا الخطاب العجيب‌ {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ‌}.

  • {فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.۱

  • أي و لا تسمح للشدائد و المشاكل و الحروب و المشقّات أن تحدث فيك تردّداً أو تزلزلًا.

  • تفسير آية: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ ...

  • و قد ورد في الرواية أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: شَيَّبَتنِي هُودٌ وَ أخَوَاتُهَا (سورة هود و أخواتها التي تشتمل علي لفظ 

    1. الآية ۱۱٢، من السورة ۱۱: هود.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

173
  • «اسْتَقِمْ»)، لقد كان لفظ «استقمْ» مهمّاً إلي هذه الدرجة التي شيّبني فيه.

  • {وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‌ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ، لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً}.۱

  • إن الأنبياء ليسوا أشخاصاً عاديّين، بل إنّهم عبروا مراتب حتّى لا يتخطّوا شيئاً لا في الظاهر و لا في الباطن و لا في المدركات و لا في المخيّلات و يجب أن يكونوا في جميع المراتب صادقين مستقيمين إلي حدّ يكونوا معلّمين لعالم الإنسانيّة إلي يوم القيامة.

  • {ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}‌.٢

  • جميع الأنبياء يقولون أطيعوا أمر الله، و حيثما قالوا أطيعوا أمرنا نحن، فذلك لأنّ أمرهم أمر الله، و إذا قال نبيّ أطيعوا أمري، و قام بفصل أمره عن الله، و كان حين قوله «أطيعوا أمري» ملتفتاً إلي نفسه، فإنّ أمره يكون خلاف النبوّة و الحكم و الكتاب الذي وهبه الله إيّاه.

  • و أساساً فإنّ الإنسان الذي أعطاه الله الكتاب و الحكم و النبوّة، ليس له ذلك الشأن و الموقع ليقول للناس كونوا عباداً لي، نفّذوا أمري و نهيي، أنا سلطانكم و حاكمكم و ملككم، و لأنّي نبيّ فإنّ عليكم أن تكونوا عباداً و أرقّاء لي. كلّا أبداً فالأمر ليس كذلك.

  • و عليه فإنّ علماء اليهود و النصارى الذين دعوا الناس إلي عبادتهم 

    1. الآية ۷ و ۸، من السورة ٣٣: الأحزاب.
    2. الآية ۷٩، من السورة ٣: آل عمران.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

174
  • و جعلوا أنفسهم القادة و جعلوا الناس أتباعاً لهم إنّما عملوا خلافاً لموسى‌ و عيسى و سائر الأنبياء عليهم السلام، و أنّهم خالفوهم في سنّتهم. إنّهم- و من طريق منحرف- دعوا الناس إلي عبادتهم بدلًا من دعوتهم إلي عبادة الله سبحانه و إطاعته.

  • {وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}.

  • الرّبانيّ لها معنيان: الأوّل بمعني المربّي، و الآخر منسوب إلي الربّ، فالربّانيّ يعني: إلهيّ. فكونوا أنتم يا علماء اليهود و النصارى ربّانيّين، أي علماء منسوبين إلي الله، علماء إلهيّين، و لا تصيروا علماء شقاوة و فرعنة و مصدر أمر و نهي لأنفسكم، تدعون الناس ليسجدوا لكم و لتعظيم أوامركم؛ فهذا غلط.

  • أو كونوا مربّين لأنّكم تعلّمون الكتب السماويّة و تعرفون مضامينها، فبناءً عليه قوموا بتربية الناس و ادعوهم إلي الحقّ.

  • كانت هذه المجموعة من آيات القرآن ذكرناها لكي نتعرف علي حقيقة النبيّ و موقعيّته و أمره و نهيه و ولايته. و لا نتوهم و العياذ بالله أنّ كون النبيّ له ولاية، فهذا يعني أنّه يستطيع أن يقوم بأيّ عمل موافق لذوقه و مزاجه، و يقوم بإصدار أيّ أمر و نهي، فهذا غلط. فجميع أعمال النبيّ قائمة علي الدقّة و محسوبة، و هو مطيع لأمر الله بنحو لا ينحاز به عن موقعه قيد شعرة، و لا يحصل في داخله أيّ تردّد، و لا يحدث في هذا الماء الصافي أيّة أمواج، و حالة السكون و الهدوء التي حصّلها نتيجة ارتباطه بعالم الغيب لا تواجه أيّ اختلال و اضطراب. إنّ النبيّ عبد أمام أوامر الله، يأمر و ينهي بما يأمر و ينهي الله تبارك و تعالي. و هذه هي حقيقة ولاية رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، كما أنّ ولاية أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم 

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

175
  • السلام بهذه الصورة، فولاية المعصوم هي ولاية الله، و ليس لهم من‌ أنفسهم أمر و نهي.

  • نعم لقد كان النبيّ نفسه مصدراً للتشريع في جزئيّات الأحكام، لكنّ الأئمّة ليسوا مصدراً للتشريع، و أوامرهم منحصرة بالأوامر الاجتماعيّة و الولايتيّة و بيان سنّة النبيّ و القرآن و تفسيره و تأويله فقط. و جميع الأوامر الصادرة عنهم هي نفس أوامر النبيّ و أوامر الله سبحانه، و ناشئة عن عبوديّة محضة. إنّ الأئمّة عبيد لله و متواضعون إلي درجة أنّهم يجلسون علي التراب، و لا يُعقل في وجودهم ذرّة من الأنانيّة و الشخصيّة و الإنّيّة و الإحساس بشي‌ء من أنفسهم، و إلّا لكانوا كسائر أفراد الناس، و لم يكن ثمّة فرق بينهم و بين الناس. و هذا المقام مقام كريم جدّاً جدّاً، و هو متعلّق بالأئمّة الاثني عشر الذين وردت أسماؤهم في الروايات، فإنّهم خصوصاً مصدر لمقام العصمة و الولاية الكلّيّة المطلقة الإلهيّة، و قد تجاوزوا جميع شئون أنفسهم و تحقّقوا بالحقّ.

  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام أن: اضربوا قاتلي ضربة واحدة فقط

  • و أمير المؤمنين عليه السلام مع كلّ تلك القدرة و المُكْنة و السيطرة و الأمر و النهي و الأصحاب المضحّين الذين كانوا يسلّمون لأمره و نهيه من أعماق أرواحهم و قلوبهم لم يعمل مطلقاً بغير سنّة النبيّ و كتاب الله، و لم يتخطاهما أبداً.

  • فهو يوصي: إن أنا قُتلت فاقتلوا قاتلي فقط، و إن شئتم فاعفوا عنه أيضاً، و إن عفوتم فهو أفضل لكم لأنّ الله يحبّ أهل العفو، و إن نجوتُ من هذه الضربة رأيتُ فيه رأيي، فإن شئت أن أقاصّه، فضربةُ بضربة، و إن شئت أن أعفو عنه عفوت، و سأعفو عنه بالطبع.

  • و هذه أيضاً عبارة أمير المؤمنين عليه السلام التي قالها في حياته، لقد جاء إليه البعض مراراً و طلب منه قتل ابن ملجم حيث يعلم يقيناً أنّه ‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

176
  • قاتله. فكان جوابه عليه السلام: أنّه لم يصدر منه جناية بعد، و لا يمكن الاقتصاص من الإنسان قبل وقوع الجناية.

  • هذا بلحاظ الحكم الظاهريّ، و أمّا بلحاظ الحكم الباطنيّ: أ أقْتُلُ قَاتِلِي‌؟ فهل يمكن تصوّر هذا المعني أساساً؟ إذا كان ابن ملجم هو قاتلي فإنّني لا استطيع أن أقتله، فهو الذي يجب أن يقتلني، فلو قتلته لم يكن هو قاتلي و إنّما أنا قاتله، و أكون قد قتلت شخصاً بريئاً. و هذا هو برهان أمير المؤمنين الذي ورد في روايات مختلفة.

  • و في جميع الموارد التي رأينا فيها أنّ أمير المؤمنين عليه السلام يصدر حكماً فإنّما كان حكمه علي أساس الكتاب و السنّة.

  • مفاد و معنى: إنَّا لَمْ نُحَكِّم الرِّجَالَ وَ إنَّمَا حَكَّمْنَا القُرآنَ‌

  • في قضيّة تحكيم الحكمين أشكل عليه البعض: أنّك قد حكّمت فلان. فقال عليه السلام: "إنّا لَمْ نُحَكِّم الرِّجَالَ، و إنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرآنَ، وَ هَذَا القُرْآنُ إنَّما هُوَ خَطٌّ مُسْطُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَ لا بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ".۱

  • قال السيّد الرضيّ رضوان الله عليه: رُوِيَ‌ أنَّهُ عَلَيهِ السَّلامُ كَانَ جَالِساً فِي أصْحَابِهِ فَمَرَّتْ بِهِمْ امْرَأةٌ جَمِيلَةٌ فَرَمَقَهَا الْقَوْمُ بِأبْصَارِهِمْ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: "إنَّ أبْصَارَ هَذِهِ الْفُحُولِ طَوامِحُ،٢ وَ إنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هَبَابِهَا". أي أنّ كون هذه الأبصار طوامح يوجب هيجانهم النفسيّ و الفكريّ، و أنّهم تبعاً للخواطر التي حملوها حينما مرّت هذه المرأة سوف يتعرّضون للإثارة.

  • "فَإذَا نَظَرَ أحَدُكُمْ إلى امْرَأةٍ تُعْجِبُهُ فَلْيُلَامِسْ أهْلَهُ، فَإنَّمَا هِيَ امْرَأةٌ كَامْرأةٍ".

    1. «نهج البلاغة» تعليقة الشيخ محمّد عبده، طبعة مصر، الخطبة ۱٢٣.
    2. أي أنّ نظراتهم نبعت من القلب و شَخَصَت.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

177
  • و هذا أمر عجيب، أي أنّه بمجرّد ملامسته أهله فإنّ جميع هذه‌ الخواطر و جميع هذا الهيجان سيتلاشى.

  • فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوارِجِ: قَاتَلَهُ اللهُ كَافِراً، مَا أفْقَهَهُ! فوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ. فَقَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: رُوَيْداً! إنَّمَا هُوَ سَب بِسَبٍّ أوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ".۱

  • فأكرمْ به إماماً! تأمّلوا علمه و درايته و كيف أوضح الأمر بحُسن و جلاء، و هذا هو السبب في أنّ الإسلام قد بالغ في التوصية بالنكاح و الزواج، فكل مَن يتزوّج يُحفظ من جميع المفاسد، أيّاً كانت المرأة التي يتزوّجها، فإنّ المرأة عصمة {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ}‌.٢ المرأة لباس و عطاء للرجل، و الرجل لباس و ساتر لعيوب المرأة. و الشخص المتزوّج لا يسرح فكره بأيّ اتّجاه، و لا تعود تنطبق عليه عبارة "إنَّ أبْصَارَ هَذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِح"‌. أمّا إذا سُدَّ طريق الزواج و تخلّي الناس عن ذلك و أرادوا عندها ترتيب الأمر بالمناهج الدستوريّة فإنّ ذلك غير ممكن، و ستظل القافلة واقفة إلي الحشر.

  • يقول عليه السلام لمعقل بن قيس الرياحيّ في وصيّته له عند ما أرسله علي رأس ثلاثة آلاف رجل في مقدّمة جيشه إلي الشام: "اتَّقِ اللهَ الَّذِي لا بُدَّ لَكَ مِنْ لِقَائِهِ وَ لَا مُنْتَهَى لكَ دُونَهُ، وَ لَا تُقَاتِلَنَّ إلَّا مَنْ قَاتَلَكَ".٣

  • و يقول كذلك أمير المؤمنين عليه السلام في وصيّته الطويلة للإمام الحسن و الإمام الحسين و جميع المؤمنين حين ضربته: "يَا بَني عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا ألْفيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً! تَقُولُونَ: قُتِلَ أمِيرُ الْمُؤمِنينَ، 

    1. «نهج البلاغة» الحكمة ٤٢۰.
    2. جزء من الآية ۱۸۷، من السورة ٢: البقرة.
    3. «نهج البلاغة» باب الرسائل، الرسالة ۱٢.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

178
  • ألَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إلَّا قَاتِلِي!

  • انْظُرُوا إذَا أنَا مُتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، وَ لَا يُمَثَّلُ بِالرَّجُلِ، فَإنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلهِ وَ سَلَّمَ‌] يَقُولُ: إيَّاكُمْ وَ الْمُثْلَةَ وَ لَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ".۱

  • مع أنّ أمير المؤمنين علي فراش الموت، و في تلك الحال، مع تلك الجريمة العظيمة التي ارتكبها ابن ملجم حين قضي علي حياته، و الخلاصة أنّ جميع هذه الفتن و جميع هذا الفساد هو في عنق ابن ملجم و في مسئوليّته و مع هذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: إنّي اريد أن أطيع حكم الله و حكم رسوله، فإنّي خاضع لشريعة و أمر رسول الله و لا أتجاوزه، قال: ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ.

  • إنّ قاتلي ضربني ضربة واحدة يجب أن أضربه ضربة واحدة، فأنا أمير المؤمنين، و أنا سيّد الوصيّين، و أنا زوج البتول فاطمة الزهراء، أنا الشافع الأكبر و لواء الحمد يوم القيامة بيدي، لكنّ هذه المسائل لا توجب أن أتعدّى سنّة رسول الله، أو أتخطّى حقّي الذي هو قتل قاتلي، لقد ضربني ضربة فلا يحقّ لكم أن تضربوه ضربتين، كما لا يحقّ لكم أن تقتلوا بي غير قاتلي.

  • و من وصيّته عليه السلام لجيشه قبل بدء معركة صفّين:

  • "لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ؛ فَإنَّكُمْ بِحَمْدِ اللهِ عَلَى حُجَّةٍ؛ وَ تَرْكُكُمْ إيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ حُجَّةٌ اخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ!

  • فَإذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإذْنِ اللهِ، فَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِراً، وَ لَا تُصِيبُوا مُعْوِراً، وَ لَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ.

    1. «نهج البلاغة» باب الكتب، الرسالة ٤۷.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

179
  • وَ لَا تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأذًى وَ إنْ شَتَمْنَ أعْرَاضَكُمْ، وَ سَبَبْنَ امَرَاءَكُمْ، فَإنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ الْقُوى وَ الأنْفُسِ وَ الْعُقُولِ. إنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وَ إنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ ..."

  • فقد كانت النساء علي ظاهر الإسلام، و لا يجوز إيذاؤهنَّ قطعاً، فلا شأن لكم مع النساء، و شأنكم مع الرجال.

  • وَ إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرأةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْفِهْرِ أوِ الْهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَ عَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ".۱

  • أنتم الآن بحمد الله مسلمون، و عليه فلا شأن لكم بالنساء، و إنّما توجّهوا و قوموا بعملكم و دعوا النساء تسبّكم، و حتّى إذا قمن بسبّي و شتمي.- أنا عليّ- فلا تتعرّضوا لهنّ، بل قوموا لعملكم.

  • إنّ جيش الإسلام يعمل علي أساس العقل لا علي أساس الانفعالات، و منطق العقل لدي المسلم يحكم علي منطق الانفعالات.

  • منطق الانفعال هو أن يقوم الإنسان تحت تأثير الانفعال بردّ القول السيّئ بإساءة القول لمن يوجّه له ذلك. و عندها يَنسي الله، و يظهر فيه الحسّ الانتقاميّ و الأنانيّة كذلك.

  • أمّا إذا كان العمل علي أساس منطق العقل فإنّه يلتزم بما يدعو إليه العقل و يقوم بإكمال العمل الذي امر به إلي نهايته و بشكل حسن أيضاً و لو تجاوز أحاسيسه أثناء العمل فلو أساءوا إليه القول أو شتموه فلا ينبغي له أن يتجاوز موضعه و إنّما عليه أن يحافظ علي وقاره و احترامه.

  • و لقد كان هذا نهج أمير المؤمنين عليه السلام في العمل فتري أنّه لم يتخطّ أوامره الولايتيّة أبداً، و كان يري نفسه عبداً مأموراً لله لا يميل 

    1. «نهج البلاغة» باب الرسائل، الرسالة ۱٤.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

180
  • إلي هذه الجهة أو تلك أبداً، أي لا (إفراط و لا تفريط)، و إنّما كان يخطو علي مرارة الحقّ و صلب الواقع، و يسير بالناس علي خطي النبيّ لكي يوصلهم إلي السعادة الأبديّة.

  •  

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

181
  •  

  •  

  • الدرس التاسع: البحثُ حولَ عباراتِ مَقْبُولَةِ عُمَرِ بنِ حَنْظَلَة

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

183
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • لقد انتهى بحثنا حول ولاية النبيّ و الإمام المعصوم، و قد تمَّ البحث في حدود ولايتهم بالمقدار الذي كان يقتضيه الأمر. و الآن يجب أن نَرِدَ في بحث ولاية الفقيه و شئونها و خصائصها و مواردها و تشعّباتها و حدودها و مشخّصاتها إن شاء الله تعالي.

  • لقد بحث الفقهاء الكبار حول الفقيه الجامع للشرائط و العادل في ثلاثة مواضيع:

  • الأوّل: في موضوع الحكومة و الولاء.

  • الثاني: في موضوع القضاء و فصل الخصومة.

  • الثالث: في موضوع الإفتاء.

  • و هذه الأبحاث الثلاثة منفصلة عن بعضها و لا ربط لها ببعضها

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

184
  • البعض، كما أنّ أدلّتها أيضاً منفصلة عن بعضها.

  • و مع أنّ بعض تلك الأدلة يمكن الاستفادة منها في موارد اخرى أيضاً، لكنّ كلّ واحد منها له بحث مستقلّ.

  • و الآن و قد وردنا في بحث ولاية الفقيه فإنّنا سنقوم بتحليل الأدلّة بلحاظ الحكومة و الإمارة علي المسلمين.

  • لقد ورد في هذا المجال روايات عن الأئمة عليهم السلام بأنّهم قد نصبوا أشخاصاً معيّنين من أجل الولاية و القضاء، أو أنّهم نصبوا أشخاصاً بشكل عامّ بحيث يكون لهم ولاية خاصّة أو عامّة.

  • و إحدى تلك الروايات هي مقبولة عُمَر بن حَنْظَلة، و هي رواية مشهورة و معروفة، أوردها كبار المشايخ المحمّدين الثلاثة (الكلينيّ، و الشيخ الطوسيّ، و الصدوق) في كتبهم في فصل القضاء، و عملوا علي أساسها أيضاً.

  • فقد روي محمّد بن يعقوب الكلينيّ في «الكافي»،۱ عن محمّد بن يحيي، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عيسى، عن صفوان، عن داود بن الحُصَيْن، عن عمر بن حنظلة، قال: سَألتُ أبَا عَبْد اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ عَنْ رَجُلَينِ مِنْ أصْحَابِنَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أو مِيرَاثٍ، فَتَحَاكَمَا إلى السُّلْطَانِ أو إلى القُضَاةِ، أ يَحِلُّ ذَلِكَ؟

  • و حين يقول في هذا السؤال عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أصْحَابِنَا فإنّه يتّضح أنّ هذين الشخصين من الشيعة، فهما قد تنازعا في أمرٍ من الامور، في دَين أو ميراث وصل إليهما، فهل يجوز لهما الرجوع إلي سلطان زمانهما أو إلي‌

    1. «فروع الكافي» كتاب القضاء و الأحكام، باب كراهيّة الارتفاع إلي قضاة الجور، طبع مطبعة الحيدريّ، ج ۷، ص ٤۱٢، و الطبعة الحجريّة، ج ٢، ص ٣٥٩.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

185
  • قضاتهم، فهل يجوز مثلًا الرجوع بشكل عامّ في زمان الإمام الصادق عليه السلام إلي المنصور الدوانيقيّ أو إلي قضاته المنصوبين من قبله، و الذين يحكمون بين الناس علي أساس ذلك الاسلوب و ذلك النهج و الفقه العاميّين.

  • لقد كان سؤال عمر بن حنظلة للإمام هل يستطيع الإنسان الرجوع إلي السلطان الجائر أو إلي شخص منصوب من قبله للقضاء؟

  • فقال الإمام: "مَنْ تَحَاكَمَ إلى الطَّاغُوتِ فَحَكَمَ لَهُ، فَإنَّمَا يَأخُذُ سُحْتاً، وَ إنْ كَانَ حَقُّهُ ثَابِتاً، لأنَّهُ أخَذَ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أمَرَ اللهُ أن يُكْفَرَ بِهِ".

  • فلنرَ الآن لما ذا يجيب الإمام بهذا النحو؟ و أنّه إذا رجع الإنسان إلي الطاغوت و حكم له و أخذ الإنسان حقّه، فإنّ ما يأخذه سيكون حراماً «وَ إنْ كَانَ حَقُّهُ ثَابِتاً»

  • الوصول إلي الحقّ يجب أن يكون من طريق مشروع‌

  • السرّ في المطلب أنّه و إن كان هذا حقّه و حُكم له به إلّا أنّه إنّما اخذ من طريق الطاغوت و حكمه، و قد كان الطاغوت هذا دليلًا و طريقاً لوصوله إلي الواقع، مع أنّ الله تعالي أمر بأن يكفر الإنسان بالطاغوت، و هذا يعني بأنّ هذا الطريق مسدود.

  • و من هنا يستفاد جيّداً أنّ الإنسان لا يستطيع أن يُحصّل حقّه من أيّ طريقٍ كان- حتّى لو كان هذا الطريق ممّا لم يمضه الشرع- و عليه هنا لتحصيل حقّه أن يسلك الطريق الذي أمضاه الشرع، و أنّ تحصيل الحقّ من الطريق الذي لم يمضه الشرع غير جائز مهما كان ذلك الحقّ ثابتاً.

  • إنّ هذا الطريق الذي يريد الإنسان سلوكه لتحصيل حقّه الثابت عن طريق السلطان الجائر أو القضاة المنصوبين من قبله للحكم بين الناس، الذين يأمرون و ينهون و يقومون بفصل الخصومة، طريق باطل. فليس لنا أن نسلك هذا الطريق و إن كان يوصلنا إلي حقّنا.

  • و السبب في ذلك هو أنّ مفسدة هذا الطريق أكثر من مصلحته‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

186
  • الواقعيّة، فهو طريق خطر، و ليس للإنسان أن يسلكه، فإذا جاء سلطان جائر فحكم باسم الإسلام و المسلمين، و أخذ يعمل في أحكام المسلمين بحسب هواه، و قام بتنصيب قضاة من أجل تقوية حكومته، غير آبهٍ لنصوص القرآن و السنّة و الولاية، بل مخالف لها، فإنّ الإنسان إذا ما سلك هذا الطريق و وصل إلي حقّه أيضاً فإنّه سيكون قد سار في طريق خطر.

  • و ذلك لأنّه أوّلًا: سيكون قد قام بتقوية سلطان ذلك الحاكم و تقوية قضائه، و بالركون إلي الظالم‌ {وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}.۱

  • و لقد اوعد في القرآن الكريم الشخص الذي يركن إلي الظالم بجهنّم، و النار ستمسّه. و لو لم يُصَرْ إلي الاعتماد علي الظالم، و إذا لم يذهب الناس إلي السلطان الجائر و قضاته فمن الطبيعيّ أنّ حكمهم و سلطانهم سيضعف، أمّا لو راجعهم الناس فإنّ أمرهم سيقوي و حكمهم سيتعزّز.

  • و ثانياً: فإنّ علي ذلك الشخص الذي يريد تحصيل حقّه أن يذهب إلي النبع الأصيل، من طريق طاهر و خالص و صافٍ فيحصل علي الماء من هناك، لكنّه إذا سلك طريقاً ملوّثة عبر المستنقعات الملوّثة التي يمرّ عبرها الماء فيتعفّن فيها، فإنّ الإنسان يصل إلي الماء، لكنّ الماء الذي يمرّ عبر المجاري المتعفّنة لن يشكّل حياة له، بل هو المرض و الوباء.

  • و هذا المسألة أيضاً من المسائل الدقيقة جدّاً و الخطرة، و الجملة التي يشير إليها الإمام عليه السلام تضمّ نكتة مهمّة جدّاً، و هي أنّ علي الإنسان في اموره عموماً أن لا يلاحظ حقّه فقط، و إنّما عليه أن يلاحظ أيضاً الطريقة التي يريد تحصيل الحقّ عبرها. فإذا لم يكن الطريق موجباً لمذلّته‌

    1. صدر الآية ۱۱٣، من السورة ۱۱: هود.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

187
  • و إهانته فليتابعه، أمّا إذا كان يُحدث نقصاً في عزّه و شرفه و يضرّ بهما فعليه أن يصرف النظر و يسلك طريقاً تلاحظ فيها جميع الخصوصيّات السلوكيّة.

  • مفاد: إِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيكُمْ حَاكِماً

  • يقول الإمام عليه السلام: حتّى إذا كان حقّه ثابتاً، و كان يأخذ حقّه و لكن عن طريق ممنوع، فهو أمر ممنوع. فتحصيل ذلك عن طريق الرجوع إلي السلطان الجائر و قضاته أمر ممنوع، و هذه المفسدة أقوي من المصلحة الحاصلة.

  • قُلْتُ: كَيْفَ يَصْنَعَانِ. يقول عمر بن حنظلة فسألته: فما ذا يفعلان؟ إنّهما مختلفان و لا يمكن أن يبقي نزاعهما بهذا النحو إلي يوم القيامة. و حيث إنّكم قد منعتم سلوك ذلك الطريق و قلتم إنّ عليهما أن لا يرجعا إلي السلطان الجائر، ما هو طريق الخلاص- إذَن- من هذا المأزق؟

  • قَالَ: "انْظُرُوا إلى مَنْ كَانَ مِنكُمْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا وَ نَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَ حَرَامِنَا، وَ عَرَفَ أحْكَامَنَا، فَارْضَوا بِهِ حَكَماً، فَإنّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً، فَإذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ، فَإنَّمَا بِحُكْمِ اللهِ قَدِ اسْتَخَفَّ، وَ عَلَيْنَا رَدَّ، و الرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللهِ؛ وَ هُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللهِ".

  • فجوابه عليه السلام أنّه قال: حيث إنّ الرجوع إلي الطاغوت حرام، و هذا الطريق للوصول إلي الحقّ مسدود، فاذهبوا و اختاروا من بينكم مَن كان شيعيّاً صاحب ولاية و غير معاند و لا يسير في الطريق المخالف لطريقكم، اختاروه حاكماً و ارجعوا إليه، لكن عليكم أن تتأمّلوا حتّى لا تنتخبوا شخصاً غير واجدٍ لشرائط الحكومة، إذ يجب أن يكون فقيهاً، ناظراً في حلالنا و حرامنا، يفهم حلالنا و حرامنا، و يروي حديثنا، و يعرف أحكامنا، أي أن يكون فقيهاً عارفاً بالحلال و الحرام و ناظراً في الأحكام و راوياً للحديث، خبيراً بمذاقنا و حكمنا و ممشانا، و يعرف ما هو حكمنا أهل البيت، و يعرف كيف بيّنا أحكام رسول الله و القرآن و أوصلناها لكم،

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

188
  • فإنّ شخصاً كهذا هو الذي يجب أن يحكم بينكم؛ "فَإنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ حَاكِماً".

  • مخالفة الطريق المجعول شرعاً مخالفة للّه‌

  • و هذا ما يُدعى بـ «الجعل» (أي جعل المنصب)، لقد جعلته عليكم حاكماً، و هذه الحكومة أيضاً بصفة حكومة عامّة، «مَن كَانَ مِنكُمْ» بشكل عامّ و ليس مختصّاً بشخص معيّن، كلّ مَن كان كذلك، سواء كان ذلك في زمان الإمام الصادق عليه السلام حين سأله عمر بن حنظلة أو بعد ذلك الزمان، و كذلك إلي زماننا هذا الذي هو زمن الغيبة الكبرى؛ كلّ من كان بهذا النحو فإنّ الإمام يقول: "إنّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً، فَإذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ". أي إذا حكم ذلك الفقيه بحكمنا فلم يقبل بحكمه المتداعي الذي وقع الحكم عليه؛ و هنا بدلًا من أن يقول «لم يقبلا» قال «لم يقبل» و ذلك لأنّه عند ما يتنازع شخصان مع بعضهما فيرجعان إلي الحاكم، فإنّ ذلك الشخص الذي سيحكم له سيقبل و لا يعترض علي الحكمَ، و لذا فقد جاء بها الإمام بصيغة المفرد، لأنّ الحاكم لا يستطيع أن يحكم للشخصين، بأن يقول: هذا المال لك و لغيرك معاً مثلًا، فالحكم في موردٍ ما يكون لشخص و علي شخص، فهذا الحكم الصادر من هذا الحاكم الذي قد جعلته عليكم حتّى لو كان علي الشخص فهو أيضاً حكم الله، فإذا خالفه فليعلم أنّه قد استخف بحكم الله، و قد ردّ علينا بعمله هذا، و الرادّ علينا رادّ علي الله، و عمله هذا علي حدّ الشرك بالله.

  • و ذلك لأنّنا لا نملك أمراً و نهياً من عند أنفسنا، و هذا الجعل الذي أقوم به من عند نفسي ليس بما أنّي أنا، و لكن بما أنّي خليفة رسول الله، و رسول الله أيضاً هو الآية العظمى لله، و حكمه حكم الله، و قد جعلنا رسول الله نحن أهل البيت ثقلًا في مقابل الثقل الآخر و هو كتاب الله، و قد جعل حجّيّة قولنا و حجّيّة كتاب الله في مستوي واحد "إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، ألَا وَ إنَّهُمَا الْخَليفَتَانِ مِنْ بَعْدِي"، و هذا الكلام يدلّ علي أنّه: كما أنّ‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

189
  • كتاب الله حجّة من بعدي فأنتم تأخذون جميع الأحكام منه، و عند ما تنتهي مسألة إلي كتاب الله فلا يحقّ لكم الكلام و الاعتراض فينتهي الأمر و يُحسم (فالقرآن معصوم)، فكذلك أهل بيتي أيضاً الذين عرّفتهم للإمامة عليكم من بعدي معصومون أيضاً، ليس هناك خطأ في تصرّفاتهم و أقوالهم، و لقولهم و كلامهم حجّيّة ككتاب الله. و بناء عليه فالرادّ علينا رادّ علي رسول الله و رادّ علي كتاب الله، و علي هذا فهو رادّ علي الله تعالي. و الرادّ علي الله إنّما هو مشرك بالله.

  • إنّ الأمر واضح جدّاً، و قد بيّن الإمام بشكل جيّد و دلّ علي أنّ ليس لهم في أنفسهم أيّة استقلاليّة و إنّيّة و شخصيّة، و أنّ ما لديهم عين شخصيّة الحقّ و ولاية الحقّ و أمر الحقّ و نهيه و أمر رسول الله و نهيه. و أنّ ولايتهم ولاية الله، فالحكم الذي يحكمون به من خلال‌ "إنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ حَاكِماً" إنّما هو علي أساس ولاية الله، فمن ينقض هذا الحكم أو يستخفّ به فإنّما قد استخفّ بولاية الله، و هذا الشخص يكون مشركاً بالله.

  • و يذكر الشيخ في «التهذيب»۱ في باب القضاء و الأحكام عين هذه الرواية عن محمّد بن يحيي، عن محمّد بن الحسن بن شمّون، عن محمّد بن عيسى، بنفس العبارة التي ذكرها الكلينيّ.

  • و أمّا الصدوق رضوان الله عليه في «مَن لا يحضره الفقيه»٢ فيذكر بعد تلك الفقرات المذكورة تتمّة مفيدة جدّاً.٣

    1. «التهذيب» طبعة النجف، ج ٦، كتاب القضايا و الأحكام، ص ٢۱۸.
    2. «من لا يحضره الفقيه» طبعة مكتبة الصدوق، ج ٣، أبواب القضايا و الأحكام، ص ۸ إلي ۱۱؛ و طبعة النجف، ج ٣، ص ٥ و ٦.
    3. ينبغي أن يُعلم أنّ هذه الرواية بتمامها و كمالها ذكرها الكلينيّ أيضاً في «الكافي» كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، ج ۱، ص ٦۷، حديث ۱۰ في طبعة مكتبة الصدوق. و ذكرها أيضاً الشيخ الطوسيّ بتمامها و كمالها في «التهذيب» ج ۱، بابٌ في القضايا و الأحكام، ص ٣۰۱، حديث ٥٢ من طبعة النجف، تحت رقم ۸٤٥، و ذكرها أيضاً الملّا محمّد محسن الفيض الكاشانيّ في «الوافي» الطبعة الحديثة في أصفهان، ج ۱، ص ٢۸٥، رقم ٢٢٩- ۱٣ كتاب العقل و العلم من «الكافي» و «التهذيب».

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

190
  • قَالَ: قُلتُ: فِي رَجُلَيْنِ اخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا فَرَضِيا أنْ يَكُونَا النَّاظِرَيْنِ فِي حَقِّهِمَا فَاخْتَلَفَا فِيمَا حَكَمَا وَ كِلَاهُمَا اخْتَلَفَا فِي حَدِيثِنَا؟

  • لأنّ من البديهيّ في صورة وحدة الحاكم أن يكون الحكم نافذاً و واجب الإجراء علي كلا الشخصين المتداعيين، أمّا في صورة التعدّد حيث يختار كلّ منها فقيهاً ناظراً في الحلال و الحرام و عارفاً بالأحكام، فإذا كان حكمهما واحداً لم يكن هناك إشكال في الأمر، أمّا إذا وقع اختلاف بينهما في الحكم، و كان هذا الاختلاف ناشئاً في الاختلاف في الحديث الذي قد تُمسّك به، فعندها سيشكل الأمر، و ذلك لأنّ كلًّا منهما قد رأي حجّيّة الحديث بطريق ما و عمل به، فما الحلّ في هذه الحالة؟

  • قَالَ: "الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أعْدَلُهُمَا وَ أفْقَهُهُمَا وَ أصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَ أوْرَعُهُمَا؛ وَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا يَحْكُمُ بِهِ الآخَرُ".

  • أي أنّهم في حالة اختلاف حكم الفقيهين في مورد محدّد فانظروا إلي مَن كانت عدالته أفضل و فقهه أقوي و صدقه في الحديث أكثر و ورعه و طهارته و تقواه أعلى، فإنّ حكمه هو النافذ فاعملوا به، و لا تلتفتوا إلي حكم الآخر.

  • يقول الإمام هنا: "أعْدَلُهُمَا وَ أفْقَهُهُمَا وَ أصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَ أوْرَعُهُمَا".

  • و ليس المناط في الحجّيّة خصوص الأعدليّة أو الأفقهيّة أو الأصدقيّة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

191
  • أو الأورعيّة و إلّا فمن الممكن أن يكون موجباً للاختلاف في عنوان الرجحان، بأن يكون أحدهما أفقه و الآخر أعدل، و أحدهما أصدق في الحديث و لكنّه ليس الأفقه، و الآخر أفقه و لكنّه ليس الأورع.

  • مناط الارجحيّة في صورة وجود حكمين لفقيهين في مسألة واحدة

  • و هل مناط الرجحان هو اجتماع هذه الصفات الأربعة جميعاً المذكورة في الرواية، أو ثلاثة منها، أو اثنان، أو يكفي واحد منها فقط؟ أو أنّ المطلب شي‌ء آخر غير هذا.

  • يجب أن نجد مناط الرجحان في وصف يكون فيه أحد هذين الفقيهين أرجح من الآخر بلحاظ الطريقيّة إلي متن واقع الفقاهة. و بعبارة اخرى أن يكون الوزن الدينيّ لأحدهما أرجح من الآخر، و بعبارة ثالثة أن يُرى بحسب كتاب الله و سنّة النبيّ و آراء و مناهج الأئمّة عليهم السلام مقدّماً.

  • ميزان الأرجحيّة هي الافضليّة الدينيّة علماً و فقهاً و عدالة و وثاقة

  • بأيّ شي‌ء تكون أرجحيّة الوزن الدينيّ لفقيه علي آخر إلّا أن تكون عدالته أقوي أو فقهه أفضل أو صدقه في الحديث أكثر أو ورعه أكثر. فليكن أيّ واحد من هذه الامور، لكن في النهاية فإنّ ذلك العالِم الذي يكون وزنه الدينيّ من حيث المجموع راجحاً علي الآخر سيكون حكمه هو النافذ، و هذا كاف.

  • إذا كان رصيد أحدهما و وزنه الدينيّ أكثر فحكمه هنا حجّة، و لا يلتفت إلي ما يحكم به الآخر.

  • قَالَ: قُلْتُ: فَإنَّهُمَا عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ عِنْدَ أصْحَابِنَا لَيْسَ يَتَفَاضَلُ وَاحِدٌ مِنهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ.

  • و هذا بنفسه أيضاً دليل علي ما ذكرناه من أنّ المراد من الأعدل و الأفقه و الأورع هو ذاك الذي يكون وزنه الدينيّ إجمالًا أكبر. و ذلك لأنّه‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

192
  • إذا كان المراد خصوص الأعدليّة و الأفقهيّة و أمثالهما فيجب أن يسأل هنا ابن حنظلة: إنَّهُمَا عَدْلَانِ فَقِيهَانِ صِدِّيقَانِ ورِعَانِ مَرْضِيّان و ... و جميع هذه الصفات في الشخصين مجتمعة، مع أنّه لم يسأل عن هذا و إنّما قال إجمالًا: إذا كان كلاهما عدلان مرضيّان فما ذا نعمل؟ و يستفاد من هذا أنّه في الأفقه و الأعدل و أمثالهما لم تلاحظ خصوصيّة تلك المعاني و إنّما لوحظت تلك المزيّة التي اشير إليها هنا بعنوان عَدْلَانِ مَرْضِيَّان و هذا العنوان حاكم علي تلك الحقيقة التي تكون موجودة في ذلك الفقيه. فكلا الفقيهان مرضيّان و لائقان من جميع الجهات و بطراز واحد؛ و ليس هناك أعلميّة و أصدقيّة بينهما، كلاهما في درجة واحدة، فما ذا يجب أن نعمل في هذه الحال؟

  • قَالَ: فَقَالَ: "يُنظَرُ إلى مَا كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِمَا عنَّا فِي ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِهِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أصْحَابُكَ؛ فَيُؤخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِنَا؛ وَ يُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أصْحَابِكَ؛ فَإنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ حُكْمُنَا لَا رَيْبَ فِيهِ. وَ إنَّمَا الامورُ ثَلَاثَةٌ أمْرٌ بَيِّنٌ رُشْدُهُ فَمُتَّبَعٌ، وَ أمْرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ فَمُجْتَنَبٌ، وَ أمْرٌ مُشْكِلٌ يُرَدُّ حُكْمُهُ إلى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ".

  • فالامور إذَن لا تخرج عن هذه الثلاثة:

  • الأوّل: الأمر الذي يكون رشده بيّناً و يكون ثابتاً في طريق الحقّ و مستقيماً و يوصل الإنسان إلي الواقع؛ فيجب اتّباعه «فمتّبع»: أي يجب اتّباعه حتماً لأنّه بيّن الرشد.

  • الثاني: الأمر الذي يكون غيّه بيّناً، أي أنّ من الواضح أنّه طريق ضلالة و ظلمة و هلاك، فهذا يجب اجتنابه حتماً «فمجتنبٌ».

  • الثالث: الأمر الذي يكون مشكلًا و مبهماً، لا يعلم الإنسان هل فيه الرشد أم الغيّ، فأصل هذا الأمر يكون محلًّا للتردد و الشكّ و الريب، فيكون الأمر حقيقة غير واضح عند الإنسان. ففي هذه الحالة يجب علي‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

193
  • الإنسان أن يردّ حكمه لله عزّ و جلّ، و أن يطلب منه الحلّ، و لا ينبغي له أن يقدم علي الأمر المشكوك.

  • قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: "حَلالٌ بَيِّنٌ، وَ حَرَامٌ بَيِّنٌ، وَ شُبُهَاتٌ بَيْنَ ذَلِكَ، فَمَنْ تَرَكَ الشُّبهَاتِ نَجَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَ مَنْ أخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَكَبَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَ هَلَكَ مِنْ حَيث لَا يَعْلَمُ".

  • و لكي لا يقع الإنسان في ورطة الهلكات فإنّ عليه أن يجتنب الشبهات أيضاً، و ذلك لأنّ الشبهات و إن لم تكن من الامور البيّنة الغيّ و لكنّها شبهة. و معني الشبهة هو أنّنا لا ندري أنّ حقيقتها رشد أم غيّ، فمن الممكن أن تكون غيّاً، فإذَنْ إذا لم يجتنبها الإنسان و أتي بها فمن الممكن أن يقع في الهلكة، و ذلك لأنّ المفروض أنّ فيها ريب، و ما يكون فيه ريب ربّما يكون غير مصادف للرشد، و من الممكن أن يكون غيّاً دون أن نعلم و ذلك لأنّ طريق الوصول إلي الواقع مسدود علينا في هذا الأمر، و لدينا ريب و شبهة في ذلك، فإذا قمنا بهذا العمل من الممكن أن نقع في مشكلة، و علي من لا يرغب في الوقوع في المفسدة أن يجتنب الشبهة، فإذا أتي بها- مع فرض كونها شبهة و مع فرض أنّ فيها ريب- فإنّه سيقع في الغيّ وَ هَلَكَ مِن حَيثُ لَا يَعلَمُ.

  • الامور ثلاثة: بَيِّنُ الرُّشْدِ وَ بَيِّنُ الغَيّ وَ أَمْرٌ مُشْكِلٌ يُرَدُّ حُكْمُهُ إلى اللهِ‌

  • و الإمام الصادق عليه السلام بعد أن بيّن بنفسه: "إنَّمَا الامورُ ثَلَاثَةٌ: أمْرٌ بَيِّنٌ رُشْدُهُ فَمُتَّبَعٌ؛ وَ أمْرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ فَمُجْتَنَبٌ؛ وَ أمْرٌ مُشْكِلٌ يُرَدُّ حُكْمُهُ إلى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ"، فإنّه يستشهد بكلام رسول الله، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أيضاً قد قال ذلك. و قد بيّن حقيقة المطلب أيضاً أكثر.

  • هذه حقيقة ما إذا كان الصلاح و المصلحة واضحتان للإنسان، و كان الإنسان مطّلعاً علي تمام حدودهما و ثغورهما، فعليه أن يأتي بذلك الأمر، و إذا كانت المفسدة و الضلالة في ذلك الأمر واضحتان فيجب عليه الاجتناب‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

194
  • عنه حتماً. ثمّ إنّ عليه الاجتناب في الامور المتشابهة التي لا يكون طرفا المسألة فيها واضحين، و من الممكن أن يقع الإنسان في الفساد فيها، فالعمل بها خلاف حكم العقل، لأنّه سيكون قد هَلَكَ مِن حَيْثُ لَا يَعْلَمُ.

  • و يبيّن الإمام الصادق عليه السلام جواب عمر بن حنظلة هكذا: حين يأتيكم هذان الفقيهان اللذان يقومان ببيان حكمنا، اللذان يتساويان من جهة الشخصيّة و الوزن الدينيّ فلا أفضليّة لأحدهما علي الآخر، فإنّ عليكم أن تنظروا إلي حديثهما، فإذا كانت فتوي أحدهما مطابقة للمشهور و لإجماع أصحابكم فخذوا بها و أعرضوا عن كلام و فتوي الفقيه الذي يكون شاذّاً و مخالفاً للمشهور، لأنّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا رَيْبَ فِيهِ بينما كلام الفقيه الآخر فيه ريب. فإذا عمل الإنسان بعمل هذا الفقيه فهو بيّن الرشد، و إذا عمل بكلام الآخر الذي فيه ريب «وَ هَلَكَ مِن حَيثُ لَا يَعْلَمُ».

  • و بناء عليه فإنّ موافقة المشهور و المجمع عليه إحدى المراتب التي لها أماريّة في موارد اختلاف الفقيهين من أجل الوصول إلي الواقع.

  • قُلْتُ: فَإنْ كَانَ الْخَبَرانِ عَنْكُمْ مَشْهُورَيْنِ قَدْ رَوَاهُمَا الثقَاتُ عَنكُمْ؟!

  • يعني إذا كان كلا الفقيهان من هذه الناحية متساويين، و كان كلام هذا الفقيه كلاماً مشهوراً يعمل وفقه جماعة من المؤمنين و الشيعة، و قد نقله عنكم الرواة الثقات أيضاً. و كان حكم الفقيه الآخر المخالف له أيضاً بهذا النحو، فقد رواه جماعة من الثقات، و كان حديثه مشهوراً كذلك برواية الثقات، فلا تفاضل بينهما من هذه الجهة، فما ذا ينبغي العمل في هذه الصورة؟

  • قَالَ: "يُنْظَرُ! فَمَا وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ و السُّنَّةِ وَ خَالَفَ الْعَامَّةَ اخِذَ بِهِ".

  • فمن بين هذين الحكمين اللذين حكم بهما الفقيهان، فإنّ كلّ حكم‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

195
  • قيس مع كتاب الله و سنّة النبيّ أو العامّة، فوجدنا أنّه موافق لكتاب الله و سنّة النبيّ و مخالف للعامّة فإنّ علينا أن نعمل به و نترك الآخر.

  • قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! وَجَدْنَا أحَدَ الْخَبَرَيْنِ مُوَافِقاً لِلْعَامَّةِ، و الآخَرَ مُخَالِفاً لَهَا؛ بِأيِّ الْخَبَرَيْنِ يُؤخَذُ؟

  • قَالَ: بِمَا يُخَالِفُ الْعَامَّةَ، فَإنَّ فِيهِ الرَّشَادَ.

  • قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! فَإنْ وَافَقَهُمَا الْخَبَرَانِ جَمِيعاً؟

  • قَالَ: يُنْظَرُ إلى مَا هُمْ إلَيْهِ أمْيَلُ حُكَّامُهُمْ وَ قُضَاتُهُمْ، فَيُتْرَكُ وَ يُؤْخَذُ بِالآخَرِ.

  • قُلْتُ: فَإنْ وَافَقَ حُكَّامَهُمْ وَ قُضَاتَهُمْ الْخَبَرَانِ جَمِيعاً؟

  • (معني سؤال عمر بن حنظلة هذا أنّه إذا كان قضاتهم و حكّامهم متساوين في قبولهم لهذين الخبرين، و لا يميلون إلي حكم دون آخر، ذلك لأنّ من الممكن أن تكون أخبار العامّة موافقة للواقع، و مجرّد نسبة الخبر لهم لا يجعله مردوداً، فحين يحصل أن يكون لكلا المجموعتين نفس الميل و الموافقة لهذين الخبرين، فما لديهم علي حدٍّ سواء، ليس لأحدهما تفاضل علي الآخر، فما ذا نعمل في هذه الصورة؟).

  • قَالَ: "إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأرْجِهْ حَتَّى تَلْقَى إمَامَكَ، فَإنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الإقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ".

  • علي الإنسان أن يتوقّف في المورد المشكوك و المشبوه، فذلك أفضل من أن يقتحم علي العمي و في حالة عدم الرؤية و عدم العلم و يلقي نفسه في الهلكات.

  • كانت هذه الرواية التي ذكرها الصدوق في كتاب «مَن لا يحضره الفقيه» و إلي هنا ينتهي المطلب، و في الحقيقة فإنّها رواية راقية جدّاً معنىً و محتوى.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

196
  • سلسلة المراتب التدريجيّة لمرجّحات حكم الفقيه‌

  • ففي هذه الرواية ينتقل الإمام خمس مرّات من أمارة إلي اخرى، و هذا بالطبع غير القسم الأوّل و الآخر منها، اللذين يصبح العدد معهما سبع مرّات، لأنّ الطرق التي بيّنت في الرواية جميعها أمارات للوصول إلي الواقع.

  • يسأل الراوي الإمام: أنّ هذين الشخصين متنازعان بينهما في دَين أو ميراث فما هي الأمارة للوصول إلي الواقع بالنسبة إليهما؟ فيقول الإمام: إنّ الرجوع إلي الحكّام و القضاة غير جائز، و يجب في هذه الحالة الرجوع إلي فقهاء الشيعة و حدهم و هذه أمارة علي الواقع، ففتوى الفقيه ليس لها موضوعيّة و إنّما هي أمارة علي الواقع، فالإمام عليه السلام هنا يجعل الأماريّة لفتوى الفقيه.

  • ثمّ يسأل الراوي: فما العمل إذا اختلف الفقيهان؟ فيقول الإمام: في هذه الحال يُنظر إلي الوزن الدينيّ لهذين الفقيهين، فأيّهما كان وزنه الدينيّ هو الأكبر يكون هو الأمارة. فلو حكم فقيه بحكم، و حكم فقيه آخر بحكم مخالف، فذلك الفقيه الذي يكون فقهه و عدالته (وزنه الديني) أكبر، فمن المسلّم أنّ أماريّته أكبر و أكثر كشفاً عن الواقع، و يجب الأخذ عنه. إذَنْ فالأعدليّة و الأفقهيّة تصبحان أمارة عن الواقع بالمرتبة الثانية.

  • ثمّ يسأل: فإن كانا متساويين في جميع هذه الجهات، فما العمل؟ فيقول: ينظر أيّ الرأيين هو المشهور، فكلا الفقيهين عادلان و صادقان و ورعان و متّقيان إلّا أنّ حديث و حكم أحدهما ليس مشهوراً و لا إجماعيّاً بل شاذّاً و نادراً، بينما الفقيه الآخر قوله إجماعيّ و أماريّته أقوي، إذا عرض علي الإنسان قول شاذّ إلي جانب قول مشهور و له مَن يؤيّده و يدعمه، فأيّ واحدة من هاتين الأمارتين أقوي بلحاظ الكشف عن الواقع و الحقيقة؟ فمن المسلّم أنّها تلك الأمارة المتّفق عليها.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

197
  • ثمّ لو سقطت الأماريّة في هذه الصورة أيضاً، و كان كلاهما في مستوي واحد، و لم يكن عندنا هنا أمارة لكي نكشف حكم الواقع بواسطة الإجماع، فما ذا نعمل هنا؟

  • قال الإمام: انظروا أيّ حكم من هذه الأحكام موافق للكتاب و السنّة، لأنّ حكماً- لَا جَرمَ- موافق للكتاب و السنّة. و بناءً عليه فالحكم الموافق للكتاب و السنّة هو منّا، و إلّا كان حكماً مخالفاً لحكمنا و صادراً من فقهاء العامّة و ليس منّا.

  • و الملاحظة الملفتة هي أنّه لما ذا جعل الإمام عليه السلام الموافقة للكتاب و السنّة في مرتبة متأخرة عن الأمارات السابقة، لا في الرتبة الاولي؟

  • يجب القول إنّه لا معني لكون ذلك في الرتبة الاولي، فعند ما نذهب إلي فقيه و نسأله عن حكم ما فإذا كان عادلًا و قام ببيان الحكم من ناحية الأئمّة فمن المسلّم أنّه سيكون موافقاً للكتاب و السنّة، ليس في ذلك شكّ. و إذا كان كلاهما عادلين مرضيّين فلا شكّ أنّ الفقيه الأعدل يبيّن الحكم الموافق للكتاب و السنّة.

  • و في المرحلة الثالثة إذا كان حكم أحدهما مجمعاً عليه فمن المسلّم أنّه موافق للكتاب و السنّة.

  • و هنا يقول الإمام عليه السلام: إذا عجزت عن الأمارات الثلاث الاولي يصبح الموافقة للكتاب و السنّة أمارة. فإذَنْ في المرحلة الرابعة أماريّة موافقة الكتاب و السنّة تدلّ علي الحكم الواقعيّ.

  • و إذا كان كلا الخبرين موافقاً للكتاب و السنّة فما العمل؟ فمن الممكن أن يستدلّ هذا الفقيه علي خبر موافق للكتاب، كذلك يستدلّ الآخر علي خبر موافق للكتاب أيضاً. فما العمل في هذه الحال‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

198
  • و ليست لدينا أمارة؟ فقد خسرنا في هذه الحال هذه الأمارة أيضاً!

  • يقول الإمام عليه السلام: انظروا في هذه الحال؛ أيّها الموافق للعامّة و المخالف لهم فخذوا بما خالفهم، لما ذا؟ هل لأنّ مخالفة العامّة لها موضوعيّة في حدّ نفسها؟ كلا فهذا أمر خاطئ، و ذلك لأنّ الكثير من أعمالهم حسنة، و آراء العامّة الموافقة للكتاب و السنّة لا يجب أن تُترك. المخالفة للعامّة ليست لها موضوعيّة و إنّما مجرّد طريقيّة، أي أنّه بما أنّ العامّة لديهم الداعي لتغيير الأحكام خلافاً للكتاب و السنّة، و خلافاً لروايات الأئمّة عليهم السلام الذين هم الهادون للكتاب و السنّة، لكي يقوموا بفصل مذهبهم عن مذهب أهل البيت، و الانفصال عن مذهب أهل البيت عين الانفصال عن الكتاب و السنّة. فما يحكمون به إذَنْ يكون خلاف الحكم الواقعيّ، و عندها يقول عليه السلام: خُذْ بِمَا خَالَفَ الْعَامَّةَ، فهذا يعني أنّ مخالفة العامّة طريق، لا أنّ مخالفة العامّة له موضوعيّة. و عند ما يشتبه علينا طريقان فيجب أن نسلك الطريق الذي هو خلاف العامّة، و ذلك لأنّ أحكامهم غالباً مخالفة للكتاب و السنّة و مخالفة للولاية. فيجب أن نعمل بذلك الحكم المخالف لرأيهم فَإنَّ الرُّشْدَ فِي خِلَافِهِمْ بهذا المعني، أي بما أنّهم قد ساروا في طريق الغيّ ففي حال الشكّ يكون خلافهم أمارة علي طريق الرشد.

  •  

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

199
  •  

  •  

  • الدرس العاشر: البحثُ في سندِ و دلالةِ مَقْبُولَةِ عُمَرِ بنِ حَنْظَلَة.۱

  •  

  •  

    1. حسينى طهرانى، سيد محمد حسين، ولاية الفقيه في حكومة الإسلام، ٤جلد، دار المحجة البيضاء - بيروت - لبنان، چاپ: ۱، ۱٤۱۸ ه.ق.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

201
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • لقد كان البحث حول مقبولة عمر بن حنظلة، و قد بيّنا أنّ الإمام الصادق عليه السلام وفقاً لرواية «مَن لا يحضره الفقيه» جعل لقول الفقيه الشيعيّ الإماميّ سبع مراتب من الحجّيّة علي نحو اختلاف سلسلة المراتب، و كانت المرتبة الرابعة، هي موافقة الكتاب و السنّة. و الآن لو اختلف الفقيهان مع بعضهما في مسألة و كان قول كليهما موافقاً للكتاب و السنّة فإنّ النوبة ستصل إلي المقايسة مع أقوال العامّة. حيث قال الإمام عليه السلام في هذه الصورة "خُذ بما خَالَفَ العامَّةَ فَإنَّ فِيهِ الرَّشَادَ"، و الرشد هو الوصول إلي الواقع، في مقابل الضلال الذي هو بمعني الضياع.

  • علّة عدم قبول الرواية الموافقة للعامّة في تعارض الخبرين‌

  • و قد بيّنا أنّ مخالفة العامّة ليس لها موضوعيّة و إنّما هي طريق. كما أنّ باقي العلامات و الأمارات المنقولة في هذا الخبر الشريف هي أيضاً أمارات عن الواقع كاشفة عنه.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

202
  • و ترجيح القول المخالف للعامّة ليس بسبب كون مخالفة العامّة موضوع من الموضوعات، و باعتبارهم مخالفون للولاية فجميع كلامهم غلط، و جميع آرائهم غير صحيحة، و الروايات التي ينقلونها عن رسول الله كلّها خاطئة! ليس الأمر كذلك، لأنّ بعض الروايات التي ينقلونها عن النبيّ صلّى الله عليه و آله صحيحة. و في هذه الصورة فلا وجه لترك العمل بها، فنحن نعمل بكلّ خبر ثقة، سواء كان رواية سنيّاً أم شيعيّاً. و مناط العمل بالخبر هو الوثوق، لا الإماميّة و العدالة. فلو نقل عاميّ خبراً بشكل صحيح عن النبيّ فإنّنا نعمل بذلك الخبر.

  • و إنّما السبب في ذلك (أي في ترجيح القول المخالف للعامّة) هو أنّ بعض أخبار العامّة خلاف الكتاب و السنّة. و بما أنّهم قد فصلوا طريقتهم و نهجهم عن طريقة أهل البيت عليهم السلام فقد اختلقوا تلك الأخبار، و اعتمدوا علي اجتهادهم لا علي النصّ. لقد وضع العامّة بعض الأخبار التي تشكّل شاهداً علي مدّعاهم، و قاموا بالحطّ من مقام النبيّ صلّى الله عليه و آله لكي يصبح علي مستوي واحد مع الخلفاء الغاصبين مع أنّ للنبيّ قدراً أعلى.

  • إنّ وضع الأخبار هذا بينهم سبّب لنا الشكّ في أنّ هذا الخبر الذي نُريد الأخذ به من عند العامّة هل هو من تلك الأخبار الموضوعة أم أنّه خبر صحيح و يحكي عن الواقع؟

  • و لقد دلّ الإمام عليه السلام هنا علي أمارة، و قال لنا: إذا واجهتم رواية مشكوكة لا تعلمون أنّها تكشف الواقع أم لا، و شككتم أنّ هذا القول هو قولنا أم قولُ من يخالفنا، و ذلك في حالة كون هذين الفقيهين كليهما يُحدّثان عنّا، فذلك الذي هو خلاف العامّة له درجة أكبر من الكاشفيّة و الأماريّة عن قولنا، لأنّه لا يمكن أن يكون هذان الخبران المختلفان

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

203
  • الواردان كلاهما صادراً عنّا، فمن الطبيعيّ أن يكون أحدهما صادراً عنّا و الآخر غير ذلك.

  • و في موقع الشكّ فإنّ ذلك الخبر الموافق للعامّة أبعد من ناحية الكاشفيّة عن ذلك الخبر المخالف للعامّة. و المخالف أقرب إلي قولنا، و هذا من جهة كاشفيّته فقط. و هذا المرجّح إنّما هو في المرتبة الخامسة فقط.

  • علة و فلسفة: شَاوِرُوا النِّسَاءَ وَ خَالِفُوهُنَ‌

  • و لدينا الكثير من أمثال هذا في الأحكام التي امرنا بها من جهة الكاشفيّة، فقد قال الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم: "شَاوِرُوا النِّسَاءَ وَ خَالِفُوهُنَّ فَإنَّ خِلافَهُنَّ بَرَكَةٌ"۱ أي شاوروهنّ أوّلًا ثمّ خالفوا ما أشرنَ به عليكم، فمهما قلنَ لكم فإنّ عليكم أن تقوموا بخلافه.

  • و لننظر الآن ما معني هذا الحديث؟ فهل لقول النساء موضوعيّة في الفساد و النقصان و الضلال، و القول المخالف لهنّ عين الصلاح و الرشاد علي نحو الموضوعيّة! من المسلّم أنّه ليس من هذه الجهة، فالنبيّ لا يريد أن يقول: إنّ كلّ ما تقوله النساء مخالف للواقع.

  • فنحن نري بالوجدان أنّ النساء يقلن أشياء صحيحة و في محلّها. فعلي هذا لا نستطيع أن نقول إنّ جملة "شَاوِرُوا النِّسَاءِ وَ خَالِفُوهُنَ" لها موضوعيّة. و إنّما هي طريق للواقع، و اللازم الفحص عن خصوص الطريق، و معرفة محلّ مشاورة النساء، فمتى نشاورهنّ؟ و متى نخالفهنّ؟

  • لقد أمرنا الشرع في بعض الامور بمشاورة النساء و التصرّف وفق آرائهنّ. و ذلك في الامور المتعلّقة بهنّ و بحياتهنّ و التي ترجع إلي توسيع النفقة عليهنّ، أو تتعلّق براحتهنّ و استقرارهنّ في بيوتهنّ، أو حول كيفيّة الطعام و طبخه، و طلب منّا أن نترك هذه الامور لهنّ، و بعدم التشديد

    1. «بحار الأنوار» ج ۱۰٣، باب جوامع أحكام النساء (٦٢)، ص ٢٦٢، حديث ٢٥.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

204
  • عليهنّ في أن يفعلن ما أردن في ذلك، و كمثال علي ذلك لا تطلبوا نوعاً من الطعام مع أنّهنّ يُحببن غيره، فأنتم رجال عليكم أن تتركوا هذه الامور لهنّ، فليفعلن ما شئن، فعليكم أن توكلوا هذه الامور إليهنّ.

  • و هناك بعض الامور التي لا ينبغي للإنسان أبداً أن يشاور النساء فيها، و يجب عليه أن يخالفهنّ فيها بشكل كامل، و يتصرّف خلاف آرائهنّ، كالموارد التي تتعلّق بقضيّة الشرف و حفظ الحجاب و المحافظة علي المرأة، و أمثال هذه المسائل.

  • و ذلك لأنّ طبيعة المرأة طبيعة تجمّل، طبيعة جمال و إبراز الجمال، و تظاهر و إظهار للنفس، فكل امرأة بسبب طبعها تحبّ أن تظهر نفسها، و هذا الأمر غير موجود في الرجال. فالرجل يريد إظهار العقل، و الفتوة، و الشجاعة، و العلم، و الحياة، و القدرة، و السيطرة، و هذه الامور هي ميدان المعارك بين الرجال.

  • أمّا معركة النساء ففي الجمال، كلّ امرأة تريد أن تظهر نفسها، تظهر جمالها و شكلها. و إذا لم يكن جمالها في درجة الكمال فإنّها تقوم بتزيين نفسها. بوسائل الزينة و أنواع المستحضرات التجمّليّة لتظهر جمالها في المستوي الراقي. و هذه غريزة في النساء.

  • و لا يوجد في الدنيا امرأة واحدة علي غير هذا النحو، غاية الأمر أن النساء المؤمنات يقمن بتعديل هذه الغريزة وفق القوي العقلانيّة و الأوامر الدينيّة إلي درجة الاعتدال بينما النساء الاخريات يستعملنها إلي حدّ الإفراط.

  • فإذا كانت النساء تمتلك هذه الغريزة، فعليكم- لإنقاذهنّ من فساد الاختلاط بالرجال و من التلوّث و الضياع- أن تعملوا علي حفظهنّ‌ و حراستهنّ بشكل فاعل. فلا ينبغي أن تسمحوا لهنّ بالذهاب حيث يحلو

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

205
  • لهنّ و حيثما يردن، أو يلبسن ما يرغبن من الملابس، كالثياب الشفّافة مثلًا، فقد نهي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم الرجل عن شراء الثياب الشفّافة لزوجته، أو السماح لها بالذهاب إلي الحمّامات العامّة، أو بالمشاركة في الأعراس العامّة كذلك. و ذلك لأنّهنّ إنّما يتصرّفن وفقاً لأحاسيسهنّ و لذّاتهنّ الشهوانيّة، و من ثمّ فإنّهنّ يذهبن و يتعرّضن للضياع و التفسّخ من حيث لا يشعرن.

  • و عليكم- بما أنّكم رجال- أن تقوموا بالمحافظة عليهنّ في أجواء من العفّة و العصمة و ألّا تتنازلوا في هذه الامور بأيّ شكل من الأشكال.

  • و ها أنتم ترون الآن في هذه الجمهوريّة الإسلاميّة التي انقضى من عمرها أكثر من عشر سنوات أنّه لا يمكن الآن أن نقتصر علي مخاطبة النساء باللطف و الحنو طالبين منهنّ المحافظة علي حجابهنّ، و التستّر عن غير المحارم، و تغطية شعرهنّ، و ذلك لأنّه في حالة عدم تلقّي ذلك بالقبول فيجب تأديبهنّ بقوّة الجبر و القهر، يجب تعزيرهنّ لكي يلتزمنّ بالحجاب وفقاً للسنّة الإلهيّة. و إلّا فإنّنا إذا طلبنا من هذه النساء أن يلتزمنّ بالحجاب و الستر الكامل لأبدانهنّ فإنّهنّ سيرفضن طلبنا، و سيعملنَّ وفق دوافعهنّ الباطنيّة.

  • فإذا قمتم في هذه الحالة بمشاورة النساء في هذه الامور فسوف تكون آراؤهنّ وفقاً لأحاسيسهنّ و حبّ الظهور و إبداء الجمال المغروس لديهنّ بشكل كامل، فإنّهنّ في كلّ هذه المشاورات و الاجتماعات و المؤتمرات لا يبدين في أيّ وقت من الأوقات آراء موافقة للآراء العقلانيّة للرجال، و إنّما يبدين الآراء الناشئة عن أحاسيسهنّ و عواطفهنّ، و هذا هو الفساد. و هنا إنّما يجب مخالفتهنّ بالتأكيد. فالمخالفة تكون‌ للنفس الأمّارة، و الشيطان الداخليّ، و الشيطان الخارجيّ.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

206
  • أو مثلًا عند ما يزور الإنسان نسيبه مع عياله، أو أخوه مع زوجته فيجلسون جميعاً رجالًا و نساءً في غرفة واحدة، كما هو المتعارف اليوم وفقاً لآداب الكفر، مع أنّ هذه المرأة ليست من محارم ذلك الرجل، و هذا الرجل أيضاً ليس من محارم تلك المرأة، ثمّ يجلسون علي مائدة واحدة لتناول الطعام، فتمتدّ الأيدي إلي المائدة و تظهر الزينة، و تنكشف الرءوس و الأعناق، و يتحدّثون مع بعضهم، و يضحكون، و يتناولون الطعام، و يجاملون بعضهم، و لا يرون في ذلك عيباً، إذ إنّ هذا أخو زوجي، أو ابن عمّي، أو صديق والدي، أو ما أشبه، مع أنّ الله لعن المائدة التي تجلس فيها المرأة مع الرجل الأجنبيّ، فيختلطان فيها بهذا النحو، و يتناولان الطعام، و يتحدّثان مع بعضهما، مبديين ما لديهما من الاختيال و التبختر.

  • لو أردتم الآن مشاورة النساء في الجلوس كلًّا علي حدة أو الاشتراك في مجلس واحد، فسيكون جوابهنَّ طلب الجلوس معاً، في استنكار للعكس و مجادلة في هذا الأمر.

  • فلا تشاوروهنَّ في هذه الامور أبداً، اغلقوا أبواب بيوتكم، و لا تسمحوا للرجال و النساء الأجانب بالدخول إلي دوركم، و إذا سمحتم لهم فاستقبلوا الرجل في غرفة الرجال، أمّا المرأة فتُستقبل في البيت الداخليّ و تُستضاف بواسطة النساء، و إلّا كان ذلك فساداً و ناراً تحرق النساء و تبتلي نساؤكم بأعمال غير لائقة لا تعلمون بها. قد تظنّون أنّ نساءكم لسن من أهل هذه الامور، و أنّهنُّ من أهل العصمة و العفّة و ما شابه، و لا تعلمون أنّكم قد خُدعتم و انطلى عليكم الأمر، و لا تعرفون حقيقة ما يجري، ففي هذه الامور يجب مخالفة النساء بكلّ تأكيد.

  • لقد كانت المنازل في السابق قسمان مستقلّان، قسم داخليّ و قسم‌ خارجيّ. و كان لبعضها أيضاً بابان فالقادمون من الرجال يُستقبلون

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

207
  • في القسم الخارجيّ (البرّانيّ) بينما تُستقبل النساء في الداخل. و حتّى لو استمرّ الوضع علي هذا النحو شهوراً فإنّ أيّ اتّصال لم يكن ليحصل، فالمرأة منصرفة إلي مهامها بمنتهى الراحة في الداخل، بينما الرجل أيضاً يقوم بعمله في الخارج بكمال الوقار و المتانة. و لكن و منذ أن جلبوا خرائط البناء هذه من بلاد الكفر، و جعلوا الغرف كلّها في مكان واحد، مع حمّام مطبخ مشترك، و صار الإشراف علي بيت الجار أمراً متعارفاً، و وُضع النساء في الغرف و الطبقات العليا كالرجال .. عندها صار أمر اختلاط المرأة و الرجل أمراً معتاداً و رائجاً كتداخل البيوت و الغرف.

  • إنّ من مسئوليّات الحكومة الإسلاميّة و وظائف الحاكم أن يراقب مسألة بناء البيوت، و أن يجعلها طبق الأوامر الشرعيّة، و أن يكون بناء البيوت مع احتوائها علي الصفات المطلوبة في السكن و الهدوء بشكل كامل و حفظ الصحّة و المستلزمات الصحيّة وفق أحكام الإسلام في الوقت نفسه، و أن تجعل خرائط البيوت بشكل يؤمَّن فيها عفّة النساء و عصمتهن، مع سلامة المزاج و الهدوء و الاستقرار الفكريّ.

  • معني: عُقُولُ النِّسَاءِ فِي جمَالِهِنَّ وَ جَمَالُ الرِّجَالِ فِي عُقُولِهِمْ‌

  • يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "عُقُولُ النِّسَاءِ فِي جَمَالِهِنَّ، وَ جَمَالُ الرِّجَالِ فِي عُقُولِهِم".

  • ما أعجب هذا الكلام، يقول عليه السلام: إنّ زينة الرجل في عقله، كلّ موجود له زينة و جمال، و جمال الرجل عقله. كلّ من كان من الرجال عقله أكبر كان جماله أكثر. و أمّا عقل المرأة ففي جمالها أي أنّ المرأة مهما أعملت فكرها و إدراكها فلن تتجاوز مرتبة الجمال، ففكرها و خواطرها تدور كلّها حول الجمال، ففكرها الجمال و الصورة، و آداب تجمّلات الحياة، و الظهور، و حبّ التظاهر، و عقل المرأة أي إدراكاتها و فكرها ينحصر ضمن هذه الحدود و لا يتجاوزها.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

208
  • هذا هو الرجل، و هذه هي المرأة، و يجب أن تسير هذه المرأة تحت قيمومة و تدبير الرجل لكي تطوي طريق الكمال و تصل إلي السعادة، ففي هذا الأمر لا يمكن مشاورة النساء.

  • أمّا لو صادفت بعض الموارد مثلًا التي لا تعرفون الحلّ فيها أصلًا، فلا تعرفون ما ذا عليكم أن تفعلوا، و هل أنّ عليكم القيام بهذا العمل أم لا؟ كأن تسوء أحوالكم المعاشيّة مثلًا، و تكبر حجم القروض التي عليكم، و يخطر في بالكم أو ينصحكم البعض بالعمل مثلًا في البنك الفلانيّ، أو العمل في المؤسّسة الربويّة الفلانيّة حيث، سيكون الوضع الماليّ أفضل هناك، و تكونون أنتم أيضاً مدركين لسوء الوضع المعاشيّ بشكل جدّي، فتشاورون نساءكم مثلًا في القيام بذلك العمل أو رفضه، فينصحنكم بإتيانه بحجّة أنّ الوضع المعاشيّ سوف يتحسّن و يتقدّم، و سوف يصبح لكم من خلال هذا العمل وجاهة و وضع وظيفيّ جديد.

  • أو تحتاجون مثلًا لتجديد بناء البيت، نتيجة إصابته بنوع من الخراب، فينصحونكم بالاقتراض من البنك، فتأتون أنتم أيضاً و تشاورون نساءكم، حيث ينصحنكم بإتيان هذا العمل، و بالاقتراض من البنك و أداء ذلك القرض بالتدريج، و أمثال ذلك.

  • أو يُدعَى الرجل مثلًا إلي العمل في المؤسّسة الفلانيّة، و هناك بالطبع تتحسّن أحوال العامل شيئاً فشيئاً، حيث ينال من خلالها بعض الرشوات و ما شابه، فتقعون في الحيرة و لا تعلمون هل تأتون بهذا العمل أو لا؟

  • ففي مثل هذه المسائل يقول صلّى الله عليه و آله و سلّم: "شَاوِرُوا النِّسَاءَ وَ خَالِفُوهُنَّ". و ذلك لأنّ المرأة انفعاليّة، و الرأي الذي ستعطيه سيكون ناشئاً من أحاسيسها بالطبع، فعليك أن تقوم بخلافه لكي تصل إلي‌ الحقّ. ففي هذه الموارد عليك بالإتيان بخلاف ما تقوله المرأة مهما كان.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

209
  • و ليس المراد بالمخالفة النزاع و المشاكل، و إنّما المقصود هو مخالفتها عملًا بعد معرفة رأيها، و متابعة السير علي ذلك.

  • و هذه أمارة و طريق لكشف الواقع، و ذلك لأنّ حدود أفكار المرأة تنحصر في دائرة جمالها و أحاسيسها، بينما دائرة تفكير الرجل هي العقل و الأصالة، و حيث يحصل لك الشكّ و لا تدري هل أن عملك هذا ناشئ عن الأحاسيس أو العقل، فعليك أن تشاورها، و بما أنّها تميل نحو العواطف و تعطي رأيها علي أساسها، فاعمل‌ "خِلَافاً لِرَأيِهَا، وَ إيصَالًا إلي ذِرْوَةِ الْحَقِّ، وَ مِعْرَاجاً عَلَى سُلَّمِ الْوَاقِعِيَّةِ، وَ تَوَصُّلًا إلى الْحَقِيقَةِ".

  • خالفها لكي تتوصّل إلي العقلانيّة و المتانة و الأصالة، و هذا معني‌ "شَاوِرُوا النِّسَاءَ وَ خَالِفُوهُنَّ".

  • إذَنْ كما أنّ‌ "شَاوِرُوا النِّسَاءَ وَ خَالِفُوهُنَ"‌ أمارة تكشف الواقع، فكذلك ذكر الإمام عليه السلام في هذه الرواية الشريفة مخالفة العامّة كأمارة تدلّ علي الواقع.

  • فالآن إذا رأينا هذين الفقيهين كليهما يوافقان في رأييهما العامّة أو يخالفانهم، فما العمل في هذه الصورة؟ يقول الإمام عليه السلام: انظر قضاتهم و حكّامهم إلي أيّ هذين الاثنين أمْيَل، فمن كان ميل قضاتهم إليه أكثر فاتركه و ذلك لأنّ القضاة و الحكّام أشخاص معروفون، و من الطبيعيّ أنّهم يريدون كسب تأييد السلطان و تحصيل رضاه، و بناءً عليه فإنّهم يكونون أبعد عن الواقع. فعليك إذَن بترك قول ذلك الذي يكون قوله أبعد عن الواقع و الأخذ بقول مخالفه.

  • و إذا لم تكن هذه الأمارة أيضاً التي بيّنّاها كأمارة في المرحلة السادسة موجودة، أي إذا كان كلاهما في درجة واحدة من الاعتبار، ففي هذه‌ الصورة عليك بالتوقّف.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

210
  • معني: إِنَّ الْوقُوفَ عِندَ الشُّبهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الاقتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ‌

  • فهنا محلّ للاحتياط، و عليك أن لا تقدم علي أيّ عمل، "فَإنَّ الْوقُوفَ عِندَ الشُّبهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الاقتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ". فهنا محلّ احتياط، و عليك أن تتوقّف إلي أن تصل إلي الإمام و تسأله.

  • إنّ هذه المراتب السبعة هي بصفة الكاشفيّة و المرآتيّة للواقع، و هذه حقيقة المطلب.

  • و كما أنّه ثبت في الاصول أنّنا إذا قطعنا بحكم ما، مهما كان مصدر هذا القطع، فهو حجّة، و ذلك لأنّ حجّيّة القطع ذاتيّة و عقليّة و لا تحتاج إلي جعل حجّيّة من الخارج، بل إنّ جعل الحجّيّة له أساساً محال. و إلّا لزم الدور و التسلسل. فإعطاء الحجّيّة لليقين و القطع محال. و الشي‌ء الذي يقطع به الإنسان عليه أن يعمل وفقه عقلًا.

  • أمّا إذا لم يحصّل للإنسان القطع في مسألة من المسائل فإنّ النوبة تصل إلي الشي‌ء الذي يستطيع أن يوصل المكلّف إلي الواقع و يكون مرآة له، و لو إلي حدّ ما. و ذلك الشي‌ء في الوهلة الاولي هو الأمارة.

  • معني الامارة و الاصل و ترتّب الاصول علي الامارات‌

  • فـ«الأمارة» تعني الشي‌ء الذي له كاشفيّة و يقود إلي الواقع. نعم هو كشف ناقص، يكمّل نقصانه بواسطة جعل الشارع، فلو كان كشفاً تامّاً لأورث للإنسان القطع. و لكن بما أنّ لها كشفاً ناقصاً فهي تحتاج إلي جعل الحجّيّة. و بعد أن جعل لنا الشارع الحجّيّة لأمارة خاصّة أو لجميع الأمارات، فإنّ ذلك النقص الموجود في كشف الأمارة عن الواقع سيجبر من خلال حجّيّة الشارع، فيجعلها الشارع بذلك بمنزلة أمارة تامّة و كاشف تامّ. و هذا حجّة بالنسبة للإنسان. و لذا فالأمارات من ناحية الحجّيّة تقع في الدرجة الاولي، و يجب العمل بها.

  • و إذا كان ثمّة حكمٍ ما فاقداً للأمارة، فتأتي الاصول المحرزة في‌ الرتبة التالية، و بين الأمارة و الاصول المحرزة فرق. فالأصل المحرز يعني

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

211
  • ذلك الشي‌ء الذي له كاشفيّة ما عن الواقع و إحراز له، مثل الاستصحاب، سواء كانت حجّيّة الاستصحاب من باب الأخبار أو من باب الظنّ، كما عليه القدماء و المرحوم صاحب «القوانين» و آخرون. أمّا كونه حجّة من باب الظنّ، و ذلك لأنّ الظنّ كاشف عن الواقع. و أمّا الأخبار فقد جعلت الاستصحاب حجّة لنا من با إحرازها للواقع.

  • و نحن نري الاستصحاب حجّة لكن لا في مرتبة الأمارة كمثل خبر الثقة أو الشهرة أو الإجماع، و ذلك لأنّ إحراز الاستصحاب للواقع ضعيف و ليس في مرتبة الأمارة، و من جهة اخرى فإنّه ليس أصلًا تعبّديّاً محضاً لكي لا يكون له أيّ إحراز للواقع ليكون في مرتبة الاصول. و لذا صار بين الأمارات و الاصول. و لهذا إذا كان ثمّة أمارة علي حكمٍ ما، فيعمل طبقها و إلّا يعمل بالاستصحاب الذي هو أصل محرز.

  • أمّا إذا لم يكن ثمّة استصحاب (و هو الأصل المحرز) فإنّ الدور يصل إلي الاصول الشرعيّة، أي البراءة و التخيير و الاشتغال. أي أنّه في الموارد التي لا يكون فيها استصحاب، و لا يكون فيها إحراز و كشف- و لو في الجملة- فإنّ الدور يصل إلي الأصل التعبّديّ المحض، أي أنّ الشارع يقول إنّي أتعبّدكم بأن تجروا البراءة هنا، أو آمركم هنا بالاحتياط تعبّداً، أو بأن تقولوا بالتخيير بين هذين المحذورين.

  • و إذا لم يكن هناك أصل شرعيّ فيقع في المرحلة الرابعة الاصول العقليّة، و التي هي عبارة عن البراءة العقليّة و الاحتياط العقليّ و التخيير العقليّ.

  • و تكون البراءة العقليّة في الموارد التي نتيقّن فيها بعدم وجود بيان من قبل الشارع، فإذا احتملنا وجود بيان فلا تجري البراءة العقليّة. أمّا إذا تيقّنّا بعدم وجود بيان فإنّ العقل يحكم هنا بالبراءة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

212
  • وجوب التوقّف في زمان حضور و غيبة المعصوم سواء

  • أمّا إذا احتملنا وجود البيان، احتملنا الحظر، فعندها إمّا أن يكون من الموارد التي نقول فيها بأنّ دفع الضرر المحتمل مقدّم علي جلب المنفعة و أولي و أفضل، فعندها يجب أن نقول بالاشتغال حتماً، مثل: أرْجِه حَتَّى تَلْقَى إمامَكَ. لكنّ أرجه حتّى تلقي إمامك يقع في المرحلة الثالثة لا الرابعة. و ذلك لأنّه أصل عقليّ لا شرعيّ.

  • أو يكون من الموارد التي يتساوى طرفاها. و هنا يكون من موارد التخيير العقليّ أيضاً.

  • إنّ جميع هذه المراتب السبعة التي بيّنها لنا الإمام عليه السلام في هذه الرواية عبارة عن التمسّك بالأمارات، أعمّ من الأمارات التي تقع في الدرجة الاولي، و أعمّ من الاصول المحرزة مثل الاستصحاب، لأنّه عند ما قال عليه السلام «خُذْ بِما وَافَقَ الكتاب و السُّنَّة» و الكتاب و السنّة أيضاً يدعواننا للاستصحاب. فندخل الاستصحاب إذَنْ و في هذه المسألة.

  • و إذا لم نتمكّن من تحصيل الأمارة فإنّ علينا التوقّف في مرتبة ما بعد الأصل الشرعيّ و عدم القيام بأيّ عمل إلي أن تتمّ علينا الحجّة.

  • علي أنّ الملحوظ في التوقّف و الاحتياط ليس تماميّة الحجّة، و إنّما الملاحظ أنّنا الآن لا نعرف الحقّ في المسألة، و لا نعرف الواقع، فيجب التوقّف. و هنا محلّ احتياط، و ذلك لأنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: "حَلَال بَيِّنٌ، وَ حَرَامٌ بَيِّنٌ، وَ شُبُهَاتٌ". و من تعرّض للشبهات وقع في الهلكة من حيث لا يعلم. فعلي كلّ شخص في كلّ مكان كان إذا واجهته مسائل مورد شبهة أن يحتاط، و إلّا وقع في الهلكة من حيث لا يعلم. و المراد بالشبهات: الشبهات الحُكميّة لا الموضوعيّة.

  • و هذا الحكم له إطلاق و لا يختصّ بزمان الإمام عليه السلام و زمان‌ الحضور، بل يشمل جميع الأزمنة؛ زمان الغيبة و حتّى زمن الحضور (أي

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

213
  • حين كان الإمام عليه السلام حيّاً بحسب الظاهر و يستطيع بعض الناس الوصول إليه) و ذلك لأنّه علي فرض حياة و حضور الإمام أيضاً فلا يستطيع جميع الناس الوصول إليه.

  • و يجب الالتفات إلي أنّه ليس هناك أيّ تفاوت بين زمان الحضور و زمان الغيبة. ففي زمان الحضور كان الإمام الصادق عليه السلام في المدينة، و كان الشيعة منتشرين في الدنيا. فـ«أرْجِهْ‌۱ حَتَّى تَلْقَى إمَامَك».

    1. لغة «أرْجِهْ حَتَّى تَلْقَى إمَامَك» الواردة في مقبولة عمر بن حنظلة بناء علي رواية «من لا يحضره الفقيه» من «أرْجَهَ الأمْرَ: إذا أخَّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ». و الذي هو من باب إفعال، و ثلاثيّة المجرّد: رَجَهَ يَرْجِهُ رَجْهاً» أي «تَزَعْزَعَ». و «رَجَهَ بِالشّي‌ء» أي «تَشَبَّثَ بِهِ بِأسْنَانِهِ». و هذا غير مادّة «أرْجَأ الأمْر» بمعني «أخَّرَهُ» و الذي هو مهموز اللام. و يقول في «أقرب الموارد»: «وَ تَرْكُ الْهَمْزَةِ لُغَةٌ فِي الْكُلِّ»- انتهى.
      و الآية القرآنيّة الشريفة: {قالُوا أرْجِهْ وَ أخَاهُ وَ أرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} (الآية ۱۱۱، من السورة ۷: الأعراف). و كذلك الآية: {قَالُوا أرْجِهْ وَ أخَاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} (الآية ٣٦، من السورة ٢٦: الشعراء). هي من تلك المادّة. أي من مادّة «رَجَأ» التي حذفت همزتها و ضميرها الذي هو الهاء يكون ساكنا علي خلاف اللغة الفصيحة و يرجع إلي موسى. أي: أخِّرْهُ وَ أخَاهُ.
      ذكر استاذنا العلّامة قدّس الله سرّه في تفسيره «الميزان» ج ۱٥، ص ٢٩۸ ما يلي: قوله تعالي:{قَالُوا أرْجِهْ وَ أخَاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ، يَأتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ}. القائلون هم الملأ حوله و هم أشراف قومه. و قوله: أرْجِهْ بسكون الهاء علي القراءة الدائرة. و هو أمر من الإرْجَاء بمعني التَّأخِير؛ أي أخِّر موسى و أخاه و أمهلهما و لا تعجل إليهما بسياسة أو سجن و نحوه حتّى نعارض سحرهما بسحر مثله.
      و قُرِئ: أرْجِه بكسر الهاء، و أرْجِئْهُ بالهمزة و ضمّ الهاء، و هما أفصح من القراءة الدائرة و المعني واحد علي أيّ حال- انتهى.
      و يقول الزمخشريّ في «الكشّاف» (الطبعة الاولي، مطبعة المشرقيّة، ج ۱، ص ٣٤٢) حول أرْجِهْ في سورة الأعراف. قَالُوا أرْجِئْهُ وَ أخَاهُ معني أرْجِئهُ وَ أخَاهُ: أخِّرْهُمَا و أصدرهما عنك حتّى تري رأيك فيهما و تدبّر أمرهما. و قيل: احبسهما. و قُرِئ: أرْجِئْهُ و بالهمزة وَ أرْجِهْ من أرْجَأهُ وَ أرْجَاه.
      أقول: لقد ذكر في اللغة في مادّة رَجَا يَرْجُو الذي هو ناقص واويّ صيغة أرْجَى الأمْرَ بمعني أخّره كما كان يري ذلك الزمخشريّ هنا في أرجأه أيضاً: و بناء علي هذا فلدينا في المقام ثلاث لغات:
      الاولي: من مادّة أرجَهَ حيث لام الفعل هاء هَوَّز.
      الثانية: من مادّة أرْجَأ الذي هو مهموز اللام.
      الثالثة: من مادّة أرْجَا الذي هو ناقص واويّ.
      يقول الزمخشريّ في تفسير أرْجِهْ الوارِد، في سورة الشعراء (في ج ٢ ص ۱٢٢): قُرِئ: أرْجِئهُ وَ أرْجِه بالهمز و التَّخفيف و هما لغتان. يقال: أرْجَأتُهُ وَ أرْجَيْتُهُ إذَا أخَّرْتَهُ و منه المُرْجِئَة و هم الذين لا يقطعون بوعيد الفُسَّاقِ، و يقولون: هم مُرْجونَ لأمْرِ الله. و المعني: أخِّره و مناظرته لوقت اجتماع السَّحَرَة، و قيل احْبِسْهُ.
      و الشيخ الطبرسيّ هنا يميل في تحليل معني أرجه الواردة في سورة الشعراء إلي سورة الأعراف و ذلك في «مجمع البيان» طبعة صيدا، في خمسة أجزاء، و يقول في سورة الأعراف ج ٢ ص ٤٥٩: قَرَأ أهْلُ المَدِينَةِ و الكَسَائيُّ و خَلْفٌ: أرْجِه بِكسر الهاءِ بغير همز بين الجيم و الهاءِ؛ إلّا أنّ نافعاً و الكَسَائيّ و خَلْفاً يُشبعون كسرة الهاء وَ لا يُشْبعُ أبو جعفر و قالون عن نافع، بل يكسران الهاء بغير همز بين الجيم و الهاء.
      و قَرَأ عاصمٌ و حمزةُ: أرْجِهْ بغير همزٍ و سكون الهاءِ، و قَرَأ الباقونَ: أرْجِئهُ بالهمز و ضمّ الهاءِ؛ و في الشُّعراءِ مثلُهُ- انتهى.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

214
  • يعني تأخير العمل. و بهذا التأخير فإنّ مشكلة الإنسان لن تحلّ بهذه السرعة. فلربّما كان الشخص في سمرقند أو مراكش، و إذا أراد أن يلتقي الإمام عليه السلام في المدينة فعليه أن يسافر مسير سنة، و هذا لم يكن ممكناً للجميع، لأنّه مستلزم لكثير من المشاقّ. فإذَن‌ "أرْجِهْ حَتَّى تَلْقى إمامَكَ" يعني أنّ وظيفتك و عملك هو الاحتياط، فإذا وفّقت للقاء الإمام و مسألته فاسأله، و إلّا فوظيفتك إلي آخر العمر هي الاحتياط. فالرواية ناظرة للاحتياط، و ليس هناك أيّ تفاوت بين زمان الحضور و زمان الغيبة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

215
  • أبداً. و كلّ شخص لا يستطيع الآن تحصيل أيّ من هذه المراتب الستّة للأمارات المبيّنة في هذه الرواية الشريفة فإنّ خطاب «أرْجِهْ حَتَّى تَلْقَى إمامَكَ» ينطبق عليه و يشمله.

  • أمّا قوله عليه السلام: «انْظُرُوا إلى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَد رَوى حَدِيثَنَا وَ نَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَ حَرَامِنَا وَ عَرَفَ أحْكَامَنَا» فلا يشير إلي أشخاص خاصّين في الخارج كانوا موجودين في زمان الإمام الصادق عليه السلام. فالإمام عليه السلام قال‌ «انظروا» فلو لم يكن هؤلاء الأشخاص الذين كانوا وقتئذٍ و إنّما كان هناك أشخاص آخرون مثلهم أ فلا يشملهم هذا الخطاب؟ أو علي فرض أنّ أصحاب الإمام الصادق عليه السلام انقرضوا، و جاء بعدهم أصحاب الإمام الكاظم أو الإمام الرضا عليهما السلام، أ فلا تشملهم كلمة «انظروا».

  • الجواب: أنّه يجبَ إلغاء الخصوصيّة بشكل مسلّم. فمعني‌ «انظروا» ليس هو أن تنظروا أنتم فقط، بل إنّ كلّ شخص من الشيعة هو مورد لهذا الخطاب.

  • و هذه الطبيعة ملحوظة مع إلغاء جميع الخصوصيّات الزمانيّة و المكانيّة. فعند ما قال الإمام الصادق عليه السلام «انظروا» فهذا الكلام يشمل زمان حياته و بعد وفاته أيضاً، و المطلب كذلك بهذا النحو أيضاً في زمان الأئمّة الذين كانوا بعده.

  • و بشكل عامّ يجب هنا إلغاء خصوصيّة اولئك الأفراد الذين كانوا مورد خطابه عليه السلام، و كذلك خصوصيّته عليه السلام من جهة كونه الإمام جعفر بن محمّد، فمن هذه الجهة تكون الولاية، و من تلك الجهة تكون طبيعة المكلّفين و المولّى عليهم. و السرّ في هذا الأمر هو أنّ الأحكام إنّما تجعل دوماً علي الطبائع

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

216
  • تجعل الأحكام علي أساس القضايا الحقيقيّة لا الخارجيّة

  • الخارجيّة لا علي الأفراد، فالأحكام تجعل علي أساس قضايا حقيقيّة دوماً، لا علي أساس قضايا خارجيّة.

  • القضيّة الخارجيّة كأن نقول: «زيدٌ قائم» أي أنّ زيد الذي في الخارج، زيد المعيّن و المشخّص في الخارج، موصوف بالقيام. فهذه قضيّة خارجيّة. أو نقول مثلًا: إنّ جبل أبي قبيس يغطّي ثلاثة أرباع أرض مكّة. و هذه أيضاً قضيّة خارجيّة، أمّا في القضايا الحقيقيّة فالحكم ينصبّ علي نفس الطبيعة، مثل «الماء بارد» فطبيعة الماء باردة. فهذه القضيّة لا تنظر إلي الخارج، و أنّ هذه المياه التي في الخارج باردة، و إنّما يقول طبيعة الماء باردة، و حتّى لو لم يوجد في العالم قطرة ماء واحدة فطبيعة الماء تكون أيضاً باردة. فالماء مطلق، يشمل المياه التي كانت سابقاً، أو التي ستوجد فيما بعد، أو التي هي موجودة الآن علي السواء. فالحكم هنا تعلّق بالطبيعة. و هذه يسمّونها بـ «القضيّة الحقيقيّة».

  • الْبَيْعُ حَلَالٌ‌ {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا}۱ يعني أنّه كُلَّمَا وُجِدَتْ مُعَامَلَةٌ فِي الْخَارِجِ وَ صَدَقَ عَلَيْهَا عُنْوَانُ الْبَيْعِ فَهُوَ مَحْكُومٌ فِي الشَّرْعِ بِالْحِلِّيَّةِ وَ كُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ عُنْوَانُ الرِّبَا فَهُوَ مَحْكُومٌ بِالْحُرْمَةِ.

  • فالحكم هنا أيضاً قد انصبّ علي الطبيعة.

  • و في الحقيقة فإنّ القضايا الحقيقيّة و الطبيعيّة ترجع إلي قضايا شرطيّة. و عليه فـ{أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} إن وجدت معاملة في الخارج، علي تقدير وجودها في الخارج فهي محكومة بالحلّيّة. سواء كان ذلك البيع موجوداً في الخارج أم غير موجود. فعلي تقدير تحقّق بيع في الخارج فإنّ‌ الحكم ينصبّ بالحلّيّة.

    1. جزء من الآية ٢۷٥، من السورة ٢: البقرة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

217
  • و القضايا الشرطيّة لا يتوقّف صدقها علي الصدق و التحقّق الخارجيّ لمقدّمها، و إنّما يتوقّف علي التلازم بين المقدّم و التالي. الماءُ باردٌ أو الهواءُ حارُّ أو النارُ محرقةٌ و أمثال هذه، كلّها قضايا حقيقيّة، و ترجع جميعها إلي قضايا شرطيّة.

  • إذَن انظُرُوا إلي مَنْ كَانَ مِنكُمْ معناه: انظروا في أيّ زمان و أيّ مكان إذا وجد بينكم فقيه إماميّ نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا و روي حديثنا، فعلي تقدير وجوده إنّي جعلته عليكم حاكماً. و هذا أيضاً يرجع إلي هذه المسألة.

  • مقبولة عمر بن حنظلة في المراحل الثلاث: القضاء و الإفتاء و الولاية

  • فلنَرَ الآن هل تختصّ هذه الرواية بالقضاء فقط أم لا؟ لأنّ عمر بن حنظلة يسأل عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أصْحَابِنَا تَنَازَعَا فِي دَيْنٍ أوْ مِيرَاثٍ وَ تَحَاكَمَا إلى السُّلْطَانِ أو إلى الْحَاكِمِ.

  • فمورد هذه الرواية الرجلان اللّذان يذهبان إلي السلطان أو القضاة و يريدان حلّ مشكلتهما عنده، فيسأل الراوي بهل ذلك جائز أم لا، و يجيب الإمام أنّه لا يجوز الذهاب إليهم. و هنا أيضاً يتيقّن الإنسان و بأدنى تأمّل أن لا خصوصيّة هناك للمورد. و هذا المورد من الموارد التي ينطبق عليها بجلاء قولهم: «المورد لا يُخَصِّص الوارد».

  • فمثلًا: إذا سأل شخص الإمام عليه السلام: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ، رَجُلٌ شَكَّ فِي الصَّلاةِ الثُّنَائِيَّة، فهل صلاته صحيحة أم باطلة، فقال الإمام عليه السلام إنّها باطله، فإنّ كلّ من يري هذه الرواية سيفهم بأنّ «رجل» هنا لا خصوصيّة له، و أنّه حتّى لو شكّت امرأة أيضاً فإنّ هذا الحكم سيجري عليها. مع أنّه إنّما سئل في هذا المورد عن الرجل فكيف يسري الحكم إلي المرأة و إلي جميع الأفراد؟ ذلك لأنّ الرجل لا يُفهم منه أنّ له خصوصيّة، و السائل إنّما بيّن الموضوع بهذا اللفظ، لا أنّه أراد جعل الرجل موضوعاً

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

218
  • منحصراً لحمل ذلك الحكم عليه، و إنّما ذكر ذلك الموضوع الكلّيّ بلفظ «رجل».

  • و الأمر هنا بهذا النحو أيضاً. فعمر بن حنظلة يسأل أنّ هذين الرجلين يريدان حلّ نزاعهما فما ذا عليهما أن يعملا؟ يقول الإمام عليه السلام: يرجعان إلي الفقيه، فالإمام لا يريد القول إنّ عليهما الرجوع إلي الفقيه في هذا المورد الذي يتنازعان فيه بخصوصه، و إنّما يقول لا تأخذوا اموركم الشرعيّة و أحكامكم من السلطان الجائر، و لا تأخذوها من قضاتهم و حكّامهم، و إنّما خذوها منّا. فالمسألة بهذا الشكل.

  • و لذا لو سأل عمر بن حنظلة هنا: يا بن رسول الله إذا أراد شخص أن يسأل عن مسائله الشرعيّة و الدينيّة و أن يقلّد شخصاً آخر فهل يحقّ له الذهاب إلي السلطان الجائر و حكّامه لسؤالهم؟ فسيقول الإمام عليه السلام: ما معني هذا السؤال؟ أ لم أقل إنّي قد جعلته عليكم حاكماً؟! فلا محلّ و لا مورد لهذه السؤال أصلًا بعد أن سأل السؤال الأوّل و أجابه الإمام عليه السلام: «إنّي قد جعلته عليكم حاكماً» أي في كلّ أمرٍ ترجعون إليه فيه، سواء كان هناك شخصان متنازعان و يسألان عن الحكم، أو سواء كان المراجع شخص واحد و لا يعرف حكمه. لأنّه لا فرق بين الشخصين اللذين لا يعرفان حكمهما و بين الشخص الواحد. فذاك الشخص الواحد أيضاً الذي لا يعرف من أين يحصّل حكمه عليه أن لا يرجع إلي السلطان الجائر و قضاته، و إنّما عليه الرجوع إلي ذلك الفقيه الذي روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا.

  • و لو سئل عليه السلام حول حفظ أموال الغيَّب و القُصَّر و الامور التي هي من شئون الحاكم (مثل الأوقاف و سائر الامور الولايتيّة) أنّه ما ذا علي‌ الناس أن يفعلوا في هذه الامور؟ و مَن يسألون؟ و هل يرجعون إلي

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

219
  • السلطان الجائر و قضاته و حكّامه؟ أم أنّه عليهم الرجوع إلي نفس ذلك الشخص الذي ذكرتموه ليأخذوا حكمهم منه؟

  • لكان جوابه عليه السلام: إنّي قد أمرتكم من البداية أن تذهبوا إلي الفقيه الواجد لهذه الصفات.

  • أي أنّه عند ما ننظر إلي صدر و ذيل هذه الرواية: فإنّ ذيل الرواية يلغي الخصوصيّة منذ الوهلة الاولي بأنّ الإمام عليه السلام يريد أن يقول ارجعوا في اموركم إلي فقهاء الشيعة، سواء كانت من قبيل فصل الخصومة بين الطرفين، أو من المسائل البدائيّة و قضايا الإفتاء و الاستفتاء، أو من الامور الولايتيّة. فلهذه الرواية حجّيّة و ظهور في المراحل الثلاث: القضاء، و الحكومة، و الإفتاء. و لقد استشهد بها كبار علمائنا لهذه المراحل الثلاث. و لا مجال للشبهة فيها.

  • و الإشكالات التي يوردها المرحوم الشيخ في «الرسائل» مثل الإشكالات التي أوردها علي دلالة آية النبأ: {إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى‌ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ}‌۱ و قال: مع أنّ هذه الإشكالات تترتّب علي دلالة الآية، و لكن مع ذلك لا إشكال و لا ريب في أنّ هذه الآية تدلّ علي حجّيّة خبر العادل و وجوب التبيّن في خبر الفاسق.

  • سند المقبولة معتبر

  • و هذه الآية من أبرز و أشهر أدلّة حجّيّة خبر الواحد، بحيث لو سألتم أيّاً كان ما هو الدليل علي حجّيّة خبر العادل من القرآن الكريم؟ لأجابكم علي الفور أنّها آية النبأ.

  • و هذه الرواية أيضاً التي ذكرناها هنا، مع كلّ الاحتمالات التي تذكر في أطرافها، و الإشكالات التي أوردها المرحوم الشيخ في «الرسائل» عليها

    1. ذيل الآية ٦، من السورة ٤٩: الحجرات.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

220
  • مع ذلك فإنّها من الأدلّة الصريحة علي حجّيّة قول الفقيه في المراتب الثلاث (القضاء و الحكومة و الفتوى).

  • و باعتبار أنّنا الآن في صدد بيان حكم الحاكم و بيان الحكومة الشرعيّة للفقهاء فإنّنا نستدلّ بهذه الرواية علي هذا المعني.

  • هذا من جهة فقه الحديث، و نشرع الآن في البحث حول سنده و دلالته.

  • يقع صفوان في سند مقبولة عمر بن حنظلة و هو من أصحاب الإجماع‌

  • أمّا من جهة السند، فقد ذكرنا سند هذه الرواية كما هو عند الكلينيّ و الشيخ الطوسيّ. و أمّا في «من لا يحضره الفقيه» فقد رويت مرسلة. و العمدة هو سند «الكافي» الذي يجب أن نبحثه.

  • قال في «المستند» بعد نقله شطراً من هذه الرواية: وَ تَضْعِيفُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَعَ انْجِبَارهَا بِمَا مَرَّ حَتَّى اشْتَهَرَتْ بِالْمَقْبُولَةِ غَيْرُ جَيِّدٍ أيْضاً، إذْ لَيْسَ فِي سَنَدِهَا مَنْ يُتَوَقَّفُ فِي شَأنِهِ سِوى دَاوُدِ بْنِ الْحُصَيْنِ وَ وَثَّقَهُ النَّجَاشِيُّ، فَلَو ثَبَتَ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ وَ ابْنُ عُقْدَةٍ مِنْ وَقْفِهِ، فَالرِّوَايَةُ مُوَثَّقَةٌ لَا ضَعِيفَةٌ، وَ عُمَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ قَدْ حُكِيَ عَنْهُ تَوْثِيقُهُ، هَذَا، مَعَ أنَّ فِي السَّنَدِ قَبْلَهُمَا صَفْوَانُ بْنُ يَحْيَى، وَ هُوَ مِمَّنْ نُقِلَ إجْمَاعُ الْعِصَابَةِ عَلَى تَصْحِيحِ مَا يَصِحُّ عَنْهُ.۱

  • و هذه هي عين عبارة خالنا الأعظم الحاجّ المولي أحمد النراقيّ، استاذ الشيخ الأنصاريّ رحمه الله، في «مستند الشيعة». و لقد أنهي المطلب و أدّى حقّه بهذه الفقرات المعدودة، و مراده من أنّ صفوان بن يحيي ممّن‌ نقل إجماع العصابة علي تصحيح ما يصحّ عنه، أنّه من المجموعة التي

    1. «مستند الشيعة» ج ٢ كتاب القضاء و الشهادات، المسألة الثالثة، ص ٥۱٦، الطبعة الحجريّة.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

221
  • أجمع علماء الشيعة و كبارهم علي أنّه إذا أوصَلْنَا روايةً ما بسند صحيح إلي هؤلاء الأشخاص فإنّها ستكون صحيحة.

  • و هم يبلغون ثمانية عشر شخصاً. و قد ذكرهم المرحوم بحر العلوم في أشعاره فقال:

  • قَدْ أجْمَعَ الْكُلُّ عَلَى تَصْحِيحِ مَا***يَصِحُّ عَنْ جَمَاعَةٍ فَلْيُعْلَمَا
  • وَ هُمْ اولُوا نَجَابَةٍ وَ رِفْعَة***أرْبَعَةٌ وَ خَمْسَةٌ وَ تِسْعَة
  • فَالسِّتَّةُ الاولَى مِنَ الأمْجَادِ***أرْبَعَةٌ مِنْهُمْ مِنَ الأوتَادِ
  • زُرَارَةُ ثُمَّ بُرَيدٌ۱ قَدْ أتَي***ثُمَّ مُحَمَّدٌ٢ وَ لَيْثٌ‌٣ يَافَتي‌
  • ثُمَّ فُضَيْلٌ بَعْدَهُ مَعْرُوفُ***وَ هُوَ الَّذِي مَا بَيْنَنَا مَعْرُوفُ‌
  • و مراده من فُضَيل هو الفُضَيل بن يَسار و هو من الأجلّاء، و معروف هو مَعْرُوف بن خرَّبُوذ. و هؤلاء الأشخاص الستّة هم في الدرجة الاولي.

  • ثمّ يذكر بعد ذلك الأشخاص الستّة في الدرجة الثانية. و من بعدهم الأشخاص الستّة في الدرجة الثالثة. و صفوان هو في هذه المجموعة الثالثة.

  • و السِّتَّةُ الاخْرى هُمُ صَفْوَانُ***وَ يُونُسُ عَلَيْهِمَا الرِّضْوَانُ‌
  • و يونس يعني يُونُسُ بنُ عَبْد الرَّحْمَن الذي سئل الإمام الصادق عليه السلام عنه:

  • يُونُسُ بنُ عَبْد الرَّحْمَن ثِقَةٌ آخُذُ عَنْهُ مَعَالِمَ دِيني؟ قَالَ: نَعَمْ.

  • ثُمَّ ابْنُ مَحْبُوبٍ كَذَا مُحَمَّدُ***كَذَاكَ عَبْدُ اللهِ ثُمَّ أحْمَدُ
  • و مقصوده من ابن محبوب هو الحسن بن مَحْبُوب. و مُراده من محمّد هنا هو محمّد

    1. بُرَيد هو بُرَيد بن مُعاوية.
    2. مُحمّد هو مُحَمَّد بن مُسلم.
    3. لَيث هو لَيث بن البختَرِيّ المُراديّ المعروف بأبي بصير.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

222
  • بن أبي عُمَير. و مُراده من عبد الله هو عبد الله بن بُكَير، و من أحمد هو أحمد بن أبي نصر البزنطيّ.

  • من المناسب أن نحفظ أشعار بحر العلوم، إذ إنّها أشعار مليئة بالبركة للغاية. كما أنّ نفسي بحر العلوم ملي‌ءٌ بالبركة أيضاً.

  • و شاهدنا الآن أنّ صفوان بن يحيي من أصحاب الإجماع. أي عند ما نصل برواية بسند صحيح إليه، فإنّ علينا أن نقبل تلك الرواية مهما كان من بعده.

  • أمّا كون البعض قد ضعّف هذه الرواية لوجود داود بن الحصين في سلسلة السند، فإنّ النراقيّ رحمه الله يقول: إنّ تضعيفهم لا يعتدّ به، و ذلك لأنّه أوّلًا: قد وثّقه النجاشيّ، علاوة علي أنّ الإشكالات التي أوردوها علي داود بن الحصين لم تكن الكذب و الفسق و الضعف، بل قالوا: إنّه واقفيّ، أي أنّه قد توقّف بعد الإمام موسى بن جعفر و لم يقل بإمامة الإمام الرضا، و يقال لمثل هذا الشخص واقفيّ.

  • و لو كان الواقفيّة و أتباع بقيّة المذاهب صادقين في مذاهبهم فهم ثقات، فهم يكونون ثقاتاً عندنا و رواياتهم مقبولة. فنحن نقبل روايات الواقفيّة و الزيديّة و الإسماعيليّة و الفطحيّة و الناووسيّة، نقبلها كلّها فيما لو كان الرواة ثقاتاً في مذاهبهم.

  • و نحن نقبل روايات العامّة فيما لو كانوا ثقاتاً، فضلًا عن أن تكون من روايات الإماميّ الواقفيّ، فيما لو كانت سلسلة رواة العامّة إلي رسول الله كلّهم ثقات، فإنّنا نقبل رواياتهم و نعدّها في مرتبة الرواية الصحيحة، لأنّ حجّيّة الرواية عندنا إنّما هي علي أساس الوثوق. و لا فرق بين الرواية الموثّقة و الرواية الصحيحة، و قبولنا للروايات الصحيحة لأنّنا نملك وثوقاً اتّجاهها. و بما أنّنا نملك وثوقاً بالروايات الموثّقة فإنّنا نقبلها أيضاً.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

223
  • الروايات الموثّقة كمثل الصحيحة، و ذلك كموثّقة ابن بكير

  • فالروايات الموثّقة إذَن كموثّقة ابن بكير- و من حُسن الاتّفاق أنّ ابن بكير من أصحاب الإجماع أيضاً- تُقبل كذلك.

  • كذاك عبد الله، و مراده هو عبد الله بن بُكير، الذي يعمل الجميع برواياته، و يجب أن يعملوا و حيث إنّ داود بن الحصين ثقة فلِمَ لا نعمل بروايته؟! فخبره صالح للعمل به. ينقل في كتاب «الكافي» بناءً علي رواية «وسائل الشيعة» رواية ابن بُكير حول حرمة لبس أجزاء الحيوان المحرّم في حال الصلاة. فينقل أنّ عبد الله بن بُكير روي عن زرارة أنّه سأل الإمام الصادق عليه السلام عن لبس الثياب من الوبر و الشعر و الجلد من الحيوان غير المأكول، و من روثه و بوله. فقال الإمام عليه السلام: «كُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ».

  • هذه هي الرواية الوحيدة التي نملكها في هذا الخصوص، و هي مشهورة بموثّقة ابن بُكير. و بالطبع فإنّ لدينا عدّة روايات اخرى أيضاً بعضها مرسله و بعضها مرفوع و بعضها صحيح، لكن ليس فيها بيان مثل هذه الرواية. و لم تذكر الخصوصيّات بشكل مبسوط. و جميع العلماء يعملون بهذه الموثّقة. و مناط الحجّيّة في حرمة لبس أجزاء غير مأكول اللحم، مثل الجلد و الوبر هو هذه الموثّقة۱ مع أنّها موثّقة. و عليه فإنّ الرواية التي‌

    1. جاء في «وسائل الشيعة» طبعة أمير بهادر، ج ۱، ص ٢٦۱، أبواب المصلّي، باب ٢: حديث ۱، محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عُمير، عن ابن بُكير قال: سَألَ زُرارةُ أبَا عَبْد اللهِ عَلَيهِ السَّلَام عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّعَالِبِ وَ الفَنَكِ* وَ السَّنْجَابِ** وَ غَيْرهِ مِنَ الْوَبَرِ.
      فَأخْرَجَ كِتَابَاً زَعَمَ أنَّهُ إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: إنَّ الصَّلَاةَ فِي وَبَرِ كُلِّ شَي‌ءٍ حَرَامٌ أكْلُهُ، فَالصَّلَاةُ فِي وَبَرِهِ وَ شَعْرِه وَ جِلْدِهِ وَ بَوْلِهِ وَ رَوْثِهِ وَ كُلِّ شَي‌ءٍ مِنْهُ فَاسِدٌ***

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

224
  • تكون موثّقة لا تكون ضعيفة.

  • فالذي يشكل حول داود بن الحصين إنّما يشكل لأنّه واقفيّ. حسناً حتّى لو كان واقفيّاً فبعد أن وثّقه النجاشيّ يكون واقفيّاً موثّقاً، و الواقفيّ الموثّق تُقبل روايته، و لا مجال للشبهة حوله.

  •  

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

225
  •  

  •  

  • الدرس الحادي عشر: البحثُ حولَ رِوَايَتي أبِي خَدِيجَةَ.

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

227
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • لقد كان البحث حول مقبولة عمر بن حنظلة و سندها. و قد انتهى الكلام إلي أنّ هذه المقبولة قد ذكرها كبار المشايخ في كتبهم، و تلقّوها بالقبول، و استشهدوا بها في مقام الاستدلال، و عدّوها مقبولة. و لذا فهي تمتلك قوّة من ناحية اعتبارها و يستطيع الإنسان العمل بها بكامل الاطمئنان.

  • يقول المرحوم الملّا أحمد النراقيّ في كتاب «مستند الشيعة» في شأن عمر بن حنظلة: حُكي عنه توثيقه، أي (حكي عن النجاشيّ توثيقه). و لم يرد في كتب الرجال تضعيف له. و عند ما يرد توثيق حول خبر ما، و لا يوجد حوله تضعيف و يتلقّاه الأصحاب أيضاً بالقبول، فإنّ ذلك يكون كافياً للعمل به، أي أنّه ينال بذلك قوّة في مقام العمل.

  • و ليس الميزان و الملاك في العمل برواية ما، عدالة أو إماميّة أو وثاقة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

228
  • نفس الراوي، و إنّما هو توثيق الرواية. أي أنّ من الممكن أن لا يثبت توثيق الراوي في حدّ نفسه، و لم يكن علماء الرجال قد وثّقوه بالخصوص، لكنّ الأصحاب عملوا بروايته، فهذه الرواية تكون لازمة الاتّباع.

  • حجّيّة الخبر الضعيف المحفوف بالقرائن الخارجيّة

  • لقد انتهينا في بحث حجّيّة خبر الواحد إلي نتيجة و هي أنّ مناط العمل بالأخبار هو وثوق الخبر، و لو بضميمة قرائن خارجيّة و ضمائم مقاميّة و شواهد اخرى. فإذا وثق الإنسان بخبر ما فإنّه يستطيع العمل به، و إلّا فلا.

  • و إذا ما روي الأصحاب خبراً، و كان واجداً لجميع شرائط الصحّة، و كان راويه عادلًا، بل كان في أعلى درجة التعديل بواسطة عدلين، لكنّ الأصحاب لم يذكروا ذلك الخبر في كتبهم الروائيّة، أو لم يستشهدوا به في مقام الاستدلال، فذلك الخبر لا يكون قابلًا للعمل به. لأنّه يُقال إنّ هذه الرواية قد أعرض عنها الأصحاب.

  • و السرّ في ذلك أنّه عند ما تكون الرواية من ناحية السند في منتهي الصحّة ثمّ يعرض عنها الأصحاب و لا يعملون بها، مع أنّ فكر و دراية و فقاهة الأصحاب يمكنها أن تكون دليلًا لنا من جهتين: الاولي: قربهم من زمن الأئمّة عليهم السلام؛ و الثانية: فقاهتهم و درايتهم و عدالتهم و وثوقهم التي تشكّل داعياً قويّاً لتشخيص الأخبار من قبلهم لكي يعملوا بالأخبار الصحيحة و الموثوقة. فيتّضح من عدم عملهم أنّ في هذا الخبر جهة فساد و نقصان أدّت إلي تركه في مقام العمل. كأن يكون مثلًا في ناحية السند صحيح، و لكنّ مضمونه يحتمل أنّ الأئمّة إنّما بيّنوه علي أساس التقيّة أو ملاحظة زمان ما، أو لبعض الجهات الاخرى، في الوقت الذي لا يكون العمل به ممكناً من قبل الأصحاب.

  • بخلاف عمل الأصحاب بالخبر الضعيف السند فإنّه يكون خبراً قابلًا لأن نعمل به.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

229
  • و السبب في ذلك أنّ ضعف الخبر إنّما يوجب عدم العمل بالرواية، إمّا لأنّ الراوي لا يكون ضابطاً، و قد ضعّف، أو لأنّهم قد فسّقوه، أو قالوا مثلًا إنّ في كلامه خطلًا۱، أو قد نُسب إليه الجعل و الكذب و لم يعدّله الثقات، أو كان مجهول الحال، و أمثال هذه الأمور التي يمكن أن تكون من جهات الضعف في الرواية.

  • فلو روي شخص ضعيف خبراً، لكنَّ الأصحاب تلقّوه بالقبول، و دوّنوه في كتبهم، و استدلّوا و استشهدوا به، و أفتوا وفقاً له، فهذا يدلّ علي أنّ هناك جانب قوّة فيه، و علي أنّه كانت في أيديهم شواهد و قرائن علي صحّته لكنّها لم تصل إلينا، و أنّهم قد اعتمدوا علي تلك القرائن و الشواهد فعملوا بذلك الخبر. لذا نقول بأنّ الخبر الضعيف المنجبر٢ بالشهرة قابل لأن يعمل به، لكنّ الخبر الصحيح الذي أعرض عنه الأصحاب ساقط و غير قابل لأن يعمل به.

  • و علّة هذه المسألة هو أنّه ليست صحيحاً أنّ جميع الروايات التي ينقلها الشخص الفاسق تكون كذباً، و إنّما في بعض الأخبار يكون صادقاً، و في بعضها الآخر يكون كاذباً. و لذا فمن الممكن جدّاً أن يكون الراوي صادقاً في هذه الرواية التي ينقلها عن الإمام، أي لا يكون قد مارس الكذب في هذه الرواية. و عليه فإنّنا لا نستطيع أن نردّ خبر الفاسق بشكل مطلق و نتجاهله، و إنّما يجب أن نتبيّن حاله و نقوم بالتثبّت و التحقيق حول صحّته، و هل هو مطابق للواقع؟ و هل هناك قرائن خارجيّة تدلّ علي صدقه أو لا؟ فإذا كان صحيحاً عملنا به، و إلّا فلا.

  • و آية النبأ أيضاً تدلّ علي هذا الأمر: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ 

    1. خطلًا: الكلام الكثير الفاسد الذى فيه خفة و حمق.
    2. المنجبر: المصحّح بعد الكسر.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

230
  • فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى‌ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ}‌۱.

  • هذه الآية لا تقول إنّه ينبغي أن لا تعملوا بأيّ خبر فاسق، و إنّه يجب أن تتجاهلوا جميع أخبار الفاسق و تعرضوا عنها، و إنّما تقول: إذا جاءكم فاسق بخبر فابحثوا و تثبّتوا و تحقّقوا و تبيّنوا صحّته من عدمه. فإن كان قوله صحيحاً توجب أن تعملوا به، و إلّا فهو غير مقبول.

  • إذَن لا يمكننا أن نواجه خبر الفاسق بسكوت و نقول إنّ الخبر الفلاني ضعيف، أو إنّ فلاناً فاسق و لا يجب العمل بخبره؛ و إنّما يجب أن نتتبّع لنري هل توجد شواهد من الكتاب و السنّة أو قرائن من الروايات الاخرى تعاضده؟ هل عمل الأصحاب طِبْقَهُ و استشهدوا به لكي تكون هناك شهرة روائيّة أو فتوائيّة علي أساس عملهم أم لا؟ فإذا كان ذلك متحقّقاً فيجب أن نعمل به، و إلّا فلا يجب العمل به.

  • و ذلك لأنّه من الممكن أن يتفق أن يكون الخبر الذي جاء به الفاسق صحيحاً و مطابقاً للواقع. فإذا لم نعمل به فإنّنا سنقع في مشكلة واقعيّة. فمن الضروريّ أن نتحقّق و نتبيّن و نتثبّت في خبر الفاسق ليتّضح لنا المطلب و ينجرّ الأمر إلي قبوله أو رفضه.

  • و هذه النقطة توقعنا في شدّة و ضيق من الأمر، و تسبب لنا الإشكالات. و إلّا فلو كان مقرّراً أن نردّ خبر الفاسق من البدء لما بقي مورد يتحمّل جميع هذا التعب و المشقّة و الفحص، و لاعتبرناه مردوداً من الأوّل و تجاوزناه.

  • يُحكى أنّ رجلًا كان له ثلاثة أبناء كان أحدهما صادقاً، و الآخر كاذباً، و الثالث يصدق تارة و يكذب اخرى. و كان هذا الأب يدعو بالخير 

    1. الآية ٦، من السورة ٤٩: الحجرات.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

231
  • لابنه الصادق باستمرار بأن يرحمه الله و يطيل عمره، كما كان كذلك يدعو بالخير لذلك الابن الكاذب بأن يهديه الله و يعفو عن ذنوبه، و أمّا ذلك الابن الذي يكذب تارة و يصدق اخرى فكان الأب يلعنه باستمرار، داعياً الله أن‌ يقتله و يقضي عليه في شبابه و يزيله من صفحة الوجود.

  • و قد تعجب البعض من ذلك و قالوا له: أنت تدعو لذاك الابن الصادق باستمرار و ذلك واضح. و ذاك الابن الذي يكذب تارة و يصدق اخرى يجب أن تدعو له في الجملة، و أمّا اللعنة فيجب أن تكون لذلك الابن الذي يكذب باستمرار.

  • فقال الأب: كلّا، فإنّكم لا تعلمون الأمر، فالمسألة ليست كذلك. و ذلك لأنّي مرتاح البال من الابن الصادق و الابن الكاذب، فأعلم أنّ هذا الابن صادق، و أنّ كلّ خبر يأتي به صدق فأعمل طبقه. و ذاك الابن أيضاً كاذب فأنا حذر من ناحيته لأنّي أعلم أنّه يكذب دوماً. فعند ما يأتي بخبر لا ارتّب عليه أثراً، و أنا من ذلك في راحة. و لكن، قاتل الله ذلك الذي يكذب أحياناً و يصدق اخرى و يوقعني في المشقّات، إذ يأتيني بخبرٍ فلا أعلم أ هو صحيح فأتّبعه، أم كذب فأجتنبه و لا ارتّب الأثر عليه؟ فإذا كان صحيحاً و ظننته كاذباً و لم أتّبعه أقع في الهلكة، و إذا كان كاذباً و رتّبت عليه الأثر فإنّي أقع أيضاً في الهلكة. لذا فقد سدَّ عليَّ هذا الابن باب الحيلة، و سلب عنّي النوم في الليالي، و الراحة في الأيّام.

  • نتيجة البحث في الخبر الواحد هي حجّيّة الخبر الموثّق‌

  • و الكلام في هذا أنّ هذه الأخبار و الروايات التي بأيدينا هي خليط من الصحيح و السقيم، و لو كنّا نعلم أنّ خبر الفاسق مخالف للواقع يقيناً لكنّا قد تركنا العمل به بشكل كامل. لكنّا نري أنّ الكثير من هذه الأخبار صحيح، لأنّ الفاسق لا يكذب باستمرار و إنّما هو يكذب أحياناً، كمثل هؤلاء الأفراد الموجودين بيننا و الذين يكذبون، و ليست جميع أخبارهم كاذبة، 

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

232
  • فأحياناً تكون كاذبة و اخرى صادقة. و هذه المسألة توجب للإنسان المشقّة.

  • و هذا الأمر قد سبّب العناء لعلمائنا و عظمائنا. فاضطروا إلي التفحّص‌ في الأخبار إلي هذا الحدّ لتمييز الأخبار الصحيحة عن غيرها. و التبيّن في الأخبار التي رواها الفسقة، فإذا كان هناك قرائن و شواهد علي صدقها عملوا بها، و إلّا تركوها.

  • مناط حجّيّة الخبر عمل المشهور لا قوّة السند

  • و بناءً عليه فإنّ علماءنا إذا عملوا بخبر الفاسق فهذا يدلّ علي أنّه قد كانت هناك قرينة بأيديهم تدلّ علي صدقه، كرواية اخرى، أو شواهد علي قوّة هذه الرواية، و تدلّ علي أنّ خبر الفاسق هذا من جملة الأخبار المطابقة للواقع. و لذا فقد كان يقوم كبار علمائنا بنقل هذه الرواية في كتبهم و تثبيتها و ضبطها.

  • إنّ الأخبار التي لدينا في كتبنا المعتبرة غالباً ضعيفة السند، و إنّ أفضل كتبنا هي هذه الكتب الأربعة: «التهذيب» و «الكافي» و «الاستبصار» و «من لا يحضره الفقيه» و الأكثر اعتباراً بينها هو كتاب «الكافي»، لكنّ رواياته غالباً ضعيفة. فلو راجعتم «مرآة العقول» للمجلسيّ الذي هو شرح للكافي لوجدتم أنّه قبل شرح هذه الأخبار يقول عنها إنّها ضعيفة ثمّ يشرع بالبحث.

  • لكن هل علينا أن نترك العمل بهذه الكتب؟ كلّا، و إنّما علينا أن نعمل بها و نعمل بهذه الأخبار الضعيفة، لأنّ مشايخ مثل الكلينيّ و الطوسيّ و الصدوق قد جمعوها و عملوا بها، و لأنّ علماء كبار مثل البرقيّ و القمّيّين ممّن جمع «المحاسن» و غيرها من الكتب جميعهم كانوا من أهل الدقّة، و خصوصاً القمّيّين الذين كان لهم منتهي الدقّة في ضبط الأحاديث و العمل بقول الأئمّة عليهم السلام. و إذا أردنا أن نردّ جميع هذه الأخبار فإنّ شيئاً 

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

233
  • لن يبقي في أيدينا.

  • فهذه الأخبار التي بأيدينا حول الأدعية في «البلد الأمين» و «المصباح» للكفعميّ و «الإقبال» للسيّد و «مصباح المتهجد» للشيخ الطوسيّ، و التي يعمل‌ جميع علمائنا بها، و يقرءون أدعيتها و زياراتها، إذا أردتهم أن تحصوا صحيحها فقط تجمعوه من بينها لكان بحجم كتاب صغير، مثل كتاب «معالم الاصول» الذي تستطيعون حمله في جيوبكم. أمّا الباقي من هذه الروايات فهي التي لم يكن رواتها عدولًا أو ثقات، غاية الأمر أنّ الأصحاب تلقّوها بالقبول و عملوا بها، و كانوا بأنفسهم يقرءون هذه الأدعية و يروونها للآخرين.

  • كما أنّ نفس هذه «الصحيفة السجّاديّة» مع أنّه يمكن القول إنّها تحمل أفضل أدعيتنا، لكنّ سندها ليس علي درجة كبيرة من الصحّة.

  • فإذا أردنا أن نعمل بهذا القسم فقط، و نأخذ بالروايات الصحيحة فقط فإنّ شيئاً لن يبقي في أيدينا. و دليلنا أيضاً علي العمل بها- أي بالروايات الضعيفة- هو أنّ مبنانا و مناطنا في العمل بها هو الوثوق، فحيثما حصل الوثوق برواية ما كانت حجّة، و حيثما فقد هذا الوثوق تجاه خبر ما كان مردوداً، حتّى لو كان رواية ثقة و عادلًا.

  • و لذا فإنّ نتيجة البحث في هذا المقام، و في بحث الخبر الواحد، و كذلك في بقيّة الموارد التي يبحث فيها في هذا الموضوع، هو العمل بالأخبار المنجبرة بالشهرة و الإعراض عن الأخبار التي لم يعمل بها الأصحاب. و النتيجة الحاصلة من الأبحاث الواردة في حجّيّة خبر الواحد توصلنا إلي هذه الغاية.

  • كلام الشيخ حسين الحلّيّ في مناط قوّة مقبولة عمر بن حنظلة و ما شابهها

  • و الآن و قد انجرّ الكلام إلي هذا الموضع فإنّ من المناسب أن ننقل كلاماً عن استاذنا الكبير في الفقه و الاصول في النجف الأشرف آية الله 

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

234
  • الشيخ حسين الحلّيّ رحمة الله عليه.

  • (لقد كان رحمه الله آية إلهيّة حقّاً، و علماً من أعلام العلم و التقوي و الدراية؛ و شبيه العلّامة الحلّيّ في سعة العلم و الاطّلاع علي التحقيق، و لم يكن له مثيل في النجف في الفقه و الاصول، بل إنّني عند ما وردت النجف الأشرف و فحصت و حقّقت في جميع الأبحاث الموجودة، و لو لم يكن الشيخ حسين الحلّيّ موجوداً لكنت رجعت إلي قم للاستفادة من بحث آية الله البروجرديّ رضوان الله عليه. لكنّي رأيت أنّه رجل عالم موزون و قويّ، و لذا رجّحت النجف علي قم في مرحلة الدراسة العليا. و قد كتبت تقريرات دروسه، و منها رسالة في بحث الاجتهاد و التقليد موجودة عندي بتقريري).

  • فهو يصل بالمناسبة أثناء البحث عن مسألة التجزّي في الاجتهاد إلي هنا حيث يقول: و نشرع الآن فيما يتوقّف عليه الاجتهاد فنقول: قيل إنّ الاجتهاد يتوقّف علي عدّة علوم: علم اللغة و الصرف و النحو و العلوم الثلاثة (المعاني، و البيان، و البديع) و ذلك لأنّه توجد في هذه العلوم نكات تقوّي المجتهد و تعينه علي استنباط الأحكام. ثمّ يقول:

  • وَ اعْلَمْ: أنَّ هَذِهِ الامُورَ مِمَّا لا بُدَّ مِنْهَا، وَ لا بُدَّ لِلْمُتَعَلِّم الْمُرِيدِ لِلِاجْتِهَادِ أنْ يَتَعَلَّمَهَا حَقَّ التَّعَلُّم بِحَيْثُ يَصِيرُ مُجْتَهِداً فِي هَذِهِ الْعُلُومِ؛ وَ لَا يَكْتَفِي بِقرَاءَةِ كِتَابِ صَرْفٍ وَ نَحْوٍ. هَذَا مُضَافاً إلى مَدْخَلِيَّةِ هذِهِ الْعُلُومِ لِعِلْمِ الاصُولِ أيْضاً؛ لِمَا فِيهِ مِنْ رِوَايَاتٍ لَا يَتَّضِحُ الْمُرَادُ مِنْهَا إلَّا بِالتَّعَلُّمِ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ.

  • و كذلك فإنّ المجتهد يحتاج إلي علم التفسير و الإحاطة بمعاني كتاب الله إذ إنّ اجتهاده متوقّف عليه. و أمّا فصل علم التفسير عن الصرف و النحو و اللغة، فغير صحيح، و إنّما التفسير عبارة عن مجموعة من العلوم 

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

235
  • المدوّنة و المنظّمة في كتاب واحد، فيصحّ أن يسمّي بدائرة المعارف. نعم لا بدّ أن يرجع المجتهد إلي الروايات الواردة في معاني الآيات للخروج عن التفسير بالرأي؛ لكنَّ هذا إنّما رجوع بالروايات، لا بكتاب الله. إلي أن‌ يصل إلي قوله:

  • وَ أمَّا عِلْمُ الرِّجالِ فَلَا فَائِدَةَ فيِهِ فِي زَمَانِنَا هَذَا أصْلًا؛ لأنَّهُ بَعْدَ كَوْنِ الْمَدَارِ فِي حُجِّيَّةِ الرِّوَايَاتِ هُوَ الْوُثُوقُ بِالرِّوَايَةِ، قَلَّتْ فَائِدَةُ الإحَاطَةِ بِالأسَانِيدِ.

  • وَ ذَلِكَ لأنّا إذَا رَأيْنَا أنَّ الْمَشْهُورَ عَمِلُوا عَلَى طِبْقِ رِوَايَةٍ وَ ضَبَطُوهَا فِي كُتُبِهِمْ وَ اسْتَشْهَدُوا بِهَا فِي مَقَامِ الاسْتِدْلالِ، يَحْصُلُ لَنَا الْوُثُوقُ بِصحَّتِهَا وَ كَوْنِهَا مَرْوِيَّةً عَنِ الإمَامِ عَلَيهِ السَّلَامُ، وَ إذَا أعْرَضُوا عَنْ رِوَايَةٍ فَأهْمَلُوهَا لَا نَثِقُ بِهَا وَ إنْ كَانَ سَنَدَهَا صَحِيحاً.

  • نَعَمْ، فِي سَالِفِ الزَّمَانِ لَمَّا كَانَتِ الرِّوَايَاتُ مُتَشَتِّتَةً غَيْرِ مَضْبُوطَةٍ فِي الْكُتُبِ، لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ لِتَميِيزِ الصَّحِيحِ عَنِ السَّقِيمِ إلَّا الْمُرَاجَعَةُ بِأحْوَالِ الرُّوَاةِ؛ وَ أمَّا بَعْدَ الْكُتُبِ الأرْبَعَةِ وَ سَائِرِ الْمَجَامِيعِ وَ مُلَاحَظَةِ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ، فَلَا مَجَالَ لادِّعَاءِ الاحْتِيَاجِ إلى الأسَانِيدِ. وَ هَذَا وَاضِحٌ عَلَى مَا بَنَيْنَا عَلَيهِ، وَ لا بُدَّ أنْ يُبْنَي عَلَيهِ فِي حُجِّيَّةِ الْخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ حُجِّيَّةِ الْخَبَرِ الضَّعِيف الْمُنْجَبِرِ بِالشُّهْرَةِ وَ عَدَمِ حُجِّيَّةِ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ الْمُعْرِضِ عَنْهُ الأصْحَابُ.

  • و شاهدنا في عبارته هذه التي تستحقّ الالتفات حيث يقول:

  • وَ لِذَلِكَ تَرَى أنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ أحَدٌ مِنْ ردِّ مَقْبُولَةِ عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ، وَ لَمْ يَسْتَشْكِلْ فِيهَا أحَدٌ فِي السَّنَدِ، مَعَ أنَّ عُمَرَ بْنَ حَنْظَلَةَ لَمْ يُوَثَّقْ فِي كُتُبِ الأصْحَابِ. وَ مَنِ ادَّعَى عَدَمَ حُجِّيَّةِ الْمَقْبُولَةِ وَ مَا ضَاهَاهَا مِنْ رِوَايَاتٍ كَتَبَهَا الْمَشَايِخُ الثَّلَاثَةِ أوْ بَعْضُهُمْ، فَلَا بُدَّ وَ أنْ يَخْرُجَ مِنْ زُمْرَةِ أهْلِ الْعِلْمِ، لِعَدَمِ شَمّهِ مِنَ الْفِقْهِ وَ الْفَقَاهَةِ أصْلًا.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

236
  • كان هذا بحثنا حول المقبولة، و في سندها.

  • لزوم إلغاء الخصوصيّة في المقبولة و تعميمها إلي أمر الولاية و الإفتاء

  • و أمّا البحث في دلالتها فكما قد بيّنا، أنّ دلالة هذه الرواية علي حجّيّة قول الفقيه في المراتب الثلاث، أي في مرتبة الإفتاء و مرتبة القضاء أيضاً و كذلك مرتبة الحكومة، تامّة، لأنّ كلّ من ينظر في هذه الرواية لا يري دخالة خصوصيّة المورد في الحكم. و بإلغاء خصوصيّة المورد و الذي هو أيضاً علي أساس الفهم العرفيّ يفهم أنّ هذه المناصب هي لواجدي شرائطها في الواقع، سواء كان هناك مراجعة بعنوان الاحتكام أم لم يكن، و سواء كان هناك نزاع بين شخصين أم لم يكن.

  • فذلك الشخص الواجد لهذه الشرائط قد نصّبه الإمام عليه السلام لتدبير امور الناس. و مع كون السؤال عن الدَّين و الميراث في صدر الرواية «رَجُلَيْنِ مِن أصْحَابِنَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ مُنَازَعَةٌ فِي دِينٍ أوْ مِيرَاثٍ» فهل يمكننا القول بأنّ الرجوع إلي الحاكم الشرعيّ منحصر في خصوص الدَّين و الميراث فقط؟ و إذا كان نزاعهم حول شي‌ء آخر كمعاملة سَلَف و سَلَم فلا يمكنهم الرجوع إليه، لأنّ مورد الرواية الدَّين و الميراث، فهل يفهم أحد هذا المعني أساساً؟! و هل هذا قابل للقبول؟!

  • أم أنّه يجب أن نتوسّع و نقول إنّ الأمر أعمّ من الديون و غيرها، فلو تنازع الرجل مع امرأته أمر نكاح أو طلاق، مع أنّه من المسلّم أنّها ليست من الامور الماليّة، أ فلا يجب الرجوع إلي الحاكم الشرعيّ؟!

  • بل يجب التوسّع في الأمر و القول بأنّه إذا حصل نزاعٌ ما في جميع الامور المتعلّقة بالمعاملات و السياسات فإنّ المرجع هو الحاكم الشرعيّ، أو أن نتوسّع أكثر من هذا فنقول: أ فهل يصحّ الرجوع إلي السلطان أو قضاته إذا حصل نزاع في مطلب علميّ (في أمر علميّ، تفسيريّ، روائيّ، و سنّتيّ) 

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

237
  • أم لا؟

  • لقد كان جواب الإمام عليه السلام بالنفي، و أنّه يجب عليكم الرجوع في هذه الموارد إلي الفقهاء.

  • و عليه فالإمام عليه السلام لا يريد بيان هذا الحكم في خصوص مورد من هذه الموارد، بل إنّه يريد أن يقول: إنّ مرجعكم و مصدركم أيّها الشيعة في جميع هذه الامور يجب أن يكون الفقيه. سواء كان عنوان الحكومة موجوداً أم لم يكن و سواء كان عنوان‌ «جعلته حاكماً» أم لم يكن، فضعوا أنتم مكانه: جَعَلْتُهُ مَلْجَأً، أو جَعَلْتُهُ فَرَطاً، أو جَعَلْتُهُ مَرْجَعَاً وَ مَصْدَراً لِلُامُورِ.

  • إذَن فنحن لا نستطيع أن نحصر عنوان هذه الرواية في خصوص عنوان «الحكومة» بأيّ وجه من الوجوه. أي أنّنا نريد القول بأنّنا إذا سلّمنا هذه الرواية للعرف فإنّ العرف لن يفهم العموميّة و الشمول بتنقيح المناط و من مفهومها فحسب، بل من منطوقها أيضاً، فيلغي الخصوصيّة فيها، لا أنّه يُفهم خصوص معني الحكومة منها.

  • «انظُرُوا إلي مَنْ كَانَ مِنكُمْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا، و نَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَ حَرَامِنَا، وَ عَرَفَ أحْكَامَنَا، فَارْضَوا بِهِ حَكَماً! فَإنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً» يعني: انْظُرُوا إلَى مَنْ رَوَى حَدِيثَنَا وَ نَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَ حَرَامِنَا وَ عَرَفَ أحْكَامَنَا فَارْضَوْا بِهِ مَرْجَعاً وَ مَلَاذَاً وَ مَصْدَراً وَ فَرَطاً لُامُورِكُمْ، فَإنّي قَدْ جَعَلْتُهُ مَصْدَراً فَقِيهاً، و يجب الرجوع إليه من جميع الامور.

  • إذَن لا ينبغي أن نقول إنّ جملة «وَ إذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا» تَختصّ بمورد الحكومة، بل هي أعمّ. سواء كان عنوان الحكومة أم عنوان آخر. و لذا لو رجعتم أنتم إلي مرجع أيضاً. و سألتموه مسألةً، فقام ببيان الحكم لكم فإنّ عليكم اتّباعه، و إلّا شملتكم‌ «فَإذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْه فَإنّما بِحُكْمِ اللهِ قَدْ اسْتَخَفّ وَ عَلَيْنَا رَدّ، و الرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى الله».

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

238
  • فالكلام في هذا، أنّه يستفاد من هذه الرواية إلغاء الخصوصيّة، و يجب أن يُستفاد هذا أيضاً، و ذلك لأنّه إذا لم نلغ الخصوصيّة فلا يجب أن نعمّم، و لا أحد يقول بهذا. من أنّه كان لدينا نزاع في مورد الدَّين‌ و الميراث فإنّ بإمكاننا في هذه الحالة فقط الرجوع إلي الحاكم، أمّا إذا لم يكن نزاعنا في دَين أو ميراث، بل كان في معاملة محاباةٍ أو صلح أو هبة معوّضة فلا حقَّ لنا بالرجوع. فهذا المعني (الخصوصيّة) مُلغي بشكل مسلّم. و قد استشهد العلماء و استدلّوا بهذه الرواية للمراتب الثلاثة، و قاموا بإثبات حجّيّتها في المراتب الثلاث من خلال إلغاء الخصوصيّة فيها.

  • و قد استشكل البعض هنا حول إلغاء الخصوصيّة بأنّ هذا الحكم في مورد المنازعة فقط. و ينبغي القول جواباً علي ذلك أنّه كما قلنا بإلغاء الخصوصيّة بالنسبة إلي عبارة «دَين أو ميراث» فإنّنا كذلك نقوم بإلغاء الخصوصيّة بالنسبة إلي عبارة «تنازعا»، و ذلك لأنّ المنازعة ليس لها أيّ مدخليّة في الحكم.

  • و إنّما الإمام عليه السلام يريد أن ينهي عن الرجوع إلي السلطان أو قضاته، سواء كان هناك نزاع بين شخصين أم استحدثت مسألة لشخص منكم و أراد الذهاب إلي السلطان أو القاضي لكي يطرح مسألته و يأخذ الحلّ، فذلك أيضاً غير جائز، و إنّما يجب عليه أن يرجع إلي رواة الأحاديث. فكما أنّ مراجعة شخصين أو شخص واحد لم تكن مناطاً فكذلك نفس المنازعة ليست بمناط، و عليه لا يبقي من طريق إلّا إلغاء الخصوصيّة.

  • فالإمام يقول هنا: لقد نصّبت لكم ذلك الشخص الذي‌ «رَوَى حَدِيثَنَا، وَ نَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَ حَرَامِنَا» مرجعاً في الامور، حتّى لو كان ذلك في اموركم الشخصيّة و في أسئلتكم الشخصيّة. إذَن فكما أنّ حكم الحاكم بين شخصين 

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

239
  • واجب التنفيذ، فكذلك هو نافذ في حقّ الشخص الواحد. و كذلك فإنّ الرجوع إلي حاكم الشرع واجب أيضاً و لم يكن هناك عنوان منازعة، و ذلك لأنّ الإمام عليه السلام قد نصّبه في مقابل الحكّام و القضاة و السلطان. و لقد كان هذا هو البحث عن مقبولة عمر بن حنظلة.

  • رواية أبي خديجة الاولي عن «الكافي» و «التهذيب» عن الحسن بن عليّ‌

  • الرواية الثانية: هي الرواية التي نقلها المشايخ الثلاثة في كتبهم، يعني «فروع الكافي» و «التهذيب» و «من لا يحضره الفقيه».

  • و روي في كتاب القضاء من «الكافي» بهذا السند: الحسين بن محمّد، عن مُعلّى بن محمّد، عن الحسن بن عليّ، عن أبي خديجة، قال: «قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إيَّاكُمْ أنْ يُحَاكِمَ بعْضُكُمْ بَعْضاً إلى أهْلِ الجَوْرِ! وَ لَكِنِ انْظُرُوا إلى رَجُلٍ مِنْكُمْ يَعْلَمُ شَيئاً مِن قَضَائِنَا فَاجْعَلُوهُ بَيْنَكُمْ، فَإنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ قَاضِياً فَتَحَاكَمُوا إلَيْهِ».۱

  • و قد أورد الشيخ عين هذه الرواية بنفس السند و بنفس المتن في «التهذيب» بلفظ (قضايانا) بدلًا من (قضائنا)، أي أنّه أورده بلفظ «انْظُرُوا إلى رَجُلٍ مِنْكُمْ يَعْلَمُ شَيئاً مِنْ قَضَايَانَا».٢

  • و قد روي الصدوق أيضاً هذه الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام في «من لا يحضره الفقيه»، بسند آخر، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة، و بنفس هذا المتن، بلفظ «قضايَانَا» كما في «التهذيب»٣ هذه إحدى روايتي أبي خديجة.

  • و هناك رواية اخرى منقولة عن أبي خديجة. و بما أنّ بحثنا في كلتا 

    1. «فروع الكافي» ج ۷، كتاب القضاء، ص ٤۱٢، حديث ٤.
    2. «التهذيب» ج ٦، كتاب القضايا و الأحكام، ص ٢۱٩، حديث ۸، تحت رقم ٥۱٦.
    3. «من لا يحضره الفقيه» ج ٣، أبواب القضايا و الأحكام، باب ۱، ص ۱ و ٢.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

240
  • الروايتين واحد فننقل هذه الرواية أيضاً، و حينئذٍ نبحث عن الاثنتين.

  • رواية أبي خديجة الثانية عن «وسائل الشيعة» عن الشيخ الطوسيّ عن أبي الجهم‌

  • نقل الرواية الثانية الشيخ الحرّ العامليّ، عن محمّد بن الحسن (الشيخ الطوسيّ) بإسناده: عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن أبي الجهم، عن أبي خديجة.

  • قَالَ: بَعَثَنِي أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى أصْحَابِنَا فَقَالَ: «قُلْ لَهُمْ: إيَّاكُمْ إذَا وَقَعَتْ بَيْنكُمْ خُصُومَةٌ، أوْ تَدَارَى فِي شَي‌ءٍ مِنَ الأخْذِ وَ الْعَطَاءِ، أنّ تَحَاكَمُوا إلى أحَدٍ مِنْ هؤلاءِ الفُسَّاقِ! اجعَلُوا بَيْنَكُمْ رَجُلًا قَدْ عَرَفَ حَلَالَنا وَ حَرَامَنَا، فَإنِّي قَدْ جَعَلْتَهُ عَلَيْكُمْ قَاضِياً. وَ إيَّاكُمْ أنْ يُخَاصِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إلى السّلْطَانِ الْجائِر!».۱

  • تَدَارأ: أي دَفَعَ بَعضُكُم بَعْضاً.

  • و قد نقل المرحوم «الكَنيّ» هذه الرواية في كتاب «القضاء».٢

  • و نقل أيضاً المرحوم النراقيّ قسماً منها في «المستند».٣

  • أمّا المرحوم الكَنيّ فقد أوردها بلفظ «تَرَادَى» بدلًا من «أو تَدَارَى بَيْنَكُمْ فِي شَي‌ءٍ». و تَرادَى بمعني المجادلة في الكلام‌٤ أي أنّه إذا حصل بينكم اختلاف في الكلام فلا يجوز لكم الرجوع إلي السلطان الجائر.

  • نقل صاحب «المستند» هاتين الروايتين، و عدَّ كلًّا منهما صحيحة، ثمّ قال:

    1. «وسائل الشيعة» طبعة أمير بهادر، ج ٣، كتاب القضاء، باب ۱۱ من أبواب صفات القاضي و ما يجوز أن يقضي به، حديث ٦.
    2. كتاب «القضاء» الحاجّ الملّا عليّ الكَنيّ، الطبعة الحجريّة، ص ۱٢ و ۱٣.
    3. «مستند الشيعة» ج ٢، ص ٥۱٦.
    4. جاء في كتب اللغة: تَدَارَأ، تَدَارُؤا القومُ: تدافعوا في الخصومة. و في «أقرب الموارد»: ترادوا بالحجارة: تراموا بها و في «لسان العرب»: رَادَيْتُ لغة في داريت.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

241
  • وَ وَصَفَ الرِّوَايَتَيْنِ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ- مَعَ أنَّهُ غَيْرُ ضَائِرٍ عِنْدَنَا مَعَ وُجُودِهِمَا فِي الاصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَ انْجِبَارِهمَا بِالإجْمَاعِ الْمحَقَّقِ وَ الْمَحْكِيِّ مُسْتَفِيضاً وَ فِي «الْمَسَالِكِ»: إنَّهُمَا وَ الْمَقْبُولَةَ الآتِيَةَ مُشْتَهَرَانِ بَيْنَ‌ الأصْحَابِ، مُتَّفَقٌ عَلَى الْعَمَلِ بِمَضْمُونِهِمَا- غَيْرُ جَيِّدٍ. لأنَّ اولاهما رَوَاهَا فِي «الْفَقِيهِ» عَنْ أحْمَدَ بْنِ عَائِذٍ، عَنْ أبِي خَدِيْجَةَ، وَ طَرِيقُ «الْفَقِيهِ» إلى أحْمَدَ صَحِيحٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي «الرَّوْضَةِ» وَ أحْمَدُ نَفْسُهُ مُوَثَّقٌ إمَامِيٌّ.

  • وَ أمَّا أبُو خَدِيْجَةَ وَ هُوَ سَالِمُ بْنُ مُكْرَم‌۱، وَ إنْ ضَعَّفَهُ الشَّيْخُ فِي مَوْضِعٍ وَ لَكِنْ وَثَّقَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَ وَثَّقَهُ النَّجَاشِيّ. وَ قَالَ حَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ‌٢ كَانَ صَالِحاً. وَ عَدَّ فِي «الْمُخْتَلَفِ» فِي باب الْخُمْسِ رِوَايَتَهُ مِنَ الصِّحَاحِ.

  • وَ قَالَ الأسْتَرآبَادِي فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ «الرِّجَال» فِي حَقِّهِ: فَالتَّوْثِيْقُ أقْوَى.٣

  • هذه هي عبارة المرحوم الحاجّ الملّا أحمد النراقيّ في «المستند» و محصّل كلامه أنّ الروايتين صحيحتان، و يجب العمل بهما. و إشكال البعض في عدم صحّتهما غير صحيح. و أنّ ما يذكره من أدلّة تدلّ علي أنّ كلتا الروايتين صحيحتان و يجب العمل بهما، و أنّ وصفهما بعدم الصحّة غير صحيح.

  • ثمّ يذكر شواهد في صحّة هاتين الروايتين.

    1. ذكر العلّامة في «الخلاصة» سالم بن مكرم بضمّ «الميم و سكون الكاف و فتح الراء المهملة».
    2. و قد ضبط في الكتب الرجاليّة بـ«أبي الحسن عليّ بن الحسن».
    3. «المستند» ج ٢، ص ٥۱٦.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

242
  • أوّلًا: إنّ خبر أبي خديجة المذكور في الاصول المعتبرة منجبر بالإجماع المحقّق، و كذلك بالإجماع المحكي المستفيض (أي قد نُقل الإجماع بشكل مستفيض لا بواسطة شخص أو شخصين) فهناك إجماع‌ محقّق و إجماع محكي مستفيض.

  • و قال الشهيد الثاني في مسالكه: إنّ روايتي أبي خديجة مع المقبولة السابقة مُشْتَهَرَتان بَيْنَ الأصْحَابِ وَ مُتَّفَقٌ عَلَى الْعَمَلِ بِمَضْمُونِهِمَا و عليه فنحن لا نستطيع أن نعدّ هاتين الروايتين ضعيفتين.

  • ثانياً: الرواية الاولي التي نقلت في «من لا يحضره الفقيه» مرويّة عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة، و طريق الشيخ الصدوق في «من لا يحضره الفقيه» إلي أحمد بن عائذ طريق صحيح، كما صرّح بذلك في «الروضة» بأنّ المرحوم الصدوق عند ما يذكر طرقه في المشيخة، فذلك الطريق الذي له إلي أحمد بن عائذ طريق صحيح، و نفس أحمد بن عائذ موثّق إماميّ (فهو إذَن إماميّ و في نفس الوقت موثّق) و قد وثّقه كبار علماء الرجال.

  • و أمّا نفس أبي خديجة و الذي اسمه سالم بن مُكْرَم فقد ضعّفه الشيخ الطوسيّ في موضع و وثّقه في موضع آخر. و وثّقه النجاشيّ أيضاً. و عدّه الحسن بن عليّ بن الحسن صالحاً. و عدَّ العلّامة في «المختلف» في باب الخُمس رواياته من الصحاح. و قال الأستراباديّ أيضاً في رجاله الكبير: فالتوثيق أقوي.

  • تحقيق: إنّ ما ذكرته في كتاب «رسالة بديعة» في هذا المورد هو: إنَّ أبَا خَدِيْجَةَ هُوَ سَالِمُ بْنُ مُكْرَمِ الْجَمَّالِ الْكُوفِيّ، مَوْلَى بَنِي أسَدٍ، وَ قَدْ يُكَنَّى بِأبِي سَلمَةَ، ثِقَةٌ، رَوَى عَنْ أبِي عَبْدِ اللهِ وَ أبِي الْحَسَنِ عَلَيْهِمَا 

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

243
  • السَّلَامُ. وَ لَهُ كِتَابٌ يَرْوِيْهِ عَنْهُ عدَّةٌ مِنْ أصْحَابِنَا.

  • هذا فيما يتعلّق بترجمة حال أبي خديجة.

  • اشتباه الشيخ في تضعيف أبي خديجة و اشتباه العلّامة في تردّده‌

  • و يجب الآن أن نفهم السبب في أنّ الشيخ قد ضعّفه في بعض الموارد ثمّ وثّقه، و ذلك لأنّ هذا الأمر قد سبّب تردّد العلّامة. قال العلّامة في‌

  • «الخلاصة»: بما أنّ الشيخ ضعّفه في مورد و وثّقه في موردٍ آخر، فبناءً عليه عندي توقّف حوله.

  • أي أنّه عند ما يرد حول شخص توثيق و تضعيف معاً فعندها يوجد رأيان مختلفان حوله، فعلي الإنسان عندئذٍ أن يتوقّف، و لذا توقّف العلّامة هنا أيضاً، و يجب القول إنّ السبب في تضعيف الشيخ له هو أنّ اشتباهاً قد حصل للشيخ، أي أنّ الشيخ الطوسيّ قد اشتبه هنا، و هذا الاشتباه سبّب تردّد العلّامة، و مع الالتفات الذي نذكره الآن يتّضح أنّ اشتباه الشيخ لا محلّ له، و أنّ تردّد العلّامة علي أساس تضعيف الشيخ لا أساس له كذلك.

  • و بيان ذلك: إنّ أبا خديجة الذي هو محلّ بحثنا اسمه سالم، و اسم أبيه مُكْرَم، فهو سالم بن مُكْرَم. و له كُنية اخرى أيضاً و هي «أبو سَلِمَة» بكسر اللام كما أنّ «امّ سَلَمَة» بالفتحة غلط و «امّ سَلِمَة» بالكسرة صحيح). فإحدى كُنيتيه أبو سَلَمةِ. و من المتعارف عند العرب أن يكون للبعض كنيتان، و قد كان أبو خديجة من هذا القبيل، كنيته المشهورة أبو خديجة، و لكنّه يُدعى أحياناً أبا سَلِمة.

  • و عندنا شخص آخر اسمه سالم، و هو ابن أبي سَلِمَة، «سالِمُ بن أبي سَلِمَة»، و هو من رجال الرواية و لكنّه ضعيف، و قد ضعّفه النجاشيّ و الغضائريّ.

  • و لقد خلط المرحوم الشيخ الطوسيّ بين أبي خديجة الذي كنيته 

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

244
  • الاخرى أبي سَلِمَة و اسمه سالم و بين ذاك سالم الآخر الذين هو ابن أبي سَلِمَة و ظنَّ أنّ سالم بن مُكْرَم الذي هو أبو سَلمَة هو نفس سالم الذي هو ابن أبي سَلِمَة. و بما أنّه قد ضُعِّف في كتب الرجال، فأبو خديجة أيضاً قد ضُعّف علي هذا الأساس.

  • أبو خديجة هو نفس أبي سَلِمَة: سَالِم بن مُكْرَم‌

  • لقد اعتقد الشيخ الطوسيّ أنّ كلا الرجلين رجل واحد: و ظنّ أنّ أبا خديجة هو سالم بن أبي سَلِمَة. مع أنّ الأمر ليس كذلك، و مع أنّه هذا شخص آخر مع جميع هذه الخصوصيّات التي ذكرت، لم يرد تضعيف في حقّه، بل وثّقه علماء الرجال. و الشاهد علي هذا عدّة امور:

  • الأوّل: أنّه قد ورد في الرواية اللطيفة جدّاً و المذكورة في باب «شِرَاء العَبْدَيِنِ المَأذُونَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا الآخَرَ»: أنّ عبدين كان كلًّا منهما مأذوناً من مولاه بشراء عبد لمولاه. فقام كلّ منهما بشراء الآخر لمولاه. يروي هذه الرواية المرحوم الكلينيّ في «الكافي» عن أبي سَلِمَة، بينما يرويها الشيخ الطوسيّ في «التهذيب» عن أبي خديجة. أي أنّ أبا سَلِمَة و أبا خديجة هما شخص واحد. و قد ذكره أحدهما بكنية، و ذكره الآخر بكُنية اخرى.

  • و الشاهد الآخر علي أنّ الشيخ قد اشتبه هنا أنّه قد صرّح في موضعين من عباراته أنّ أبا خديجة غير أبا سلمة، مع أنّه نفسه. و يستفاد من عبارة الشيخ الطوسيّ اتّحادهما. و قد ضعّفه و جرّحه علي أساس الاتّحاد، لذا نذكر عين عبارة العالِم المعاصر الشيخ محمّد تقي الشوشتريّ في رجاله لكي يتّضح المطلب أكثر.

  • يقول في «قاموس الرجال»: قَالَ [العَلَّامَةُ فِي‌] «الخُلَاصَةِ»: قَالَ الشَّيْخُ [فِي مَوْضِعٍ‌]: إنَّهُ ضَعِيْفٌ؛ وَ قَالَ فِي آخَرَ: إنَّهُ ثِقَةٌ؛ وَ الوَجْهُ عِنْدِي: 

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

245
  • التَّوَقُّفُ فِيْما يَرْوِيْهِ لِتَعَارُضِ الأقْوَالِ فِيْهِ.۱

  • ثمّ يقول الشيخ محمّد تقي الشوشتريّ:

  • ثُمَّ لَا وَجْهَ لاضْطِرَابِهِمْ فِيْهِ بَعْدَ اتِّفَاقِ النَّجَاشِيِّ وَ الْكَشِّيِّ عَلَى تَوْثِيقِهِ وَ تَبْجِيلِهِ. وَ سُقُوطُ تَضْعِيفِ الشِّيْخِ لَهُ بِتَعَارُضِ تَوْثِيقِهِ لَهُ مَعَهُ عَلَى نَقْلِ «الخُلَاصَةِ» مَعَ أنَّ تَضْعِيفَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِ اتّحَادَهُ مَعَ سالِم بْنِ أبِي سَلمَةَ المُتَقَدِّمِ الَّذِي ضَعَّفَهُ الغَضَائِرِيُّ، وَ كَذَا النَّجَاشِيُّ، بِدَلِيلِ أنَّهُ قَالَ: «وَ مُكْرَمٌ يُكَنَّى أبَا سَلِمَة».

  • وَ قَالَ فِي آخِرِ طَرِيقِهِ: عَنْ سَالِمِ بْنِ أبِي سَلمَةَ، وَ هُوَ أبُو خَدِيْجَةَ. (مع أنّ سالم بن أبي سلمة ليس أبا خديجة، بل سالم بن مكرم هو أبو خديجة) مَعَ أنَّ غَيْرَهُ جَعَلَ سَالِمَاً هَذَا نَفْسُ أبِي سَلمَةَ لَا ابْنَهُ.

  • فَقَدْ عَرَفْتَ قَوْلُ المَشيخَةِ وَ البَرْقِيِّ وَ الكَشِّيِّ وَ النَّجَاشِيِّ فِي ذَلِكَ.

  • وَ مِمَّا يُوضِحُ كَوْنَ أبِي سَلمَةَ كَأبِي خَدِيْجَةَ نَفْسَ هَذَا لَا أبَاهُ، أنَّ خَبَرَ شِرَاءِ العَبْدَيْنِ المَأذُونَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا الآخَرَ، رَوَاهُ [فِي‌] «التَّهْذِيْبِ» عَنْ أبِي خَدِيْجَةَ، وَ «الكَافِي» عَنْ أبِي سَلمَةَ.٢

  • فعلي هذا و علي أساس هذا التحقيق فإنّه قد حصل اشتباه من الشيخ فقط، و سبّب اشتباه العلّامة و تردّده. و بما أنّ هذا الاشتباه لا أساس له، فإنّ تضعيف الشيخ لا مبني له أصلًا. و أبو خديجة رَجُلٌ إمَامِيٌّ مُوَثَّقٌ، و روايته قابلة للقبول من جميع الجهات.

    1. عبارة: «و الوجه عندي ...» عبارة نفس العلّامة في «الخلاصة» الطبعة الحجريّة، ص ۱۰۸.
    2. «قاموس الرجال» ج ٤، ص ٢٩۷: نقلًا عن «الرسالة البديعة» الطبعة الاولي، ص ٩۱ إلي ٩٣.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

246
  • إذَن هاتان الروايتان اللتان ينقلهما عن أبي خديجة صحيحتان من ناحية السند، و كذلك من جهة المتن مثل المقبولة، فكما أنّ في المقبولة قد ورد عنوان الحكومة و أمثالها، فهنا أيضاً ورد عنوان الحكومة و القضاء. فالحكومة و القضاء لا توجب خصوصيّة، فيجب إلغاء الخصوصيّة حتماً.و نستطيع الاستدلال بهذه الرواية في القضاء و فصل الخصومة، و كذلك في مسألة الحكومة و الولاية، و في مسألة الإفتاء و الفتوى معاً.

  •  

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّد

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

247
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ الثَّانِي عَشَر: البَحْثُ فِي رِوَايَة كُمَيْلٍ عَنْ أمِيرِ الْمُؤْمِنِين عَلَيْهِ السَّلامُ حَوْلَ وَلَايَةِ الْفَقِيهِ.

  •  

  •  

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

249
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ‌

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ‌

  • و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قيامِ يَوْمِ الدِّينِ‌

  • و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ‌

  •  

  •  

  • متن رواية كميل عن «نهج البلاغة» للسيّد الرضيّ رحمة الله عليه‌

  • أحد أدلّة ولاية الفقيه و الذي يمكن اتّخاذه كأكثرها اعتباراً و أقواها من ناحية السند و الدلالة معاً، هو رواية السيّد الرضيّ أعلى الله مقامه في «نهج البلاغة» حول كلام أمير المؤمنين عليه السلام لكميل بن زياد النخعيّ.

  • فَفِي «نَهْجِ البَلَاغَةِ» مِنْ كَلَامٍ لَهُ عَلَيهِ السَّلَامُ لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ:

  • قَالَ كُمَيْلُ بنُ زِيَادٍ: أخَذَ بِيَدِي أمِيرُ الْمُؤْمِنِين عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأخْرَجَني إلَى الْجَبَّانِ؛ فَلَمَّا أصْحَرَ تَنَفَّسَ الصُّعَداءَ ثُمَّ قَالَ: "يَا كُمَيْلُ! إنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أوْعَاهَا؛ فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أقُولُ لَكَ.

  • النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَ مُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَ هَمَجٌ رعَاعٌ؛ اتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ العِلْمِ وَ لَمْ يَلْجَئوا

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

250
  • إلَى رُكْنِ وَثِيقٍ.

  • يَا كُمَيْلُ! الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ؛ الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَ أنْتَ تحْرُسُ الْمَالَ؛ وَ الْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، و الْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الإنْفَاقِ؛ وَ صَنِيعُ الْمَالِ يَزُولَ بِزَوَالِهِ".

  • فعند ما يزول نفس المال تزول أيضاً الظواهر و الآثار التي نتجت عنه مهما كانت، و كمثال علي ذلك فإنّ صاحب المال ينال سلطة و تأثيراً بذلك المال فيجتمع الناس حوله، و يقوم بأعمال كثيرة بواسطة المال، و ما أن يذهب ذلك المال حتّى تزول جميع تلك الآثار. فيفقد الناس كلّ اهتمام به، و لا يبقي أحد يقيم له وزناً، و ذاك الشخص الذي وفّر لنفسه مركزاً علي أساس الاعتماد علي المال ما أن يزول ماله حتّى تزول جميع تلك الآثار المصطنعة و الناتجة عن المال.

  • "يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ! مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ؛ بِهِ يَكسِبُ الإنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَ جَميلَ الاحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. و الْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَ الْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ.

  • يَا كُمَيْلُ! هَلَكَ خُزَّانُ الأمْوَالِ وَ هُمْ أحْيَاءٌ؛ و الْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ؛ أعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَ أمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ.

  • هَا! إنَّ هَاهنا لَعِلْماً جَمّاً (وَ أشَارَ إلى صَدْرِهِ) لَوْ أصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً!

  • أي لو أصبت له أشخاصاً يستطيعون حمله لُاعلّمهم إيّاه. فما ذا أعمل إذ لا أجد حملة للعلم المخزون هنا فليس ثمّة أحد يتعلّم و يأخذه.

  • ذكر أربعة طوائف من العلماء غير القابلين لتعليم العلوم الحقيقيّة

  • "بَلَى أصَبتُ لَقِناً غَيْرَ مَأمُونٍ عَلَيْهِ، مُسْتَعْمِلًا آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، وَ مُسْتَظْهِراً بِنِعَمِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَ بِحُجَجِهِ عَلَى أوْلِيَائِهِ".

  • أجل لقد وجدت عالماً يستطيع الاستفادة من هذه العلوم المتراكمة، و هو عالم يمتلك الفهم و الدراية و الذكاء و القابليّة، لكنّي أخاف منه و أخشي‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

251
  • تعليمه، و لا أشعر بالاطمئنان لذلك. و ذلك لأنّه جعل دينه آلة للوصول إلي الدنيا، و يستعمل نِعَم الله للاستظهار علي عباده و التعالي عليهم. لقد وهبه الله نِعَماً من العلم و الدراية و الفهم و البصيرة فجاء إلي عباد الله يسحقهم و يحقّرهم و يستخدمهم و يُخضعهم لذلّ عبوديّته.

  • فأمثال هؤلاء علماء من أهل الفهم و الذكاء و الاستيعاب لكنّ قلوبهم خائنة، و إنّي لأخشى من تعليمهم شيئاً من علومي، و لذا سددت طريق تعليمي لهم.

  • "أوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ؛ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي أحنَائِهِ؛ ينْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لأوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، ألَا لَا ذَا وَ لَا ذَاكَ".

  • و هناك نمط آخر من الناس توجد فيهم روح طاعة حملة الحقّ و حرّاسه، و ليس في قلوبهم خيانة، و ليسوا متجرّءين و لا متهتّكين، و لا قلقَ من ناحيتهم في هذه الجهة، و لكن بما أنّهم لا يمتلكون البصيرة في ممارسة الحقّ و لا يستطيعون النظر بعين البصيرة من أطراف و جوانب الحقّ، و لا يستطيعون وضع كلّ شي‌ء في موضعه، فإنّ الشكّ يرسخ في قلوبهم عند أوّل شبهة، و يصير الأمر عليهم مشتبهاً.

  • فهؤلاء أشخاص متقدّسون و جانب الانقياد و الطاعة فيهم جيّد، و ليسوا متجرّءين، لكنّهم قليلو دراية، و ليس لهم بصيرة بأنحاء الحقّ و أطرافه، و لا يستطيعون جمع جميع أطراف الحقّ و ردّ الشبهات الواردة من جميع النواحي. فإذا أورد عليهم البعض شبهة يحصل لهم الشكّ في إمامهم و في دينهم.

  • و هؤلاء مثل الأشخاص المقدّسين الذين قال عنهم رسول الله: "كَسَّرَ ظَهْرِي صِنفَانِ: عَالِمٌ مُتَهَتِّكٌ وَ جَاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ".

  • ألَا لَا ذَا وَ لَا ذَاكَ: فالمجموعة الاولي علماء متهتّكون، و المجموعة

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

252
  • الثانية علماء بسطاء متقدّسون، مثل الخوارج الذين كانوا يستندون إلي ظواهر الدين و يعتمدون عليه، و بهذا الدين قتلوا إمامهم، و احتجّوا علي الإمام بالقرآن، و قضوا علي آيات الله و علي وليّ الله و القائم للّه و حقيقة كتاب الله بكتاب الله. و هم جماعة كثيرة و يشكّلون طائفة من العلماء.

  • «أوْ مَنْهُوماً بِاللَذَّةِ، سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهْوَةِ. أوْ مُغْرَماً بِالْجَمْعِ وَ الادِّخَارِ».

  • المُغْرَم يعني المُحبّ. فذلك الذي أثّر فيه الحبّ، و كان الحبُّ فيه أكثر من المستوي الطبيعيّ فصار عاشقاً و مجنوناً بجمع المال و ادّخاره، فهذا يُسمّى مغرماً. فالمغرمون هم أشخاص علماء يفهمون بشكل جيّد جدّاً. و جميع امورهم حسنة، و نقاط الضعف السابقة غير موجودةٍ فيهم. ففهمهم جيّد، و لم يكن خوف الإمام من تعليمهم لهذه العلوم من هذه الجهة.

  • أي أنّهم لا يتّخذون علمهم آلة للدنيا، و ليسوا قليلي الفهم لكي تكون بصيرتهم قليلة، و لكنّهم من أتباع الدنيا. و قد ضاع وجودهم هباءً، و ذلك لأنّهم قد صرفوا نفوسهم الشريفة في ادّخار أموال الدنيا و جمعها، و استفادوا من علمهم في جمع المال فقط.

  • «لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِي شَي‌ءٍ» و هذان الصنفان الأخيران لا فائدة فيهما سواءً ذاك الصنف النهوم باللذّة، السلس القياد للشهوة، أو ذاك الصنف المغرم بالجمع و الادّخار. و ذلك لأنّ قلوبهم لا تحترق لأجل الدين. و ليسوا من حفظته و رعاته و حرّاسه و لا يستطيع الإنسان الرجوع إليهم في أمر الدين لأنّهم إمّا من أهل الشهوة و اللذّة أو من أهل جمع المال و الادّخار. و مقصدهم الأقصى و هدفهم الأسنى من العلم و التدريس و البحث و نيل المراتب الدينيّة هي هذه المسائل: أنّهم لا ينفعون و لا أستطيع أن اعلّمهم علماً و إلّا قاموا بصرف ذلك العلم في الشهوة و اللذّة و ادّخار المال‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

253
  • و الكنوز.

  • تشبيه للإمام للحيوانات السائمة بهم، لا العكس‌

  • «أقْرَبُ شَي‌ءٍ شَبَهاً بِهِمَا الأنْعَامُ السَّائِمَةُ».

  • لاحظوا لطافة هذا البيان، لم يقل الإمام عليه السلام إنّ هاتين الطائفتين: المنهومة باللذّة و اتّباع الشهوة، أو المغرمة بجمع المال، لم يقل إنّهما تشبهان الحيوانات المعلوفة و الأنعام. و إنّما قال إنّ الأنعام السائمة تشبههم. و هذا تعبير لطيف للغاية. أي لا ينبغي أن نجعل ذلك الحيوان الذي لا ذنب له مركزاً للنقص و التقصير و نقيس هؤلاء في نقصانهم بذلك الحيوان. بل إنّ مركز النقصان و العيب و أساس الفساد هو هنا، فيجب أن نشبّه الحيوانات بهم. و هذا نظير ذلك التشبيه الذي يقول: إنّ إشراق الشمس عند طلوعها شبيه بإشراق جمال محبوبتي.

  • ورد في علم البيان أنّ التشبيه يعكس أحياناً، و ذلك لتعظيم و إكبار و إظهار مورد التشبيه بنحو أعلى و أتمّ و كان ينبغي أن يقول: إنّ صورة حبيبتي تشبه الشمس، و إنّ إشراق نورها شبيه بنور الشمس، و عند ما يتجلّى لي يكون عيناً كإشراق الشمس عند ما تشعّ في الافق. لكنّه قال: إنّ الشمس التي تشعّ من الافق شبيهة بإشراق جمال محبوبتي. فهنا أيضاً يقول الإمام عليه السلام: «أقْرَبُ شَي‌ءٍ شَبَهاً بِهِمَا الأنْعَامُ السَّائِمَةُ».

  • «كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَاملِيهِ».

  • إنّ هاهنا لعلماً جمّاً، و لكن ما ذا أفعل فما أن أموت حيث يرتحل هذا العلم جميعه. و ذلك لأنّ أفراد الإنسان لا يتجاوزون هذه الأقسام الأربعة، و الناس جميعاً مبتلون بهذه المسائل.

  • ثمّ يقول الإمام عليه السلام بعد بيان أحوال العلماء و أقسامهم (إنّهم إمّا لقنّ غير مأمون، أو منقاد لحملة الحقّ علي غير بصيرة، أو مُبتلي بالمسائل الشخصيّة و طلب الجاه و اللذّات، أو مشغول بطلب الدنيا بالدين).

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

254
  • «اللّهُمَّ بَلَى؛ لَا تَخْلُو الأرضُ مِن قَائِمٍ لِلّهِ بحُجَّةٍ، إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَ بَيِّنَاتُهُ؛ وَ كَمْ ذَا؟ وَ أيْنَ اولَئِكَ؟!»

  • فهناك اناس قد قاموا بحجج الله، و لهم قلب ثابت، و عزم متين، و إرادة حرّة، لا يتّخذون الدين في عالم الطبيعة وسيلة للدنيا بأيّ شكل من الأشكال، و لم يستظهروا بنعم الله علي عباده، و بحججه علي أوليائه، و لهم بصيرة في جوانب الحقّ، و ليسوا منهومين باللذّة و الشهوة، و لا مغرمين بادّخار المال و جمعه، لكن أين هم؟ هم بضعة أشخاصٍ أين هم؟ اولئك الذين صارت قلوبهم منوّرة بنور الله؟! «لَا تَخْلُو الأرْضُ» من أشخاص كهؤلاء ممّن قام بالحجج الإلهيّة و عملوا للّه.

  • «إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً».

  • لا تخلو الأرض من أفراد كهؤلاء «إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً أوْ خَائِفاً مَغْمُورَاً» لِمَ؟

  • «لِئَلَّا تَبَطُلَ حُجَجُ اللهِ وَ بَيِّنَاتُهُ». فلو لم يكن هؤلاء موجودين لما بقي حجّة علي وجه الأرض مطلقاً، و لاحتجّ جميع الناس يوم القيامة علي الله مدّعين عدم وصول الأمر إليهم، لأنّه لم يكن ثمّة حجّة علي الأرض يستطيعون الوصول إليها.

  • أمّا إذا كان بعض هؤلاء موجوداً في الجملة في الأرض فإنّ الحجّة تكون للّه علي جميع الناس فيطالبهم إذا لم يسعوا في الأرض إلي هؤلاء الحجج و لم يتّبعوهم و لم يستفيدوا منهم. و لو لم يكن هؤلاء الأشخاص موجودين لبطلت حجج الله علي عباده و لبطلت كذلك‌ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‌ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}.۱

    1. جزء من الآية ٤٢، من السورة ۸: الأنفال.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

255
  • وَ كَمْ ذَا؟ وَ أَينَ أُولَئِكَ؟ أُولَئِكَ وَ الله الأقَلُّونَ عَدَداً

  • و كَمْ ذَا؟ وَ أيْنَ اولَئِكَ؟! اولَئِكَ وَ اللهِ الأقَلُّونَ عَدَداً؛ وَ الأعْظَمُونَ قَدْراً؛ يَحْفَظُ اللهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَ بَيِّنَاتِهِ حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَ يَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أشْبَاهِهِمْ.

  • لا يقول أنَّ عددهم قليل و إنّما يقول الأقلّون عدداً أي لو أحصيتم كلّ طائفة و صنف و فئة و جماعة من العلماء و المجتهدين لرأيتم هؤلاء أقلّ من الكلّ.

  • إنّهم الأعظمون قدراً بين الناس من جهة مرتبتهم و منزلتهم و قيمتهم. فالله يحفظ بواسطتهم حججه و بيّناته، إلي أن يودعوا تلك الحجج و البيّنات و الأدلّة و الدين و الإسلام و القرآن و الإيمان و المعارف و غيرها عند نظرائهم و أمثالهم، فيسلّم كلّ منهم الأمر إلي الآخر، و يزرعون تلك الحجج و البيّنات في قلوب أشباههم و أمثالهم لتنمو شيئاً فشيئاً و تنضج. و اولئك أيضاً يكونون في الأزمان المستقبلة، كلّ منهم دعامة عظمية لحجج الله و بيّناته.

  • "هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ، وَ بَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ، وَ استَلانُوا مَا استَوْعَرَهُ المُتَرفُونَ، وَ أنِسُوا بِمَا استَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ، وَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأبْدانٍ أرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الأعْلَى".

  • أي أنّهم وردوا الدنيا بأبدانهم، لكنّ أرواحهم لم تكن في الدنيا، فطوال المدّة التي كانوا يجيئون و يذهبون فيها، و يتكلّمون، و ينكحون، و يقومون ببعض أعمالهم، فإنّ أبدانهم وحدها هي التي كانت تشارك في هذه الامور التدبيريّة و عالم الطبع و الاعتبار و لكنّ أرواحهم متّصلة بالمحلّ الأعلى.

  • "اولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أرْضِهِ، و الدُّعَاةُ إلى دِينِهِ. آهٍ آهٍ! شَوْقاً إلى‌

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

256
  • رُؤيَتِهِمْ. انْصَرِفْ إذَا شِئتَ".۱

  • لقد روي هذا الخبر الشريف الشيخ الصدوق أيضاً في «الخصال» عن أبي الحسن محمّد بن عليّ بن شاه، أنّه يقول: حدّثنا أبو إسحاق الخوّاص، يقول: حدّثنا محمّد بن يونس الكريميّ، عن سفيان وكيع، عن ابنه‌٢، عن سفيان الثوريّ، عن منصور، عن مجاهد، عن كميل بن زياد، و لكنّه بدلًا من جملة: «يَا كُمَيْلُ! الْعِلْمُ دِينٌ يُدَان بِهِ» فَقد أتي بهذه الجملة: «يَا كُمَيْلُ! مَحَبَّةُ العَالِمِ دِينٌ يَدَانُّ بِهِ؛ تكْسِبُهُ الطَّاعَةَ فِي حَياتِهِ وَ جَمِيلَ الاحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَمَنْفَعَةُ الْمَالِ تَزُولُ بِزَوالِهِ».

  • و أورد كذلك بدل جملة «وَ بِحُجَجِهِ عَلَى أوْلِيَائِهِ» هذه الجملة:

  • «لِيَتَّخِذَ الضُّعَفَاءَ وَلِيجَةً مِنْ دُونِ وَلِيِّ الْحَقِّ».

  • أي أنّه يتمسّك و يستعين بضعفاء الناس من أجل القضاء علي وليّ الحقّ، و يلجأ إلي هؤلاء الناس الضعفاء و عوامّ الناس لكي يحقّق لنفسه وضعاً سوقيّاً، و يتّخذه هؤلاء وليّاً و مرجعاً لهم.

  • و يقول الصدوق بعد أن ينقل هذه الرواية في «الخصال»: لقد رويت هذه الرواية بطرق كثيرة اخرجتها في كتاب «إكمال الدين و إتمام النعمة في إثبات الغيبة و كشف الحيرة».٣

  • و قد روي هذه الرواية عدا الصدوق الشيخ حسن بن عليّ بن حسين بن شُعبة الحرّانيّ في «تُحَف العُقول» من قوله: «إنَّ هذِهِ الْقُلُوبَ‌

    1. «نهج البلاغة» باب الحكم، الحكمة ۱٤۷؛ و في الطبعة المصريّة بتعليقة الشيخ محمّد عبده، ج ٢، ص ۱۷۱ إلي ۱۷٤.
    2. ورد في «الخصال» الطبع الحديث هكذا: عن سفيان بن وكيع، عن أبيه.
    3. «الخصال» الطبعة الحجريّة، ص ۸۷ و ۸۸. و في الطبعة الحروفيّة، مطبعة الصدوق، ص ۱۸٦ ورد هكذا: لِيَتَّخِذَهُ الضُّعَفَاءُ وَلِيجَةً.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

257
  • أوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أوْعَاهَا» و الذي هو أوّل الرواية، إلي آخر ما نقله الشيخ الصدوق في «الخصال». و أضاف لفظ «وَ رُواةُ كِتَابِهِ» بعد جملة «لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَ بَيِّنَاتُهُ». و أتي بهذه الجملة في الآخر:

  • «يَا كُمَيْلُ! اولَئِكَ امَناءُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَ خُلَفَاؤُهُ فِي أرْضِهِ، وَ سُرُجُهُ فِي بِلَادِهِ، و الدُّعَاةُ إلى دِينِهِ؛ وَا شَوْقَاهُ إلى رُؤيَتِهِمْ! أسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَ لَكَ».۱

  • رواية أبي إسحاق الثقفيّ في «الغارات» و الصدوق في ...

  • و قد أورد هذه الرواية الشيخ الأقدم أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد الثقفيّ الكوفيّ في كتاب «الغارات» ٢

  • و يرويها في هذا الكتاب إبراهيم بن محمّد الثقفيّ الكوفيّ، بإسناده عن محمّد، عن الحسن‌٢ عن أبي زكريا، عن رجل ثقة، عن كميل بن زياد، يعني ما نقلنا عن الصدوق في «الخصال». و مراده من الثقة الذي روي عن كميل إمّا فُضَيل بن خَدِيج بقرينة كون الروايات التي ينقلها عن كميل غالباً ينقلها بواسطة هذا الرجل، أو عبد الرحمن بن جُندب بقرينة سائر

    1. «تحف العقول»، طبع مكتبة الصدوق، ص ۱٦٩ إلي ۱۷۱.
    2. كتاب «الغارات» من نفائس كتب الشيعة التي يروي عنها كبار علمائنا في كتبهم و قد نقلت مطالب من ذلك الكتاب في كثير من كتب القدماء، لكنّ أصل الكتاب لم يكن في متناول اليد، و كانت نسخة نادرة إلي درجة ظنّ معها بعض المتتبّعين أنّها قد فقدت من الدنيا، و أنّ الذي وصل إلينا هو ما نقل عنه ممّا نقله أشخاص مثل المجلسيّ و آخرون عن «الغارات». و لكن و للّه الحمد و له الشكر تمّ الحصول علي هذا الكتاب قبل حوالي خمس و ثلاثين سنة من خلال التوصّل إلي نسخته الوحيدة في الدنيا في قصّة يطول شرحها، و من ثمّ طبع في مجلّدين، و هو الآن متوفّر. و هو كتاب نفيس و متقن جدّاً. و يمكن عدُّه من مفاخر الشيعة حقّاً. و من الأسانيد التي يستطيع الشيعة الاعتماد عليها، فمتنه و مضامينه معتبرة كلّها.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

258
  • الروايات التي نقلت هذا المتن عن كميل بن زياد. و سائر الروايات عن هذا الشخص. و الرجل الثقة لا يعدو هذين الشخصين، و كلاهما شخصان معتبران.

  • و كذلك ينقل هذه الرواية الشيخ المفيد في «الأمالي» في المجلس التاسع و العشرين.۱ و كذلك نقلها أبو نعيم الأصفهانيّ (جدّ المجلسيّ) في «حلية الأولياء».٢

  • و ينقل هذا الرواية جدّنا العلّامة محمّد باقر المجلسيّ رضوان الله عليه في «بحار الأنوار» في باب «أصناف الناسِ فِي العِلم وَ فَضلُ حُبِّ العُلَماء» عن «الخصال» و «تحف العقول» و «الغارات» و «نهج البلاغة» و يورد عليها شرحاً جيّداً و نافعاً، و يضيف في آخرها قوله:

  • «وَ إنَّمَا بَيّنّا هَذَا الْخَبَرَ قَلِيلًا مِنَ التَّبْيِينِ، لِكَثْرَةِ جَدْواهُ لِلطَّالِبِينَ، وَ يَنْبَغِي أنْ يَنْظُرُوا فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ بِنَظَرِ الْيَقِينِ، وَ سَنوضِحُ بَعْضَ فَوائِدِهِ فِي كِتَابِ «الإمَامَة» إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.٣

  • و يقع (كتاب الإمامة في المجلّد السابع من البحار) يقول المجلسيّ في باب «الاضطرار إلي الحجّة» بعد أن أورد كلام الصدوق في «إكمال الدين» بأسانيده المتعدّدة:

  • «قَدْ مَرَّ هَذَا الْخَبَرُ وَ أسانِيدُهُ فِي بَابِ فَضْلِ الْعِلْم» (و الذي هو في الأوّل من «بحار الأنوار»).

  • ثمّ يشير هنا إلي أنّه يوجد نظير هذه الرواية في «المحاسن» للبرقيّ‌

    1. «الأمالي» للمفيد، طبعة النجف، ص ۱٤٦.
    2. «حلية الأولياء» ج ۱، ص ۷٩ و ۸۰.
    3. «بحار الأنوار»، طبع كمپاني، ج ۱، ص ٥٩ إلي ٦۱.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

259
  • و «السرائر» لابن إدريس الحلّيّ. و أن هذان العظيمان قد نقلا هذه الرواية.۱

  • رواية «تحف العقول» و «أمالي المفيد» و «حلية الاولياء»

  • و عدا عن هذه المصادر التي ذكرناها أيضاً فإنّ الحافظ رجب البُرسيّ ينقل هذه الرواية في كتاب «مشارق أنوار اليقين»٢ و الغزاليّ في «إحياء العلوم»٣، و الشيخ الطوسيّ في «الأمالي»٤، و النعمانيّ في «الغيبة»٥، و الشيخ البهائيّ في «الأربعين» الحديث الثالث و الثلاثين‌٦، و اليعقوبيّ في «تاريخه»۷، و سبط بن الجوزيّ في «تذكرة الخواصّ»۸، و ابن عبد رَبّه الأندلسيّ في «العقد الفريد».٩

  • هذا من ناحية البحث في سند الرواية. و بناء علي التحقيق الذي بيّناه فقد ظهر أنّه لا يمكننا أن نجد سنداً أفضل من هذا السند، بل لو لم تكن جميع هذه الأسانيد التي ذكرتها لكم إلّا «نهج البلاغة» لكان كافياً، لأنّ «نهج البلاغة» من أكثر الكتب الشيعيّة اعتباراً. و للسيّد الرضيّ تغمَّده الله برحمته المنّة علي جميع الشيعة بسبب جمعه المنتخب من كلمات أمير المؤمنين عليه السلام. كما أنّ صدق و علم و دراية و جلالة و عظمة السيّد رضوان الله عليه هي في درجة يخضع له فيها الأجلّاء و الأعلام و يجلسون علي الأرض‌

    1. «بحار الأنوار» طبع الكمباني، ج ۷، ص ۱۰ و ۱۱. و في الطبعة الحروفيّة، ج ٣، من صفحة ٤٥ إلي ٤۸.
    2. طبعة بمبئي، ص ۱٤٦.
    3. ج ۱، ص ٤٣.
    4. الطبعة الحجريّة، ص ۱٣.
    5. المصدر السابق، ص ٤ و ۷.
    6. المصدر السابق، الصفحات غير مرقّمة، حديث ٣٦.
    7. طبعة بيروت، دار صادر- دار بيروت، ج ٢، ص ٢۰٥ و ٢۰٦.
    8. ۸- الطبعة الحروفيّة، مكتبة نينوى الحديثة، ص ۱٤۱ و ۱٤٢.
    9. طبعة مهر، ج ٢، ص ٢۱۱.

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

260
  • تأدّباً بين يديه، و يذكرون اسمه جميعاً مع الإجلال و التعظيم.

  • و «نهج البلاغة» الذي جُمِع بواسطة هذا الرجل العظيم له هذه الخصوصيّة. و لا محلّ للكلام في اعتباره.

  • و عدا عن «نهج البلاغة» مع هذه الأسانيد المختلفة التي بيّنّاها هنا عن أشخاص أمثال محمّد بن عليّ بن بابويه (الشيخ الصدوق) في «الخصال» و «إكمال الدين»، و ابن شُعبة الحرّانيّ في «تحف العقول»، و إبراهيم بن محمّد الثقفيّ في «الغارات»، و الشيخ المفيد في «الأمالي»، و أبو نعيم في «حلية الأولياء»، و العلّامة المجلسيّ في موضعين من «بحار الأنوار» و مع هؤلاء الأشخاص الذين ذكروا أخيراً، فإنّ هذه الرواية ستكون من ناحية السند في غاية الاتقان و لا يكون فيها أي موضع للشكّ.

  • و بعد أن بيّنّا هذا السند الممدوح و القويّ فلا نجد فيه مكاناً للبحث. بل يمكن القول إنّ هذه الرواية من الروايات التي رويت عن أمير المؤمنين عليه السلام بنحو استفاضة. عدا أنّ متنها يدلّ علي مباني رشيقة و معاني بديعة و حقائق عالية و دقائق سامية، ممّا لا يمكن أن تخطر أبداً علي قلب أحد إلّا من كان في معدن الولاية و علي دوحة الإمامة صلوات الله عليه.

  • و أمّا من ناحية الدلالة: فإنّ استفادتنا في مجال دلالة هذا الخبر علي ولاية الفقيه هو من تلك الجملات الأخيرة، حيث يقول عليه السلام.

  • "اللّهُمَّ بَلَى لَا تَخْلُو الأرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً". إلي أن يصل إلي قوله: "اولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أرْضِهِ، وَ الدُّعَاةُ إلَى دِينِهِ؛ آهِ آهِ! شَوْقاً إلَى رُؤيَتِهِم"‌.

  • لقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في صدر هذا الحديث «النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ رَبَّانِيّ، وَ متَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَ هَمَجٌ رعَاعٌ‌» و بعد إخراج الأصناف الأربعة من العلماء الذين يعتبرهم في الحقيقة من الهمج الرعاع،

ولاية‌ الفقيه‌ في‌ حكومة‌ الإسلام ج۱

261
  • و يري أنّ نقل علومه الشريفة إليهم ضياع، فإنّه يقوم بنقل صفات العلماء الربّانيّين فيقول: إنّما يحمل علومنا من كان يمتلك هذه الصفات: «اولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أرْضِهِ، وَ الدُّعَاةُ إلى دِينِهِ».

  • و بحسب رواية «تحف العقول»: «امَناءُ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَ سُرُجُهُ فِي بلادِهِ» حيث إنّه قد اضيفت إليها هاتان الجملتان أيضاً. فهؤلاء هم الدعاة إلي دين الله: «آهِ آهِ! شوْقاً إلى رؤيتهِم».

  • و جملة «اولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أرْضِهِ»: تدلّ علي منصب ولاية الفقيه أي أنّ هؤلاء خُلفَاء الله، فخليفة الله يعني المرآة الكاملة في إظهارها. فحيث استعمل لفظ «الخليفة» فإنّه يستفاد منه أيضاً جميع المناصب اللازمة للخليفة، كما أنّ أمير المؤمنين استعمل لفظ «الخليفة» في حقّ الأئمّة عليهم السلام.

  • «خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ» أو «خَلِيفَةُ اللهِ» معناها أنّ وجود ذاك الشخص بكامل المعني- كأنّه هو- خليفة الله علي الأرض، أي الله الذي يريد حكم الأرض و هداية الناس إلي طريق السعادة و إيصالهم إلي الجنّة و حفظهم من المهلكات و من شرّ الشيطان، و اطلاعهم علي المنجيات و المهلكات، و إبعادهم عن المفاسد. فاولئك الأشخاص الذين هم خلفاء الله في الأرض و الأدلّاء علي الله هم أيضاً أشخاص يمتلكون هذه الصفات، و هذا الكلمة تدلّ علي ولايتهم.

  • و هذه الفقرات لا تختصّ بالإمام المعصوم فحسب، و إنّما تشمل سائر العلماء الربّانيّين في أي زمان كانوا أيضاً. و هذا دليل قويّ علي ولاية الفقيه.

  •  

  • اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آل مُحَمَّد