المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم الاخلاق والحکمة والعرفان
التوضيح
أصل هذه الرسالة اُسّ ومخّ أوّل دورة من الدروس الأخلاقية والعرفانية للعلاّمة المفسّر والحكيم العارف آية الله العظمى الطباطبائي قدّس سرّه في الحوزة العلمية في قم، وقد دونت من قبل سماحة العلاّمة آية الله مُدّ ظلّه بعنوان تقريرات، ثم طُبعت مع تنقيحات وإضافات لسماحته.
وقد جرى في هذا الكتاب ذكر كيفيّة السير والسلوك إلى الله بشكل إجمالي وتفصيلي، وشرح تفصيلي للعوالم المتقدمة على عالم الخلوص، وطرح مباحث من قبيل الشرائط اللازمة للسلوك، مراتب المراقبة، لزوم الاُستاذ، والطرق المختلفة لنفي الخواطر، وذلك بأسلوبٍ جامع وجميل.
مُقدَمةُ المؤلِّفْ
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و الصلاة و السلام على خاتم النبيّين محمّد المصطفى، و وصيّه المنتجب صاحب الولاية الكبرى عليّ المرتضى، و أبنائه الأئمّة الطاهرين، سيّما بقيّة الله في الأرض و السماء الحجّة بن الحسن العسكريّ، أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.
إنَّ حسّ الانجذاب نحو الدين و رغبة الاندفاع نحو عوالم الغيب و كشف أسرار ماوراء الطبيعة يعتبر جزءاً من الغرائز الطبيعيّة للبشر، و يمكن عدّ هذه الغريزة ناشئة عن جاذبة حضرة الربّ الودود الذي يجذب عالم الإمكان و بالأخصّ الإنسان الأشرف إلى مقامه المطلق اللامتناهي. و مغناطيس الروح هو روح الروح الذي يعبّرون عنه بالأرواح و حقيقة الحقائق، و الأصل القديم، و منبع الجمال، و مبدأ الوجود و غاية الكمال.
الكُلُّ عِبَارةٌ و أنتَ المعْنَى | *** | يَا مَنْ هُوَ لِلقُلُوبِ مِغْنَاطِيسُ۱ |
هذه الجذبة المغناطيسيّة الحقيقيّة التي تكون نتيجتها و أثرها تحطيم قيود الطبيعة، و الحدود الأنفسيّة، و الاتّجاه نحو عالم التجرّد و الإطلاق، و أخيراً الفناء في الفعل و الاسم و الصفة و الذات المقدّسة لمبدأ المبادئ و غاية الغايات، و بقاء الموجود ببقاء المعبود، هذه الجذبة هي أعلى و أرقى من كلّ عمل يمكن تصوّره.
جَذْبَةٌ مِنْ جَذَبَاتِ الرَّحْمَنِ تُوازِي عِبَادَةَ الثَّقَلَيْنِ.٢
فالإنسان من أعماق ذاته و فطرته يدرك تحرّكه نحو كعبة المقصود و قبلة المعبود، و يسافر بقوّة الغريزة و الفطرة الإلهيّة و يتّجه بكلّ وجوده نحو هذا الهدف، و لذا فعلى جميع أعضائه و جوارحه أن تشترك معاً في هذا السفر.
فعالم الجسم و المادّة الذي هو طبعه، و عالم الذهن و المثال الذي هو برزخه، و عالم العقل و النفس الذي هو حقيقته، كلّ هذه
الامور، يجب أن تكون حاضرة في هذا السفر و تشارك فيه.
يجب أن تكون وجهة البدن عند الصلاة نحو الكعبة في الركوع و السجود و سائر الأفعال، و الذهن مصوناً من الخواطر و متّجهاً نحو سدرة المنتهى، و الروح مستغرقة في أنوار حريم الحرم الإلهيّ، تذوب و تنصهر داخل حرم الحضرة الأحديّة الآمنة.
و من هنا يتبيّن أنَّ هؤلاء الذين اهتمّوا بالظاهر، و اكتفوا من العبادات و الأعمال الحسنة بالأفعال الشكليّة، و اقتنعوا بالقشور بدلًا من اللُّبّ و الجوهر، كم هم بعيدون -كلّ البعد -عن كعبة المقصود و كم هم محرومون من جماله و لقائه.
و كذلك الذين ارتكز جهدهم على المعاني تاركين الأعمال الحسنة و العبادات الشرعيّة بعيدون عن متن الواقع، و قد اقتنعوا بالمجاز و الوهم بدلًا من الحقيقة.
أ وَ ليس نور الله سارياً في تمام مظاهر عوالم الإمكان و جارٍ فيها؟! فلماذا إذَن نعفي البدن من العبادة و نعطّل هذا العالم الجزئيّ من تجلّي الأنوار الإلهيّة، و نكتفي بألفاظ الوصول و اللّبّ و القلب و العبادة القلبيّة؟ أليست هذه عبادة من جانب واحد؟
أمَّا النَّمَطُ الأوْسَطُ و الامَّةُ الوَسَط، فهم اولئك الذين جمعوا بين الظاهر و الباطن، و حملوا جميع درجات و مراتب وجودهم
على العبادة و الانقياد لحضرة المحبوب، و تجهّزوا لهذا السفر الملكوتيّ.
فجعلوا الظاهر عنواناً للباطن، و الباطن روحاً و حقيقة للظاهر و مزجوا كليهما معاً كما يمتزج الحليب و السكّر، فمرادهم من الظاهر الوصول إلى الباطن و قد عدّوا الباطن بدون الظاهر هباءً منثوراً.
اللهمَّ نَوِّرْ ظَاهِرِي بِطَاعَتِكَ، وَ بَاطِنِي بِمَحَبَّتِكَ، و قَلْبِي بِمَعْرِفَتِكَ، وَ رُوحِي بِمُشَاهَدَتِكَ، وَ سِرِّي بِاسْتِقْلَالِ اتِّصَالِ حَضْرَتِكَ، يَا ذَ االجلَالِ وَ الإكْرَامِ.۱
و من هنا يتّضح أنَّ الإقتصار على العلوم الإلهيّة و الذهنيّة و الفكريّة، كتعلم الفلسفة و تعليمها من أجل تكامل النفس و طيّ مدارج و معارج الكمال الإنسانيّ لن يكون كافياً بأيّ وجه من الوجوه. فترتيب القياس و البرهان على أساس المنطق الصحيح و المقدّمات السليمة يُعطى الذهن نتيجة مقنعة، ولكنّه لا يُشبع
الروح و القلب، و لا يُروي النفس من عطش الوصول إلى الحقائق و شهود دقائق السير.
فالفلسفة و الحكمة و إن كانت تتمتّع بالأصالة و المتانة، و تقوم على إثبات أشرف العلوم الذهنيّة و الفكريّة -ألَا و هو التوحيد- على أساس البرهان، و تسدّ الطريق أمام الشكوك و الشبهات، و على هذا الأساس كذلك أمر القرآن الكريم و الراسخون في العلم عليهم الصلاة و السلام بالتعقّل و التفكّر و ترتيب القياس و البرهان و المقدّمات الاستدلاليّة، ولكنّ الاكتفاء بالتوحيد الفلسفيّ و البرهان في مدرسة الإستدلال، دون انقياد القلب و وجدان الضمير و شهود الباطن هو أمر ناقص.
فتجويع القلب و الباطن من الأغذية الروحيّة و المعنويّة لعالم الغيب و الأنوار الملكوتيّة الجماليّة و الجلاليّة، و الاكتفاء بالسير في بواطن الكتب و المكتبات و الدرس و التدريس، و حتّى إذا بلغ أعلى درجاته، ليس إلّا إشباع لعضوٍ من الأعضاء و تجويع لعضوٍ أعلى و أرفع.
فالدين القويم و الصراط المستقيم يُراعى كلا الجانبين، و يُكمل القوي و القابليّات الكامنة في الإنسان في الحالين.
فهو -من جانب- يحثّ و يُرَغِّبُ بالتعقّل و التفكّر، و من
جانب آخر يأمر بالإخلاص و تطهير القلب من صدأ الرواسب الشهوانيّة، و تهدئة القلب و طمأنة و تسكين الخاطر. فبعد أحد عشر قَسَماً عظيماً و جليلًا يقول تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها۱.
انظر إلى هذه الآيات القرآنيّة الكريمة التي تخاطب روح الإنسان، و تتكلم مع باطنه، كيف تدعو المفكّرين و المدرّسين و أساتذة الفلسفة و الاستدلال إلى التعبّد و المراقبة و محاسبة النفس للإخلاص في العمل من أجل رضا الله، كما جاء على لسان رسول الله صلّى الله عليه و آله: مَنْ أخْلَصَ لِله أرْبَعِينَ صَبَاحَاً ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ إلَى لِسَانِهِ٢، فينابيع المعارف
الإلهيّة من قلوبهم متفجّرة، و على ألسنتهم سارية، و قد انبعث السيل الجارف من الأفكار و الإلهامات و الواردات الرحمانيّة من عمق وجودهم. و قد حصل مثل هذا الإنجذاب نحو العبوديّة و العبادة و تطهير الباطن و التزكية لفخر فلاسفة الشرق بل فلاسفة العالم، صدر المتألهين الشيرازيّ بعد قضاء عمره في الحكمة المتعالية إلى درجة أنه كتب بقلمه:
«و إنِّي لأستَغفِرُ الله كثيراً ممَّا ضَيَّعتُ شَطْراً من عُمري في تَتَبُّعِ آراءِ المتَفَلسِفةِ و المجادِلينَ من أهلِ الكلامِ و تدقيقاتِهِم و تَعَلم جُرْبُزَتِهِم في القولِ و تفنُّنِهم في البحثِ حتَّى تَبَيَّنَ لي آخِرَ الأمرِ بنورِ الإيمانِ و تأييدِ الله المنَّانِ أنَّ قياسَهُم عقيمٌ و صراطَهُم غيرُ مستقيم؛ فألْقَينا زِمامَ أمرِنا إليه و إلى رسوله النَّذيرِ، فكلُّ ما بَلَغَنا منهُ آمَنَّا به و صَدَّقناهُ و لم نَحْتَلْ أنْ نُخَيِّلَ له وجْهاً عقليَّاً و مسلكاً بحثيَّاً، بلِ اقْتَدَينا بِهُداهُ و انْتَهَينا بِنَهْيِهِ امْتِثالًا لقوله تعالى: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، حتَّى فتحَ الله على قلبِنا ما فَتَح فَأفْلَحَ ببركةِ متابعتِه و أنجحَ۱.
و يجب أن نذكر آية الحقّ المولى حسين قلي الهمدانيّ أفضل و أعلى فقيه صمدانيّ و حكيم إلهيّ و عارف ربّانيّ في بداية القرن الماضي.
هذا الفقيه الكبير و المفكّر الجليل و الفيلسوف البارز القدير الذي حصّل جميع هذه العلوم الحقّة في ظلّ علم العرفان و تهذيب النفس، و أدغمها جميعاً في أنوار الوجه الإلهيّ، و عيّن مرتبة كلّ علم في مكانه و موقعه، و جعل المقصود الأسمي هو الوصول إلى حرم الله الآمن، هذا العارف قد ربّي تلامذة، و قدّمهم إلى مدرسة العرفان، فكان كلّ واحد منهم نجماً في سماء الفضيلة و التوحيد، فأضاؤوا عالماً و سطعوا في سمائه على مدّ شعاع البصر و البصيرة. و من جملتهم العارف الربّانيّ السيّد أحمد الطهرانيّ الكربلائيّ، و تلميذه فخر الفقهاء و جمال العرفاء الحاجّ الميرزا على القاضي أعلى الله مقامهما الشريف.
ثمّ إنَّ استاذنا فخر المفسّرين و سند المحقّقين العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ مدّ الله ظلاله الوارفة، مع أنه قد سار في بداية حياته بجناحي العلم و العمل، و طوى الطريق في مدرستي الفلسفة و العرفان عند المرحوم القاضي، و أفنى عمره في القياس و البرهان و الخطابة و تقوية العلوم الفكريّة من «الإشارات»
و «الأسفار» و «الشفاء» و حواشيها، مع الاشتغال الكامل بالخلوات الباطنيّة و الأسرار الإلهيّة و المراقبات العرفانيّة، قد استقرّت راحلته أخيراً على عتبة القرآن المقدّس، فانتهل من فيض الآيات القرآنيّة إلى درجة أصبح البحث و التفكير و القراءة و التمعّن و التفسير و تحليل و تأويل الآيات القرآنيّة عنده أعلى من كلّ ذكر و فكر، و التدبّر فيها ألذّ من كلّ قياس و برهان، و كأنه لا يملك شيئاً سوى التعبّد المحض لمقام صاحب الشريعة الغرّاء و أوصيائه المكرّمين.
و هذا صديقي المكرّم و سيّدي المعزّز الأشفق الأخ المرحوم آية الله الشيخ مرتضى المطهّريّ رضوان الله عليه الذي تمتدّ معرفتي به إلى أكثر من خمس و ثلاثين سنة قد اكتشف بعد سنوات من البحث و الدرس و التدريس و الكتابة و الخطابة و الموعظة و التحقيق و التدقيق في الامور الفلسفيّة بذهنه الوقّاد و نفسه النفّادة أنَّ الإنسان لا يمكنه أن يُحصِّل اطمئنان الخاطر و تهدئة السرّ دون الاتّصال بالباطن و الارتباط بالله المنّان و إرواء القلب من منبع الفيوضات الربّانيّة، و بدونه لا يمكنه أبداً أن يدخل حرم الله المطهّر أو يطوف حوله و يصل إلى كعبة المقصود.
فتقدّم إلى هذا الميدان كالشمعة المحترقة الذائبة، و الفراشة الهائمة حول السراج، كمؤمن رساليّ عاشق ولهان قد فُني في البحر
اللامتناهي لذات المعبود و صفاته و أسمائه، فاتّسع وجوده بسعة وجود الله تعالى.
فقيام الليالي الحالكة و البكاء و المناجاة في خلوة الأسحار، و التوغّل في الذكر و الفكر و الممارسة في دراسة القرآن و الابتعاد عن أهل الدنيا و الاتّصال بأهل الله و أوليائه، كلّ هذا كان مشهوداً في سيره و سلوكه رحمة الله عليه رحمةً واسعةً.
لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ۱؛ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ٢.
و قد طُلب قبل مدّة من هذا الحقير أن يكتب شيئاً في ذكرى شهادته، و أنا الفقير الذي أرى نفسي غير لائق حقّاً، لذلك اعتذرت أوّل الأمر لكثرة المشاغل و تراكم الأعمال.
و أخيراً و بعد المراجعة المتكرّرة أعطتني روح هذا الصديق العزيز الغالي مدداً لُاحرِّر هذا المختصر بعنوان مقدّمة لرسالة كتبتها في السير و السلوك، و أهديتها لروح المرحوم، و جعلتها في متناول أيدي طالبي الحقّ و سالكي سبل السلام و طريق الحقيقة. بِيَدِهِ أزِمَّةُ الامُورِ وَ بِهِ أسْتَعِينُ.
و أصل هذه الرسالة اسّ و مخّ أوّل دورة من الدروس الأخلاقيّة و العرفانيّة التي ألقاها استاذنا المعظّم العلّامة الطباطبائيّ روحي فداه في سنتي ألف و ثلاثمائة و ثمان و ستّين، و تسع و ستّين هجريّة قمريّة في حوزة قم المقدّسة على بعض الطلبة فحرّرتها كتقريرات لدروسه، و كنت أعتبر أنَّ قراءتها و المرور عليها في أوقات الشدّة و الكدورة و التعب موجب لتنوير الروح و تلطيف النفس.
فهذه دورة مررت عليها بالتنقيحات و الإضافات أهدي ثوابها إلى روح الفقيد السعيد المطهّريّ أعلى الله مقامه الشريف.
اللهمَّ احْشُرْهُ مَعَ أوْلِيَائِكَ المقَرَّبِينَ، وَ اخْلُف عَلَى عَقِبِهِ في الغَابِرِينَ وَ اجْعَله مِنْ رُفَقَاءِ محمّد وَ آله الطَّاهِرِينَ، وَ ارْحَمْهُ و إيَّانَا بِرَحْمَتِكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
الفصل الأول: المعْرِفَةُ الإجْمَاليَّةُ والبَرنامجُ الكلُّيّ لِلْسُلُوكِ إلَى الله
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَ صَلَّى الله عَلَى محمّد وَ آله الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ الله عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعِينَ
و بعدُ؛ قالَ الله العَلِيّ العَظِيمُ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ.۱
چه مبارك سحري بود و چه فرخنده شبي | *** | آن شب قدر كه اين تازه براتم دادند٢ |
بي خود از شعشعهء پرتو ذاتم كردند | *** | باده از جام تجلّيّ صفاتم دادند۱ |
يعيش الإنسان المادّيّ في صحراء المادّيّة المظلمة غارقاً في بحر الشهوات و الكثرات اللامتناهية، و وسط أمواج العلائق المادّيّة التي تتقاذفه من كلّ جانب و في كلّ آن، فما أن يفيق من لطمات الأمواج و صدماتها حتّى تأتي أمواجٌ أعتى و قد نبعت من التعلّق بالمال و الثروة و النساء و الأولاد، فتصفعه الأمواج على وجهه صفعات متوالية حتّى يغوص في قعرها، و يغرق في ذلك اليَمّ العميق المهول بحيث لن تسمع بعد ذلك استغاثاته و صرخاته للنجدة.
لا يلتفت إلى جهة إلّا و وجد الحرمان و الحسرة اللتين هما من الآثار و اللوازم التي لا تفارق المادّة القابلة للفساد تهدّدانهو ترعبانه.
السير و السلوك في اصطلاح العرفاء
و في هذا الخضم قد يلاطفه نسيم عليل باسم الجذبة، و يجد و كأنَّ هذا النسيم العطوف الودود يسحبه جانباً و يسوقه إلى مقصد ما، إلّا أنَّ هذا النسيم لا يدوم هبوبه، فهو يهبّ من حين إلى آخر.
وَ إنَّ لِرَبِّكُمْ في أيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ ألَا فَتَعَرَّضُوا لها وَ لَا تُعْرِضُوا عَنْهَا.۱
في هذه الحال يهمّ السالك بالسفر إلى الله، و يقرّر تبعاً لتأثير هذه الجذبة الإلهيّة أن يعبر عالم الكثرة، و يشدّ بكلّ ما يمكنه عنان السفر ليخلّص نفسه من هذه الغوغائيّة المليئة بالآلام و الاضطرابات، و يُسمّى هذا السفر في اصطلاح العارفين و عرفهم بالسير و السلوك.
فالسلوك هو طيّ الطريق، و السير هو مشاهدة آثار و خصائص المنازل و المراحل أثناء ذلك الطريق.
و زادُ هذا السفر الروحانيّ هو المجاهدة و الرياضة النفسانيّة و لأنَّ قطع علائق المادّة صعب جدّاً، يتمّ التخلّص من وشائج عالم الكثرة بالتدريج حتّى يتمّ السفر من عالم الطبع.
مزاحمة عالم الخيال و البرزخ للسالك
و لا ينفض السالك عن نفسه غبار الطريق حتّى يدخل عالم البرزخ الذي هو الكثرة النفسيّة، فيشاهد هنا بوضوح كم أودعت المادّة و الكثرات الخارجيّة من ذخائر داخل بيت طبعه، و هي تلك الموجودات الخياليّة النفسانيّة التي نشأت من التعامل و الاحتكاك
بالكثرات الخارجيّة، و صارت جزءاً من آثارها و ثمارها و مواليدها.
و هذه الخيالات تقف مانعاً و عائقاً من سفره، و سبباً لافتقاده للهدوء و السكينة، فلا يختلي السالك بنفسه مناجياً الله تعالى إلّا و هجمت عليه فجأة كالسيل الهادر قاصدة إهلاكه.
جان همه روز از لگد كوب خيال | *** | وز زيان و سود و از بيم زوال |
ني صفا ميماندش ني لطف و فرّ | *** | ني به سوي آسمان راه سفر۱ |
و بديهيّ أنَّ الصدمة و العذاب الناشئين من الكثرات النفسيّة أقوى منهما في الكثرات الخارجيّة، فكم من إنسان استطاع بإرادته أن يبتعد عن مقابلة الكثرات الخارجيّة بالعزلة، ولكنّه بهذه الوسيلة لم يتمكن من أن يتخلّص من عذاب و صدمة الخيالات النفسيّة، لأنّها قرينته و مجاورة له على الدوام.
إن المسافر في طريق الله و الخلوص و العبوديّة الحقّة لا يخاف من هؤلاء الأعداء؛ فهو يشمّر ساعد الهمّة مستعيناً بتلك النغمة القدسيّة ليتقدّم نحو المقصد و يخرج من عالم الخيالات المسمّىبـ «البرزخ». و يجب أن يكون السالك حذراً جدّاً و متيقّظاً حتّى لا يبقى شيء من هذه الخيالات في زوايا بيت القلب، لأنَّ دأب هذه الموجودات الخياليّة أن تخبّئ نفسها عندما يُراد إخراجها في زاوية مظلمة من زوايا القلب بحيث يظنّ السالك المنخدع أنه قد تخلّص من شرّها، و لم يبقَ فيه شيء من بقايا عالم البرزخ، ولكن ما أن يجد المسافر طريقه إلى نبع الحياة يريد أن يرتوي من عيون الحكمة حتّى تنصبّ عليه فجأة، شاهرة سيف القهر و الجفاء فتقضي عليه.
مَثَلُ هذا السالك مَثَلُ من يصبّ الماء في حوض بيته، و يتركه مدّة لا يلمسه حتّى تترسّب كلّ الأوساخ فيظهر الماء في الحوض صافياً فيظنّ أنَّ هذا الصفاء و هذه الطهارة الحاصلة دائمة، ولكن بمجرّد إرادته الغوص أو تطهير شيء بالحوض تعود تلك الأوساخ لتلوّث هذا الماء الصافي و تظهر على سطحه بشكل قطع سوداء. فينبغي للسالك أن يستمرّ بالمجاهدة و الرياضة إلى أن يحصل على هدوء البال و استقرار الخاطر حتّى تترسّب آثار الخيال
في ذهنه و تتحجّر و لا تستطيع أن تقوم مجدّداً لتشوّش ذهنه حين التوجّه إلى المعبود.
و حينما يعبر السالك من عالم الطبع و البرزخ إلى عالم الروح يطوي عدّة مراحل سوف نتحدّث عنها إن شاء الله تعالى بالتفصيل.
آخِر مرحلة السلوك الفناء في الذات الأحديّة
و إجمالًا، فإنَّ السالك بعد أن يوفّق لمشاهدة نفسه و الصفات و الأسماء الإلهيّة شيئاً فشيئاً يصل إلى مرحلة الفناء الكلّيّ، ثمّ يصل بعدها إلى مقام البقاء بالمعبود، و عندها تثبت له الحياة الأبديّة.
هرگز نميرد آنكه دلش زنده شد به عشق | *** | ثبت است در جريدة عالم دوام ما۱ |
و بالتأمّل و التدبّر في الآيات القرآنيّة الكريمة يُصبح هذا الأصل أمراً مسلماً، و حاصله أنَّ الله تعالى يقول في إحدى آياته الكريمة:
وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.۱
و يقول في مكان آخر:
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.٢
و أيضاً:
ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ.٣
بضمّ هذه الآيات بعضها إلى بعض، يتّضح أنَّ اولئك الأحياء و المرزوقين هم عبارة عن وجه الله الذي -بنصّ الآية الكريمة- لا يعرف الفناء و الزوال.
و من جانب آخر يُعلم من الآيات القرآنيّة الاخرى، أنَّ المراد من وجه الله تعالى و الذي لا يقبل الزوال هو تلك الأسماء الإلهيّة.
و بيان ذلك: أنه قد فسّر في آية اخرى وجه الله الذي لا يزول و لا يفنى بأسمائه تعالى التي تترتّب عليها صفات العزّة و الجلال:
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ٤.
فقد اتّفق المفسّرون على أنَّ كلمة «ذو» صفة لـ «وجه» أي أنَّ وجه ربّك الذي هو وجه الجلال و الإكرام باقٍ، و كما نعلم فإنَّ وجه كلّ شيء هو ما تحصل المواجهة به، فوجه أي شيء مظهر له، و المظاهر هي تلك الأسماء الإلهيّة التي يواجه الله مخلوقاته بها و النتيجة أنَّ كلّ الموجودات قابلة للزوال و الفناء إلّا الأسماء الجلاليّة و الجماليّة، و هكذا يُعلم أنَّ السالكين إلى الله الذين وصلوا إلى فيض سعادة بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ هم عبارة عن الأسماء الجلاليّة لحضرة الربّ جلّ و عزّ.
و يُعلم أيضاً بوضوح مراد الأئمّة الأطهار عليهم السلام من قولهم: نَحْنُ أسْمَاءُ الله۱، و ليس المقام الذي يصفون أنفسهم به هو مقام الحكومة الظاهريّة الاجتماعيّة، و تولّي الامور الشرعيّة و الأحكام الإلهيّة الظاهريّة. بل المراد ذلك الفناء في الذات الأحديّة الذي يتلازم مع وجه الله و صيرورته مظهراً تامّاً للصفات الجماليّة و الجلاليّة الذي لا يقارن بأيّ منصب و مقام.
و في طريق السير تكون المراقَبَة من أهمّ الامور و هي في حكم ضرورة من ضروريّاته.
فينبغي للسالك أن لا يخلي نفسه دون مراقبتها منذ أن يضع قدمه الاولى في الطريق و حتّى آخره، فهي من الضرورات المؤكّدة. و ليعلم أنَّ المراقبة درجات و مراتب، فمنها ما يناسب المراحل الأوّليّة، و منها ما يناسب المراحل التي تليها. فكلما سار نحو الكمال و طوى المراحل و المنازل أصبحت مراقبته أدقّ و أعمق بحيث لو حُمّلت تلك الدرجات من المراقبة على السالك المبتدئ لن يستطيع القيام بها، بل يترك السلوك فوراً و يهجره أو يحترق و يهلك، ولكن شيئاً فشيئاً على أثر المراقبة في الدرجات الأوّليّة و التقوى في السلوك يمكنه أن يصل إلى المراتب العالية من المراقبة في المراحل التالية، و عندها فإنَّ الكثير من المباحات التي كانت له في المراحل الأوّليّة تصبح حراماً و ممنوعة عليه.
آثار المراقبة في وجود السالك
و على أثر المراقبة الشديدة و الاهتمام بها تسطع أنوار الحبّ و العشق في ضمير السالك؛ لأنَّ حبّ الجمال و الكمال لدى الإنسان أمر فطريّ على الإطلاق، و قد خمر في جبلّته و اودع في ذاته، إلّا أنَّ حبّ المادّة و التعلّق بالكثرات يصبح حجاباً للعشق الفطريّ فلا يدع هذا النور الأزليّ يظهر فيه.
و بالمراقبة تضعف هذه الحجب شيئاً فشيئاً إلى أن تزول في النهاية، فيظهر ذلك الحبّ و العشق الفطريّ ليقود الإنسان إلى مبدأ
الجمال و الكمال. و يعبّر عن هذه المراقبة في اصطلاح العارفينبـ «المدام» (أو الخمر).
به پير ميكده گفتم كه چيست راه نجات | *** | بخواست جام «مي» و گفت راز پوشيدن۱ |
راه خلوتگه خاصَم بنما تا پس از اين | *** | «مي» خورم با تو و ديگر غم دنيا نخورم٢ |
عندما يواظب السالك على المراقبة، يُظهر الله سبحانه تعالى عليه من باب العطف و الرأفة أنواراً بعنوان الطلائع، في بداية الأمر تظهر هذه الأنوار مثل البرق لتختفي فجأة، ثمّ تقوى شيئاً فشيئاً حتّى تصبح مثل النجمة الصغيرة المتلألئة، ثمّ تقوى لتصبح مثل القمر، و بعدها تظهر كالشمس الساطعة، و أحياناً مثل ضوء
مصباح أو قنديل مشتعل. و هذه الأنوار تُسمّى في اصطلاح العارفينبـ «النوم العرفانيّ»، و هي من قبيل الموجودات البرزخيّة.
مشاهدة السالك نفسه في مختلف مراحل التجرّد
و حينما يترقّى السالك في مراتب المراقبة لتكتمل عنده مراحلها تُصبح هذه الأنوار أقوى، فيرى السالك كلّ السماء و الأرض شرقاً و غرباً دفعة واحدة مضيئة مشرقة، هذا النور هو نور النفس الذي يسطع حين العبور من عالم البرزخ. لكن في المراحل الاولى للعبور عند ابتداء ظهور التجلّيات النفسيّة يشاهد السالك نفسه بصورة مادّيّة، و بعبارة اخرى قد يلاحظ نفسه و كأنّها واقفة أمامه، و هذه المرحلة هي مرحلة ابتداء التجرّد.
يقول المرحوم الاستاذ العلّامة القاضي رضوان الله عليه: «خرجت من غرفتي يوماً متخطّياً ممرّ البيت، فرأيت نفسي واقفة بسكون إلى جانبي، فنظرت إليها بدقّة متناهية فرأيت في وجهي خالًا لم الحظه من قبل، و عندما دخلت إلى الغرفة و نظرت في المرآة، رأيت فعلًا أنه كان يوجد في وجهي خال. و لم أكن حتّى ذلك الوقت ملتفتاً إليه».
و أحياناً يشعر السالك أنه قد أضاع نفسه، و مهما بحث عنها لا يستطيع العثور عليها، و يقال إنَّ هذه المشاهدات تقع في المراحل الابتدائيّة لتجرّد النفس، و هذه (المراحل) مقيّدة بالزمان
و المكان، و فيما بعد -و ببركة التوفيقات الإلهيّة- يستطيع السالك أن يرى حقيقة نفسه بتجرّدها التامّ و الكامل.
و ينقل عن المرحوم الحاجّ الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ رضوان الله عليه، الذي كان تلميذاً ملازماً لُاستاذ العرفان و التوحيد المرحوم المولى حسين قلي الهمدانيّ رضوان الله عليه مدّة أربع عشرة سنة، أنه قال:
«ذات يوم قال لي الاستاذ: أوكَلْتُ مهمّة تربية التلميذ الفلانيّ إليك، و كان ذلك التلميذ يملك همّة عالية و عزماً راسخاً، فقضى ستّ سنوات في المراقبة و المجاهدة حتّى وصل إلى مقام القابليّة المحضة للإدراك و تجرّد النفس، فأردتُ أن ينال هذا السالك طريق السعادة و هذا الفيض على يد الاستاذ و يكتسي بهذه الخلعة الإلهيّة، فأحضرته إلى بيت الاستاذ، و بعد عرض الأمر عليه قال الاستاذ: ليس هذا بشيء، ثمّ أشار بيده و قال: التجرّد مثل هذا فقال ذلك التلميذ: رأيت أنني فصلت عن جسدي فوراً، و شاهدت إلى جانبي موجوداً مثلي».
و ليعلم أنَّ شهود الموجودات البرزخيّة ليس له ذلك القدر من الشرافة، بل الشرافة في رؤية النفس في عين التجرّد التامّ و الكامل؛ لأنَّ النفس في هذه الحال تسطع بتمام حقيقتها المجرّدة
فتُشاهد بصورة موجودة لم يحدّها زمان و لا مكان، بل تحيط بمشرق العالم و مغربه، و هذا الشهود -على خلاف شهود المراحل الاولى- ليس جزئيّاً، و إنما هو من قبيل إدراك المعاني الكلّيّة.
نُقِلَ عن المرحوم السيّد أحمد الكربلائيّ رضوان الله عليه الذي كان من تلامذة المرحوم الهمدانيّ البارزين، أنه قال:
«كنت ذات يوم أستريح في مكان ما، فأيقظني شخص و قال: إذا أردت أن تشاهد نور الأسفهبديّة فقم من مكانك، و عندما فتحت عيني رأيت نوراً ليس له حدّ أو حدود، يحيط بمشرق العالم و مغربه». اللهمَّ ارْزُقْنَا. و هذه هي مرحلة تجلّي النفس التي تشاهد بتلك الصورة على هيئة نور غير محدود.
و بعد عبور هذه المرحلة يوفّق السالك السعيد -على إثر الاهتمام بالمراقبة المتناسبة مع العوالم العلويّة و مقتضيات تلك المنازل و المراحل- لمشاهدة صفات الباري تعالى، أو إدراك أسماء الذات المقدّسة بنحو كلّيّ. و كم يحدث في هذه الحال أن ينتبه السالك فجأة إلى أنَّ جميع موجودات هذا العالم هي علم واحد، أو أنّه لا يوجد أبداً غير قدرة واحدة؛ هذا في مرحلة شهود الصفات، أمّا في مرحلة شهود الأسماء و التي هي أرفع درجة منها، يُلاحِظ السالك أنَّ الموجود في كلّ العوالم، عالم واحد و قادر واحد
و حيّ واحد.
و ممّا لا شكّ فيه أنَّ هذه المرحلة هي أشرف و أكمل من مرحلة إدراك الصفات التي توجد في مرتبة القلب؛ «لأنَّ السَّالِكَ يُصْبِحُ وَ لَا يَرَى قَادِراً وَ لَا عَالماً وَ لَا حَيَّاً سِوَى الله تَعَالَى». و هذا الشهود غالباً ما يظهر في حال تلاوة القرآن. فكثيراً ما يتسنّى للقارئ أن لا يرى نفسه قارئاً، بل إنَّ القارئ شخص آخر، و قد يدرك أحياناً أنَّ المستمع أيضاً كان شخصاً آخر.
و اعلم أنَّ لقراءة القرآن في حصول هذا الأمر تأثيراً كبيراً جدّاً، و يحسن أن يقرأ السالك حين الاشتغال بصلاة الليل سور العزائم؛ لأنَّ السجود لله فجأة من حال القيام لا يخلو من اللطف. و قد ثبت بالتجربة أنَّ قراءة السورة المباركة «ص» في ركعة الوتر من صلاة الليل ليلة الجمعة مؤثّر جدّاً، و فائدة هذه السورة تُعلم من الرواية التي وردت بشأن ثوابها.
و حين يطوي السالك هذه المراحل بالتوفيق الإلهيّ، و يوفّق للمشاهدات القدسيّة، سوف تحيط به الجذبات الإلهيّة لتقرّبه في كلّ آن إلى الفناء الحقيقيّ، إلى أن تحيط به أخيراً الجذبة التي تجعله متوجّهاً إلى الجمال و الكمال المطلق، فيشتعل وجوده الخاصّ و كلّ عالم الوجود في عينيه بأنوار الطلعة البهيّة للمعشوق،
فلا يرى أثراً لسواه، كَانَ الله وَ لم يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ.۱
في هذه الحال يتخطّى السالك وادي الهجران ليستغرق في بحر مشاهدات الذات الربوبيّة اللامتناهي.
و لا يخفى أنَّ سير السالك و سلوكه لا يتنافى مع وجوده في عالم المادّة، فإنَّ بساط الكثرة الخارجيّة يبقى على حاله، ليحيا السالك في الوحدة مع عين الكثرة. قال أحدهم: بقيت بين الناس ثلاثين عاماً كانوا يظنّونني معهم و مراوداً لهم، و الحال أنني خلال تلك المدّة لم أكن أعرف و لا أرى منهم أحداً سوى الله.
«الحال» شهود النفس و «البقاء بالمعبود» بعد الفناء الكلّيّ
هذه الحالة مهمّة جدّاً، و تحوز على أهمّيّة عظيمة، فمن الممكن أن تظهر في البداية و للحظة واحدة، ولكن شيئاً فشيئاً تشتدّ لِتَصِلَ إلى عشر دقائق أو أكثر، ثمّ ساعة أو أكثر، لتنتقل بعدها بالعناية الإلهيّة من الحال العابر إلى المقام.
و يُعبّر عن هذه الحالة في الأخبار و على لسان العظماءبـ البقاء بالمعبود، و لا يمكن الوصول إلى هذه المرتبة من الكمال إلّا بعد حصول الفناء الكلّيّ لعالم الإمكان في حقيقة الوجود الإلهيّ، و عندها لن يرى السالك شيئاً سوى الذات الإلهيّة المقدّسة.
كُتِبَ أنه: «طُلِبَ من أحد المنجذبين بالجذبة الإلهيّة و يُدعى بابا فرج الله المجذوب أن يصف الدنيا، فقال: مذ فتحتُ عينَيّ لم أرَ الدنيا حتّى أصفها لكم».۱
و يعبّر عن هذا الشهود الإبتدائيّ الذي لم يقوَ حتّى ذاك
منم كه شهرة شهرم به عشق ورزيدن | *** | منم كه ديده نيالودهام به بد ديدن |
أنا من كنت في بلدي بالعشق مشهورا | *** | أنا من لم تشاهد عيناه سواه محبوبا |
و حَيَاةِ أشْوَاقِي إلَيْكَ وَ تُرْبَةِ الصَّبْرِ الجَمِيلِ | *** | مَا اسْتَحْسَنَتْ عَيْنِي سِوَاكَ وَ لَا صَبَوْتُ إلَى خَلِيلِ |
الوقت بـ «الحال»، و يكون السالك فيه غير مختار، ولكن على إثر شدّة المراقبة و العناية الإلهيّة ينتقل السالك إلى «المقام»، و يُصبح هنالك مختاراً.
و من البديهيّ أنَّ السالك القويّ هو الذي يكون في عين شهود هذه الأحوال متوجّهاً إلى عالم الكثرة، و يدير كلا العالمين، و هذه المرتبة رفيعة جدّاً و الوصول إليها في غاية الصعوبة، و لعلها تختصّ بالأنبياء و الأولياء و من اختاره الله تعالى، فهؤلاء في عين الاشتغال بنعمة لي مَعَ الله حَالاتٌ لَا يَسَعُهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ۱، تظهر منهم جلوات و تجلّيات أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.٢
و إذا قيل: إنَّ هذه المناصب اختصاصيّة، و الوصول إلى هذه الذروة من المعارف الإلهيّة منحصر بالأنبياء و الأئمّة المعصومين عليهم السلام، و إنَّ الآخرين ليس بإمكانهم الوصول إلى هذا الطريق أبداً.
الوصول لمقام التوحيد المطلق مُيَسَّر للجميع
نقول: إنَّ منصب النبوّة و الإمامة أمر اختصاصيّ، ولكنَّ الوصول إلى مقام التوحيد المطلق و الفناء في الذات الأحديّة الذي
يُعبَّر عنه بالولاية ليس أمراً اختصاصيّاً أبداً، و دعوة الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام اممهم إلى هذه المرحلة من الكمال، و دعوة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلم امّته إلى اقتفاء آثار مسيره حيثما سار، خير دليل على إمكان السير إلى ذلك المقصد، و إلّا لزم أن تكون الدعوة لغواً. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً.۱
روي عن طريق العامّة، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلم أنه قال:
لَولَا تَكْثِيرٌ في كَلَامِكُمْ، وَ تَمْرِيجٌ في قُلُوبِكُمْ لَرَأيْتُمْ مَا أرَى، وَ لَسَمِعْتُمْ مَا أسْمَعُ.
هذا الحديث يبيّن بوضوح سبب عدم الوصول إلى الكمالات الإنسانيّة، و هذا السبب هو الخيال الشيطانيّ الباطل، و الأفعال العابثة اللاغية.
و روي أيضاً عن طريق الخاصّة:
لَولَا أنَّ الشَّيَاطِينَ يَحُومُونَ حَوْلَ قُلُوبِ بَنِي آدَمَ لَرَأوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ و الأرْضِ.٢
و من جملة آثار تلك المرتبة الإنسانيّة العالية: الإحاطة الكلّيّة -بقدر الاستعدادات الإمكانيّة- بالعوالم الإلهيّة، و نتيجة هذه الإحاطة الاطّلاع على الماضي و المستقبل و التصرّف في موادّ الكائنات، إذ للمحيط غاية التسلّط على المحاط عليه، فهو مرافق للجميع، و حاضر في كلّ مكان.
يقول أحد العارفين و هو الشيخ عبدالكريم الجيليّ في كتابه «الإنسان الكامل»: «أذكر مرّة عرضت لي حالة في فترة مرّت كلمح البصر وجدت نفسي خلالها متّحدة مع جميع الموجودات بحيث كنت أراها جميعاً حاضرة لدى عياناً، ولكنَّ هذه الحال لم تستمرّ لأكثر من لحظة».
و المانع من دوام استمرار هذا الحال هو الاشتغال بامور البدن، و أنَّ حصول كلّ هذه المراتب متوقّف على ترك تدبير البدن. يقول أحد عرفاء الهند و اسمه الشيخ وليّ الله الدهلويّ في كتابه «الهمعات»: أطلعوني على أنَّ التخلّص من آثار النشأة المادّيّة يحصل بعد مرور خمسمائة عام على اجتياز عالم المادّة و الموت، و هذه المدّة مطابقة لنصف يوم من الأيّام الربوبيّة، لقوله عزّ من قائلٍ: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.۱
و معلوم أنَّ سائر درجات و فيوضات هذا العالم بلا حدّ و لا نهاية، ثمّ لما كانت الألفاظ توضع للمعاني على أساس الاحتياجات البشريّة فتتّسع بمقدار اتّساعها، لذا لم يكن من الممكن بيان الحقائق و الأنوار المجرّدة لعالم الربوبيّة بالألفاظ، و كلّ ما قيل فيها لا يعدو كونه إشارة أو كناية ليس بمقدورها إنزال تلك الحقائق إلى مستوى الأفهام.
فالإنسان المادّيّ باعتبار أنه يحيا في أظْلم العَوَالم الإلهيّة كما تصرّح بذلك بعض الأخبار: «أنت في أظلم العوالم» لا يضع الألفاظ إلّا لما يقع على بصره أو تناله يده ممّا يدخل في إطار حاجاته اليوميّة، أمّا سائر العوالم و التعلّقات و التشعشعات و الأنوار و الأرواح التي لا علم له بها فلا يضع لها ألفاظاً، فلا يوجد -بناءً على ذلك- لغة في العالم يتسنّي لها التحدّث عن هذه المعاني السامية، فكيف يمكن إذَن توصيف هذه المعاني و بيانها؟
مشكل عشق نه در حوصلهء دانش ماست | *** | حلّ اين نكته بدين فكر خطا نتوان كرد۱ |
و الذين تحدّثوا عن هذه الحقائق طائفتان، هما:
الاولى: الأنبياء الكرام عليهم السلام، حيث و لا شكّ كانت لهم رابطة مع عوالم ماوراء المادّة، ولكنّهم بحكم الحديث القائل: نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ امِرْنَا أنْ نُكَلم النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولهمْ۱ اضطرّوا أن يعبّروا عن هذه الحقائق تعبيراً قابلًا لإدراك عامّة الناس له؛ و لهذا غضّوا النظر عن بيان الحقائق النورانيّة و الغاية الساطعة، و لم يفصحوا عن تبيان ما لا يخطر على قلب بشر، و كانوا يعبّرون عن حقيقة مَا لَا عَيْنٌ رَأتْ وَ لَا اذُنٌ سَمِعَتْ وَ لَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ٢ بتعابير مثل الجنّة و الحور و القصور و غيرها، و لهذا اعترفوا في النهاية بأنَّ حقائق تلك العوالم لا يحدّها وصف و لا يسعها بيان.
الثانية: طائفة من الناس كان نصيبهم -من خلال متابعة طريق الأنبياء- التشرّف بإدراك هذه الحقائق و الفيوضات بقدر اختلاف استعداداتهم، و قد كان كلامهم تحت ستار الاستعارة و التمثيل.
عالم الخلوص و الإخلاص
و ليعلم أنَّ الوصول إلى هذه المقامات و الدرجات لا يمكن
أن يتحقّق دون الإخلاص في سبيل الحقّ، و مادام السالك لم يصل إلى منزلة المخلَصين، فلن يتمّ له كشف الحقيقة كما ينبغي.
و اعلم أنَّ الإخلاص و الخلوص على قسمين: الأوّل: خلوص الدين و الطاعة لله تعالى. الثاني: خلوص النفس له تعالى. يدلّ على الأوّل الآية الكريمة: وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.۱ و على الثانية الآية الشريفة: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.٢ و الحديث النبويّ المشهور: مَنْ أخْلَصَ لِله أرْبَعِينَ صَبَاحَاً ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ إلَى لِسَانِهِ، أي أنَّ الذي يصل إلى هذه المرحلة هو ذاك الذي أخلص نفسه لله تعالى.
و توضيح هذا الإجمال أنَّ الله تعالى كما أسند الصلاح في القرآن الكريم و في بعض المواضع إلى العمل، كقوله تعالى:
مَنْ عَمِلَ صالِحاً٣ او وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً٤ او الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ٥، و في بعض المواضع أسند ذلك أيضاً
إلى ذات الإنسان، كقوله تعالى: إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ۱، أو صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ٢ كذلك اعتبر أنَّ الإخلاص و الخلوص يستند إلى العمل أحياناً و قد نسبه إليه، و أحياناً يستند إلى الذات. و بديهيّ أنَّ تَحَقُّقَ الإخلاص في مرتبة الذات متوقّف على الإخلاص في مرتبة العمل أي أنَّ الذي لم يُخلِص في أعماله و أفعاله و أقواله و في سكناته لن يصل إلى مرحلة الإخلاص الذاتيّ؛ قال عزّ من قائل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ٣، بإرجاعه الضمير المستتر الفاعل في «يرفع» إلى «العمل الصالح» إذ يصبح المعنى «العَمَلُ الصَّالح يَرْفَعُ الكَلم الطَّيِّبَ». و اعلم أنَّ الذي يصل إلى مرحلة الخلوص الذاتيّ و ينال هذا الفيض العظيم، سوف تكون له آثار و خصائص ليست من نصيب الآخرين، منها:
آثار و خصوصيّات مقام الإخلاص
الأوّل: ما نصّت عليه بعض الآيات من عدم تسلّط الشيطان عليه، كقوله تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ٤، و ممّا لا ريب فيه أنَّ هذا الاستثناء للمخلصين
تشريعيّاً، و إنَّما هو أثر طبيعيّ لاقتدارهم الذاتيّ في مقام التوحيد؛ حيث لا يعود للشيطان قدرة على إغوائهم، و بسبب ضعفه و عجزه لا يستطيع أن يصل إليهم في هذه المرحلة؛ و لأنهم أخلصوا أنفسهم لله يرون الله في كلّ ما تقع عليه أبصارهم، و إذا بدا لهم الشيطان بأيّ شكل أو هيئة، تراهم ينظرون إلى هذه الهيئة بالنظر الإلهيّ ليغترفوا منها فيضاً إلهيّاً، لهذا اعترف الشيطان منذ البداية بالعجز عن التأثير في هذه الطائفة، و لم يكن ذلك منه مُحاباةً لهم أو ترحّماً عليهم، إذ لا غاية له سوى الغواية و الإضلال.
الثاني: أنَّ هذه الطائفة معفوّة من حساب يوم الحشر الآفاقيّ و الوقوف في عرصاته، و قد جاء في القرآن الكريم:
وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ.۱
فيعلم من هذه الآية الكريمة -بشكل قطعيّ- وجود جماعة تأمن صعقة يوم القيامة و فزعه، و إذا ضممنا إليها الآية الشريفة: فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ٢، يتّضح أنَّ الطائفة التي هي في أمان من صعقة يوم القيامة هي «عباد الله المخلصين»؛
لأنه ليس لهؤلاء أعمال توجب حضورهم في عرصة يوم القيامة، فهم قد قتلوا في ساحات جهاد النفس و ترويضها بالمراقبة و العبادات الشرعيّة، و تعلّقوا بالحياة الأبديّة بعد ما اجتازوا القيامة الأنفسيّة العظمى، و قد تمّ حسابهم خلال فترة المجاهدة، فجلّلوا بعد نيلهم شرف القتل في سبيل الله بخلعة الحياة الأبديّة، لينعموا بفيض الخزائن الربوبيّة؛ قال عزّ من قائلٍ:
وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.۱
يضاف إلى ما تقدّم أنَّ الإحضار ينشأ من عدم الحضور، فهم قبل ظهور القيامة كانوا حاضرين في كلّ مكان، و مطّلعين على كلّ الأحوال؛ لقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
الثالث: أنَّ كلّ ما يعطى للإنسان من ثواب و أجر يوم القيامة سوف يكون مقابل ما عمله إلّا هذه الطائفة من الناس تتعدّى الكرامة الإلهيّة لهم حدود أجر العمل المعهود: وَ ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.٢
و لو قيل: إنَّ مفاد هذه الآية هو أنَّ المعذّبين يجزون بحسب
أعمالهم، أمّا عباد الله المخلَصين فلن يكون جزاؤهم بحسب أعمالهم، بل الله المنّان سوف يعطيهم بفضله و كرمه. نقول: إنَّ في الآية إطلاق، فلا يختصّ الخطاب فيها بفئة المعذّبين، يضاف إلى ذلك أنَّ مجازاة العباد بالفضل و الكرم الإلهيّ لا يتنافى مع الجزاء الذي يقابل العمل، و إن كان معنى الفضل هو أنَّ الله المنّان يعطي الأجر العظيم في قبال العمل الصغير، فيعدُّ تعالى العمل الصغير كبيراً، ولكن مع هذا كله يبقى الجزاء واقعاً في قبال العمل، في حين أنَّ الآية الكريمة تصرّح بأنَّ جزاء المخلَصين غير هذا؛ و مفادها: أنَّ عباد الله المخلَصين لا ينالون الجزاء مقابل العمل أبداً، و جاء في آية اخرى:
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ.۱
فكلّ ما تتعلّق به مشيئتهم يتاح لهم و زيادة عليه، يتّضح من هذا أنهم يُعطون من الكرامات الإلهيّة فوق ما تتعلّق به الإرادة و المشيئة، و أعلى من مستوى التصوّر، و أعلى مستوى من فضاء تحليق طائر اختيارهم و إرادتهم. و لهذه المسألة دقائق جديرة بالانتباه.
الرابع: أنَّ لهؤلاء المقام المنيع و المنصب الرفيع و المرتبة العظيمة التي يستطيعون فيها أداء الحمد و الشكر و الثناء للذات الأحديّة كما هو لائق بالذات المقدّسة، قال عزّ من قائل: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.۱ و هذه غاية كمال المخلوق، و منتهى الدرجة الممكنة.
لزوم قطع علاقة السالك من عالم الكثرة
من مجموع البيانات السابقة نرى قدر مميّزات المراحل الأخيرة للسلوك التي هي مقام المخلَصين، و كم هي الفيوضات التي تترتّب عليها؛ ولكن ينبغي أن يعلم أنَّ الوصول إلى هذه الكمالات و تحصيل هذه الحقائق لا يتيسّر إلّا لمن يُقتَل في ميدان الجهاد في سبيل الله، و لا يرتوي من الفيوضات الإلهيّة إلّا مَن انتهل من كأس الشهادة. و المراد من القتل: قطع علاقة الروح بالبدن و متعلّقاته، و كما يقطع الشهيد في معركة القتال علاقة روحه ببدنه بواسطة السيف الظاهريّ، كذلك سالك طريق الله ينبغي أن يقطع -بواسطة الاستمداد من القوى الرحمانيّة- علاقة روحه عن البدن و متعلّقاته بالسيف الباطنيّ في ميدان جهاد النفس الأمّارة.
و على السالك في بداية السلوك إلى الله أن يقطع و شائج
التعلّق بعالم الكثرة عن طريق الزهد و التأمّل و الدقّة و التفكّر في ضعة الدنيا و عدم فائدة التعلّق بها، فنتيجة الزهد انعدام الرغبة و الميل إلى الأشياء، و يترتّب عدم الفرح بالامور التي تجلب النفع المادّيّ له، و عدم الحزن من الوقائع التي تؤدّي إلى ضرره المادّيّ.
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ.۱
و هذا لا يتنافي مع الحزن و الفرح في الله؛ لأنَّ هذا الفرح ليس من حبّ المال و المصالح و الاعتبارات الكاذبة، بل من جهة أنه يرى نفسه غارقاً في بحر إحسان الله و كرمه.
و بعد طيّ هذه المرحلة يلتفت السالك إلى أنه يُحبّ ذاته حبّاً مفرطاً، و أنَّ هذا الحبّ يصل إلى درجة العشق، و أنَّ كلّ ما يؤدّيه و كلّ جهاده ناشئ من فرط حبّه لذاته؛ لأنَّ إحدى خصائص الإنسان حبّه لنفسه بالفطرة، و تضحيته بكلّ شيء من أجلها، بل الاستعداد لإبادة أي شيء من أجل بقائها. و التخلّص من هذه الغريزة صعب جدّاً، و مواجهة هذا الحسّ -الذي هو حبّ النفس- و مجاهدته من أعقد المشاكل، و ما دامت هذه الغريزة باقية لن يتجلّى نور الله في القلب، و بعبارة اخرى: إذا لم يتجاوز
السالك لن يصل إلى الله تعالى.
لزوم سير السالك في طريق رضوان الله
و على السالك أن يستمدّ العون من الألطاف الإلهيّة و الإمدادات الرحمانيّة المطلقة لإضعاف حبّ الذات حتّى يزيله في النهاية؛ فعليه أن يكفر بهذا الصنم الباطنيّ الذي هو رأس كلّ المفاسد و ينساه كلّيّاً، بحيث تكون أعماله -عند التأمّل و التحقيق- كلها للذات الإلهيّة المقدّسة، و يتبدّل حبّ ذاته إلى حبّ الله تعالى، و لا يتمّ هذا إلّا بالمجاهدة، و بعد طيّ هذه المرحلة لن يكون للسالك أي تعلّق بالبدن و آثاره حتّى روحه التي تجاوزها، فيكون كلّ ما يعمله خالصاً لله. فكلّ ما يعمله لله، و إذا سدّ جوعه و هيّأ لوازم الحياة و العيش بقدر الكفاف و الضرورة فذلك لأنَّ المحبوب الأزليّ يريد حياته و إلّا لا يخطو خطوة من أجل تحقّق حياة هذه النشأة.
و بالطبع فإنَّ هذه الإرادة للحياة هي في طول الإرادة الإلهيّة لا عرضها؛ و على هذا الأساس لا يحقّ للسالك أن يسعى للحصول على الكشف و الكرامات، و يعمل من أجل تحقيقها، بواسطة الأذكار و الرياضات الروحيّة من أجل أن تُطوى له الأرض، أو يُخبَر عن المغيّبات، أو يطّلع على الضمائر و الأسرار، أو التصرّف في موادّ الكائنات، أو لاستكمال و بروز القوى النفسانيّة، لأنَّ مثل هذا
الشخص لا يسير في الدرب الذي يُرضي المحبوب، و لن يكون مخلصاً في عبادته فهو قد جعل نفسه المعبود، و سار لقضاء حاجاته و تحقيق رغباته الخاصّة، و إن كان لا يعترف بهذا المنكر فيؤدّي كلّ عباداته -على الظاهر- في سبيل الله.
و مثل هذا الإنسان ينطبق عليه قوله تعالى: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ.۱ فعلى السالك أن يجتاز هذه المرحلة، و يهجر نفسه المتمسّكة بالأنانيّة. و سَيَأتِي الكَلَامُ فيه إن شاء الله تعالى.
و عندما يصل السالك إلى هذه المرحلة سوف ينسى -تدريجيّاً- نفسه التي كان يحبّها لله، فتضمحلّ ذاته، و لن يرى بعد ذلك غير الجمال الأزليّ و الأبديّ، فيغمره ذلك البحر اللامتناهي، و عندها لن يبقى له أي أثر.
و على السالك أن يحذر -في تلك الحرب النفسيّة- حيل الشيطان و جنوده، حتّى يتغلّب عليهم و يتخلّص من الآثار النفسيّة لذاته كاملًا، و يقتلع جذورها من الزوايا الخفيّة في القلب، فمع بقاء ذرّة واحدة من حبّ المال و الجاه و المنصب و الكبر و حبّ النفس و الرئاسة فيه لن يصل أبداً إلى الكمال؛ و لهذا شُوهد
الكثيرون من الذين قضوا سنوات طويلة في الرياضات و المجاهدات و لم يصلوا إلى الكمال، بل لاقوا الهزيمة في مجاهدة النفس؛ و علّة ذلك أنَّ جذور بعض الصفات كانت باقية في أعماق قلوبهم و هم يظنّون أنها قد ازيلت بالكامل، و في مواقع الامتحان الإلهيّ و في مظانّ بروز النفس و تجلّي آثارها تهتزّ هذه الجذور و تنمو فجأة فيُقضى على السالك.
ثمّ إنَّ النجاح في غلبة النفس و جنودها منوط بالمدد الغيبيّ و العناية الإلهيّة الخاصّين، لأنَّ طيّ هذه المرحلة لن يكون دون توفيقه و عنايته الخاصّينِ.
يقال: إنَّ تلامذة المرحوم السيّد بحر العلوم رأوه يوماً و هو يبتسم، فسألوه عن السبب، فأجاب: اليوم، و بعد خمس و عشرين سنة من المجاهدة، نظرتُ في نفسي فرأيت أنَّ أعمالي لم يعد فيها رياء، و أنني وُفِّقْتُ لرفعه، فَتَأمَّل جَيِّدَاً.
و على السالك أن يكون ملازماً للشريعة الغرّاء منذ بداية السير و السلوك و حتّى آخر مراحله، و لا يتجاوز ظاهر الشريعة بقدر رأس الإبرة. فلو رأيت شخصاً يدّعي السلوك و لا يلازم التقوى و الورع و لا يتابع جميع الأحكام الشرعيّة الإلهيّة و انحرف عن الصراط المستقيم للشريعة الحقّة و لو بقدر رأس الإبرة، فاعلم أنه
منافق إلّا إذا كان له عذر أو كان مخطئاً أو ناسياً.
عبادة الكاملين تقتضي حصول كمالهم
و ما سُمِعَ من البعض -من القول بسقوط التكاليف عن السالك بعد الوصول إلى المقامات العالية و الفيوضات الربّانيّة- حديث كاذب و افتراء عظيم؛ لأنَّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلم مع أنه أشرف الخلائق و الموجودات كان ملازماً و متابعاً للأحكام الإلهيّة حتّى آخر أيّام حياته، فسقوط التكليف -بهذا المعنى- كذب و بهتان. نعم، يمكن أن نفهم منه معنى آخر غير ما يقصده هؤلاء، و هو: أنَّ أداء الأعمال العباديّة يوجب كمال النفوس البشريّة و يوصل الإنسان بواسطة الالتزام بالسنن العباديّة من مراحل القوّة إلى الفعليّة. لهذا فإنَّ عبادة اولئك الذين لم يصلوا بعد إلى مرحلة الفعليّة من جميع الجهات هي لأجل الاستكمال، أمّا اولئك الذين وصلوا إلى مرحلة الفعليّة التامّة، فلا معنى لأن تكون عبادتهم للحصول على الكمال و تحصيل مقام القرب، بل العبادة من هؤلاء لها معنى آخر يقتضيه نفس حصولهم على درجة الكمال؛ لهذا عندما سألت عائشة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلم عن سبب تحمّله هذه الآلام و الأتعاب في العبادة رغم أنَّ الله تعالى قال له:
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ.۱
قال صلّى الله عليه و آله و سلم: «ألَا أكُونُ عبداً شكوراً؟».٢
فاتّضح بذلك أنَّ الإتيان بالأعمال العباديّة من البعض لم يكن طلباً للكمال، بل محض إظهار الإمتنان و الشكر الجزيل.
علماً بأ نَّ الحالات التي تظهر للسالك على أثر المراقبة و المجاهدة و الأنوار و الآثار التي تُصبح مشهودة له من حين إلى آخر، كلّ هذه مقدّمة تحصيل الملكة، فمجرّد ترتّب الآثار و تغيّر الحال في الإجمال ليس كافياً، بل يجب على السالك أن يسعى لرفع بقايا العالم السافل الكامن في ذاته، فإنه ما لم يسانخ صالحي العالم العالي لن يكون الوصول إلى مراتبهم ميسوراً له، فمن شأن أي خطأ صغير في السلوك و الجهاد أن يعيده مجدّداً إلى العالم السافل. قال تعالى:
وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ.٣
فالآية الكريمة تشير إلى هذه الحقيقة؛ إذَن ينبغي للسالك
أن يُطهِّر ظاهره و باطنه كاملًا و كلّ زوايا و خفايا قلبه حتّى يوفّق لصحبة الأرواح الطيّبة، و مجالسة صالحي الملأ الأعلى.
بيان إجماليّ للعوالم الاثني عشر المقدّمة على عالم
وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ.۱ و من هنا ينبغي للسالك تخطّي العوالم المتقدّمة على عالم الخلوص كاملة، و إجمال هذه العوالم قد بيّنها الله سبحانه و تعالى في الآية المباركة:
الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.٢
و عليه، تكون العوالم المتقدّمة على عالم الخلوص أربعة: الأوّل: الإسلام، الثاني: الإيمان، الثالث: الهجرة، الرابع: الجهاد في سبيل الله. و لأنَّ جهاد هذا المسافر هو الجهاد الأكبر لقوله صلّى الله عليه و آله و سلم: رَجَعْنَا مِنَ الجهَادِ الأصْغَرِ إلَى الجهَادِ الأكبر٣. فشرط هذا السفر أن يكون إسلام و إيمان المجاهد هما
الإسلام و الإيمان الأكبران، بعدها على السالك أن يُشمّر عن ساعد الهمّة -مسترسلًا- مع الرسول الباطن و مستعيناً بالرسول الظاهر أو خليفته للهجرة، و ينزل إلى ميدان المجاهدة حتّى ينال فوز القتل في سبيل الله.
و على السالك أن يلتفت إلى أنَّ طريقه من بدء مسيره إلى هذه المرحلة من الجهاد كان محفوفاً بالموانع الشيطانيّة و البشريّة، و أنّه لولا نيله درجة القتل في سبيل الله ما استطاع أن يتخطّى مراحل الإسلام الأكبر و الإيمان الأكبر ليصل -بعدها- إلى بدء مراحل الإسلام الأعظم و الإيمان الأعظم و السفر الأعظم، و التي يعدّ من موانعها الكفر الأعظم و النفاق الأعظم. و في هذا الوادي لن يكون لجنود الشيطان أي قدرة للنيل منه و الغلبة عليه، فيتصدّى الشيطان (رئيس الأبالسة) بنفسه للوقوف دون إتمام السالك سيره و سلوكه. فلا ينبغي للسالك -إن طوى هذه العوالم- أن يظنّ أنه نجى من المخاطر و وصل إلى جوهر المقصود؛ بل عليه أن يلتفت إلى أنه ما لم يطو العوالم العظمى السابقة لن يكون بمأمن من حبائل إبليس لمنعه من الوصول إلى المنزل المقصود. فعليه أن يشمّر عن ساعد الهمّة لمنع الشيطان من إيقاعه في الكفر الأعظم و النفاق الأعظم، ليُهاجر -بعدها- الهجرة العظمى، و يتخطّى
بالمجاهدة العظمى قيامة النفس العظمى، فيدخل في وادي المخلَصين. رَزَقَنَا الله إن شَاءَ الله تَعَالَى.
الفصل الثاني: شَرْحٌ تَفْصيليّ لِلْعَوالم المتَقَدِّمَة عَلَى عَالم الخلُوصِ
بناء على ما تقدّم من أنَّ المسافر إلى الله ينبغي له أن يطوي اثني عشر عالماً قبل الوصول إلى عالم الخلوص، و هي: الإسلام، الأصغر و الأكبر و الأعظم. و الإيمان، الأصغر و الأكبر و الأعظم. و الهجرة، الصغرى و الكبرى و العظمى. و الجهاد، الأصغر و الأكبر و الأعظم. على السالك أن يعرف خصائص هذه العوالم و آثارها و علائمها و موانعها و صوارفها، و قد بيّناها هنا بنحو الإجمال، و تفصيلها موجود في الكتاب المستطاب المنسوب للمرحوم فخر الفقهاء و الأولياء السيّد مهدي بحر العلوم رضوان الله عليه، و من أراد الشرح المفصّل، فعليه أن يرجع إلى ذلك الكتاب، لكنّنا هنا و لتوضيح هذه المسألة نبيّنها ببعض الإجمال.
الإسلام الأكبر
عبارة عن التسليم و الانقياد المحض، أي ترك الاعتراض على الله عزّ و جلّ من جميع الوجوه، و الاعتراف و الإذعان بصلاح
كلّ ما هو موجود و متحقّق، و عدم صلاح ما لم يحدث، و بشكل عامّ رفع اليد عن الاستفسار و السؤال و عدم الشكوى من قضاء الله تعالى، و قد أشار إلى هذه المرتبة مولى الموحّدين أميرالمؤمنين عليهالسلام في الحديث المرفوع عن البرقيّ: إنَّ الإسْلامَ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَ التَّسْلِيمُ هُوَ اليَقِينُ.
و إضافة إلى ترك الاعتراض، ينبغي أن لا يكون في قلبه أي نوع من المؤاخذة على الأحكام التشريعيّة أو التكوينيّة لله تعالى، كما ورد في قوله تعالى:
فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً۱.
هذه المرحلة هي مرحلة الإيمان الأكبر التي يسري فيها الإسلام الأكبر إلى الروح و يسيطر على القلب.
الإيمان الأكبر
عندما يتنوّر قلب السالك بنور الإسلام الأكبر تعرض عليه من حين لآخر حالة يشاهد فيها -علاوة على الإدراك الحسّيّ- أنّ كلّ موجود يستند إلى الباري عزّ و جلّ، و بعبارة اخرى: يجد الله
حاضراً في كلّ الأحوال؛ و هي مرحلة الشهود و الإسلام الأكبر؛ و ما لم تصل هذه الحالة إلى الكمال بحيث تسري إلى جميع أركان البدن و تتصرّف في سائر الأعضاء و الجوارح يمكن للموانع المادّيّة و المشاغل و الشواغل الطبعيّة أن تصرف السالك عن هذه الحالة و تسلبه ذلك الشهود ليعود إلى الغفلة، فيجب على السالك أن يقف بعزم راسخ ليرتفع بهذه الحال إلى مقام الملكة و يوصلها إلى الكمال حتّى لا تستطيع الشواغل الخارجيّة بعدها أن تغيّر مسيره الشهوديّ و تتغلّب على حاله، فينبغي أن يسري هذا الإسلام منمقام القلب إلى الروح حتّى يتبدّل ذلك الإجمال إلى تفصيل، و بأمرمن الروح تُحيط تلك الحالة بكلّ القوى الظاهريّة و الباطنيّة لتصلمن الحال إلى الملكة.
مقام الإحسان و آثاره
و هذا المقام هوالذي يُعَبِّر عنه العارفون بمقام الإحسان، كما يقول الله تعالى في كتابه الكريم: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا و لا يقف تعالى عند ذلك بل يقول: وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.۱
فإذا لم يصل المجاهد في سبيل الله إلى مرتبة الإحسان لن يستطيع الحصول و الوصول إلى سبل الهداية الإلهيّة.
سئل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلم عن معنى الإحسان؛ فأجاب: أ نْ تَعْبُدَ الله كَأنَّكَ تَرَاهُ ، وَ إنْ لم تَكُنْ تَرَاهُ فَإنهُ يَرَاكَ.
فإلى ذلك الحين الذي لا يكون إسلام السالك الأكبر قد وصل إلى مرحلة الإيمان الأكبر قد تعتري السالك -من حين لآخر- حالة الإحسان فيؤدّي العبادات بشوق و رغبة و ميل شديد.
عالم الإيمان الأكبر و خصوصيّاته
أمّا عندما يصل إلى الإيمان الأكبر فإنه ينتقل فيه الإحسان من حال طارئ إلى ملكة المحسنين، و حينها يؤدّي السالك جزئيّات الأفعال و كلّيّاتها بداعي الميل و الشوق بطيب خاطر، و ذاك لأنَّ الإيمان قد سرى إلى الروح، و لأنَّ الروح سلطان جميع الأعضاء و الجوارح و حاكمها، لذا فإنَّها تحمل الجميع على العمل و المثابرة، فتنقاد لها سائر الأعضاء بتسليم و إنابة بلا تخلّف و لا اعتراض. قال الله تعالى في حقّ هذه الطائفة:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ، وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ.۱
ثمّ إنَّ الاشتغال بالملاهي لما كان ناشئاً منِ الميل إليها
و الرغبة فيها، و إنَّ السالك المؤمن بالإيمان الأكبر الذي وصل إلى مرتبة الإحسان و ملكته، ليس له أي رغبة فيها؛ لأنه يعرف أنه لا يمكن اجتماع حُبَّينِ و شوقينِ في قلب واحد؛ لقوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ،۱ نعرف بالبرهان الإنّيّ٢ عدم وجود الميل و الرغبة الإلهيّة في قلب السالك فيما لو كان له رغبة في الملاهي، فمثل هذا القلب يكون منافقاً؛ لأنه من جانب يظهر الميل و الرغبة في الامور الراجعة إلى الله تعالى، و من جانب آخر يميل و يرغب في اللغو و اللهو. و هذا هو النفاق الأكبر الذي يقابل الإيمان الأكبر، فلا يكون التسليم و الإطاعة فيه ناشئينِ من الرغبة و الاشتياق الباطني. و إنما هما نتاج العقل و وليدَي الخوف و المصالح التي تعترض الإنسان، و إلى هذا النفاق أشار تعالى بقوله:
وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى.٣
حينما يصل السالك إلى الإيمان الأكبر لا يكون فيه أي
درجة من درجات هذا النفاق، و لا تكون أفعاله ناشئة -بأيّ حال من الأحوال- من المدركات العقليّة و المصالح و المنافع الذاتيّة أو الخوف، بل هي ناشئة من الشوق و المحبّة و بداعي العشق و الميل و الرغبة.
عالم الهجرة الكبرى
و لأنَّ السالك قد وصل إلى مرتبة الإيمان الأكبر فعليه أن يستعدّ للهجرة الكبرى، و هي الهجرة بالبدن عن مخالطة أهل العصيان و مجالسة أهل البغي و الطغيان و أبناء الدهر الغَرور، و الهجرة بالقلب عن المودّة لهم و الميل إليهم، و الهجرة بالبدن و القلب معاً عن العادات و الرسوم المتعارفة و الاعتبارات التي تمنع السالك عن سلوك طريق الله، و تكون عائقاً و مانعاً من سفره؛ لأنَّ العادات و الرسوم متاع بلاد الكفر.
ففي المجتمع المادّيّ يتقيّد الإنسان برسوم و عادات وهميّة و خياليّة اعتاد عليها أهل الدنيا؛ فأصبح قياس النفع و ميزان الخسارة و المحاورات و المعاشرات و الزيارات مبنيّ عليها، كما جرت العادة على أن يُنسَبَ إلى الجهل كلّ مَن يلتزم بالصمت في مجالس المذاكرة و المباحثات العلميّة، أوأن يُتهافت على الجلوس في صدر المجلس باعتباره دليل الكبر و الرفعة، أو اعتبار التقدّم في
الدخول و الخروج من المجلس دليل على العظمة، أو أنَّ التصنّع و التشدّق في الكلام دليل على المماشاة مع الناس و حسن الخلق، و خلافه دليل على الحقارة و الضعة و ضعف الموقف و الشخصيّة و سوء الخلق.
فيجب على السالك -بالتوفيق الإلهيّ و الإمداد الرحمانيّ- أن يغضّ النظر عن كلّ هذه الامور، و أن يهجر عالم الخيال و الوهم و يطلّق هذه العجوز ثلاثاً، فلا يخاف و لا يفزع من أيّة قوّة، و لا يهوله مذمّة الناس أو معاتبة من يعدّون أنفسهم من أهل العلم و الفضل، فقد جاء في جامع الكلينيّ في رواية السكونيّ عن الصادق عليهالسلام، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلم:
أرْكَانُ الكُفْرِ أرْبَعَةٌ: الرَّغْبَةُ، وَ الرَّهْبَةُ، وَ السَّخَطُ، وَ الغَضَبُ.
و فسّرت الرهبة هنا بالرهبة من الناس عند مخالفة عاداتهم و نواميسهم الوهميّة. و حاصل الكلام: أنَّ على السالك أن يرفع يده عن جميع التقاليد و العادات و الرسوم الاجتماعيّة الاعتباريّة التي تسدّ الطريق إلى الله. و يعبّر العارفون عن هذا الأمربـ الجنون؛ لأنَّ المجنون ليس له معرفة برسوم و عادات الناس، فلا يوليها أيّة أهميّة، و لا يبالي بمدح الناس و ذمّهم، و لا يجد الخوف طريقاً إليه عند ترك الناس له أو ثورتهم عليه و لا يغيّر منهجه.
اي دل آن به كه خراب از مي گلگون باشي | *** | بي زر و گنج به صد حشمت قارون باشي |
در مقامي كه صدارت به فقيران بخشند | *** | چشم دارم كه به جاه از همه افزون باشي |
تاج شاهي طلبي گوهر ذاتي بنما | *** | ار خود از گوهر جمشيد و فريدون باشي |
كاروان رفت و تو در خواب و بيابان در پيش | *** | كي روي ره ز كه پرسي چكني چون باشي |
نقطهء عشق نمودم به تو هان سهو مكن | *** | ورنه چون بنگري از دائره بيرون باشي۱ |
ساغري نوش كن و جرعه بر أفلاك نشان | *** | تا به چند از غم أيّام جگر خون باشي۱ |
عالم الجهاد الأكبر
و عندما يُوَفَّق السالك -بالعناية الإلهيّة- للهجرة، و ينتشل نفسه من مستنقع العادات و الرسوم، يضع قدمه في ميدان الجهاد الأكبر حيث محاربة جنود الشيطان، لأنَّ السالك في هذا الموقع يكون في عالم الطبيعة أسير الوهم و الغضب و الشهوة، و عرضة للأهواء المتضادّة، تحيطه أمواج الآمال و الأماني، و تستولي عليه الهموم و الغموم، و تؤلمه منافيات الطبع و الوجدان، و يترقّب المخاوف العديدة، فتضطرم كلّ زاوية من زوايا صدره، و يشعر بالفقر و الحاجة و أنواع الآلام و الانتقام تهدّد كيانه، منها ما يخصّ أهله و عياله، و منها ما يرتبط بماله و خوفه من تلفه و ضياعه، أو جاه يبتغيه فلا يصل إليه؛ فتوخزه أشواك الحسد و الغضب و الكبر و الأمل، و يقع فريسة أفاعي و سباع عالم الطبيعة و المادّة، فتكدّر قلبه ظلمات الوهم بما لا يعدّ و لا يحصى، و تتعاقب عليه صفعات الدهر، و تُدمي أقدامه الأشواك في كلّ موضع وضعها فيه.
فكلّ هذه الآلام و الأسقام قد تعتري قلب السالك، و بعد التأمّل و التدبّر يلتفت إلى كثرتها فعلى السالك أن يتغلّب عليها بمنازلة جنود الوهم و الغضب و الشهوة، و الظفر بعون الله و توفيقه في هذه المجاهدة العظمى، متخلّصاً من العوائق و العلائق، و مودّعاً عالم الطبيعة إلى الأبد.
عالم الإسلام الأعظم و آفاته
حينها يدخل عالم الإسلام الأعظم حيث يرى نفسه جوهراً فرداً و دُرَّةً يتيمة، محيطاً بعالم الطبيعة و مصوناً من الموت و الفناء، و خاليّاً من تضارب الأضداد و يُشاهد في نفسه صفاء و ضياء و بهاء يتخطّى إدراك عالم الطبيعة، فالسالك في هذه الحال قد أدرك بموته في عالم الطبيعة حياة جديدة، و رغم أنه في عالم الملكوت و الناسوت ظاهراً، فهو يرى الموجودات الناسوتيّة بصور ملكوتيّة، و كلّ ما يقابله من الامور المادّيّة بصوره الملكوتيّة، و لا يصل للسالك في هذه المرحلة أي ضرر؛ لأنه قد وصل إلى قيامة النفس الوسطى، و أزاح الستار عن كثير من الامور الخفيّة، و شاهد كثيراً من الأحوال العجيبة. و هذه المرتبة هي مرتبة الإيمان الأعظم التي ذُكِرَت في القرآن الكريم بشكل واضح:
أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.۱
و كذلك قوله تعالى:
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.٢
و لا يخفى أنَّ السالك عندئذٍ بالإمكان أن يأخذه العجب و الأنانيّة من جرّاء ما يشاهده، و أن يواجهه أعظم الأعداء و أشدّهم قتالًا و هو نفسه، كما ورد في الحديث:
أعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ التي بَيْنَ جَنْبَيْكَ.
ففي هذه الحال إن لم تتدارك السالك العناية الربّانيّة سوف يبتلي بالكفر الأعظم، و قد أشاروا إلى هذا الكفر بقولهم: النَّفْسُ هِيَ الصَّنَمُ الأكبر، و هذه هي عبادة الأصنام التي التجأ النبيّ إبراهيم عليهالسلام إلى الله و استعاذ به منها: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ.٣ إذ من الواضح أنه لا يتصوّر تلك العبادة للأصنام المصنوعة في حقّ إبراهيم عليهالسلام، و إنَّما هو يستعيذ بالله من
ذلك الشرك الذي استعاذ منه الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله بقوله:
اللهمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّرْكِ الخفِيّ.
كلّ الخيرات من الله، و كلّ الشرور من النفس
إذن على السالك أن يعي مستعيناً بالعون الإلهيّ بأنه لا شئ، و أن يذعن بعجزه و ذله و عبوديّته و مملوكيّته، و أن يدع الأنانيّة حتّى لا يقع في أحضان الكفر الأعظم؛ ليوفّق بالتالي للوصول إلى الإسلام الأعظم، فقد كان بعض العارفين لا يتلفّظ بكلمة «أنا» و «نحن» طوال حياته، و إنّما كان قوله: جاء العبد و ذهب العبد. و البعض الآخر منهم كان يفصل بين ما هو مستند إلى الحسن و الجمال الإلهيّ فينسبه إلى ذات الحقّ، و ما هو راجع إليه و الساحة الإلهيّة المقدّسة بريئة منه فينسبه إلى نفسه، و ما يمكن إسناده إلى نفسه و إلى الله تعالى يأتي به بصيغة الجمع كنحن، و هذه الطريقة قد استفادها من قصّة موسى و الخضر عليهما السلام، إذ يقول الخضر عليهالسلام:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها.۱
فأتى هنا بصيغة المفرد المتكلم و نسب العيب لنفسه، لأنَّ العيب لا يسند إلى الذات الإلهيّة.
وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً ، فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً.۱
لأنَّ القتل يمكن أن ينسب إلى الله و إلى الخضر لذا جاء به بصيغة الجمع.
وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما.٢
لأنَّ التوجّه إلى الخير و إرادة الكمال و النفع تستند إلى الذات الإلهيّة، لذا نسبه إلى الله تعالى، و هكذا في حديث إبراهيم عليه السلام حيث تبرز هذه الطريقة في الخطاب:
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ ، وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ.٣
فهو هنا قد نسب المرض لنفسه و الشفاء لله تعالى. و لا يتمّ الوصول إلى مقام الإسلام الأعظم، و رفض أنانيّة النفس التي هي محلّ بروز الشيطان و ظهوره إلّا بالتوفيق الإلهيّ.
يقول الحاجّ إمام قلي النخجوانيّ، استاذ المرحوم السيّد حسين القاضيّ والد المرحوم الحاجّ الميرزا على القاضي رضوان الله تعالى عليهم في المعارف، و الذي درس الأخلاقيّات و المعارف الإلهيّة، و طوى المراتب الكماليّة عند المرحوم السيّد قريش القزوينيّ رضوان الله عليه: «حينما صرت كهلًا رأيت الشيطان في الخلسة، و كنّا واقفينِ على جبل، فوضعت يدي على لحيتي و قلت له: ها قد أصبحتُ كهلًا و بلغني الكبر، فهلا تتركني و تذرني وحيداً. فأشار إليّ بأن أنظر إلى جانبي، و عندما نظرتُ رأيت وادياً عميقاً جدّاً يبهت العقل من شدّة الرعب و يأخذ بمجامع الإنسان، ثمّ قال لي: أنا ليس في قلبي أي رحمة و مروءة و عطف، و أنت لو عَلِقتَ في حبالي سوف يكون مكانك في هذا الوادي الذي تراه الآن».
عوالم الإيمان الأعظم، الهجرة العظمى و الجهاد الأعظم
الإيمان الأعظم
المرحلة التي هي أعلى من الإسلام هي مرحلة الإيمان الأعظم. و هي عبارة عن شدّة ظهور و وضوح الإسلام الأعظم بحيث
يتجاوز العلم و التصديق إلى مرتبة المشاهدة و العيان، و فيه يرتحل السالك من عالم الملكوت، فتقوم عليه القيامة النفسيّة الكبرى، و يدخل إلى عالم الجبروت منتقلًا من المشاهدات الملكوتيّة إلى المعاينات الجبروتيّة.
الهجرة العظمي
بعد هذا على السالك أن يهاجر من وجوده، و يرفضه مطلقاً، و هذا هو السفر إلى عالم الوجود المطلق. و إلى هذه المرحلة إشارة في حديث بعض الأعاظم: دَعْ نَفْسَكَ وَ تَعَالَ. و يشير لها -أيضاً- قوله تعالى: فَادْخُلِي فِي عِبادِي ، وَ ادْخُلِي جَنَّتِي.۱ و إن أتت «وَ ادْخُلِي جَنَّتِي» بعد «فَأدْخُلِي في عِبَادِي». و خطاب يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ هو خطاب للنفس التي فرغت من الجهاد الأكبر، و دخلت إلى عالم الفتح و الظفر الذي هو مقرّ الاطمئنان. ولكن لأنها لم تفرغ بعد من المجاهدة العظمى، و ما زالت آثارها الوجوديّة باقية، و لأنَّ غاية الاضمحلال متوقّفة على تحقّق الجهاد الأعظم، فهي لم تتخلّص بعد من هيمنة التسلّط و القهر، و هي في مضمار «المليك» و «المقتدر»، و هما اسمان عظيمان لله تعالى:
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.۱
الجهاد الأعظم
يجب على السالك بعد هذه المرحلة أن يتغلّب في المجاهدة على الآثار الضعيفة لوجوده، و يزيل بقاياها المختفية فيه كاملًا و من الجذور، حتّى يقدر أن يضع قدمه في بساط التوحيد المطلق، و هذا العالم هو عالم الفتح و الظفر. و بهذا تكون العوالم الاثنا عشر قد طويت، و هذا الشخص الذي عبر الهجرة العظمى و الجهاد الأعظم و صار فاتحاً و مظفّراً سوف يدخل عالم الخلوص، و قد دخل في مضمار إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ،٢ و قامت بذلك قيامته النفسيّة العظمى، و تخطّي الأجسام و الأرواح و جميع التعيّنات، مُفنياً ذاته عنها جميعاً، واضعاً قدمه في عالم اللاهوت، ليخرج من تحت كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ.٣ فمثل هذا الإنسان قد مات بالموت الإراديّ، و لهذا قال رسول الله صلّى الله عليه و آله:
مَنْ أرَادَ أنْ يَنْظُرَ إلَى مَيِّتٍ يَمْشِي فَلْيَنْظُرْ إلَى عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ.
مزيّة سالكي أُمَّة الإسلام على سالكي بقيّة الامم
بيان و توضيح: إنَّ الكمالات التي ذكرت إلى الآن،
و بُيِّنَت آثارها و علائمها بالتقريب، هي فيوضات -من جانب ربّ العزّة- تختصّ بامَّة خاتم الأنبياء و المرسلين محمّد بن عبدالله صلّى الله عليه و آله. فسالكي الامم السالفة و الشرائع السابقة كانت كمالاتهم محدودة، حيث كان بمقدورهم أن يشاهدوا أسماء و صفات الربّ فقط، و ذلك بعد حصول الفناء و الذوبان، و ما كان يخطر في أذهانهم ما هو أعلى من هذا. و سرُّ ذلك أنَّ منتهى معارفهم كلمة لَا إله إلَّا الله و حاصلها شهود الذات الجامعة لجميع الصفات الكماليّة و الجماليّة، ولكنَّ سالكي امَّة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله هم في مرحلة أعلى من هذه بكثير، و قد ساروا إلى مراحل أبعد لا يمكن بيانها و شرحها، و سبب ذلك أنَّ جميع التعاليم الإسلاميّة تعود إلى كلمة «الله أكبر مِنْ أنْ يُوصَفَ».
و بناء على هذا فإنَّ المراحل التي يطويها السالك المسلم سوف تنتهي تلقائيّاً إلى حدّ لا يقبل البيان و الوصف، و ذلك لارتباط السلوك بالكلمة المباركة «الله أكبر مِنْ أنْ يُوصَفَ». لهذا فإنَّ نفس الأنبياء السالفين لم يكونوا يتصوّرون شيئاً فوق مقام شهود الأسماء و الصفات الإلهيّة ليُحَلِّقوا بطائر هممهم إلى ذلك العشّ، و لذلك كانوا يتوسّلون بالولاية المعنويّة و الروحيّة -للرسول الأكرم و أميرالمؤمنين و الصدّيقة الطاهرة و الأئمّة الأطهار- عندما
كانت تحيط بهم البلايا الدنيويّة، فيجدون الخلاص. و هذا هو مقام الولاية المعنويّة الكبرى الذي كان يدفع الهموم و الغموم عن الأنبياء.
و هذا المقام و إن كان معلوماً عندهم إجمالًا، و على أساسه كانوا يتوسّلون بمقامات الأطهار العالية، ولكنّ كيفيّته و خصائصه بقيت مجهولة لديهم إلى أواخر حياتهم عليهم السلام. نعم يستفاد من القرآن الكريم حصول حالتين للنبيّ إبراهيم عليهالسلام -لكن لا على نحو الدوام- استطاع فيهما أن يشهد الحقائق العالية و الفيوضات الكاملة، و سيتحقّق هذا المقام في المنزل الآخر.
مقام «الصلاح» أرفع من مقام «الإخلاص»
قبل الاستعانة بالقرآن الكريم للاستدلال على هذه القضيّة، نذكر أنَّ لمقام الإخلاص مراتب تشكيكيّة، و قد نصّ القرآن على وصول عدّة من الأنبياء لمرتبة الإخلاص، و مع هذا كله هناك مقام أعلى و أعظم لم يصلوه، و كانوا يتضرّعون إلى الله تعالى بغية الوصول إليه، كما نجد ذلك في القرآن الكريم حكاية عن النبيّ يوسف عليهالسلام الذي كان من المخلَصين: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ،۱ مع هذا فقد كان يطلب من الله تعالى أن يلحقه بالصالحين:
أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.۱ بناء على هذا لم يكن النبيّ يوسف عليهالسلام قد وصل إلى مقام الصلاح، و لهذا كان يطلب اللحوق بالصالحين بعد الموت. ولكن هل استجيبت دعوة يوسف أم لا، و هل سيصل إلى مقام الصلاح يوم القيامة أم لا؟ هذا ما لم تشر إليه الآيات القرآنيّة التي ذُكرت، و مع أنَّ النبيّ إبراهيم عليهالسلام كان له المقام الشامخ في الخلوص، إلّا أنه كان يقول:
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.٢
إذن مقام «الصلاح» الذي كان النبيّ إبراهيم الخليل عليه السلام يدعو الله تعالى أن يلحقه بالواصلين إليه هو أعلى من مقام الخلوص. و الله لم يجب دعاءه في الدنيا، بل وعده أن يكون في الآخرة:
وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.٣
يجب أن يُعلم أنَّ هذه المرتبة من الصلاح التي تمنّاها
الأنبياء السابقون هي غير الصلاح الذي اعطي لإبراهيم و أولاده بنصّ الآية الكريمة:
وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ.۱
لأنَّ هذا الصلاح كان حاصلًا للجميع، و من جملتهم النبيّ إبراهيم عليهالسلام الذي كان يرجو -مع ذلك- الوصول إليه؛ فهذا الصلاح الذي كان يرجوه أعلى من ذلك بكثير.
و أمّا الدليل على أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و عدّة في زمانه قد وصلوا إلى درجة الصلاح، هي الآية الكريمة الناطقة عن لسان الرسول صلّى الله عليه و آله.
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ.٢
فالرسول صلّى الله عليه و آله قد أثبت لنفسه -في هذه الآية- الولاية المطلقة للحضرة الإلهيّة ابتداءً، ثمّ قال إنَّ وليّي هو الذي يتولّى امور الصالحين، فعُلم من هذا وجود أفراد من المخلَصين الذين هم في مقام الصلاح في ذلك الزمان، و أنَّ الله كان متوليّاً لُامورهم. بناء على ما ذُكر فإنَّ سرّ دعاء الأنبياء السالفين و توسّلهم بالخمسة المطهّرين أو الأئمّة الأطهار قد اتّضح، و اتّضح
-أيضاً- مدى علوّهم، و سموّ منزلة الصلاح فيهم، بحيث يطلب النبيّ إبراهيم عليهالسلام من ربّه أن يلحقه بهم.
إثبات مقام الإخلاص للأنبياء العظام
و للاستدلال على أنَّ الأنبياء العظام قد وصلوا إلى مقام الإخلاص، يمكن الاستعانة بالآيات الشريفة بعدّة أوجه:
الأوّل: عن طريق حمده و ثنائه، و كما صرّح به القرآن من أنه سبحانه و تعالى لا يحيط به حدّ و لا يدركه نعت، و لا يمكن لأحد أن يصفه و يحمده بما يليق بساحة كبريائه إلّا عباده المخلَصين؛ قال الله عزَّ مِن قائلٍ:
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.۱
و يأمر الله تعالى نبيّه بالحمد، حيث يقول:
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ.٢
و يحكى عن حمد إبراهيم عليهالسلام:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ.٣
و يأمر النبيّ نوحاً على نبيّنا و آله و عليهالسلام أن يؤدّي الحمد حيث يقول:
فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.۱
الثاني: التصريحات القرآنيّة حول مقام إخلاص بعض الأنبياء العظام، كما ورد في شأن النبيّ يوسف عليهالسلام:
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ.
و في شأن النبيّ موسى بن عمران عليهالسلام: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا.٢
و في شأن الأنبياء إبراهيم و إسحاق و يعقوب عليهم السلام:
وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ ، إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ.٣
الثالث: عن طريق شكرهم لله تعالى، فمن جانب طبقاً للآية الكريمة:
فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.٤
فليس للشيطان من قدرة على قلّة من العباد، و هم المخلَصون.
و من جانب آخر طبقاً للآية الكريمة:
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ.۱
فالعباد الذين أغواهم الشيطان ما كانوا من الشاكرين.
و من هنا يتّضح أنَّ أيدي الشيطان لا تصل إلى الشاكرين الذين هم العباد المخلَصون. فإذا وجدنا في القرآن الكريم عباداً يصفهم الله تعالى بصفة الشكر و الشاكرين، نفهم أنهم من عباد الله المخلَصين، و من جملتهم النبيّ نوح عليهالسلام، فقد قال تعالى عنه:
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً.٢
و قال بالنسبة للنبيّ لوط عليهالسلام:
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ ، نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ.٣
و قال بالنسبة للنبيّ إبراهيم عليهالسلام:
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، شاكِراً لِأَنْعُمِهِ.۱
و بشكل عامّ، فإنَّ كلّ الأنبياء الذين عُرِفوا بصفة الشكر كانوا من المخلَصين.
الرابع: عنوان الإجتباء، حيث يصف الله تعالى بعض الأنبياء بهذا الإجتباء:
وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ، وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.٢
و يمكن الاستدلال بهذه الآيات الكريمة على مقام إخلاص جميع الأنبياء، بخلاف طرق الاستدلال السابقة التي استنتجنا منها إخلاص أفراد معدودين ممّن ورد ذكرهم. و استدلالنا هنا يتوقّف
على أمرين:
الأوّل: عنوان الإجتباء؛ لأنَّ هذه الكلمة تعني إختيار شيء من بين أشياء متشابهة، فإذا اختار شخص بعض التفّاحات من صندوق التفّاح، فإنَّ هذه العمليّة تسمّى اجتباءً. فعندما يقول تعالى في الآية الكريمة وَ اجْتَبَيْناهُمْ، أي اخترناهم من بين جميع المخلوقات و البشر، و جعلناهم في مكان أو مقام خاصّ بنا، يتفاوت حكمهم -بناء على ذلك- عن الآخرين؛ فهؤلاء أفراد قد اختيروا بتمام المعنى لله، فهم تحت إشرافه. و معلوم أنَّ هذا الإجتباء لله ينطبق على عنوان الإخلاص، لأنَّ المخلَصين هم اولئك الذين كانوا لله، و قُطعت نسبتهم كلّيّاً عن جميع الموجودات و تعلّقوا بالحضرة القدسيّة.
الثاني: أنَّ هذا الإجتباء في الآية لا يختصّ بأفراد معيّنين، و إن كان تعالى قد قال -بعد ذكر نوح و إبراهيم و ستّة عشر آخرين من الأنبياء و ذكر آباءهم و ذرّيّتهم و إخوانهم-، إنَّ هؤلاء اجتبيناهم، و ما هو معلوم، أنَّ المراد من إخوانهم، إخوانهم الروحيّون و الأخلاقيّون الذين يساوونهم بالمعارف الإلهيّة و السلوك. و هكذا يستفاد من هذه الآية الإطلاق، بل العموم، فيمكن الاستدلال بها على مقام إخلاص جميع الأنبياء.
بعد فهمنا لشرح عوالم السلوك الإثني عشر، ينبغي البحث في الطريق وكيفيّة السفر والسلوك. ويوجد بيانان أحدهما إجمالي و آخر تفصيلي.
الفصل الثالث: الشَّرْحُ الإجْماليّ لِلْطَريقِ وَ كَيْفيَّةِ السُّلوُكْ إلَى الله
البيان الأوّل: إن أوّل ما يلزم للسالك أن يقوم به هو الفحص و البحث في الأديان و المذاهب، و بذل ما يمكنه من السعي حتّى يصل إلى مقام توحيد الله المتعال و يدرك حقيقة هدايته، و إن كان ذلك بصرف الظنّ و مجرّد الترجيح. فبعد التصديق العلميّ أو الظنّيّ يخرج من الكفر ليدخل في الإسلام و الإيمان الأصغرين، و الإجماع قائم في هذه المرحلة على أنَّ الاستدلال واجب على كلّ مكلّف. و إذا لم يحصل للمكلّف بعد السعي و البحث أي ترجيح، فعليه أن يشمّر عن ساعد الهمّة، و متابعة الإصرار بذرف الدموع و التضرّع و الأنين و الإبتهال حتّى يفتح له الباب، كما هو مأثور عن حالات النبيّ إدريس على نبيّنا و آله و عليهالسلام و مريديه.
و المراد من الإبتهال و التضرّع هو أن يلتفت الإنسان إلى عجزه و مسكنته، و يطلب الهداية من صميم قلبه. و من البديهي أنَّ
الله سبحانه لا يترك عبده المسكين الطالب للحقّ و العاشق للحقيقة دون أن يهديه طريق الخلاص.
وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا.۱
نبيّ الله إدريس عليهالسلام يتحدّث مع العلّامة الطباطبائيّ في المنام
و أذكُر٢ حينما كنت في النجف الأشرف أنهل من التربية الأخلاقيّة و العرفانيّة على يد المرحوم الحاجّ الميرزا عليّ القاضيّ رضوان الله عليه، كنت جالساً حين السحر على سجّادة الصلاة، فاستولى علَيّ النعاس و شاهدت رَجُلينِ جالسينِ مقابلي، كان أحدهما النبيّ إدريس عليهالسلام، و الآخر أخي العزيز الحاجّ السيّد محمّد حسن الطباطبائيّ الذي يعيش حاليّاً في تبريز، و في ذلك الموقف كان النبيّ إدريس عليهالسلام منشغلًا بالتحدّث معي، و رغم أنه كان المتكلم إلّا أنّني كنت أسمع كلامه بواسطة صوت أخي السيّد الطباطبائيّ. و قال لي: «لقد وقعت في حياتي العديد من الأحداث المهولة، و بالحسابات العادّية كان تفسيرها محالًا بل ممتنعاً، ولكنّها كانت تحلّ أمامي فجأة، فاتّضح لي أنَّ ذلك بواسطة يد فوق الأسباب و المسبّبات العادّية من عالم الغيب،
و كان هذا أوّل انتقال لي ربط عالم الطبيعة بعالم ماوراء الطبيعة و خيط ارتباطنا يبدأ من هنا».
ففي ذلك الوقت خطر ببالي أنَّ المراد من ابتلاءات النبيّ إدريس عليهالسلام هي تلك الصدمات و المشاكل في أيّام الطفولة، و المقصود أنه إذا توسّل الإنسان بصدق في مسألة الهداية و استعان بربّه، سوف يُعينه و يساعده جزماً، و في تلك الحال يكون الإستمداد من الآيات القرآنيّة موافقاً لواقع العبد و مؤثّراً فيه و نافعاً له، قال الله تبارك و تعالى:
أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.۱
و يكون أيضاً للأوراد المعروفة مثل: يَا فَتَّاحُ، يَا دَلِيلَ المتَحَيِّرِينَ، و أمثالها تأثير عظيم، و لا يحصل هذا إلّا بأدائها بالقلب الولهان و الحضور و التوجّه الكافيين.
قصّة الشابّ المريد قلبيّاً للهداية
نقل لي أحد أصدقائي بأنه تشرّف ذات مرّة بزيارة العتبات المقدّسة في كربلاء، و قال: «انطلقت بنا السيّارة من إيران و إلى جانبي كان يجلس شابّ حليق الذقن تبدو عليه السمنة، و لهذا لم يجر بيننا أي حديث، و أثناء الطريق إذا بصوته يرتفع فجأة
بالبكاء و النحيب، ممّا أثار دهشتي، فسألته عن سبب بكائه، فقال لي: إنني إذا لم اخبرك فلمن أقول. أنا مهندس مدنيّ، و قد رُبّيت منذ الطفولة تربية غير دينيّة، فلم أكن أعتقد بالمبدأ و المعاد، و إنَّما كنت أشعر أنَّ في قلبي ميلًا و محبّة للمتديّنين فقط، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيّين أو يهوداً.
و في يوم كنت في إحدى السهرات الليليّة التي كان يحضرها أكثر رفقائي البهائيّين، حيث رقصنا و لعبنا ساعات و ساعات، فجأة شعرت في أعماق نفسي بالخجل، و تضايقت من أفعالي، و اضطررت أن أخرج من الغرفة و صعدت إلى الطابق العلويّ و هناك أجهشت بالبكاء، و رحت اردّد في نفسي و أقول: يا ذا الذي إن كان هناك إله فهو أنت! أدركني، ثمّ نزلت إلى الحفل الذي كان منتهياً. و في اليوم التالي كنت عازماً على السفر في مهمّة فنيّة بصحبة رئيس القطار و بعض الشخصيّات، و فجأة رأيت سيّداً نورانيّاً يقترب منّي، فسلم علَيّ و قال: اريد أن ألتقي بك. فوعدته بأن أراه غداً بعد الظهر. و بعد ذهابه أخبرني أحد أصدقائي بأنَّ هذا الرجل من السادة الكبار، فلماذا سلمت عليه بلا مبالاة؟ فقلت: لقد ظننت أنه أتى و سلم علَيّ لحاجة له عندي! و بعدها أمرني رئيس القطار بالسفر في اليوم التالي، و بالتحديد في الموعد الذي أبرمته
مع السيّد و كلّفني بعدّة امور و أعمال. فقلت في نفسي: لن أستطيع بعد هذا أن ألتقي بالسيّد غداً.
في اليوم التالي -عندما اقترب موعد العمل- أحسستُ بالضعف شيئاً فشيئاً، و اعترتني حمّى شديدة ألزمتني الفراش و أحضروا لي الطبيب، ممّا أدّى إلى إعفائي من المهمّة التي كلّفت بها في ذلك اليوم. و ما إن خرج الرجل الذي أرسله رئيس القطار إلَيّ، و تأكّد من مرضي، إذا بالحمّى تزول عنّي، و عادت حالتي إلى طبيعتها، و أحسست بالراحة مجدّداً. حينها أدركت أنه لابدّ من وجود سرّ في ذلك. فنهضت ثمّ ذهبت إلى منزل ذلك السيّد، و ما إن جلست عنده بدأ يلقي علَيّ دورة من الاصول الاعتقاديّة بالأدلّة و البراهين، بحيث أصبحت مؤمناً. ثمّ كلّفني بعدّة امور، و أمرني بالمجيء إليه في اليوم التالي. ترددتُ عليه عدّة أيّام، و كنت -كلما جئت إليه- أسمع منه أخباري و الحوادث التي وقعت في أيّامي الماضية دون زيادة أو نقيصة، و لم يكن مطّلعاً عليها أحد غيري، و حتّى نيّاتي التي عزمت عليها و لم أخبر بها أحداً.
و مرّت الأيّام فاضطررت ذات ليلة أن أشترك في سهرة للأصدقاء، جرّتني إلى طاولة القمار. في اليوم التالي، عندما دخلت عليه، قال لي على الفور: الم تستح و تخجل من ارتكاب
هذه المعصية الكبيرة، فبدأت دموع الندم تنهمر من عينيّ، و قلت له: لقد أخطأتُ، و أنا أتوب الآن. فقال: ينبغي أن تغتسل غسل التوبة و لا تعد إلى تلك المعصية. فحدّد لي عدّة تكاليف. و باختصار، غيّرتُ سيرتي و برنامج حياتي.
و لأنَّ هذه القضيّة حدثت في زنجان، فعندما أردت الانتقال إلى طهران أمرني بزيارة بعض العلماء هناك، و في النهاية امِرتُ أن أزور العتبات المقدّسة. و هذا السفر كان بأمر السيّد الجليل».
قال صاحبي: و عندما اقتربنا من الحدود العراقيّة، سمعت صوته قد علا بالبكاء ثانية، فسألته عن السبب. فقال:
«و نحن ندخل أرض العراق -الآن- رأيت أبا عبدالله عليه السلام يقول لي: مرحباً بكم».
و مرادي أنه إذا سار الإنسان في طريق الصدق و الصفاء، و طلب الهداية من ربّه من صميم قلبه، سوف يوفّق لها، و إن كان لديه شكّ في التوحيد.
العلم يورث العمل، و العمل يورث العلم
عندما يوفّق السالك في هذه المرحلة، عليه أن يشمّر عن ساعد الهمّة لتحصيل الإسلام الأكبر و الإيمان الأكبر. و أوّل الامور اللازمة في هذه المرحلة تعلم الأحكام الشرعيّة التي يجب أن يتعلمها على يد فقيه، و بعد تحصيل العلم، عليه أن ينهض لمقام
العمل و يداوم عليه حتّى تزداد معرفته و يرتفع يقينه درجة درجة؛ لأنَّ العلم يورث العمل و العمل يورث العلم. فلازم الاعتقاد الشديد بالشيء، العمل به و تطبيقه. و بالبرهان الإني نكتشف أنَّ عدم العمل بالشيء يكون نتيجة لعدم جزميّة علمه و اعتقاده و إذعانه، فهو مجرّد صور منتقشة في قوى الخيال.
فالذي يعتقد بالعلم الواقعيّ الحقيقيّ برازقيّة الحضرة الأحديّة المطلقة، لا يتهالك على تحصيل المال، بل يقتصر على الكفاف الذي أمر به الشرع، و يسعى بهدوء البال و سكون الخاطر و بقدر طاقته لتحصيل ذلك المعاش له و لعياله. و الذي يجعل نفسه عُرضة للقلق و الهموم و الغموم من أجل تحصيل المعاش، و يسعى فوق الحدّ الطبيعيّ له، يُعلم أن لا اعتقاد له بالرازقيّة المطلقة، و إنَّما يعتقد بالرازقيّة المقيّدة، بأن يعتبر الله رازقاً فيما لو توفّر هذا المقدار من السعي المجهد، أو يعتبره رازقاً مقيّداً بامتلاك الثروة أو بإعطاء المال آخر الشهر إلى غير ذلك من القيود. بناء على هذا، يكون الاضطراب الخارجيّ أو الداخليّ حاكياً عن عدم العلم بالرازقيّة، أو بكونها مقيّدة. و هذا هو معنى وراثة العلم للعمل. و أمّا مثال وراثة العمل للعلم: أنَّ الإنسان إذا قال بصدق:
سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى وَ بِحَمْدِهِ.
سوف يتحسّس الذلّ، و بديهيّ أنَّ الذلّ لا يتحقّق بدون العزّ، فالذليل دائماً في مقابل العزيز و المقتدر؛ إذن لا يجد مناصاً من التوجّه إلى مقام العزّة المطلقة، ثمّ يفهم أنه لابدّ مع هذه العزّة من علم و قدرة أيضاً، و هكذا. فمن هذا العمل البسيط -الذي هو ذكر يتلى حال السجود- يطّلع على العزّة المطلقة و العلم المطلق و القدرة المطلقة لله تعالى. و هذا هو معنى أداء العمل للعلم، و ينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى: وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
فينبغي له أن يبادر بنشاط للأعمال الواجبة، و يجدّ في ترك المحرّمات؛ لأنَّ سلوك طريق الله يتنافى مع ترك الواجب و ارتكاب المحرّم. و بمراعاة هذين الأمرين تسير جهود السالك و أتعابه في طريق الصلاح، و إلّا فما هي فائدة الزينة مع تلوّث البدن، كذلك الأعمال المستحبّة و الرياضات الشرعيّة لن تكون مثمرة مع تلوّث القلب و الروح. فليجدّ السالك في ترك المكروهات، و أداء الأعمال المستحبّة؛ لأنَّ حصول مرتبة الإسلام الأكبر و الإيمان الأكبر تتوقّف على الأعمال، باعتبار أنَّ لكلّ عمل خاصيّة تختصّ به تؤدّي إلى تكميل الإيمان، و إلى هذا المعنى اشير في حديث محمّد بن مسلم:
الإيمانُ لا يَكُونُ إلَّا بالعَمَلِ، و العَمَلُ مِنهُ، و لا يَثبُتُ
الإيمانُ إلَّا بالعَمَلِ.
لهذا على السالك أن يؤدّي كلّ عمل مستحبّ ولو مرّة واحدة، حتّى يجد حظّه الإيمانيّ من ذلك العمل، كما جاء في أحاديث أميرالمؤمنين عليهالسلام إنَّ الإيمان الكامل ينشأ من العمل، إذن على السالك إلى الله أن لا يتوانى أثناء السير إلى منزل الإيمان الأكبر عن القيام بالأعمال المستحبّة. و بديهيّ أنه بالمقدار الذي يتسامح و يتساهل في أداء الأعمال المستحبّة ينقص إيمانه بذلك المقدار؛ لهذا إذا قام السالك بتطهير يده و لسانه و سائر أعضائه و جوارحه، و أدّبها -بتمام معنى الكلمة- بالأدب الإلهيّ، ولكنّه لم يجاهد نفسه في مقام الإنفاق و بذل الأموال، فلن يكتمل سلوكه الإيمانيّ، بل يسير إلى النقص، و يكون ذلك النقص مانعاً له من الارتقاء إلى المقام الأعلى. بناء على هذا ينبغي أن يعطي كلّ عضو من أعضائه حظّه الإيمانيّ حتّى تحصل له حالة الإيمان، كأن يشغل القلب الذي هو أمير البدن بالذكر و الفكر، فالذكر: عبارة عن تذكير القلب بأسماء و صفات حضرة الباري تعالى شأنه، و الفكر عبارة عن توجيه القلب إلى الآيات الآفاقيّة و النفسيّة، و ينبغي التأمّل و التدقيق في صنعها و سيرها حتّى يرتوي قلب الإنسان من منبع الإيمان بواسطة هذين العملين.
أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.۱
و بعد أن ينال كلّ عضومن الأعضاء حظّه الإيمانيّ، يجب أن يبدأ بالمجاهدة، و بها يكمل نقصان الإسلام الأكبر و الإيمان الأكبر، و يبتعد عن حالة الشكّ و الظنّ ليصل إلى اليقين.
الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ.٢
و تكون نتيجة المجاهدة -إضافة إلى ورود الصراط المستقيم- الأمن و الحفظ من حبائل الشياطين.
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ.٣
الخوف، عبارة عن الحذر و ترقّب ما لم يقع بعد، مع كون المترقب مورد إزعاج الإنسان و قلقه. و الحزن، عبارة عن الهمّ و الغمّ من أمر غير ملائم و غير مقبول قد وقع. هذان الأمران ليس لهما طريق إلى السالك، لأنه قد جعل عمله كله لله، و ليس له مقصود سوى الله، فهو لا يحزن لأمر قد فات، و لا يخاف من شيء مترقّب، فهنا اليقين الذي وصف الله تعالى ذويه
بالأولياء. و يشير إلى ذلك قول أميرالمؤمنين عليهالسلام:
أبْصَرَ طَرِيقَهُ، وَ سَلَكَ سَبِيله، وَ عَرَفَ مَنَارَهُ، وَ قَطَعَ غِمَارَهُ، فَهُوَ مِنَ اليَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ.
و يقول أيضاً:
هَجَمَ بِهِمُ العِلم عَلَى حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ، وَ بَاشَرُوا رُوحَ اليَقِينِ، وَ اسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المتْرَفُونَ، وَ أنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجاهِلُونَ، وَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأبْدَانٍ أرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمحَلِّ الأعْلَى.
ففي هذه المرحلة بالذات تُفتَح له أبواب الكشف و الشهود.
الارتباط الداخليّ للسالك بعالم الملكوت لا يتنافى مع
و من البديهيّ أنَّ طيّ هذا المنزل لا يتنافى مع كون السالك في الدنيا منشغلًا باموره الضروريّة، و لا علاقة لفيوضاته القلبيّة بالأوضاع الخارجيّة من النكاح و التكسّب و التجارة و الزراعة و أمثالها، و في الوقت الذي يكون السالك بين الناس منشغلًا بامور الدنيا، تكون روحه سائرة تشارك الملكوتيّين أسرارهم، مَثَلُ هذا الإنسان مثل من تنزل عليه المصيبة بفقدان عزيز، فهو في حال المصيبة بين الناس يتكلم معهم و يجالسهم و يأكل و ينام، أمّا في أعماقه فهناك البحر الهائج و أمواج الخواطر المتلاطمة التي تذكّره بالمحبوب، كلّ من ينظر إلى وجهه يرى آثار المصيبة.
و سالك طريق الله له حين الاشتغال بالامور الدنيويّة ألوان من الإرتباطات و الإتّصالات مع ربّه، يموج في قلبه بحر من الشوق، و في كيانه تتوقّد نيران العشق، و تذيب فؤاده حرق الفراق و الهجران، و لا يعلم عن هذا البركان المتفجّر في أعماقه أحد سوى الله، ولكن من ينظر إلى وجهه يعلم إجمالًا أنَّ عشق الله و عبادة الحقّ و التوجّه إلى الحضرة المقدّسة قد فعل به ما فعل.
من هذا البيان يُعلم أنَّ التضرّع و المناجاة و الإبتهال الذي كان للأئمّة الأطهار -كما ورد في أدعيتهم المأثورة- لم يكن تصنّعاً، أو لأجل إرشاد الناس و تعليمهم، فهذا التوهّم ناشئ من الجهل و عدم إدراك الحقائق، لأنَّ شأنهم عليهم السلام أجلُّ و مقامهم أشرف من أن يظهروا بيانات دون أن يكون لها معنى أو حقيقة، أو يدعوا الناس إلى الله بالأدعية و المناجاة الكاذبة، فهل يمكن القول إنَّ كلّ هذا الأنين و التضرّع و الهيام لمولى الموالي أميرالمؤمنين و الإمام السجّاد عليهما السلام لم تكن في الواقع حقيقيّة بل كان فيها شيء من التصنّع أو التعليم؟ حاشا و كلّا، فهذه الطائفة من أئمّة الدين سلام الله عليهم باعتبارها اجتازت مراتب السلوك، و دخلت حرم الله و وصلت إلى مقام البقاء بعد الفناء الذي هو مقام البقاء بالمعبود، فحالهم جامع بين عالمي الوحدة
و الكثرة، و يراعون نور الأحديّة على الدوام في مظاهر عوالم الإمكان و الكثرات الملكيّة و الملكوتيّة، و لامتلاكهم عليهم السلام هذه الدرجة السامية من الكمالات، فإنّهم دائماً يراعون لوازم عالم الملك و الملكوت، فهم لا يتسامحون في أصغر أو أدنى حكم من الأحكام أو أدب من الآداب أو حال من الأحوال المتناسبة مع هذه العوالم، و في نفس الوقت تراهم يحتفظون بتوجّههم الخاصّ إلى العوالم العالية، و لهذا سُمُّوا بالموجودات النوريّة.
عالم الفتح و الظفر و الانتقال من مملكة الملكوت
أجل؛ و بعد أن وفّق السالك و طوى هذه العوالم و تغلّب على الشيطان، سوف يدخل عالم الفتح و الظفر، و يصل إلى مرحلة طيّ العوالم اللاحقة. فالسالك حينها يكون قد طوى عالم المادّة، و دخل في سلك عالم الأرواح، و من هنا يبتدئ سفره الأعظم، أي السفر من عالم النفس و الروح، و الإنتقال من دولة الملكوت إلى مملكة الجبروت و اللاهوت.
كيفيّة السير في هذا الطريق -بعد البيعة مع الشيخ العارف، و وليّ الله الذي اجتاز مقام الفناء
ووصل إلى مقام البقاء بالله، والمطّلع على المصالح و المفاسد و المنجيات و المهلكات، و المتمكّن من
تولّي زمام أمور تربية السالك، و هدايته إلى كعبة المقصود- عبارة عن الفكرو الذكروالتضرّع و الإبتهال
إلى الله قاضي الحاجات، و من الطبيعيّ أن يكون سفره في هذه المنازل متعلّقاً بامور عديدة ينبغي أن
تراعى جميعها بنحو أحسن و أكمل.
الفصل الرابع: الْشَّرْحُ التَّفْصيليّ لِلْطَريقِ وَ كَيفيَّةُ السَّيْر إلى اللَه
الأوّل: ترك العادات و الرسوم و المجاملات
و الإبتعاد عن الامور الاعتباريّة التي تمنع السالك من طيّ الطريق. و المقصود أن يعيش السالك بين الناس بنحو الاعتدال. فالمجتمع يحتوي على طائفة من الناس قد غرقت في المراسم الاجتماعيّة، لا همّ لها سوى جلب الأصدقاء و الخلّان، و لا تبخل بأيّ شكل من أشكال المجاملة و الزيارات المضرّة أو التي ليست لها فائدة حفاظاً على شخصيّتها و مقامها الخاصّ، و تتكلّف العادات و التقاليد التي تحفظ لها حُسن الظاهر، تاركة صميم الحياة لحفظ هامشها، جاعلة المعيار في التقبيح و التحسين آراء عوامّ الناس، واضعة الحياة و العمر في معرض التلف و الهلاك حتّى صارت سفينة وجودهم لعبة تتقاذفها الأمواج المتلاطمة للرسوم و العادات المفتعلة، فأينما سارت الأمواج بآداب العوامّ و أخلاقيّاتهم سارت معها، فاقدة للإرادة قبال المجتمع، منساقة
انسياق العبيد.
و في المقابل هناك طائفة اخرى اعتزلت الجماعة، و ابتعدت عن كلّ نوع من العادات و الآداب الاجتماعيّة، و تنصّلت من الاجتماعيّات، فلا معاشرة و لا مزاورة لهم مع الناس، و بقي أصحابها كذلك حتّى عرفوا بالمنزوين.
ولكي يتمكّن السالك من الوصول إلى المقصد، عليه أن يختار طريق الاعتدال بين هذين المسلكين، و يتجنّب الإفراط و التفريط، و يسير على صراط مستقيم، و هذا الأمر لا يحصل إلّا بمراعاة المقدار الذي تقتضيه الضرورة في مجال المعاشرة و مزاولة المجتمع، نعم لو حصل امتياز قهريّ بين السالك و غيره على أثر اختلاف كميّة المعاشرة أو كيفيّتها، فإنَّ هذا الأمر لن يكون مضرّاً، و بالطبع فإنَّ مثل هذا الاختلاف ليحصل، فالمعاشرة لازمة و ضروريّة، ولكن لا إلى الحدّ الذي يجعل السالك نفسه تابعاً لأخلاقيّات الناس، وَ لا يَخافُونَ فِي الله لَوْمَةَ لائِمٍ۱ هذه الآية تحكي عن مدى ثباتهم على هذا النهج المستقيم، و تصلُّبهم في رأيهم و مسلكهم.
و بشكل عامّ، يمكن أن نقول إنَّ على السالك أن يقيس و يحدّد النفع و الضرر في كلّ أمر اجتماعيّ، و لا يجعل نفسه تابعاً لآراء الناس و أهوائهم.
العزم الراسخ في طريق السلوك
الثاني: العزم
ما أن يضع السالك القدم الاولى في ميدان المجاهدة حتّى تنصبّ عليه الحوادث الشديدة و البلاءات من جانب الناس و المعارف، اولئك الذين لا يتّبعون سوى هوى النفس و الرغبات الإجتماعيّة، يعاتبونه و يوبّخونه بالقول و العمل لكي يبتعد عن وجهته و مقصده، و هذا الإختلاف في نمط الحياة و السلوك فيما بينه و بين الناس يؤدّي إلى تخوّفهم، فيسعون بكلّ وسيلة ممكنة أن يحرّفوا السالك المبتدئ، موجّهين له سياط اللوم و التوبيخ لإمالته عن الطريق و هكذا.
فإنَّ السالك سوف يواجه في كلّ منزل من منازل السفر مشكلة جديدة يبدو أنها لا يمكن دفعها إلّا بالعزم و الصبر، لذا عليه أن يطلب من الله المدد و القوّة حتّى يصمد أمام كلّ هذه المشاكل و يزيلها بسلاح الصبر و التوكّل، و بالإلتفات إلى عظمة المقصد عليه أن لا يسمح للخوف مجالًا أمام هذه العواصف الهوجاء التي هي عوائق طريق الله و موانعه.
وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ۱- وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ.٢
الرفق و المداراة في العمل
الثالث: الرفق و المداراة
و هي من أهمّ الامور التي ينبغي أن يراعيها السالك إلى الله، لأنَّ أدنى غفلة في هذا الأمر تكون -إضافة إلى منعه من السير و الترقّي- سبباً كلّيّاً في انقطاع السفر. فالسالك يجد في نفسه في بداية السفر حماساً و شوقاً زائداً على الحدّ المترقّب من أمثاله، بل تلازمه تلك الحال أثناء السفر و حين ظهور التجلّيات الصوريّة الجماليّة حيث يحسّ في نفسه بالعشق و الشوق الكثير، فيعزم على أداء الأعمال العباديّة الكثيرة، فتراه يقضي معظم أيّامه في الدعاء و الندبة مقتفياً كلّ عمل، و متعلماً من كلّ شخص كلمة، و متناولًا من كلّ غذاء روحي لقمة. إلّا أنَّ هذا الاسلوب من العمل ليس مفيداً فحسب، بل يؤدّي إلى الخسران، لأنه على أثر تحميل النفس أعمالًا ثقيلة تأتي النتائج معاكسة، و بالتالي تتراجع النفس إلى الوراء، و يعود السالك بعد ذلك خالي اليدين، و يفقد الرغبة و الميل للقيام بأدنى عمل مستحبّ.
و سرّ هذا الإفراط و التفريط هو أنَّ السالك قد جعل الذوق و الشوق المؤقّتين ميزاناً لأداء الأعمال المستحبّة، و حمّل النفس عبئاً ثقيلًا، و لما انتهى هذا الشوق المؤقّت، و خمد لهيبه المتأجّج، ضجرت النفس من هذه الأحمال الثقيلة، و ألقت عصى الترحال في البداية أو أثناء الطريق، و اشمأزّت من السفر و تبرأت من معدّاته و مملّاته. إذن على السالك أن لا يسقط في فخّ الشوق المؤقّت، بل عليه أن يقيس بدقّة مدى استعداده و حالته الروحيّة و وضعيّة عمله و أشغاله و مقدار قابليّته للتحمّل، و ينتخب العمل الذي يمكنه أن يداوم عليه على أن يكون أقلّ من مقدار و مدى استعداده، مكتفياً به و مزاولًا له حتّى ينال حظّه الإيمانيّ من هذا العمل.
و بناء على هذا فالسالك يشتغل بالعبادة طالما وجد في نفسه الميل و الرغبة، و يقلع عنها مع بقاء الشوق لها حفاظاً على هذه الرغبة و هذا الميل، و بالتالي يرى نفسه دائم الظمأ للعبادة. فمثل السالك الذي يريد أن يؤدّي العبادات كمثل الذي يريد تناول الغذاء، عليه أوّلًا أن ينتخب الغذاء الذي يلائم مزاجه، ثمّ يدعه قبيل الشبع لتبقى فيه الرغبة و الميل دائمين. و إلى هذا الأمر إشارة في حديث الإمام الصادق عليهالسلام مع عبدالعزيز القراطيسيّ:
يَا عَبْدَ العَزِيزِ! إنَّ لِلإيمَانِ عَشْرَ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُّلم
يُصْعَدُ مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ -إلى أن قال عليهالسلام- وَ إذَا رَأيْتَ مَنْ هُوَ أسْفَلُ مِنْكَ بِدَرَجَةٍ فَارْفَعْهُ إلَيْكَ بِرِفْقٍ، وَ لَا تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لَا يُطِيقُ فَتَكْسِرَهُ.
إجمالًا، يتبيّن أنَّ العبادة المؤثّرة في السير و السلوك هي تلك العبادة التي تنشأ من الرغبة و الميل، و إلى هذا المعنى أشار عليهالسلام:
وَ لَا تُكْرِهُوا أنْفُسَكُمْ عَلَى العِبَادَةِ.
الرابع: الوفاء
و هو عبارة عن عدم العود إلى ما تاب عنه، و عدم، التقصير في أداء ما عاهد نفسه على القيام به، و أن لا يترك ما عاهد عليه شيخه و مربّيه العارف في طريق الحقّ حتّى آخر الأمر.
الثبات و المثابرة
الخامس: الثبات و المثابرة
و توضيح هذا المعنى يحتاج إلى ذكر مقدّمة: فالمستفاد من الأخبار و الآيات أنَّ الذي ندركه بحواسّنا من الذوات الخارجيّة، و الذي نؤدّيه في الخارج من الأفعال و يكون له تحقّق في عالم المادّة، له حقيقة في ماوراء هذه التجسّمات الخارجيّة المادّيّة الجسمانيّة، و ماوراء هذه الظواهر و المحسوسات، حقائق عالية المرتبة مجرّدة من لباس المادّة و الزمان والمكان و سائر عوارضها،
و عندما تتنزّل هذه الحقائق من مقامها الواقعيّ تتجسّم و تتمثّل بهذه الصور المادّيّة المدركة في عالم الخارج، و تصرّح بذلك الآية القرآنيّة المباركة:
وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.۱
و تفسيرها -مجملًا- هو أنَّ الذي يتحقّق في عالم المادّة عموماً قد كان له قبل تحقّقه الخارجيّ حقيقة اخرى عارية عن لباس التقدير و الحدّ، لكنّه في حال النزول و التنزيل يتحدّد -وفقاً لعلم الباري تعالى- بدرجات معيّنة، و يقدّر بالتقديرات الإلهيّة.
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.٢
ثمّ إنَّ الصور الخارجيّة لما كانت محدّدة و مملوءة بالعوارض المادّيّة من الكون و الفساد فهي لعبة بيد الفناء و الزوال و النفاد: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ، لكنَّ تلك الحقائق العالية المعبّر عنها بالخزائن لها وجهة التجرّد و الملكوتيّة و لا يترتّب عليها سوى الثبات و الدوام و الكلّيّة: وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ، و إلى هذا المعنى و إلى
هذه الحقيقة اشير في الحديث المتّفق عليه بين الفريقين:
نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ امِرْنَا أنْ نُكَلم النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولهمْ.
و هذا الحديث راجع إلى جهة بيان كيفيّات الحقائق لاكميّاتها، و مدلوله: أننا معاشر الأنبياء -دائماً- ننزّل الحقائق العالية و نبيّنها بحسب فهم و إدراك السامع، لأنَّ العقول البشريّة -بسبب انشغالها بزخارف الحياة و أمانيها الفارغة و آمالها البعيدة- قد تكدّرت فلا تستطيع أن تدرك تلك الحقائق بنفس الدرجة من الصفاء و الواقعيّة التي هي عليها. لهذا فالأنبياء العظام هم كمن يريد أن يبيّن للأطفال حقيقة ما، يضطرّون إلى التعبير عنها بما يتناسب مع القوى الإدراكيّة و الحسيّة للطفل. و كم عبّر الأنبياء العظام بواسطة مقام الشرع و الشريعة (و هم حماتها) عن هذه الحقائق الحيّة بتعابير قد توحي إلى أنَّ هذه الحقائق تفقد الحسّ و الشعور، و الحال أنَّ كلّ واحدة من هذه الظواهر الشرعيّة من صلاة و صوم و حجّ و جهاد و صلة رحم و صدقة و أمر بالمعروف و نهي عن المنكر و ... لها حقائق حيّة ذات شعور و إدراك.
و السالك هومن يريد أن يزيل -بخطى السلوك و المجاهدة، و بعون الله و توفيقه- كدورة و حجاب النفس و العقل
في ظلّ ذلّ العبوديّة و الانكسار و التضرّع و الإبتهال، ليشاهد -بالعقل الظاهر و النفس المضيئة النورانيّة الصافية من الأغلال و الشوائب- تلك الحقائق العالية في هذه النشأة المادّيّة و العالم الظلمانيّ. و كثيراً ما يتّفق للسالك أن يشاهد كلًّا من الوضوء و الصلاة بصورته الواقعيّة و يرى مقدار تفاوتها مع صورته الجسمانيّة الخارجيّة بآلاف المراتب من حيث الشعور و الإدراك. كما وردت في أحاديث الأئمّة الأطهار عليهم السلام مطالب قيّمة و نفيسة حول تلك الصورة المثاليّة للعبادات في عالم البرزخ و القيامة، و تكلم الإنسان معها، كما وردت في مسألة نطق الجوارح و السمع و البصر في القرآن الكريم. فالمسجد ليس هو ذلك البناء الحجريّ، بل هو واقعيّة حيّة و مدركة و شاعرة، كما جاء في الأخبار حول شكاية القرآن و المسجد إلى ربّهما يوم القيامة.
يروى أنَّ أحد السالكين كان يوماً طريح الفراش، و أثناء تقلّبه على فراشه سمع أنيناً من الأرض، فلما استعلم عن السبب، أدرك أو قيل له إنَّ هذا الأنين من الأرض إنّما كان لفراقك.
بعد هذه المقدّمة نقول: إنَّ على السالك أن يثبت في نفسه من خلال الاستمرار و المداومة على الأعمال، تلك الصور الملكوتيّة المجرّدة حتّى يرتقي من الحال إلى مقام الملكة. و عليه -بواسطة
تكرار كلّ عمل- أن يحصّل حظّه الروحانيّ و الإيمانيّ من ذلك العمل، فما لم يحصل لديه هذا المعنى لا يترك العمل. و هذه الجهة الملكوتيّة الثابتة للعمل إنّما تحصل عندما يثبت السالك و يداوم على العمل حتّى تترسّخ الآثار الثابتة للأعمال الفانية الخارجيّة في افق النفس و تتحجّر بحيث لن تكون بعد التثبيت و الاستقرار قابلة للرفع.
إذن يجب على السالك أن يسعى لانتخاب العمل الذي يطابق و يناسب استعداده، فما عرف من نفسه عدم الإستمرار عليه لا يختاره، لأنه عند ترك العمل سوف تقف حقيقته و واقعيّته للمخاصمة، فتجمع آثارها و ترحل بها، فتظهر حينئذٍ الآثار المضادّة للعمل في النفس، نَعوذُ بالله.
و معنى المخاصمة أنَّ السالك لما ترك العمل ارتدَّ هذا العمل و ابتعد عنه ذاهباً بآثاره و خصائصه معه، و لأنَّ ذلك العمل كان عملًا نورانيّاً و خيراً، فعندما تخلو ناحية من النفس من تلك الآثار النورانيّة، لا مفرّ من أن تحلّ محلها آثاره المضادّة من الظلمة و الكدورة و الشرور، و الحقيقة أنه لَا يوجَدُ عِندَ الله إلَّا الخيْرُ. وَ أمَّا الشُّرورُ وَ القَبائِحُ وَ الظُّلماتُ فَإنَّمَا هِيَ مِنْ أنْفُسِنا.
بناء على هذا فإنَّ كلّ عيب أو نقص يظهر يكون من قبل
أفراد البشر، وَ الشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ، و على هذا الأساس يتّضح أيضاً أنّ الفيوضات الإلهيّة ليست خاصّة بفرد دون فرد، بل إنَّها تتّجه من الصقع الربوبيّ و مقام الرحمة اللامتناهية بنحو غير متناهٍ إلى عموم أبناء البشر من المسلم و اليهوديّ و النصرانيّ و المجوسيّ و عبَدَة النار و الأصنام، لكنَّ الخصوصيّات الموجودة في قابليّاتهم -بسوء اختيارهم- تصير سبباً لأن تكون هذه الرحمة الواسعة عند البعض باباً للسرور و البهجة، و عند البعض علّة لإيجاد الغمّ و الحزن.
المراقبة في جميع الأحوال
السادس: المراقبة
و هي أن يكون السالك في جميع الأحوال مراقباً و منتبهاً لا يتجاوز تكليفه، و لا يتخلّف عمّا عزم عليه.
و المراقبة معنى عامّ، فهي تتفاوت باختلاف مقامات و درجات السالكين و منازلهم. ففي بداية السلوك تكون المراقبة عبارة عن اجتناب ما لا يتماشى مع دين السالك و دنياه، و الإبتعاد عمّا لا يعنيه، و السعي لئلّا يصدر منه ما يسخط الله في القول و الفعل، ولكن شيئاً فشيئاً تشتدّ هذه المراقبة و ترتقي درجة فدرجة، فقد تتمثّل في التوجّه و الإنتباه إلى سكوته أو إلى نفسه، و قد ترتقي فتكون عبارة عن التوجّه لمراتب حقيقة الأسماء و الصفات الكلّيّة الإلهيّة. و سوف نبيّن إن شاء الله مراتبها
و درجاتها.
و ليُعلم أنَّ المراقبة من أهمّ شروط السلوك، و قد أكّد عليها المشائخ العظام، بل قد عدّها الكثير منهم من اللوازم الحتميّة للسير و السلوك، لأنها بمنزلة الحجر الأساس، فالذكر و الفكر و سائر الشروط الاخرى مبنيّة عليها، فإذا لم تتحقّق المراقبة لا يكون للذكر و الفكر أي أثر. و المراقبة بمنزلة اجتناب المريض عن الغذاء اللامناسب، و الذكر و الفكر بمنزلة الدواء، فما لم يبتعد المريض عمّا لا يناسبه من الطعام، يعود الدواء بلا أثر، بل قد يؤدّي إلى نتيجة عكسيّة، لهذا فإنَّ الأساتذة العظام و مشايخ الطريقة منعوا عن الذكر و الفكر دون المراقبة، و هم ينتخبون الذكر و الفكر حسب درجات السالك.
المؤاخذة، المسارعة، الحبّ
السابع: المحاسبة
و هي عبارة عن اتّخاذ وقت معيّن في الليل و النهار يقوم خلاله بمحاسبة نفسه عن كلّ ما عمله في ليله و نهاره. و إلى هذا الأمر إشارة في حديث الإمام موسى بن جعفر عليهالسلام في قوله: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لم يُحَاسِبْ نَفْسَهُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً. فإذا تبيّن له أنه قد أخطأ، فعليه أن يستغفر، و في حال عدم الخطأ يجب أن يشكر الله تعالى شأنه.
الثامن: المؤاخذة
و هي عبارة عن تأديب النفس بعد صدور الخيانة منها، و ينبغي أن يكون ذلك حسب مقتضى الحال.
التاسع: المسارعة
بأن يسارع إلى فعل ما قد عزم عليه، فطريق السالك تحفّه الآفات، و يقف في كلّ مقام منه مانع، فينبغي أن يكون السالك حاذقاً و واعياً جدّاً، فيؤدّي تكليفه و وظائفه قبل أن يحول دونها المانع و يلوّث ساحته، فلا يضيّع دقيقة واحدة في سبيل الوصول إلى المقصد.
العاشر: الحبّ
حبّ صاحب الشريعة و خلفائه بالحقّ، فينبغي أن يُخلص في هذه المحبّة بحيث لا يكون فيها أي غشّ، و يصل في هذه المرحلة إلى حدّ الكمال، لأنَّ للمحبّة مدخليّة عظيمة في التأثير على الأعمال، و كلما كانت المودّة أكثر و أعظم فإنَّ أثر الأعمال سوف يكون أعظم و أشدّ رسوخاً.
و لأنَّ كلّ الموجودات هي مخلوقات الله، فعلى السالك أن يحبّها جميعاً، و يحترم كلّ واحد حسب مرتبته و درجته. فالعطف و الإشفاق على كلّ ما ينتسب إلى الله سواء كان حيواناً أو إنساناً،
كلٌّ في مرتبته و مقامه، كلّ هذا من آثار محبّة الله، كما ورد في الحديث: «إنَّ عمدة شعب الإيمان الشفقة على خلق الله». إلهي أسْألُكَ حُبَّكَ وَ حُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ...
احِبُّ بُحُبِّهَا تَلَعَاتِ نجدٍ | *** | وَ مَا شَغَفِي بِهَا لَوْلَا هَوَاهَا |
أذِلُّ لآلِ لَيْلَى في هَوَاهَا | *** | وَ أحْتَمِلُ الأصَاغِرَ وَ الكِبَارَا |
حفظ الأدب
الحادي عشر: حفظ الأدب
تجاه الحضرة المقدّسة لربّ العزّة و خلفائه. و هذا الأمر يختلف عن معنى المحبّة الذي ذكر سابقاً. و الأدب عبارة عن الالتفات إلى النفس كيلا تتعدّى حدودها، و تخالف مقتضى العبوديّة، فكلّ ممكن له حدّ و حريم في قبال الواجب، و لازم حفظ الأدب رعاية مقتضيات عالم الكثرة، ولكنَّ الحبّ هو انجذاب النفس إلى الحضرة الإلهيّة، و لازمه الالتفات إلى الوحدة.
إن النسبة بين الحبّ و الأدب مثل النسبة بين الواجب و المحرّم من الأحكام، لأنَّ السالك أثناء أداء الواجب يتوجّه إلى المحبوب و في الاجتناب عن الحرام يتوجّه إلى حريمه الخاصّ كيلا يخرج عن حدوده الإمكانيّة و مقتضى عبوديّته، فالأدب يرجع -في حقيقته- إلى جانب اتّخاذ الطريق المعتدل بين الخوف و الرجاء، و لازم عدم رعاية الأدب، كثرة الإنبساط بمقدار يوجب تجاوز
الحدود المرسومة للسالك.
كان المرحوم الحاجّ الميرزا عليّ القاضي رضوان الله عليه يغلب لديه جانب الحبّ و الإنبساط على جانب الخوف، و كذلك كان المرحوم الحاجّ الشيخ محمّد البهاريّ رحمة الله عليه، و في المقابل الحاجّ الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ رضوان الله عليه، حيث كان مقام الخوف غالباً على الرجاء و الانبساط، و هذا الأمر مشهود من خلال جوانب و زوايا أحاديثه. و الذي يكون رجاؤه أكثر يقال له «الخراباتيّ»، و أمّا من يطغى خوفه فيسمّى «المناجاتيّ». ولكنَّ الكمال في رعاية الاعتدال، و هو عبارة عن حيازة كمال الرجاء في عين كمال الخوف، و هذا ما ينحصر وجوده في شخص الأئمّة الأطهار عليهم السلام.
نعود إلى صلب الموضوع فمحصِّل الكلام أنَّ الأدب هو أن لا ينسى الممكن حدوده الإمكانيّة، و لهذا نرى الإمام الصادق عليه السلام يخرّ ساجداً لله تعالى واضعاً جبينه المبارك على التراب عندما يسمع بضع كلمات في حقّه يشمّ منها رائحة الغلو.
و المرتبة الكاملة من الأدب هي أن يعتبر السالك نفسه دائماً و في جميع الأحوال في محضر الحقّ سبحانه و تعالى، و يلاحظ الأدب في حال التكلم و السكوت، في النوم و اليقظة، في الحركة
و السكون، و في تمام الحركات و السكنات، ولو التفت السالك دائماً إلى الأسماء و الصفات الإلهيّة لظهرت عليه علائم الأدب و الصغر.
النيّة و أنواعها
الثاني عشر: النيّة
و ذلك أن لا يكون للسالك قصد من السلوك سوى نفس السلوك و الفناء في الذات الأحديّة، و عليه، ينبغي أن يكون سير السالك خالصاً لله تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.۱ و قد جاء في عدّة أخبار أنَّ للنيّة ثلاث مراتب، منها ما قاله الصادق عليه السلام:
العُبَّادُ ثَلَاثَةٌ: قَوْمٌ عَبَدُوا الله خَوْفاً فَتِلْكَ عِبَادَة العَبِيدِ. وَ قَوْمٌ عَبَدُوا الله طَمَعاً فَتِلَكَ عِبَادَةُ الاجَرَاءِ. وَ قَوْمٌ عَبَدُوا الله حُبَّاً فَتِلَكَ عِبَادَةُ الأحْرَارِ.
بالتأمّل و التدِقيق يتّضح أنَّ عبادة الطائفتين الاوليينِ ليست صحيحة حقيقة، لأنَّ عبادتهم لم تكن لله و إلى الله، و إنَّما تعود إلى عبادة النفس، فهم -في الواقع- كانوا يعبدون ذواتهم دون الله تعالى، لأنَّ عبادتهم تعود في واقعها إلى تلك العلائق
و المشتهيات النفسانيّة، و لأنَّ عبادة النفس لا تجتمع مع عبادة الله، لذا تعدّ هذه الجماعة -حسب النظرة الاولى- كافرة بالله و منكرة له، لكن باعتبار أنَّ القرآن الكريم ينصّ على أنَّ أصل عبادة الله فطريّ في كلّ البشر، و ينفي حدوث أي تغيّر أو تبدّل في خلقه:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.۱
لا يرجع انحراف البشر -بناء على ذلك- إلى أصل عبادة الله، بل يرجع إلى مقام التوحيد، أي عدم الإيمان بوحدانيّة الله في الفعل و الصفة و جعل شركاء له، و لهذا نجد أنَّ القرآن في كلّ مجال يصرّح بثبوت توحيد الله و نفي الشرك عنه، و على هذا الأساس فإنَّ أهل الطائفتينِ الاوليينِ يشركون بالله بالقصد. و يمزجون في مقام العمل بين عبادة الله و عبادة الذات، و يؤدّون الأفعال و الأعمال العباديّة بكلا الداعيينِ. و هذا هو الشرك. و في الحقيقة هم مشركون بالله و بنصّ القرآن لن يغفر لهم.
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ
يَشاءُ.۱
و هكذا فإنَّ عبادتهم لن تكون مثمرة أبداً، و لن تقرّبهم إلى الله المتعال.
أمّا الطائفة الثالثة التي تعبد الله على أساس المحبّة، و هي عبادة الأحرار، و في بعض الروايات: تِلْكَ عِبَادَةُ الكِرَامِ، فها هي العبادة الصحيحة الواقعيّة التي لن يصل إليها إلّا المطهّرون في الساحة الإلهيّة. فَهَذَا مَقَامٌ مَكْنُونٌ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ.
فالمحبّة عبارة عن الإنجذاب، أي الإنجذاب نحو شيء و حقيقة، و الطائفة الثالثة هم الذين بنوا عبادتهم على أساس المحبّة و الإنجذاب إلى الله، و ليس لهم أي هدف أو مقصد سوى الميل نحوه تعالى و التقرّب إليه، و هذا الإنجذاب الذي يشعرون به تجاه المحبوب هو الداعي و المحرّك لهم نحوه، و الموجب لسيرهم باتّجاه ذلك الحريم المقدّس.
قد جاء في بعض الروايات أن اعبدوا الحقّ تعالى من حيث إنَّه أهل للعبادة. و معلوم أنَّ هذه الأهليّة لا تعود إلى الصفات الإلهيّة، بل إلى مقام ذاته المقدّسة جَلَّ جَلَاله و عَظُمَ شَأنُهُ، فيكون مفاد ذلك أن اعبدوا الله لأنه الله:
إلهي مَا عَبَدْتُكَ خَوْفاً مِنْ نَارِكَ وَ لَا طَمَعاً في جَنَّتِكَ، بَلْ وَجَدْتُكَ أهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُكَ.
أنْتَ دَلَلْتَنِي عَلَيْكَ، وَ دَعَوْتَنِي إلَيْكَ، وَ لَوْلَا أنْتَ لم أدْرِ مَا أنْتَ.
و يخطو سالك طريق الله في بداية سلوكه بقدم المحبّة، ولكن بعد أن يطوي المنازل، و يحصل إجمالًا على بعض الكمالات، سوف يدرك أنَّ المحبّة أمر مغاير للمحبوب، فيسعى لترك المحبّة التي كانت حتّى هذا الحين وسيلة لسلوكه و معراجاً لرقيّه، و يدرك أنَّ هذه الوسيلة التي كانت مؤثّرة أصبحت الآن مضرّة و مانعة للطريق. و من هنا يضع السالك فقط و فقط محبوبه نصب عينيه و يعبده بعنوان المحبوبيّة لا غير، ولكن عندما يتقدّم أكثر و يطوي منازل عدّة، يدرك أنَّ هذا النوع من العبادة لم يكن خالياً من شائبة شرك، لأنه قد عدّ نفسه في هذه العبادة عاشقاً و محبّاً، و اعتبر الله معشوقاً و محبوباً، فيرى لذاته كمحبّ وجوداً في قبال ذات المحبوب، لذا فإنَّ النظر إلى المحبوب بعنوان المحبّ مغاير و مناف لعبادة الذات المقدّسة لله تعالى، و من هنا يسعى لينسى عنواني الحبّ و العشق حتّى يتجاوز المغايرة و الكثرة، و يضع قدمه في عالم الوحدة، و عندها تختفي النيّة من السالك
و تمحي، لأنه لن يكون بعد ذلك شخصيّة و ذاتيّة للسالك تصدر عنها النيّة.
إلى ما قبل هذه المرحلة كان السالك طالباً للمكاشفة و الشهود، ولكنّه في هذا المقام يدع تلك الأغراض كلها عرضة للنسيان، فلن يكون بعد ذلك إرادة ليكون اعتبار للمراد و المقصود. و في هذه الحالة يُغمض السالك عينيه عن الرؤية و اللارؤية، و الوصول و اللاوصول، و المعرفة و اللامعرفة، و الردّ و القبول. يقول حافظ الشيرازيّ:
با خرابات نشينان ز كرامات ملاف | *** | هر سخن جائي و هر نكته مقامي دارد۱ |
ورد عن الإمام السجّاد عليهالسلام، في دعاء أبي حمزة الثماليّ، قوله: مَعرِفَتِي يَا مَولَايَ دَلِيلِي عَلَيكَ، وَ حُبِّي لَكَ شَفِيعِي إلَيكَ؛ وَ أنَا وَاثِقٌ مِنْ دَلِيلِي بِدلَالَتِكَ، وَ سَاكِنٌ مِنْ شَفِيعِي بِشَفَاعَتِكَ.
و نقل عن بايزيد البسطاميّ أنه قال: «تركت الدنيا في اليوم الأوّل، و في اليوم الثاني تركت العُقبى، و في اليوم الثالث تخطّيت
ما سوى الله، و في اليوم الرابع سُئِلتُ: ما تُرِيدُ؟ فقلت: اريدُ أنْ لَا ارِيدَ».
و يشير إلى نفس المطلب ما يصرّح به البعض في تعيين المنازل الأربعة: الأوّل: ترك الدنيا. الثاني: ترك العقبى. الثالث: ترك المولى. الرابع: ترك الترك، فَتَدَبَّرْ. و المراد من نبذ الطمع عند السالكين هو هذه المرحلة العظيمة و العقبة المشكلة، و عبورها في غاية الصعوبة، و ليس تحصيلها بالهيّن، لأنَّ السالك في هذه المرحلة بعد التأمّل و التدقيق يجد أنه لم يكن خالياً من النيّة في تمام مراحل السير، بل كان له غاية و مقصود في سويداء قلبه، و إن كانت تلك الغاية هي العبور من مراحل الضعف و النقص و الوصول إلى الكمال و الكمالات. ولو سعى السالك -عن طريق تجريد الذهن، و الضغط على نفسه مرّات عديدة- ليعبر هذه العقبة، و يعرّي و يجرّد نفسه من هذه المعاني و المقاصد، سوف لن يحصل على أيّة نتيجة، لأنَّ نفس هذا التجريد مستلزم لعدم التجريد، و ذلك لأنَّ نفس ذلك التجريد لم يكن من السالك إلّا لداعٍ و غاية و هذا النظر إلى الغاية دليل و علامة على عدم التجريد.
ذات يوم طرحتُ هذا السرّ على استاذي المرحوم الحاجّ الميرزا على القاضي رضوان الله عليه، و التمست منه حلّ هذه
المعضلة، فقال: «يمكن حلها بواسطة اعتماد طريقة الإحراق، و ذلك بأن يدرك السالك -حقيقة- أنَّ الله تعالى خلقه مفطوراً على هذه الصفة، و كلما أراد أن ينبذ الطمع لن يحصل على نتيجة، لأنَّ فطرته جبلت عليه، فسعيه لنبذ الطمع عن نفسه مستلزم لطمع آخر، لأنه لا يسعى لذلك إلّا طمعاً في الحصول على مرتبة أعلى من التي هو فيها، و هكذا إلى أن يشعر بالعجز التامّ عن التخلّي عن هذه الصفة، فلا يجد حينئذٍ مفرّاً سوى اللجوء إلى الله تعالى و توكيل الأمر إليه، و هذا الشعور بالعجز كفيل بأن يحرق بناره جذور الطمع في نفسه، فيعود السالك بعدها نزيهاً طاهراً».
و ليعلم أنَّ الوصول إلى إدراك هذا المعنى لا يكون بمجرّد إعمال النظر و التفكير، بل إنَّ إدراكه الواقعيّ يحتاج إلى الذوق و حصول الحال. ولو أنَّ أحداً أدرك هذا المعنى بالذوق لفهم أنَّ إدراك تمام لذّات الدنيا و ما فيها لا يساوي هذه الحقيقة.
ثمّ إنَّ سبب تسمية هذه الطريقة بالإحراق هو أنها تحرق أكوام الوجودات و النيّات و الغصص و المشكلات دفعة واحدة، و تجتثّها من الجذور، و لا تبقى لها من أثر في وجود السالك.
و قد استفيد في القرآن الكريم من هذه الطريقة في بعض الموارد، فمن يستخدم هذه الطريقة لأجل الوصول إلى المقصود،
و يسير في هذا السبيل، فإنَّ الطريق الذي يجب طيّه في سنوات يطويه في مدّة قليلة. و أحد الموارد التي استفيد فيها من هذه الطريقة في القرآن الكريم، كلمة الاسترجاع:
إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.
فالإنسان يستطيع حين الشدائد و المصائب و نزول البلايا و الفتن أن يسكِّن نفسه بطرق مختلفة، كأن يتذكّر أنَّ الموت للجميع، و المصيبة تحلّ على كلّ الناس، و بهذه الوسيلة تهدأ نفسه شيئاً فشيئاً. ولكنَّ الله يقصّر الطريق بواسطة الطريقة الإحراقيّة و تلقين كلمة الاسترجاع، و يرفع المشكل مرّة واحدة، لأنَّ الإنسان لو تذكّر أنَّ نفسه و كلّ متعلّقاتها و ما يملكه هو ملك مطلق لله، قد اعطي له ذات يوم و سوف يؤخذ في يوم آخر، و لا حقّ لأحد في التدخّل فيه، عندما يدرك الإنسان جيّداً أنه منذ البدء لم يكن مالكاً، و إنّما كان عنوان الملكيّة له مجازيّاً و قد كان يتخيّل أنه المالك، سوف لن يتأثّر في حال فقدانه، فإذا بافقه مُتَّسع، و طريقه معبّد.
فإدراك السالك أنَّ الله تعالى فطره على الحرص و الطمع كإدراكه أنَّ الخالق الغنيّ خلق عبده فقيراً محتاجاً قد خمرت طينته بالفاقة و العوز، و أنَّ السؤال و الطلب لديه -باعتباره لازم فقره
و حاجته- غنيّ عن الدليل و البرهان، فلا يحقّ لفرد الاعتراض على سؤال فقير ما، فافتراض الفقر فيه يوازي افتراض السؤال و الطلب، فلا ينبغي للسالك -بناء على ذلك- أن يرتاب حينما يلمس من ذاته حرصاً أو طمعاً خلال سيره و حركته، إذ ليس بمقدوره اجتثاث عنصر الطمع من ذاته بعد أن خلق مفطوراً عليه. هذا من جانب، و من جانب آخر باعتبار أنَّ الفناء في الذات الإلهيّة -المبتني على أساس عبادة الأحرار- لا يتلائم و داعي الطمع في النفس، فسوف تعتري السالك حالة من الخوف و الهلع، و شعور بالاضطراب و المسكنة، تلك الحالة و ذلك الشعور يأخذان بيد السالك ليتخطّى ذاته الملازمة لتلك الصفة، فلا تبقى -بعد اجتياز هذه المرحلة- ذات لتكون محلًّا للحرص و الطمع. فافهَمْ و تأمَّل جيِّداً.
الصمت و السكوت، الجوع و قلّة الأكل
الثالث عشر: الصمت
و هو على قسمين: سكوت عامّ و مضاف، و سكوت خاصّ و مطلق. فالسكوت العامّ و المضاف عبارة عن حفظ اللسان من التكلم بالقدر الزائد عن الضرورة مع الناس، فيجب على السالك أن يكتفي بقدر الضرورة، و بأقلّ ما يمكن. و هذا الصمت لازم في جميع مراحل السلوك، و في كلّ الأوقات، بل يمكن القول بأنه ممدوح في مطلق الأحوال. و يشير إلى هذا الصمت قوله عليه
السلام: إنَّ شِيعَتَنَا الخرْسُ، و أيضاً ما نقل عن الصادق عليهالسلام في «مصباح الشريعة»:
الصَّمْتُ شِعَارُ المحِبِّينَ، وَ فِيهِ رِضَا الرَّبِّ، وَ هُوَ مِنْ أخْلَاقِ الأنْبِيَاءِ وَ شِعَارِ الأصْفِيَاءِ.
و في حديث البزنطيّ عن الإمام الرضا عليهالسلام:
الصَّمْتُ بَابٌ مِنْ أبْوَابِ الحكْمَةِ، وَ إنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ.
القسم الثاني. السكوت الخاصّ و المطلق، و هو عبارة عن حفظ اللسان من التكلم مع الناس حين الاشتغال بالأذكار الكلاميّة الحصريّة، و في غيرها غير مستحسن.
الرابع عشر: الجوع و قلّة الأكل
و هو ما لا يؤدّي إلى الضعف و اضطراب الحال. قال الصادق عليهالسلام:
الجوعُ إدَامُ المؤْمِنِ، وَ غِذَاءُ الرُّوحِ، وَ طَعَامُ القَلْبِ.
ذلك أنَّ الجوع موجب لخفّة الروح و نورانيّة النفس، و يمكن للفكر في حال الجوع أن يحلِّق إلى الأعلى. أمّا كثرة الأكل و الشبع فإنَّه يُتعب النفس و يمللها و يثقلها و يمنعها من السير في سماء المعرفة. و الصوم من العبادات الممدوحة جدّاً، و في الروايات الخاصّة بالمعراج التي يخاطب الله تعالى فيها حبيبه
رسول الله صلّى الله عليه و آلهبـ «يا أحمد» و المذكورة في «إرشاد الديلميّ» و الجزء السابع عشر من «بحار الأنوار» يوجد تفاصيل عجيبة بشأن الجوع، تبيّن خصائصه في السير و السلوك بشكل مدهش. و ينقل المرحوم الاستاذ القاضي رضوان الله عليه رواية غريبة بشأن الجوع، و هي:
«كان في زمان الأنبياء الماضين ثلاثة رجال قد تصاحبوا في سفر، و عندما حان الليل تفرّق كلّ واحد منهم للاستراحة، و اتّفقوا على الالتقاء في اليوم التالي في وقت محدّد، فنزل أحدهم ضيفاً عند معارفه، و الآخر نزل في أحد المضايف، و أمّا الثالث فلم يكن لديه مكان، فقال في نفسه: فلأذهب إلى المسجد و أكون ضيفاً عند الله، و بقي هناك جائعاً إلى الصباح. و في اليوم التالي التقوا في الموعد المحدّد، و أخذ كلّ واحد منهم يروي ما حصل له في الأمس، فأوحى الله تعالى إلى نبيّ ذلك الزمان أن قل لضيفنا: إنّنا قبلنا ضيافته، و قد أردنا أن نحضر له أفضل غذاء، لكن عندما بحثنا في خزائن الغيب لم نجد له أفضل من الجوع غذاءً».
العزلة و أقسامها
الخامس عشر: العزلة
و هي على شكلين: العزلة العامّة، و العزلة الخاصّة.
العزلة العامّة، عبارة عن اجتناب و اعتزال غير أهل الله،
و بالخصوص أصحاب العقول الضعيفة من عوامّ الناس إلّا بقدر الضرورة.
وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا.۱
و أمّا العزلة الخاصّة، فهي الابتعاد عن جميع الناس. و هي و إن كانت غير خالية من الفضيلة في العبادات و الأذكار، إلّا أنها تعتبر -عند مشايخ الطريق- شرطاً في طائفة من الأذكار الكلاميّة بل في جميعها.
فالعزلة و الإبتعاد عن محلّ الإزدحام و الضوضاء و الأصوات المشوّشة للحال و حلّيّة المكان و طهارته حتّى السقف و الجدران، و صغره بحيث لا يسع أكثر من شخص واحد، و السعي أن لا يكون فيه أيّة زخارف دنيويّة، كلّ هذه باعثة على تركيز الحواسّ.
يروى أنَّ أحد الأشخاص طلب من سلمان رضي الله عنه أن يجيز له بناء بيت له، لأنه لم يكن قد امتلك بيتاً حتّى ذلك الزمان، و لما لم يجز له سلمان قال: أنا أعرف لماذا لا تريد، فقال سلمان: ما هي العلّة؟ فقال البنّاء: سبب ذلك أنك تريد بيتاً طوله و عرضه بمقدارك، و هذا ليس ميسوراً، فقال سلمان: بلى؛ قد صدقت.
و بعدها أخذ البنّاء إجازة لبناء مثل ذلك البيت و بناه.
السهر، التضرّع، الاحتراز عن اللذائذ، كتمان السرّ
السادس عشر: السهر
و هو الاستيقاظ في السحر بقدر ما تحتمله طبيعة السالك، فقد ورد في ذمّ النوم وقت السحر و مدح القيام فيه قوله تعالى:
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ، وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.۱
السابع عشر: المداومة على الطهارة
و هي المحافظة على الوضوء و الأغسال الواجبة، و غسل الجمعة و سائر الأغسال المستحبّة قدر المستطاع.
الثامن عشر: المبالغة في التضرّع
و المسكنة و البكاء و التذلّل.
التاسع عشر: الاحتراز عن اللذائذ
و المشتهيات قدر المستطاع، و الإكتفاء بما يقوم عليه البدن و الحياة.
العشرون: كتمان السرّ
و هو من الشروط المهمّة جدّاً، و قد اهتمّ به عظماء الطريق
كثيراً، و أمعنوا في توصية تلاميذهم به، سواء كان في العمل و الأوراد و الأذكار، أم في الواردات و المكاشفات و الحالات، بل و في الموارد التي لا يمكن التزام التقيّة فيها، و يكون السرّ فيها أقرب إلى الذياع و الانكشاف، صرّحوا بلزوم التورية و الكتمان حتّى لو كان كتمان السرّ مستلزماً لترك العمل يجب رفع اليد عنه.
وَ اسْتَعِينُوا عَلَى حَوَائِجِكُمْ بِالكِتْمَانِ.
فبالتقيّة و الكتمان تتقلّص المصائب و الشدائد معهما، و ترك التقيّة يؤدّي إلى ازدياد الفتن و البلايا و المصائب، لكن على الرغم من ذلك ينبغي للسالك -حين بروز المصاعب- مواصلة السير مستعيناً بالصبر و الاحتمال:
وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ.۱
المراد من الصلاة في هذه الآية هو نفس المعنى اللغويّ، أي الالتفات إلى الربّ العظيم، و هكذا تخفّ الشدائد و المصائب بذكر الله و الصبر و الاحتمال، و يسير السالك نحو النصر و النجاح، و لهذا نجد أنَّ نفس اولئك الذين ينتحبون لجرح يصيب أيديهم
مثلًا، نجدهم في ميدان الجهاد و مقاتلة أعداء الدين لا يخافون من أن تقطع أيديهم و أرجلهم و سائر أعضائهم، بل إنهم لا يشعرون في أنفسهم بأيّ ضعف أو خوف. على أساس هذه القاعدة الكلّيّة أوصى الأئمّة الأطهار عليهم السلام بكتمان الأسرار في وصايا عديدة و عجيبة إلى درجة أنهم عدّوا ترك التقيّة من الذنوب الكبيرة.
ذات يوم، سأل أبوبصير الإمام الصادق عليهالسلام؛ قال: قُلْتُ له: أخْبِرْنِي عَنِ الله عَزَّ و جَلَّ. هَلْ يَرَاهُ المؤْمِنُونَ يَوْمَ القيامة؟
(إذ يعتقد الأشاعرة أنَّ الناس يرون الله تعالى على نحو الجسميّة في يوم القيامة و في المواقف الاخرى، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً).
قَالَ: نَعَمْ؛ وَ قَدْ رَأوْهُ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ. فَقُلْتُ: مَتَى؟ قَالَ: حِيْنَ قَالَ لهمْ: ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى؛ ثمّ سَكَتَ سَاعَةً، ثمّ قَالَ: وَ إنَّ المؤْمِنِينَ لَيَرَونَهُ في الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ، ألَسْتَ تَرَاهُ في وَقْتِكَ هَذَا؟ قَالَ أبُوبَصِيرٍ: فَقُلْتُ له: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَاحَدِّثُ بِهَذَا عَنْكَ؟ فَقَالَ: لَا؛ فَإنَّكَ إذَا حَدَّثْتَ بِهِ فَأنْكَرَهُ مُنْكِرٌ جَاهِلٌ بِمَعْنَى مَا تَقُوله ثمّ قَدَّرَ أنَّ ذَلِكَ تَشْبيهٌ كَفَرَ، وَ لَيْسَتِ الرُّؤْيَةُ
بِالقَلْبِ كَالرُّؤْيَةِ بِالعَيْنِ. تَعَالَى الله عَمَّا يَصِفُهُ المشَبِّهُونَ وَ الملْحِدُونَ».۱
الشيخ و الاستاذ
الحادي و العشرون: الشيخ و الاستاذ
و هو على قسمين: استاذ عامّ و استاذ خاصّ. الاستاذ العامّ لا يكون مأموراً بخصوص مسائل بالهداية، و الرجوع إليه هو من باب الرجوع إلى أهل الخبرة. فيدخل في عموم: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.٢، و لزوم الرجوع إلى الاستاذ العامّ يكون في بداية السير و السلوك فقط، أمّا عندما يشرف السالك على المشاهدات و التجليّات الصفاتيّة و الذاتيّة، فلا تعود الصحبة له لازمة. و أمّا الاستاذ الخاصّ بالإرشاد و الهداية، فهو رسول الله و خليفته بالحقّ، و لا ينفكّ السالك في أي حال من الأحوال عن ملازمته، و إن كان و اصلًا إلى الوطن المقصود. و المراد بالمرافقة هو مرافقة السالك الباطنيّة للإمام، و ليس المراد بها الصحبة و الملازمة في مقام الظاهر، لأنَّ حقيقة الإمام تتجلّى في مقامه النورانيّ الذي له السلطة على العالم و العالمين، و أمّا بدنه المادّيّ، فهو و إن كان يمتاز عن سائر الأبدان، لكنّه ليس منشأ للآثار،
و لا متصرّفاً في امور الكائنات.
و لتوضيح هذه المسألة نذكر بأنَّ الذي يتحقّق في عالم الخلقة إنَّما منشأه الصفات و الأسماء الإلهيّة، و حقيقة الإمام هي أسماء الله و صفاته، و لهذا قالوا عليهم السلام: إنَّ دائرة عالم الوجود و الأفلاك و جميع الكائنات تتحرّك بأيدينا، و ما يحدث إنّما يحدث بإذننا: بِنَا عُرِفَ الله،، بِنَا عُبِدَ الله. إذن فالسالك في حال السير إنّما يسير في المراتب النورانيّة للإمام، و كلما ارتقى درجة أو مرتبة فإنَّ هذه الدرجة أو المرتبة هي في متناول يد الإمام الذي يرافقه في تلك الدرجة أو المرتبة.
و كذلك بعد الوصول أيضاً، فإنَّ مرافقة الإمام لازمة، لأنَّ لدولة اللاهوت آداباً يجب أن يعلمها الإمام للسالك. فمرافقة الإمام في جميع الحالات من الشروط المهمّة، بل من أهمّ شروط السلوك، و هنا ملاحظات -مهمّة لن يتيسّر بيانها- على السالك أن يدرك حقائقها بواسطة الذوق.
ذهب محيي الدين بن عربي يوماً إلى استاذه وشكا إليه كثرة الظلم و العصيان، فقال له: «توجّه إلى ربّك، ثمّ ذهب بعد مدّة إلى استاذ آخر وشكا إليه الظلم و شيوع المعاصي، فقال الاستاذ: توجّه إلى نفسك. و عندما سمع ذلك بدأ بالبكاء ملتمساً من الاستاذ
بيان سبب اختلاف الإجابات، فقال له: يا قرّة عيني؛ إنَّ الأجوبة واحدة، فهو قد دعاك إلى الرفيق الأعلى، و أنا دعوتك إلى الطريق».
لقد أوردنا هذه القصّة هنا حتّى يُعلم أنَّ السير إلى الله لا يتنافى مع السير في مراتب الأسماء و الصفات الإلهيّة التي هي نفس مقام الإمام، فهما قريبان جدّاً، بل هما أمر واحد حقّاً، و ليس للثنائيّة وجود في هذه المرحلة، فكلّ الوجود نور واحد هو نور الله، غاية الأمر أنه يُعبّر عن ذلك النور بتعابير مختلفة، أحياناً بالأسماء و الصفات الإلهيّة، و أحياناً بحقيقة الإمام و نورانيّته.
عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَ حُسْنُكَ واحِدٌ | *** | وَ كُلٌّ إلَى ذَاكَ الجمَالُ يُشِيرُ |
أمّا الاستاذ العامّ فلا يُعرَف إلّا بالصحبة و الرفقة في السرّ و العلانية، حتّى يدرك السالك يقيناً واقعيّته، فظهور خوارق العادات، و الاطّلاع على المغيّبات و أسرار خواطر الناس، و العبور فوق الماء و النار و طيّ الأرض و الهواء و الاطّلاع على الماضي و المستقبل و أمثال هذه الغرائب و العجائب، لا يمكن أن تكون دليلًا على وصول صاحبها، لأنَّ هذه كلها إنَّما تحصل في مرتبة المكاشفة الروحيّة، و منها إلى الوصول و الكمال طريق بلا نهاية.
و إلى ذلك الحين الذي لم تظهر على الاستاذ التجلّيات الذاتيّة الربّانيّة فهو ليس باستاذ، و لا يمكن الاكتفاء بمجرّد التجلّيات الصفاتيّة و الأسمائيّة و اعتبارها كاشفة عن الوصول و الكمال.
و المقصود من التجلّي للصفات هو أن يشاهد السالك في نفسه صفة الله، فيرى علمه أو قدرته أو حياته حياة و علم و قدرة الله، كأن يدرك أن الشيء الذي يسمعه قد سمعه الله و هو السميع، أو يدرك أنَّ الشيء الذي يراه قد رآه الله و هو البصير، أو أنَّ العلم في العالم منحصر بالله، و أنَّ علم كلّ موجود مستند إلى علمه، بل هو نفس علمه.
و المراد من التجلّي للأسماء هو أن يشاهد في نفسه صفات الله المستندة إلى ذاته، مثل القائم العالم السميع البصير الحيّ و القدير و أمثالها، كأن يرى أنَّ العليم في العالم واحد و هو الله تعالى، و لا يرى نفسه عليماً في قبال الله، بل كونه عليماً هو عين كون الله عليماً، أو أن يدرك أنَّ الحيّ واحد و هو الله، و أنه ليس حيّاً أصلًا، بل الحيّ هو الله فقط، و أخيراً أن يدرك أن لَيْسَ القَدِيرُ وَ العَلِيمُ وَ الحيّ إلَّا هُوَ تَعالَى وَ تَقَدَّسَ.
و بالطبع يمكن أن يتحقّق التجلّي للأسماء في خصوص بعض الأسماء الإلهيّة، و لا يلزم من تجلٍّ واحدٍ أو اثنين من هذه
الأسماء في السالك أن تتجلّى البقيّة فيه.
يجب الأستاذ العامّ أن يصل إلى مقام التجلّي الذاتيّ
أمّا التجلّي الذاتيّ فهو أن تتجلّى الذات المقدّسة للباري تعالى في السالك، و هذا إنّما يحصل بعد أن يعبر السالك من الاسم و الرسم، و بعبارة اخرى حينما يكون قد فقد نفسه كلّيّاً، فلا يجد أثراً لذاته في عالم الوجود، و يودّع الذات و الذاتيّة دفعة واحدة في غياهب النسيان وَ لَيْسَ هُنَاكَ إلَّا الله، فلا يتصوّر بعد ذلك ضلال و ضياع لمثل هذا الإنسان، لأنه مادام هناك ذرّة من الوجود في السالك، فإنَّ طمع الشيطان لا ينقطع عنه، و ما زال يأمل في إضلاله و غوايته، ولكن عندما يطوي السالك -بحول الله و قوّته- بساط الذاتيّة و الأنانيّة، و يدخل إلى عالم اللاهوت و يرد إلى حرم الله، و يرتدي لباس الإحرام، و يشرف على التجلّيات الذاتيّة الربّانيّة، فإنَّ الشيطان ييأس من غوايته، و يغلق باب الطمع في إضلاله، و يجلس محسوراً، فيجب أن يصل الاستاذ العامّ إلى هذه المرتبة من الكمال، و إلّا فإنَّه لن يبايع مع أي شخص و لا ينقاد له.
هزار دام به هر گام اين بيابان است | *** | كه از هزار هزاران يكي از آن نجهند۱ |
إذن لا ينبغي أن يسلم الإنسان لكلّ من عرض متاعه و أظهر بضاعته و ادّعى الكشف و الشهود، نعم ينبغي أن يتوكّل على الله في الموضع الذي يكون التحقيق و الفحص في أمر الاستاذ متعذّراً و صعباً، و يعرض كلّ ما يسمعه منه و يأمره به على كتاب الله و سنّة رسول الله و سيرة الأئمّة الأطهار صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين، فإذا وافقها يعمل به، و إلّا فلا يرتّب عليه أثراً، و لن يكون للشيطان أي سلطة على من يسير بقدم التوكّل على الله:
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ.۱
الثاني و العشرون: الورد
و هو عبارة عن الأذكار و الأوراد الكلاميّة، و كيفيّتها و كمّيّتها منوطة برأي الاستاذ، لأنَّ مَثَلها مثل الدواء، بعضها نافع و بعضها ضارّ، و قد يحدث أن يشتغل السالك بنوعين من الورد، أحدهما يوجهه إلى الكثرة و الآخر إلى الوحدة، و في حال اجتماعهما تكون النتيجة أن يبطل كلّ منهما الآخر، فلا يعودان عليه بفائدة. فالاستاذ إذَن شرط في الذكر الذي لم يأت بخصوصه إذْنٌ عامّ، و أمّا
الذي جاء فيه إذْن عامّ فلا مانع من الاشتغال به.
الورد على أربعة أقسام: قالبيّ، و خفيّ، و كلّ منهما إمّا إطلاقيّ أو حصريّ. و أهل السلوك لا يعتنون بالقالبيّ، لأنَّ الورد القالبيّ عبارة عن تلفّظ اللسان دون الالتفات إلى المعنى، و في الواقع هو لقلقة لسان، و لأنَّ السالك يبحث عن المعنى لا عن شيء آخر، فلن يكون الذكر القالبيّ مفيداً له.
نفي الخواطر و الذكر و الفكر
الثالث و العشرون، و الرابع و العشرون، و الخامس و العشرون: نفي الخواطر، و الذكر، و الفكر
و هذه المراحل الثلاث من مهمّات الوصول إلى المقصد، و أكثر الذين انقطعوا في الطريق و لم يتمكّنوا من الوصول إلى المقصد كان توقّفهم عند إحدى هذه الثلاث، فتوقّفوا عندها أو أصبحوا عرضة للهلاك و البوار. و أخطار هذه المنازل عبارة عن عبادة الأصنام و الأوثان و الكواكب و النار و البقر و الزندقة و الفرعونيّة و ادّعاء الحلول و الاتّحاد و نفي التكليف و الإباحة و أمثالها، و سوف يُشار إلى جميعها، ولكنّنا الآن نبيّن بشكل مجمل الحلول و الاتّحاد اللذين هما من الأخطار المهمّة التي تظهر للسالك من خلال تصفية الذهن بواسطة نفي الخواطر.
فالسالك لأنه لم يكن قد خرج من وادي الاسم و الرسم،
لهذا و العياذ بالله من الممكن و على أثر التجلّي الصفاتيّ أو الأسمائيّ يمكن أن يتخيّل أنَّ الله متّحد مع شخصيّته، و هذا هو معنى الحلول و الاتّحاد و هو كفر و شرك. و الحال أنَّ معنى وحدة الوجود ينفي كلّيّاً معنى التعدّد و التغاير، و يعدّ تمام الوجود المتصوّر مقابل الوجود المقدّس للحضرة الالهيّة من الوهميّات، و يعتبره ظلًّا له، و السالك بواسطة الارتقاء إلى هذا المقام يفقد تمام وجوده، و يُضيّع ذاته، و يصير فانياً، و لا يدرك ذا وجود غير الذات المقدّسة في عالم الوجود وَ لَيْسَ في الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ، فأين هذا من الحلول و الاتّحاد؟!
نفي الخواطر بسيف الذكر
أمّا نفي الخواطر: فهو عبارة عن تسخير القلب و السيطرة عليه حتّى لا يقول قولًا أو يعمل عملًا أو يرد عليه خاطر أو تصوّر إلّا بإذن صاحبه واختياره، و تحصيل هذه الحالة صعب جدّاً، و لهذا قالوا إنَّ نفي الخواطر من أعظم مُطَهِّرات السِّرِ. فالسالك عندما يسير في مقام نفي الخواطر يلتفت فجأة إلى أنَّ سيلًا جارفاً من الخواطر و الأوهام و الخيالات قد أحاط به، و حتّى تلك الخواطر التي لم يكن يتصوّر أن تخطر على باله، من وقائع الماضي المختبئ أو الخيالات المستحيلة الوقوع، فإنَّها تجد طريقاً إليه لتشغله بنفسها دائماً. ينبغي للسالك في هذا المقام أن يبقى ثابتاً كالجبال الرواسي
بوجه كلّ خاطرة تظهر لتزاحمه، فيهلكها و يقطّعها بسيف الذكر، و المراد بالذكر هنا هو الأسماء الإلهيّة التي يجب أن يتوجّه السالك إلى أحدها حين بروز الخواطر و يديم التوجّه إليها مراقباً بالعين و القلب حتّى تغادر تلك الخواطر فناء القلب.
و هذا الطريق صحيح جدّاً، إذ يجب أن تُطرد الخواطر و تُبعد بالذكر فقط، ذلك الذكر الذي يعني التوجّه إلى أحد أسماء الله، قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ.۱
نفي الخواطر بالطريقة المذكورة في رسالة بحر العلوم رحمه الله
ولكن جاء في الرسالة المنسوبة إلى المرحوم بحر العلوم عدم جواز هذه الطريقة، و هو يؤكّد فيها على ضرورة نفي الخواطر دون استخدام الذكر، و من ثمّ يدخل السالك مرحلة الذكر، لأنَّ نفي الخواطر بسيف الذكر خطر جدّاً، و نحن هنا نذكر إجمالًا ما ورد في الرسالة، ثمّ نتعرّض له بالردّ. قال رحمة الله عليه:
«كثير من المتشيّخين ينصحون بطيّ مرحلة نفي الخواطر بالذكر (بديهيّ أنَّ المراد من الذكر الالتفات و التوجّه القلبيّ لا الذكر اللسانيّ الذي يصطلح عليه بالورد)، و هذا خطر جدّاً، لأنَ
حقيقة الذكر عبارة عن ملاحظة المحبوب و قصر النظر على جماله من بعيد، و النظر إلى المحبوب جائز عند غضّ البصر عن غيره بالمرّة، لأنَّ المحبوب غيور و من غيرته أنَّ العين التي تنظر إليه لا ينبغي أن تنظر إلى غيره، عميت العين التي ترتفع عنه لتنظر إلى الغير، و رؤية غيره تتنافى مع غيرته، و تكرار هذا الأمر بمنزلة الاستهزاء، و المحبوب يردّ على هذا الاستهزاء بحيث لا يبقى للناظر نظر:
وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ.۱
نعم، هناك نوع من الذكر جائز في نفي الخواطر، و هو أن لا يكون المراد من الذكر النظر إلى المحبوب، بل ردع الشيطان، مثل الذي يريد أن يخرج الآخرين من المجلس فيدعو محبوبه، فالغرض هنا التخويف و تهديد الغير، و بهذه الطريقة إذا هجم عليه خاطر في حال الاشتغال بنفي الخواطر بحيث يصعب دفعه، يشتغل بالذكر من أجل رفعه.
أمّا طريقة محقّقي الطريق و العرفاء الواصلين، فهي أنهم يأمرون المبتدئين -أوّل الأمر حين تعليمهم و إرشادهم- بنفي
الخواطر و من ثمّ الاشتغال بالذكر، و لهذا يأمرون السالك أوّلًا بالتوجّه إلى شيء من المحسوسات كالحجر أو الخشب و تركيز النظر إليه مدّة لا يزيل نظره عنه قدر الإمكان، و يتّجه إليه بجميع قواه الظاهريّة و الباطنيّة، و الأفضل أن يداوم على ذلك أربعين يوماً، و أثناء هذه المدّة يستفيد من الأذكار الثلاثة: «الاستعاذة» و «الاستغفار» و ذكر «يا فَعَّال»، و يشتغل بها بعد فريضتي الصبح و العشاء. بعد هذه المدّة يتوجّه إلى قلبه الصنوبريّ، و يديم التوجّه إليه مدّة اخرى توجّهاً تامّاً، و لا يسمح لخيال آخر -غير هذا الخيال- أن يجد طريقاً إليه، و خلال هذا العمل لو هجم عليه خاطر أو عَرَض له تشويش فإنَّه يستمدّ العون من كلمة «لَا مَوجُودَ إلَّا الله» و كلمة الله.
فيداوم على هذا العمل مدّة حتّى يحصل له الذهول عن النفس. و يكون الذكر خلال هذه المدّة «الاستغفار» و ذكر «يا فعَّال» و تكرر اسم «يا باسِط»، و عندما يصل السالك إلى هذه المرحلة يُؤذَن له أن يتمّ بقيّة المرحلة بواسطة الذكر النفسيّ و الخياليّ، حتّى يندفع الخاطر مطلقاً، لأنَّ بقيّة الخواطر سوف تندفع بذاتها بالدخول في مراتب الذكر و الفكر إن شاء الله»- انتهى ملخّصه.
و ليُعلم أنَّ طريقة نفي الخواطر هذه مأخوذة من الطريقة
النقشبنديّة، و النقشبنديّة جماعة من الصوفيّة تقطن في بقاع مختلفة من تركيا و بعض المناطق الاخرى، و كان مرشدهم الخواجة محمّد النقشبند، فلذا عرفوا بالنقشبنديّة.
المراقبة و مراتبها
أمّا طريقة المرحوم الملّا حسين قلي الهمدانيّ رضوان الله عليه فلم تكن بهذا الشكل، و لم يعمل هو أو تلامذته على نفي الخواطر دون الذكر العمليّ، فكانت نظريّتهم عبارة عن الالتزام الشديد بالمراقبة، أي الاهتمام بمراتبها، و قد ذكرنا هذا قبلًا و هنا سوف نبيّنه بشكل مفصّل.
أ وّل درجات المراقبة أن يتجنّب السالك المحرّمات، و يؤدّي كلّ الواجبات، و لا يتسامح في هذا الأمر بأيّ وجه من الوجوه.
و الدرجة الثانية، أن يتشدّد فيها، و يسعى أن يكون كلّ ما يعمله لرضا الله تعالى، و يتجنّب كلّ ما يسمّى لهواً و لعباً. و باهتمامه بهذه المرتبة يحصل له التمكّن بحيث لا يضعف بعدها، ليوصل هذه التقوى إلى حدّ الملكة.
الدرجة الثالثة، هي أن يرى الله تعالى دائم النظر إليه، و شيئاً فشيئاً يعترف و يذعن بأنَّ الله المتعال حاضر في كلّ مكان و ناظر إلى كلّ المخلوقات، و يجب أن تراعى هذه المراقبة في كلّ
الحالات و في جميع الأوقات.
الدرجة الرابعة، و هي أعلى و أكمل من سابقتها، و هي أن يرى بنفسه حضور الله تعالى و نظره إليه، و بتعبير مجمل يشاهد الجمال الإلهيّ، و في وصيّة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله إلى أبي ذرّ إشارة إلى هاتين المرتبتين الأخيرتين من المراقبة:
اعْبُدِ الله كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإنْ لم تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ.
و على هذا، فإنَّ العبادة في المرحلة التي يراه الله فيها هي أدنى من المرتبة التي يرى هو الله فيها.
عند ما يصل السالك إلى هذه المرتبة ينبغي عليه طرد كلّ ما سوى الله عن ذهنه و أن يقوم بنفي الخواطر ضمن أحد الأعمال العباديّة، و لا يجوز في الشرع المقدّس أن يتوجّه إلى صخرة أو خشبة، فماذا سيكون جوابه إذا أدركه الموت في هذه اللحظات من التوجّه؟
أمّا نفي الخواطر عن طريق سلاح الذكر فهو عبادة و ممدوح من قبل الشرع، و أفضل طرقه التوجّه إلى النفس، فهو أسرع الطرق للوصول إلى المقصد، لأنَّ التوجّه إلى النفس ممدوح و مقبول من الشرع المقدّس، و الآية الكريمة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ.۱
تشير إلى هذا. و طريقة التوجّه إلى النفس هي طريقة المرحوم الملّا حسين قلي، و قد سلك تلامذته جميعاً هذا الطريق المستلزم لمعرفة الربّ.
سلسلة أساتذة المؤلّف في المعارف الالهيّة
إن حقيقة العرفان مأثورة عن أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام، و الطرق التي نشرت هذه الحقيقة بالتواتر تتجاوز المائة، بينما لا تتجاوز اصول جماعات التصوّف، الخمس و عشرين مجموعة، و جميع هذه السلاسل تنتهي إلى أميرالمؤمنين عليهالسلام، و من بين هذه الجماعات اثنتان أو ثلاث منها من الخاصّة و البقيّة من العامّة، و بعض هذه السلاسل ينتهي إلى «معروف الكرخيّ» و منه إلى الإمام الرضا عليهالسلام، أمّا طريقتنا أي طريقة المرحوم الملّا حسين قلي فهي لا تنتهي إلى أي واحد منها.
و إجمال المطلب هو: قبل أكثر من مائة سنة كان يعيش في شوشتر٢ عالم جليل القدر، و كان هذا العالم مرجعاً للناس في
القضاء و الامور العامّة، و يدعى السيّد على الشوشتريّ، فكان كباقي العلماء الأعلام متصدّياً للُامور العامّة من التدريس و القضاء و المرجعيّة الدينيّة. في أحد الأيّام طرق بابه شخص و هو يقول: لي معك حاجة، عندما فتح السيّد بابه رأى نسّاجاً، فقال له: ماذا تريد؟ فأجاب بأنَّ الحكم الفلاني -الذي حكمت به طبق دعوى الشهود بملكيّة فلان للملك الفلاني- غير صحيح، و ذلك الملك لطفل يتيم، و سنده مدفون في المحلّ الفلاني.
فما قمت به ليس صحيحاً، و ليس هذا النهج نهجك. فيجيبه آية الله الشوشتريّ: أوَقَعتُ في خطأ؟ فأجاب النسّاج: الكلام هو ما قلته، ثمّ انصرف. ففكّر آية الله السيّد الشوشتريّ طويلًا، و تساءل عمّن يكون هذا الرجل و ماذا قال، ثمّ يقوم بالتحقيق و يتبيّن له أنَّ سند ملكيّة الطفل مدفون في ذلك المكان، و أنَّ الشهود على ملكيّة فلان شهود زور. فانتابه شعور بالخوف و قال في نفسه: ربّما كان الكثير من الأحكام التي أصدرتها من هذا القبيل، فأخذه الاضطراب و الخوف. و في الليلة التالية و في نفس الوقت يطرق النسّاج الباب من جديد و يقول له: يا سيّد؛ ليس الطريق ما تسير إليه، و في الليلة الثالثة تتكرّر هذه الواقعة بنفس الكيفيّة، و يقول له النسّاج: لا تتأخّر، اجمع الأثاث و بع البيت فوراً، ثمّ
اتّجه إلى النجف الأشرف، و افعل ما أقوله لك، و بعد ستّة أشهر كن بانتظاري في وادي السلام هناك.
فقام السيّد لوقته و عمل بالتعاليم، و باع البيت و جمع الأثاث ثمّ تهيّأ للسفر إلى النجف، و في اللحظة الاولى من دخوله المدينة الشريفة يرى الرجل ذاته عند طلوع الشمس في وادي السلام، و كأنه خرج من بطن الأرض ليقف أمامه و يعطيه بعض التعليمات ثمّ يختفي. و يدخل المرحوم الشوشتريّ إلى النجف الأشرف عاملًا بما يمليه عليه ذلك النسّاج ليصل بعدها إلى درجة و مقام لا يمكن وصفهما رضوان الله تعالى و سلامه عليه.
و كان السيّد على الشوشتريّ -مراعاة للاحترام- يحضر دروس الفقه و الاصول عند الشيخ مرتضى الأنصاريّ الذي كان بدوره يحضر دروس السيّد الاسبوعيّة في الأخلاق، و بعد وفاة الشيخ رحمة الله عليه يتصدّى السيّد الشوشتريّ رحمة الله عليه لإتمام الأبحاث التي انتهى إليها الشيخ، ولكنَّ الأجل لم يمهله طويلًا، فبعد ستّة أشهر يلتحق بالرفيق الأعلى. خلال هذه المدّة (الستّة أشهر) يكتب المرحوم الشوشتريّ ورقة إلى أحد تلامذة الشيخ الأنصاريّ البارزين، المدعو الملّا حسين قلي الدرجزينيّ۱
الهمدانيّ الذي كان له مع السيّد علاقة في أيّام المرحوم الأنصاريّ و كان يستفيد من دروسه في الأخلاق و العرفان، و كان عازماً على التدريس و إتمام مباحث الشيخ التي كان يحرّرها بنفسه، و في هذه الورقة يذكّره بأنَّ نهجكم هذا ليس كاملًا، و أنه ينبغي عليكم الحصول على المقامات العالية إضافة إلى ذلك، غرضه من ذلك التعبير، إرشاده إلى طريق الحقّ و الحقيقة.
و تمرّ الأيّام ليكون المرحوم الملّا حسين قلي -الذي كان يستفيد قبل سنوات من وفاة العلّامة الأنصاريّ من محضر المرحوم السيّد على في المعارف الإلهيّة- من أعاظم عصره و عجائب دهره في الأخلاق و مجاهدة النفس و كسب المعارف الإلهيّة. و قد ربّى تلامذة عظاماً، أصبح كلّ واحد منهم آية عظيمة و واحداً من أساطين المعرفة و التوحيد، و من أبرزهم المرحوم الحاجّ الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ، و المرحوم السيّد أحمد الكربلائيّ الطهرانيّ، و المرحوم السيّد محمّد سعيد الحبّوبيّ، و المرحوم الحاجّ الشيخ محمّد البهاريّ.
و من طلّاب مدرسة السيّد أحمد الكربلائيّ الاستاذ الأعظم و العارف الأمثل المرحوم الحاجّ الميرزا على القاضي التبريزيّ
رضوان الله عليه. هذه هي سلسلة أساتذتنا التي تعود إلى المرحوم الشوشتريّ و أخيراً إلى الرجل النسّاج. فمن كان هذا الإنسان؟ و من أين كان يحصل على هذه المعارف، و بأيّ وسيلة؟ لا نعلم شيئاً من ذلك.
و منهج الاستاذ القاضي مطابق لمنهج الاستاذ الكبير الملّا حسين قلي، أي طريق معرفة النفس، فكانوا لنفي الخواطر يأمرون في المرحلة الاولى بالتوجّه إلى النفس، و أن يُعيِّنَ السالك كلّ ليلة مقدار نصف ساعة أو أكثر لنفي الخواطر، و فيها يتوجّه إلى نفسه، شيئاً فشيئاً و على أثر التوجّه القويّ تزول عنه الخواطر، و تحصل له معرفة النفس، ليصل إلى الوطن المقصود إن شاء الله.
و أكثر الذين وُفِّقُوا لنفي الخواطر، و استطاعوا أن يُطَهِّروا أنفسهم و يصفّوها حتّى ظهر فيها سلطان المعرفة، إنَّما كان ذلك منهم في إحدى حالتين: الاولى، حين تلاوة القرآن المجيد، و الالتفات إلى القارئ الحقيقيّ للقرآن، لينكشف لهم أنَّ قارئ القرآن هو الله جلّ جلاله.
الثانية، عن طريق التوسّل بمقام أبي عبدالله عليهالسلام، لأنّ له عليهالسلام عنايات عظيمة في رفع الحجب و الموانع عن طريق سالكي طريق الله.
و بناء على ما ذكر فإنَّ لشيئين مهمّين ثقلًا كبيراً في تجلّي سلطان المعرفة: الأوّل، المراقبة بجميع مراتبها. و الثاني، التوجّه إلى النفس. فبالتوجّه إلى هذين الأمرين سوف يتّضح للسالك تدريجيّاً أنَّ الكثرة في هذا العالم تنبع من عين واحدة. و كلّ ما يتحقّق فيه هو من مصدر واحد، و أنَّ أي موجود بقدر ما له من النور و الجمال و البهاء يستقي من تلك العين المعِين، و أنَّ ذلك المصدر العظيم يفيض على كلّ موجود بقدر سعة وجوده -التي هي قابليّاته الماهويّة- أنوار الوجود و الجمال و العظمة. و بعبارة اخرى أنَّ الفيض من جانب الفيّاض المطلق يفاض بشكل مطلق و بدون قيد و شرط أو حدّ، و كلّ موجود يأخذ منه بقدر وسع ماهيّته.
انكشاف عوالم التوحيد الأربعة إثر المراقبة التامّة و التوجّه إلى النفس
نعم؛ و تنكشف للسالك -نتيجة للمراقبة التامّة و الاهتمام الشديد بها و على إثر التوجّه إلى النفس و بالتدريج- عوالم أربعة هي كالتالي:
العالم الأوّل: توحيد الأفعال، أي إدراك السالك في المرحلة الاولى أنَّ كلّ ما تراه العين و يلفظه اللسان و تسمعه الاذن و تقوم به اليد و الرجل و سائر الأعضاء و الجوارح، كلّ ذلك يستند إلى نفسه، و أنَّ النفس هي الفاعلة المحضة، ثمّ يدرك أنَّ الأفعال التي تتحقّق في الخارج تستند إلى نفسه، و أنَّ نفسه هي مصدر
جميع الأفعال في الخارج، ثمّ يدرك أنَّ نفسه قائمة بذات الحقّ، و أنها قبس من فيوضات الله و رحمته، و بالتالي تعود جميع الأفعال في العالم الخارجيّ إلى ذاته المقدّسة.
العالم الثاني: توحيد الصفات، و يكون بعد العالم الأوّل. و في هذا العالم لا يرى السالك من نفسه سمعاً أو بصراً، و أنَّ حقيقة سمعه و بصره من الله تعالى، و كذا كلّ ما يُرى في الموجودات الخارجيّة -من الصفات كالعلم و القدرة و الحياة- يستند إليه تعالى.
العالم الثالث: التوحيد في الأسماء، و يأتي بعد العالم الثاني. و هو أن يدرك السالك قيام جميع الصفات بالذات الإلهيّة، كأن يرى أنَّ العالم و القادر و الحيّ هو الله المتعال، فيدرك أنَّ علمه و قدرته و سمعه و بصره هو علم الله و قدرته و سمعه و بصره، و أنَّ الحيّ و القادر و العالم و السميع و البصير -في كلّ العوالم- هو واحد فقط، و هو الله جلَّ جلاله، و كلّ موجود من الموجودات يحكي -بقدر سعة وجوده- عن ذلك العالم و القادر و السميع و البصير و الحيّ، و يدلّ عليه.
العالم الرابع: التوحيد في الذات، و هو أعلى من العالم الثالث، و ينكشف للسالك بواسطة التجلّيات الذاتيّة، فيدرك فيه
أ نَّ تلك الذات التي تستند إليها جميع الأفعال و الصفات و الأسماء هي ذات واحدة، و أنها حقيقة واحدة، تقوم بها جميع الحقائق، فلا يعود للسالك توجّه إلى الاسم و الصفة، بل يكون مشهوده هو الذات فحسب، و هذا حين يتخطّى السالك وجوده الخاصّ المستعار كلّيّاً فاقداً ذاته في ظلّ الفناء في الذات الإلهيّة المقدّسة، حينها يحصل التجلّي الذاتيّ، و المسمّى لضيق التعبير أحياناً بمقام الذات أو حقيقة الذات أو الأحديّة، لأنَّ كلّ ما يُكتَب أو يقال عبارة عن أسماء، و الذات الإلهيّة المقدّسة أرفع مقاماً من ذلك، فلا يمكن لأيّ اسم أن يطالها أو يدرك مقامها، بل هي أعلى من هذا العجز، لأنَّ العجز هو في عين السلب و النفي إثبات حدّيّ، و الحقّ تعالى أعلى من الحدّ. فإذا دخل السالك إلى هذا المنزل فاقداً اسمه و ذاته عندها لن يعرف نفسه أو أحداً آخر غير الله، بل يرى الله في ذاته فحسب.
فالسالك يفقد في كلّ واحد من هذه العوالم الأربعة مقداراً من آثار وجوده الخاصّ، حتّى يفقد تمام وجوده و إنّيّته.
ففي العالم الأوّل الذي يصل فيه إلى مقام الفناء في الفعل يفهم أنَّ الفعل لا يصدر منه، بل من الله، و هنا يفقد تمام آثاره الفعليّة.
و في العالم الثاني عندما يصل إلى التجلّي الصفاتيّ يفهم أنَّ العلم و القدرة و سائر الصفات تختصّ و تنحصر بذات الحقّ سبحانه و تعالى، و هنا يفقد صفاته و يضيّعها فلا يجدها بعد ذلك في ذاته.
و في العالم الثالث عندما يحصل التجلّي الأسمائيّ يدرك أنَّ العالم و القادر هو الله جلَّ جلاله، و هنا يضيّع أسماءه، فلا يجدها بعد ذلك فيه.
و في العالم الرابع الذي هو التجلّي الذاتيّ يضيّع وجوده و يفقد ذاته فلا يجدها بعد ذلك أبداً، فلا ذات سوى ذات الله المقدّسة.
هذه المرحلة من الشهود أي التجلّي الذاتيّ يعبّر عنها العارفونبـ «العنقاء»، لأنَّ العنقاء موجود لا يمكن اصطياده. و هذه الصفات البحتة و الوجود الصرف يعبّر عنهبـ «عالم العمي» و «الكنز المخفيّ» و «ذات مَا لَا اسمَ له و لَا رَسْمَ له».
برو اين دام بر مرغ دگر نه | *** | كه عنقا را بلند است آشيانه۱ |
أشعار حافظ الشيرازيّ المشيرة إلى مقام ذات غيب الغيوب
ما أجمل ما ينظمه حافظ الشيرازيّ عليه الرحمة في
مثنويّاته مبيّناً هذا الأمر باستعاراته اللطيفة:
الا أي آهوي وحشي كجايي | *** | مرا با توست چندين آشنايي |
دو تنها و دو سرگردان، دو بي كس | *** | دَد و دامت كمين از پيش و از پس |
بيا تا حال يكديگر بدانيم | *** | مراد هم بجوييم ار توانيم |
چنينم هست ياد از پير دانا | *** | فراموشم نشد هرگز همانا |
كه روزي رهروي در سرزميني | *** | به لطفش گفت رندي ره نشيني |
كه أي سالك چه در انبانه داري | *** | بيا دامي بنه گر دانه داري۱ |
جوابش داد كآري دام دارم | *** | ولي سيمرغ ميبايد شكارم |
بگفتا چون به دست آري نشانش | *** | كه او خود بي نشانست آشيانش |
بگفتا گر چه اين امري محال است | *** | وليكن نا اميدي هم وبال است |
نكرد آن همدم ديرين مدارا | *** | مسلمانان مسلمانان خدا را |
مگر خضر مبارك پي تواند | *** | كه اين تنها بدان تنها رساند۱ |
و المعروف أنَّ المكان الذي فيه عشّ العنقاء لا أثر له أصلًا، فكيف يمكن صيدها؟! و لا يمكن ذلك إلّا بلطف الرحمن الهادي الذي يقود التائهين في وادي المحبّة و عاشقي جماله
السرمديّ إلى وادي التوحيد و الفناء. نسألك اللهمَّ بحقّ السائرين في وادي المحبّة و حاملي لواء الحمد و المعرفة محمّد المصطفى و عليّ المرتضى و الأحد عشر كوكبا من أبناء فاطمة البتول الزهراء عليهم سلام الله الملك المتعال وَفِّقِ اللهمَّ جَمِيعَ المحِبِّينَ وَ إيَّانا لِكُلِّ مَا يُرْضِيكَ وَ الحقْنَا بِالصَّالحينَ.
بحمد الله و منّه، تمّت هذه الرسالة الشريفة الموسومةبـ «رسالة لبّ اللباب في سير و سلوك اولي الألباب» بقلم الفقير الحقير في ليلة الثامن من شهر رمضان المبارك، سنة تسع و ستّين و ثلاثمائة و ألف للهجرة.
وَ له الحمْدُ في الاولَى و الآخِرَةِ،
وَ آخِرُ دَعْوَانا أنِ الحمْدُ لِله رَبِّ العَالمينَ.
و أنا الحقير الفقير السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ في بلدة قم الطيّبة.