المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة المعاد
التوضيح
تشمل 75 مجلساً في كيفية سير الإنسان وحركته في الدنيا وعالم الغرور، وكيفية تبدل نشأة الغرور إلى عالم الحقائق والواقعيّات وارتحال الإنسان إلى الله وغاية الغايات.
وتقع هذه المجموعة في عشر مجلّدات طبعت بأجمعها بالفارسيّة؛ وقد جرى فيها على نحوٍ وافٍ ومستفيض طرح مباحث من قبيل: عالم الصورة والبرزخ وكيفيّة ارتباط الأرواح هناك مع هذه العوالم، كيفيّة خلقة الملائكة ووظائفهم، النفخ في الصور وموت جميع الموجودات ثم إحياؤها وقيام الإنسان في ساحة الحضرة الأحديّة، عالم الحشر والنشر والحساب والكتاب والجزاء والعرض والسؤال والميزان والصراط والشفاعة والأعراف والجنة والنار؛ وذلك بالاستفادة من الآيات القرآنية وأخبار المعصومين ومن الأدلّة العقليّة والفلسفيّة والمطالب الذوقيّة والعرفانية.
الْمَجلِسُ التَّاسِعُ وَ الخَمْسُونَ: عُمُومِيَّةُ المَعادِ لِجَمِيعِ المَوْجُودَاتِ الأرْضِيَّةِ وَ السَّماوِيَّةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ.۱
و نظير هذه الآية، قوله تعالى:
أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ.٢
ذكرنا بحول الله و قوّته في المجلس الثاني من الجزء الأوّل مطالب عن الأجل و الأجل المسمّى، فاتّضح إلى حدٍّ ما، أنّ جميع الموجودات الأرضيّة و السماويّة ذات أمد معيّن و حدّ محدود. أمّا الأجل المسمّى الذي هو عند الله، فباقٍ لا ينفد و لا يزول تبعاً لمفاد الآية الكريمة:
ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ.٣
و أمّا هذه الآجال المعهودة، فليست إلّا ظاهراً لذلك الأجل المسمّى، و مقاماً متنزّلًا عنه. و حقيقة الأمر أنّ الأجل أمر واقعيّ ذو جهتين، تقابل أولاهما عالم الطبع و الفساد و الكثرة، و تقابل الثانية عالم التجرّد و الثبات و الوحدة. و تدعى الجهة الاولى أجلًا، بينما تدعى الثانية أجلًا مسمّى.
و هاتان الآيتان في صدد بيان أنّ السماوات و الأرض و ما بينهما قد خُلقت بالحقّ و أجل مسمّى. أمّا «الباء» المتعلّقة بـ «الحقّ» و «أجل مسمّي» فهي إمّا للسببيّة أو للملابسة. أي أنّنا خلقناهما بسبب الحقّ و الأجل المسمّى؛ أو ملابسةً للحقّ و الأجل المسمّى.
و الأجل المسمّى هو حياة الخلود عند الله تعالى؛ حياة الفوز و الظفر و السعادة؛ و هي حياة تامّة لا يعتريها زوال و لا فناء، و لا يخالطها فساد و لا تلف؛ حياة لا تماثل الحياة الدنيويّة المشوبة بالآلام و الغصص و المصائب، بل تُجسّد -و باستمرار- النور و التجرّد و الحقيقة.
و ليست هذه الحياة الدنيا إلّا درجة ضعيفة و مرتبة متدنيّة من تلك الحياة، لأنّ تلك الحقيقة تتنزّل بالتقيّد و التعيّن بلباس القيد و الكثرة و بالتأطّر بحدود و قيود هذا العالم -عالم الطبع- فتتجلّى في رداء تلك الحدود و التعيّنات.
و الآية الشريفة: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ۱ ناظرة إلى هذا المعنى.
و باعتبار أنّ مصدر حياة جميع الموجودات إنّما يتمثّل في خزائن الله التي لا تنفد و أنّ خلق تلك الموجودات هو نزولها من تلك الخزائن و المصادر المطلقة الواسعة المجرّدة و غير المقدّرة بِقَدَر، و أنّ تلك المصادر
الأصليّة الحقيقيّة هي منشأ هذه الموجودات الكثيرة؛ و باعتبار أنّ ذلك الإطلاق هو أساس هذه التعيّنات، و أنّ ذلك الإجمال هو منشأ هذه التفاصيل، و أنّ تلك الأمور الواحدة هي مصدر هذه الكثرات، فلا محالة -إذاً- من أن تكون تلك الخزائن طافحة بالحياة التامّة اللامحدودة؛ هذا من جهة.
الوجود ليس باطلًا، و جميع الكائنات في حركة إلى الله تعالي
و من جهة اخرى، فنحن نعلم أنّ هذا العالم لم يُخلق عبثاً و لا لهواً، بَيدَ أنّنا لو نظرنا إلى جهة النفاد و الزوال و الفناء و الفساد و الآلام و الغصص و المصائب و حوادث الموت دون أن نلحظ بعدها تلك الحياة الأبديّة السرمديّة، و دون أن نعتبر ذلك طريقاً لبلوغ تلك الحقيقة الثابتة؛ فإنّ خلق العالم سيكون -بلا شكّ- عبثاً لا طائل بعده.
أمّا لو استهدفت هذه الحركات مقصداً معيّناً، و استهدف كلّ هذا البحث أمراً معيّناً، و تعلّق بهدفٍ مشخّص؛ و لو كان كلّ هذا الفِراق من أجل وصالٍ ما، و هذه المَجازات من أجل بلوغ حقيقةٍ ما، و هذه النشاطات من أجل إدراك منزل محدّد، فسيكون محطّ رحال هذا العالم المتحرّك معاده الذي يتحرّك إليه فيصله و يسكن إليه. و لدينا برهان فلسفيّ و عقليّ في عدم بطلان العالم، إذ حيثما وُجدتْ حركة ما، وُجد هنالك هدف و غاية.
و لمّا أثبتنا أن أساس العالم قائم على الحقّ، فلن يكون الباطل هو الغاية و النتيجة المتوخّاة من أساس الحقّ، لأنّ الباطل و العبث و اللغو امور عارية عن القصد و الغاية.
أمّا فيما لو تحرّك الحقّ، اتّجهت حركته نحو الحقّ، و لبلغه. و سيكون ذلك الحقّ هو الغاية الإراديّة لذلك الفعل و تلك الحركة.
و بما أنّ الفعل الإراديّ يبلغ بالمتحرّك إلى الغاية الباعثة على الحركة، و أنّ نفس المحرِّك -و هو العلّة الفاعلة للتحريك- هو علّة غائيّة لذلك
التحريك، فمن المحال أن تكون الغاية من الفعل (أي الفعل الذي تمثّل الحركة و البحث أساس وجوده) منصبّة في نفس الفعل. و لا يمكن أن يكون الهدف من عالم الخلق هو نفس عالم الخلق، مع افتراض مشاهدتنا لعالم الخلق متحرّكاً في ذاته، في سير و بحث دائبينِ.
و ينبغي -على هذا الأساس- أن تتّجه هذه الحركة إلى السكون المطلق، و يركن هذا النشاط و الحيويّة إلى الهدوء و الاستقرار، و يميل هذا الهيجان إلى السكون و الصمت، و أن يستهدف هذا التغيير و التحوّل بلوغ جانب الثبات و الاستقرار، و إلّا فسيستلزم ذلك لغويّة و بطلان هذا العالم.
أجل، فليس هناك من معاد للموجودات التي لا تمتلك حركة، سواء كانت تلك الحركة ذاتيّةً أم عرضيّة، أم حركة من النقصان إلى الكمال؛ و لا للموجودات التي خُلقت منذ البدء في حال من الثبات و الاستقرار و التجرّد، إذ ليس لتلك الموجودات من مبدأ، ليكون لها ثمّة عود و معاد؛ و ليس لها من نزول، ليتبعه ثمّة صعود؛ و ليس لها من حركة، لتبحث عن السكون؛ إذ يختصّ هذا الأمر بالأسماء و الصفات الكلّيّة الإلهيّة و الاسم الأعظم و الروح -و هو أفضل من جميع الملائكة- و بالمخلَصين المهيمنين على عالم الكثرة، الذين هم واسطة الفيض من المبدأ الواجب إلى الماهيّات و القوالب الإمكانيّة؛ و هو مما سنتحدّث عنه لاحقاً.
و بالإضافة إلى الآيتين السالفتَي الذكر، ثمّة آيات اخرى تدلّ على عدم بطلان العالم، مثل آية:
وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ.۱
و آية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ.۱
و آية: وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا (دون أن يعترض علينا أحد، لكنّ ما خلقناه كان عين المصلحة و الحكمة) إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ ، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ.٢
و الآية التالية أكثر وضوحاً:
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ.٣
أي أنّ الباطل، له صورة غير دائمة من الباطل، و مسيَّر نحو الحقّ، و أنّ ثمّة حقّ مقاوم يكمن في باطن كلّ باطل. و هذه أمثال يضربها الله عزّ و جلّ لتدركوا من سير الزمان و تغييرات العالم، و من المصائب و الشدائد ما اقترن بها من الحقّ، و لازمها ملازمة حتميّة. إذاً، فحركة العالم هي حركة باتّجاه الحقّ تعالى.
لا فرق بين الجمادات و النباتات و الكائنات الحيّة في حركتها إلى الله تعالی
و قد ذكرنا في الأبحاث السابقة أنّ تمام العالم حيّ ذو شعور و قدرة،
و أنّ الحيوانات و النباتات و الجمادات ذات قدرة و قوّة إدراك. و على الرغم من تصوّرنا بأنّ الجمادات لا تتمتّع بالحياة و العلم، إلّا أنّها ليست كذلك في حقيقة الأمر، لكنّنا لا نعلم بذلك.
عدم البطلان في الخلقة يستلزم الحركة باتّجاه المعاد
إنّ الله تعالى لا يفرّق في آيات الخلقة، كآية: ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى، الآية:
وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا بين الموجودات التي نتصوّرها حيّة أو غير حيّة، و يحكم على الجميع بالمعاد و الحشر على نحو الإطلاق و العموم.
و على هذا الأساس، فلا اختصاص للمعاد بالإنس و الجنّ، بل المعاد و الحشر للملائكة و النباتات و الجمادات أيضاً، و بشكل عامّ فالمعاد لكلّ موجود سواء كان أرضيّاً أم سماويّاً أم ما بينهما.
أمّا بخصوص الموجودات الحيّة كالحيوانات بكافّة أنواعها و أصنافها المختلفة التي يضيق حصرها و التي تعيش على الأرض أو في البحر أو الهواء، فالآية التالية تمثّل شاهد صدق صريح على ادّعائنا:
وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ (سواء على الأرض أم في البحر) وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ (كتاب التكوين، و هو عالم الوجود و الإمكان مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ.۱
و يوصلنا ظاهر هذه الآية إلى أنّ الحيوانات امم كحال الإنسان، لذا فهي لم تُخلق عبثاً أو باطلًا و عليه فهي مشمولة بالحشر؛ ثمّ إنّ في خلقها غاية و نهاية مطلوبة، و تلك الغاية هي عودها إلى خالقها.
فما هذا الافتراق و التشتّت في هذا العالم إلّا من أجل الاتّصال
و الاجتماع و الحشر في ذلك العالم. فهذا هو المقدّمة، و ذاك ذو المقدّمة.
كما و يعود الافتراق و النشر في بدايته الحاصل في هذا العام إلى جهة النزول من عالم الجمع و الحشر، و الآية: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ تظهر هذه الحقيقة بوضوح؛ و كذلك الأمر في مقام أسماء الحضرة الأحديّة سبحانه و تعالى و صفاتها، فالأسماء الجزئيّة و المتعيّنة تمثّل مرتبة نزول الأسماء و الصفات الكلّيّة في كلّ عالم، كلًّا بحسب درجته و مرتبته؛ فالأسماء و الصفات الكلّيّة هي مرتبة صعود و إطلاق الأسماء و الصفات الجزئيّة في كلّ عالم، كلًّا بدوره و بحسب درجته، وصولًا إلى تلك الأسماء و الصفات المبرّأة من حدود التعيّنات من جميع جهاتها، و الخارجة عن كثرات عالم الصورة و المعنى و المبرّأة حتّى من تعابير انطباق المفاهيم المتعددة:
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.۱
و يستفاد من الآية السابقة من سورة الأنعام أنّ حشر الحيوانات إلى خالقها هو نتيجة كونها امماً كالإنسان، و أنّ علّة و سبب هذا الخلق واحد كما عبّرت عنه الآية: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ. أي أنّنا لم نفرّط في كتاب الخلق و صحيفة التكوين الإلهيّة من خلق أي شيء ذي غاية و نهاية و حركة على أساس الحقّ، و ذلك لانتفاء أي قصور في كتاب التكوين و خلوّه من العبث و اللغو، و لأنّ هذا الكتاب هو الذي يقول عنه: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ.٢
و أنّ أحقّيّته توجب عدم جعل الاختلافات بين الموجودات الحيّة
باطلًا و لغواً و عبثاً- كأن يجعل بعضها دوابَّ، و بعضها زواحفَ، و بعضها الآخر طيوراً، أو أن تُجعل ذات أشكال و صور مختلفة و أفعال و خواصّ تميّز كلًّا منها عن الامم الاخرى بل إنّ هذه الاختلافات -كلًّا بدوره- مؤثّرة في بلوغ الغاية و في وصول كلّ شيء إلى كماله المطلوب، و في انتهاء الحركة الخاصّة بكلّ فرد دون أن يهلك و يفنى خلال الطريق قبل إدراكه الغاية المستهدفة. و بغير هذا التوجيه فستكون الاختلافات بين الموجودات أمراً باطلًا، ممّا يجعل الخلل يتسرّب إلى إتقان الكتاب الإلهيّ و سيُشاهد فيه تفريط و قصور! وَ سُبْحَانَ اللهِ أنْ يَكُونَ في فِعْلِهِ تَفْرِيط، كَمَا لَا يَكُونُ في صِفَاتِهِ وَ ذَاتِهِ قُصُورٌ.
فالنتيجة الحاصلة هي أنّ الحيوانات الأرضيّة هي امم كالبشر، و أنّها ستماثل الإنسان في معاده و اجتماعه عند ربّه تعالى.
و هناك آية اخرى تبيّن معاد الحيوانات عموماً:
وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ.۱
فقد أثبتت هذه الآية حكم الجمع (أي الحشر) لكلّ ذوات الأرواح الموجودة في السماوات و الأرض. و ثمّة نظير لهذه الآية في سورة مريم:
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا ، وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً.٢
و المراد من إتيان جميع الأفراد إلى الله تعالى في حال العبوديّة، هو أنّ الالتفات الكامل لجميع الأفراد هو التفاتٌ إلى الله سبحانه، و قد خضعوا
أمامه تكوينيّاً في صفة العبوديّة المحضة، و صار كلّ منهم لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعاً وَ لَا ضَرّاً وَ لَا مَوْتاً وَ لَا حَيَاةً وَ لَا نُشُوراً.
معاد سكّان السماوات و الأرض على هيئة «فُرادي»، أي من دون تعيّن
أمّا المراد من مجيء كلّ مَن في السماوات و الأرض عند ربّه فرداً، أي إتيان الجميع صفر الأيادي خالية، لم يحملوا معهم من أسباب الدنيا و تعيّناتها شيئاً، و لم يصطحبوا معهم شيئاً من الحول و القوّة و الأولاد و العون و العشيرة و الأموال و الرسوم الدنيويّة التي جعلتهم ذوي و جاهة و استكبار.
وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ.۱
و هذا هو معنى الفرد الوارد في الآية: وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً.
أنّ كلّ امرئ يذهب إلى الله و هو عارٍ، أي دون أن يستصحب معه أي شيء ممّا كان يدّعي ملكيّته في الدنيا، فيأتي ربّه فرداً وحيداً بكلّ ما للكلمة من معنى، و عبداً بحقيقة معنى العبوديّة.
لقد كان عبداً أبداً، و ما كان مالكاً و لن يكون، على الرغم من ادّعائه الربوبيّة و الملكيّة و هو في عالم المجاز و خلف حجاب الأنانيّة؛ و سيُكشف يوم ظهور الحقائق و تجليّها -يوم القيامة- زيف دعواه الملكيّة، و أنّه ما كان إلّا عبداً حقّاً، و لن يكون إلّا كذلك.
و هذا هو معنى الفرد، الذي ذُكر بصيغة الجمع -فرادى- في آية اخرى، حيث تقول الملائكة عند قبض أرواح الظالمين:
وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى (بلا تعيّن و لا أسباب) كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.٢
حيث أبانت الجمل التالية تفسير كلمة فرادى، و هي: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَ تَرَكْتُمْ ، وَ ما نَرى مَعَكُمْ ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ.
و هكذا هو المطلب كما في الآية مورد البحث: وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً. أي أنّ جميع موجودات السماوات و الأرض ستأتي الله يوم القيامة فرداً، دون أيّة جهة للتعيّن.
و لمّا اتّضح معنى الفرد، و علمنا أنّه مَن يذهب فرداً دون تعيّنات نفسيّة و لا كثرات صوريّة، فقد اتّضح معنى الجمع أيضاً؛ و بما أنّ معنى الجمع في أذهان العامّة هو اجتماع الناس مع بعضهم، فقد يتبادر إلى الذهن هذا المعنى المتعارف دون المعنى المراد منه، باعتباره من أسماء يوم القيامة.
أمّا الآن فقد أضحى جليّاً أنّ له معنى آخر، و هو: الورود إلى عالمٍ تزول فيه الكثرات الاعتباريّة و التوهّمات الصوريّة و التقيّدات المموّهة و كلّ ما هنالك من شوائب التفرّق.
يوم الجمع، من أسماء يوم القيامة
هذا العالم هو عالم التفريق و النشر، أمّا ذلك العالم، فعالم الجمع و الحشر. هنا الافتراق عن الحقيقة و المعنى و التلبّس بلباس الكثرة و آثارها، من أي نوع كانت؛ أمّا هناك فالاجتماع، أي ورود الإنسان في اجتماع نفسه مخلّفاً وراءه الكثرة و آثارها، و متناسياً تماماً شوائب الاثنينيّة و التغرّب و الاعتباريّات التخيّليّة و الصوريّة.
و حين يتوجّه الإنسان في ذلك العالم إلى الجنّة أو إلى النار، فإنّه يجتمع مع مَن يشترك معهم في السلوك. أي أنّ الكثرات و الجهات التي من شأنها التفريق و التمييز سوف تنهار و تتلاشى، فتمتزج اصول النفوس الحسنة مع بعضها امتزاج السكّر بالحليب، ثمّ إنّها ترد الجنّة. أمّا اصول و مبادئ النفوس السيّئة، فتمتزج مع بعضها كامتزاج الحنظل بالسمّ، ثمّ
تُساق إلى جهنّم.
و هذا هو معنى الجمع و الحشر الذي تكرّر الحديث عنهما في الآيات القرآنيّة، حيث عُدّ يوم الجمع من أسماء يوم القيامة.
كما أنّ المعنى الذي ورد في الآيات بألفاظ فَرْد و فُرادى هو معنى دقيق جدّاً، و قد استفيد ممّا يقابل لفظ الجمع. و قد اطلق لفظا الجمع و الحشر في كثير من الآيات القرآنيّة، مثل: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ.۱
وآية: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ.٢
و قد اتّضح أنّ معنى الفرد و الجمع هو معنى واحد، بخلاف ما يتبادر إلى الذّهن. أي أنّ الذهاب إلى الحضرة الأحديّة في هيئة فرادى يستلزم الجمع، حيث تُنسى آنذاك الكثرات المفرِّقة و المشتِّتة. و سنرى بحول الله و قوّته في مسألة الشفاعة و اللحوق و الإلحاق كيفيّة تصدّي لفظ الجمع المذكور لحلّ تلك المسائل.
و على هذا الأساس أيضاً، يتّضح معنى الآيتين:
وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً.٣
وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً.٤
فقد نُظِّمت هذه الطوائف و الزمر على أساس هذا الجمع، حيث ينبذ الأفراد المتماثلون في الفكر و العقيدة و السلوك الجهات التفريقيّة
و الاختلافات الشخصيّة جانباً، و يتّحدون ببعضهم في مقام الجمع فيفدون بأجمعهم على الجنّة، أو يساقون بأجمعهم إلى النار.
كما تبيّن الآيتان الكريمتان: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ، لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ،۱ هذا المعنى بجلاء.
أجل، فآية وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً ذات دلالة على حشر ذوات الأرواح و معادها.
الآيات القرآنيّة الدالّة على حشر الجمادات
و من جملة الآيات الدالّة على حشر و معاد غير ذوات الأرواح (من الجمادات غير ذوات الشعور و الإحساس)، الآية الكريمة:
وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ ، وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ.٢
فقد عزا ضمير كَانُوا في كلام الموضعيْن: كَانُوا لَهُمْ، و كَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ إلى المعبودات من الجماد و النبات دون البشر و الملائكة.
و قد نُصّ في هذه الآية على أنّ هذه المعبودات تُحشر يوم القيامة فتكفر بعبادة مَن عبدها. و السبب في اعتبارنا لفظ مَن لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ عائداً إلى غير ذوات العقول، و في إرجاعنا ضمير كانوا إليها، هو قوله تعالى:
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ٣، إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ
وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ.۱
حيث نفهم منه و بقرينة: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ، وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا، أنّ المراد من الشركاء الذين أشرك بهم المشركون في هذا العالم هم الأصنام الجامدة الفاقدة للشعور و الإدراك. فهي -إذاً- ستُحشر يوم القيامة فتكفر بشرك المشركين و تنكره. و يتمثّل كفرها يوم القيامة و إعراضها عن المشركين الذين كانوا يعبدونها في قولها: تبرّأنا إليك -يا إلهنا- من أعمالهم و أفعالهم، و توجّهنا إليك و عُذنا بك! إنّهم لم يعبدوننا أساساً، و ليس من اللائق -مع وجود أصالتك و حقّانيّتك- أن تُنسب العبادة إلينا أو أن تتحقّق بنا.
تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ.٢
و لمّا فُسِّر مراد الآية التي سبقتها: مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بمصاديق الآية اللاحقة: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ، فسيكون المراد بـ: مَن لَا يَسْتَجِيبُ هو نفس هذه الأصنام الجامدة الفاقدة للشعور و الإدراك، إذ ستُحشر هذه الأصنام في يوم القيامة بنصّ هذه الآية، فتصبح عدوّة للمشركين بالله الذين عبدوها: كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ.
و من بين الآيات الدالّة على بعث الجمادات:
وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ، أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ.٣
و مع أنّ تعبير أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ الذي يشمل -بحسب المعنى العقليّ الدقّيّ- الأفراد من ذوي الأرواح، كالفراعنة الذين كان الناس يعبدونهم في الأزمنة الغابرة، إلّا أنّ الظاهر يدلّ على هذه الأصنام و التماثيل التي اتّخذها مشركو الجاهليّة أرباباً يعبدونها.
و هذه الآية صريحة في أنّ تلك الأصنام لا تدرك زمن حشرها و معادها.
و من بين الآيات الدالّة على حشر الجمادات:
وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.۱
و بلحاظ قوله في هذه الآية الشريفة بأنّ نفس الأموال التي بخل البخلاء عن إنفاقها، ستكون طوقاً يطوّق أعناقهم؛ فإنّ معاد الأموال التي وقعت مورداً للبخل سيكون طوقاً يطوّق البخلاء في جهنّم.
أجل، فالآيات التي أوردناها في هذا المجال، و التي بيّنت حكم حشر الجمادات و معادها، من خلال استخدامها لضمير العاقل، مثل: وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ ، وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ ، كانُوا لَهُمْ ، كانُوا بِعِبادَتِهِمْ ، ما يَمْلِكُونَ ، إِنْ تَدْعُوهُمْ ، لا يَسْمَعُوا ، لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا ، يَكْفُرُونَ ، ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، فإنّها تفيد أنّ بعث النباتات و الجمادات يوم القيامة متلازم مع الحياة و العلم، لأنّ ذلك العالَم هو عالم الحياة و العلم، و لأنّه العالم الذي يمثّل فوران الحياة و العلم حتّى أنّ الذرّة الصغيرة التي لا تساوي شيئاً سوف تنضح بالعلم و الحياة؛ و تشير الآية ٢٩، من السورة
٤٢: الشورى، إلى هذا المعنى إشارةً لطيفة، فتقول:
وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ.
و يبدو أنّ الضمير في جَمْعِهِمْ عائد إلى السَّمَاواتِ وَ الأرْضِ وَ مَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ، ممّا يجسّد دلالة على حياة و علم السماوات و الأرض و ما بثّ فيهما من دَوابّ.
أمّا في فصل شهادة الشهداء يوم القيامة، فقد برهنّا على أنّ الشهادة -سواء في مرحلة التحمّل أم في مرحلة الأداء- تستلزم الحياة و العلم، و أنّ ظاهر الآيات الدالّة على شهادة الجمادات، كأعضاء البدن و الأمكنة و الأزمنة و غيرها تُظهر سريان الحياة و العلم إلى جميع الموجودات.۱
و تناولت الأبحاث التي أوردناها في هذا المجال أمر دلالة الآيات القرآنيّة الكريمة على حشر و معاد النباتات و الجمادات و جميع الموجودات السماويّة و الأرضيّة، و قد استفدنا في هذا المجال من دقّة النظرة العقليّة و الفلسفيّة. كما أوردنا في المجلس الأربعين (الجزء السادس) مطالباً نفيسة عن المرحوم صدر المتألّهين رحمة الله عليه من «رسالة الحشر».
أمّا الروايات الواردة في حشر ما سوى البشر و الملائكة من أصناف المخلوقات و الموجودات التي خلقها الله تعالى في السماوات و الأرض و ما بينهما، فكثيرة و تدلّ على أنّ كلب أصحاب الكهف و ناقة النبيّ صالح يدخلان الجنّة، و أنّ الوحوش و الكلاب ترد جهنّم فتمزّق المجرمين بأنيابها، و أنّ الناقة التي يُحجّ عليها ثلاث مرّات أو سبع مرّات تدخل
الجنّة. و هناك روايات ذكرناها في المجلس السابق تتحدّث عن اقتصاص الله للضحايا، و اقتصاصه من الشاة القرناء للجمّاء.
إنّ الحيوانات ذات شعور و فهم و إدراك، و هذا الشعور و الفهم يستدعيان أن يكون لها حشر و معاد، ناهيك عن أنّ جملة أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ذات دلالة على معانٍ كثيرة، إذ على الرغم من أنّنا ننظر إليها بعين الاستصغار، إلّا أنّها ليست على الصورة التي نتصوّرها أبداً، بل هي ذات عالم خاصّ، شأنها في ذلك شأن الإنسان. كما أنّ لها مبدأ و نهاية و سير و هدف و شعور و إدراك. و بالإضافة إلى الجهات الظاهريّة الطبيعيّة كالقوّة الناميّة و الجاذبة و الدافعة و المولّدة و الغاذية -فإنّ لها في الجهات الباطنيّة- كالمثال و النفس -آمالًا و إرادةً و عزماً، و لها- كما للإنسان وجود و ماهيّة. و بطبيعة الحال فإنّ هذه الامور محدودة بحدود هذه الحيوانات وسعتها الوجوديّة.
و قد تذاكر العلماء الأعلام بشأن هذه الحيوانات، و دوّنوا فيها كتباً و رسائل قد أثارت بحقّ عَجب الإنسان و حيرته؛ و قد دعانا القرآن الكريم إلى التفكّر و التأمّل فيها، و عدّ عجائبها و غرائبها من آيات عظمة و جلال الباري تعالى شأنه العزيز، فيقول:
أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ.۱
لقد كتب جميع المؤرّخين قصّة أصحاب الفيل الذين استهدفوا تدمير مكّة، و جاء ذكرهم في الشعر الجاهليّ؛ فكانت تلك الواقعة بمثابة البداية للتأريخ. و قد ذكروا كيف أهلك الله تعالى بالطيور المحلّقة ملك اليمن -و كان جدّاً للنجايّش- و اسمه أبرهة بن صباح الأشرم، و كنيته أبو يكسوم
الذي تحرّك بجيش عظيم جرّار تصحبه الفيلة الحربيّة باتّجاه مكّة، حين صبّت تلك الطيور الحجارة فوق رؤوسهم:
وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ ، تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ.۱
«حتّى إذا كان مع طلوع الشمس، طلعت عليهم الطير معها الحجارة، فجعلت ترميهم، و كلّ طائر في منقاره حجر و في رجليه حجران، و إذا رمت بذلك مضت و طلعت اخرى، فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلّا خرقه، و لا عظم إلّا أوهاه و ثقبه»٢.
قصّة النبيّ سليمان مع النملة و الهدهد
كما أنّ قصّة النبيّ سليمان على نبيّنا و آله و عليه السلام قصّة عجيبة، حيث سخّر له اللهُ تعالى الطيورَ فكانت من جنوده، فضلًا عن الجنّ و الإنس. و كان سليمان يعرف منطق الطيور، و كان يرسل تلك الطيور في مهمّات تنجزها له:
وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ، وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ.٣
و يستفاد من الآية الأخيرة عدّة امور:
أوّلًا: أنّ نملة قد تكلّمت بهذا المطلب؛ فللنمل -إذاً- كلام و تخاطب و قابليّة للبيان و الإدراك.
ثانياً: أنّ تلك النملة قد عرفت سليمان، و علمت أنّ هذا الجيش العظيم العرمرم هو جيشه. و بالتأكيد أنّ معرفة هكذا أمر من قبل نملة ضعيفة مهمّ جدّاً.
ثالثاً: لقد علمت النملة أنّ بإمكان جيش سليمان أن يحطم النمل و يسحقه بخيوله، إضافةً إلى علمها بأنّ سليمان و جنوده لا يعلمون بذلك السحق و التحطيم، سواءً كان سليمان و جنده لا يعلمون أساساً بأنّ النمل سيُسحق تحت أقدامهم، أم أنّهم كانوا يعلمون بذلك و لا يعدّونه ظلماً، لذا تراهم لا يحذرون -كما ينبغي- في حركتهم، و لا يبذلون في سيرهم الدقّة المنتظرة من أمثالهم. و من الجليّ أنّ إدراك هذه المعاني الباطنيّة، و الإخبار عن أفعال سليمان و جنوده في أمر لم يتحقّق بعدُ -سواءً كان ظلماً أم لم يكن- هو أمر مهمّ جدّاً.
رابعاً: أنّ هذه النملة -بناءً على أمر تحطيم النمل و سحقه- صارت تنسب إلى سليمان عدم الشعور، و تعزوه إلى عدم الإدراك، مع كلّ جلاله و عظمته و قدرته و هيمنته!
و لم يؤاخذ سليمان تلك النملة على ما نسبته إليه، و لم يُعر لقولها أهمّيّة، بل تبسّم ضاحكاً من قولها، و دعا ربّه أن يوفّقه ليشكر النعم التي منّ بها عليه و على والديه، و أن يوفّقه لأعمال صالحة يرضاها له، و أن يُدخله في زمرة عباده الصالحين:
فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ.۱
فيا إلهنا! ما ذا في هذا العالم؟ و ما هذه الضجّة التي لا نعلم عنها شيئاً؟ ما قصّة النمل و الأرضة؟ و كيف يجري تكاثرها و تناسلها و تنظّم صيغة عقد الاخوّة بينها؟ و كيف يتمّ نكاحها و معاملاتها و مناجاتها و سيرها و سلوكها؟ و كيف هي حياتها و موتها؟ و هنا، ليُصاب الإنسان بالحيرة و الذهول و لا يمكنه من التفوّه ببنت شفة.
ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ.۱
و لقد عزا الهدهد عدم الإحاطة في العلم إلى سليمان؛ فقال: جئتُك من سبأ بنبإ يقين:
وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ.٢
قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ ، اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ.٣
أجل، فثمّة مطالب يمكن استخلاصها من هذه القصّة في أحوال الهدهد:
الأوّل: أنّ الهدهد لم يكن حاضراً عند سليمان في بداية الأمر، ثمّ إنّه حضر لاحقاً. و لقد كان الهدهد القادم من مدينة سبأ عالماً في الباطن باستدعاء سليمان له، لكنّه برّر تأخيره في الحضور بعذر وجيه يتمثّل في
إتيانه بخبر جديد إلى سليمان.
الثاني: كان يعلم أنّ حاكم مدينة سبأ ملكة، فميّز بين المرأة و الرجل، ثمّ إنّه لاحظ عظمتها و اقتدارها.
الثالث: علمه بما في ذهن سليمان، إذ كان يعلم أنّ سليمان لم يُحط بهذا الأمر من قبل.
الرابع: علمه أنّ بلقيس و قومها هم من عبدة الشمس، و أنّهم ما كانوا يعبدون الله تعالى. و علمه كذلك أنّ ذلك إنّما هو من تسويلات الشيطان الذي صدّهم عن سبيل الله؛ و بأنّ سبيل الحقّ و النهج الواضح هو سبيل الله تعالى لا غير.
و لم ينفِ سليمان كلام الهدهد، بل قال -و ما أعجب ما قال- ينبغي أن نختبر كلامك لنعلم مدى صدقك فيه؛ حيث نشاهد أنّ سليمان كان بحاجة إلى امتحان و إرسال من أجل تشخيص مدى صدق الهدهد في ادّعائه.
أجل، فقد كان القصد من ذلك هو بيان كون هذه الامور عبارة عن حقائق من عالم الحيوانات، و أنّ على الإنسان أن ينظر بعين الإعجاب إعجاز قوله تعالى: أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ.
لقد امتنعت ناقة الإمام السجاد عليه السلام عن الأكل و الشرب بعد و فاته عليه السلام و ا تجهت نحو قبره الشريف فبركات عليه و بقيت تضرب برأسها الأرض حتى تلفت.۱
في غرائز الحيوانات، و وفاء الكلب
و من الامور التي لا يشوبها الشكّ، و الحوادث التي شهدها الكثيرون عياناً، قصّة فرار بعير من المسلخ في مدينة مشهد المقدّسة، و خروجه مسرعاً من المجزرة الواقعة خارج المدينة، و طوى الشوارع الواحد تلو الآخر دون أن يُخطئ، حتّى وصل إلى شارع «بالا خيابان»۱ فاتّجه إلى باب الصحن المطهّر، و ما أن وصل إلى داخل الصحن، حتّى اتّجه إلى الشبّاك الحديديّ و الذي يمثِّل محلّ التجاء اللائذين بالإمام، و برك على الأرض و وجهه باتّجاه الشبّاك و القبر المطهّر و هو يرغو في حالة رجاء و توسّل!
و قد قرأنا القصّة في الجرائد، و لم نسمع مَن ينكرها، بل إنّ جميع أهالي المشهد الرضويّ المقدّس على مقدّسه آلاف التحيّة و الثناء، يشهدون على صدق وقوعها.٢
و قد وردت رواية عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام مفادها أنّ فَرَس سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام كان يصهل صهيلًا عالياً و يمرّغ ناصيته بدم الحسين و يشمّه، و كان يقول في صهيله:
الظَّلِيمَةَ الظَّلِيمَةَ مِنْ امَّةٍ قَتَلَتْ ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّهَا.٣
و نقلت المرحومة والدتنا رحمة الله عليها لنا (لأولادها): لم تكن السيّارات قد استُعلمت في طهران بعد، و كان الناس يستخدمون الخيل و البغال و الحمير في تنقّلهم من مكانٍ إلى آخر. و كان لكلّ عالم من العلماء دابّة يمتطيها، و يربطها في ساحة البيت الخارجيّة.
قالت: و كان لأبيكم حمار مصريّ من الحمير المصريّة المشهورة بالخفّة و صغر الجثّة و سرعة السير، و كان يمتطيه حيثما أراد الذهاب، سواء إلى المسجد أم إلى الدرس أم إلى مكان آخر، و أوّل ما يقوم به عند عودته إلى البيت هو تفقّد أحوال حماره و تقديم الماء و العلف، قبل أن يخلد بنفسه إلى الراحة. و ذات يوم شدّ الرحال لزيارة العتبات المقدّسة ضمن إحدى القوافل، و كانت القوافل آنذاك تستخدم صناديق خشبيّة مفتوحة تدعى «كَجَاوة» تُربط إلى جانبي الجمل أو البغل ليركب عليه الناس. و قد أناط مهمّة رعاية امور المنزل لعمّنا الأكبر المرحوم الحاجّ السيّد محمّد كاظم، فكان عمّنا هذا، يجلب العلف للحمار، لكنّ الحمار لا يأكل منه شيئاً. و مهما حاول معه باسلوب الرعاية و الملاطفة لكنّه لم يصل إلى نتيجة، حتّى مرّت ثلاثة أيّام كاملة و الحيوان جائع طاوٍ، فاضطرّ إلى إهدائه إلى شخصٍ ما، لعلّ ذلك الشخص يتمكّن من إطعامه بطريقة ما لينجيه من الموت.
و كان أحد أساتذتنا الأجلّاء في علم العرفان الإلهيّ، و هو المرحوم رضوان مقام عرفان الحقّ و اليقين: آية الله الحاجّ الشيخ جواد الأنصاريّ الهمدانيّ رحمة الله عليه، يقول: نهض أحد السالكين ليلًا ليصلّي نافلة الليل، فسمع كلب الجيران يقرأ سورة الشمس.
و أظنّ أنّ «أحد السالكين» هو نفسه، إلّا أنّه ذكره هكذا، لأنّ الأعلام لا ينسبون إلى أنفسهم في الغالب مثل هذه الامور.
و باعتقادي أنّ قراءة الكلب سورة الشمس قد مثّلت مكاشفة حصلتْ له من صوت الكلب، لأنّه كان آنذاك منهمكاً بالمجاهدات النفسانيّة لتزكية النفس، فتحقّقت في شأنه هذه السورة المشتملة على قَسَم زائد في إثبات نجاح و فوز مَن يزكّي نفسه.
كما قد ذكرت والدتنا قصصاً عن وفاء الكلب، منها: أنّ المرحوم الميرزا حسين على فرمانفرما، كان ذات يوم واقفاً على ساحل البحر يريد السباحة، فاعترضه كلبه، لكنّه لم يُعره اهتماماً، و حين أراد الدخول في الماء، سبقه الكلب فرمى بنفسه أمامه، فابتلعه على الفور حيوان ضخم. فانصرف المرحوم فرمانفرما عن السباحة و قد أدرك أنّ هذا الكلب قد منعه من التوجّه إلى الماء لهذا السبب، و قد أفدى الكلب حياته قرباناً لصاحبه غير العابئ به!
و من تلك القصص، نُقل عن المرحوم الحاجّ معتمد الدولة فرهاد ميرزا قوله: كان لي سابق معرفة بالسفير الإنجليزيّ في طهران، فذهبت لزيارته يوماً، فأخرج ألبوماً ليريني ما فيها من صور، و كان يعرض عَلَيّ الصور الواحدة تلو الاخرى، حتّى بلغ صورة لكلبٍ، فأجهش عند رؤيتها بالبكاء، فسألته متعجّباً: مِمَّ بكاؤك؟
قال: لديّ ذكرى رائعة عن وفاء هذا الكب. ففي أحد الأيّام قرّرت الدولة إرسالي في مهمّة ما إلى خارج المدينة، و كان عَلَيّ أن أسير مسافة غير قليلة، فأعددتُ حقيبتي الحاملة لوثائق حكومية مهمّة جدّاً، و أخذت كلبي معي في تلك الرحلة. و بعد مدّة من المسير وصلت إلى شجرة كبيرة، فأخلدتُ في ظلّها إلى الراحة هنيئة. ثمّ نهضتُ لمواصلة السير، لكنّ
الكلب اعترضني و حاول منعي، و قد وقف بإصرار أمام متابعتي للرحلة، و باءت كلّ محاولاتي معه بالفشل، فاضطررت لإخراج مسدّسي و إطلاق النار عليه لأتمكّن من مواصلة سيري.
و بعد أن سرت مسافةً ما انتبهت إلّا أنّي قد نسيتُ حقيبتي تحت الشجرة، فرجعت مسرعاً باتّجاه الشجرة، و ما إن وصلت هناك فقد أدركتُ سبب معارضة الكلب الشديدة لي، فاصبت بحزن شديد، لأنّي قد أضعت الحقيبة و قتلتُ الكلب بلا داع. ثمّ قلتُ في نفسي: لأبحث عن الكلب و أرى ما حلّ به. فذهبت إلى الموضع الذي أطلقت فيه الرصاص فشاهدت بقعة دم على الأرض، و لاحظت أنّ الكلب قد تحرّك من موضعه، فاقتفيت آثار الدماء، حتّى وصلت إلى الكلب فرأيته ساقطاً في حفرة و قد فارق الحياة و هو مطبق على حقيبتي بأسنانه. فعلمت أنّ هذا الحيوان قد رأى أنّ ممانعته لا تجدي نفعاً معي، ففكّر -بعد إطلاقي الرصاص و سيري- في إبقاء الحقيبة بعيداً عن متناول أيدي العابرين، علّها تصل إلى يدي بهذه الطريقة، لذا فقد أوصل نفسه إلى تحت الشجرة، على ما فيه من جراحات فأزاح حقيبتي عن الطريق جانباً، ثمّ هوى في حفرة و أسلم الروح! أ فلا يليق بي -و الحال هذه أن أحزن على مثل هذا الكلب؟
أجل ثمّة الكثير من الحكايات و القصص التي تحكى عن وفاء الكلب، و كثيراً ما شوهد هذا الحيوان و قد تيبّس في البرد القارس و أسلم الروح و هو يحرس أموال صاحبه، بينما كان بإمكانه أن يلوذ بمكان دافئ يحميه.
و بغضّ النظر عن هذه المعاني النفسانيّة، فبعض إحساسات الحيوان تفوق ما يتمتّع به الإنسان، فالكلب -مثلًا- يحسّ بالزلزلة قبل وقوعها، كما أنّ حاسّة الشمّ لدى القطّة و النملة قويّة جدّاً.
و يقال إنّ الاذن البشريّة لا تحسّ بالأصوات التي تقلّ ذبذباتها و تردّد أمواجها عن ستّ عشرة ذبذبة في الثانية أو التي تزيد على عشرين ألف ذبذبة في الثانية، بَيدَ أنّ آذان بعض الحيوانات قادرة على التقاط تلك الأصوات إلى حدود سبعين أو ثمانين ألف ذبذبة في الثانية.
كلّ ما قدّمناه شواهد حيّة على معاد الحيوانات و حشرها، حيث إنّها- شأن الإنسان امم تمتلك آلاف الآثار و الخصائص ضمن حيّز وجودها، إلّا أنّ الإنسان يجهلها، و لا يعلم منها سوى القليل.
فمن رفع أحجار بيت المقدس رأى دماً عبيطاً بعد شهادة الإمام عليّ و سيّد الشهداء عليهما السلام. و قد استحالت عصا النبيّ موسى بأمر الله تعالى ثعباناً يتحرّك، ممّا ألقى الفزع حتّى في قلب موسى: وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ.۱
و كانت الريح -و هي من الجمادات- تجري بأمر سليمان رخاءً حيث شاء: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ.٢
أرجاء العالم في حركة دائبة باتّجاه غاية الغايات
كانت هذه آيات و روايات حول مسألة معاد و حشر جميع الحيوانات السماويّة و الأرضيّة. و نقول تلخيصاً للمطلب: إنّ جميع هذا العالم، عالم وحدانيّ مترابط، قد اندمجت كلّ قواه و ذرّاته، و اجتمعت مخلوقاته و اتّصلت مع بعضها البعض؛ و إنّه عالم ذو مبدأ واحد خلقه بأمره، فتنزّل من العوالم العليا في هذه الصورة و الكيفيّة. و هو -كذلك عالم متحرّك بأجمعه إلى ذلك المبدأ الواحد، و إنّ له معاداً إلى ربّه. و لا معنى -مع هذا الصنع
العجيب و الخلقة البديعة- أن يكون لبعضه معاداً يصل من خلاله إلى هدفه و غايته، بينما يتوقّف البعض الآخر دونما داعٍ عن الحركة إلى معبوده و مقصوده.
و لا تفاوت في هذه العودة بين الصغير و الكبير، و العالم و الجاهل، و الفقير و الغنيّ، و المرأة و الرجل، و الإنسان و الجنّ و الملائكة، و الحيوانات البريّة و البحريّة و الطيور المحلّقة في الجوّ، و النباتات و الأشجار و الجمادات، إذ إنّ على جميع الموجودات ذات القوّة و القابليّة أن تبلغ مرحلة تكاملها و فعليّتها، و إلّا لزم من ذلك نقض الغرض، و لتبدّل هذا العالم المتقن المحكم إلى عبث و باطل.
و لقد طُبع ختم إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ۱ على الجبين المبارك للرسول الأكرم و على جبين سائر الأفراد الآخرين دونما استثناء. و لقد بلغهم جميعاً خطاب ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ،٢ و دعاهم إلى ذلك الوطن المألوف و المبدأ الموعود، و بعثهم في هذا المسير.
و خطاب: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُ٣ جذب الجميع إلى الربّ الرحيم الغنيّ العالم القدير من خلال الفاقة و الالتجاء و الانجذاب المعنويّ.
و خطاب وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ،٤ و وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ٥ يوصل عالم الإمكان و بناء الوجود الشامخ إلى غايته و هدفه المنشود؛ و هو غاية
الغايات، كما أنّه مبدأ المبادئ.
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.۱
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.٢
و ما ذكرنا من الآيات القرآنيّة الكريمة في معاد الحيوانات و حشرها راجعة إلى المخلوقات السماويّة و الأرضيّة؛ أمّا بالنسبة إلى معاد الموجودات التي هي في ما وراء السماوات و الأرض، و الخارجة عن دوران الزمان و حدود المكان، و التي تمتلك مقام الفعليّة التامّة، فلم يجرِ التعرّض لها و لا لمعادها و هي الموجودات التي لم يحدّ وجودَها شيء، و لم تُقدَّر ذواتها بقدر معيّن، لأنّها تفوق الحدّ و المقدار و ترتفع عن التعيّن و التقيّد. و قد خُلقت تلك الموجودات من قِبل المبدئ المتعال بفعليّة تامّة، فلم يعد المعاد متصوراً بالنسبة إليها، و صار بدؤها و عودها واحداً. و قد اختصّت الآيات المتعلّقة بالمعاد بالموجودات الأرضيّة و السماويّة، أمّا تلك الموجودات، فخارجة عن السماوات. كما أنّ تلك الصفات و التجلّيات و الظهورات الحاصلة في يوم القيامة موجودة لتلك الموجودات و ملازمة لها باستمرار. على أنّها لا تمتلك قوّة و قابليّة لتبلغ بها مرحلة الفعليّة، بل هي فعليّة محضة و نور صرف ثابت. و يُلحق المخلَصون -بلحاظ الأحكام- بهذه الموجودات الفعليّة المحضة، حيث ذكرنا مفصّلًا ضمن الفصول السابقة شيئاً عن حالات المخلَصين و مقاماتهم و درجاتهم، و تعرّضنا لبيان آثارهم و خصائصهم الاستثنائيّة، فاتّضح أنّهم ما برحوا حاضرين عند الله تعالى دونما حجاب، بل إنّهم يمثّلون أقرب الحجب و الحجاب الأقرب.
و علمنا أنّ تلك الموجودات حاضرة لدى الله تعالى دون أن يحجبهم عنه حجاب، لأنّهم هم الحجاب الأقرب. كما علمنا أنّها ليست ضمن السماوات و الأرض، و أنّها فارغة من الزمان و المكان، و مهيمنة على كافّة المخلوقات الإلهيّة، و أنّها تمثّل الواسطة بين الخالق و المخلوق، سواءً في المبدأ أم في المعاد، و أنّها مستثناة من حكم قبض الأرواح من قِبل ملك الموت و أعوانه، و في مأمن من الخوف عند نفخة الفَزَع، و من الموت عند نفخة الصَعْق، و أنّها لا تحضر في عرصات القيامة و صحراء المحشر، بل هي حاضرة في الحجاب الأقرب المشرف على عرصة القيامة، و أنّها الحاكمة يوم القيامة في أمر ورود الجنّة أو اقتحام النار.
و هذه الطائفة من الموجودات مستثناة من المعاد، لأنّ عودها و بدءها واحد، و لأنّها لا تمتلك قوّة و حركة، و لأنّها مبرّأة و منزّهة عن الطبع و آثار عالم الطبع. أمّا باقي الموجودات -مهما كانت و أنّى كانت- فذات قوّة و قابليّة تستتبع كونها في حركة إلى أصلها و مقرّها الأوّل، و هي -لذلك- ذات معاد، إذ إنّ الله تعالى منتهى كلّ شيء، كما أنّه مبدأ كلّ شيء:
وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى.۱
و أساس الدليل الفلسفيّ على هذه الحقيقة، هو وحدة الفاعل و الغاية، إذ كلّما صار الشيء مبداً لشيء آخر، فسيكون غاية ذلك الشيء و منتهاه. و كلّما اكتسب الشيء تعيّنه من شيء آخر و اكتسب في ذاته وجوداً منه، فسيكون مضطرّاً -في نهاية المطاف- للعودة إلى ذلك الشيء:
هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.٢
و يمكن الاستفادة من القاعدة الكلّيّة القائلة بأنّ المعلول يقف في مرتبة أدنى من العلّة، أنّ كلًّا من الجنّة و جهنّم ذات درجات و مراتب متفاوتة. فالجنّة ذات درجات تبدأ من الأعلى و تهبط إلى الأسفل، و أرفع تلك الدرجات أعلاها، و أدناها أسفلها، و كلّ درجة من تلك الدرجات مهيمنة على الدرجات التي هي دونها علوّاً.
أمّا دركات جهنّم فعلى العكس من الجنّة حيث تشرع من الأسفل و ترتفع إلى الأعلى. و أشدّها أسفلها، ثمّ الأعلى منها فالأعلى.
و يستفاد ممّا قيل أنّ كلّ درجة في الجنّة هي في حكم الفاعل للدرجة الأدنى منها وصولًا إلى الدرجة الدنيا منها، و أنّ كلّ درجة سفلى في جهنّم هي في حكم الفاعل للدرجة التي تعلوها وصولًا إلى أعلاها درجة. و نأمل أن يكون لنا بحول الله و قوّته بيانات مفصلة عن ذلك في أبحاث الجنّة و النار، و ما توفيقي إلّا بالله، عليه توكّلت و إليه انيب.
المَجْلِسُ السِّتُّونَ: الشَّفاعَةُ وَ مَسائِلهُا الكُلِّيَّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ، وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً ، لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً.۱
بحث الشفاعة من أفضل أبحاث المعاد و أرقاها، و كثيراً ما تطرّقت إليه الآيات القرآنيّة و روايات المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، كما و بلغ النقاش و الجدل بشأنه بين الباحثين حدّاً جعل البعض يتطرّف في قوله بالشفاعة، إذ اعتبر الشفاعة المحمديّة شاملة حتّى للمعاندين و الناصبين؛ و جعل البعض الآخر يتطرّف في إنكارها، إذ يحصرها على الامور التكوينيّة فقط، أمّا في الامور التشريعيّة فقد أنكر العفو عن المجرم و التغاضي عن إنزال العقاب الإلهيّ، و عدّهما أمراً منكراً.
و قد ألفّ الفريقان كتباً كثيرة في إثبات الشفاعة أو في نفيها و إنكارها، و دام البحث بشأنها و طال. بَيدَ أنّ أفضل الأبحاث التي تطرّقت إلى موضوع الشفاعة و سبرت أغوارها، و التي بُنيت على أساس التفسير
الموضوعيّ (الآيات بالآيات)، و على الاستشهاد بالروايات الصحيحة، و دُعمت ببحوث اجتماعيّة و فلسفيّة، بحث استاذنا الجليل العلّامة الطباطبائيّ في كتابه «الميزان»؛ كما أنّه أورد في «رسالة المعاد»؛۱ بحثاً موجزاً عن الشفاعة قد استنبطه من ارتباط الآيات القرآنيّة بعضها بالبعض الآخر.
و نأمل أن نناقش بحول الله المتعال و قوّته هذا الموضوع بالقدر الكافي، و نتفحّص جميع جوانبه. و نُلقي الآن نظرة إجماليّة على المعنى اللغويّ للشفاعة.
في المعنى اللغويّ للشفاعة
جاء في «لسان العرب»: شَفَع لي، يَشْفَعُ، شَفَاعَةً و تَشَفَّعَ: طَلَبَ؛ وَ الشَّفِيعُ: الشَّافِعُ، و الجمع: شُفَعَاءَ.
و جاء في القرآن الكريم:
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً.٢
و جاء في حديث الحدود: إ ذَا بَلَغَ الحَدُّ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللهُ الشَّافِعَ وَ المُشَفَّعَ.٣
و تكرّر في الحديث ذكر الشفاعة في امور الدنيا و الآخرة، و هي طلب العفو عن الذنوب و الجرائم، و يقال لمن يقبل الشفاعة: المُشَفِّعُ، و لصاحب الشفاعة المقبولة: المُشَفَّع.
و في «تاج العروس»: الشَّفْع: الزيادة. و في قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً، قال الراغب: أي مَن انضمّ إلى غيره و عاونه و صار شفعاً له أو شفيعاً في فعل الخير أو الشرّ، فعاونه أو شاركه في نفعه أو ضرّه. فصار كأنّه شفَع له. و ذلك كما قال (الرسول الأكرم) صلّى الله عليه و آله و سلّم: مَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجْرُهَا وَ أجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَ مَن سَنَّ سُنَّةً قَبِيحَةً فَلَهُ إثْمُهَا وَ إثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا.
و في «صحاح اللغة»: الشَفْع: خلاف الوَتْر، و هو الزوج. تقول: كَانَ وَتْراً فَشَفَعَتْهُ شَفْعاً.
و جاء في «النهاية» لابن الأثير نفس ما أوردناه عن «لسان العرب».
و في «مجمع البحرين»: الشَّفيع: صاحب الشفاعة. قال تعالى:
مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا. قيل: معناه من يُصلح بين اثنين يكن له جزء منها. وَ مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً، أي يمشي بالنميمة مثلًا يَكُن لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا، أي إثم منها.
و في «لغت نامه دهخدا»:۱ نُقل عن معجمي «ناظم الأطبّاء» و «صراح اللغة» أنّها تأتي بمعنى الترجّي و التوسّط. و في هوامش «دهخدا» أنّ الشفاعة بمعنى التوسّط و الوساطة بين اثنين. و في «ناظم الأطبّاء» أنّها بمعنى التوسّط، كما جاء فيه أنّها بمعنى ترجّي العفو. و في هوامش «دهخدا» أنّها تأتي أيضاً بمعنى التوسّط لدى ملك أو عظيم ليعفو عن مذنب ما. و جاء في «فرهنك آنِندراج» أنّ الناطقين بالفارسيّة يستعملون لفظ
الشفاعة بمعنى الطلب اللفظيّ للمغفرة عن مذنب.
و يستفاد من مجموع ما ذُكر أنّ الشفاعة بمعنى تقوية و مساعدة شيء أو شخص ضعيف محتاج لمعونة و مساعدة. و يستعمل هذا اللفظ في دعم ذلك الموجود المحتاج إلى القوّة، لحين وصوله إلى مرحلة الاعتدال و الكمال و انتفاء الفاقة.
فعصا اليد -مثلًا- تُدعى شفيعاً، لأنّ صاحب العصا يحتاجها بسبب ضعف بدنه و قدميه و ظهره، حيث تعينه هذه العصا و تجبر فاقته، فيرتفع احتياجه خلال الحركة و السير من خلال استناده عليها.
أمّا قدم الإنسان فلا تُدعى شفيعاً مع أنّها تعين قدمه الاخرى و أنّه سيعجز عن السير بقدم واحدة، لأنّ عنوان إعانة البدن حال السير أو الوقوف قد لوحظ في العصا و لم يلاحظ في القدم؛ فالشَّفع مقابل الوَتْر، و هو الفرد الذي لا يحتاج إلى إعانة أو دعم.
و عليه، فلدينا ثلاثة تعابير: شَفْع و وَتْر؛ زوج و فَرْد؛ و اثنين و واحد.
الواحد، و هو الذي لا يلاحظ له معنى غير الوحدانيّة، و يقابله الاثنان، و هو تكرار الواحد بغضّ النظر عن أي لحاظ آخر.
الفَرْد، و هو العدد الذي يقابله العدد الزوج.
أمّا الوتر فيعني المتوحّد الذي لا يحتاج إلى إعانة، و يقابله الشَّفْع، و هو المعين و المساعد للشيء الذي لوحظ فيه فاقته و احتياجه لتلك الإعانة.
و لهذا فقد قال في «مجمع البحرين»، مادة (وتر): «في تفسير قوله تعالى: وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ؛ قيل: الشفع يوم الأضحى، و الوتر يوم عرفة؛ و قيل: الوَتْر الله، و الشفع الخلق خُلقوا أزواجاً؛ و قيل الوَتْر آدم شُفّع بزوجته حوّاء؛ و قيل: الشفع و الوتر الصلاة منها شفع و منها وتر».
أي الصلاة ذات الركعة الواحدة التي تعدّ تامّة و كاملة في حدّ نفسها،
و الصلاة الاخرى التي لا تعدّ تامّة دون ضمّ ركعة ثانية إلى الاولى.
و يمكن القول بصورة عامّة إنّ الشفيع عبارة عن انضمام وسيلة و أسباب معيّنة إلى شيء أو إلى شخص لتشفعه بعد أن كان وحيداً، لإيصاله من خلال ذلك إلى نيل مراده، ذلك المراد الذي لم يكن نيله ميسوراً له أبداً بسبب ضعفه و قصوره.
و كثيراً ما نستعمل لفظ الشفاعة في أحاديثنا اليوميّة و محاوراتنا العرفيّة و الإجتماعيّة، و نريد بها -على ضوء ما هو متعارف في الوسط الاجتماعيّ- نفس هذا المعنى وصولًا للمطلوب و قضاء الحوائج الحيويّة.
و بناء على ما سبق، فلا اختصاص لكلمة الشفاعة بالشفاعة التكوينيّة أو بالشفاعة التشريعيّة، سواء في اللغة أم في المحاورات العرفيّة، بل إنّها تشمل كلا القسمين.
ثمّ إنّ الشفاعة من مصاديق السببيّة، أي توسيط سبب قريب بين السبب الأوّل البعيد و بين مسبّبه، سواءً في الأسباب الخارجيّة أم في الأسباب التشريعيّة.
في الشفاعتين التكوينيّة و التشريعيّة
إنّ الله تعالى هو الشفيع في جهتي التكوين و التشريع؛ أمّا في جانب التكوين، فلأنّ التأثير منه تعالى، و لأنّ السببيّة تُختم به. فالله سبحانه هو المالك لبناء الوجود المشيّد و لعالم الوجود و الإيجاد. و من هنا، فإنّ العلل و الأسباب التي تتوسّط بين ذاته القدسيّة و بين المسبّبات فتستدعي نشر أنواع الرحمة و النعم التي لا تعدّ و لا تُحصى على عالم مخلوقاته و صنائعه التي ابتدعها، إنّما تعود إليه جميعاً و هي منه.
فتمام سلسلة العلل و الأسباب -باعتبار كون كلٍّ منها واسطة للفيض-
تمتلك حقيقة الشفاعة، و الله سبحانه هو الشفيع و الشافع، بل هو شَفِيعُ الشَّافِعِينَ وَ أشْفَعُ الشَّافِعِينَ.
و من المعلوم أنّ انطباق معنى الشفاعة على شئون الأسباب و العلل الوجوديّة المتوسّطة واضح في جانب التكوين، لأنّ هذه العلل و الأسباب المتوسّطة -كالملائكة و الأنواع المجرّدة و غيرها- تستمدّ من صفات الله العليا و أسمائه الحسنى، كالرحمة و الإحياء و الإماتة و الرزق و العلم و القدرة و غيرها، فتفيضها على هذه الماهيّات العدميّة المفتقرة، مشيّدة عالم الإمكان بمثل هذه الطراوة و الجمال، و ناهضة بعالم الصنع بمثل هذا الإبداع العجيب المحيّر.
و قد ورد في القرآن الكريم: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.۱
و ورد أيضاً: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ.٢
و تبيّن هذه الآيات في ظاهرها الشفاعة في التكوين، إذ إنّ الشفاعة التكوينيّة -كما ذُكر سابقاً- هي عبارة عن توسّط العلل و الأسباب بين الذات الإلهيّة المقدّسة و بين المسبّبات و الموجودات الخارجيّة في تدبير وجودها و تنظيمه، و في بقائها و دوامها في عالم الخلقة.
الشفاعة التشريعيّة
أمّا في الجانب التشريعيّ فإنّ الله تبارك و تعالى في علوّه و سُمُوّه قد تفضّل على عالم الإنسان الترابيّ الذليل بإرسال الأنبياء و إنزال الكتب
السماويّة، و وضع الأحكام و القوانين في الأوامر و النواهي، و الجزاء عليها بتبعات الطاعة و العصيان التي يجسّدها الثواب و العقاب في دار الآخرة، و أنعم علينا بنعمة السير التشريعيّ في طريق التكامل. و قد جاء الأنبياء -على هذا الأساس- فبشّروا الناس برحمة الله و نعمته، و حذّروهم من العواقب الوخيمة للظلم و الخيانة و الاعتداء، فتمّت بذلك الحجّة على الناس، و لزمهم البرهان و البيّنة باتّباع الصراط المستقيم:
وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.۱
و لا بدّ هنا من ذكر مقدّمة لإيضاح جميع جوانب الشفاعة في الامور التشريعيّة و لبيان معناها و التعرّف على موقعها و أهمّيّتها.
مقدّمة لإثبات الشفاعة التشريعيّة
إنّ الشفاعة التي نتوسّط بها في امورنا الاجتماعيّة، إمّا أن تكون استجلاباً لنفعٍ ما، أو أن تكون دفعاً لضررٍ ما، إلّا أنّه لا يمكن إطلاق كلمة الشفاعة و تعميمها على استجلاب أيّة منفعة أو دفع أي ضرر، لأنّنا لا نتوسّل بالشفاعة فيما تتضمّنه العلل و الأسباب التكوينيّة من خير أو شرّ، كالجوع و العطش و الصحّة و المرض و الإحساس بالحرّ و البرد، بل نلجأ في مثل هذه الامور إلى الأسباب الطبيعيّة، فنستخدم الوسائل المناسبة لصيانة أنفسنا من الإصابة بالآفات، كتناول الطعام و الشراب، و ارتداء الملابس و العيش في بيت و محلّ مناسب، و معالجة المرض.
إلّا أنّنا نحصر استخدامنا الشفاعة في امور الخير و الشّر و المنافع و الأضرار المعتبرة في الحكومات الاجتماعيّة على نحو الخصوص أو
العموم، لأنّنا نعلم أنّ هناك في دائرة المولويّة و العبوديّة، و لدي كلّ حاكم و محكوم عليه، أحكاماً و قوانيناً و أوامر و نواهٍ، إن امتثل المكلّف بطاعتها، فستعود عليه بالثواب الجميل و المدح و الثناء و ارتقاء الدرجة، و ستدرّ عليه المال و الجاه؛ و للحقه -في حال عدم امتثاله- توابع ذلك من العقوبات المادّيّة و الأضرار المعنويّة.
و بشكل عامّ، فلو أمر مولى و وليّ أمرٍ ما عبده، و من كان منضوياً تحت لواء حكمه و سيادته، أن يخضع لحكومته بأمرٍ أو نهيٍ ما، فإن امتثل للطاعة فسيكافأ بما هو حسن و مرضي، و إن تمرّد و عصى فسيعاتب و يوبخّ بما هو غير مرض.
فهناك -إذاً- قانونان و اعتباران، هما قانون الحكم و الأمر، و قانون الجزاء الذي يوضع على إثر إطاعة الأمر أو مخالفته.
إنّ هذا الأصل و القاعدة الكلّيّة جاريّاً في جميع الحكومات -سواء الحكومات العالميّة، أم الخاصّة، أم بين فرد من أفراد الإنسان مع مَن هم تحت سلطته- أي قاعدة: وجود القانون، و العقوبة و الجزاء الحسن على ضوء مخالفته أو موافقته.
شرائط الشفاعة التشريعيّة
و لو أراد إنسان أن يحظى بفائدة مادّيّة أو معنويّة و يحصل على ما عُيّن له من قبل المجتمع، دون أن يمتلك الأسباب الموجبة لتلك الحظوة، أو إذا أراد أن يتّقي شرّاً و يدفع عن نفسه الضرر بامتثال الأمر و تحمّل مسؤوليّة التكليف، فعليه أن يتوسّل بالشفاعة.
و بعبارة اخرى، فإن أراد الحصول على الجزاء الحسن دون أن يمهّد له أسبابه من طاعة الأوامر المولويّة و الاجتماعيّة، أو أراد أن يدفع عن نفس عقوبة شديدة دون أن يُنجز ما كلِّف بإنجازه، فعليه التوسّل بالشفاعة. و سيتّضح في مثل هذه الحالة معنى الشفاعة و تتجلّى حقيقتها، بَيدَ أنّه ينبغي
أن يكون واضحاً أنّ هذه الشفاعة لا تتحقّق بصورة مطلقة إلّا في موارد خاصّة.
فالذي لا يمتلك لياقة التلبّس بكمال خاصّ، كأن يريد شخص عامّيّ عاديّ أن يتصدّى لرئاسة كلّيّة في إحدى الجامعات، أو يتصدّى للتدريس فيها، أو يريد أن يظهر كمستكبر طاغٍ يستنكف من إظهار الخضوع أمام مولاه؛ فلا شفاعة في هكذا حالات، لأنّ الشفاعة تستدعي تكميل العلّة، لا أن تكون سبباً مستقلًا في التأثير.
و بغضّ النظر عن هذه الامور، فينبغي ألّا تكون شفاعة الشفيع لدى صاحب الشفاعة جزافاً بلا فائدة، و ألّا تحصل دونما سبب أو داعٍ، و ينبغي على الشفيع أن يظهر لدى صاحب الشفاعة أمراً يؤثّر فيه و يقنعه، فيوجب -بهذه الوسيلة -الجزاء الحسن، أو يصرف- بها- العذاب الشديد.
لا تستلزم الشفاعة التضادّ مع الحكم، بل تمثّل الحكومة
لا يمكن للشفيع أن يقول للمولى: أبطل مولويّتك و اكفف عبوديّتك عن عبدك، و اصرف عقابك و جزاءك عنه!
كما لا يمكنه أن يقول له: أوقف حكمك الذي جعلتَه و كلّفتَ به عبدك، و أ فسخ ذلك الحكم في شأن عبدك بشكل عامٍ أو خاصّ، و ارفع العذاب عنه!
و لا يمكنه أيضاً أن يقول له: أبطِل قانون العقوبات إمّا بشكل عامّ أو في خصوص هذه الواقعة، و لا تعاقب عبدك.
و من هنا، فليس للشفيع أي أثر في مرحلة المولويّة و العبوديّة بين العبد و مولاه، و لا في مرحلة الحكم و الأمر، و لا في مرحلة جزاء الحكم و الأمر، و لا دخل له في هذه المراحل الثلاث.
لكنّ بإمكان الشفيع -بعد مراعاته هذه الجهات الثلاث- إمّا أن يتوسّل بما يتّصف به الحاكم من صفات تستدعي العفو عن العبد و مسامحته،
كالتوسّل بجلال المولى و سيادته و كرمه و سخائه و شرفه و أصالته؛ أو أن يتوسّل بما لدى العبد المذنب من صفات تستجلب رحمة الحاكم و تستدرّ عطفه و شفقته، و تثير في وجوده حسّ المغفرة و التغاضي، كذلّ العبد و مسكنته و حقارته و حيرته و سوء حاله؛ أو أن يتمسّك بالصفات الموجودة فيه بذاته أي في نفس الشفيع، كقربه من صاحب الشفاعة و كرامته عليه و علوّ درجته و سموّ منزلته عنده.
و بهذا الطريق يمكنه أن يقول له: إنّني لا أسألك رفع يدك عن مولويّتك و عن عبوديّة عبدك؛ و لا أسألك إبطال حكمك، و لا إيقاف قانون جزائك؛ بل أسألك أن تغضّ الطرف عن ذنبه، و أن تشمله بغفرانك و عفوك، لأنّك أنت صاحب الشرف و السيادة و الكرم و الرأفة، و لأنّ عذابك له لن يعود عليك بشيء، و عفوك عنه لن يضرّك بشيء، أو لأنّه مسكين مستكين، و أنت أجلّ و أسمى مقاماً من أن تصرّ على عقابه، أو أسألك بمقامي و منزلتي عندك أن تقضي لي حاجتي، أن ترعاه بنظرة عطف تؤدّي به إلى العفو و النجاة.
و في الحقيقة فالشفيع يطرح موضوعاً جديداً يستلزم حكماً جديداً فيسأل العفو على أساس ذلك الموضوع الجديد، و ذلك الموضوع ناتج عن تحكيم بعض العوامل المتعلّقة بالمورد المعيّن، و المؤثّرة في رفع عذاب الشخص المجرم و عقوبته الشديدة، بحيث تصبح تلك العوامل الجديدة حاكمة على العامل القديم الذي أوجد الحكم و رتّب الجزاء و العقاب.
و مرادنا من هذه الحكومة هو أنّ الشفيع يرفع موضوع الحكم الأوّل عن موضعه، و يدخله تحت موضوع حكم آخر، و هو العفو و التغاضي و الغفران.
و من هنا، فالحكم الأوّل (و هو العقوبة) سوف لن يجري في موضعه،
لخروجه من مصاديق موضوعيّة الموضوع. كما أنّ الأمر ليس بالشكل الذي يبطل الشفيع حكم الموضوع على نحو التضادّ. كما هو الحاصل عند إبطال بعض الأسباب المتعارضة في الطبيعة بعضها الآخر من خلال التضادّ و الغلبة في التأثير.
فحقيقة الشفاعة -إذاً- ليست تضادّاً و لا تزاحماً، بل هي التوسّط في إيصال نفع أو إزالة ضرر عن موضوعٍ ما على إثر جريان عنوان جديد يطرأ على ذلك الموضوع، فيُخرجه من عنوان حكم العقاب و يُدخله تحت عنوان حكم العفو و الغفران.
و بناء على ما قبل فالشفاعة هي من مصاديق السببيّة، لأنّها تفصل بين السبب الأوّل و المسبَّب، فلا تدع السبب الأوّل يُلحق حكم الضرر بالموضوع، بل تجعله -على أساس هذا التوسّط- يصدر حكم العفو و المسامحة بشأن ذلك الموضوع.
من هنا، نحصل على أن ليس ثمّة من إشكال أو محذور من وجهة نظر التشريع أيضاً (الشفاعة عند الله).
الشفاعة من شئون الله تعالى، و امتلاكها بإذنه عزّ و جلّ
الشفاعة التشريعيّة الإلهيّة
اتّضح ممّا سبق أنّ عنوان الشفاعة لدى الحاكم المطلق جائز وفق شرائط خاصّة، و قد وردت في هذا الشأن آيات قرآنيّة كريمة، منها آية:
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا.۱
و آية: وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.٢
و آية: وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ
بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى.۱
و آية: وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ.٢
و هي آيات تقرّر أمر الشفاعة لطائفة من الملائكة و الناس بإذن الله و ارتضائه، لأنّ الملك و الأمر للّه سبحانه، إن شاء مَلَّك الأمر غيره، أو أشرك سواه في حقّ الشفاعة المختصّ بذاته المقدّسة.
شفاعة العباد الصالحين بأمرٍ من الله
و من حقّ عباد الله الصالحين و ملائكته المقرّبين المتمسّكين بذيل رحمته أن يستفيدوا من صفاته العليا من خلال العفو و المغفرة و المسامحة، فيشملوا بعناية الله عبداً من عباده قد ساءت حاله بمعصيته، و إنقاذه من بلاء العقوبة، و إخراجه من مصداق حكم العقاب الذي يشمل المجرمين.
و ذلك لأنّ تأثير الشفاعة -كما علمنا سابقاً- هو على نحو الحكومة و ليس على نحو التزاحم و التعارض و التضادّ.
أجل، إنّ الله قادر على إنجاز أي تغيير و تبديل، و على تكفير الفعل القبيح الذي يرتكبه عبده، و ستره بأنواع الستائر و الحجب؛ أ وَ لم يقل سبحانه:
فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ.٣
فهو عزّ و جلّ قادر على تبديل السيّئات حسنات، و قادر أيضاً على إعدام العمل الموجود و نفيه: وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً
مَنْثُوراً.۱
و قادر كذلك على أن يجعل العمل الحسن موجباً لمغفرة العمل القبيح و كفّارةً له: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ.٢
و قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.٣
و من الجليّ أنّ عدم غفران الشرك مغاير لمورد الإيمان و التوبة، إذ لو أشرك امرؤ ما ثمّ آمن، لكان نفس إيمانه توبةً له و سبباً في العفو عنه. من هنا فالشرك غير قابل للمغفرة حال الشرك، لا بعد التوحيد و تبدّل الموضوع، أمّا بعد التوبة و الإيمان فسيكون قابلًا للمغفرة، شأنه في ذلك شأن سائر الذنوب.
أجل، فالله قادر أن يضاعف العمل القليل، فقد قال سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها.٤
كما أنّه قادر أن يجعل العمل المعدوم موجوداً؛ كما في آية اتّباع الذرّيّة آباءها و أجدادها و لحوقها بهم: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ.٥
و بالتأكيد، فالله عزّ و جلّ لا يفعل هذه الامور جزافاً و بلا داعٍ، بل يفعلها على أساس المصلحة المقتضية و العلّة المتوسّطة في البين.
و عليه، فما الإشكال في أن يكون بين تلك الأسباب و العلل المتوسّطة شفاعة الشافعين من أنبيائه و أوليائه المقرّبين و عباده الصالحين؟ أ في ذلك ظلم ما! أ وَ هذا الأمر أمر جزاف؟!
في إثبات الشفاعة الحقّة على أساس الآيات القرآنيّة
تنفي كثير من الآيات القرآنيّة الشفاعة عند الله سبحانه بشكل مطلق، منها آية:
وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ.۱
و قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ.٢
و قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ.٣
و لبيان مضامين هذه الآيات و تعيين مصاديقها، لا بدّ لنا من ذكر مقدّمة.
لقد وُضعت دعائم الحكومات الدنيويّة -على اختلاف أساليبها و تنوّع شئونها و أنواع قواها المقنّنة و الحاكمة و التنفيذيّة- على أساس الحاجات الضروريّة الدنيويّة.
و الهدف من هذه القوانين هو سدّ احتياجات الناس على حسب ما
تقتضيه الظروف الزمنيّة و المكانيّة. و كثيراً ما يحصل أن تطرأ في القوانين تغييرات غير محكومة بضابط و لا خاضعة لميزان عامّ، من قبيل تبديل مالٍ إلى مال آخر، أو تغيير مقام إلى مقام آخر، أو نسخ حكم بحكم آخر. هذا و قد يكون قانون العقوبات أكثر من غيره عرضة لهكذا تغييرات. و علّة ذلك هي أنّ الجريمة و الجناية تستتبع في قوانين الحياة الوضعيّة الحبس و العقاب و الإعدام و إسقاط الرتبة و سائر أنواع العقوبات الاخرى.
و غالباً ما يحصل أن تتغير أحكام العقوبة تبعاً لأغراض مختلفة، فيغيّر الحاكم حكمه نتيجة حدث طارئ يستوجب تغيير تلك العقوبة؛ كأن يصرّ الشخص المجرم -و هو على أعتاب جريمته- في أمله باستثارة عواطف القاضي لكي يستدر عطفه ليغضّ النظر عنه أو يرشو القاضي فيحرفه عن المسار الصحيح للحكم، و يدفعه لمغايرة حكم الحقّ؛ كأن يبعث المجرم إلى الحاكم شفيعاً يتوسّط له لديه؛ أو يرسل الشفيعَ إلى منفّذ الحكم ليوقف تنفيذ الحكم على ذلك المجرم؛ و كأن يفدي المجرم نفسه بغلامه أو بابنه أو بأخيه، فيبعث بأحدهم إلى الحاكم لمعاقبته بدلًا عنه.
و يحصل ذلك في حال احتياج الحاكم المتأهّب لإنزال العقاب إلى هذا البديل أكثر من احتياجه إلى نفس المجرم، فيقوم برفع العقوبة عن المجرم و إصدار حكمها على من جُعِل كبشاً لفداء المجرم؛ و كأن يستعين المجرم بقومه و عشريته و أصحابه، فيجتمعون و يتعاضدون على إعانته و تخليصه. و قد راج هذا النوع من التخلّص بالشفاعة و الرشوة و غيرها بين الامم منذ قديم الزمان.
الشفاعة عند عبدة الأصنام
و كان عبدة الأصنام و غيرهم من الامم القديمة يعتقدون أنّ الحياة الآخرة تشبه الحياة الدنيا تماماً، و أنّ الأسباب المادّيّة و الطبيعيّة الجارية في هذا العالم ستكون سارية في ذلك العالم أيضاً، و أنّ الفعل و الانفعال الطبيعيّ
جاريان هناك.
و على هذا الأساس، فقد كانوا يقدّمون لآلهتهم أنواع الهدايا و القرابين لتغضّ الطرف عن عقابهم، أو لتعينهم في امور معيشتهم، أو أملًا في شفاعة تلك الآلهة، أو فداءً لأنفسهم منها. و كانوا يدفنون معهم في قبورهم غلمانهم و أسلحتهم الحربيّة، و يتسلّحون بمختلف الأسلحة ليتمكّنوا -حسب اعتقادهم بتلك الوسيلة أي كثرة الأعوان و الأنصار و حمل السلاح- من الدفاع عن أنفسهم و درء الجزاء المنتظر و شدّة العقوبة.
و نلاحظ في متاحف العالم اليوم كثيراً من هذه الامور و هي تحكي عن اسلوب تفكير تلك الامم الجاهليّة.
كما نلاحظ على مقربة من الأهرام الثلاثة -التي تمثّل قبور فراعنة مصر- أرضاً ممتدّة قد استخدمت كمقبرة لعبيد اولئك الفراعنة؛ اولئك العبيد الذين كانوا يرزحون تحت السياط و وطأة الأعمال الشاقّة حتّى الموت، بل الذين كانوا يُقتلون لأتفه الأسباب. و كانت أجساد أولئك العبيد تُدفن قرب قبور الفراعنة، على أمل أن يقوموا للدفاع عن أسيادهم عند قيام القيامة.
حتّى كان الأسياد يدفنون مع موتاهم المجوهرات و وسائل الزينة المختلفة على أمل الاستفادة منها في الآخرة؛ و يدفنون معهم أسلحتهم ليدافعوا بها عن أنفسهم. و كثيراً ما كانوا يدفنون مع الميّت الجواريّ الجميلات، ليأنس بهنّ ذلك الميّت و لا يعاني من قساوة الوحدة! بل و يضعون في اللحد عدّة رجال من الشجعان من قادة جيش ذلك الفرعون المستكبر، و يضعون الحنطة و العدس و غيرها من الحبوب المعقّمة بموادّ التحنيط لكي لا تفسد و يتمكّن ذلك الميّت من الانتفاع بها إلى يوم القيامة.
و يُشاهَد في المتاحف العالميّة اليوم الكثير من هذه الامور و ما
شابهها.
و قد طرأ هذا النوع من التفكير و ما شابهه على بعض الفرق الإسلاميّة، و ترسّخ لدى أقوام قد اختلفوا في اللغة و العنصر و الأصل، فاستمرّوا يتوارثونه بينهم. بل كثيراً ما ظهر في الأعقاب المختلفة بأشكال و صور عديدة مختلفة.
و قد حارب القرآن الكريم جميع هذه العقائد الفاسدة و الآراء الكاذبة و الأوهام الواهية، و صرّح جهاراً: وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.۱
و قال: وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ.٢
و قال: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.٣
و قال (و الخطاب موجّه من الملائكة إلى الظالمين):
وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.٤
و غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالّة على خلوّ ذلك العالم و تلك النشأة من الأسباب الدنيويّة و العلائق الطبيعيّة و الروابط المادّيّة إذ لا دور للنسب و الحسب هناك. و هذا قانون عامّ و سنّة شاملة و أساسيّة تبطل بهما جميع تلك الأقاويل الكاذبة و المزاعم الواهية لتلك الامم الغابرة، و يُذرى ذلك
الاستكبار و التفرعن بأجمعه ذَرْوَ الرياح؛ و هذا أمر عامّ و أصل أساس تتفرّع منه باقي الفروع.
أمّا على النطاق الخاصّ، فقد تصدّى القرآن الكريم أيضاً لمحاربة كلّ واحد من هذه الأقوال الفاسدة السيّئة، فقد بيّن مفصّلًا -في الآيتين سالفتي الذكر اللتين قد بدأتا بـ وَ اتَّقُوا- أن ليس ثمّة تغيير في أمر الجزاء على الأعمال بحيث يجازى شخص بدلًا عن شخص آخر، أو يقبل شفاعةً من أحد، أو يقبل فداءً و عوضاً ينجرّ إلى مجازاة شخص آخر بدلًا من المجرم؛ كما نفى أي نصر و إعانة للمجرمين من قِبَل أصحابهم و أخلّائهم، و بيّن أنّ يوم القيامة هو: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ.۱
و قال: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ.٢
و قال: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ.٣
و قال: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.٤
و قال: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ.٥
و قال: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ، وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ.٦
و تنفي هذه الآيات القرآنيّة الكريمة و نظائرها وقوع الشفاعة و تأثير الوسائط و الأسباب يوم القيامة.
الآيات القرآنيّة المثبتة للشفاعة
إثبات شفاعة الصالحين يوم القيامة
و في مقابل هذه الطائفة من الآيات النافية للشفاعة بصورة مطلقة و قطعيّة، ثمّة آيات قرآنيّة اخرى تثبت أمر الشفاعة و تربأ به عن مستوى الشبهات، كقوله تعالى:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ.۱
و قوله: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ.٢
و قوله: قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً.٣
و قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ.٤
و قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ.٥
و قوله: وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ (الأنبياء و الملائكة) عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ، يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ.۱
و قوله: وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ.٢
و قوله: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً.٣
و قوله: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا ، يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً.٤
و قوله: وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.٥
و قوله: وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى.٦
و من الواضح أنّ بعض هذه الآيات تعدّ الشفاعة مختصّة بالله المتعال، كالآيات الثلاث الاولى المذكورة من سور السجدة و الأنعام و الزمر؛ أمّا بعضها الآخر فذو دلالة على أنّ بإمكان الآخرين أن يشفعوا بدورهم بإذن الله و رضاه.
و على كلّ تقدير، فهذه الآيات تقرّ الشفاعة دون أي شكّ أو تردّد، كلّ ما في الأمر أنّ بعضها تنسب الشفاعة إلى الله بالأصالة، دون مشاركة غيره فيها، و أنّ بعضها الآخر تنسب الشفاعة إلى الله تعالى مع نسبتها إلى
غيره بإذنه و رضاه.
و قد علمنا سابقاً بأن هناك آيات تنفي الشفاعة عموماً، بَيدَ أنّه ليس ثمّة تعارض بين ذلك النفي العامّ للشفاعة و بين هذه الآيات الواردة في الشفاعة، لأنّ هذه النسبة على وجه العموم و الخصوص؛ و من الجليّ أنّ الخاصّ مقدّم باستمرار و بما أنّ عمومات العامّ تُخصَّص من خلال الدليل الخاصّ، فالأدلّة التي تثبت الشفاعة في موارد خاصّة تفسّر -في حقيقة الأمر- الأدلّة العامّة، و هذا شبيه بعمومات نفى النصر في قوله تعالى: وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ التي تُخَصَّص بآية: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ، حيث إنّ هذا الاستثناء المتّصل هو قرينة لتخصيص التعميم في نفي النصر، و هو في حكم الاستثناء المنفصل لها.
و ينبغي أن نرى الآن، هل النسبة بين هاتين الطائفتين من الآيات التي تثبت الشفاعة هي نسبة العموم و الخصوص حيث ينبغي -وفقاً للقواعد الاصوليّة- أن نخصّص عمومات نفي الشفاعة عن غير الله تعالى بالآيات الواردة في إثبات الشفاعة للمأذونين من قبل الله عزّ و جلّ، لأصحاب العهد، و لمن ارتضاهم سبحانه؟ أو أنّ الأمر ليس كذلك، و أن ليس ثمّة تعارض بين هاتين الطائفتين أساساً، و لو على نحو العموم و الخصوص.
عدم تنافي انحصار الشفاعة بالله عزّ و جلّ مع شفاعة الأطهار
و لبيان هذا الأمر نقول: إنّ هذه الآيات -كما في كثير من الآيات القرآنيّة- تنسب صفة معيّنة أو فعلًا معيّناً إلى الله تعالى وحده، و تنسب -في الوقت نفسه- تلك الصفة أو ذلك الفعل إلى غير الله؛ كما في الآيات التي تتحدّث عن علم الغيب، حيث تنفي الغيب تارةً عن غير الله تعالى،
و تعدّه تارة اخرى مختصّاً بذاته القدسيّة و منحصراً به عزّ و جلّ؛ ثمّ تعتبره مختصّاً بالله و تنسبه -كذلك- إلى غيره بإذنه و رضاه؛ كما في الآية ٦٥، من السورة ٢۷: النمل: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ.
و كما في الآية ٥٩، من السورة ٦: الأنعام: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ.
و الآية ٢۷، من السورة ۷٢: الجنّ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ.
حيث تصرّح الآية الأخيرة بأنّ الله تعالى يُطلع على غيبه رسله الذين ارتضاهم. و من الواضح انتفاء التعارض بين هذه الآيات، لأنّ ما يعلمه الله سبحانه من علم الغيب، فقد علم به أوّلًا وَ بِالذَّاتِ وَ بِالأصَالَةِ، و ما يُطلع عليه غيره إنّما يكون ثَانِيَاً وَ بِالعَرَضِ وَ بِالمَجَازِ.
فلن يكون علم الغيب -إذاً- قد تجاوز ذات الله القدسيّة إلى غيره، إذ ليس من غيريّة في مَن يمتلكون علم الغيب، لأنّ وجودهم يمثّل اندكاكاً في الله تعالى، و لأنّ علم غيب الله هو الذي تجلّى فيهم.
و ليس بهكذا انتقال لعلم الغيب الخاصّ الذاتيّ من تنافٍ أبداً مع أمر حيازة الصالحين و الأطهار و الرسل المرضيّين لعلم الغيب. فعلى الرغم من ملاحظة حصول شيء من علم الغيب عند الأنبياء و الأئمّة و أولياء الله تعالى، إلّا أنّ علم الغيب يبقى منحصراً بذات الله القدسيّة.
فعلى هذا، حين يمنّ الله تعالى بشيء من علمه على مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ، فإنّ أمر: لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلَّا هُوَ، يبقى ثابتاً و راسخاً في محلّه، فافهم و تأمّل، لأنّ إدراك هذه الحقيقة هو عين التوحيد.
و قد جاء على غرار هذه الآيات في التوفّي و الخَلْق و الرزق و التأثير
و الحُكم و كثير من الموضوعات الاخرى، و قد اشيع في الاسلوب القرآنيّ نفى أي كمال عن غير الله تعالى، ثم إثباته للّه تعالى بالأصالة، و لغيره بإذنه و مشيئته.
و قد بحثنا بحول الله و قوّته في هذا الموضوع بالقدر الكافي، في المجلس السادس من الجزء الأوّل، من سلسلة «معرفة المعاد»، و أوضحنا أنّ جميع الموجودات لا تمتلك كمالًا على نحو الاستقلال، و أنّ الكمالات المختلفة هي من فيض الله سبحانه و تعالى، لذا فالكمال الذي يمتلكه أي موجود في عالم المُلك و الملكوت، إنّما هو كمال للّه أوّلًا و بالذات و مختصّ به سبحانه، و هو -ثانياً و بالعرض- كمال مُعطى لذلك الموجود بتمليك من الله و بإذنه و مشيئته. و لا يسلب أبداً هذا العنوان العرضيّ المجازيّ -أي امتلاك الموجودات لهذه الكمالات- الاختصاص عن الذات القدسيّة للّه جلّ و عزّ لذلك الكمال على نحوٍ ذاتيّ و أصليّ و حقيقيّ.
و هذا المعنى مشهود في كلّ مواضع القرآن الكريم. و حقّاً، إنّه من معجزات المعارف التوحيديّة في هذا الكتاب الإلهيّ.
و حاصل القول: أن ليس بإمكان أي نوع من العطاء في عالم الربوبيّة أن يخرج القدرة و الأمر من يد الله تعالى، أو يستدعى افتقاره و نقصه؛ كما ليس من منعٍ يجبره على حفظ شيء ما و يبطل سلطانه.
و يُعلم ممّا قلنا أنّ الآيات التي تنفي الشفاعة فيما إذا كان الأمر يتعلّق بيوم البعث «القيامة»، فهي إنّما تنفيها عن غير الله على نحو الاستقلال؛ أمّا الآيات التي تثبت الشفاعة، فهي إنّما تثبتها للّه تعالى على نحو الأصالة و الاستقلال، و تثبتها لغير الله بتمليكه و إذنه. فالشفاعة -إذاً- ثابتة يوم القيامة بإذن الله، و الحمد للّه.
ثبوت الشفاعة يوم القيامة في روايات العامّة
كان كلّ ما ذكرناه حول إثبات الشفاعة في القرآن الكريم، أمّا في الروايات الواردة، فالشيعة و العامّة متّفقون على هذا المطلب، و قد دوّنوا في كتبهم الروايات الواردة في هذا الخصوص.
أمّا عند العامّة، فقد استغرقت روايات الشفاعة جميع كتبهم المعتبرة كالصحاح الستّة: «صحيح البخاريّ»، «صحيح مسلم»، «صحيح الترمذيّ»، «سنن النسائيّ»، «سنن أبي داود»، «سنن ابن ماجة»؛ كما وردت في كتبهم الثلاثة الاخرى المشهورة، و هي «مسند أحمد»، «موطّأ مالك»، «سنن الدارميّ»، و أوردها مفسّروهم في كتب التفسير، و نقلها الحاكم في كتابه «المستدرك» و الطبرانيّ في «المعجم الكبير»، و السيوطيّ في «الجامع الصغير». و ننقل -على سبيل المثال- عدّة نماذج منها:
روى السيوطيّ عن رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم قال: شَفَاعَتِي لأهْلِ الكَبَائِرِ مِن امَّتِي.۱
و قال: شَفَاعَتِي لُامَّتِي مَنْ أحَبَّ أهْلَ بَيْتِي.٢
و قال: شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أهْلِهَا.٣
و روى أحمد بن حنبل عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال: شَفَاعَتِي لِمَنْ شَهِدَ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ مُخْلِصاً.۱
و أورد أيضاً: إنِّي لأرْجُو أنْ اشَفَّعَ يَوْمَ القِيَامَةِ.٢
و أورد أيضاً في تفسير الآية الشريفة: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً»، قال: الشفاعة.٣ المقام المحمود: الشفاعة.٤
و أورد أيضاً: وَ اريدُ ... أنْ أُؤَخِّرَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لُامَّتِي إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.٥ وَ إنِّى أخَّرْتُ عَطِيَّتِي شَفَاعَةً لُامَّتِي.٦
و روى مسلم و الدارميّ: أنَا أوَّلُ شَافِعٍ في الْجَنَّةِ.۷
و أورد مسلم: أنَا أوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ في الجَنَّةِ.۸
و روى ابن ماجة: يَشْفَعُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الأنْبِيَاءُ، ثُمَّ العُلَمَاءُ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ.٩
و رووا كثيراً من الروايات جاء فيها خطاب الله لنبيّه: وَ قُلْ تُسْمَعْ، وَ سَلْ تُعْطَهُ، وَ اشْفَعْ تُشَفَّعْ.۱
و روى أحمد بن حنبل عن أبي برزة، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: إنَّ مِنْ امَّتِي لَمَنْ يَشْفَعُ لأكْثَرَ مِنْ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ.٢
و روى الحاكم في «المستدرك» بإسناده المتّصل عن أبي هريرة و عن حذيفة بن اليمان (قالا): قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
يجمع الله الناس، فيقوم المؤمنون حين تُزلف الجنّة فيأتون آدم عليه الصلاة و السلام فيقولون: يا أبانا! استفتح لنا الجنّة. فيقول: و هل أخرجَتْكُم من الجنّة إلّا خطيئة أبيكم آدم؟ لستُ بصاحب ذلك. اعمدوا إلى إبراهيم خليل الله.
فيأتون إبراهيم، فيقول إبراهيم: لستُ بصاحب ذاك. إنّما كنتُ خليلًا من وراء وراء. اعمدوا إلى النبيّ موسى الذي كلّمه الله تكليماً.
فيأتون موسى فيقول: لستُ بصاحب ذلك، اذهبوا إلى كلمة الله و روحه عيسى. فيقول عيسى: لستُ بصاحب ذاك.
فيأتون محمّداً صلّى الله عليه و آله و سلّم فيؤذَن له، و يرسل معه الأمانة و الرحم، فيقفان بالصراط يمينه و شماله، فيمرّ أوّلكم كمرّ البرق.
قلتُ: بأبي و امّي، أي شيءٍ مرّ البرق؟
قال: أ لم تَرَ إلى البرق كيف يمرّ ثمّ يرجع في طرفة عين؟ ثمّ كمرّ الريح، و مرّ الطير، و شدّ الرحال، تجري بهم أعمالهم، وَ نَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ؛ رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ.۱
روايات الخاصّة في أمر الشفاعة
أمّا الروايات الواردة عن طريق الشيعة، فقد وردت في الكتب المعتبرة و جاوزت حدّ الاستفاضة، و بلغت مرحلة التواتر المعنويّ. و يمكن القول إنّ مسألة الشفاعة تمثّل أمراً إجماعيّاً متّفقاً عليه.
قال الشيخ الطبرسيّ: إنّ الامّة أجمعت على أنّ للنبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم شفاعة مقبولة و إن اختلفوا في كيفيّتها، فعندنا هي مختصّة بدفع المضارّ و إسقاط العقاب عن مستحقّيه من مذنبي المؤمنين. و قالت المعتزلة: هي في زيادة المنافع للمطيعين و التائبين دون العاصين.
و هي ثابتة عندنا للنبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و لأصحابه المنتجبين و للأئمّة من أهل بيته الطاهرين و لصالحي المؤمنين، و ينجّي الله تعالى بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين. و يؤيّده الخبر الذي تلقّته الامّة بالقبول و هو قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: ادَّخَرْتُ شَفَاعَتِي لأهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ امَّتِي.
و ما جاء في روايات أصحابنا رضي الله عنهم مرفوعاً عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، أنّه قال: إنِّي أشْفَعُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَاشَفَّعُ، وَ يَشْفَعُ عَلِيّ فَيُشَفَّعُ؛ وَ يَشْفَعُ أهْلُ بَيْتِي فَيُشَفَّعُونَ، وَ إنَّ أدْنَى المُؤْمِنِينَ شَفَاعَةً
لَيُشَفَّعُ في أرْبَعِينَ مِنْ إخْوَانِهِ كُلٌّ قَدِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ.۱
روى الصدوق بسنده المتّصل عن أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: لِكُلِّ نَبِيّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا، وَ قَدْ سَألَ سُؤْلًا، و قَدْ أخبَأتُ دَعْوَتِي وَ شَفَاعَتِي لُامَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ.٢
و روى الصدوق عن القطّان، عن السكّريّ، عن الجوهريّ، عن محمّد بن عمّار، عن أبيه، قال: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ عَلَيهِ السَّلَامُ: مَن أنْكَرَ ثَلَاثَةُ أشْيَاءَ فَلَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا؛ المِعْرَاجَ وَ المَسَاءَلَةَ في القَبْرِ وَ الشَّفَاعَةَ.٣
و روى الشيخ الطوسيّ في خبر أبي ذرّ و سلمان، قَالا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: إنَّ اللهَ أعْطَانِي مَسَألَةً، فَأخَّرْتُ مَسْألَتِي لِشَفَاعَةِ المُؤْمِنينَ مِن امَّتِي يَوْمَ القِيَامَةَ فَفَعَلَ ذَلِكَ- إلى آخر الحديث.٤
و روى الصدوق أيضاً بسنده المتّصل عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: اعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهَا أحَدٌ قَبْلِي: جُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِداً وَ طَهُوراً، وَ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَ احِلَّ لي المَغْنَمُ، وَ اعْطِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ، وَ اعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ.٥
ورو ى أحمد بن محمّد البرقيّ عن أبيه، عن حمزة بن عبد الله، عن ابن عميرة، عن أبي حمزة، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: إنَ
لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ شَفَاعَةً.۱
و روى عن أبيه، عن فضالة، عن الحسين بن عثمان، عن أبي حمزة أنّه قال: لِلنَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ شَفَاعَةٌ في امَّتِهِ؛ وَ لَنَا شَفَاعَةٌ في شِيعَتِنَا؛ وَ لِشِيعَتِنَا شَفَاعَةٌ في أهْلِ بَيْتِهِمْ.٢
و روى عن عمر بن عبد العزيز، عن المفضّل أو غيره، عن الصادق عليه السلام في تفسير الآيتين الكريمتين: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ، وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» قَالَ: الشَّافِعُونَ الأئِمَّةُ، وَ الصَّدِيقُ مِنَ المُؤْمِنِينَ.٣
كما روى عن أبيه، عن القاسم بن محمّد، عن عليّ بن أبي حمزة، قال: قَالَ رَجُلٌ لأبِي عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ: إنَّ لَنَا جَاراً مِنَ الخَوَارِجِ يَقُولُ: إنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ هَمُّهُ نَفْسُهُ فَكَيْفَ يَشْفَعُ؟ فَقَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ: مَا أحَدٌ مِنَ الأوَّلِينَ وَ الآخِرِينَ إلَّا وَ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.٤
و روى الشيخ الطوسيّ بإسناده المتّصل عن محمّد بن عبد الرحمن، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: لَا تَسْتَخِفُّوا بِشِيعَةِ عَلِيّ، فَإنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ لَيَشْفَعُ لِعَدَدِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ.٥
و ما أعجب شفاعة الأئمّة المعصومين في الدنيا، ناهيك عن شفاعتهم في الآخرة! و ما أكثر المعضلات و المحن التي تيسّرت بشفاعتهم! و نذكر في هذا المجال قصّتين في شفاعة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام و أثر التوسّل بقبره الشريف، ليتّضح من خلالهما شفاعة اولئك الكرام في
الآخرة.
شفاعة أحد المتألّهين في الدنيا
و القصّة الاولى تتعلّق بهذا الحقير، و قد حصلت في شهر رمضان المبارك لسنة ألف و ثلاثمائة و ستّ و سبعين هجريّة، عند ما كنت مقيماً في مدينة النجف الأشرف. فسافرت ذات يوم برفقة العائلة إلى كربلاء المقدّسة لزيارة أبي عبد الله الحسين عليه السلام، و استأجرنا غرفة فأقمنا بها فترة من الزمن و نحن ننعم ببركات سيّد الشهداء عليه السلام. و كان الجوّ حارّاً آنذاك، و كنتُ قد اعتدتُ في ذلك الشهر المبارك على السهر لقصر لياليه، كان نومي يستمرّ من الصبح إلى ما قبل الظهر بساعتين، ثمّ أنهض للوضوء استعداداً للذهاب إلى الحرم الحسينيّ فأمكث فيه إلى الظهر، فأصلّي صلاة الظهر في الحضرة المباركة، ثمّ أعود إلى المنزل.
و كان لي صديق عربيّ من أهالي الكاظميّة يدعى الحاجّ عبد الزهراء الگرعاويّ، و هو رجل متديّن ذو ضمير وقّاد. و كان يتشرّف بين الحين و الآخر بزيارة كربلاء، و خاصّة في ليالي الجمعة، و كان حريصاً على العودة إلى الكاظميّة في نفس الليلة، لئلّا يُجبر على الإفطار في اليوم التالي؛ و قد تُوفّي قبل سنة تقريباً، رحمة الله عليه.
و استيقظت ذات يوم كعادتي، فتوضّأت و عزمت الذهاب إلى الحضرة المباركة، فلحظتُ في نفسي تثاقلًا، و أحسست بانقباض شديد يعتريني. و بالكاد وصلت الصحن المطهّر و قد شعرت بضعف رغبتي للزيارة، و تواصلت تلك الحالة بي إلى قريب الظهر. و فجأة، فإذا بنشاط و سرور لا يمكن وصفهما يغتبطاني، فنهضتُ للزيارة برغبة كبيرة، انهمكتُ -كالسابق- بالزيارة و الصلاة و التوسّل.
و جاء في تلك الليلة المرحوم الحاجّ عبد الزهراء من الكاظميّة إلى كربلاء للتشرّف بالزيارة؛ فقال لي: أيّها السيّد محمّد الحسين! بأيّ حالٍ
كنت هذا اليوم؟ لقد كنتُ جالساً في غرفتي في بغداد قرب الظهر، فشاهدتك بحالة صعبة، و أنت تعاني من انقباض شديد، فركبتُ سيّارتي على الفور و ذهبت إلى الكاظمين فشفّعت الإمام موسى بن جعفر عند الله تعالى لرفع الحالة التي انتابتك، فشفع الإمام لك و تحسّنت حالك.
شفاعة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام لآية الله الكلبايكانيّ
و القصّة الثانية عن المرحوم آية الحقّ و اليقين آية الله العظمى السيّد جمال الدين الكلبايكانيّ تغمّده الله برحمته، و كان رجلًا نزيهاً زكيّاً و من مراجع النجف الأشرف الأجلّاء، و كان له -في الوقت نفسه- روابط معنويّة و باطنيّة تشدّه بالحقّ المتعال. و كان مراقباً برسوخ و ثبات، و يمكن تسميته بجمال السالكين إلى الله تعالى. و كانت أعماله اسوةً في الصبر و التحمّل و الإيثار و الزهد و المراقبة و سعة النفس و العلم المكين.
و سيماؤه مجسّدة حقّاً، بحيث تراه مثالًا جليّاً لسيماء العلماء الصادقين و مشائخ الطائفة الحقّة للمذهب الجعفريّ، و هو في السير و السلوك آية و مرآة تعكس سير الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين و سلوكهم، و كان يذكّر بالله تعالى و بعالم الآخرة.
و لا يزال جيران ذلك المرحوم في محلّة «الحويش» في النجف الأشرف يقصّون الحكايات عن عينيه الغارقتين في الدموع، و عن آهاته الحرّي الليليّة، إلى أن ارتحل في التاسع عشر من شهر محرّم لسنة ألف و ثلاثمائة و سبع و سبعين و دُفن في مقبرة وادي السلام في النجف الأشرف، حيث ينقضي على رحيله إلى يومنا هذا -في سنة ألف و ثلاثمائة و تسع و تسعين- اثنتان و عشرون سنة، رحمة الله عليه رحمة واسعة.
ينبغي أن يقال في حقّ مثل هؤلاء الرجال المتألّهين الصادقين: عَاشَ سَعِيداً وَ مَاتَ سَعِيداً، لأنّ أوّل خطواته في مسيرته قد تمثّلت في تمنّي الحركة إلى الله تعالى، و رفع الحجب الظلمانيّة و النورانيّة، و نيل لقاء
الله من جميع الجهات و إدراك مقام الفناء و اندكاك الإنّيّة في الذات القدسيّة للحقّ سبحانه و تعالى.
و لم يكن دعاء اللهُمَّ ارْزُقْنَا التَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ، وَ الإنَابَةِ إلَى دَارِ الخُلُودِ، وَ الاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ۱ وِرْدَ لسانه فقط، بل كان -كذلك- حال نفسه و شهود قلبه المتوهّج و ضميره المستنير.
و كانت «الصحيفة السجّاديّة» أمامه باستمرار تعلو كتب مطالعته؛ و كان يلتذّ أيّما التذاذ بالمناجاة الخمسة عشر للإمام السجّاد عليه السلام، و لكثرة قراءته لها فقد حفظها عن ظهر قلب، و خاصّة المناجاة الثامنة «مناجاة المريدين» التي شغف بها.
و كان يطالع باستمرار في غرفة الاستقبال المتواضعة (البرّانيّ) الواقعة في الطابق العلويّ، على الرغم من صعوبة ذلك عليه، خاصّة في صيف النجف اللاهب. هذا و قد أحاطت به المحن و الشدائد من كلّ جهة، فابتلي في أواخر عمره بضعف القلب و مرض (البروستات)، فاضطرّ لإجراء عمليّة جراحيّة للبروستات ألزمته الفراش، و كان إدراره يُجمع عبر انبوب في كيس تحت سريره. و قد تراكمت عليه الديون، سواءً تلك التي اقترضها لتمشية اموره المعيشيّة أم ما كان يستقرضه للطلبة، و قد اضطرّ إلى رهن بيته بأربعمائة دينار عراقيّ لتغطية نفقات عمليّة جراحيّة لأحد أقاربه، و فوق ذلك كلّه فقد كان يواجه مشكلات داخليّة في البيت قد أرهقته.
و كنت أزوره مرّة أو مرّتين كلّ أسبوع، ولى معه بعض المحاورات و المحادثات و جئته ذات يوم فشاهدته راقداً على ظهره في سريره، و قد ناهز التسعين من عمره، و هو يقرأ في صحيفته (السجّاديّة) الصغيرة،
يذرف الدموع سخاناً، و هم منغمر في عالمٍ لا يوصف من السرور و البهجة و النشاط و اللذّة، كأنّه -لشدّة انسه بالله تعالى- لا يكاد يتّسع له جلده و يريد الطيران.
سلّمتُ عليه؛ فقال: اجلس! إنّ لك -يا فلان- علماً بحالي (و أشار إلى جميع محنه، من المرض، و العمليّة الجراحيّة، و الوحدة، و اضطراب وضع البيت الداخليّ و حرارة الجوّ، و الديون الثقيلة، و مسألة رهن البيت، و غير ذلك).
فقلتُ: نعم!
فتبسّم بسمة دافئة، و التفتَ إليّ بوجهه قائلًا: أنا سعيد، سعيد. إنّ من ليس له عرفان، فلا دنيا له و لا آخرة!
أثر شفاعة المعصوم في الدنيا
أجل، فقد نَقل لي ذات يوم أنّه أحسّ بحالة عجيبة انتابته في مرحلة من مراحل السلوك بحيث صار يرى نفسه مفيضاً للعلم و القدرة و الرزق و الحياة على جميع الموجودات، و يرى أنّ كلّ موجود من الموجودات يستعين به، و يرى أنّه هو المعطي و المفيض لفيض الوجود على الماهيّات الإمكانيّة و القوالب الوجوديّة.
قال: كانت حالي كذلك؛ على أنّي كنتُ أعلم -إجمالًا- أنّها حالة غير صحيحة و غير صادقة، لأنّ الله جلّ و علا مبدأ جميع الخيرات، و هو سبحانه مفيض الرحمة و الوجود على جميع ما سواه. و استمرّت بي تلك الحالة عدّة أيّام، و كلّما تشرّفت بالزيارة عند الضريح المطهّر لأمير المؤمنين عليه السلام ألوذ في باطني سائلًا الفَرَج، إلّا أنّ ذلك لم يُجْدِ نفعاً. ثمّ عزمت السفر إلى الكاظميّة لأتوسّل بالإمام الكاظم عليه السلام ليكون شفيعي عند الله المتعال ليخلّصني من هذه الشدّة.
كان الجوّ بارداً حين تحرّ كت من مدينة النجف الأشرف قاصداً
المرقد المطهّر للإمام الموسى بن جعفر عليه السلام؛ و ما أن وصلت الكاظميّة، ذهبت مباشرة إلى الضريح المطهّر؛ و كانوا آنذاك قد رفعوا السجاجيد المفروشة من أمام الضريح، فوضعت رأسي على أحجار الرخام المقابلة للضريح و أجهشت بالبكاء حتّى جرت دموعي بغزارة على أحجار الرخام.
و لم يزل رأسي على الأرض بعدُ، فإذا بالإمامُ يشفع لي، فانقلبت و فهمتُ مَن أنا؟ و أي شيء أنا؟ و أدركت أنّي أقلّ و أتفه من ذرّة واحدة، و لا أملك من القدرة بمقدار قطعة قشّ صغيرة واحدة، و أنّ هذه الامور للّه وحده دون سواه، و أنّه سبحانه تعالى هو المفيض على الإطلاق، و هو الحيّ و المحيي، و العالِم و مفيض العلم، و القادر و واهب القدرة، و الرازق و معطي الرزق. و أدركتُ أن نفسي ليست أكثر من نافذة و آية لظهور ذلك النور المطلق؛ ثمّ نهضتُ فأدّيت الزيارة و الصلاة و عُدت إلى النجف الأشرف.
و مرّت عَلَيّ عدّة أيّام كنتُ أرى فيها أنّ الله تعالى هو المفيض و الحيّ و القادر في جميع العوالم، إلى أن تشرّفت مرةً بزيارة المرقد المطهّر لأمير المؤمنين عليه السلام، فاعترتني حالة لا توصف و أنا وسط الزقاق عند عودتي إلى البيت قد ألجأتني إلى أن أسند رأسي إلى الحائط ما يقارب عشر دقائق دون أن أمتلك قدرة على الحركة. و هي ممّا مَنّ به أمير المؤمنين عليه السلام عَلَيّ، و كانت أكثر دقّة و أسمى من الحالة التي اكتنفتني عند ضريح الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، إذ كانت تلك مقدّمة لحصول هذه الحالة.
هذه شواهد حيّة عن شفاعة اولئك الأئمّة الأجلّاء، و ما ينبغي لنا هو الاستمساك و عدم الكفّ عن الطلب؛ كما ينبغي -كما فعل المرحوم السيّد جمال- أن يطأطئ المرء رأسه على أعتابهم في ذلّة و مسكنة، لتمتد يد من
الغيب فتفعل فعلها.
جز تو ره قبله نخواهيم ساخت | *** | گر ننوازى تو كه خواهد نواخت؟ |
يار شو أي مونس غمخوارگان | *** | چاره كن أي چاره بيچارگان |
در گذر از جرم كه خواهندهايم | *** | چاره ما كن كه پناهندهايم |
چاره ما ساز كه بى ياوريم | *** | گر تو برانى به كه رو آوريم۱ |
لَنْ أبْرَحَ البَابَ حَتَّى تُصْلِحُوا عِوَجِي | *** | وَ تَقْبَلُونِي عَلَى عَيْبِي وَ نُقْصَانِي |
فَإنْ رَضِيتُمْ فَيَا عِزِّي وَ يَا شَرَفِي | *** | وَ إنْ أبَيْتُمْ فَمَنْ أرْجُو لِغُفْرَانِي |
أى درِ تو مقصد و مقصود ما | *** | وى رخ تو شاهد و مشهود ما |
نقد غمت مايه هر شادِئى | *** | بندگيت به ز هر آزادئى |
كوى تو بزم دل شيداى ماست | *** | مسكن ما منزل ما جاى ماست |
عشق تو مكنون ضمير من است | *** | خاك سراى تو سريرِ من است٢ |
اى غمت از شادى أحباب به | *** | دردِ تو از داروى اصحاب به |
كوه غمت سينه سيناى من | *** | روشنى ديده بيناى من۱ |
المَجْلِسُ الحَادِيَ وَ السِّتُّونَ: شُفَعاءُ يَوْم القِيامَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ.۱
نريد أن نعرف في هذا البحث مَن هم الشفعاء، و نحاول أن نتعرّف أجمالًا على الامور التي توجب الشفاعة للإنسان في الدنيا و الآخرة.
و كما علمنا سابقاً فالشفاعة على نوعين: تكوينيّة و تشريعيّة؛ و نقسّم الآن الشفاعة التشريعيّة إلى قسمين، أوّلهما: الشفاعة التشريعيّة الحاصلة للإنسان في الحياة الدنيا. و ثانيهما: الشفاعة التشريعيّة الحاصلة في الحياة الآخرة. فصار علينا -تبعاً لذلك- أن نتحدّث عن مواضيع ثلاثة:
الأوّل: في الشفاعة التكوينيّة.
الثاني: في الشفاعة التشريعيّة الحاصلة في الدنيا.
و الثالث: في الشفاعة التشريعيّة الحاصلة في عالم الآخرة.
أمّا الشفاعة التكوينيّة فهي الوسائط بيننا و بين الله تعالى، كما أنّها
وسائط بين الله سبحانه و بين جميع الموجودات و المخلوقات، و هي الأسباب الواقعة في طريق إيجاد الموجودات و منح الوجود للماهيّات الإمكانيّة و القوالب الخارجيّة. و هي -عموماً- كلّ ما يتوسّط في انتشار نور توحيد الله المتعال في عوالم الإمكان. و نكتفي بهذا القدر، نظراً لعدم تعلّق الحديث بمباحث المعاد، و نُحيل القرّاء الكرام إلى «تفسير الميزان» ج ۱، ص ۷۷ إلى ۸٢ الذي يتحدّث عن استناد العلل المادّيّة إلى الله تعالى؛ و إلى ج ٢، ص ۱۸۰ إلى ۱٩٣ الذي يتحدّث عن تأثير بعض الأعمال على الامور الخارجيّة، و عن الارتباط بين الأعمال و بين الوقائع الخارجيّة؛ و إلى ج ٢۰، ص ٢۸٣ إلى ٢۸٥ الذي يتحدّث عن وساطة الملائكة في تدبير الامور الخارجيّة. كما نُحيلهم إلى الرسالة الخطّيّة الشريفة النفيسة لصاحب التفسير المذكور؛ سماحة استاذنا الكريم آية الله العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه العالي۱ الموسومة بـ «رسالة الوسائط الموجودة بين الله سبحانه و بين النشأة الطبيعيّة»٢.
في الشفاعة التشريعيّة الحاصلة في الدنيا
ندخل الآن في بحث القسم الأوّل من الشفاعة التشريعيّة، و هي الشفاعة المتحقّقة في الحياة الدنيا. بصورة عامّة، كلّ ما يستوجب الغفران
للإنسان في الدنيا و يستلزم قربه من الحقّ تعالى، هو شفيع يتوسّط بين العبد و بين الحقّ، و يوجب غفران الذنوب و السيّئات. و من جملة تلك الامور: التوبة، التي دعتنا إليها الكثير من الآيات القرآنيّة الكريمة:
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ.۱
و من بين أنواع التوبة: التوبة من الشرك، فمن صار موحّداً -إذاً- غُفر له ذنبه في الإشراك، و كان نفس توحيده توبةً له.
و لا تعني الآية المباركة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ٢ أنّه لا تُقبل توبة المشرك منه مهما كانت، و أنّ الله لن يغفر للمشرك شركه، بل تعني أن المشرك المصرّ على شركه حتّى يموت، سوف لن ينال المغفرة.
فالتوحيد إذاً من شفعاء الإنسان، لأنّه يوجب غفران شركه.
و من بينها: الإيمان، الذي يوجب غفران ذنب الكفر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.٣
و من جملتها: العمل الصالح، الذي يستوجب غفران السيّئات و الأعمال الطالحة: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ.٤
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.۱
لأنّ الإتيان بالأعمال الصالحة قربةً إلى الله تعالى يمثّل وسيلة للغفران، و شفيعاً لمحو الذنوب.
و من بين الشفعاء: القرآن الكريم، فمن عمل به أعانه و شفع له في التقرّب إلى الله تعالى، و قاده إلى الخيرات، و وضعه في الصراط المستقيم ضمن قافلة الباحثين عن الله سبحانه، و أنجاه من الظلمات.
قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.٢
و من بين الشفعاء: كلّ ما يرتبط بالعمل الصالح، كالأمكنة المقدّسة و الأيّام المباركة، و قبور الأئمّة و الأنبياء و الأولياء و العلماء، و المساجد، التي يمثّل كلّ منها و ما شابهها شفيعاً للإنسان.
و من الشفعاء: الأنبياء و المرسلون، الذين يستغفرون لُاممهم فيغفر الله لهم و يتجاوز عن ذنوبهم:
وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً.٣
و منهم: ملائكة السماوات و الأرض، التي تستغفر للمؤمنين:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ
لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ.۱
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.٢
و منهم: المؤمنون الذين يستغفرون لأنفسهم و لإخوانهم في الإيمان، فيؤدّي ذلك إلى غفران تلك الذنوب. فقد شفعوا في حقيقة الأمر، و قد ذكر الله تعالى كلامهم في القرآن الكريم:
وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.٣
الشفاعة التشريعيّة يوم القيامة
و من جملة طائفة الشفعاء: شفعاء يوم القيامة. و علينا أن نعلم -إجمالًا- ما الذي يميّزهم يوم القيامة عن غيرهم؟ و أن نعرف الخصائص و السمات التي ترشّحهم للشفاعة يوم القيامة، ثمّ نتحدّث عن كلّ طائفة من طوائف الشفعاء على حدة.
جاء في القرآن الكريم: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ.٤
و جاء أيضاً: وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.٥
و هي آيات تفيد بأن الشفاعة في يوم القيامة تستلزم إذن الله و رضاه
الحتميّ، و أنّها لا تتحقّق دون إذنه عزّ و جلّ. فقد جُعلت الشفاعة -من خلال الحصر بين النفي و الإثبات بجملتين استثنائيّتين- مختصّةً بمن اذن لهم من قِبل الله تعالى.
و ينبغي أن نرى الآن ما المقصود من الإذن؟ و من أيّة طائفة هم المأذونون؟
لقد جاء: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا.۱
و كما هو معلوم في هذه الآية أنّ القول المرضيّ هو القول المقبول الذي أذن به الله تعالى؛ و كما هو معلوم أنّ رضا الله سبحانه بقول العبد، إنّما هو إذنه تعالى؛ أي أنّ الله قد ارتضى قول العبد الذي يمثّل -في الحقيقة- شفاعة العبد.
و حين نقارن هذه الآية مع آية: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً.٢
فسندرك أنّ القول المرضيّ هو القول الصائب، و هو القول الذي يرتضيه الحقّ جلّ و عزّ. فعلى الشفعاء -إذاً- أن يكون كلامهم صائباً و مرضيّاً للّه تعالى.
و قد قلنا في فصل الشهادة على الأعمال، إنّ هذا القول الصائب يعود إلى أنّ أعمال العاملين تنتهي إلى شخص الشاهد و تلحق به. أي أنّ الشاهد يصبح واسطة للفيض و رابطاً بين الحقّ و الشخص المشهود له و المشهود عليه من خلال حضوره و توسّطه في إفاضة الفيوضات الإلهيّة.
و تنتج هذه الحقيقة من تمكين الحقّ سبحانه و تعالى لشخص الشاهد في الشهادة على الأعمال، بحيث يجعله عالماً بحقائق تلك الأعمال و حاضراً في تلك الوقائع، إذ يقول:
وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ.۱
و عليه، فالآية تبيّن أنّ مقام الشفاعة يستلزم مقام شهادة الشهداء، ممّا يؤدّي إلى حصر الشفاعة في مَن يمتلك العلم و يشهد بالحقّ.
خصائص الشفعاء في يوم القيامة
و لمّا علمنا من الآية السابقة أنّ الشفاعة تتعلّق بمن يمتلك الإذن و القول المرضيّ، فالشفعاء ذوو القول المرضيّ إذاً، هم الشهداء الذين يشهدون بالحقّ عن سابق علم و اطّلاع.
و قد ذكر تعالى قيدينِ لامتلاك الشافع مقام الشفاعة، هما: العلم و الشهادة بالحقّ لا بالباطل. كما أنّ المراد بالشهادة -من جهة اخرى- هو الشهادة في مرحلتَي التحمّل و الأداء، فلما ينبغي للشهداء من تحمّل تلك الشهادة، فلا بدّ أن يكون لهم حضور وجدانيّ و شهوديّ في الواقعة التي يشهدون بصددها. فالشفعاء (و هم الشهداء) هم الذين يمتلكون سيطرة على الأعمال، و اطّلاعاً على مكنون و حقائق تلك الأعمال، و على سرائر العاملين.
و لنرى الآن أيّة طائفة تلك التي تكون ذات القول المرضيّ و الحاضرة في الأعمال؟
إنّ أفراد هذه الطائفة هم أصحاب القول المرضيّ عند الله تعالى؛ و لمّا كان الرضا لا يتعلّق بشيء إلّا إذا كان ذلك الشيء كاملًا، فالقول
المرضيّ عند الله تعالى إذاً هو القول الكامل، و قول الصواب.
و لمّا علمنا -من جهة اخرى- أنّ القول هو من آثار الذات، و لن يكون فعل الذات كاملًا إلّا باكتساب تلك الذات الكمال، و طي جميع مراحلها الكماليّة -باعتبار أنّ كمال الفعل منبعث من كمال مبدأ ذلك الفعل و ذاته- فإنا نستنتج أنّ ذوي القول المرضيّ عند الله هم أصحاب الذوات المرضيّة من قِبل الله تعالى. فيكون المرضيّ في الفعل هو المرضيّ في الذات، و يكون المأذونون من قبل الله في الشفاعة الذين يرتضي الله قولهم، هم أصحاب الإحاطة العلميّة بالموجودات، و هم المرضيّون و المطهّرون بلحاظ الذات و الحقيقة.
و بالتأكيد، فإنّ عكس هذه المسألة ليس صادقاً، إذ من الممكن أن يمتلك امرؤ ذاتاً مرضيّة، إلّا أنّ فعله و أثره غير مرضيّينِ بسبب بعض الحجب و الموانع الطارئة التي لوّثت الفعل.
حقيقة مقام الشفيع هي الفناء في الله تعالى
و حصيلة ما تقدّم هي أنّ الشفعاء في يوم القيامة هم الذين يرتضي الله تعالى ذواتهم و أقوالهم، و أنّ كمالهم و كمال أقوالهم يشهدان على الأعمال؛ ذلك الكمال الذي لا تشوبه شائبة من نقص أو خطأ، و تلك الأقوال الصائبة المرضيّة.
و بعبارة اخرى، أنّ علم الشفعاء هو علم الله تعالى، و هو علم لا تشوبه شبهات الأوهام، و لا يعتريه خطأ الخيالات و الأفكار النفسيّة، بل هو علم طاهر و منزّه من جميع الجهات.
و لكون هكذا علم خالص منزّه و عارٍ من صدأ الأفكار النفسانيّة، فهو من مختصّات الحقّ تبارك و تعالى، و لكونه تعالى يفيض من هذا العلم
حسب ما يشاء، فما العلوم إذاً إلّا رشحاً من علم الله تعالى، أمّا حقيقة العلم فمختصّة به عزّ و جلّ، و ليس لموجود غيره حظّاً من العلم ذاتيّاً: وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ.۱
فيكون اولئكم الشفعاء قد فنوا في الذات الأحديّة و انعدموا فيها مع علمهم، فتجلّى فيهم علم الله الذي لا يعتريه الخطأ.
أجل، إنّ الأنبياء و السابقين من المرضيّين عند الله عزّ و جلّ و المقرّبين إلى ساحة الحقّ تعالى ينفون عن أنفسهم أي نوع من العلم، و عند ما يخاطبون ربّهم فإنّهم يقولون: لا علمَ لنا.
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.٢
و لا بدّ لنا من معرفة علّة نفي الرسل عن أنفسهم العلم بمختلف وجوهه، و إن كان ضئيلًا، مع كونهم من حملة العلوم في الدنيا التي تفوق علوم سائر الناس أصالة و صدقاً و كمّيّة.
كانوا يفعلون ذلك، لأنّهم قد بلغوا مقاماً و درجةً صاروا معهما يرون الله سبحانه مصدراً لجميع العلوم، و قد ازيح حجاب كثرات العالم عن بصائرهم، فوصلوا إلى مقام التوحيد و المعرفة، فصار مع الخطأ عندهم أن ينسبوا إلى أنفسهم تلك العلوم، لأنّ العلم مختصّ بذات الحقّ، و ليس عندهم أكثر من تجلّي العلم فيهم.
و لقد استقام اولئكم على طهارتهم الذاتيّة الأصيلة، و وفوا بعهدهم و ميثاقهم مع ربّهم عزّ و جلّ، فأضحى علمهم علم الله تعالى على ضوء وعده
سبحانه. و لقد سار الأنبياء و المقرّبون على جادّة الطهارة و العبوديّة الخالصة، و لم يتخطّوا تلك العبوديّة قيد شعرة؛ و كان علم الخالق الذي أشرق عليهم كالأمانة التي استؤمنوا عليها من عند ربّهم، ليعيدوها في خاتمة المطاف كاملةً مختومة إلى صاحبها. لذا، فلا تراهم ينسبون ما هو إلى ربّهم إلى أنفسهم أبداً.
و عليه، فمقام الشفاعة المستلزم للشهادة و صدق القول و العلم و الشهود و الوجدان، إنّما يقوم على أساس ذلك الميعاد و الميثاق: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً.۱
ونلحظ -بناءً على هذا الأساس المتين- أوُلئك الأنبياء الذين يسألهم ربّهم عمّا أجابت به اممهم، و هم يعدّون تلك الإجابة من الغيب، ثمّ ينفون علم الغيب عن أنفسهم و يعتبرونه مختصّاً بالله وحده.
و هذا هو العلم الفنائيّ الذي تطرّقنا إليه في بحث الشهادة، و هو من العلوم الخارجة عن دائرة علومنا و مستوى أفكارنا و أحاسيسنا.
و من خلال تفسير آية: وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ، يتّضح أنّه ينبغي لهذه الشفاعة أن تعدّ قائمة على أساس الشهادة، كما أنّ الشهادة القائمة على أساس الشهود و الحضور الحقّ و العلم بالمغيّبات لن تتحقّق بدون الفناء في الله سبحانه.
كما يتّضح -على نفس الأساس- أنّ الشفاعة هي نحوٌ من التصرّف في الأعمال، و تبديل السيّئات إلى حسنات، أو محو للسيّئات أو تكفيرها و غفرانها، أي سترها و تغطيتها. و لهذه الجهة فقد نسبها الله تعالى إلى نفسه في قوله:
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ.۱
و يدعم هذا المطلب كلامنا الذي ذكرناه في مقام الشفيع و منزلته، القائل بأنّ الشفاعة لا تتحقّق بدون الفناء في الله عزّ و جلّ. و يتّضح هذا الأمر أيضاً من قوله تعالى:
وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.٢
لأنّ عبارة: فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ بمعنى كشف الفزع و الصعق الذي يسبب فقدان الإنسان لوعيه، و انغماره في حالٍ من الذهول. و حين ترتفع هذه الحالة و يعود إلى الإنسان وعيه و إدراكه -أي في الوهلة الاولى بعد الفناء و الغيبوبة عن عالم الكثرات و النفس- فسيقولون: إنّ الله قد قال الحقّ. فالشفاعة -إذاً- تحصل بعد مقام الفناء.
و بمقارنة آية: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ٣ مع الآية السابقة: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ،٤ فإنّنا نلحظ اتّحاد سياق الآيتين، و أنّ الآية الاولى تضمّ عبارة: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ بدلًا من عبارة: ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ. و لمّا كان تحقّق الشفاعة -لغير الله- لا يحصل إلّا بعد إذن الله تعالى و رضاه، فيستفاد من ذلك أنّ فعل الشافع في شفاعته سيكون -بعد إذن الله تعالى- هو فعل الله عزّ و جلّ، لحصول الشخص الشفيع من
خلال هذا الإذن على مقام الفناء المحض، فيكون إذن الله ممثّلًا لارتقاء درجة الإنسان إلى مقام المعرفة و التوحيد المستلزم للفناء.
و من هنا، فليس من شفيع إلّا الله؛ و حين يكون هناك مَن يشفع بإذنه تعالى، فشفاعته ستكون عين شفاعة الله دون أن يكون في البين غيريّة و ثنائيّة ليتحقّق من خلالها معنى الغير.
و هناك آية مباركة في سورة البقرة أكثر صراحة من الآية السابقة، و هي: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ.
أي لمّا كان الله هو العالم بما كان و ما يكون، فالشفيع يحصل بدوره -بواسطة الإذن- على نظير هذا العلم، فيتحمّل الشهادة على هذا الأساس، ثمّ يقوم بأداء تلك الشهادة، لأنّه سيكون فانياً آنذاك، و علم الشخص الفاني هو علم الله تعالى، و الإذن هو مقام الفناء نفسه. و لو لم يكن الأمر كذلك لانتفى الارتباط بين عبارة: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. و عبارة: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ، مع أنّ العبارات الواردة في آية الكرسي -المعدودة من عجائب آيات القرآن في التوحيد و المعارف الإلهيّة الحقّة- مرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً يجعلها تعطي بمجموعها معنى واحداً يمثّل حقيقة التوحيد.
إضافة إلى علمنا بأنّ الإذن هو الارتضاء؛ و بأنّ الارتضاء الإلهيّ لا يتعلّق بأمرٍ غير كامل. لذا، فالشيء المشوب بشوائب البينونة و الاثنينيّة، و الذي لم يتخلّ بعد عن صبغة الغيريّة و لم يتّسم بختم العبوديّة، فإنّه لن يكون مورد رضا الله سبحانه.
حقيقة مقام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في الشفاعة
بكلّ تأكيد أنّ مقام رسول الله محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و آله
في الفناء في الله و البقاء بالحقّ سبحانه و تعالى هو مقام رفيع شامخ ذو سعة و عموميّة يجعل جميع الأنبياء و المرسلين يلوذون به و يحتاجون شفاعته. و ليس هذا المقام درجة اعتباريّة، بل هو واقع و وجود موهوب و مكتسب منَّ الله تعالى به على نبيّه، و هو ما يمثّل رحمة الحقّ الواسعة و النَّفَس الرحمانيّ و الحجاب الأقرب الذي هو المحمود المطلق.
و يمكن استفادة هذه الحقيقة من آيات القرآن الكريم، إذ جاء فيها: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ.۱
و هذه الرحمة المستثناة هي الإذن المستثنى في الآيات الاخرى، فيتبيّن أنّ ما ندعوه بالشفاعة قائم بالرحمة، و أنّ الرحمة هي حقيقة الإذن، و أنّها هي التي توجب الشفاعة.
و يمكن إدراك هذه المعنى بصورة مجملة من الآية: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ.٢ لأنّ تلك الرحمة الخاصّة بالمتّقين ذات ميزة خاصّة، و ربّما كانت تلك الميزة هي الفناء.
و من جهة اخرى فقد جاء: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.٣
فهذه الآية تتضمّن كلاماً مطلقاً يفيد بأن رسول الله صلّى الله عليه و آله يمتلك من قِبل الحقّ مقاماً أعلى و أسمى من الشفاعة، و هو مقام الإذن المطلق الذي تليه الشفاعة و تحصل بسببه.
و من هنا، فالنبيّ هو شَفِيعُ الشُّفَعَاءِ، كما أنّه -كما سبق أن ذكرنا في
بحث الشهادة أيضاً شَهِيدُ الشُّهَدَاءِ.
و لا بدّ من معرفة أنّ مفاد آية: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ، التي تفيد كون خاتم النبيّين أفضل و أشرف من جميع المخلوقات، مُغاير لمفاد الآية الواردة في سورة الجاثية: وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ.۱
لأنّ ظاهر الآية الأخيرة يفيد بأنّ الله تعالى قد أعطاهم الآيات الباهرة و البراهين الواضحة، كالكتاب و الحكم و النبوّة، ففضّلهم بها، و الأمر كذلك بكلّ تأكيد.
أمّا التفضيل في مقام القرب إلى الله تعالى، و التفضيل في درجة التقوى و المنزلة الإلهيّة، فلا يمكن استفادته من هذه الآية.
و الدليل على ذلك هو أنّ الله قد عذّبهم بأنواع العذاب الدنيويّ، و صبّ عليهم ألوان سخطه و نقمته، و أنزل عليهم الرجز من السماء.
كما أنّ من الجليّ -مضافاً إلى ما تقدّم- أنّ تفضيل امّة أو جماعة على العالمين هو غير تفضيل فردٍ واحد على العالمين، خاصّة و أنّ ذلك التفضيل و تلك المزيّة و التفوّق عبارة عن الرحمة الإلهيّة الخاصّة التامّة التي هي بين الحقّ جلّ و عزّ و بين الموجودات.
و يمكن أن يقال للرحمة الخاصّة التامّة بين الله و الموجودات بأنّها شيء، كما يمكن القول أيضاً بأنّها لا شيء. فهى شيء بلحاظ كونها رحمة مطلقة للحقّ و ظهوراً أقرب و تجلٍّ أعظم، و هي لا شيء لأنّها ليست كالموجودات، فلا يصحّ تسميتها شيئاً كالموجودات. و هي مرآة و آية و تجلّ، و هي المعنى الحرفيّ و الفناء الكلّيّ و الاندكاك في السعة.
لقد خلق الله تبارك و تعالى بنفسه و بذاته القدسيّة كلّ شيء في هذا العالم، و أوجد بذاته مبدأ و معاد و تدبير امور كلّ شيء، و قد دبّر جميع هذه الامور برحمته. و رسول الله صلّى الله عليه و آله هو رحمة الله تعالى. فمن هنا، صرنا نقول بأنّه هو التجلّي الأعظم و الحجاب الأقرب، و بأنّه هو الأفضل في النتيجة.
شفاعة رسول الله من المقام المحمود
و قد نزلت في هذا الشأن الآية الشريفة من سورة الإسراء: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.۱
و بسبب مجيء لفظ «مَقَاماً» في هذه الآية بصيغة المفعول؛ و لعدم تعلّق لفظ «بَعَث» بمفعولينِ، فينبغي القول إنّ لفظ «بَعَث» يتضمّن معنى الإقامة (من باب التضمين و الإشراب)، فيكون المعنى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
و قد أنعم الله بهذا الإعطاء للمقام المحمود بصورة مطلقة دون قيد أو شرط؛ أي أنّ الله سبحانه قد أعطاك مقاماً محموداً بكلّ حامد؛ و محموداً لكلّ نحوٍ من أنحاء الحمد، مآل كلّ حمد من أي حامد و لأيّ محمود هو إليك، و ما ذلك المقام المحمود إلّا أنت.
و يتضمّن هذا المقام تمام الجمال و الكمال؛ و بما أنّ الحمد المطلق و المحموديّة المطلقة يقتضيان هذا المقام، فكلّ جمال و كلّ كمال إنّما سيرشح من ذلك المقام الراسخ و ينبع منه.
و قد جاء في القرآن الكريم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ،٢ حيث إنّ
حمد كلّ حامد يعود للّه تعالى. فيكون المقام المحمود هو المقام الذي يمثّل الواسطة بَيْنَ الله سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى وَ بَيْنَ مَقَامِ الحَمْدِ. و على هذا فالحمد -شأنه في ذلك شأن الرحمة- هو شيء كما أنّه لا شيء. فهو شيء بلحاظ كونه حمد مطلق و ظهور أقرب، و هو لا شيء لأنّه غير الأشياء الخارجيّة و مقام الاثنينيّة، و لأنّه المعنى الحرفيّ و الاندكاكيّ و الفناء الكلّيّ، و هو ما يُعبّر عنه بـ مَقَامِ الوَلَايَةِ الكُبْرَى. كما تبيّن هذه الحقيقة الآية المباركة في سورة الضحى بكلّ صراحة و وضوح: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى.۱
بما أنّ هذا الكلام مطلق أيضاً، و أنّ العطاء المطلق للحقّ سبحانه و تعالى هو نفس الرحمة المطلقة، فيمكن أن يكون مفاد الفناء الكلّيّ في ذات الحضرة الأحديّة جلّ شأنه هو نفس مفاد الآيتين القريبتي الذكر، أي آية: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ، و آية: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
و مضافاً إلى مفاد هاتين الآيتين، فالآية تمتلك جهة خاصّة أيضاً تتمثّل في معنى الرضا، و هو الارتضاء المطلق من جميع الجهات.
و في الآية نكتة اخرى، و هي أنّه لم يقل: حَتَّى تَرْضَى، لأنّ عطاء الله لرسوله (أي هذا العطاء الخاصّ) ليس عطاءً تدريجيّاً يستمرّ بتعاقب الأعمال و الكثرات و الجزئيّات، و يتوالى بتواتر الأمثال و الأشباه و النظائر، بل هو عطاء دفعيّ، لذا فقد عبّر عنه بقوله: فَتَرْضى.
و في المقام نكات دقيقة و مسائل عرفانيّة عميقة و لطيفة تتجلّى لسالكي طريق الحقّ، و للباحثين عن الصراط المستقيم على أمل رحمة الله تعالى.
و يُستنتج من خلاصة ما ذكر أنّ مقام الشَّفَاعَة الكُبْرَى مختصّ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبدِاللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، مضافاً إلى مَقَامِ الإذْنِ المُطْلَقِ في الشَّفَاعَةِ، الذي هو أدق و أسمى من نفس الشفاعة. صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَ عَلَى أهْلِ بَيْتِكَ.
و بعد اتّضاح هذا البحث القرآنيّ الدقيق، و بيان الآيات المباركة لاختصاص الشفاعة الكلّيّة المطلقة الإلهيّة بالنبيّ الكريم، فقد حان الوقت الآن لإلقاء نظرة على الأحاديث و الروايات الواردة في هذا المجال، التي جاوزت حدّ الاستفاضة، فنورد منها بعض الأمثلة و الشواهد.
قال عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره في ذيل الآية الشريفة وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ:
لا يشفع أحد من أنبياء الله و رسله يوم القيامة حتّى يأذن الله له، إلّا رسول الله صلّى الله عليه و آله، فإنّ الله قد أذن له في الشفاعة من قبل يوم القيامة، و الشفاعة له و للأئمّة من ولده، ثمّ بعد ذلك للأنبياء عليهم السلام.
قال: حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن أبي العبّاس المكبّر، قال: دخل مولى لامرأة عليّ بن الحسين عليه السلام على أبي جعفر (الباقر) عليه السلام، يقال له أبو أيمن، فقال: يا أبا جعفر! يغرّون الناس و يقولون: شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ، شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ.
فغضب أبو جعفر عليه السلام حتّى تربّد وجهه، ثمّ قال: وَيْحَكَ يَا أبَا أيْمَنَ! أغَرَّكَ أنْ عَفَّ بَطْنُكَ وَ فَرْجُكَ؟! أمَا لَوْ رَأيْتَ أفْزَاعَ القِيَامَةِ لَقَدِ احتَجْتَ إلَى شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ!
وَيْلَكَ فَهَلْ يَشْفَعُ إلَّا لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ؟
الروايات الواردة في احتياج جميع الأنبياء إلى شفاعة رسول الله
ثمّ قال: مَا مِنْ أحَدٍ مِنَ الأوَّلِينَ وَ الآخِرِينَ إلَّا وَ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
ثمّ قال أبو جعفر: إنَّ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الشَّفَاعَةَ في امَّتِهِ؛ وَ لَنَا شَفَاعَةٌ في شِيعَتِنَا؛ وَ لِشِيعَتِنَا شَفَاعَةٌ في أهَالِيهِمْ؛ ثُمَّ قَالَ: وَ إنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ لَشَفَاعَةٌ في مِثْلِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ، فَإنَّ المُؤمِنَ لَيَشْفَعُ حَتَّى لِخَادِمِهِ؛ يَقُولُ: يَا رَبِّ! حَقِّ خِدْمَتِي، كَانَ يَقِينِي الحَرَّ وَ البَرْدَ.۱
و روى البرقيّ في «المحاسن» عن ابن أبي عمير صدر هذه الرواية إلى قوله: وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ.٢
رواية حول عرصات القيامة و شفاعة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلم
و روى العيّاشيّ في تفسيره في ذيل آية: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً، عن خيثمة الجعفيّ، قال: كنت عند جعفر بن محمّد عليه السلام أنا و مفضّل بن عمر ليلًا ليس عنده أحد غيرنا، فقال له مفضّل الجعفيّ: جُعلت فداك؛ حدّثنا حديثاً نُسَرُّ به. قال: نعم! إذا كان يوم القيامة حَشَرَ اللهُ الخَلائِقَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا.٣
قال: فقلت: جُعلت فداك؛ ما الغُرْل؟ قال: كما خُلقوا أوّل مرّة؛ فيقفون حتّى يلجمهم العَرَق. فيقولون: ليت الله يحكم بيننا و لو إلى النار -يرون أنّ في النار راحة فيما هم فيه- ثمّ يأتون آدم فيقولون: أنت أبونا و أنت نبيّ، فاسأل ربّك يحكم بيننا و لو إلى النار. فيقول آدم: لستُ بصاحبكم، خلقني ربّي بيده و حملني على عرشه و أسجدَ لي ملائكته، ثمّ أمرني فعصيتُه، و لكنّي أدلّكم على ابني الصدّيق الذي مكث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاماً يدعوهم، كلّما كذّبوا اشتدّ تصديقه «نوح».
قال: فيأتون نوحاً فيقولون: سَل ربّك يحكم بيننا و لو إلى النار!
قال: فيقول: لستُ بصاحبكم. إنّي قلت: إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي، و لكنّي أدلّكم على من اتّخذه الله خليلًا في دار الدنيا، ائتوا إبراهيم!
قال: فيأتون إبراهيم فيقول: لست بصاحبكم. إنّي قلت: إنِّي سَقِيمٌ، و لكنّي أدلّكم على مَن كلّم الله تكليماً: «موسى». قال: فيأتون موسى فيقولون له، فيقول: لست بصاحبكم، إنّي قتلتُ نَفْساً، و لكنّي أدلّكم على من كان يخلق بإذن الله و يبرئ الأكمه و الأبرص بإذن الله: «عيسي». فيأتونه فيقول: لست بصاحبكم، و لكنيّ أدلّكم على من بشّرتكم به في دار الدنيا: «أحمد».
ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام:
مَا مِنْ نَبِيّ وُلِدَ مِن آدَمَ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إلَّا وَ هُمْ تَحْتَ لِوَاءِ مُحَمَّدٍ.
قال: فيأتونه. ثمّ قال: فيقولون: يا محمّد! سَل ربّك يحكم بيننا و لو إلى النار. قال: فيقول: نعم؛ أنا صاحبكم. فيأتي دَارَ الرَّحْمَنِ و هي عدن، و إنّ بابها سعته بُعد ما بين المشرق و المغرب، فيحرّك حلقة من الحلق، فيقال: مَن هذا؟ -و هو أعلم به فيقول: أنا محمّد؛ فيقال: افتحوا له. قال: فيُفتح لي. قال: فإذا نظرتُ إلى ربّي مجدّته تمجيداً لم يمجّده أحد كان قبلي و لا يمجّده أحد كان بعدي، ثمّ أخرّ ساجداً، فيقول:
يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأسَكَ! وَ قُلْ يُسْمَعْ قَوْلُكَ! وَ اشْفَعْ تُشَفَّعْ! وَ سَلْ تُعْطَ.
قال: فإذا رفعتُ رأسي و نظرتُ إلى ربّي مجّدتُه تمجيداً أفضل من الأوّل، ثمّ أخرّ ساجداً فيقول: ارفع رأسك و قُل يُسمعْ قولك و اشفعْ تُشفّع و سَلْ تُعطَ. فإذا رفعتُ رأسي و نظرتُ إلى ربّي مجّدته تمجيداً أفضل من
الأوّل و الثاني، ثمّ أخرّ ساجداً فيقول: ارفعْ رأسك و قُل يُسمع قولك و اشفعْ تُشفّع و سَلْ تُعطَ. فإذا رفعت رأسي أقول: ربّ احكم بين عبادك و لو إلى النار! فيقول: نعم يا محمّد.
قال: ثمّ يؤتى بناقة من ياقوت أحمر و زمامها زبرجد أخضر حتّى أركبها، ثمّ آتي المَقَام المَحْمُود حتّى أقضي عليه و هو تلّ من مسك أذفر بحيال العرش، ثمّ يُدعى إبراهيم فيُحمل على مثلها فيجيء حتّى يقف عن يمين رسول الله صلّى الله عليه و آله.
ثمّ رفع رسول الله صلّى الله عليه و آله يده فضربَ بها على كتف عَلِيّ بْنَ أبي طَالِبٍ، ثمّ قال: ثمّ تؤتى -و الله- بمثلها فتُحمل عليها، ثمّ تجيء حتّى تقف بيني و بين أبيك إبراهيم. ثمّ يخرج مناد من عند الرحمن فيقول: يَا مَعْشَرَ الخَلائِقِ! أ ليس العدل من ربّكم أن يولّي كلّ قوم ما كانوا يتولّون في دار الدنيا؟ فيقولون: بلى، و أي شيء عدل غيره؟ قال: فيقوم الشيطان الذي أضلّ فرقةً من الناس حتّى زعموا أنّ عيسى هو الله و ابن الله فيتبعونه إلى النار؛ و يقوم الشيطان الذي أضلّ فرقةً من الناس حتّى زعموا أنّ عُزيراً ابن الله حتّى يتبعونه إلى النار؛ و يقوم كلّ شيطان أضلّ فرقةً فيتبعونه إلى النار، حتّى تبقى هذه الامّة، ثمّ يخرج منادٍ من عند الله فيقول: يَا مَعْشَر الخَلائِق! أ ليس العدل من ربّكم أن يولّى كلّ فريق من كانوا يتولّون في دار الدنيا؟ فيقولون: بلى.
فيقوم شيطان فيتبعه مَن كان يتولّاه، ثمّ يقوم شيطان فيتبعه مَن كان يتولّاه، ثمّ يقوم شيطان ثالث فيتبعه مَن كان يتولّاه، ثمّ يقوم معاوية فيتبعه مَن كان يتولّاه، و يقوم عليّ فيتبعه مَن كان يتولّاه، ثمّ يزيد بن معاوية فيتبعه مَن كان يتولّاه، و يقوم الحسن فيتبعه مَن كان يتولّاه، و يقوم الحسين فيتبعه مَن كان يتولّاه، ثمّ يقوم مروان بن الحكم و عبد الملك
فيتبعهما من كان يتولّاهما، ثمّ يقوم عليّ بن الحسين فيتبعه مَن كان يتولّاه، ثمّ يقوم الوليد بن عبد الملك و يقوم محمّد بن عليّ فيتبعهما مَن كان يتولّاهم، ثمّ أقوم أنا فيتبعني من كان يتولّاني، و كأنيّ بكما (أي خيثمة الجعفيّ و مفضّل بن عمر الجُعفيّ) معي، ثمّ يؤتى بنا فنجلس على عرش ربّنا و يؤتى بالكتب فنرجع فنشهد على عدوّنا و نشفع لمن كان من شيعتنا مرهقاً.
قال: قلت: جُعلت فداك؛ فما المرهق؟ قال: المذنب؛ فأمّا الذين اتّقوا من شيعتنا فقد نجّاهم الله بمفازتهم لا يمسّهم السوء و لا هم يحزنون. قال: ثمّ جاءته جارية له فقالت: إنّ فلاناً القرشيّ بالباب، فقال ائذنوا له، ثمّ قال لنا: اسكتوا.۱
رواية ذرعة بن سماعة في الشفاعة
و روى عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره في ذيل الآية الشريفة السابقة، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن ذرعة بن سماعة، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، قال: سألتُه عن شفاعة النبيّ صلّى الله عليه و آله يوم القيامة، فقال:
يُلْجِمُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ العَرَقُ فَيَقُولُونَ: انْطَلِقُوا بِنَا إلَى آدَمَ لَيَشْفَعَ لَنَا عِنْدَ رَبِّهِ، فَيَنْطَلِقُونَ إلَى آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمَ اشْفَعْ لَنَا عِندَ رَبِّكَ! فَيَقُولُ: إنَّ لي ذَنْباً وَ خَطِيئَةً، فَعَليْكُمْ بِنوُحٍ؛ فَيَأتُونَ نُوحاً فَيَرُدُّهمْ إلَى الذي يَلِيهِ، وَ يَرُدُّهُمْ كُلُّ نَبِيّ إلَى مَن يَلِيهِ حَتَّى يَنْتَهُوا إلَى عِيسَى، فَيَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ! فَيَعْرضُونَ أنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ وَ يَسْألُونَهُ، فَيَقُولُ: انْطَلِقُوا! فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ إلَى بَابِ الجَنَّةِ وَ يُسْتَقْبِلُ بَابَ الرَّحْمَنِ وَ يَخِرُّ سَاجِداً فَيَمْكُثُ
مَا شَاءَ اللهُ. فَيَقُولُ اللهُ: ارْفَعْ رَأسَكَ! وَ اشْفَعْ تُشَفَّعْ! وَ سَلْ تُعْطَ ذَلِكَ! وَ هُوَ قَوْلُهُ: «عَسَى أن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً محْمُوداً».۱
و قد نوّهنا سابقاً بكثرة الروايات الواردة عن الشيعة و العامّة في تفسير آية: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً. و قد أوردنا في المجلس الستّين من هذه الدورة رواية عن «المستدرك» للحاكم عن أبي هريرة و حذيفة بن اليمان تقارب في مضمونها رواية ذرعة بن سماعة.
و قد روى عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره حديثاً آخر أعقب هذا الحديث، و ذلك عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير، عن معاوية بن هشام، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: لَوْ قُمْتُ المَقَامَ المَحْمُودَ لَشَفَعْتُ في أبي وَ امِّي وَ عَمِّي وَ أخٍ كَانَ لي في الجَاهِلِيَّةِ.٢
و روى العيّاشيّ في تفسيره، عن محمّد بن حكيم، عن الإمام الصادق عليه السلام رواية تماثلها في المضمون.٣
و روي عن صفوان، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: إنِّي أسْتَوْهِبُ مِنْ رَبِّي أرْبَعَةً: آمِنَةَ بِنْتَ وَهَبٍ؛ وَ عَبْد اللهِ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ؛ وَ أبَا طَالِبٍ؛ وَ رَجُلًا جَرَتْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ أُخوَّةٌ، وَ طَلَبَ إلَيّ أنْ أطْلُبَ إلَى رَبِّي أنْ يَهَبَهُ لي.٤
إحالة الأنبياء الناسَ إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله في الشفاعة
و روى العيّاشيّ في تفسيره روايتين تماثلان الرواية التي نقلناها عن خيْثَمة في إحالة الأنبياء بعضهم على بعض، وصولًا إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله؛ أولاهما عن عَيْص بن القاسم، عن الصادق عليه السلام،۱ و الثانية عن سماعة بن مهران، عن الصادق عليه السلام.٢
و أورد البحرانيّ في «تفسير البرهان» جميع هذه الروايات التي نقلناها عن «تفسير العيّاشيّ».٣
و يروي فرات بن إبراهيم في تفسيره عن محمّد بن القاسم بن عبيد معنعناً عن بشر بن شريح البصريّ، قال:
قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: أيَّةُ آيَةٍ في كِتَابِ اللهِ أرْجَى؟
قَالَ: مَا يَقُولُ فِيهَا قَوْمُكَ؟
قَالَ: قُلْتُ: يَقُولُونَ: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ».
قَالَ: لَكِنَّا -أهْلَ البَيْتِ- لَا نَقُولُ ذَلِكَ!
قَالَ: قُلْتُ: فَأيّ شَيءٍ تَقُولُونَ فِيهَا؟
قَالَ: نَقُولُ: «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى»: الشَّفَاعَةُ؛ وَ اللهِ الشَّفَاعَةُ؛ وَ اللهِ الشَّفَاعَةُ.٤
و قد وردت روايات كثيرة في مقامات و درجات رسول الله محمّد صلّى الله عليه و آله، و شفاعته و توسّل جميع الأنبياء به و احتياجهم له، من
ضمنهم آدم و نوح و إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السلام، سواء في الدنيا أم في الآخرة.
و يستفاد من الآيات و الروايات أنّ للنبيّ درجة في القرب تجعل جميع الخلائق -حتّى الأنبياء و الأولياء- يفتقرون إليه ليأخذ بأيديهم في السير و السلوك إلى الله، و في رفع موانع الطريق و عقباته و مشكلاته، و في الشفاعة الدنيويّة و الاخرويّة، و التكوينيّة و التشريعيّة.
و كان الأنبياء أُولو العزم الذين بُعث كلّ منهم بكتاب و شريعة، يتوسّلون بالنبيّ و يُقسمون على الله به، و يتشفّعون به و بأهل بيته من أجل أن يُنزل الله -ببركتهم- رحمته على اولئك الأنبياء.
الشفاعة المطلقة لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في إنجيل برنابا
إنجيل برنابا و احتياج جميع الأنبياء إلى شفاعة رسول الله
يُعدّ إنجيل برنابا أكثر الأناجيل إتقاناً،۱ و قد وردت البشارة في عدّة
مواضع من هذا الإنجيل بقدوم محمّد رسول الله و نبوّته، كما ورد في موضعينِ من هذا الإنجيل -مضافاً إلى ما سبق- التصريح بمقام شفاعة النبيّ في يوم الجزاء، و احتياج جميع الأنبياء و الخلائق إلى إعانته و شفاعته و رحمته.
الموضع الأوّل: في الفصل الرابع و الخمسين -ب-، أي في سورة القيامة، حيث يورد بعض المطالب، حتّى يصل إلى الآية السابعة، فيقول:
۷- ثم يُحيي الله بعد ذلك سائر أنبيائه الذين سيأتون جميعهم تابعين لآدم.
۸- فيقبّلون يد رسول الله واضعين أنفسهم في كنف حمايته.
٩- ثمّ يُحيي الله بعد ذلك سائر الأصفياء الذين يصرخون: اذْكُرْنَا يَا مُحَمَّد.
۱۰- فتتحرّك الرحمة في رسول الله لصراخهم.
۱۱- و ينظر فيما يجب فعله خائفاً لأجل خلاصهم.
۱٢- ثمّ يُحيي اللهُ بعد ذلك كلّ مخلوق فتعود إلى وجودها الأوّل.
۱٣- و سيكون لكلّ منها قوّة النطق علاوة.
۱٤- ثمّ يُحيي الله بعد ذلك المنبوذين كلّهم، الذين عند قيامتهم يخاف سائر خلق الله بسبب قُبح منظرهم.
۱٥- و يصرخون: «أيّها الربّ إلهنا! لا تدعنا من رحمتك».
۱٦- و بعد هذا يقيم الله الشيطان الذي سيصير كلّ مخلوق عند النظر إليه كميّت خوفاً من منظره المريع.
۱۷- ثمّ قال يَسُوع: «أرجو الله أن لا أرى هذه الهولة في ذلك اليوم».
۱۸- إنّ رسول الله وحده لا يتهيّب هذه المناظر، لأنّه لا يخاف إلّا الله وحده.
و بعد عدّة آيات، يقول في الفصل الخامس و الخمسين «د» و هو سورة القيامة:
۱- و يذهب رسول الله ليجمع كلّ الأنبياء الذين يكلّمهم راغباً إليهم أن يذهبوا معه ليضرعوا إلى الله لأجل المؤمنين.
٢- فيعتذر كلّ أحد خوفاً.
٣- و لعمر الله إنّي أنا أيضاً لا أذهب إلى هناك، لأنّي أعرف ما أعرف.
٤- و عند ما يرى الله ذلك يذكّر رسوله كيف أنّه خلق كلّ الأشياء محبّة له.
٥- فيذهب خوفه و يتقدّم إلى العرش بمحبّة و احترام و الملائكة ترنّم: «تبارك اسمك القدّوس يا الله إلهنا».
۷- و متى صار على مقربة من العرش يفتح الله لرسوله كخليلٍ لخليله بعد طول الأمد على اللقاء.
۸- و يبدأ رسول الله بالكلام أوّلًا فيقول: «إنّي أعبدك و أحبّك يا إلهيّ».
٩- و أشكرك من كلّ قلبي و نفسي.
۱۰- لأنّك أردتَ فخلقتني لأكون عبدك.
۱۱- و خلقتَ كلّ شيء حبّاً في، لأحبّك لأجل كلّ شيء و في كلّ شيء و فوق كلّ شيء.
۱٢- فليحمدك كلّ خلائقك يا إلهي.
۱٣- حينئذٍ تقول كلّ مخلوقات الله: «نشكرك يا ربّ و تبارك اسمك القدّوس».
۱٤- الحقّ أقول لكم إنّ الشياطين و المنبوذين مع الشيطان يبكون حينئذٍ، حتّى أنّه ليجري من الماء من عين الواحد منهم أكثر ممّا في الاردن.
۱٥- و مع هذا فلا يرون الله.
۱٦- و يكلّم الله رسوله قائلًا: «مرحباً بك يا عبدي الأمين
۱۷- فاطلبْ ما تريد تَنَلْ كلّ شيء».
۱۸- فيجيب رسول الله: «يا ربّ! أذكرُ أنّك لمّا خلقتني قلتَ إنّك أردتَ أن تخلق العالم و الجنّة و الملائكة و الناس حبّاً في ليمجّدوك بي أنا عبدك.
۱٩- لذلك أضرع إليك أيّها الربّ الإله الرحيم العادل أن تذكر وعدك لعبدك».
٢۰- فيجيب الله كخليل يمازح خليله و يقول: «أ عندك شهود على هذا يا خليلي محمّد؟».
٢۱- فيقول باحترام: «نعم يا ربّ».
٢٢- فيقول الله: «اذهب وادعهم يا جبريل».
٢٣- فيأتي جبريل إلى رسول الله و يقول: «مَن هم شهودك أيّها السيّد؟».
٢٤- فيجيب رسول الله: «هم آدم و إبراهيم و إسماعيل و موسى و داود و يسوع ابن مريم».
٢٥- فينصرف الملاك و ينادي الشهود المذكورين الذين يحضرون
إلى هناك خائفين.
٢٦- فمتى حضروا يقول لهم الله: «أ تذكرون ما أثبته رسولي؟».
٢۷- فيجيبون: «أي شيء يا ربّ؟».
٢۸- فيقول الله: «إنّي خلقتُ كلّ شيء حبّاً فيه ليحمدني كلّ الخلائق به».
٢٩- فيجيب كلّ منهم: «عندنا ثلاثة شهود أفضل منّا يا ربّ».
٣۰- فيجيب الله: «و من هم هؤلاء الشهود الثلاثة؟».
٣۱- فيقول موسى: «الأوّل الكتاب الذي أعطيتنيه».
٣٢- و يقول الذي يكلّمكم: «يا ربّ! إنّ العالم كلّه أغراه الشيطان فقال إنّي كنت ابنك و شريكك».
٣٣- و لكنّ الكتاب الذي أعطيتنيه قال حقّاً إنّي أنا عبدك.
٣٤- و يعترف ذلك الكتاب بما أثبتَه رسولك.
٣٥- فيتكلّم حينئذٍ رسول الله و يقول: «هكذا يقول الكتاب الذي أعطيتنيه يا ربّ».
٣٦- فعند ما يقول رسول الله هذا، يتكلّم الله قائلًا: «إنّ ما فعلتُ الآن إنّما فعلتُه ليعلم كلّ أحد مبلغ حبّي لك».
٣۷- و بعد أن يتكلّم هكذا يعطي الله رسوله كتاباً مكتوباً فيه أسماء كلّ مختاري الله.
٣۸- لذلك يسجد كلّ مخلوق للّه قائلًا: «لك وحدك اللهم المجد و الإكرام، لأنّك وهبتنا لرسولك».
الثاني: في الفصل السادس و الثلاثين بعد المائة، حيث يذكر عدّة آيات إلى أن يصل إلى الآية الثامنة:
۸- «بيد أنّ ما لا مشاحة فيه أنّ الأطهار و أنبياء الله إنّما يذهبون إلى
هناك ليشاهدوا، لا ليكابدوا عقاباً».
٩- «أمّا الأبرار، فإنّهم لا يكابدون إلّا الخوف.
۱۰- «و ما ذا أقول؟ أفيدكم أنّه حتّى رسول الله يذهب إلى هناك ليشاهد عدل الله.
۱۱- فترتعد ثمّة الجحيم لحضوره.
۱٢- «و بما أنّه ذو جسد بشريّ يُرفع العقاب عن كلّ ذي جسد بشريّ من المقضي عليهم بالعقاب، فيمكث بلا مكابدة عقاب مدّة إقامة رسول الله لمشاهدة الجحيم.
۱٣- و لكنّه لا يُقيم هناك إلّا طرفة عين.
۱٤- «و إنّما يفعل الله هذا ليعرف كلّ مخلوق أنّه نال نفعاً من رسول الله.
۱٥- و متى ذهب إلى هناك ولولت الشياطين و حاولت الاختباء تحت الجمر المتّقد قائلًا بعضهم لبعض: «اهربوا اهربوا، فإنّ عدوّنا محمّداً قد أتي».
۱٦- فمتى سمع الشيطان ذلك يصفع وجهه بكلتا كفّيه و يقول صارخاً: «ذلك بالرغم عنّي لاشرف مني و هذا إنّما فعل ظلماً».
۱۷- أمّا ما يختصّ بالمؤمنين الذين كان لهم اثنان و سبعون درجة مع أصحاب الدرجتينِ الاخريينِ الذين كان لهم إيمان بدون أعمال صالحة إذ كان الفريق الأوّل حزيناً على الأعمال الصالحة و الآخر مسروراً بالشرّ، فسيمكثون جميعاً في الجحيم سبعين ألف سنة.
۱۸- و بعد هذه السنين يجيء الملاك جبريل إلى الجحيم و يسمعهم يقولون: «يا محمّد! أين وعدك لنا؟ إنّ من كان على دينك لا يمكث في الجحيم إلى الأبد».
۱٩- فيعود حينئذٍ ملاك الله إلى الجنّة، و بعد أن يقترب من رسول الله باحترام يقصّ عليه ما سمع.
٢۰- فحينئذٍ يكلّم الرسولُ الله قائلًا: «ربّي و إلهي اذكرْ وعدك لي أنا عبدك بأن لا يمكث الذين قبلوا ديني في الجحيم إلى الأبد».
٢۱- فيجيب الله: «اطلبْ ما تريد يا خليلي لأنّي أهبك كلّ ما تطلب!»
الفصل السابع و الثلاثون بعد المائة:
۱- فحينئذٍ يقول رسول الله: «يا ربّ! يوجد من المؤمنين في الجحيم من لبث سبعين ألف سنة.
٢- أين رحمتك يا ربّ؟
٣- إنّي أضرع إليك يا ربّ أن تعتقهم من هذه العقوبات بالمرّة».
٤- فيأمر الله حينئذٍ الملائكة الأربعة المقرّبين للّه أن يذهبوا إلى الجحيم و يُخرجوا كلّ من على دين رسوله و يقودوه إلى الجنّة.
٥- و هو ما سيفعلونه.
٦- و يكون من مبلغ جدوى دين رسول الله أنّ كلّ من آمن به يذهب إلى الجنّة بعد العقوبة التي تكلّمت عنها حتّى و لو لم يعمل عملًا صالحاً، لأنّه مات على دينه.
۱
أجل، فقد كانت مطالب إنجيل برنابا حول شفاعة رسول الله صلّى الله عليه و آله مفصّلة و مؤيِّدة في مضمونها للآية القرآنيّة الكريمة
و للروايات الواردة عن طريق أهل البيت و العامّة. لذا، فقد نقلنا مطالب الإنجيل بكاملها على الرغم من تفصيلها، من أجل أن تصبح درجات رسول الله و مقاماته عند الله المتعال مشهودةً جليّة، و ليتبيّن بوضوح أمر افتقار جميع الأنبياء إليه وَ الحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.
أجل، فحين يكون رسول الله واسطةً في خلق عالم التكوين و سبباً في نشوء المُلك و الملكوت، فما العجب في أن ينال مقام الشفاعة في عالم الشرع و الشريعة، و أن يكون علّة ارتقاء مقام الأبرار و درجاتهم، و باعثاً على شمول الأشرار و التعساء بالغفران و العفو.
و قد وردت عن طريق الشيعة روايات متضافرة في أنّ الوجود المقدّس لرسول الله صلّى الله عليه و آله و الأئمّة عليهم السلام و الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها في عالم المعنى و النفس المجرّدة، هو بنفسه الحجاب الأقرب للّه جلّ شأنه، و واسطة في إفاضة الرحمة على عالم الوجود. و قد ذكرنا بعض تلك الروايات في أجزاء «معرفة الإمام» من سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة. كما أوردنا هنا -للمناسبة- بعض الروايات الواردة عن طريق العامّة.
و قد استشهد العلّامة الشيخ عبد الحسين الأمينيّ في كتابه «الغدير» بالقصيدة الغديريّة للقاضي نظام الدين۱ التي مطلعها:
لِلَّهِ دَرُّكُمُ يَا آلَ يَاسِينَا | *** | يَا أنْجُمَ الحَقِّ أعْلَامَ الهُدَى فِينَا |
لَا يَقْبَلُ اللهُ إلَّا في مَحَبَّتِكُمْ | *** | أعْمَالَ عَبْدٍ وَ لَا يَرْضَى لَهُ دِينَا |
أرْجُو النَّجَاةَ بِكُمْ يَوْمَ المَعَادِ وَ إن | *** | جَنَتْ يَدَايَ مِنَ الذَّنْبِ الأفَانِينَا |
حتّى يصل إلى قوله:
لأجْلِ جَدِّكُمُ الأفْلَاكُ قَدْ خُلِقَتْ | *** | لَوْلَاهُ مَا اقْتَضَتِ الأقْدَارُ تَكْوِينَا |
و القصيدة من اثنتين و أربعين بيتاً، و قد أوردها القاضي نور الله في «مجالس المؤمنين» ص ٢٢٦:
و يقول المرحوم الأمينيّ في شرح البيت الأخير الذي ذكرناه: «أشار إلى ما أخرجه الحاكم و صحّحه في «المستدرك» ج ٢، ص ٦۱٥، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:
أوْحَى اللهُ إلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا عِيسَي! آمِنْ بِمُحَمَّدٍ وَ أمُرْ مَن أدْرَكَهُ مِنْ امَّتِكَ أنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَلَوْ لَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُ آدَمَ، وَ لَوْ لا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُ الجَنَّةَ وَ النَّارَ، وَ لَقَدْ خَلَقْتُ العَرْشَ عَلَى المَاءِ فَاضْطَرَبَ فَكَتَبْتُ عَلَيْهِ: «لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ» فَسَكَنَ.
و ذكره السبكيّ في «شفاء السقام» ص ۱٢۱، و أقرّ صحّته. و كذلك الزرقانيّ في «شرح المواهب» ج ۱، ص ٤٤، قال: أخرجه أبو الشيخ في «طبقات الأصبهانيّين» و صحّحه الحاكم و أقرّه السبكيّ و البلقينيّ في فتاواه.
و أخرج الحاكم بعده حديثاً و صحّحه، و فيه نحو دلالة على ما نرتئيه، و لفظه:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: لَمَّا اقْتَرَفَ آدَمُ الخَطِيئَةَ قَالَ: يَا رَبِّ! أسْألُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ لَمَّا غَفَرْتَ لي. فَقَالَ اللهُ: يَا آدَمُ! وَ كَيْفَ عَرَفْتَ مُحَمَّداً وَ لَمْ أخْلُقْهُ؟! قَالَ: يَا رَبِّ! لأنَّكَ لَمَّا خَلَقْتَنِي بِيَدِكَ وَ نَفَخْتَ في مِنْ رُوحِكَ رَفَعْتُ رَأسِي فَرَأيْتُ عَلَى قَوَائِمِ العَرْشِ مَكْتُوباً: «لَا إلَهَ إلَّا
اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ» فَعَلِمْتُ أنَّكَ لَمْ تُضِفْ إلَى اسْمِكَ إلَّا أحَبَّ الخَلْقِ إلَيْكَ.
فَقَالَ اللهُ: صَدَقْتَ يَا آدَمُ، إنَّهُ لأحَبُّ الخَلْقِ إلَيّ. ادْعُنِي بِحَقِّهِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، وَ لَوْ لا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ!
و أخرجه البيهقيّ في «دلائل النبوّة» و هو الكتاب الذي قال فيه الذهبيّ: عليك به فكلّه هدى و نور؛ و الطبرانيّ في «المعجم الصغير»؛ و أقرّ صحّته السبكيّ في «شفاء السقام» ص ۱٢۰؛ و السمهوديّ في «وفاء الوفاء» ص ٤۱٩؛ و القسطلانيّ في «المواهب اللدنيّة»؛ و الزرقانيّ في شرحه، ج ۱، ص ٤٤؛ و العزّاميّ في «فرقان القرآن» ص ۱۱۷.
كتبنا هذا المختصر لإيقاف القارئ على بطلان ما لابن تيميّة و مَن غزل غزله أمثال «القصيميّ» من جلبةٍ و لغطٍ حتّى يكون على بصيرةٍ من فضل النبيّ الأقدس صلّى الله عليه و آله و سلّم.۱
قصيدة البردة و وصف البوصيريّ لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم
و نجد من المناسب أن نورد في هذا المجال عدّة أبيات من قصيدة البُردة٢ من إنشاء البوصيريّ، و مطلعها:
أ مِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ | *** | مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقلَةٍ بِدَمِ |
لتستمدّ الأرواحُ القوّة بذكر رسول الله:
مُحَمَّدٌ سَيِّدُ الكَوْنَيْنِ وَ الثَّقَلَيْنِ | *** | وَ الفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ وَ مِنْ عَجَمِ |
نَبِيُّنَا الآمِرُ النَّاهِي فَلَا أحَدٌ | *** | أبَرَّ في قَوْلِ لَا مِنْهُ وَ لَا نَعَمِ |
هُوَ الحَبِيبُ الذي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ | *** | لِكُلِّ هُوْلٍ مِنَ الأهْوَالِ مُقْتَحِمِ |
دَعَا إلَى اللهِ فَالْمُسْتَمْسِكُونَ بِهِ | *** | مُسْتَمْسِكُونَ بِحَبْلٍ غَيْرِ مُنْفَصِمِ |
فَاقَ النَّبِيِّينَ في خَلْقٍ وَ في خُلُقٍ | *** | وَ لَمْ يُدَانُوهُ في عِلْمٍ وَ لَا كَرَمِ |
وَ كُلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ | *** | غَرْفاً مِنَ البَحْرِ أوْ رَشْفاً مِنَ الدِّيَمِ |
وَ وَاقِفُونَ لَدَيْهِ عِنْدَ جَدِّهِمُ | *** | مِنْ نُقْطَةِ العِلْمِ أوْ مِنْ شَكْلَةِ الحِكَمِ |
فَهُوَ الذي تَمَّ مَعْنَاهُ وَ صُورَتُهُ | *** | ثُمَّ اصْطَفَاهُ حَبِيباً بَارِئُ النَّسَمِ |
مُنَزَّهٌ عَنْ شَرِيكٍ في مَحَاسِنِهِ | *** | فَجَوْهَرُ الحُسْنِ فِيهِ غَيْرُ مُنْقَسِمِ |
دَعْ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى في نَبِيِّهِمُ | *** | وَ احْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحاً فِيهِ وَ احْتَكِمِ |
فَانْسِبْ إلَى ذَاتِهِ مَا شِئْتَ مِنْ شَرَفٍ | *** | وَ انْسِبْ إلَى قَدْرِهِ مَا شِئْتَ مِنْ عِظَمِ |
فَإنَّ فَضْلَ رَسُولِ اللهِ لَيْسَ لَهُ | *** | حَدٌّ فَيُعْرِبُ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ |
لَو نَاسَبَتْ قَدْرَهُ آيَاتُهُ عِظَماً | *** | أحْيَى اسْمُهُ حِينَ يُدْعَى دَارِسَ الرَّمَمِ |
لَمْ يَمْتَحِنَّا بِمَا تَعْيَى العُقُولُ بِهِ | *** | حِرْصاً عَلَيْنَا وَ لَمْ نَرْتَبْ وَ لَمْ نَهِمِ |
أعْمَى الوَرَى فَهْمُ مَعْنَاهُ فَلَيْسَ يُرَى | *** | في القُرْبِ وَ البُعْدِ مِنْهُمْ غَيْرُ مُنْفَخِم |
كَالشَّمْسِ تَظْهَرُ لِلْعَيْنَيْنِ مِنْ بُعْدٍ | *** | صَغِيرَةً وَ تُكِلُّ الطَّرْفِ مِنْ أمَمِ |
وَ كَيْفَ يُدْرِكُ في الدُّنْيَا حَقِيقَتَهُ | *** | قَوْمٌ نِيَامٌ تَسَلُّوا عَنْهُ بِالحُلُمِ |
فَمَبْلَغُ العِلْمِ فِيهِ أنَّهُ بَشَرٌ | *** | وَ أنَّهُ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ كُلِّهِمِ |
وَ كُلُّ أي أتَى الرُّسلُ الكِرَامُ بِهَا | *** | فَإنَّهَا اتَّصَلَتْ مِنْ نُورِهِ بِهِمِ |
فَإنَّهُ شَمْسُ فَضْلٍ هُمْ كَوَاكِبُهَا | *** | يُظْهِرْنَ أنْوَارَهَا لِلنَّاسِ في الظُّلَمِ |
المَجْلِسُ الثَّانِي وَ السِّتُّونَ: أصْنَافُ الشُّفَعاءِ في يَوْمِ القِيامَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.۱
حان الوقت لنشرع -بحول الله و قوّته- في البحث في أصناف الشفعاء.
شفاعة النبيّ و الأئمّة و فاطمة الزهراء سلام الله عليهم
من جملة الشفعاء يوم القيامة: النبيّ الأكرم و الخمسة الطيّبة و الأئمّة بالحقّ و الصدّيقة الكبرى سلام الله عليهم أجمعين.
و قد جاء في الآيات القرآنيّة:
وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (ذكراً كعيسى، أو إناثاً كالملائكة) سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ، يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ
خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ.۱
لقد قالت النصارى بأنّ عيسى هو ابن الله، و قالت اليهود عزير ابن الله، و قال مشركو الجاهليّة: الملائكة بنات الله. فجاءت الآية في إطلاقها لتعدّ صنفَي الأنبياء و الملائكة عباداً للّه مكرّمين و قد اعطوا -إجمالًا- مقام الشفاعة.
كما أنّ الآية: وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ،٢ دالّة على شفاعة الأنبياء و الأئمّة و المعصومين و الملائكة؛ و لهاتين الآيتين عموميّة في الدلالة، و تشملان الملائكة و الأنبياء و الصدّيقين على نحو العموم.
الروايات الواردة في شفاعة الأئمّة و الزهراء عليهم السلام
روى الصدوق في «الأمالي» عن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي قلابة عبد الملك بن محمّد، عن غانم بن الحسن السعديّ، عن مسلم بن خالد بن مكّي، عن الإمام جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهما السلام، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال:
قَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: يَا أبَتَاهُ! أيْنَ ألْقَاكَ يَوْمَ المَوْقِفِ الأعْظَمِ وَ يَوْمَ الأهْوَالِ وَ يَوْمَ الفَزَعِ؟!
قَالَ: يَا فَاطِمَةُ عِنْدَ بَابِ الجَنَّةِ وَ مَعِي لِوَاءُ الحَمْدِ وَ أنَا الشَّفِيعُ لُامَّتِي إلَى رَبِّي.
قَالَت: يَا أبَتَاهُ! فَإن لَمْ ألْقَكَ هُنَاكَ؟
قَالَ: الْقِينِي عَلَى الصِّرَاطِ وَ أنَا قَائِمٌ أقُولُ: رَبِّ! سَلِّمْ امَّتِي!
قَالَتْ: فَإنْ لَمْ ألْقَكَ هُنَاكَ؟
قَالَ: الْقِيني وَ أنَا عِنْدَ المِيزَانِ، أقُولُ: رَبِّي سَلِّمْ امَّتِي.
قَالَتْ: فَإنْ لَمْ ألْقَكَ هُنَاكَ؟
قَالَ: الْقِيني عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ أمْنَعُ شَرَرَهَا وَ لَهَبَهَا عَنْ امَّتِي!
فَاسْتَبْشَرَتْ فَاطِمَةُ بِذَلِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهَا وَ عَلَى أبِيهَا وَ بَعْلِهَا وَ بَنِيهَا.۱
كما روى في «الأمالي» عن أحمد بن زياد بن جعفر الهمدانيّ، عن عليّ بن إبراهيم، عن جعفر بن سلمة الأهوازيّ، عن إبراهيم بن محمّد الثقفيّ، عن إبراهيم بن موسى ابن اخت الواقديّ، عن أبي قتادة الحرّانيّ، عن عبد الرحمن بن علاء الحضرميّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن ابن عبّاس، قال:
إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ كَانَ جَالِساً ذَاتَ يَوْمٍ وَ عِنْدَهُ عَلِيّ وَ فَاطِمَةُ وَ الحَسَنُ وَ الحُسَيْنُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ: اللهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أنّ هَؤُلَاءِ أهْلُ بَيْتِي وَ أكْرَمُ النَّاسِ عَلَيّ، فَأحْبِبْ مَنْ أحَبَّهُمْ وَ أبْغِضْ مَنْ أبْغَضَهُمْ وَ وَالِ مَنْ وَالاهُمْ، وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُمْ، وَ أعِنْ مَنْ أعَانَهُمْ وَ اجْعَلْهُمْ مُطَهَّرِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ، مَعْصُومِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَ أيِّدْهُمْ بِرُوحِ القُدُسِ مِنْكَ.
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: يَا عَلِيُّ! أنْتَ إمَامُ امَّتِي وَ خَلِيفَتِي عَلَيْهَا بَعْدِي، وَ أنْتَ قَائِدُ المُؤْمِنِينَ إلَى الجَنَّةِ. وَ كَأنِّي أنْظُرُ إلَى ابْنَتِي فَاطِمَةَ قَدْ أقْبَلَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى نَجِيبٍ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِهَا سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ،
وَ عَنْ يَسَارِهَا سَبْعُونَ ألفَ مَلَكٍ، تَقُودُ مُؤْمِنَاتِ امَّتِي إلَى الجَنَّةِ. فَأيَّمَا امْرَأةٍ صَلَّتْ في اليَوْمِ وَ اللَّيْلَةِ خَمْسَ صَلَواتٍ، وَ صَامَتْ شَهْرَ رَمَضَانَ و حَجَّتْ بَيْتَ اللهِ الحَرَامَ، وَ زَكَّتْ مَالَهَا. وَ أطَاعَتْ زَوْجَهَا، وَ وَالَتْ عَلِيَّاً بَعْدِي، دَخَلَتِ الجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ ابْنَتِي فَاطِمَةَ، وَ إنَّهَا لَسَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالَمِينَ.
فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أ هِيَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِهَا؟! فَقَالَ: ذَاكَ لِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ. فَأمَّا ابْنَتِي فَاطِمَةُ فَهِي سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالَمِينَ مِنَ الأوَّلِينَ وَ الآخِرِينَ، وَ إنَّهَا لَتَقُومُ في مِحْرَابِهَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ مِنَ المَلَائِكَةِ المُقَرَّبِينَ، وَ يُنَادُونَهَا بِمَا نَادَتْ بِهِ المَلَائِكَةُ مَرْيَمَ؛ فَيَقُولُونَ: يَا فَاطِمَةُ! إنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ! إنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي! وَ هِيَ نُورُ عَيْنِي وَ ثَمَرَةُ فُؤَادِي، يَسُوؤُنِي مَا سَاءَهَا، وَ يَسُرُّنِي مَا سَرَّهَا، وَ إنَّهَا أوَّلُ مَنْ يَلْحَقُنِي مِنْ أهْلِ بَيْتِي، فَأحْسِنْ إلَيْهَا بَعْدِي، وَ أمَّا الحَسَنُ وَ الحُسَيْنُ فَهُمَا ابْنَايَ وَ رَيْحَانَتَايَ، وَ هُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَكْرُمَا عَلَيْكَ كَسَمْعِكَ وَ بَصَرِكَ.
ثُمَّ رَفَعَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: اللهُمَّ إنِّي اشْهِدُكَ أنِّي مُحِبٌّ لِمَنْ أحَبَّهُمْ وَ مُبْغِضٌ لِمَنْ أبْغَضَهُمْ وَ سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُمْ وَ حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَهُمْ وَ عَدُوٌّ لِمَنْ عَادَاهُمْ وَ وَلِيّ لِمَنْ وَالاهُمْ.۱
توسّل الأنبياء بالخمسة الطيّبة
و قد وردت أخبار جمّة في أنّ الأنبياء مطلقاً و الأصفياء منهم مثل آدم أبي البشر و داود و شعيب و أيّوب و لوط و إدريس، و الأنبياء ذوي العزم
كنوح و إبراهيم و موسى و عيسى كانوا يتوسّلون بخاتم النبيّين محمّد بن عبد الله و بأمير المؤمنين على و بفاطمة و بالحسن و الحسين، و يستعينون بتلك الأرواح المنيرة في حلّ ما يعترضهم من مشكلات، و في نيل الغفران و ارتقاء الدرجات.
و بالتأكيد فذلك نابع من علوّ مقام الخمسة الأطهار و نورانيّتهم المعنويّة و الملكوتيّة، بحيث وجد الأنبياء أنفسهم مجبرين على الاستمساك بهذه الآيات الإلهيّة في التجائهم و تضرّعهم إلى ساحة الحضرة الأحديّة. و إلّا فمقام الخمسة الطيّبة ليس مقاماً اعتباريّاً و أمراً تشريفيّاً، إذ ليس لهذا النوع من الأمور الاعتباريّة سبيلًا إلى الحقائق.
و لقد جعلت تلك الأصالة و الواقعيّة، و تلك الطهارة المطلقة للذوات الخمس الطيّبة جميع السابقين و اللاحقين خاضعين أمامها، و ألجأتهم -للوصول إلى أعتاب قُرب الباري تعالى شأنه العزيز- إلى عبور الحجاب الأقرب و التجلّي الأعظم، و اضطرتهم إلى الاستعانة بهذه المرايا المضيئة للوصول إلى ظهور النور الأحديّ في مرايا قلوبهم.
و ببركة شفاعة الخمسة الطيّبة جعل الله تعالى النار برداً و سلاماً على إبراهيم، و أرسى سفينة نوح على الجودي بسلام، و قَلَب العصا في يد موسى ثعباناً مبيناً، ثمّ أعادها إلى حالتها الاولى، و كان طلوع أنوارهم هو الذي فتح باب التوحيد في وجه موسى من خلال نداء: «أنا الله»، و جذبه إلى وادي المعرفة. و هو الذي أنجاه -و الأسباط معه- من شرّ فرعون و الأقباط؛ و هو الذي شقّ الماء العُباب أمامهم طريقاً يَبَساً، و أغرق فرعون و جنوده.
و لقد كان نور الخمسة الطيّبة هو الذي منّ بالآيات و البيّنات على عيسى ابن مريم، فصار يُحيي الموتى و يشفي الأعمى و الأبرص. و بصورة عامّة فإنّ جميع الحالات المعنويّة في الخلوات الروحانيّة لجميع الأنبياء
و الأولياء، إنّما كان تحقّقها من خلال شفاعتهم و وساطتهم.
و بلحاظ البرهان الفلسفيّ، فمن المحال أن يتمكّن أحد من اجتياز مسافة على هيئة طفرة، و من المحال تحقّق عبور مراحل النفس وصولًا إلى طلوع نور التوحيد في السفر المعنويّ و الملكوتيّ لسالكي طريق الحقيقة دون الاستعانة بهذه الآيات الإلهيّة، هذا مع علمنا و تسليمنا من أنّهم هم الحجاب الأقرب و الاسم الأعظم و الآية الكبرى و مقام الجمع و بين البين.
و لقد وردت روايات كثيرة في هذا الشأن و بمضامين مختلفة، كما وردت بيانات كثيرة على لسان الأنبياء خطاباً لُاممهم. و قد أوردنا في المجلس السابق شرحاً لكلام المسيح عيسى ابن مريم في إنجيل برنابا في عظمة رسول الله و شفاعته. و نورد الآن شرحاً لدعاء النبيّ نوح على نبيّنا و آله و عليه السلام و توسّله بنورانيّة الخمسة الطيّبة استناداً إلى أخبار المكتشفات و الأسناد التأريخيّة الحيّة، نقلًا عن مجلّة «مكتب اسلام» (المدرسة الإسلاميّة). و نورد -رعاية للأمانة العلميّة في النقل- نصّ المطالب المدرجة في عدد المجلّة دونما زيادة أو نقصان،۱ من أجل توضيح المطلب لأصحاب النظر:
تقرير باحث الآثار الروسيّ عن سفينة نوح
توسّل النبيّ نوح بالخمسة أصحاب الكساء، و كتابته أسمائهم على
سند حيّ و تاريخيّ على
حقّانيّة الدين الإسلاميّ و مذهب التشيّع
تقرير شيّق لبعثة الآثار الروسيّة عن
سفينة النبيّ نوح
نشرت مجلّة (اتفاد نيزوب) الرسميّة الشهريّة الواسعة الانتشار في الاتّحاد السوفياتيّ تقريراً يُعدّ عجيباً عند أهل التأريخ القديم و الآثار،
و دليلًا قويّاً عند المتديّنين على عظمة قرآننا و عقائدنا الدينيّة. و قد تُرجمت تلك المقالة بالتعاقب من قِبَل العديد من الكتّاب الإنجليز، المصريّين و الباكستانيّين ... فنقلوا تلك المقالة من اللغة الروسيّة إلى الإنجليزيّة و العربيّة و الاوردو، و نشروها في المجلّات و الصحف المحلّيّة في بلدانهم.
و نورد خلاصة المقالة مع بيان أهمّيّتها العلميّة و الدينيّة، و نقدّمها إلى القرّاء الكرام.
كتبتْ المجلّة المذكورة في عددها الصادر في تشرين الثاني لسنة ۱٩٥٣، تقول:
«كان خبراء الآثار الروس مشغولين بأعمار الحفريّات و التنقيب في المنقطة المعروفة بـ «وادي قاف»۱ حين واجهوا في أعماق الأرض عدّة لوحات خشبيّة سميكة متآكلة، اتّضح فيما بعد أنّها كانت قطعاً من سفينة نوح قد دُفنت في أعماق الأرض قبل خمسة آلاف سنة تقريباً إثر التغييرات الأرضيّة و البحريّة. و قد لفتت هذه الألواح انظار باحثي الآثار
القديمة، و دفعتهم إلى مواصلة أعمال البحث و التنقيب طوال سنتين إضافيّتين، حتّى عثروا في نهاية الأمر، و في نفس المنطقة، على قطعة خشبيّة اخرى تمثّل لوحة على الهيئة الموجودة في الصفحة اللاحقة، و قد نُقش عليها عدّة سطور قديمة من أقدم الخطوط غير المعروفة.
بَيدَ أنّ ما يثير العجب، هو أنّ هذا اللوح الخشبيّ قد بقي سالماً دونما تأكل و دون أن يتحجّر، و هو الآن موجود في متحف موسكو معروض للسوّاح و المتفرّجين الذين يفدون من داخل البلاد و خارجها.
و قد شكّلت الإدارة العامّة للآثار القديمة في الاتّحاد السوفياتيّ إثر هذا الاكتشاف لجنة سباعيّة تضمّ أمهر خبراء الآثار و اللغات و الخطوط الروس و الصينيين للتحقيق في هذا النموذج و قراءة تلك النقوش. و هم السادة:
۱- البروفيسور سولي نوف، استاذ اللغات القديمة و الأثريّة في كلّيّة موسكو.
٢- إيفاهان خينو، عالم و استاذ اللغات في كلّيّة لولوهان الصينيّة.
٣- ميشانن لوفارنك، المدير العامّ للآثار القديمة في الاتّحاد السوفياتيّ.
٤- تانمول كورف، استاذ اللغات في كلّيّة كيفزو.
٥- البروفيسور دي راكن، استاذ اللغات القديمة في أكاديميّة لينين للعلوم.
٦- م. أحمد كولا، مدير التحقيقات و الاكتشافات العامّة في الاتّحاد السوفياتيّ.
۷- الميجر كولتوف، رئيس كلّيّة ستالين.
و قد أعدّت هذه اللجنة بعد ثمانية أشهر من التحقيق و المطالعة
و مقارنة حروف اللوح المذكور مع نماذج من سائر الخطوط و الكلمات القديمة، تقريراً بالإجماع و قدّمته إلى دائرة الآثار القديمة في الاتّحاد السوفياتيّ، جاء فيه:
۱- أنّ هذا اللوح المخطوط الخشبيّ هو من نفس جنس اللوحات الخشبيّة التي عُثر عليها في أعمال التنقيب السابقة؛ و هي بأجمعها متعلّقة بسفينة نوح؛ منتهى الأمر أنّ اللوح المذكور لم يتآكل كباقي الألواح، و بقي سالماً، الأمر الذي يجعل قراءة الخطوط المنقوشة عليه أمراً ممكناً.
٢- تنتمي حروف و كلمات العبارات المنقوشة إلى اللغة السامانيّة أو الساميّة التي تعدّ امّ اللغات، و تُنسب إلى سام بن نوح.
٣- أنّ معني هذه الحروف و الكلمات كما يلي:
يا إلهي! و يا ناصري!
أعني برحمتك و كرمك!
و لأجل هذه النفوس المقدّسة:
محمّد
إيليا (عليّ)
شَبَر (حَسَن)
شُبَيْر (حُسَيْن)
فاطمة
الأجلّاء الكرام بأجمعهم
العالم قائم ببركتهم.
أعِنِّي إكراماً لأسمائهم!
فأنتَ وحدك القادر على هدايتي إلى السبيل المستقيم.
ثمّ قام العالم الإنجليزيّ ن. ف. ماكس، استاذ اللغات القديمة في جامعة مانجستر بنقل الترجمة الروسيّة لهذه الكلمات إلى اللغة الإنجليزيّة، فنُشرت بنصّها في المجلّات و الجرائد التالية:
۱- مجلّة «ويكلي ميبرر» الاسبوعيّة في لندن، العدد ٢۸، كانون الأوّل ۱٩٥٣ م.
٢- مجلّة «اسْتار» الإنجليزيّة في لندن، عدد كانون الثاني ۱٩٥٤ م.
٣- مجلة «سن لايت» في مانجستر، عدد كانون الثاني ۱٩٥٤ م.
٤- جريدة «ويكلي ميبرر» العدد الأوّل، شباط ۱٩٥٤ م.
٥- جريدة «الهدي» القاهريّة، مصر، العدد ٣۰، مارس ۱٩٥٣ م.
ثمّ قام العالم و المحدّث الباكستانيّ الجليل الحكيم السيّد محمود
الجيلانيّ- و كان يشغل سابقاً مدير جريدة «أهل الحديث» الباكستانيّة، و كان من أهل العامّة، ثمّ انتمى بعد التحقيق إلى المذهب الشيعيّ- بترجمة ذلك التقرير إلى لغة الأردو في كتاب باسم «إيليا مركز نجات أديان عالم»۱ (/ إيليا (على) مركز نجاة أديان العالم). ثمّ نُقلت المقالة من لغة الاوردو إلى العربيّة و نشرت في مجلّة «بذرة النجف» في عددي شوّال و ذي القعدة لسنة ۱٣۸٥، السنة الاولى، ص ۷۸ إلى ۸۱، تحت عنوان: «الأسماء المباركة التي توسّل بها النبيّ نوح».
و يلزم هنا أن نلفت انظار القرّاء الكرام إلى عدّة نكات موجزة، ليزداد اعتقادهم بالقيمة العلميّة و التأريخيّة لهذا الاكتشاف الأثريّ:
۱- أنّ اكتشاف هذه القطع الخشبيّة و اللوح يشكّل إحدى دلائل الأصالة و الواقعيّة في قصص القرآن الكريم و الأحاديث الدينيّة التي تحدّثت بالتفصيل عن قصّة سفينة نوح و ما جرى لها، الأمر الذي ذكره المؤرّخون المسلمون و غير المسلمين.
٢- أن عقائد الشيعة في أهل البيت لا تنبع من الأهواء الشخصيّة لقادة الشيعة و مؤلّفيهم، بل هي مبتنية على سلسلة حقائق علميّة و وقائع تأريخيّة قد وجد الشيعة أنفسهم -معها- مجبرين على التسليم في التمسّك بتلك المعتقدات، فاختاروا -في النتيجة- اتّباع أهل البيت.
و من البديهي أنّ استعانة النبيّ نوح بأهل بيت الرسالة، و كتابته أسماءهم على السفينة أمر قد حصل قبل عدّة آلاف من السنين قبل نزول القرآن و ظهور الإسلام، و قبل انقسام المسلمين إلى الفرق المختلفة
المتضادّة من شيعة و سنّة، و لا يمكن تفسيره إلّا بكونه إشارة غيبيّة و إلهاماً من المبدأ الأعلى.
صحيح أنّ النبيّ نوح قد خطّ على اللوح الأسماء المقدّسة: محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم، عليّ عليه السلام، حسن عليه السلام، حسين عليه السلام، و فاطمة عليها السلام بعنوان دعاء، و استجلاباً للبركة، لكنْ ممّا يثير العجب هو هذا التنبّؤ من العصور الزمنيّة الغابرة المتمادية في القدم بشأن ظهور أهل بيت الوحي و الرسالة الذين ظهروا فعلًا على مسرح الوجود بعد حدود خمسة آلاف سنة بعد الطوفان۱.
و من الامور الشيّقة أنّ العثور على مثل هذا الأثر التأريخيّ القديم قد حصل في بلد لا دينيّ، و على يد أفراد غير مسلمين، و في محيطٍ قد تنكّر منذ نصف قرن للدين و الاعتقاد بالمبدأ و المعاد و الوحي و الرسالة، و نظر إلى العالم و حوادثه بمنظار مادّيّ محدود.
و لا يخفى أنّ ما حصل لهذا اللوح المحفوظ بلحاظ الأهمّيّة التي يحظى بها من قبل علماء الآثار المعاصرين، كذلك يحظى بأهمّيّة دينيّة و عقائديّة لدى المسلمين عموماً، و الشيعة خصوصاً.
تنبيه: المطالب الواردة في هذه المقالة مترجمة و مقتبسة عن مجلّة «بذرة النجف» و كتاب «قبس من القرآن» لعبد اللطيف الخطيب البغداديّ المطبوع سنة ۱٣۸٩ ه -في النجف- انتهى ما نقلناه من مجلّة «مكتب اسلام» العدد ٢. ۱٤٢٢
شفاعة الصدِّيقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها
يروي فرات بن إبراهيم في تفسيره عن سهل بن أحمد الدينوريّ، معنعناً عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما السلام قال: قال جابر لأبي جعفر عليه السلام: جُعلت فداك يا بن رسول الله، حدّثني بحديث في فضل جدّتك فاطمة عليها السلام، إذا أنا حدّثتُ به الشيعة فرحوا بذلك.
قال أبو جعفر: حدّثني أبي، عن جدّي، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: إذا كان يوم القيامة نُصِبَ للأنبياء و الرسل منابر من نور، فيكون منبري أعلى منابرهم يوم القيامة، ثمّ يقول الله: يَا مُحَمَّدُ! اخْطُبْ. فأخطب بخطبة لم يسمع أحد من الأنبياء و الرسل بمثلها؛ ثمّ يُنصَب للأوصياء منابر من نور و ينصب لوصيي عليّ بن أبي طالب في أوساطهم منبر من نور، فيكون منبره أعلى منابرهم. ثمّ يقول الله: يا عليّ! اخطبْ، فيخطب بخطبة لم يسمع أحد من الأوصياء بمثلها. ثمّ يُنصَب لأولاد الأنبياء و المرسلين منابر من نور، فيكون لا بنيّ و سبطيّ و ريحانتيّ أيّام حياتي منبر من نور، ثمّ يقال لهما: اخطبا، فيخطبان بخطبتين لم يسمع أحد من أولاد الأنبياء و المرسلين بمثلهما.
ثُمَّ يُنَادِي المُنَادِي، وَ هُوَ جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أيْنَ فَاطِمَةُ بِنْتُ
مُحَمَّدٍ؟ أيْنَ خَدِيَجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدْ؟ أيْنَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ؟ أيْنَ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ؟ أيْنَ امُّ كُلثُومَ امُّ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا؟ فيقمن، فيقول الله تبارك و تعالى: يا أهل الجمع لمن الكرم اليوم؟ فيقول مُحَمَّدٌ وَ عَلِيّ وَ الحَسَنُ وَ الحُسَيْنُ و فَاطِمَةُ: اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. فيقول الله جلّ جلاله: يا أهل الجمع! إنّي قد جعلتُ الكرم لمحمّد و عليّ و الحسن و الحسين و فاطمة. يا أهل الجمع طأطؤوا الرءوس و غضّوا الأبصار فإنّ هذه فاطمة تسير إلى الجنّة. فيأتيها جبرئيل بناقة من نوق الجنّة مدبّجة الجنبين، خطامها من اللؤلؤ المحقّق المرطّب، عليها رحل من المرجان، فتُناخ بين يديها فتركبها، فيبعث إليها مائة ألف ملك فيصيروا عن يمينها، و يبعث إليها مائة ألف ملك يحملونها على أجنحتهم حتّى يصيّروها عند باب الجنّة، فإذا صارت عند باب الجنّة تلتفت؛ فيقول الله:
يا بنت حبيبي! ما التفاتك و قد أمرتُ بك إلى جنّتي؟ فتقول: يا ربّ! أحببتُ أن يُعرف قدري في مثل هذا اليوم.
فيقول الله: يا بنت حبيبي! ارجعي فانظري مَن كان في قلبه حبّ لك أو لأحد من ذرّيّتك خُذي بيده فأدخليه الجنّة.
قال أبو جعفر: و اللهِ يا جابر، إنّها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها و محبّيها كما يلتقط الطير الحبّ الجيّد من الحبّ الرديء، فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنّة، يلقي الله في قلوبهم أن يلتفتوا. فإذا التفتوا يقول الله:
يا أحبّائي! ما التفاتكم و قد شفعت فيكم فاطمة بنت حبيبي؟ فيقولون: يا ربّ! أحببنا أن يعرف قدرنا في مثل هذا اليوم. فيقول الله: يا أحبّائي! ارجعوا و انظروا مَن أحبّكم لحبّ فاطمة، انظروا من أطعمكم لحبّ فاطمة، انظروا من كساكم لحبّ فاطمة، انظروا من سقاكم شربة في حبّ فاطمة، انظروا من ردّ عنكم غيبة في حبّ فاطمة، خذوا بيده و أدخلوه
الجنّة.
قال أبو جعفر: و الله لا يبقى في الناس إلّا شاكّ أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات، نادوا كما قال الله: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ، وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ،۱ فيقولون: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.٢
قال أبو جعفر: هيهات هيهات! منعوا ما طلبوا (وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).٣
و روى الصدوق في «علل الشرائع» عن ابن المتوكّل، عن سعد، عن ابن عيسى، عن ابن سنان، عن ابن مُسْكان، عن محمّد بن مسلم الثقفيّ قال: سمعتُ أبا جعفر (الباقر) عليه السلام يقول: لفاطمة عليها السلام وَقفة على باب جهنّم، فإذا كان يوم القيامة كُتب بين عيني كلّ رجل مؤمن أو كافر، فيؤمَر بمحبٍّ قد كثرت ذنوبه إلى النار، فتقرأ فاطمة بين عينيه محبّاً، فتقول: إلَهي وَ سَيِّدِي! سَمَّيْتَنِي فَاطِمَةَ وَ فَطَمْتَ بِي مَنْ تَوَلَّانِي وَ تَوَلَّى ذُرِّيَّتِي مِنَ النَّارِ! وَ وَعْدُكَ الحَقُّ وَ أنْتَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ.
فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: صَدَقْتِ يَا فَاطِمَةُ إنِّي سَمَّيْتُكِ فَاطِمَةَ٤ وَ فَطَمْتُ بِكِ مَن أحَبَّكِ وَ تَوَلَّاكِ وَ أحَبَّ ذُرِّيَّتِكِ وَ تَوَلَّاهُمْ مِنَ النَّارِ؛
وَ وَعْدِي الحَقُّ وَ أنَا لَا اخْلِفُ المِيَعَادَ. و إنّما أمرتُ بعبدي هذا إلى النار لتشفعي فيه فاشفّعك، و ليتبيّن لملائكتي و أنبيائيّ و رسلي و أهل الموقف موقفك منّي و مكانتك عندي، فمن قرأتِ بين عينيه مؤمناً فَخُذي بيده و أدخليه الجنّة.۱
شفاعة الأئمّة المعصومين عليهم السلام يوم القيامة
في «دعوات الراونديّ» عن سماعة بن مهران، قال:
قَالَ أبُو الحَسَنِ عَلَيهِ السَّلَامُ: إذَا كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ إلَى اللهِ فَقُلْ: اللهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَ عَلِيّ، فَإنَّ لَهُمَا عِنْدَكَ شَأناً مِنَ الشَّأنِ، وَ قَدْراً مِنَ القَدْرِ، فَبِحَقِّ ذَلِكَ الشَّأنِ وَ ذَلِكَ القَدْرِ أنْ تُصَلَّي عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ وَ أنْ تَفْعَلَ بِي كَذَا وَ كَذَا.
فَإنَّهُ إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ لَمْ يَبْقَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ وَ لَا مُؤْمِنٌ مُمْتَحَنٌ إلَّا وَ هُوَ يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا في ذَلِكَ اليَوْمِ.٢
و روى أحمد بن محمّد البرقيّ في «المحاسن» عن أبيه، عن سعدان ابن مسلم، عن معاوية بن وهب، قَالَ:
سَألْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ (الصَّادِق) عَلَيهِ السَّلَامُ عَنْ قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى: «لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً»، قَالَ: نَحْنُ -وَ اللهِ- المَأذُونُ لَهُمْ في ذَلِكَ اليَوْمِ وَ القَائِلُونَ صَوَاباً.
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، وَ مَا تَقُولُونَ إذَا تَكَلَّمْتُمْ؟
قَالَ: نُمَجِّدُ رَبَّنَا، وَ نُصَلِّي عَلَى نَبِيِّنَا، وَ نَشْفَعُ لِشِيعَتِنَا، فَلَا يَرُدُّنَا رَبُّنَا.٣
و قد نقل مولّف «كنز جامع الفوائد» هذه الرواية بإسناده عن سعدان، كما روى نظيرها في المضمون عن الإمام الكاظم عليه السلام.۱
و روى البرقيّ في «المحاسن» بنفس السند السابق، قال:
قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ: قَوْلُهُ: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ». (أي مَن هُم؟).
قال: نحن اولئك الشافعون.٢
و أورد العيّاشيّ هذه الرواية في تفسيره عن معاوية بن عمّار.٣
و في «مناقب ابن شهرآشوب» عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير آية:
«وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ»؛٤ قَالَ وَلَايَةُ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلَامُ.
وَ يُقَالُ: «أنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ» قَالَ: شَفَاعَةُ النَّبِيّ.
«وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ»:٥ شَفَاعَةُ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ؛ «أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ»:٦ شَفَاعَةُ الأئِمَّةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.۷
كما ورد في «المناقب» عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم [قال]:
إنِّي لأشْفَعُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَاشَفَّعُ؛ وَ يَشْفَعُ عَلِيّ فَيُشَفَّعُ؛ وَ يَشْفَعُ أهْلُ بَيْتِي فَيُشَفَّعُونَ.۱
و قد نقش الصاحب بن عباد على خاتمه:
شَفِيعُ إسْمَاعِيلَ في الآخِرَةِ | *** | مُحَمَّدٌ وَ العِتْرَةُ الطَّاهِرَةُ٢ |
و من الأشعار الواردة في خطاب أهل البيت و الثناء عليهم:
أعْطَاكُمُ اللهُ مَا لَمْ يُعْطِهِ أحَدا | *** | حَتَّى دُعِيتُمْ لِعِظْمِ الفَضْلِ أرْبَابا |
أشْبَاحُكُمْ كُنَّ في بَدْوِ الظِّلَالِ لَهُ | *** | دُونَ البَرِيَّةِ خُدَّاماً وَ حُجَّابَا |
وَ أنْتُمُ الكَلِمَاتُ اللاي لَقَّنَهَا | *** | جِبْرِيلُ آدَمَ عِنْدَ الذَّنْبِ إذْ تَابَا |
وَ أنْتُمُ قِبْلَةُ الدِّينِ التي جُعِلَتْ | *** | لِلقَاصِدِينَ إلَى الرَّحْمَنِ مِحْرَابَا٣ |
شفاعة الملائكة يوم القيامة
و من جملة الشفعاء يوم القيامة: الملائكة؛ قال تعالى:
وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى.٤
و قال تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا ، يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً.٥
و تدلّ هاتان الآيتان على شفاعة الملائكة و الآية الثانية أعمّ دلالة من الملائكة و الأنبياء و الأولياء، شأنها في ذلك شأن الآيتين اللتين أوردناهما
سابقاً للدلالة على شفاعة الأنبياء و الأئمّة، حيث كانت دلالتهما أعمّ من شفاعة الأنبياء و الأئمّة و الملائكة؛ و هما:
۱- وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ.
٢- وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ.
و عليه، فجميع هذه الآيات، سواءً ما ورد منها على نحو الخصوص أم العموم تدلّ على شفاعة الملائكة أيضاً.
شفاعة الشهداء يوم القيامة
و من جملة الشفعاء: الشهداء الذين يشهدون على الأعمال، و الذين كان لهم وقوف و اطّلاع و هيمنة على أعمال الإنسان، سواءً في مرحلة تحمّل الشهادة أم في مرحلة أدائها.
و الشهادة هنا ليست بمعنى الاستشهاد في ساحة القتال. إذ أوردنا تفصيلًا في بحث الشهادة على الأعمال أنّه وفقاً لآية:
وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ.۱
فمن يشهد بالحقّ، و يمتلك علماً و اطّلاعاً ملكوتيّاً على بواطن الأعمال، سيكون يوم القيامة في طائفة الشفعاء.
و تبعاً للنفى و الإثبات في عبارة: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ، فينبغي للشفعاء أن يكونوا من الشهداء. و كلّ ما هنالك أنّ بإمكان كلّ امرئ أن يشهد بقدر
سعة اطّلاعه الملكوتيّ على بواطن الأعمال، كما بإمكانه أن يشفع لمن اطّلع على بواطن أعمالهم و حقائقها.
شفاعة المؤمنين يوم القيامة
و يستنتج من هذا المطلب أنّ المؤمنين هم من الشفعاء، لأنّ الله تعالى قد أخبر عن لحوقهم بالشهداء في يوم القيامة:
وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ.۱
كما تُستنتج شفاعة المؤمنين من الآيات التالية أيضاً:
وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ، فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ، وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ، فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.٢
و هذا الكلام للضالّين أصحاب النار، و قد ذكره الله تعالى في القرآن الكريم، حيث إنّهم سيدركون في ذلك الموقف هذا المعنى المتمثّل في وجود صديق حميم يمكنه إسداء النفع للبعض، لأنّه يقول: فَمَا لَنَا. أي أنّه يدلّ ضمنيّاً على أنّ للآخرين أصدقاء. كما أنّ ذلك النفع و تلك الشفاعة موجودة للآخرين و غير موجودة بالنسبة لنا. فالشفاعة من قبل المؤمنين -إذاً- موجودة، و ينبغي أن تكون تلك الشفاعة للمؤمنين أيضاً.
روى الكلينيّ في «الكافي» بإسناده المتّصل عن عبد الحميد الوابشيّ، عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام، قال: قلتُ له: إنّ لنا جاراً ينتهك المحارم كلّها، حتّى أنّه ليترك الصلاةَ فضلًا عن غيرها.
فقال: سبحان الله، و أعظم ذلك. أ لا أخبركم بمن هو شرٌّ منه؟
قلتُ: بلى.
قال: الناصبُ لنا شرٌّ منه. أمَا إنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يُذْكَرُ عِنْدَهُ أهْلُ البَيْتِ فَيَرِقُّ لِذِكْرِنَا، إلَّا مَسَحَتِ المَلَائِكَةُ ظَهْرَهُ وَ غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا، إلَّا أنْ يَجِيءَ بِذَنْبٍ يُخْرِجُهُ مِنَ الإيمَانِ. وَ إنَّ الشَّفَاعَةَ لَمَقْبُولَةٌ وَ مَا تُقْبَلُ في نَاصِبٍ. وَ إنَّ المُؤْمِنَ لَيَشْفَعُ لجَارِهِ وَ مَا لَهُ حَسَنَةٌ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! جَارِي كَانَ يَكُفُّ عَنِي الأذَى، فَيُشَفَّعُ فِيهِ. فَيَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى: أنَا رَبُّكَ وَ أنَا أحَقُّ مَنْ كَافَى عَنْكَ؛ فَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ وَ مَا لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ؛ وَ إنَّ أدْنَى المُؤْمِنِينَ شَفَاعَةً لَيَشْفَعُ لِثَلَاثِينَ إنْسَاناً، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ أهْلُ النَّارِ: «فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَ لَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ».۱
و روى الصدوق في «الخصال» عن أبيه، عن الحِميريّ، عن هارون، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: ثَلَاثَةٌ يَشْفَعُونَ إلَى اللهِ عَزَّ وَ جلَّ فَيُشَفَّعُونَ: الأنْبِيَاءُ ثُمَّ العُلَمَاءُ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ.٢
كما روى في «الخصال» في حديث الأربعمائة عن أمير المؤمنين عليه السلام قَالَ: لَا تَعْنُونَا في الطَّلَبِ وَ الشَّفَاعَةِ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا قَدَّمْتُمْ؛ [وَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ]: لَنَا شَفَاعَةٌ وَ لإهْلِ مَوَدَّتِنَا شَفَاعَةٌ.٣
و روى في «علل الشرايع» بسنده المتّصل عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:
وَ اللهِ شِيعَتُنَا مِنْ نُورِ اللهِ خُلِقُوا، وَ إلَيْهِ يَعُودُونَ؛ وَ اللهِ إنَّكُمْ لَمُلْحَقُونَ بِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ، وَ إنَّا لَنَشْفَعُ فَنُشَفَّعُ! وَ وَ اللهِ إنَّكُمُ لَتَشْفَعُونَ فَتُشفَّعُونَ! وَ مَا مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ إلَّا وَ سَتُرْفَعُ لَهُ نَارٌ عَنْ شِمَالِهِ وَ جَنَّةٌ عَنْ يَمِينِهِ، فَيُدْخِلُ أحِبَّاءَهُ الجَنَّةَ وَ أعْدَاءَهُ النَّارَ.۱
و روى المرحوم الصدوق في «ثواب الأعمال» عن أبيه، عن سعد، عن ابن عيسى، عن محمّد بن خالد، عن النضر، عن يحيى الحلبيّ، عن أبي المغراء، عن أبي بصير، عن عليّ الصائغ، قَالَ: قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّ المُؤْمِنَ لَيَشْفَعُ لِحَمِيمِهِ إلَّا أنْ يَكُونَ نَاصِباً؛ وَ لَوْ أنَّ نَاصِباً شَفَعَ لَهُ كُلُّ نَبِيّ مُرْسَلٍ وَ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ مَا شُفِّعُوا.٢
و روى البرقيّ في «المحاسن» عن ابن محبوب، عن أبان، عن أسد ابن إسماعيل، عن جابر بن يزيد قال:
قَالَ أبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا جَابِرُ! لَا تَسْتَعِنْ بِعَدُوِّنَا في حَاجَةٍ! وَ لَا تَسْتَعْطِهِ! وَ لَا تَسْألْهُ شَرْبَةَ مَاءٍ! إنَّهُ لَيَمُرُّ بِهِ المُؤْمِنُ في النَّارِ فَيَقُولُ: يَا مُؤْمِنُ أ لَسْتُ فَعَلْتُ بِكَ كَذَا وَ كَذَا؟ فَيَسْتَحْيِي مِنْهُ فَيَسْتَنْقِذُهُ مِنَ النَّارِ؛ فَإنَّمَا سُمِّيَ المُؤْمِنُ مُؤْمِناً لأنَّهُ يُؤْمِنُ عَلَى اللهِ فَيُؤْمِنُ أمَانَهُ.٣
و روى الصدوق في «علل الشرايع» عن أبيه، عن أحمد بن إدريس،
عن حنان قال:
سَمِعْتُ أبَا جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلَامُ يَقُولُ: لَا تَسْألُوهُمْ فَتُكَلِّفُونَا قَضَاءَ حَوَائِجِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.۱
و روى أيضاً بنفس السند، قال:
قَالَ أبُو جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلَامُ: لَا تَسْألُوهُمْ الحَوَائِجَ فَتَكُونُوا لَهُمُ الوَسِيلَةَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ.٢
و روى في كتاب «التمحيص» عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام، قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: لَا تَسْتَخِفُّوا بِفُقَرَاءِ شِيعَةِ عَلِيّ وَ عِتْرَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَإنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ لَيَشْفَعُ لِمِثْلِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ.٣
و روى الصدوق في كتاب «صفات الشيعة» عن عمّار الساباطيّ، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام قَالَ: لِكُلِّ مُؤْمِنٍ خَمْسُ سَاعَاتٍ يَوْمَ القِيَامَةِ يَشْفَعُ فِيهَا.٤
قال المرحوم الصدوق في «الاعتقادات»:
وَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: لَا شَفِيعَ أنْجَحُ مِنَ التَّوْبَةِ؛ وَ الشَّفَاعَةُ لِلأنْبِيَاءِ وَ الأوْصِيَاءِ وَ المُؤْمِنِينَ وَ المَلَائِكَةِ؛ وَ في المُؤْمِنِينَ مَنْ يَشْفَعُ مِثْلَ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ؛ وَ أقَلُّ المُؤْمِنِينَ شَفَاعَةً مَنْ يَشْفَعُ لِثَلَاثِينَ إنْسَاناً. وَ الشَّفَاعَةُ لَا تَكُونُ لإهْلِ الشَّكِّ وَ الشِّرْكِ، وَ لَا لأهْلِ الكُفْرِ وَ الجُحُودِ، بَلْ يَكُونُ لِلمُؤْمِنِينَ مِنْ أهْلِ التَّوْحِيدِ.٥
و أورد ابن شهرآشوب في «المناقب» عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير قوله تعالى: وَ تَرَى كُلَّ امَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ امَّةٍ تُدْعَى إلَى كِتَابِهَا.۱
قَالَ: ذَاكَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ عَلِيّ؛ يَقُومُ عَلَى كُومٍ قَدْ عَلَا عَلَى الخَلائِقِ فَيَشْفَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا عَلِيّ اشْفَعْ؛ فَيَشْفَعُ الرَّجُلُ في القَبِيلَةِ؛ وَ يَشْفَعُ الرَّجُلُ لأهْلِ البَيْتِ؛ وَ يَشْفَعُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلَيْنِ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ؛ فَذَلِكَ المَقَامُ المَحْمُودُ.٢
شفاعة المؤمنين لقبائلهم و أهليهم و ذويهم
و قال الشيخ الطبرسيّ في ذيل الآية «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ»:٣ وَ عَنِ الحَسَنِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَالَ: يَقُولُ الرَّجُلُ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ: أي رَبِّ! عَبْدُكَ فُلَانٌ سَقَانِي شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ في الدُّنْيَا فَشَفِّعْنِي فِيهِ! فَيقُولُ: اذْهَبْ فَأخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ! فَيَذْهَبُ فَيَتَجَسَّسُ في النَّارِ حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنْهَا.
وَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: إنَّ مِنْ امَّتِي مَنْ سَيُدْخِلُ اللهُ الجَنَّةَ بِشَفَاعَتِهِ أكْثَرَ مِنْ مُضَرَ.٤
و قال الشيخ المفيد في «الاختصاص»:
رُوِيَ عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: مَا مِن أهْلِ بَيْتٍ يَدْخُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إلَى الجَنَّةِ إلَّا دَخَلُوا أجْمَعِينَ الجَنَّةَ. قِيلَ: وَ كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يِشْفَعُ فِيهِمْ فَيُشَفَّعُ، حَتَّى يَبْقَي الخَادِمُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! خُوَيْدِمَتِي قَدْ كَانَتْ تَقِينِي الحَرَّ وَ القَرَّ، فَيُشَفَّعُ
فِيهَا.۱
و روى العيّاشيّ في تفسيره قريباً من هذا المضمون بسنده عن أبان ابن تغلب، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام.٢
شفاعة القرآن و الرحم يوم القيامة
عدّت بعض الروايات القرآن و الأمانة و الرَّحِم من الشفعاء في يوم القيامة. و قد روى الديلميّ في «الفردوس» عن أبي هريرة، أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
الشُّفَعَاءُ خَمْسَةٌ: القُرآنُ وَ الرَّحِمُ وَ الأمَانَةُ وَ نَبِيُّكُمْ وَ أهْلُ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ.٣
و قد تحدّثنا بالتفصيل عن شفاعة النبيّ و أهل بيته، و ينبغيّ أن نرى الآن كيف أنّ الامور الثلاثة الاخرى هي من زمرة الشفعاء.
أمّا في القرآن، فقد ورد:
وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.٤
فيتّضح أنّ القرآن هو كتاب الرحمة، و من يكون مع القرآن و يعمل به، فسيحظى برحمة الله تعالى.
و من جهة اخرى فقد جاء: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ،٥ و يتبيّن منه أنّ من تصيبه رحمة الله،
فسينال الشفاعة.
و من ضمّ الآية الاولى إلى الثانية يتبيّن أنّ القرآن يجسّد الرحمة و أنّه هو الشافع و المعين يوم القيامة للعاملين به.
و قد بحثنا بما يكفي خلال بحث الشهادة على الأعمال (في المجلس التاسع و الأربعين، الجزء السابع) في أمر شهادة القرآن، و أوردنا رواية عن «الكافي» بسنده عن سعد الخفّاف، عن الإمام الباقر عليه السلام تتضمّن مطالب صريحة و شيّقة بشأن شهادة القرآن و شفاعته، و من جملتها قوله:
ثُمَّ يَشْفَعُ فَيُشَفَّعُ، وَ يَسْألُ فَيُعْطَى؛ و هي رواية حافلة بالمعاني التي يفيد كلّ منها مطالب اخرى جديدة.
و ما أفدنا به في بحث المعاد، هو أنّ تلك الطائفة من المعاني المشتركة لفظيّاً مع المعاني الموجودة في الأفراد الأحياء، كالأمر و النهي و النفع و الشفاعة و الشهادة و غيرها، تتمثّل في عالم البرزخ في صور مثاليّة متناسبة معها، كما تتجسّد في عالم الحشر و القيامة في حقائقها.
أمّا في شأن شفاعة الأمانة، فقد جاء في القرآن الكريم:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا ، لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.۱
و كما هو ملاحظ من هذه الآيات، فإنّ الهدف من عرض الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال، و قبول حملها من قبل الإنسان في نهاية المطاف، هو تعذيب المنافقين و المشركين و قبول توبة المؤمنين. و من
الواضح أنّ توبة الله هي الشفاعة نفسها.
و من هنا فإنّ «الأمانة» هي شفيع الإنسان. و من الواضح أنّ المراد بالأمانة هنا هو الولاية التي عجزت السماوات و الأرض و الجبال عن حملها و أشفقن منها، حيث اريد من الأمانة: الأمانة الخاصّة.
أمّا عن شفاعة الرحم في يوم القيامة، فقد ورد في القرآن الكريم:
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ، إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ، وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ.۱
و هي آيات تتحدّث عمّن يُعطَون كتابهم بشمالهم، كنايةً عن جانب الشقاء، حيث يتطرّق من خلال عدّة آيات إلى ذكر أحوالهم و تأسّفهم على ما فرط منهم. ثمّ يصل إلى هذه الآيات التي تخاطب ملائكة العذاب.
و الحَميم عبارة عن الرَّحِم القريب، كالأب و الامّ و الأخ و أمثالهم. و من هنا يُفهم من هذه الآية أن ليس من حميم و لا رَحم قريب لغير المؤمن و المتعدّي على الحقوق، و لا من معين يشفع له في فكّ أغلاله و سلاسله؛ و لو كان مؤمناً و غير معتد، لأغاثه الحميم و شفع له بكلّ تأكيد.
من جملة الشفعاء يوم القيامة: الأعمال الصالحة
و من جملة الشفعاء: العمل الصالح الذي يعين الفرد بذاته و يوجب غفران خطاياه و ذنوبه:
إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.٢
و من الواضح أنّ الشفاعة هي تبديل السيّئة حسنةً. و قد أوردنا في هذا البحث أنّ حقيقة الشفاعة تتمثّل في تبديل السيّئة حسنة بواسطة القُرب بين الشافع و المشفوع له. و الرواية السابقة عن سعد الخفّاف في شفاعة القرآن تعطي معنى عامّاً في شفاعة الأعمال الحسنة الصالحة.
و نلحظ في هذا المجال في الأخبار و الآثار قصصاً عجيبة في غفران الذنوب بواسطة عمل حسن، كالرحمة بالأتباع و المرءوسين، و العفو عن المذنبين، و العطف على الأيتام و ذوي القلوب المنكسرة و المرضى، و إطعام الجياع، و سقي العطشى و غير ذلك؛ أي تلك الأعمال التي يقوم بها المرء دون انتظار لجزاء أو أجر، بل يقوم بها ممحّضةً خالصة للّه تعالى، سواء كانت إحياءً لنفس أم دفعاً لظلم و حيف.
و هذه الأعمال النابعة عن صفاء الباطن، و المستورة التي لا يطّلع عليها أحد، و التي تقع في موضعها المناسب، هي بمثابة الصاعقة التي تُحرق بيدر الذنوب، و كالنور الإلهيّ الذي يخترق الحجب النفسانيّة في سرعة و تأثير و نفع لا حدّ لتصوّرها، و خاصةً لسالكي طريق الله تعالى، إذ كثيراً ما يحصل للمحجوبين الذين قضوا مدّة طويلة في الهجران، أن ينالوا مقامات و درجات من خلال نهوض في جوّ الشتاء القارس لتقديم قدح من الماء للُامّ، و من خلال تمريضها عند المرض و الابتلاء، و من خلال تحمّل أذاها و كلامها القارص.
و قد ورد في كتب الأخلاق مطالب ناجعة لرفع الانقباض و لحصول الانفتاح المعنويّ لدى السالك، تتلخّص في عيادة المرضى، و بخاصّةٍ الفقراء منهم و المنكسرة قلوبهم.
و أنشد الشيخ سعدي الشيرازيّ في هذا الشأن:
يكى در بيابان سگى تشنه يافت | *** | برون از رمق در حياتش نيافت |
كُلَه دَلْو كرد آن پسنديده كيش | *** | چو حبل اندر آن بست دستار خويش |
به خدمت ميان بست و بازو گشاد | *** | سگِ ناتوان را دمى آب داد |
خبر داد پيغمبر از حال مَرد | *** | كه داور گناهان ازو عفو كرد |
تو با خلق نيكى كن أي نيكبخت | *** | كه فردا نگيرد خدا بر تو سخت |
چو تمكين وجاهَت بود بر دوام | *** | مكن زور بر ضعف درويش عام |
نصيحت شنو مردم دور بين | *** | نپاشند در هيچ دل تخم كين۱ |
أمّا في بيان أنّ صَدَقَة السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، و في بيان صلة الرحم و آثارها، سواء في ذلك الآثار الوضعيّة أم التشريعيّة، فهناك مطالب تثير العجب، بَيدَ أنّ تفصيلها يخرج بنا عن دائرة البحث.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
المَجْلِسُ الثَّالِثُ وَ السِّتُّونَ: المَشْمُولُونَ بِالشَّفاعَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
الآيات الواردة في انحصار الشفاعة بأصحاب اليمين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ.۱
نهدف في هذا البحث بحول الله و قوّته إلى التعرّف على النفوس التي تشملها الشفاعة و الإجابة على التساؤلات التالية:
هل تشمل الشفاعة جميع أصحاب النار، أن تختصّ ببعض المجرمين دون البعض الآخر؟ و ما هي الشرائط التي ينبغي تحقّقها فيهم، لتؤثّر في قبول الشفاعة في حقّهم إثباتاً أو نفياً؟ أي: ما هي المراحل التي ينبغي عليهم تخطّيها لتتحقّق في شأنهم شفاعة الشافعين؟
ليس في الآيات و الروايات من تصريح بحتميّة شمول الشفاعة لطائفة معيّنة، ليكون ذلك مدعاة لجرأة البعض من ذوي الفهم الضئيل، و تشجيعاً لهم على ارتكاب المعاصي، لاعتمادهم على تلك الشفاعة.
و من جهة اخرى، فإنّ الوعد بالشفاعة قد ورد مُجملًا، من أجل أن لا يتسرّب اليأس من رحمة الحقّ تعالى إلى نفوس المذنبين، فيظنّون أنّ
النار مثواهم لا محالة، بسبب ذنوبهم. و قد ورد أنّ رحمة الحقّ الواسعة غياثٌ للمستغيثين، و أنّ الارتباط بالله و بأولياء الدين باعث على الاتّصال بالمبدأ اتّصالًا لا انفكاك له، ممّا يستدعي الفوز بالشفاعة و النجاة من العذاب.
و حالة الوقوف بين الخوف و الرجاء، تعبّر عن أساس دينيّ حيويّ مسلّم يدعو إلى الرشد و التكامل، و هي حالة مشجّعة على نيل الدرجات و المقامات.
إذ لو تقرر أن يكون المرء في خوف دائم، و قد اغلقت في وجهه سبل الأمل في بلوغ الكمال و الفوز بالدرجات، لآل إلى الهلاك، و لهدّه الضغط النفسيّ الشديد، و لضاعت جميع الثروات الإلهيّة المودعة فيه، و لفقد القدرة على التقدّم خطوةً واحدة نحو مرحلة الفعليّة و الكمال النسبيّين.
كذا لو تقرر أن يعيش المرء في أمل و رجاء مستمرّين، لأعاقه الغرور النفسانيّ عن تحمل متاعب الحركة صوب الكمال، و لجعله يخلد إلى الراحة و الدعة؛ و لجرّه التجرّي في الذنوب و هتك الحرمات الإلهيّة إلى مستنقع الفساد و السقوط، و لضاعت فيه جميع الثروات الإلهيّة، و اختنقت في وجوده نطفة القابليّة للكمال منذ الوهلة الاولى.
أمّا الحال التي طرحها الإسلام فهي حال بَيْن بَيْن التي هي بين الخوف و الرجاء، و بين الأمل في الشفاعة و الخوف من العذاب؛ فيعيش الإنسان حالتيّ الرجاء في الرحمة و الخوف من السطوة و الغضب، و يتنابه شعوران مقترنان كتوأمين ولدا من رَحِم واحد، فصارا مترافقين في حديثهما و حركاتهما. و هذان الشعوران يبعثان الإنسان على الحركة، و يقودانه قُدماً لإيصال قواه و قابليّاته إلى فعليّتها في مراحل الكمال.
و قد جرى التعامل مع الشفاعة على ضوء هذا الأساس العامّ؛ أي أنّ الخطابات الشرعيّة قد وردت على نحو يعجز معه أي شخص على القطع بأنّه من المشمولين بالشفاعة، أو بأنّ الشفاعة لن تناله.
أجل، فقد وردت في الآيات و الروايات إشارات عامّة تشير إلى أنّ شرط الشفاعة هو الإيمان بالله و برسوله و بأوصياء رسول الله و أوليائه، و أن لا شفاعة للكفّار و المشركين و المنافقين.
و نشرع الآن في البحث في دلالة الآيات القرآنيّة الكريمة، ثمّ نعرّج على الروايات الواردة عن المعصومين.
تدلّ الآية التي تصدّرت البحث على أنّ الشفاعة مختصّة بمن يرتضيه الله تعالى. فما هو المراد من الارتضاء؛ أ هو ارتضاء في الذات و الفطرة، أو ارتضاء في العقيدة و الدين، أو في السيرة و العمل و السلوك؟
الآيات القرآنيّة الواردة في الشفاعة
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ، فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ ، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ، وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ، وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ، وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ، فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ.۱
تفيد هذه الآيات بأنّ جميع النفوس مرهونة بأعمالها، و أنّ الذنوب و الخطايا التي ترتكبها النفوس في الحياة الدنيا ستكبّل تلك النفوس و تقيّدها بقيود الأسر و المسكنة و الذلّة، و بأنّ أصحاب اليمين مستثنون من هذا الأسر و الارتهان، لأنّهم قد تحرّروا منه و فكّوا عنهم عواقب الأعمال السيّئة، فاستقرّوا في جنان الخلد.
و تدل الآيات في الوقت نفسه على أن المجرمين الممتحنين في جهنّم ليسوا محجوبين، بل لهم كلام و محاورة مع أصحاب اليمين، حيث يسألهم الأخيرون عمّا أدخلهم النار، فيجيبون بأنّ صفاتهم سلكت بهم سبيل الحجيم. و أحبطت شفاعة الشافعين في حقّهم.
و يتضمّن مفاد هذا الحوار أنّ أصحاب اليمين (الذين لم يدخلوا النار) قد جُنّبوا النار لعدم اتّصافهم بتلك الصفات التي تحول دون تحقّق الشفاعة في حامليها.
و باعتبار أنّ الله تعالى قد حرّر نفوس أصحاب اليمين من رهن الذنوب و المعاصي، و جنّبهم من أن يكونوا في عداد المجرمين الذين حُرموا من الشفاعة ممّن استقرّ بهم المطاف في نار جهنّم، فيتّضح أنّ تحرّر أصحاب اليمين من ارتهان الذنوب و خلاصهم من أسرها قد حصل بواسطة الشفاعة، فيُستنتج من ذلك أنّ أصحاب اليمين هم الذين تحقّقت الشفاعة في حقّهم.
و نحصل من خلال هذه الآيات بالدلالة الالتزاميّة -بمقابلة المجرمين الذين حُرموا من الشفاعة بسبب صفاتهم- على صفات أصحاب اليمين الأربع.
و بيان ذلك، أنّ هذه الآيات قد وردت في سورة المدّثّر، و يُستفاد من مضمون آيات السورة أنّها نزلت في مكّة أوائل بعثة رسول الله صلّى الله عليه و آله، و قبل أن يستقرّ تشريع الصلاة و الزكاة على هذه الكيفيّة التي نعهدها اليوم. فكان المراد بالصلاة الواردة في هذه الآيات في قول المجرمين لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصلِّينَ هو مطلق التوجّه إلى الله تعالى، و الخضوع و الخشوع في مقام العبوديّة أمام ساحته المقدّسة جلّ و عزّ؛ و المراد بإطعام المسكين هو مطلق الإنفاق على الفقراء و المساكين في سبيل
الله تعالى. كما كان المراد من الخوض و الانغمار في الامور الدنيويّة هو خوض في ملاهي الدنيا و زخارفها و الانشغال بزينتها التي تصرف الإنسان عن الآخرة و تلهيه عن التفكير بيوم الجزاء. أو أنّ المراد بالخوض هو التشدّد في الطعن في آيات الله تعالى، تلك الآيات التي يؤدّي الالتفات إليها إلى تذكير الإنسان بيوم الجزاء، و إلى تحريك الناس من خلال البشارة و الإنذار، و الوعد و الوعيد.
و من الجليّ أنّ المراد من بالتكذيب بيوم الدين هو عدم الإقرار و الاعتراف بالمعاد و عودة الإنسان إلى مكان الخلود الأبديّ و الوقوف في موقف القيامة.
و من الواضح أنّ الاتّصاف بهذه الصفات الأربع، و هي ترك الصلاة و ترك الإنفاق في سبيل الله، و الانغمار في الملاهي و المناهي، أو التمادي في الطعن و التكذيب بآيات الله عزّ و جلّ، و التكذيب بيوم الحساب و الجزاء. ممّا يهدم أركان الدين و يقوّض اسسه.
أمّا التحلّي بما يقابلها من صفات، أي بإقامة الصلاة للّه تعالى، و الإنفاق في سبيله، و الاقتداء بأولياء الدين في الإعراض عن الامور الاعتباريّة و في توجيه اهتمامهم إلى يوم لقاء الله تعالى، فهي امور تقوم عليها اصول الدين و ترتكز عليها اسسه، لأنّ الدين هو عبارة عن الاقتداء بالهداة إلى طريق الله الذين يصرفون الإنسان عن فكرة خلود الحياة الدنيويّة، و يُلفتون نظره إلى عالم الآخرة و يهدونه إلى لقاء الحقّ المعبود و زيارة المعبود بالحقّ. و هاتان الجهتان تمثّلان الصفتين اللتين وردتا في الآية الكريمة و هما صفتا ترك الخوض في الامور الدنيويّة و التصديق بيوم القيامة؛ و هما -في النتيجة- صفتان تبعثان على الالتفات التامّ إلى الله المتعال من مقام عبوديّته، و السعي في قضاء حوائج الناس الذين يمثّلون
مخلوقات الله المرتبطة به؛ و يتجسّدان في إقامة الصلاة، و الانفاق في سبيل الله عزّ و جلّ.
اختصاص الشفاعة بالمؤمن المذنب
و من هنا فإنّ قوام الدين و أساسه في جهتي العلم و العمل، و العقيدة و السلوك، مرتبطان بهذه الجهات الأربع؛ كما أنّ هذه الجهات تستلزم بقيّة أركان الدين، كالتوحيد و النبوّة.
و لذا، فأصحاب اليمين المنزّهين في دينهم و عقيدتهم هم الذين سيحظون بالشفاعة يوم القيامة. و لو تحلّى أصحاب اليمين -مضافاً إلى عقيدتهم- بأعمال صالحة و سيرة حسنة حميدة، لاستغنوا يوم القيامة عن شفاعة الشافعين؛ أمّا لو لم تكن أعمالهم مرضيّة من قِبل الحقّ تعالى، فسيفتقرون لتلك الشفاعة، لأنّها مختصّة بالمذنبين من أصحاب اليمين.
و نتساءل: أي صنف من المذنبين ستناله الشفاعة؟ الإجابة: أنّهم من أصحاب الكبائر، لا من أصحاب الصغائر، لأنّ من يجتنب الكبائر فإنّ ذنوبه الصغيرة ستُكَفَّر و تُغفَر تلقائيّاً، فلا يعود بحاجة إلى الشفاعة.
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً.۱
و كما قلنا، فإنّ أصحاب الذنوب غير المغفورة الذين يحتاجون الشفاعة في يوم القيامة هم أصحاب الكبائر، لأنّهم لو كانوا من أصحاب الصغائر، لكان اجتنابهم الكبائر موجباً لغفران تلك الصغائر و محوها.
تَرْكُ الكَبِيَرةِ مُكَفِّرٌ لِلصَّغِيرَةِ. و من هنا يتبيّن جليّاً أنّ الشفاعة مختصّة بمرتكبي الكبائر من أصحاب اليمين؛ و قد نقلت أحاديث الفريقين
(الشيعة و العامّة) عن رسول الله صلّى الله عليه و آله، أنّه قال:
إنَّمَا شَفَاعَتِي لأهْلِ الكَبَائِرِ مِن امَّتِي، فَأمَّا المُحْسِنُونَ فَمَا عَلَيْهِم مِن سَبِيلٍ.
و قد نقل استاذنا العلّامة الطباطبائيّ مُدّ ظلّه العالي عن تفسير «الدرّ المنثور» قوله: أخرج الحاكم و صحّحه، و البيهقيّ في «البعث» عن جابر، أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم تلا قول الله: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى»، فقال: إن شفاعتي لأهل الكبائر من امتي.۱
و بطبيعة الحال فإنّ المراد بالمحسنين هم مجتنبو الكبائر لا مجتنبو الصغائر، و هذا الاستنتاج ناشئ من تقابل المحسنين مع أهل الكبائر في كلام الرسول الأكرم.
و من جهة اخرى، و كما سلف البيان في بحث صحيفة الأعمال، فإنّ المراد بأصحاب اليمين -و هم أصحاب الميمنة في قبال أصحاب الشمال و أصحاب المشأمة- هم الذين تصلهم صحائف أعمالهم من جهة اليمين، كناية عن جانب السعادة و إمام الحقّ؛ و لا يعني أنّ أصحاب اليمين يُعطون صحائفهم في أيمانهم، إذ يقول تعالى: اوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، و لا يقول: اوتي كتابه في يمينه، أو إلى يمينه. و الباء هنا للسببيّة، أي أنّ صحيفة العمل تصل إلى أصحاب اليمين بسبب اليمين؛ و المراد به إمام الحقّ، كما ورد في القرآن الكريم:
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا.٢
و تفيد الآية بوضوح أنّ المراد باليمين هو الإمام بالحقّ، نظراً لتفريع فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ على جملة نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ؛ فيكون أصحاب اليمين هم أتباع إمام الحقّ، و هذه المسألة هي ذات مسألة الولاية الواردة في الأخبار المتضافرة.
أمّا تسمية أصحاب اليمين بهذا الاسم، فراجع إلى ارتضائهم في الدين، و هو عائد إلى تواجد الصفات الأربع المذكورة فيهم.
الشفاعة مختصّة بأصحاب اليمين من المبتلين بالذنوب الكبيرة
و عليه، فالشفاعة مختصّة بمرتكبي الكبائر من أهل الولاية و أتباع الإمام بالحقّ. و يمكننا الاستدلال على صفات و خصائص المشمولين بالشفاعة في يوم القيامة بموردين قرآنيّين آخرين:
المورد الأوّل، آية: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى.۱
حيث جاء الارتضاء- كما هو ملاحظ بصيغة الإطلاق دون تقييد بسلوك معيّن. أي أن يكون المشمول بالشفاعة مورداً للارتضاء من قبل الحقّ تعالى في عقيدته و دينه، و لو كانت سيرته غير مرضيّة.
خلافاً للآية الكريمة الواردة في الشافعين: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا،٢ التي نشاهد أنّها قد قَيَّدتْ ارتضاء الشافع -مضافاً إلى إذن الله تعالى- بارتضاء قوله من قِبل الله تعالى.
أمّا في الآية مورد البحث التي تتحدّث عن المشمولين بالشفاعة، فليس فيها قيد أو شرط من ذلك. و ندرك من خلال ذلك أنّ السلامة في
القول و السلوك غير مشترطة في المشمولين بالشفاعة؛ إذ لو كانوا صادقين في القول و العمل، و كانت أفعالهم مرضيّة حميدة شأنها في ذلك شأن دينهم و عقيدتهم، لما كان هناك حاجة لشفاعتهم، لأنّهم سيدخلون الجنّة حينئذٍ بلا شفاعة؛ و يشهد على ذلك قوله تعالى: وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ؛۱ حيث نلاحظ في هذا المجال أيضاً أنّ الشكر (الذي هو الإيمان بقرينة مقابلته للكفر) قد وقع مورداً للارتضاء دون العمل و السلوك.
و لدينا -من جهة اخرى- قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ؛٢ حيث إنّ هذا الفسق، إن كان فسقاً في الدين و العقيدة، أي التنكّب عن العقيدة المنزّهة و الانحراف عن الدين الحقّ، فإنّه لا ينافي بحثنا هذا، لأنّ الفسّاق في العقيدة و المذهب غير مشمولين بالشفاعة.
أمّا لو كان المراد بهذا الفسق هو الفسق العلميّ، أي ارتكاب الذنوب و الكبائر، فإنّه سيتبدّل من خلال الشفاعة إلى حسنات، و سينتفي ذلك الفسق و يتلاشى، لأنّ من ثمرات الشفاعة تبديلها السيّئات حسناتٍ، و هو أمر يرتضيه الحقّ تعالى.
فتكون النتيجة أنّ الشفاعة إنّما تتحقّق فيمن يُرتضى دينه و عقيدته لكن سلوكه غير مرضيّ؛ و هو قولنا بأنّ المراد بالمشمولين بالشفاعة هم مرتكب و الكبائر من أصحاب اليمين.
المورد الثاني: بضمّ مجموعة من الآيات إلى بعضها وصولًا إلى هذه الحقيقة.
فقد جاء في القرآن الكريم:
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ، وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً ، لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً.۱
فالشفاعة هنا -باعتبار وقوعها مصدراً مبنيّاً للمفعول- هي الشفاعة للمجرمين لا شفاعة المجرمين لغيرهم، فينتج من ذلك أنّ مستحقّ الشفاعة من المجرمين هو من اتّخذ عند الرحمن عهداً. إذ ليس كلّ مجرم كافراً. فلا يمكن الجزم بدخول كلّ مجرم في النار، بدليل الآية القرآنيّة الاخرى:
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى ، وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى.٢
العهد: هو الإيمان بالله و الإقرار بالولاية
و نحن نعلم أنّ المجرم إمّا الذي ليس له إيمان و لا عمل صالح، مثلًا كأن لم يؤمن من قبل أبداً، أم آمن و لم يعمل عملًا صالحاً. لذا فإنّ بعض المجرمين هم على الدين الحقّ، إلّا أنّهم لم يعملوا عملًا صالحاً، و هم الذين اتّخذوا عند الله عهداً، و جرى استثناؤهم في آية: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً.
أمّا عهد الله سبحانه، فقد بيّنته الآية الكريمة: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ؛٣ حيث إنّ جملة: أنِ اعْبُدُونِي عهد، و هو الأمر. فيكون معناه: أطيعوا أمري.
و جملة: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ، عهد، بمعنى الالتزام، و يعني: التزموا بالصراط المستقيم، صراط الهداية و السعادة و النجاة.
و من هنا، فإنّ ذنوب المجرمين الذين قبلوا بعهد الله تعالى و لم يعملوا عملًا صالحاً ستقودهم إلى جهنّم؛ و لكونهم قد آمنوا بالله و قبلوا عهده فانّهم سيخرجون من جهنّم بواسطة الشفاعة.
و يشير قوله تعالى إلى عهد الله:
وَ قالُوا (و القول لليهود) لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً.۱
أي أنّ الذين اتّخذوا عند الله عهداً سوف يخرجون من النار و لن يمكثون فيها إلّا قليلًا. و هذا هو مضمون ما ذكرنا من أن المشمولين بالشفاعة في يوم القيامة هم أصحاب الكبائر ممّن يدينون بدين الحقّ الذين ارتضى الله تعالى دينهم.
قال الشيخ الطبرسيّ في ذيل الآية لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً: أي لا يقدرون على الشفاعة، فلا يشفعون و لا يُشفع لهم حين يشفع أهل الإيمان بعضهم لبعض، لأنّ ملك الشفاعة على وجهينِ: أحدهما أن يشفع للغير، و الآخر أن يستدعي الشفاعة من غيره لنفسه؛ فبيّن سبحانه أنّ هؤلاء الكفّار لا تنفذ شفاعة غيرهم فيهم، و لا شفاعة لهم لغيرهم.
ثمّ استثنى سبحانه فقال: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً. أي لا يملكون الشفاعة إلّا هؤلاء. و قيل لا يُشفع إلّا لهؤلاء؛ و العهد هو الإيمان و الإقرار بواحدانيّة الله تعالى و تصديق أنبيائه، و قيل هو شهادة أن لا إله إلّا
الله و أن يتبرّأ إلى الله من الحول و القوّة و لا يرجو إلّا الله، عن ابن عباس. و قيل معناه لا يشفع إلّا من وعده الرحمن بإطلاق الشفاعة كالأنبياء و الشهداء و العلماء و المؤمنين على ما ورد به الأخبار.
كيفيّة الوصيّة عند الاحتضار
و قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره: حدّثني أبي عن الحسن ابن محبوب، عن سليمان بن جعفر، عن أبي عبد الله عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله:
مَنْ لَمْ يُحْسِنُ وَصِيَّتَهُ عِنْدَ المَوْتِ كَانَ نَقْصاً في مُرُوءَتِهِ؛ قِيلَ: يَا رَسُولُ اللهِ! وَ كَيْفَ يُوصِي المَيِّتُ؟! قَالَ: إذَا حَضَرَتْهُ وَفَاتُهُ وَ اجْتَمَعَ النَّاسُ إلَيْهِ قَالَ: اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ؛ إنِّي أعْهَدُ إلَيْكَ في دَارِ الدُّنْيَا أنِّي أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا أنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ وَ أنَّ مُحَمَّداً صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عَبْدُكَ وَ رَسُولُكَ، وَ أنَّ الجنَّةَ حَقٌّ، وَ أنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَ أنَّ البَعْثَ حَقٌّ وَ الحِسَابَ حَقٌّ وَ القَدْرَ وَ المِيزَانَ حَقٌّ، وَ أنَّ الدِّينَ كَمَا وَصَفْتَ، وَ أنَّ الإسْلَامَ كَمَا شَرَعْتَ، وَ أنَّ القَوْلَ كَمَا حَدَّثْتَ وَ أنَّ القُرْآنَ كَمَا أنْزَلْتَ، وَ أنَّكَ أنْتَ اللهُ الحَقُّ المُبِينُ، جَزَى اللهُ مُحَمَّداً عَنَّا خَيْرَ الجَزاءِ، وَ حَيَّا اللهُ مُحَمَّداً وَ آلَهُ بِالسَّلَامِ.
اللهُمَّ يَا عُدَّتِي عِنْدَ كُرْبَتِي، وَ يَا صَاحِبِي عِنْدَ شِدَّتِي، وَ يَا وَلِيّ نِعْمِتي، وَ إلَهي وَ إلَهَ آبَائِي لَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَإنَّكَ إنْ تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي أقْرَبْ مِنَ الشَّرِّ وَ أبْعَدْ مِنَ الخَيْرِ، وَ آنِسْ في القَبْرِ وَحْشَتِي، وَ اجْعَلْ لي عَهْداً يَوْمَ ألْقَاكَ مَنْشُوراً.
ثُمَّ يُوصِي بِحَاجَتِهِ؛ وَ تَصْدِيقُ هَذِهِ الوَصِيَّةِ في سُورَةِ مَرْيَمَ في قَوْلِهِ: «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً».
فَهَذَا عَهْدُ المَيِّتِ. وَ الوَصِيَّةُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ وَ حَقٌّ عَلَيْهِ أنْ يَحْفَظَ هَذِهِ الوَصِيَّةَ وَ يُعَلِّمَهَا.
وَ قَالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: عَلَّمَنِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ قَالَ: عَلَّمَنِيهَا جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.۱
المشمولون بالشفاعة هم مرضيّو الدين لا مرضيّو العمل
روى المرحوم الصدوق في «الأمالي» و «عيون أخبار الرضا» بسند واحد عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن هاشم، عن عليّ بن معبد، عن الحسين بن خالد، عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام،
عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِحَوْضِي فَلَا أوْرَدَهُ اللهُ حَوْضِي؛ وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِشَفَاعَتِي فَلَا أنَالَهُ اللهُ شَفَاعَتِي؛ ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّمَا شَفَاعَتِي لأهْلِ الكَبائِرِ مِنْ امَّتِي، فَأمَّا المُحْسِنُونَ فَمَا عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ.
قَالَ الحُسَيْنُ بْنُ خَالِدٍ: فَقُلْتُ لِلرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! فَمَا مَعْنَى قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى»؟!
قَالَ: لَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى اللهُ دِينَهُ.۱
و روى على بن إبراهيم عن جعفر بن محمّد، عن عبد الله بن موسى، عن الحسن بن عليّ، عن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام في تفسير قوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً.
قَالَ: لَا يَشْفَعُ وَ لَا يُشْفَعُ وَ لَا يُشَفَّعُ إلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً إلَّا مَن اذِنَ لَهُ بِوَلَايَةِ عَلِيّ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَ الأئِمَّةِ مِن بَعْدِهِ، فَهُوَ العَهْدُ عِنْدَ اللهِ.
و روى الصدوق في «الأمالي» عن محمّد بن موسى بن المتوكّل، عن محمّد بن يحيى العطّار، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن النضر بن شعيب، عن خالد القلانسيّ، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: إذَا قُمْتُ المَقَامَ
المَحْمُودَ تَشَفَّعْتُ في أصْحَابِ الكَبَائِرِ مِنْ امَّتِي، فَيُشَفِّعُنِي اللهُ فِيهِمْ؛ وَ اللهِ لَا تَشَفَّعْتُ فِيمَنْ آذَى ذُرِّيَّتِي.۱
جميع الشيعة مشمولون بالشفاعة
و روى الشيخ الطوسيّ في «الأمالي» عن الفحّام، عن المنصوريّ، عن عمّ أبيه، عن أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكريّ، عن آبائه عليهم السلام، قَالَ: قَالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام: سَمِعْتُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: إذَا حُشِرَ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، نَادَانِي مُنَادٍ: يَا رَسُولُ اللهِ! إنَّ اللهَ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ أمْكَنَكَ مِن مُجَازَاةِ مُحِبِّيكَ وَ مُحِبِّي أهْلِ بَيْتِكَ المُوَالِينَ لَهُمْ فِيكَ وَ المُعَادِينَ لَهُمْ فِيكَ، فَكَافِهِمْ بِمَا شِئْتَ! فَأقُولُ: يَا رَبِّ الجَنَّةَ! فَابَوِّؤُهُمْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُ، فَذَلِكَ المَقَامُ المَحْمُودُ الذي وُعِدْتُ بِهِ.٢
كما روى الشيخ الطوسيّ في «الأمالي» عن الحفّار، عن إسماعيل بن عليّ الدعبليّ، عن محمّد بن إبراهيم بن كثير، قال: دخلنا على أبي نوّاس الحسن بن هانئ نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقال له عيسى بن موسى الهاشميّ:
يا أبا عليّ! أنت في آخر يوم من أيّام الدنيا و أوّل يوم من أيّام الآخرة، و بينك و بين الله هنات، فتُبْ إلى الله (عزّ و جلّ).
قال أبو نواس: أسندوني! فلمّا استوى جالساً، قال: إيّاي تخوّف بالله، و قد حدّثني حمّاد بن سلمة، عن ثابت البنانيّ، عن أنس بن مالك،
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
«لكل نبي شفاعة، و أنا خبأت شفاعتي لأهل الكبائر من امتي يوم القيامة»! أفترى لا أكون منهم؟!۱
و روى مؤلّف «بشارة المصطفي» في كتابه، بسلسلة سنده المتّصل عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، قال:
أرْبَعَةٌ أنَا لَهُمْ شَفِيعٌ يَوْمَ القِيَامَةِ: المُكْرِمُ لِذُرِّيَّتِي؛ وَ القَاضِي لَهُمْ حَوَائِجُهُمْ؛ وَ السَّاعِي في امُورِهِمْ عِنْدَ مَا اضْطُرُّوا إلَيْهِ؛ وَ المُحِبُّ لَهُمْ بِقَلْبِهِ وَ لِسَانِهِ.٢
و قال الصدوق في «الاعتقادات»:
اعْتِقَادُنَا في الشَّفَاعَةِ أنَّهَا لِمَنِ ارْتُضِى دِينُهُ مِنْ أهْل الكَبَائِرِ وَ الصَّغَائِرِ؛ فَأمَّا التَّائِبُونَ مِنَ الذُّنُوبِ فَغَيْرُ مُحْتَاجِينَ إلَى الشَّفَاعَةِ. وَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِشَفَاعَتِي فَلَا أنَا لَهُ اللهُ شَفَاعَتِي.٣
و روى الصدوق في كتاب «فضائل الشيعة» بسنده عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، قال:
إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نَشْفَعُ في المُذْنِبِ مِنْ شِيعَتِنَا؛ فَأمَّا المُحْسِنُونَ
فَقَدْ نَجَّاهُمُ اللهُ.۱
و روى فرات بن إبراهيم الكوفيّ في تفسيره مُعنعناً عن الإمام الصادق عن الإمام الباقر عليهما السلام، قال:
نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا وَ في شِيعَتِنَا: «فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَ لَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ»؛ وَ ذَلِكَ أنَّ اللهَ يُفَضِّلُنَا وَ يُفَضِّلُ شِيعَتَنَا، حَتَّى أنَا لَنَشْفَعُ وَ يَشْفَعُونَ؛ فَإذَا رَأى ذَلِكَ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ قَالُوا: فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَ لَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ.٢
و روى محمّد بن يعقوب الكلينيّ عن عدّة من الأصحاب، عن سهل، عن ابن سنان، عن سعدان، عن سماعة، قال:
كُنْتُ قَاعِداً مَعَ أبي الحَسَنِ الأوَّلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ النَّاسُ في الطَّوَافِ في جَوْفِ اللَّيْلِ؛ فَقَالَ: يَا سَمَاعَةُ! إلَيْنَا إيَابُ هَذَا الخَلْقِ، وَ عَلَيْنَا حِسَابُهُمْ؛ فَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ ذَنْبٍ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ حَتَمْنَا عَلَى اللهِ في تَرْكِهِ لَنَا، فَأجَابَنَا إلَى ذَلِكَ؛ وَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ النَّاسِ اسْتَوْهَبْنَاهُ مِنْهُمْ وَ أجَابُوا إلَى ذَلِكَ، وَ عَوَّضَهُمُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ.٣
و روى الصدوق في «علل الشرايع» بإسناده عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ بَعَثَ اللهُ العَالِمَ وَ العَابِدَ؛ فَإذَا وَقَفْنَا بَيْنَ يَدَي اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ قِيلَ لِلْعَابِدِ: انْطَلِقْ إلَى الجَنَّة؛ وَ قِيلَ لِلْعَالِمِ: قِفْ تَشَفَّعْ لِلنَّاسِ بِحُسْنِ تَأدِيبِكَ لَهُمْ.٤
حساب الشيعة على أئمّتهم
روى صاحب «كنز جامع الفوائد» بإسناده المتّصل عن محمّد بن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام في تفسير الآية الشريفة: «إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ»؛ قَالَ:
إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ وَكلَنَا اللهُ بِحِسَابِ شِيعَتِنَا؛ فَمَا كَانَ لِلَّهِ سَألْنَاهُ أن يَهَبَهُ لَنَا فَهُوَ لَهُمْ؛ وَ مَا كَانَ لِمُخَالِفِيهِمْ فَهُوَ لَهُمْ؛ وَ مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: هُمْ مَعَنَا حَيْثُ كُنَّا.۱
كما روى في «كنز جامع الفوائد» عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه سئل عن تفسير الآية الكريمة السالفة الذكر، فقال:
إذَا حَشَرَ اللهُ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، أجَّلَ اللهُ أشْيَاعَنَا أنْ يُنَاقِشَهُمْ في الحِسَابِ، فَنَقُولُ: إلَهَنَا هَؤُلَاءِ شِيعَتُنَا! فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: قَدْ جَعَلْتُ أمْرَهُمْ إلَيْكُمْ، وَ قَدْ شَفَّعْتُكُمْ فِيهِمْ وَ غَفَرْتُ لِمُسِيئِهِمْ؛ أدْخِلُوهُمْ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ.٢
و روى في نفس الكتاب بإسناده المتّصل عن جميل، قال: قلتُ لأبي الحسن (موسى بن جعفر) عليه السلام: احدّثهم بتفسير جابر؟
قال: لا تحدّث به السفلة فيوبّخوه؛ أ ما تقرأ:
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ؟
قلتُ: بلى. قال: إذا كان يوم القيامة و جمع الله الأوّلين و الآخرين، ولّانا حساب شيعتنا، فما كان بينهم و بين الله حكمنا على الله فيه فأجاز حكومتنا؛ و ما كان بينهم و بين الناس استوهبناه منهم فوهبوه لنا؛ و ما كان
بيننا و بينهم فنحن أحقّ مَن عفا و صفح.۱
و روى الصدوق نظير هذه الرواية في «عيون أخبار الرضا» بسنده المتّصل عن داود بن سليمان، عن الإمام الرضا، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام.٢
و في كتابَي الحسين بن سعيد، بسنده عن ابن أبي عُمير، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن الأحول، عن حمران، قال:
سَمِعْتُ أبَا جَعْفَرٍ (البَاقِرَ) عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: إنَّ الكُفَّارَ وَ المُشْرِكِينَ يَرَوْنَ أهْلَ التَّوْحِيدِ في النَّارِ فَيَقُولُونَ: مَا نَرَى تَوْحِيدَكُمْ أغْنَى عَنْكُمْ شَيْئاً، وَ مَا أنْتُمْ وَ نَحْنُ إلَّا سَوَاءٌ.
قَالَ: فَيَأنَفُ لَهُمُ الرَّبُّ عَزَّ وَ جَلَّ فَيَقُولُ لِلْملَائِكَةِ: اشْفَعُوا! فَيَشْفَعُونَ لِمَنْ شَاءَ اللهُ؛ وَ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ ذَلِكَ؛ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ أحَدٌ تَبْلُغُهُ الشَّفَاعَةُ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى: أنَا أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؛ اخْرُجُوا بِرَحْمَتِي! فَيخْرُجُونَ كَمَا يَخْرُجُ الفَرَاشُ.
قَالَ: ثُمَّ قَالَ أبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ثُمَّ مَدَّتِ العَمَدُ وَ اعْمِدَتْ عَلَيْهِمْ وَ كَانَ -وَ اللهِ- الخُلُودُ.٣
بحث تحليليّ في حقيقة الشفاعة
يستنتج من مجموع هذه الروايات المستفيضة، بل المتواترة معنويّاً، أنّ الجنّة هي مأوى أصحاب الفطرة السليمة و العقائد النزيهة، و أنّ النار هي مثوى أصحاب السيرة السيّئة و العقائد الرديّة؛ و أنّ فعل الحسنات و اجتناب
السيّئات أمر ضروريّ لحصول طهارة النفس و نزاهة القلب و صفاء النيّة و العقيدة. و بغير ذلك فإنّ الأعمال الحسنة لن تثمر شيئاً ما لم تمسّ القلب و تطهّر النفس، كما أنّ الأعمال السيّئة لو صدرت من صاحب النفس الطيّبة الطاهرة بصورة متقطّعة غير متعاقبة، لما أدّت إلى تعكير تلك النفس و تدنّسها، حيث ستزول آثار تلك الذنوب بالتوبة أو بالشفاعة أو بالتعرّض للعقوبات الإلهيّة، فتطلع حقيقة النفس الصافية من جديد.
إنّ أعمالنا الحسنة لن تغني الله شيئاً، و إن أعمالنا السيّئة لن تضرّه شيئاً. و ليست هذه الأوامر و النواهي و المحلّلات و المحرّمات بأجمعها إلّا مقدّمة لتزكية نفوسنا و تطهير أسرارنا:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها۱
فإذا حصلت تزكية النفس من خلال العبادة و العمل الصالح، فقد تحقّقت النتيجة المتوخّاة؛ و إن لم تحصل التزكية، كان تكرار العبادة صورة جوفاء لا تؤدّي إلى ارتقاء النفس و صعود الروح إلى مدارج الكمال.
فما أقبح أن نجعل ميزان السعادة نفسَ العمل الصالح، و نغفل عن الإيمان و العقيدة و النيّة و الطهارة!
و كم هو ذميم أن نعدّ أدنى خطأ في العمل ميزاناً للقبح، و مدعاة للعقاب، و نغضّ طرفاً عن حسن العقيدة و طهارة النيّة و صفاء الضمير!
إنّ العقيدة حين تكون حسنةً، و النفس طاهرةً، فسوف تعجز الخطايا و الذنوب في أن تترك آثاراً عميقة على الروح. و حين تكون العقيدة سيّئة، و النفس خبيثة، فإنّ الأعمال الصالحة و السلوك الحسن سوف لن يُخلّفا على الروح ذات الأعمال الكدرة إلّا آثاراً سطحيّة طفيفة. ذلك
لأنّ الظاهر الحسن لن يحتلّ بهذا العنوان موقعاً ما في عالم الحقائق و الواقعيّات؛ و سرعان ما سيزول هذا الظاهر، فتطلع النفس الخبيثة بصورة جهنميّة متّقدة ذات ألسنة رهيبة من اللهب.
و في المقابل، فالظاهر المذموم و السيرة القبيحة للبعض من ذوي النفوس الحسنة و العقائد الصالحة، سوف لن تصمد أمام عالم ظهور الحقائق.
و سينهار كلّ ذلك و يتلاشى بأدنى سبب، كشدّة الاحتضار و النزع، أو بعذاب القبر، أو بالشفاعة يوم القيامة، فتطلع النفس الطيّبة الطاهرة في صورتها البشوشة الخاصّة بالجنّة، مبشّرة بنسائمها اللطيفة بالأصالة و الواقعيّة.
ليس هناك من كبير قلق من الذنب، إذ قد وُعد بغفران الذنوب: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً۱؛ بل الخوف -كلّ الخوف- من فساد الباطن، ذلك الفساد الذي لا يُتسامَح بشأنه مطلقاً. و إنّما كانت المجاهدة من أجل تصفية الباطن، لا من أجل إعادة طلاء جدار متهرّئ متهدّم.
إنّ العمل السيّئ الصادر من امرئ ذي باطن جميل، و عقيدة و إيمان راسخينِ أشبه بالزبد الذي يعلو الماء الصافي إثر تلاطم أمواج الشهوة أو الغضب، ثمّ لا يلبث أن يتلاشى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.٢
أمّا ذلك الماء الصافي الطاهر فلا زوال له و لا اضمحلال، و هو موجود على الدوام في تلألؤ و برِيق، يسقي الأرواح الظمأى الصادية.
و في المقابل، فالعمل الحسن الصادر من الشخص الرديء ذي الفطرة الخبيثة و الباطن السيّئ و الإيمان الفاسد و الوجدان المتزعزع أشبه بالرماد الأبيض البارد ذي اللون الجميل، حين يعلو الجمر المتّقد إثر تموّج الهواء، أمّا حقيقة النار فتبقى ناراً محرقة. و سرعان ما يتطاير الرماد بأيسر هبّة نسيم، فتتجلّى تلك النار في حقيقتها المحرقة التي تشعل البيت و تهدم الملجأ و المأوى.
فهل على المرء أن يخاف من الزَّبَد الذي يعلو الماء؟ و هل يُسَرُّ حقّاً بمثل هذا الرماد؟ أبداً ... أبداً.
مثال لمأمورَينِ أحدهما حسن الطويّة و الآخر حسن السلوك
افرضوا أنّ رجلًا كان له غلامان، أحدهما كيّس فطن مطيع شغول، يطيع مولاه و ينفّذ تعليماته حرفيّاً و لا يتخطّاها أبداً، فهو ينهض كلّ صباح فيكنس الدار و يرشّ فناءها بالماء، ثمّ يزيل الغبار عن جدرانها، ثمّ يرتدي ملابسه في أدب و يُنجز كلّ ما كُلّف به من أعمال في داخل البيت و خارجه. إلّا أنّ هذا الغلام في حقيقة الأمر لصّ خائن، لأنّه يترصّد موت صاحب الدار أو سفره، ليخونه في حريم منزله، أو ليعتدي على أطفاله و يسرق أمواله، أو لينصب نفسه مالكاً للدار، ناوياً في قرارة نفسه تزوير إمضاء صاحب الدار و خاتمه، و التظاهر بأنّه صاحب تلك الدار و مالكها.
أمّا الثاني فغلام يحبّ مولاه و يكنّ الودّ لحريمه و أطفاله؛ و هو شخص أمين لا يفكّر في الخيانة حتّى في نومه. و لو لمح وجه مولاه، لاغر و رقت عيناه بالدموع مودّةً؛ و لو أصاب قدم طفل مولاه شوكة؛ لتعكّر صفو روحه. فهو يحبّ أطفال مولاه، و يرجو أن يبقى ذلك المولى سالماً معافى، و أن تبقى داره عامرة؛ إلّا أنّه قد يضعف و قد يتكاسل فيبقى راقداً
دون أن يكنس الدار، و دون أن يلقى سطل القمامة إلى الزبّال.
فأيّ الخادمينِ أجدر بالاحترام؛ و أيّهما أعزّ مقاماً عند مولاه؟ إنّ هذا المولى يعيش في قلق و اضطراب من غلامه الأوّل، لأنّه يخشى خيانته على الدوام نظراً لامتلاكه نفساً شريرة، لكنّه في أمان من غلامه الثاني، فهو يسافر و يغيب عن داره دون أن يتسرّب إلى نفسه القلق و الاضطراب.
و بهذا يتّضح مفاد جميع هذه الروايات، التي تشير إلى أنّ الإيمان الصحيح و العقيدة الراسخة، و النيّة النزيهة، و حبّ الدين و أوليائه هي معيار السعادة و التقرّب و قبول الأعمال؛ و أنّ العقيدة الفاسدة و النيّة المدنّسة و الإيمان المشوب المعكّر، و فقدان الحبّ للدين و أولياء الدين هي معيار الشقاء و حبط الأعمال و ضلالها.
أجل، لو واجه شخص ما رسول الله و حاججه عن عدم إطاعته لأوامره باحترام من صميم قلبه و روحه، فما الذي سيحصل عليه من صلاته و صيامه و زهده في الملبس؟ إذ إنّ أمثال تلك الامور لا تعدو أن تكون في حقيقتها إلّا لهواً و لعباً لا معنى لها.
و لو أطاع شخص ما رسول الله إطاعة محضة، و أكنّ الاحترام له و لأهل بيته و خاصّته و المقرّبين إليه، و نظر إليهم نظر إعزاز و إكرام؛ فأيّ ضرر سيُوقعه به ذنب صغير لحقه من شهوة طارئة، دون أن يكون في الأمر إنكار و استكبار و جحود؟
بهذا ينفتح أمامنا باب من المعارف الإلهيّة الدينيّة، فنلج في عالم جديد من العلم من خلال إدراك هذه الحقائق.
إنّ المحبّة تهب الروح نشاطاً و حياةً جديدة، و تجعل عمل المحبوب للمحبّ خالصاً، و تصهر روح الحبيب و المحبوب في بوتقة واحدة.
المحبّة تستدعي المعيّة، و تستدعي في علم النفس -كما هو الشأن في
خاصيّة الأواني المستطرقة في علم الفيزياء- توحيد مستويات الأفكار و العلوم و العقائد و الإيمان لدى الأفراد المختلفين.
و من ثمّ فإنّ الشفاعة تختصّ بأهل المحبّة لا بأهل العداوة، و تختصّ بالشيعة لا بالنواصب.۱
الشفاعة تحرق بيدر المعاصي الكبيرة بومضة واحدة لانجذابٍ روحيّ مغناطيسيّ؛ فأين ستكون المعصية حينذاك؟
الشفاعة تبدّل السيّئات حسنات؛ فأين ستكون أشواك الذنب و العصيان في هذا الواديّ؟
أجل، إنّ الشفاعة؛ شأنها شأن العمل الصالح؛ تبدّل الذنب إلى حسنة، و العصيان إلى طاعة، و تُحيل المجرم مطيعاً ممتثلًا: إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ.٢
و كما يسبّب العمل الصالح تقوية روح الإنسان، و صعودَ الكلم الطيّب، و ارتقاء روح الإنسان الطاهرة إلى الله تعالى، في قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ؛٣ فإنّ الشفاعة أيضاً تسبّب ارتقاء الكلم الطيّب إلى الله تعالى. و الكلم الطيّب هو إيمان المؤمن الذي ترفعه الشفاعة إلى الله سبحانه.
و الشفاعة هي خليفة العمل الصالح؛ فهي -إذاً- التي تُلحق المذنبين بالمحسنين. بَيدَ أنّها لا تلحق جميع المذنبين، بل تُلحق منهم من آمن بأولياء الدين و ارتبط بهم، و من تأصّرت روحه مع أرواح أولياء الدين
بأواصر الانجذاب المغناطيسيّ.
الإيمان بالله مِن الله تعالى؛ و حاشا ما يكون من الله عزّ و جلّ أن يدخل جهنّم أو أن يحترق في اتونها. و المؤمن كذلك لا يمكن أن يكون في جهنّم، و لا أن يحترق في لظاها. و سيستحيل رجس الذنوب الذي يعتريه إثر الشفاعة إلى حسنات.
فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ.۱
و الشفاعة تسبّب لحوق مذنبي المؤمنين بصالحيهم، و تسبّب تقوية روح المؤمن ذاته من خلال الإعانة الخارجيّة في رفع الموانع و العقبات، كما تمثّل إزاحة الحجاب بين الحبيب و المحبّ، ذلك الحجاب الذي قد وجد على إثر حصول أكدار صدأ الكثرة.
الشفاعة في حكم الدواء الذي يقوّي الطبيعة الإنسانيّة
لو أصاب بدن الإنسان مرض -مثلًا- فانحرف مزاجه بسببه، كأن تكون قرحة شديدة، فلو كان مزاجه معتدلًا قويّاً و طبيعة بدنه سليمة و أجهزة بدنه الرئيسيّة خالية من العيوب، فإنّه سيستعيد عافيته تلقائيّاً و سيرتفع ذلك المرض عنه، و تلتئم تلك القرحة من جديد.
و في غير هذه الحالة فإنّ المريض سيحتاج إلى استعمال الدواء، و إلى استخدام المضادّات الحيويّة لمكافحة ميكروبات المرض و إبطال تأثيرها؛ فيكون الدواء في حكم المساعد للبدن في إعادة طبيعته إلى حالها الأوّل من الصحّة، و في تبديل الموادّ الفاسدة التي تراكمت في البدن إلى موادّ صالحة نافعة تلائم طبيعة ذلك البدن.
و من هنا، فالعامل المؤثّر في الصحّة هو طبيعة البدن؛ و كلّ ما هنالك
أنّ تلك الطبيعة قد تعتمد على نفسها أحياناً فيتماثل البدن للشفاء تلقائيّاً دون الاستعانة بعامل خارجيّ؛ و قد تضعف أحياناً اخرى فتحتاج إلى إعانة لدحر الأعداء و القضاء على الميكروبات و إعادة الصحّة إلى مسارها الأوّل.
و لو كانت طبيعة الروح و النفس الإنسانيّة بعد ارتكاب الذنب قويّة متماسكة، لصار بإمكانها إزالة أثر ذلك الذنب من خلال التوبة و الاستحياء من الذنب. أمّا لو لم تكن قويّة بالقدر الكافي، فإنّها ستحتاج إلى الشفاعة، ليمكن لتلك الطبيعة أن تعود بإعانة الشفاعة إلى حالتها الاولى، و تحتل مرتبتها بين صالحي المؤمنين.
و لذا نشاهد أنّ الله سبحانه يعدّ الشفاعة مؤثّرة في لحوق العاصين بالمطيعين و إلحاقهم بهم، و يوكّد في كلامه باستمرار على أنّ كلّ نفس تنتفع بما كسبت:
لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ.۱
و نراه يعدّ نفس اللحوق و الإلحاق من مكتسبات الإنسان، كما يعدّ وجود نفس المؤمن الطيّبة دخيلًا في نيل مكتسبات و أعمال الشخص الملحق بالمؤمن، و في ظهور أعمال المؤمن في ذلك الملحق، و في إحلال حسناته محلّ سيّئات الشخص الملحق.
الآيات الدالّة على لحوق الفروع بالاصول
و الآية الكريمة التالية صريحة جدّاً في إلحاق الذرّيّة العاصية بالآباء المطيعين و في لحوقهم بهم:
وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ.٢
لحوق المؤمنين باصولهم
و من الجليّ أنّ اللحوق و الإلحاق لا ينحصران في أصل الإيمان؛ على افتراض إيمان الذرّيّة أيضاً؛ بل هو لحوق في الأعمال. أي أنّ حسنات الآباء تُعطى إلى ذرّيّتهم الملحقين بهم، فيصار إلى إنزال الأبناء في مرتبة اولئك الآباء. و الشاهد على ذلك قوله: وَ مَا ألَتْنَاهُم مِن عَمَلِهِم مِن شَيْءٍ.
أي أنّنا لن نقلّل من عمل الآباء و حسناتهم شيئاً بعد الإلحاق، و لن نقسّم حسناتهم بينهم و بين ذرّيّتهم، بل سنعطي نظير أعمال الآباء الصالحة إلى ذرّيّتهم و أبنائهم مع بقاء تلك الأعمال ثابتة للآباء و هذه هي حقيقة اللحوق و الإلحاق.
ثمّ يقول: كُلُّ امْرِيءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ؛ أي أنّ نفس هذا اللحوق و الإلحاق يحصل إثر طهارة ذوات الذرّيّة و عقائدها المنزّهة و إيمانها و نواياها الخالصة الموجب لإلحاق الذرّيّة بعمل آبائهم و أجدائهم. و بما أنّ هذه العقائد و الإيمان و الخلوص و النوايا الطاهرة هي من مكتسبات الذرّيّة، فإنّ محو سيّئاتهم و وضع حسنات الآباء محلّها ناجم من كسب تلك الذرّيّة و مرهون بذلك الكسب.
و بهذا يتّضح بجلاء أنّ الإيمان يسبّب اتّصال الأدنى بالأعلى؛ و أنّ ذلك الإيمان سيزيل العقبات التي قد تعترض مسيرة التساوي في الدرجات و المقامات، وصولًا إلى جعل الطرفين في مرتبة واحدة.
و هذا هو حاصل الشفاعة التي توجب لحوق المشفوع له بالشافع، و تسبّب إصلاح السيّئات و تبديلها بالحسنات.
أ وَ لا نرى أنّه تعالى يقول: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ؟ فلو لم يكن هناك أصل محفوظ بين المُبْدل و المُبْدل منه، فإنّ التبديل
سيفقد معناه حينئذٍ، بل سيكون إعداماً للمُبدل و إيجاداً للمبدل منه؛ و ذلك الأصل المحفوظ هو الإيمان و العقيدة و الولاية و المحبّة و الارتباط.
فالشفاعة -إذاً- هي نوع من التصرّف الخاصّ في الأعمال، بحيث يبدّل تلك الأعمال مع حفظ أصل ثابت في الحالينِ، و هو أصل الإيمان و الولاية.
و لدينا في مجال اللحوق و الإلحاق شواهد كثيرة، فقد خاطب الله تعالى في قرآنه الكريم بني إسرائيل، و لامهم على أفعال آبائهم و أسلافهم؛ كما في:
الآيات الواردة في لحوق الكافرين بأعمال أسلافهم
وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً.۱
و: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ.٢
وَ: إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ.٣
و كثير من الآيات الاخرى التي وردت بسبب متابعة بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لآبائهم الذين عاشوا زمن موسى، و بسبب تخلّقهم بنفس العقائد و الأخلاق و السلوك، فصاروا كأنّهم موجود متّصل واحد يمتدّ طرفاه بين ذلك الزمان و هذا الزمان؛ و إذا نظرتم إلى مقاطعه المختلفة لرأيتم شيئاً واحداً.
سئل الإمام الرضا عليه السلام: لما ذا يُلعن ذراري بني اميّة الذين أخلفوا آباءهم، و يُساقون إلى جهنّم، مع أنّ بينهم و بين الجرائم التي
ارتكبها آباؤهم أمداً بعيداً؛ فقال: لأنَّهُمْ رَضُوا بِفِعَالِ آبَائِهِمْ.۱
و أنتم ترون أنّ الحاكم لو ذهب إلى مدينة أو قرية قد ارتكب بعض أهليها جناية ما، و الباقون قد رضوا بتلك الجناية، فإنّه سيؤاخذ الجميع، بل قد يعاقبهم جميعاً عليها، مع أنّهم لم يرتكبوا ذلك العمل بأجمعهم؛ كأن تكون تلك الجريمة من فعل عصابة من اللصوص و الجناة المتمرّدين الفارّين؛ لأنّ أهل تلك المدينة سيُعدّون -برضاهم على تلك الجريمة و سرورهم بها- شركاء فيها، لذا فعليهم تحمّل عقوبة ذلك الرضا.
رواية شريفة لإبراهيم الليثيّ في اصول معارف الشيعة (لحوق المؤمنين و الكافرين بأوليائهم)
و من الأجدر -و قد جرى بنا الحديث إلى هذه الغاية- أن نورد رواية أبي إسحاق إبراهيم الليثيّ و محاورته مع الإمام الباقر عليه السلام، و قد سبق
أن ذكرنا قدراً منها في بحثنا المفصّل في إلحاق المؤمنين بأولياء الله و إلحاق المنكرين بأولياء الشيطان، المارّ ذكره في المجلس العاشر من
الجزء الثاني من هذا الكتاب «معرفة المعاد» بَيدَ أنّ هذا الحديث الشريف لمّا كان معدوداً في اسس علم الإيمان و المعارف الإلهيّة، و لأنّ التدبّر فيه يفتح للمرء أبواباً من المعارف، فإنّنا سنورده بأكمله في هذا المجال لتتطيَّب الأرواح بنور معرفة أولياء الدين و ولايتهم، و تُقبر في المزبلة ظُلمة الأهواء و الآراء الباطلة الشيطانيّة.
يروي المرحوم الشيخ الصدوق عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن محمّد بن أحمد، عن أحمد بن محمّد السيّاريّ، عن محمّد بن عبد الله بن مهران الكوفيّ، عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي إسحاق: إبراهيم الليثيّ قال:
قلتُ لأبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام: يا بن رسول الله! أخبرني عن المؤمن المستبصر إذا بلغ في المعرفة و كمل، هل يزني؟
قال: اللهمّ لا.
قلتُ: فيلوط؟
قال: اللهّم لا.
قلتُ: فيسرق؟
قال: لا.
قلتُ: فيشرب الخمر؟
قال: لا.
قلتُ: فيأتي بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش؟
قال: لا.
قلتُ: فيذنب ذنباً؟
قال: نعم، هو مؤمن مذنب ملم.
قلتُ: ما معنى ملم؟
قال: الملم بالذنب لا يلزمه و لا يصرّ عليه.
قال: فقلت: سبحان الله! ما أعجب هذا، لا يزني و لا يلوط و لا يسرق و لا يشرب الخمر و لا يأتي بكبيرة من الكبائر و لا فاحشة.
فقال: لا عجب من أمر الله؛ إنّ الله تعالى يفعل ما يشاء و لا يُسأل عمّا يفعل و هم يُسألون. فممّ عجبتَ يا إبراهيم؟ سَلْ و لا تستنكف و لا تستحي، فإنّ هذا العلم لا يتعلّمه مستكبر و لا مستحي.
قلت: يا بن رسول الله! إنّي أجد من شيعتكم من يشرب الخمر و يقطع الطريق و يُخيف السبل و يزني و يلوط و يأكل الربا و يرتكب الفواحش و يتهاون بالصلاة و الصيام و الزكاة و يقطع الرحم و يأتي الكبائر، فكيف هذا و لِمَ ذاك؟
فقال: يا إبراهيم! هل يختلج في صدرك شيء غير هذا؟ قلت: نعم يا بن رسول الله؛ اخرى أعظم من ذلك.
فقال: و ما هو يا أبا إسحاق؟
قال: فقلتُ: يا بن رسول الله! و أجد مِن أعدائكم و مناصبيكم مَن يكثر من الصلاة و من الصيام و يخرج الزكاة و يتابع بين الحجّ و العمرة و يحرص على الجهاد و يؤثر على البرّ و على صلة الأرحام، و يقضي حقوق إخوانه و يواسيهم من ماله، و يتجنّب شرب الخمر و الزنا و اللواط و سائر الفواحش، فممّ ذاك؟ و لِمَ ذاك؟ فسِّره لي يا بن رسول الله و برهنه و بيِّنه، فقد -و الله- كثر فكري و أسهر ليلي و ضاق ذرعي.
قال: فتبسّم الباقر صلوات الله عليه، ثمّ قال: يا إبراهيم! خُذْ إليك بياناً شافياً فيما سألت، و عِلماً مكنوناً من خزائن علم الله و سرّه. أخبرني يا إبراهيم كيف تجد اعتقادهما؟
قلتُ: يا بن رسول الله أجد محبّيكم و شيعتكم -على ما فيه ممّا و صفته من أفعالهم- لو اعطي أحدهم ما بين المشرق و المغرب ذهباً و فضّة أن يزول عن ولايتكم و محبّتكم إلى موالاة غيركم و إلى محبّتهم ما زال، و لو ضُرِبَتْ خياشيمه بالسيوف فيكم و لو قُتل فيكم ما ارتدع و لا رجع عن محبّتكم و ولايتكم؛ و أرى الناصب على ما هو عليه ممّا و صفته من أفعالهم، لو اعطي أحدهم ما بين المشرق و المغرب ذهباً و فضّة أن يزول عن محبّة الطواغيت و موالاتهم إلى موالاتكم ما فعل و لا زال، و لو ضربت خياشيمه بالسيوف فيهم و لو قُتل فيهم ما ارتدع و لا رجع، و إذا سمع أحدهم منقبة لكم و فضلًا اشمأزّ من ذلك و تغيّر لونه و رُئي كراهية ذلك في وجهه بغضاً لكم و محبّة لهم.
قال: فتبسّم الباقر عليه السلام، ثمّ قال: يا إبراهيم! هاهنا هلكت العاملة الناصِبة، تَصْلى ناراً حامِيَةً تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ.۱
و من أجل ذلك قال تعالى: وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً.٢
ويحك يا إبراهيم! أ تدري ما السبب و القصّة في ذلك، و ما الذي قد خفي على الناس منه؟
قلتُ: يا بن رسول الله! فبيِّنه لي و اشرحه و برهنه!
قال: يا إبراهيم! إنّ الله تبارك و تعالى لم يزل عالماً قديماً خلق الأشياء لا من شيء، و من زعم أنّ الله تعالى خلق الأشياء من شيء فقد كفر، لأنّه لو كان ذلك الشيء الذي خلق منه الأشياء قديماً معه في أزليّته
و هويّته كان ذلك الشيء أزليّاً، بل خلق الله تعالى الأشياء كلّها لا من شيء، فكان ممّا خلق الله تعالى أرضاً طيّبة، ثمّ فجّر منها ماء عذباً زلالًا، فعرض عليها ولايتنا أهل البيت، فقبلتها، فأجر ذلك الماء عليها سبعة أيّام طبقها و عمّها، ثمّ أنضب ذلك الماء عنها، فأخذ من صفوة ذلك الطين طيناً فجعله طين الأئمّة عليهم السلام، ثمّ أخذ ثفل۱ ذلك الطين، فخلق منه شيعتنا، و لو ترك طينتكم يا إبراهيم على حاله كما ترك طينتنا، لكنتم و نحن شيئاً واحداً.
قلت: يا بن رسول الله! فما فعل بطينتنا؟
قال: أخبرك يا إبراهيم؛ خلق الله تعالى بعد ذلك أرضاً خبيثة منتنة، ثمّ فجّر منها ماء اجاجاً آسناً مالحاً، فعرض عليها ولايتنا أهل البيت فلم تقبلها، فأجر ذلك الماء عليها سبعة أيّام حتّ طبقها و عمّها، ثمّ نضب ذلك الماء عنها، ثمّ أخذ من ذلك الطين فخلق منه الطغاة و أئمّتهم، ثمّ مزجه بثفل طينتكم؛ و لو ترك طينتهم على حالها و لم يمزج بطينتكم، لم يشهدوا الشهادتينِ و لا صلّوا و لا صاموا و لا زكّوا و لا حجّوا و لا أدّوا الأمانة و لا أشبهوكم في الصور، و ليس شيء أكبر على المؤمن من أن ير صورة عدوّه مثل صورته.
قلت: يا بن رسول الله! فما صنع بالطينتينِ؟
قال: مزج بينهما بالماء الأوّل و الماء الثاني، ثمّ عركها عرك الأديم، ثمّ أخذ من ذلك قبضة، فقال: هذه إلى الجنّة و لا ابالي. و أخذ قبضة اخر و قال: هذه إلى النار و لا ابالي. ثمّ خلط بينهما، فوقع من سنخ المؤمن و طينته على سنخ الكافر و طينته، و وقع من سنخ الكافر و طينته على سنخ
المؤمن و طينته. فما رأيتَه من شيعتنا من زنا أو لواط أو ترك صلاة أو صوم أو حجّ أو جهاد أو خيانة أو كبيرة من هذه الكبائر، فهو من طينة الناصب و عنصره الذي قد مُزج فيه، لأنّ من سنخ الناصب و عنصره و طينته اكتساب المآثم و الفواحش و الكبائر. و ما رأيت من الناصب من مواظبته على الصلاة و الصيام و الزكاة و الحجّ و الجهاد و أبواب البرّ فهو من طينة المؤمن و سنخه الذي قد مُزج فيه، لأنّ من سنخ المؤمن و عنصره و طينته اكتساب الحسنات و استعمال الخير و اجتناب المآثم. فإذا عُرضتْ هذه الأعمال كلّها على الله تعالى قال: أنا عدلٌ لا أجور، و منصفٌ لا أظلم، و حَكَم لا أحيف و لا أميل و لا أشطط، ألحقوا الأعمال السيّئة التي اجترحها المؤمن بسنخ الناصب و طينته، و ألحقوا الأعمال الحسنة التي اكتسبها الناصب بسنخ المؤمن و طينته، ردّوها كلّها إلى أصلها؛ فَإنِّي أنَا اللهُ لَا إلَهَ إلَّا أنَا عَالِمُ السرّ وَ أخْفى، وَ أنَا المُطَّلِعُ عَلَ قُلُوبِ عِبَادِي لَا أحِيفُ وَ لَا أظْلِمُ وَ لَا الْزِمُ أحَداً إلَّا مَا عَرِفْتُهُ مِنْهُ قَبْلَ أنْ أخْلُقَهُ.
ثمّ قال الباقر عليه السلام: اقرأ يا إبراهيم هذه الآية!
قلتُ: يا بن رسول الله؛ أيّة آية؟
قال: قوله تعالى: قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ.۱ هو في الظاهر ما تفهمونه، هو -و الله- في الباطن هذا بعينه.
يا إبراهيم! إنّ للقرآن ظاهراً و باطناً، و محكماً و متشابهاً، و ناسخاً و منسوخاً.
ثمّ قال: أخبرني يا إبراهيم عن الشمس إذا طلعت و بدا شعاعها في
البلدان، أ هو باين من القرص؟
قلتُ: في حال طلوعه باين.
قال: أ ليس إذا غابت الشمس اتّصل ذلك الشعاع بالقرص حتّ يعود إليه؟ قلتُ: نعم.
قال: كذلك يعود كلّ شيء إلى سنخه و جوهره و أصله، فإذا كان يوم القيامة نزع الله تعالى سنخ الناصب و طينته مع أثقاله و أوزاره من المؤمن، فيلحقها كلّها بالناصب؛ و ينزع سنخ المؤمن و طينته مع حسناته و أبواب برّه و اجتهاده من الناصب فيلحقها كلّها بالمؤمن. أ فترى هاهنا ظلماً أو عدواناً؟
قلت: لا يا بن رسول الله.
قال: هذا -و الله- القضاء الفاصل و الحكم القاطع و العدل البيّن، لا يُسئل عمّا يفعل و هم يُسألون. يا إبراهيم: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ،۱ هذا من حكم الملكوت.
قلتُ: يا بن رسول الله! و ما حكم الملكوت؟
قال: حكم الله حكم أنبيائه، و قصّة الخضر و موسى عليهما السلام حين استصحبه، فقال: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ، وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً.٢
افهمْ يا إبراهيم و اعقلْ؛ أنكر موسى على الخضر و استفظع أفعاله، حتّ قال له الخضر: يا موسى! ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي؛٣ إنّما فعلتُه عن أمر الله
تعالى. من هذا -ويحك يا إبراهيم- قرآن يُتل ى و أخبار تؤثر عن الله تعالى، مَن ردّ منها حرفاً فقد كفر و أشرك و ردّ على الله تعالى.
قال الليثيّ: فكأنّي لم أعقل الآيات و أنا أقرأها أربعين سنة إلّا ذلك اليوم، فقلتُ: يا بن رسول الله! ما أعجب هذا! تؤخذ حسنات أعدائكم فتُردّ على شيعتكم، و تؤخذ سيّئات محبّيكم فتردّ على مبغضيكم؟!
قال: أي و الله الذي لا إله إلّا هو فالق الحبّة و بارئ النسمة و فاطر الأرض و السماء، ما أخبرتك إلّا بالحقّ، و ما أنبأتُك إلّاالصدق وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ؛۱ و ما الله بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ،٢ و إنّ ما أخبرتُك لموجود في القرآن كلّه.
قلتُ: هذا بعينه يوجد في القرآن؟
قال: نعم، يوجد في أكثر من ثلاثين موضعاً في القرآن؛ أ تحبّ أن أقرأ ذلك عليك؟
قلتُ: بل ى يا بن رسول الله.
فقال: قال الله تعالى:
استدلال الإمام الباقر في اللحوق و الإلحاق بآيات القرآن
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ
وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ (الآية).۱ أزيدك يا إبراهيم؟
قلتُ: بلى يا بن رسول الله.
قال: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ،٢ أ تحبّ أن أزيدك؟
قلتُ: بلى يا بن رسول الله.
قال: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.٣
يبدّل الله سيّئات شيعتنا حسنات، و يبدّل الله حسنات أعدائنا سيّئات، و جلال الله إنّ هذا لمن عدله و إنصافه، لا رادّ لقضائه و لا معقّب لحكمه و هو السميع العليم. أ لم أبيّن لك أمر المزج و الطينتينِ من القرآن؟
قلتُ: بلى يا بن رسول الله.
قال: اقرأ يا إبراهيم:
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ؛٤ يعني من الأرض الطيّبة و الأرض المنتنة. فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى؛٥ يقول: لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته و صيامه و زكاته و نسكه، لأنّ الله تعالى أعلم بمن اتّقي منكم، فإنّ ذلك من قبل اللمم -و هو المزاج-.
أزيدك يا إبراهيم؟
قلت: بلي يا بن رسول الله.
قال: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ، فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛۱ يعني أئمّة الجور دون أئمّة الحقّ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ.٢ خُذها إليك يا أبا إسحاق فو الله إنّه لمن غرر أحاديثنا و باطن سرائرنا و مكنون خزائننا، و انصرف و لا تطلع على سرّنا أحداً إلّا مؤمناً مستبصراً، فإنّك إن أذعتَ سرّنا بُليتَ في نفسك و مالك و أهلك و ولدك.٣
أخبار الطينة لا تستلزم الجبر
و ينبغي أن تعدّ هذه الرواية الشريفة من اصول المعارف الشيعيّة؛ و من المهمّ هنا أن نذكّر بأنّ خلق أفراد من البشر من طينة طيّبة و خلق آخرين من طينة منتنة سبخة، أو كما في تعبير بعض الروايات الاخري: من طينة علّيّين و من طينة سجّين، لا منافاة له أبداً مع أمر الاختيار، لأنّ الله تعالى قد جعل هذه الطينة الطيّبة و هذه الطينة السبخة مختارتينِ، و قد أشار الإمام في نفس الرواية -دفعاً لشبهة الجبر و الاضطرار- إلى قول الله تعالى:
و أنا المطلع علي قلوب عبادي لا أحيف و لا أظلم و لا الزم أحدا إلا ما عرفته منه قبل أن أخلقه.
و من هنا، فإنّ التكاليف الإلهيّة ترد حسب القدرة و الوسع؛ و حين يعطي الله سبحانه لشخص ما شيئاً معيّناً، فإنّه يطلب منه كمال ذلك الشيء، لا كمال شيء آخر. فالإنسان المخلوق من طينة علّيّين مكلّف بتكليف
معيّن، و المخلوق من طينة سجّين مكلّف بتكليف معيّن آخر، و هو مختار مريد، و عليه أن يبلغ بالقابليّة التي وهبه الله إلى منصّة الفعليّة و الظهور. و الله سبحانه لم يأمره أبداً أن يصل إلى فعليّة الإنسان المخلوق من علّيّن، لأنّ هذا الطلب ظلم، أمّا ذاك الأوّل فعدل مَحض.
إنّ الله تعالى لم يأمر الشّمر أن يصبح كسيّد الشهداء عليه السلام، و لا ينتظر منه أن يصبح كذلك؛ لكنّ الشمر مختار ذو إرادة؛ و عليه -ضمن إدراكاته و سعته- أن يجتنب فعل القبيح، فإن هو فعل ذلك القبيح، لحقه الخزي و العار، و استحقّ العقاب و النار.
و خلاصة الكلام: أنّ الله عزّ و جلّ لم يخلق الخلق مجبورين، و إذ إنّه جعل كلّ فردٍ من طينةٍ معيّنة، فينتظر منه كمال تلك الطينة.
كما أنّ علم الله بالمعاصي و الذنوب التي يرتكبها الناس باختيارهم لا يستدعي الجبر، بل هو نقيض الجبر؛ إذ على فرض علمه تعالى بالمعاصي التي يفعلها الناس اختياراً، فكيف يكون ذلك جبراً؟ إذ لو كان الأمر جبراً لاستلزم الانقلاب، و الانقلاب محال.
و إذاً، فإنّ الله تعالى كان عالماً قبل خلق الناس بخلقهم و أفعالهم التي يجترحونها اختياراً، لأنّ الخلقة هي خلقة الإنسان المختار، و هذا هو عين العدل. و لقد منح سبحانه الأفراد قابليّات مختلفة بالوجدان، إلّا أنّه ينتظر من كلّ فرد ظهور تلك القابليّة المعيّنة التي منحه إيّاها، و ذلك عين العدل؛ وَ الحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.
لا فائدة من العمل الصالح من دون إيمان
و هناك نكتة اخرى ينبغي أن تذكر، و هي أنّ مقولة: (إنّ العمل الصالح ليس له من فائدة بلا إيمان و عقيدة)، ليست مقولة مطلقة، لأنّ
تأثير الأعمال الحسنة على نفس المؤمن، و دورها في تزكية تلك النفس و تطهيرها ممّا لا شكّ فيه. لذا، فإنّ جميع الناس مأمورون بالقيام بالأعمال الحسنة الصالحة، كلّ ما في الأمر أنّ أعمال القربة لا تصدر من الكفّار المشركين بالله، و ليس ثمّة معنى من أن يقوم شخص لا يعترف بالله بعمل للّه و في الله.
و من هنا، فمثل هذه الأعمال الصالحة التي قد يفعلها هؤلاء الكفّار ستمتلك صورة صالحة و باطناً فاسداً، و ستكون الصلاة و الصيام و الزكاة و الجهاد خبيثة بأجمعها إذا اقترنت بالنفس الخبيثة و الأخلاق الخبيثة. الصورة صورة صلاة، أمّا باطنها فرياء و سمعة و تظاهر و آلاف اخرى من النوايا الخفيّة. و مثل هذه الصلاة لا تُقبل، و ما إن يرفع الملائكة إلى الأعلى نظائر هذه الصلاة، فإنّ الخطاب يأتيهم: ارجعوا فاضربوا بها وجه صاحبها، فأنا في غنى عن مثل هذه الصلاة! أجل، إنّ العمل الصالح و السيرة الحسنة هما اللذان يصدران عن نيّة صالحة حسنة، و هما اللذان يؤثّران في طهارة فاعلهما و قربه من الله تعالى.
أمّا عنوان الصلاة و الصوم و الحجّ و الجهاد فلا موضوعيّة له. و لو صدرت هذه الأعمال من نفوس شريرة خبيثة، فسوف لا تقبل، لأنّ التقوى و التوحيد هما شرطا قبول الأعمال: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.۱
و الخلاصة، فقد جاء في الآيات القرآنيّة الكريمة تعبير: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ، الذي ينصّ على أنّ المؤمن بالله تعالى هو من يعمل صالحاً. و لذلك فإنّ خبر إبراهيم الليثيّ لا ينفي العمل الصالح، بل يعتبره مشروطاً بالتقوى و التوحيد و الولاية؛ وَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
و حاصل ما ورد في البحث هو أنّ حجاب الكثرة سيزول يوم القيامة، و ستنهار الجزئيّات المفرّقة، و ستندمج الحقائق و تتّحد، فتتّجه حقائق الجنّة إلى الجنّة، بينما تتّجه حقائق النار إلى جهنّم.
و سيلحق المؤمنون و الشيعة الحقيقيّون بالأئمّة الطاهرين، و يتّجهون إلى الجنّة في معيّة الأئمّة و من خلال اتّحادهم معهم. أمّا الكافرون و المعاندون فسيلحقون بأئمّتهم و قادتهم، فيهوون جميعاً في نار جهنّم.
الآيات الواردة في اللحوق
جاء في القرآن الكريم: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ.۱
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ، لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.٢
و هي آيات تفصح أيّما إفصاح عن أمر اللحوق و الإلحاق. كما ورد في كثير من الروايات أنّ من يفعل الأمر الفلاني فإنّ ذلك العمل سيكون جليسه و قرينه في درجته و رتبته؛ هذا من باب اللحوق. فإن كان فاعل ذلك العمل من ذوي الإيمان و أصحاب الولاية، صار اللحوق و الإلحاق حتميينِ، و هو أمر يبعث على سرور الشيعة المخلصين و أتباع نهج الولاية و المحبّين الحقيقيّين لأئمّة الدين. إذ على الرغم من أنّهم لم يكونوا -بحسب الظاهر- أصحاباً معاصرين لجميع سادتهم و أئمّتهم، فإنّهم يوم القيامة لن يكونوا أصحابهم فحسب، بل و أعلى من ذلك و أسمى، لأنّهم سيُلحقون بهم؛ فَذَلِكَ الشَّرَفُ نِعْمَ الشَّرَفُ.
حبّ الله و أوليائه يكفّر الذنوب
روى الشيخ الطوسيّ في «الأمالي» بسنده المتّصل عن جماعة، عن أبي المفضّل، عن جعفر بن محمّد العلويّ، عن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن، عن أبيه، عن جدّه، عن أبيه عبد الله، عن أبيه و خاله عليّ بن الحسين، عن الحسن و الحسين، عن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهم، قال:
جاء رجل من الأنصار إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول الله! ما أستطيع فراقك! و إنّي لأدخل منزلي فأذكرك فأترك ضيعتي و اقبل حتّى أنظر إليك حبّاً لك، فذكرتُ إذا كان يوم القيامة و ادخلتَ الجنّةَ فرفعتَ في أعلى علّيّين، فكيف لي بك يا نبيّ الله؟ فنزل:
وَ مَن يُطِعِ اللهَ وَ الرَّسُولَ فَاولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَدَاءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ اولَئِكَ رَفِيقاً.
فدعا النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم الرجل فقرأها عليه و بشّره بذلك.۱
و يعدّ أمر اللحوق أحد المعارف الدينيّة، سواءً حصل ذلك اللحوق بتأثير الشفاعة أم بعوامل اخرى كالتوبة و العمل الصالح و غير ذلك.
و لدينا روايات كثيرة دالّة على أنّ صلاح العمل و فساده قائمان على أساس النيّة؛ فإن صلحت النيّة صلح العمل، و إن فسدت فسد، مهما كان ظاهر ذلك العمل كبيراً كبناء مسجد أو دار للأيتام أو مستشفى أو مدرسة و نظائر ذلك، إذ إنّ العمل الصغير الضئيل المقترن بالنيّة الصالحة هو أفضل من الأعمال الجليلة العظيمة المقترنة بالنيّة السيّئة المدنّسة.
الروايات الواردة في أصالة النيّة
روى الشيخ زين الدين الشهيد الثاني في كتاب «مُنية المريد»:
قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ؛ وَ إنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ، وَ مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأةٍ يَنْكَحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ.۱
و روى أحمد بن خالد في كتاب «المحاسن» عن الحسين بن يزيد النوفليّ، عن السكونيّ، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، قال:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: نِيَّةُ المَرْءِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَ نِيَّةُ الفَاجِرِ شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ، وَ كُلُّ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِنِيَّتِهِ.٢
و روى بإسناده عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
إنّ العَبْدَ المُؤْمِنَ الفَقِيرَ لَيَقُولُ: يَا رَبِّ ارْزُقْنِي حَتَّى أفْعَلَ كَذَا وَ كَذَا مِنَ البِرِّ وَ وُجُوهِ الخير، فَإذَا عَلِمَ اللهُ ذَلِكَ مِنْهُ بِصِدْقِ نِيَّتِهِ، كَتَبَ اللهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلَ مَا يَكْتُبُ لَهُ لَوْ عَمِلَهُ، إنَّ اللهَ وَاسِعٌ كَرِيمٌ.٣
و روى كذلك أحمد بن خالد، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: إنَّ اللهَ يَحْشُرُ النَّاسَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.٤
و يتّضح أنّ عنوان العمل و قالبه زائلان غير مثمرين بدون النيّة، و أنّ روح العمل المتمثّل في النيّة هو النافع المجدي.
و لقد كانت نيّة الناصبين المعاندين لأئمّة الدين نيّة فاسدة مدنّسة، لذا فإنّهم سيُلحقون بأوليائهم المجرمين، مهما امتلكت أعمالهم قالباً عظيماً ذا ابّهة و جلال. أمّا الشيعة المؤمنون ذوو النوايا الخالصة النزيهة، فسيُلحقون بأوليائهم، مهما بدت أعمالهم صغيرة و لا تستلفت الأنظار، و على الرغم من الأخطاء. و الزلّات التي ارتكبوها؛ لأنّ الشفاعة ستُلحقهم بأوليائهم و تجعلهم يلتحمون بهم.
و لمناسبة المقام، فإنّنا نختتم هذه المطالب بحول الله و قوّته بعشر روايات تتحدّث عن تأثير محبّة أولياء الدين، تلك المحبّة التي تتسبّب في اللحوق و الإلحاق.
الرواية الاولى: يروي البرقيّ في «المحاسن» عن محمّد بن خالد الأشعريّ، عن إبراهيم بن محمّد الأشعريّ، عن حسين بن مصعب، قال:
سَمِعْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: مَنْ أحَبَّ اللهَ وَ أبْغَضَ عَدُوَّهُ لَمْ يُبْغِضْهُ لِوَتْرٍ وَتَرَهُ في الدُّنْيَا،۱ ثُمَّ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِمِثْلِ زَبَدِ البَحْرِ ذُنُوباً كَفَّرَهَا اللهُ لَهُ.٢
الرواية الثانية: يروي الكلينيّ في «الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن الفُضَيْل بن يسار، قال:
سَألْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الحُبِّ وَ البُغْضِ، أ مِنَ الإيمَانِ هُوَ؟ فَقَالَ: وَ هَلِ الإيمَانُ إلَّا الحُبُّ وَ البُغْضُ؟ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ:۱ «حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ وَ زَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيَانَ اولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ».٢
الرواية الثالثة: روى البرقيّ في «المحاسن» عن أبيه، عن العزْرَميّ، عن أبيه، عن جابر الجُعفيّ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال:
إذَا أرَدْتَ أنْ تَعْلَمَ أنَّ فِيكَ خَيْراً فَانْظُرْ إلَى قَلْبِكَ، فَإن كَانَ يُحِبُّ أهْلَ طَاعَةِ اللهِ وَ يُبْغِضُ أهْلَ مَعْصِيَةِ اللهِ فَفِيكَ خَيْرٌ وَ اللهُ يُحِبُّكَ؛ وَ إنْ كَانَ يُبْغِضُ أهْلَ طَاعَةِ اللهِ وَ يُحِبُّ أهْلَ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَفِيكَ شَرٌّ وَ اللهُ يُبْغِضُكَ، وَ المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ.٣
و روى المرحوم الكلينيّ في «الكافي» عين هذه الرواية بنفس السند، عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ.٤
الرواية الرابعة: روى المحدّث القمّيّ في «سفينة البحار» عن «علل الشرايع» عن أنس، قال: جاء رجل من أهل البادية، و كان يُعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية يسأل النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، فقال:
يا رسول الله! متى قيام الساعة!
فحضرت الصلاة، فلمّا قضى صلاته؛ قال: أين السائل عن الساعة؟
قال: أنا يا رسول الله.
قال: فما أعددتَ لها؟
قال: و اللهِ ما أعددتُ لها من كثير عمل صلاة و لا صوم، إلّا أنّي احبّ الله و رسوله.
فقال له النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَ.
قال أنس: فما رأيتُ المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيءٍ أشدّ من فرحهم بهذا.۱
مكتوب الإمام الرضا إلى الجمّال
الرواية الخامسة: و هي رواية في «دعوات الراونديّ» ذكر فيها حديثاً قدسيّاً يتضمّن محاورة بين الله تعالى و موسى على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام، يقول فيها:
فَعَلِمَ مُوسَى أنَّ أفْضَلَ الأعْمَالِ الحُبُّ في اللهِ وَ البُغْضُ في اللهِ؛ وَ إلَيْهِ أشَارَ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَكْتُوبِهِ:
كُنْ مُحِبّاً لآلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَ إنْ كُنْتَ فَاسِقاً، وَ مُحِبّاً لِمُحِبِّيهِمْ وَ إنْ كَانُوا فَاسِقِينَ.
ثمّ يقول الراوندي: و من شجون الحديث أنّ هذا المكتوب هو الآن عند بعض أهل «كرمند» قرية من نواحينا إلى إصفهان، و روايته أنّ رجلًا من أهلها كان جمّالًا لمولانا أبي الحسن عليه السلام عند توجّهه إلى خراسان، فلمّا أراد الانصراف قال له: يا بن رسول الله! شرّفني بشيء من
خطّك أتبرّك به؛ و كان الرجل من العامّة، فأعطاه ذلك المكتوب.۱
الرواية السادسة: روى العيّاشيّ في تفسيره عن بُريد بن معاوية العجليّ، قال: كنتُ عند أبي جعفر (الباقر) عليه السلام، إذ دخل عليه قادم من خراسان ماشياً، فأخرج رجليه قد تفلّقتا؛ قال: أما -و الله- ما جاء بي من حيث جئتُ إلّا حبّكم أهل البيت. فقال أبو جعفر: وَ اللهِ لَوْ أحَبَّنَا حَجَرٌ، حَشَرَهُ اللهُ مَعَنَا؛ وَ هَلِ الدِّينُ إلَّا الحُبُّ؟٢
الرواية السابعة: روى أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ في «المحاسن» عن محمّد بن عليّ، عن محمّد بن جبلة الأحمسيّ، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام، قال:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: المُتَحَابُّونَ في اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى أرْضِ زَبَرْجَدٍ خَضْرَاءَ في ظِلِّ عَرْشِهِ عَنْ يَمِينِهِ -وَ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ- وُجُوهُهُمْ أشَدُّ بَيَاضاً مِنَ الثَّلْجِ؛ وَ أضْوَأُ مِنَ الشَّمْسِ الطَّالِعَةِ،
يَغْبِطُهُمْ بِمَنْزِلَتِهِمْ كُلُّ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَ كُلُّ نَبِيّ مُرْسَلٍ؛ يَقُولُ النَّاسُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ المُتَحَابُّونَ في اللهِ.۱
و روى الكلينيّ في كتابه «الكافي» هذه الرواية بنفس السند.٢
الرواية الثامنة: روى أحمد بن محمّد البرقيّ في «المحاسن» عن محمّد ابن عليّ و غيره، عن الحسن بن محمّد بن فضل الهاشميّ، عن أبيه، قال:
قَالَ لي أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّ حُبَّنَا أهْلَ البَيْتِ لَيُنْتَفَعُ بِهِ في سَبْعِ مَوَاطِنَ: عِنْدَ اللهِ، وَ عِنْدَ المَوْتِ، وَ عِنْدَ القَبْرِ، وَ يَوْمَ الحَشْرِ، وَ عِنْدَ الحَوْضِ، وَ عِنْدَ المِيزَانِ، وَ عِنْدَ الصِّرَاطِ.٣
متابعة المرء لآل محمّد تلحقه بهم و تجعله منهم
الرواية التاسعة: يروي أبو جعفر محمّد بن أبي القاسم الطبريّ الشيعيّ في كتابه «بشارة المصطفى لشيعة المرتضى» عن الحسن بن الحسين بن بابويه في الري، عن أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ في النجف الأشرف، عن محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد، عن الحسين بن أحمد بن المغيرة، عن حيدر بن محمّد السمرقنديّ، عن محمّد بن عمرو الكشيّ، عن محمّد بن مسعود العيّاشيّ، عن جعفر بن معروف، عن يعقوب بن يزيد، عن محمّد بن عذافر، عن عمر بن يزيد٤ قال:
قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا بْنَ يَزِيدَ! أنْتَ وَ اللهِ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ.
فَقُلتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! مِن آلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ؟
قَالَ: وَ اللهِ مِنْ أنفُسِهِمْ يَا عُمَرَ، أ ما تَقْرَا كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ:
«إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ».۱
أ مَا تَقْرَا قَوْلَهُ: «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»؟٢
رواية عطيّة العوفيّ الكوفيّ و جابر في آثار المحبّة و اللحوق
الرواية العاشرة: كما يروي الطبريّ الشيعيّ في «بشارة المصطفي» بسلسلة سنده المتّصل معنعناً عن الأعمش، عن عطية العوفيّ الكوفيّ، قال:
خرجتُ مع جابر بن عبد الله الأنصاريّ زائرين قبر الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فلمّا وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل، ثمّ اتّزر بإزار و ارتدى بآخر، ثمّ فتح صرّة فيها سعد
فنثرها على بدنه، ثمّ لم يخطُ خطوةً إلّا ذكر الله تعالى، حتّى إذا دنا من القبر، قال: ألمسنيه،۱ فألمستُه فخرّ على القبر مغشيّاً عليه، فرششتُ عليه شيئاً من الماء فلمّا أفاق، قال: يا حسين! -ثلاثاً-، ثمّ قال: حبيبٌ لا يُجيب حبيه!
ثمّ قال: و أنّى لك بالجواب و قد شحطت أوداجك على أثباجك، و فُرِّق بين بدنك و رأسك؛ فأشهدُ أنّك ابن خاتم النبييّن و ابن سيّد المؤمنين، و ابن حليف التقوى و سليل الهُدى، و خامس أصحاب الكسا، و ابن سيّد النقبا، و ابن فاطمة سيّدة النساء. و ما لك لا تكون هذا و قد غَذَّتْكَ كفٌّ سيّد المرسلين و رُبّيت في حِجر المتّقين و رضعتَ من ثدي الإيمان و فُطمت بالإسلام؛ فَطِبْتَ حَيّاً و طِبتَ ميّتاً؛ غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبة بفراقك، و لا شاكّة في الخيرة لك، فعليك سلام الله و رضوانه. و أشهدُ أنّك مضيتَ على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا.
ثمّ جال ببصره حول القبر، و قال: السلام عليكم أيّتها الأرواح التي حلّت بِفناء الحسين و أناختْ برحله، و أشهدُ أنّكم أقمتم الصلاة، و آتيتم الزكاة، و أمرتم بالمعروف، و نهيتم عن المنكر، و جاهدتم الملحدين، و عبدتم الله حتّى أتاكم اليقين. و الذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.
قال عطيّة: فقلتُ له: يا جابر! كيفَ و لم نهبط وادياً و لم نَعْلُ جبلًا و لم نضرب بسيفٍ، و القوم قد فُرّق بين رؤوسهم و أبدانهم و اوتمت
أولادهم و ارملت أزواجهم؟!
فقال: يا عطيّة! سمعتُ حبيبي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول: «من أحبّ قوماً حُشِرَ معهم، و من أحبّ عمل قومٍ اشْرِكَ في عملهم». و الذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً إنّ نيّتي و نيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين عليه السلام و أصحابه. خُذني إلى أبيات كوفان!
فلمّا صرنا في بعض الطريق، قال: يا عطية! هل أوصيك، و ما أظنّ أنّني بعد هذه السفرة مُلاقيك؟ أحبِبْ مُحبّ آل محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم ما أحبّهم، و أبْغِضْ مُبغض آل محمّد ما أبغضهم و إن كان صوّاماً قوّاماً؛ و أرفق بمحبّ محمّد و آل محمّد، فإنّه إن تزلّ له قدم بكثرة ذنوبه، ثبتت له اخرى بمحبّتهم، فإنّ محبّهم يعود إلى الجنّة، و مبغضهم يعود إلى النار.۱
و لقد أجاد مادح أهل البيت النظام الأسترآباديّ في قوله:
على امام مُعَلّاى هاشمى كه بود | *** | سواد منقبتش بر بياض ديدهء حور |
ز حُبّ اوست بروز جزا نه از اطاعت | *** | اميد مغفرت از حيّ لا يزال غفور |
نتيجهاى ندهد بى محبّتش در حشر | *** | مكاشفات جُنيد و رياضت منصور٢ |
ز دل سواد معاصى برون برد مهرش | *** | چنانكه ماه برد ظلمت شب ديجور۱ |
المَجْلِسُ الرَّابعَ و السِّتُّونَ: في حَقِيقَةِ الشَّفاعَةِ وَ ثُبُوتِها
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.۱
التهجّد من الهجود، و هو أساساً بمعنى النوم؛ و التهجّد بمعنى القيام من النوم. و الضمير في «به» عائد إلى القرآن، أي: تهجّد بالقرآن، انهضْ و اتلُ القرآن. و المراد بذلك قراءته في الصلاة، حيث يقرأ في الصلاة السور و الآيات القرآنيّة الطويلة. و هذه الصلاة في قلب الليل بمثل هذه التلاوة القرآنيّة بالسور الطويلة، هي غير الفرائض التي أوجبها الله على نبيّه الكريم، و هي نافلة ألزم الله تعالى بها نبيّه.
و المقام في الظاهر اسم مكان، أمّا البعث فهو إمّا بمعنى الإقامة، أي: يُقِيمَكَ رَبُّكَ في مَقَامٍ مَحْمُودٍ. أو متضمّن لمعنى الإعطاء، أي: يَبْعَثَكَ مُعطياً لَكَ؛ أو يُعْطِيكَ بَاعِثاً مَقَاماً مَحْمُوداً.
المقام المحمود هو مقام الشفاعة
و على أيّة حال، فقد منّ الله جلّ و عزّ بالمقام المحمود على رسوله
كأجر على تهجّده بالقرآن و قيامه في صلاة الليل التي كان يتلو فيها السور القرآنيّة الطويلة. و المقام المحمود هو مقام يمتدحه جميع الخلائق و يبجّلونه؛ و بطبيعة الحال فإنّهم لا يبجّلونه ما لم يكن المقام في حسابهم جميلًا مُستحسناً، و ما لم ينتفعوا به قاطبة.
و على هذا الأساس، فقد فُسّر المقام المحمود بالمقام الذي يحمده جميع الخلائق و يستفيدون منه. و ذلك هو مقام الشفاعة الكبرى لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في يوم القيامة. و قد اتّفقت على هذا التفسير جميع الروايات الواردة عن الرسول الأكرم و أئمّة أهل البيت عن طريق الشيعة و العامّة. ذلك أنّ الحمد هو الثناء و المدح على عملٍ جميل اختياريّ. و باعتبار أنّ المقام المحمود مطلق، فعلى جميع الخلائق أن يحمدوه؛ و لا يمكن للفعل الجميل الاختياريّ الذي يصدر عن رسول الله يوم القيامة فينتفع به الجميع و يحمدونه، أن يكون غير الشفاعة الكبرى. لذا، فالمقام المحمود الذي فُسّر في الروايات بالشفاعة الكبرى هو معنى لطيف يمكن استنباطه من نفس الآية.
روى في «الميزان» نقلًا عن «تفسير العيّاشيّ» عن عبيد بن زرارة قال: سُئِلَ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ المُؤمِنِ: هَلْ لَهُ شَفَاعَةٌ؟
قَالَ: نَعَمْ.
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: هَلْ يَحْتَاجُ المُؤْمِنُ إلَى شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ؟
قَالَ: نَعَمْ، لِلْمُؤْمِنِينَ خَطَايَا وَ ذُنُوبٌ؛ وَ مَا مِنْ أحَدٍ إلَّا وَ يَحْتَاجُ إلَى شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَوْمَئِذٍ.۱
و قال العيّاشيّ:
وَ سُئِلَ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أنَا سَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ وَ لَا فَخْرَ.
فَقَالَ: نَعَمْ، يَأخُذُ حَلْقَةً مِنْ بَابِ الجَنَّةِ فَيَفْتَحُهَا، فَيَخِرُّ سَاجِداً، فَيَقُولُ اللهُ: ارْفَعْ رَأسَكَ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ! اطْلُبْ تُعْطَ! فَيَرْفَعُ رَأسَهُ، ثُمَّ يَخِرُّ سَاجِداً فَيَقُولُ اللهُ: ارْفَعْ رَأسَكَ! اشْفَعْ تُشَفَّعْ! وَ اطْلُبْ تُعْطَ! ثُمَّ يَرْفَعُ رَأسَهُ فَيَشْفَعُ يَشُفَّعُ [فَيُشَفَّعُ] وَ يَطْلُبُ فَيُعْطَى.۱
و أورد العيّاشيّ في تفسيره عن سماعة بن مهران، عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام في تفسير قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً؛ قال:
يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاماً، و تُؤمَر الشمس فتركب على رؤوس العباد و يلجمهم العَرَق، و تُؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئاً، فيأتون آدم فيشَفِّعونه. فيدلّهم على نوح، و يدلّهم نوح على إبراهيم، و يدلّهم إبراهيم على موسى، و يدلّهم موسى على عيسى، و يدلّهم على محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم، فيقول: عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، فيقول محمّد: أنا لها.
فينطلق حتّى يأتي باب الجنّة فيدقّ، فيقال له: من هذا؟ و الله أعلم، فيقول: محمّد. فيُقال: افتحوا له، فإذا فتح الباب استقبل ربّه فخرّ ساجداً فلا يرفع رأسه حتّى يُقال له: تكلّم و سَلْ تُعْطَ و اشفعْ تُشَفَّع، فيرفع رأسه فيستقبل ربّه فيخّر ساجداً؛ فيُقال له مثلها، فيرفع رأسه حتّى أنّه ليشفع من
قد احرق بالنار، فما أحدٌ من الناس يوم القيامة في جميع الامم أوجه من محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم، و هو قول الله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.۱
و المراد بشفاعته صلوات الله عليه لمن في النار، شفاعته لبعضهم؛ و سيأتي لاحقاً أنّ شفاعة رسول الله تشمل غير المخلّدين في النار، حيث ينجو ببركة شفاعته خلق كثير ممّن رزحوا في النار مدّة من الزمن.
و جاء في «تفسير الدرّ المنثور»: أخرج البخاريّ و ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عمر، قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، يقول: إنّ الشمس لتدنو حتّى يبلغ العرق نصف الاذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم عليه السلام، فيقول: لستُ بصاحب ذلك؛ ثمّ موسى عليه السلام فيقول مثل ذلك، ثمّ محمّد صلّى الله عليه [و آله] و سلّم. فيشفع فيقضي الله بين الخلائق، فيمش حتّى يأخذ بحلقة باب الجنّة، فيومئذٍ يبعثه الله مقاماً.٢
و في «الدرّ المنثور» كذلك: أخرج ابن جرير و البيهقيّ في «شعب الإيمان» عن أبي هريرة، أنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، قال: المَقَامُ المَحْمُودُ: الشَّفَاعَةُ.٣
و فيه: أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقّاص، قال: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ عَنِ المَقَامِ المَحْمُودِ، فَقَالَ: هُوَ الشَّفَاعَةُ.٤
كلام الخواجة الطوسيّ و العلّامة الحلّيّ و القاضي عياض في الشفاعة
و قال الخواجة نصير الدين محمّد بن محمّد بن الحسن الطوسيّ
رحمة الله عليه في كتاب «تجريد الاعتقاد» أو «تجريد الكلام»:
المَسْألَةُ العَاشِرَةُ في الشَّفَاعَةِ: وَ الإجْمَاعُ عَلَى الشَّفَاعَةِ، فَقِيلَ لِزِيَادَةِ المَنَافِعِ، وَ يَبْطُلُ مِنَّا في حَقِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ؛ وَ نَفْيُ المُطَاعِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ المُجَابِ؛ وَ بَاقِي السَّمْعِيَّاتِ مُتَأوَّلَةٌ بِالكُفَّارِ.
وَ قِيلَ: في إسْقَاطِ المَضَارِّ؛ وَ الحَقُّ صِدْقُ الشَّفَاعَةِ فِيهِمَا وَ ثُبُوتُ الثَّانِي لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، لِقَوْلِهِ: إدَّخَرْتُ شَفَاعَتِي لأهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ امَّتِي.۱
و قال العلّامة الحلّيّ رحمة الله عليه في «شرح التجريد» في بيان هذا الكلام:
اتّفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قيل إنّه الشفاعة. و اختلفوا، فقالت الوعيديّة:٢ إنّها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقّين للثواب. و ذهبت التفضيليّة إلى أنّ الشفاعة للفسّاق من هذه الامّة في إسقاط عقابهم و هو الحقّ. و أبطل المصنّف الأوّل بأنّ الشفاعة لو كانت في زيادة المنافع لا غير، لكنّا شافعين في النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، حيث نطلب له من الله تعالى علوّ الدرجات، و التالي باطل قطعاً، لأنّ الشافع أعلى من المشفوع فيه، فالمقدّم مثله. و قد استدلّوا بوجوه:
الأوّل: قوله تعالى: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ،٣ نفي الله تعالى قبول الشفاعة عن الظالم، و الفاسق ظالم. و الجواب أنّه تعالى
نفي الشفيع المطاع، و نحن نقول به، لأنّه ليس في الآخرة شفيع يُطاع، لأنّ المطاع فوق المطيع، و الله تعالى فوق كلّ موجود و لا أحد فوقه. و لا يلزم من نفي الشفيع المطاع نفي الشفيع المجاب. سلّمنا، لكن لِمَ لا يجوز أن يكون المراد بالظالمين هنا الكفّار جمعاً بين الأدلّة؟
الثاني: قوله تعالى: وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ۱؛ و لو شفع صلّى الله عليه و آله و سلّم في الفاسق، لكان ناصراً له.
الثالث: قوله تعالى: وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ٢؛ يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً٣؛ فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ٤
و الجواب عن جميع هذه الآيات هو أنّها مختصّة بالكفّار جمعاً بين الأدلّة.
الرابع: قوله تعالى: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى٥؛ نفى شفاعة الملائكة عن غير المرضيّ للّه تعالى، و الفاسق غير مرتضى.
و الجواب: لا نسلّم أنّ الفاسق غير مرتضى، بل هو مرتضى للّه تعالى في إيمانه٦.
و قال الفاضل القوشجيّ: و الحقّ عند المصنّف [الخواجة نصير الدين الطوسيّ] صدق الشفاعة فيهما، أي في زيادة المنافع لهم و في إسقاط المضارّ عنهم، إذ يقال شفع فلان لفلان إذا طلب له زيادة منافع و إسقاط
مضارّ؛ أقول: و حينئذٍ يعود وجه الإبطال المذكور، أعني لزوم كوننا شافعين للنبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم. و يمكن الجواب عنهما باعتبار زيادة قيد فيهما، أعني كون الشفيع أعْلَى حَالًا [و أرْفَعُ مَنْزِلَةً] مِنَ المَشْفُوعِ لَهُ.
و قال المجلسيّ رضوان الله عليه في «البحار» بعد نقله كلامي الخواجة و العلّامة:
و قال النوويّ في «شرح صحيح مسلم»: قال القاضي عياض: مذهب أهل السنّة جواز الشفاعة عقلًا و وجوبها سمعاً بصريح الآيات، و بالخبر الصادق، و قد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحّة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، و أجمع السلف الصالح و مَنْ بعْدَهُم من أهل السنّة عليها، و منعت الخوارج و بعض المعتزلة منها، و تعلّقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار. و احتجّوا بقوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ۱ و أمثاله و هي في الكفّار. و أمّا تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات فباطل، و ألفاظ الأحاديث في الكتاب و غيره صريحة في بطلان مذهبهم، و إخراج مَن استوجب النار. لكنّ الشفاعة خمسة أقسام:
أوّلها: مختصّة بنبيّنا محمّد صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، و هو الإزاحة من هول الموقف و تعجيل الحساب.
الثانية: في إدخال قومٍ الجنّة بغير حساب، و هذه أيضاً وردت لنبيّنا صلّى الله عليه [و آله] و سلّم.
الثالثة: الشفاعة لقومٍ استوجبوا النار، فيشفع فيهم نبيّنا صلّى الله عليه [و آله] و سلّم و من يشاء الله.
الرابعة: فيمن دخل النار من المؤمنين. و قد جاءت الأحاديث بإخراجهم من النار بشفاعة نبيّنا صلّى الله عليه [و آله] و سلّم و الملائكة و إخوانهم من المؤمنين، ثمّ يخرج الله تعالى كلّ من قال لَا إلَهَ إلَّا اللهُ. كما جاء في الحديث: لا يبقى فيها إلّا الكافرون.
الخامسة: الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنّة لأهلها، و هذه لا ينكرها المعتزلة و لا ينكرون أيضاً شفاعة الحشر الأولى.۱
و خلاصة القول أنّ ما يستفاد من مجموع الروايات هو أنّ رسول الله و الأئمّة الطاهرين يمتلكون شفاعة خاصّة و شفاعة عامّة؛ فالشفاعة الخاصّة تتعلّق برفع العذاب عن مرتكبي الكبائر من المؤمنين. و يدّل على ذلك قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم- كما في الأحاديث المستفيضة:
إنَّمَا ادَّخَرْتُ شَفَاعَتِي لأهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ امَّتِي، فَأمَّا المُحْسِنُونَ فَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ.
خاصّة و أنّ دلالة لفظ ادَّخَرْتُ لا تخلو من اللطف، و هي جليّة في بيان هذا المعنى المختصّ بتلك النفس الشريفة.
كما يدل عليه دلالة صريحة قول الإمام الباقر عليه السلام في رواية أبي العبّاس المكبّر، في قوله عليه السلام لأبي أيمن: وَيْلَكَ! فَهَلْ يَشْفَعُ إلَّا لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ؟!
أمّا الشفاعة العامّة، فلا تختصّ بهذه الجهة وحدها، بل تتعدّاها إلى رفع العذاب عن جميع الامم. كما تتعلّق برفع درجات الأنبياء و الشهداء و العلماء و المجاهدين، و منحهم منزلة أعلى من قِبل الله تبارك و تعالى.
و قد ورد هذا المعنى أيضاً في رواية أبي العبّاس المكبّر السالفة
الذكر، إذ أتبع عليه السلام قوله: وَيْلَكَ فَهَلْ يَشْفَعُ إلَّا لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ؟! بقوله: مَا مِنْ أحَدٍ مِنَ الأوَّلِينَ وَ الآخِرِينَ إلَّا وَ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ.
شرائط قبول الشفاعة
و لذلك لا يمكن تخصيص الشفاعة بموارد رفع العقاب دون غيرها، بل ينبغي عدّها شاملة لهذا المورد و غيره من موارد زيادة الدرجات، و رفع الحجاب، و حلّ المعضلات و الامور المستعصية التي تعترض المرء في مسيره إلى الله تعالى. إلّا أنّ الشرط الأساس هو عدم كون المشمول بالشفاعة مشركاً و لا كافراً و لا جاحداً و لا مستكبراً، أي ينبغي أن يكون المشفوع له مسلماً مؤمناً ذا عقيدة حسنة، و ذلك يعني كون ذاته و وجدانه -و بتعبير آخر: عقيدته و دينه- منزّهين، إلّا أنّ الذنوب قد دنّست ظاهرهما، فتجيء الشفاعة لإزالة ذلك اللوث و الدنس و لجلاء صدأ الذنوب عنهما لتطلع من جديد تلكما النفس السليمة و العقيدة الحسنة، فتقود ذلك الشخص إلى مرفأ الأمان و ساحل النجاة.
و قد مرّ في رواية حسين بن خالد عن الإمام الرضا عليه السلام، قال: وَ لَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى اللهُ دِينَهُ.
و روى الكلينيّ في «الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن فضّال، عن حفص المؤذّن، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه كتب إلى أصحابه كتاباً يقول فيه: وَ اعْلَمُوا أنَّهُ لَيْسَ يُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ أحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ شَيْئاً لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ وَ لَا مَنْ دُونَ ذَلِكَ! فَمَنْ سَرَّهُ أنْ يَنْفَعَهُ شَفَاعُةُ الشَّافِعِينَ عِنْدَ اللهِ فَلْيَطْلُبْ إلَى اللهِ أنْ يَرْضَى عَنْهُ۱.
و المراد بالرضا هنا، الرضا عن النفس و عن العقيدة و الإيمان، حيث
تنفع حينذاك شفاعةُ الشافعين و تؤتي ثمارها.
و لا ينفي هذا الحديث الشفاعة كما قد يُوهم بذلك صدر الحديث، بل يعدّها مشروطة بالإرتضاء في الدين و ارتضاء ذات المشفوع له كما قد نصّ على ذلك ذيل الحديث.
و أوضح من هذه الروايات و أكثر صراحة الحديثُ الوارد في «توحيد الصدوق» بسنده عن ابن أبي عُمير، عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال: إنَّمَا شَفَاعَتِي لأهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ امَّتِي فَأمَّا المُحْسِنُونَ فَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ.
قال ابن أبي عُمير: فقلتُ: يا بن رسول الله! فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر و الله تعالى ذِكره يقول: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ؛ و مَن يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى؟
فقال: يا أبا أحمد! ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلّا ساءه ذلك و ندم عليه، و قد قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: كَفَى بالنَّدَمِ تَوْبَةً. و قال عليه السلام: مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَ سَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. فمن لم يندم على ذنبٍ يرتكبه فليس بمؤمن و لم تجب له الشفاعة و كان ظالماً. و الله تعالى ذِكره يقول: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ.۱
فقلتُ له: يا بن رسول الله! و كيف لا يكون مؤمناً من لم يندم على ذنبٍ يرتكبه؟
فقال: يا أبا أحمد! ما من أحدٍ يرتكب كبيرةً من المعاصي و هو يعلم أنّه سيعاقَب عليها إلّا ندم على ما ارتكب، و متى ندم كان تائباً مستحقّاً
للشفاعة، و متى لم يندم عليها كان مصرّاً، و المصرّ لا يُغفر له، لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، و لو كان مؤمناً بالعقوبة لندم. و قد قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: لَا كَبِيرَةَ مَعَ الاسْتِغْفَارِ، وَ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الإصْرَارِ.
و أمّا قول الله عزّ و جلّ: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى، فإنّهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى الله دينه، و الدين الإقرار بالجزاء على الحسنات و السيّئات، فمن ارتضى الله دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة.۱
و يتبيّن ممّا قيل في مسألة الشفاعة حتّى الآن أنّ الشفاعة ثابتة عموماً، إلّا أنّها لا تشمل الجميع و لا تتحقّق في جميع الظروف و الشرائط؛ أي أنّها ليست مطلقة، و قد سبق أن علمنا بأنّ الشفاعة تعني التوسّط في السببيّة و التأثير، و لا معنى -عندئذٍ- للإطلاق في السببيّة، و إلّا لكان أي واحد من الأسباب علّة في أي واحد من المسبَّبات؛ و لكان أي مسبَّب معلولًا لأيّ سبب، و هو قول يستدعي بطلان السببيّة، و هو باطل بالضرورة.
و قد ابهم هذا الأمر على مَن نفي الشفاعة، فخُيِّل إليهم أنّها قد ذُكرت مطلقةً غير مقيّدة بشرطٍ ما، لذا فقد اعترضوا عليها بعدّة اعتراضات، و نسبوا هذه الحقيقة القرآنيّة إلى البطلان دونما تدبّر في معاني القرآن الكريم و دون تمعّن في مغزى كلام الله تعالى.
و قد ذكر استاذنا: سماحة آية الله العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه العالي في تفسيره «الميزان» سبعة اعتراضات على لسان المعترضين على الشفاعة، ثمّ أجاب عليها واحداً بعد الآخر. و نورد فيما يلي خلاصةً لتلك
الإشكالات و الردود عليها:
الإشكالات الواردة على الشفاعة و الردّ عليها
الإشكال الأوّل: أنّ رفع العقاب عن المجرم يوم القيامة بعد ما أثبته الله تعالى بالوعيد، إمّا أن يكون عدلًا أو ظلماً. فإن كان عدلًا، كان أصل الحكم المستتبع للعقاب ظلماً لا يليق بساحة قدس الحضرة الأحديّة. و إن كان ظلماً، كانت شفاعة الأنبياء -مثلًا- سؤالًا للظلم من الله تعالى، و هو جهل لا يجوز نسبته إلى ساحة الأنبياء صلوات الله عليهم.
و الجواب على هذا الإشكال بالنقض و الحلّ. فأمّا بالنقض فإنّه منقوض بالأوامر الامتحانيّة التي يكون فيها إثبات الحكم الامتحانيّ أوّلًا و رفعه ثانياً كلاهما من العدل و كلاهما صحيح، لأنّ الحكمة في ذلك تتمثّل في اختبار سريرة المكلّف و إظهار نيّته، أو إخراج ما في قوّته إلى الفعل.
و نقول أيضاً في مورد الشفاعة بأنّ من الممكن أن تكون النجاة مكتوبة لجميع المؤمنين، ثمّ توضع الأحكام و ما لمخالفتها من أنواع العقاب، ليهلك الكافرون بكفرهم، و أمّا المؤمنون فيرتفع بالطاعة درجات المحسنين منهم، و يبقى المسيئون فينالون بالشفاعة تلك النجاة الغائيّة و السعادة النهائيّة و لو بالنسبة إلى بعض أنواع العذاب، مع مقاساة عذاب البعض الآخر كأحوال البرزخ و أهوال يوم القيامة، فيكون بذلك أصل وضع الحكم و عقابه أوّلًا عدلًا، و رفع عقابه ثانياً عدلًا.
و أمّا الجواب بالحلّ، فإنّ رفع العقاب بواسطة الشفاعة -كما ذكرنا- لا ينافي الحكم الأوّل ليستلزم العدل أو الظلم، إذ إنّ تضادّ و تزاحم حكم العفو مع حكم العقاب إنّما يحصل عند مغايرتهما لبعضهما. أمّا حكم الشفاعة و العفو الذي يتبعها، فله حكومته على الحكم الأوّل. أي أنّه يخرج المجرم عن كونه مصداقاً لشمول العقاب بجعله مصداقاً لحكمٍ آخر مثل رحمة الله و عفوه و غفرانه و إكرامه مقام الشافع بالإكرام و الإعظام.
فأين المغايرة و التضادّ في ذلك. إنّ كلا الحكمينِ صحيح، و كلاهما صادق في موضوعه و محلّه.
الإشكال الثاني: أنّ سنّة الله جرت على صون أفعاله من التخلّف و الاختلاف، فما قضى و حكم به يجريه على وتيرة واحدة من غير استثناء و على هذا جرت سُنّة الأسباب.
قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ، وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ.۱
و قال تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ.٢
و قال تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا.٣
و تحقّق الشفاعة موجب للاختلاف في سنّة الله تعالى، لأنّ رفع العقاب بالشفاعة عن جميع المجرمين موجب لنقض الغرض، و نقض الغرض محال، و هو لعب يُنافي حكمة الله تعالى، و رفعه عن بعض المجرمين أو في بعض جرائمهم أو ذنوبهم موجب للاختلاف في فعل الله، و مستلزم لتغيير سُنّته الجارية و طريقته الدائمة، إذ لا فرق بين المجرمين في أنّ كلّ واحد منهم مجرم، و لا بين الذنوب في أنّ كلًّا منهم ذنب و خروج عن نهج العبوديّة. فتخصيص بعضهم أو بعض ذنوبهم بالشفاعة و الصفح محال. و إنّما تجري سنّة الشفاعة و ما يماثلها في هذه الحياة من ابتناء
الأعمال و الأفعال على الأهواء و الأوهام التي كثيراً ما تقضي في الحقّ و الباطل على حدٍّ سواء، و تجري عن الحكمة و عن الجهالة على نسق واحد.
و الجواب أنّه لا ريب في أنّ صراط الله تعالى مستقيم و سنّته واحدة، إلّا أنّ هذه السنّة الواحدة غير المختلفة ليست قائمة على أساس صفة واحدة من الصفات الإلهيّة، كصفة التشريع و الحكم -مثلًا- حتّى لا يتخلّف حكم عن مورده، و لا جزاء حكم عن محلّه قطّ؛ بل إنّ هذه السنّة قائمة بمجموع صفات الله المرتبطة بهذا الموضوع و هذه الجهة.
و بيان هذه الحقيقة هو أنّ الله سبحانه و تعالى هو الواهب الفرد، و المفيض على جميع موجودات عالم التكوين بالحياة و الموت و الرزق و النعمة و القدرة و غيرها، و هي امور مختلفة لا ترتبط به سبحانه على السواء، و لا برابطة واحدة كيف كانت، لانتفاء السببيّة إذ ذاك، و لبطلان الارتباط و السببيّة حينئذٍ فهو تعالى لا يشفي مريضاً من غير سبب و مصلحة، كما لا يشفي المريض بصفته الله المميت المنتقم الجبّار شديد البطش. أي أنّه تعالى لا يفيض الشفاء عن طريق هذه الصفات، بل يشفي لأنّه الله الرءوف الرحيم العطوف المنعم الشافي المعافي.
كما أنّ الله تعالى لا يهلك جبّاراً مستكبراً بلا سبب و مصلحة، و لا يهلكه بصفته الله الرءوف الرحيم، بل بصفته شديد البطش شديد الانتقام. و لذا، فإنّ كلّ حادث من حوادث هذا العالم ينضوي تحت اسم خاصّ و صفة خاصّة، و إنّ الله تعالى يُنشئ بأسمائه الحسنى كلّ شيء بما يتناسب و ذلك الاسم و تلك الصفة.
و القرآن الكريم يجهر بندائه الصريح بحقيقة أنّ كلّ حادث من الحوادث بما يشتمل عليه من جهات الوجود مستند إلى صفة أو أكثر من
صفات الحقّ و أسمائه المختلفة، و أنّ تلك الحوادث ترتبط بذاته القدسيّة من خلال التلاؤم و الائتلاف الواقع بينها و الاقتضاء الناشئ من ذلك، و بواسطة صفاته العليا و أسمائه الحسنى.
و يمكن القول باختصار بأنّ كلّ أمر من الامور يرتبط بالله تبارك و تعالى من جهة ما يتضمّنه ذلك الأمر من المصالح و الخيرات. و لذلك فإنّ استقامة صراط الله و وحدة سببيّته و عدم تبدّل سنّته و عدم اختلاف فعله، إنّما هو بالنسبة إلى ما يفعله. بجميع صفاته المرتبطة بذلك الشيء، لا بالنسبة إلى مقتضى مصلحة واحدة فحسب.
و بعبارة أبسط، فإنّه يحصل بواسطة نتيجة الفعل و الانفعال و الكسر و الانكسار الواقع بين الأحكام و المصالح المرتبطة بالموارد و الموضوعات، لا بالنسبة إلى مقتضى مصلحة واحدة.
و بناء على ذلك، فلو كانت سنّة الحكم المجعول هي فقط نفس الأجر في خصوص البرّ و الفاجر، و المؤمن و الكافر، و العادل و الفاسق، فإنّها لن تتغيّر بطبيعة الحال. و سيجري هذا الحكم -من ثمّ- على وتيرة واحدة في جميع تلك الأحوال. لكنّنا نعلم بكثرة تلك الأسباب التي ربّما يستدعي توافق عدد منها أثراً يغاير الأثر الذي يقتضيه بعض تلك الأسباب.
و الشفاعة حادثة كسائر الحوادث الاخرى. و هي غير مستثناة من هذه القاعدة العامّة. لذا، فإنّ رفع العقاب إثر الشفاعة إثر عدّة من الأسباب، كالرحمة و المغفرة و الحكم و القضاء و إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه و الفصل في القضاء، لا يوجب اختلافاً في السنّة الجارية و الصراط المستقيم، بل من شأنه أن يُمضي هذه السنّة و يدعم هذا الصراط.
الإشكال الثالث: أنّ الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يصرف الشافعُ المشفوع عنده عمّا عزم عليه، و يحمله على خلاف ما أراده أوّلًا،
سواءً أراد فعل أمرٍ ما أم أراد تركه. فلا تتحقّق الشفاعة إلّا بترك الإرادة و نسخها لأجل الشفيع. فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلّا إذا تغيرّ علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن يقع في الخطأ -مثلًا- ثمّ يعرف الصواب و يرى أنّ المصلحة في خلاف ما أراده و حكم به.
أمّا الحاكم المستبدّ الظالم، فإنّه يقبل شفاعة المقرّبين عنده في الشيء و هو عالم بأنّه ظلم و أنّ العدل في خلافه، لكنّه يفضّل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرّب عنده على العدالة و الحكم بالحقّ.
و كلا النوعين من الشفاعة محال على الله تعالى، لأنّه ليس ظالماً، و لأنّ إرادته على حسب علمه، و علمه أزليّ لا يتغيّر و لا يتبدّل.
و الجواب على ذلك أنّ الشفاعة ليست من قبيل تغيير الإرادة و العلم، بل هي من قبيل التغيير في المراد و المعلوم، إذ إنّ الله سبحانه و تعالى يعلم بأنّ الإنسان الفلانيّ ستطرأ عليه حالات مختلفة، فيكون في الحين الفلانيّ على الحال الفلانيّ، و في حينٍ آخر على حال آخر يخالف حاله الأوّل لاقتران أسباب و شرائط اخر، فيريد تعالى فيه بإرادة اخرى، إذ له -تعالى- إرادة مختلفة تبعاً لأحوال الناس المختلفة:
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.۱
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.٢
بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ.٣
مثال ذلك: أنّنا نعلم أنّ الليل يحلّ فيشغل الظلامُ العالَم، و تعجز
أبصارنا عن الرؤية مع قيام الحاجة إليها. كما نعلم أنّ الشمس تشرق صباحاً فيزول ذلك الظلام و تزول حاجتنا إلى شيء يساعدنا على الرؤية.
لذا، فحين يحلّ الليل فإن إرادتنا تتعلّق بإضاءة المصباح؛ ثمّ ينتهي الليل فتتعلّق إرادتنا بإطفاء ذلك المصباح. و نرى في هذه الفرضيّة أنّ علمنا و إرادتنا لم يتغيّرا أبداً، و أنّ المتغيّر كان المعلوم و المراد، فخرجا عن كونهما منطَبقاً عليه للعلم و الإرادة.
و بطبيعة الحال فإنّ الإرادة لا تتعلّق بكلّ مراد، بل تتعلّق بالمراد الذي تعلّقت به هذه الإرادة؛ كما أنّ العلم لا ينطبق على كلّ معلوم، بل ينطبق على خصوص المعلوم الذي تعلّق به العلم.
و لا يطرأ على هكذا علم و إرادة تغيير و لا فساد، و كلّ منهما موجود في موضعه و عند تحقّق شرائطه، و إنّما يتغيّر المعلوم و المراد، أي أنّهما يخرجان عن كونهما منطبقاً عليه للعلم و الإرادة، فينتفي العلم و الإرادة بانتفاء المراد و المعلوم. و إلّا فإنّ الإرادة موجودة ما دام المراد موجوداً، كما أنّ العلم موجود ما دام المعلوم موجوداً، و كلاهما ثابت باستمرار في موضوعه على نحو القضيّة الحقيقيّة، لا يتغيّر و لا يتبدّل.
نعم، إنّ تغيّر العلم و الإرادة الذي يستحيل عليه تعالى هو بطلان انطباق العلم على المعلوم و الإرادة على المراد مع بقاء المعلوم و المراد على حالهما، و هو الخطأ و الفسخ، و ذات الحقّ القدسيّة مبرّأة عن ذلك. كأن يرى الشخص شبحاً من بعيد فيحكم بكونه إنساناً، ثمّ يقترب الشبح فيتّضح أنّه فَرَس لا إنسان. فقد تغيّر العلم في هذه الحالة مع بقاء المعلوم؛ و نسبة ذلك إلى الحقّ أمر محال.
أو كأن يريد المرء فعل أمرٍ ما لمصلحة معيّنة يعلمها، ثمّ يظهر له أنّ المصلحة في خلافه، فتزول إرادة الفعل عند ذلك؛ و لا يجوز نسبة ذلك إلى
الحقّ تعالى.
أمّا الشفاعة و رفع العقاب إثر الشفاعة فليست من هذا القبيل، بل هي من قبيل تغيّر الإرادة بتغيّر المراد، و تغيّر العلم بتغيّر المعلوم، مع ثبات الإرادة و العلم على متعلّقهما من المراد و المعلوم. نظير إرادة العقاب عند عدم التوبة و الاستغفار، و إرادة الثواب عند التوبة و الاستغفار.
الإشكال الرابع: أنّ وعد الشفاعة منه تعالى أو تبليغها من الأنبياء عليهم السلام مستلزم لتجرّي الناس على المعصية، و إغراء لهم على هتك محارم الله تعالى، و هو منافٍ للغرض الوحيد من الدين و التشريع و الشرائع الإلهيّة، من سَوْق الناس إلى العبوديّة و الطاعة، فلا بدّ من تأويل ما يدلّ عليه من الكتاب و السنّة بما لا يتنافي و هذا الأساس البديهيّ.
و الجواب عنه، أوّلًا بالنقض؛ و ثانياً بالحلّ.
أمّا النقض، فبالآيات الدالّة على شمول المغفرة و سعة رحمة الله تعالى، كقوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.۱
و هذه الآية -كما مرّ سابقاً- في غير مورد التوبة، بدليل استثناء الشرك المغفور بالتوبة.
و أمّا بالحلّ، فإنّ وعد الشفاعة أو تبليغها إنّما يستلزم إغراء الناس بالمعصية بشرطينِ:
أوّلهما: تعيين المجرم بنفسه و نعته، أو تعيين خصوص الذنب الذي تقع فيه الشفاعة تعييناً لا يقع فيه لبس بنحو الإنجاز، من غير تعليق بشرط جائز.
و ثانيهما: تأثير الشفاعة في جميع أنواع العقاب و أوقاته، بأن تقلعه من أصله تماماً.
فلو قيل -مثلًا- بأنّ جميع طبقات الناس، أو الطائفة الفلانيّة منهم لا يُعاقبون على ما أجرموا، و لا يؤاخذون فيما أذنبوا أبدا؛ أو قيل بأنّ الذنب الفلانيّ لا عذاب عليه قطّ، كان ذلك باطلًا من القول و لعباً بالأحكام و التكاليف المتوجّهة إلى المكلّفين.
أمّا إذا ابهم أمر الشفاعة من حيث الشرطينِ، فلم يعيّن أنّ الشفاعة في أي الذنوب و في حقّ أي المذنبين، أو أنّ العقاب المرفوع هو جميع العقوبات و في جميع الأوقات و الأحوال، فلا يعلم المرء هل ينال الشفاعة الموعودة أو لا، فلن يكون هناك تجرٍّ على هتك محارم الله تعالى.
غير أنّ ذلك الوعد بالشفاعة يوقظ قريحة رجاء نفس المذنب و أملها، فلا يجعل مشاهدتها ذنوبها و آثامها التي اقترفتها قنوطاً من رحمة الله، و يأساً من رَوح الله تعالى.
و من الجليّ أنّ اليأس هو منشأ جميع أنواع الشقاء و التعاسة، و أنّ الرجاء منبع أنواع السعادة و النشاط و الحيويّة.
و بغضّ النظر عن ذلك، فإنّ الله تعالى وعد بمغفرة الصغائر في قوله عزّ من قائل: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ،۱ الدّال بصراحة على رفع عقاب السيّئات و المعاصي الصغيرة على تقدير اجتناب المعاصي الكبيرة. فإذا جاز أن يقول الله سبحانه: إن اتّقيتم الكبائر عفونا عن صغائركم؛ فلما ذا لا يجوز أن يقول: إن تحفّظتم على إيمانكم، فجئتموني يوم القيامة بإيمان سليم، قبلتُ فيكم شفاعةَ الشافعين؟!
و لكن، مَن يطمئن أنّه سيأتي ربّه بإيمان سليم، و أنّه سيحفظ إيمانه حتّى ذلك الحين؟
فالمعاصي تقسّي القلب و تضعف الإيمان و تجلب الشرك. أ لم يقل تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ.۱
أ لم يقل: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ.٢
أ لم يقل: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ.٣
و لربّما أوجب الرجاء في الشفاعة إقلاع الشخص العاصي عن معاصيه، و ركوبه صراط التقوى، و صيرورته من المحسنين. بينما قد يقول إذا انعدمت في وجوده أيّة نافذة للرجاء: لقد قُضي الأمر، و بلغ السيل الزُّبى؛ و إذا طغى الماء، فما الفرق أن يغمر شخصاً واحداً أو مائة؟ و ما دمنا من أصحاب النار، فلما ذا نفعل أعمال الخير؟
أمّا إذا لاحت أمام أعينه نافذة رجاء العفو و طلائع الرحمة، و رجى شموله بالشفاعة، فلربّما أقلع عن غيّه و انزجر عن معاصيه، و انساق إلى الطاعات و العبادات، و ذلك هو الفضل العظيم.
و كذا إذا عُيِّن المجرم المشفوع له، أو الجرم المشفوع فيه، و صُرِّح بشمولها على بعض جهات العذاب أو بعض أوقاته، فإنّه لن يوجب تجرّي المجرمين قطعاً.
و القرآن الكريم لم ينطق في خصوص المجرمين، و في خصوص
الذنب بالتعيين، و لم ينطق في رفع العذاب إلّا بالبعض؛ فلا إشكال أساساً.
الإشكال الخامس: أنّ الأدلّة التي ذكرها القائلون بالشفاعة هي إمّا عقليّة أو نقليّة؛ فأمّا الدليل العقليّ فإنّه لو دلّ، فإنّما يدلّ على إمكان وقوع الشفاعة لا على فعليّة وقوعها، مضافاً إلى أنّ أصل دلالته ممنوع.
و أمّا الدليل النقليّ، فما يتضمّنه القرآن لا دلالة فيه على وقوع الشفاعة، فإنّ آيات القرآن في هذا الشأن على ثلاثة أقسام:
الأوّل: الآيات الدالّة على نفي الشفاعة مطلقاً، كقوله تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ.۱
الثاني: الآيات الدالّة على نفي فائدة الشفاعة مطلقاً، كقوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ.٢
و الثالث: الآيات الدالّة على تقييد الشفاعة بإذن الله و مشيئته، كقوله تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ.٣ و آية: إِلَّا بِإِذْنِهِ.٤
و آية: إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى.٥
و هي آيات تدلّ بدورها على نفي الشفاعة، لأنّ هذا الاستثناء استثناء بإذن الله و مشيئته سبحانه في مقام النفي القطعيّ للإشعار بأنّه لا شيء أعلى من مشيئة الله و إذنه، و أنّ كلّ شيء منوط بإذنه تعالى و مشيئته؛ كقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ.٦
و قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ.۱
أي ليس فوق إرادة الله و مشيئته شيء. و ليس المراد مجيء ظرف تتعلّق به هذه الإرادة الإلهيّة خارجاً. فليس هناك -إذاً- من نصٍّ قطعيّ على الشفاعة في القرآن الكريم.
و أمّا السنّة، فلا تعويل على ما دلّت عليه الروايات من الخصوصيّات؛ و أمّا المتيقّن منها، فلا يزيد على ما في الكتاب دلالة.
و الجواب: أمّا عن الآيات النافية للشفاعة، فقد ذكرنا أنّها لا تنفي مطلق الشفاعة، بل الشفاعة بغير إذن الله و ارتضائه. و أمّا عن الآيات النافية لمنفعة الشفاعة -على زعم المستشكل- فإنّها تثبت الشفاعة و لا تنفيها.
و الآيات الواقعة في سورة المدّثّر إنّما تنفي الانتفاع عن طائفة خاصّة من المجرمين لا عن جميعهم. و مع ذلك فالشفاعة مضافة لا مجرّدة مقطوعة عن الإضافة. و فرقٌ بين أن يقول القائل: فَلَا تَنْفَعُهُم الشَّفَاعَةُ؛ و بين أن يقول: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ، فالمصدر المضاف يُشعر بوقوع الفعل في الخارج، بخلاف المقطوع عن الإضافة. و قد نصّ على ذلك الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز».
فقوله: شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ، يدلّ على أنّ شفاعةً ما ستقع، غير أنّ هؤلاء لا ينتفعون بها. على أنّ الإتيان بصيغة الجمع في الشَّافِعِينَ -حيث لم يأت التعبير بالمفرد؛ الشافع- يدلّ على تحقّق الشفاعة في الخارج؛ كقوله: كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ؛٢ و قوله: كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ؛٣ و قوله: كَانَ مِنَ
الْغَاوِينَ؛۱ و قوله: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ،٢ و أمثال هذه الآيات.
و لو لا ذلك، لكان الإتيان بصيغة الجمع -و له مدلول زائد على صيغة المفرد- لغواً زائداً في الكلام. فقوله: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ من الآيات المثبِتة للشفاعة دون النافية لها.
و أمّا الإجابة عن الآيات المشتملة على استثناء الإذن و الارتضاء، فدلالة قوله: إلَّا مِن بَعْدِ إذْنِهِ و قوله: إلَّا بِإذْنِهِ هي على وقوع الشفاعة. لأنّ المصدر مضاف، و ذلك ممّا لا يخفى على العارف بأساليب الكلام و الأدب العربيّ.
و كذا قوله: إلا بإذنه؛ و: إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى بمعنى واحد هو المشيئة، ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه. على أنّ الاستثناء واقع في مورد الشفاعة بوجوه مختلفة؛ كقوله: إلَّا بإذْنِهِ؛ و: إلَّا مِن بَعْدِ إذْنِهِ؛ و: إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى؛ و: إلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ، و غير ذلك.
فهبْ أنّ الإذن و الارتضاء واحد، و هو المشيئة، فهل يمكن التفوّه بذلك في قوله: إلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ؟ و هل المراد بهذا الاستثناء هو استثناء المشيئة أيضاً؟
فهكذا تساهل في البيان ممّا لا يصحّ أن ينسب إلى كلام سوقيّ، فكيف بالكلام البليغ؟ و كيف بأبلغ الكلام؟!
و أمّا الإجابة عن السنّة و الروايات، فإنّ دلالتها -إجمالًا- على الشفاعة للمؤمنين في المعاصي الكبيرة عند بقاء الإيمان، و ذلك ممّا لا يعتريه شبهة و لا ريب. و قد وردت الروايات المستفيضة، بل المتواترة، في شفاعة رسول الله و الأنبياء و الأئمّة الطاهرين عليهم السلام،
و دلالتها مطابقة لدلالة الآيات القرآنيّة.
الإشكال السادس: أنّ الآيات الواردة في الشفاعة ليست صريحة في رفع العقاب الثابت على المجرمين يوم القيامة بعد ثبوت الجرم و لزوم العقاب، بل المراد بها شفاعة الأنبياء، بمعنى توسّطهم -بما هم أنبياء- بين الناس و بين ربّهم بأخذ الأحكام بالوحي و تبليغها للناس و هدايتهم.
و هذا المعنى للشفاعة و التوسّط كالبذر ينمو و ينشأ منه ما يستقبله من الأقدار و الأوصاف و الأحوال. فالأنبياء عليهم السلام شفعاء المؤمنين في الدنيا و شفعاؤهم في الآخرة.
و الجواب: أنّه لا شكّ في أنّ عمل الأنبياء من جهة نبوّتهم نوع من أنواع الوساطة و الشفاعة و مصداق من مصاديقها، إلّا أنّ الشفاعة -كما ذكرنا سابقاً- غير مقصورة فيه. و من الدليل على ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.۱
و قد ذكرنا أنّ الآية في غير مورد الإيمان و التوبة، لأنّ الشرك سيُغفر فيه أيضاً عند تحقّق التوبة و الإيمان، و الشفاعة التي ذكرها المستشكل في الأنبياء إنّما هي بطريق الدعوة إلى الإيمان و التوبة.
الإشكال السابع: أنّ طريق العقل لا يوصل إلى تحقّق الشفاعة و إثباتها، و ما نطق به القرآن آيات متشابهة تنفي الشفاعة تارةً و تثبتها اخرى، و ربّما قيّدتها و ربّما أطلقتها. و الأدب الدينيّ يقتضي الإيمان بها و إرجاع علمها إلى الله تعالى.
و الجواب عنه: أنّ الآيات المتشابهة في الشفاعة تصير بإرجاعها إلى المحكَمات محكمات مثلها، و هو أمر ميسور لنا غير مضروب دونه
الستر، كما سيجيء بيانه عند قوله تعالى:
مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.۱
أمّا قول البعض بانعدام الدليل العقليّ على الشفاعة، فجوابه أن الأمر ليس منحصراً في خصوص الشفاعة، بل إنّه يشمل كثيراً من الخصوصيّات التفصيليّة لمسائل المعاد، لأنّ البراهين العقليّة لا يمكنها أن تحلّ كمقدّمات متوسطة في إنتاج المسائل المعاديّة على نحو التفصيل. لذا، فاستخلاص النتائج العقليّة من البرهان لن يكون ميسوراً في مثل هذه المسائل؛ و قد صرّح بهذا المطلب ابن سينا في «الشفاء». إلّا أنّ الأدلّة العقليّة تُعدّ كافية لإنتاج الكمالات العقليّة و المثاليّة للإنسان خلال مسيرة السعادة و الشقاء بعد مفارقة نفس الإنسان لبدنه، بسبب حصول التجرّد المثاليّ و التجرّد العقليّ، لأنّ التجرّد المثاليّ و العقليّ من المسائل التي بُرهن على صحّتها في الحكمة المتعالية.
و على هذا الأساس يمكننا إقامة الدليل العقليّ على حصول الشفاعة للمذنبين و العاصين.
الدليل العقليّ على شفاعة النفوس الكاملة للنفوس الضعيفة يوم القيامة
و بيان هذا المطلب هو أنّ الإنسان إذا فعل فعلًا قبل أن يبلغ مرحلة الفعليّة، أنتج ذلك الفعل في نفسه هيئة نفسانيّة و حالًا من أحوال السعادة أو الشقاء. و المراد بسعادة ذلك الفعل هو كونه خيراً قد حصل للإنسان بوصفه إنساناً، و المراد بشقاء الفعل عكس ذلك، أي كونه فعلًا يعدّ شراً للإنسان
بوصفه إنساناً. ثمّ تحصل في نفس الإنسان ملكة راسخة من خلال تكرار أفعال الخير و الشرّ، فيحصل له بتلك الملكة الراسخة صورة نفسانيّة سعيدة أو شقيّة، بحيث تصبح تلك الصورة النفسانيّة البسيطة الواحدة منشأ لظهور هيئات و صور كثيرة اخرى.
فإن كانت تلك الصورة النفسانيّة سعيدة، كانت جميع آثارها وجوديّة و منسجمة مع تلك الصورة و مع أصل نفس الإنسان، باعتبار أنّ النفس الإنسانيّة بمثابة مادّة قابلة لتحقّق تلك الصورة و تجسّدها.
أمّا لو كانت تلك الصورة النفسانيّة شقيّة، فتكون جميع آثارها عدميّة عائدة إلى الشرّ و الخسران من حيث التحليل.
و من هنا، فالنفس الإنسانيّة السعيدة تلتذّ بآثارها بصفتها نفساً إنسانيّة، كما تلتذّ بها باعتبار بلوغها فعليّة السعادة. و في المقابل فإنّ النفس الإنسانيّة الشقيّة تنزعج و تتألّم من آثارها، بصفتها نفساً إنسانيّة، على الرغم من انسجامها معها و انسها بها لكونها سبب نشوئها و ظهورها. هذا بالنسبة إلى النفوس الكاملة، سعيدة كانت أم شقيّة، أي بالنسبة إلى الإنسان الذي له ذات سعيدة و أفعال صالحة حسنة، و بالنسبة إلى الإنسان الذي له ذات شقيّة و أفعال فاسدة.
أمّا النفوس الناقصة فهي على صنفينِ:
الأوّل: النفوس التي لها ذوات سعيدة و أفعال شقيّة، بمعنى أنّ تلك النفوس تمتلك صوراً سعيدة و اعتقاداً حقّاً ثابتاً، إلّا أنّ هيئات شقيّة و رديئة طرأت على تلك النفوس من المعاصي و الذنوب و الانحرافات التي اكتسبتها تلك النفوس الإنسانيّة من خلال تعلّقها بالأبدان الدنيويّة، و من خلال تلوّث تلك النفوس بواسطة ارتضاعها ثدي الاختيار حتّى الارتواء، فتسبّب ذلك في تراكم صدأ الحُجب و غبار ظلمة الكثرة و آثارها.
و من الجليّ في هذه الحال أنّ هذا الدنس الظاهريّ يمثّل اموراً قسريّة غير منسجمة مع ذوات النفوس السعيدة. و البرهان قائم على عدم دوام الامور القسريّة، لذا فإنّ هذه النفوس الصالحة المؤمنة السعيدة ستطهر من خلال الضغوط و المحن التي تواجهها خلال الحياة الدنيا، أو في عالم المثال و البرزخ، أو في يوم القيامة و أهوالها، حسب مقدار ذلك الدنس و مقدار ترسّخه في تلكم النفوس.
و الصنف الثاني هو النفوس التي لها ذوات شقيّة و أفعال سعيدة، أي أنّ تلك الذوات تمتلك صورة شقيّة، إلّا أنّ ظاهراً قسريّاً عرض عليها من خلال طروء الهيئات الحسنة من الطاعات و العبادات على تلك النفوس. و سيفنى و يزول هذا الظاهر عاجلًا أم آجلًا، فتظهر حينها تلكم الذوات الشقيّة في شقائها.
أمّا النفوس التي لم تبلغ مرحلة الفعليّة، في أيّة من جهتي السعادة و الشقاء، فبقيت ناقصة و ضعيفة عند مفارقتها لأبدانها، فهي ممّن وُصفوا بأنّهم مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللهِ يقضي فيهم ما يشاء.
و هذا المطلب هو مقتضي برهان الجزاء في الثواب و العقاب، و هو من لوازم الأعمال و نتائجها، لأنّه ينبغي للُامور الوضعيّة و العلاقات الاعتباريّة أن تعود في نهاية المطاف إلى العلاقات الوجوديّة الحقيقيّة.
و من جهة اخرى فإنّ البرهان قائم على أنّ الكمالات الوجوديّة تختلف فيما بينها بحسب مراتب الكمال و النقص، و الشدّة و الضعف. و هذه هي مسألة التشكيك، و بخاصّة في النور المجرّد.
و من هنا، فإنّ للنفوس مراتب تختلف في قُربها و بُعدها عن مبدأ الكمال و منتهاه خلال سيرها الارتقائيّ و في عودتها إلى حيث بدأت،
بحيث تقف في درجات يعلو بعضها البعض الآخر، و خاصة فيما يتعلّق بالعلل الفاعلة و وسائط الفيض من جانب الحقّ الأوّل تبارك و تعالى.
لذا، فالنفوس الكاملة، كنفوس الأنبياء عليهم السلام و نفس رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم خاصّةً، التي تقف في ذروة درجات الكمال و الفعليّة و في أرقى منازلها، لها مقام الوساطة في إزالة الهيئات الشقيّة الرديئة عن نفوس الضعفاء و عن النفوس التي تقف أدنى منها في الدرجة، إن كانت تلك النفوس من نفوس السعداء الذين طرأت على نفوسهم تلك الهيئات الشقيّة الرديئة، و هذه هي حقيقة الشفاعة الخاصّة في يوم القيامة، و هي مختصّة بمرتكبي الذنوب الكبيرة.
و كما شاهدنا، فقد كان ما ذكرناه برهاناً عقليّاً على هذا المطلب، وَ الحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.
الشفاعة لا تستدعي تجرّي الامّة الإسلاميّة على المعصية
و أمّا ما ذكره بعض الباحثين في المسائل الاجتماعيّة من أنّ الشفاعة تستدعي تراخي الناس في مجال العمل، و انحرافهم عن الصراط المستقيم من خلال اعتمادهم على أمر المغفرة الحتميّة، فهو أيضاً كلام عارٍ عن الحقيقة. و يتلخّص مجمل هذه الشبهة بما يلي: أنّ القوانين الجزائيّة المطبّقة في المجتمعات البشريّة عقاباً و ثواباً، لو نُفّذت على نحوٍ جيّد، لتسبّب ذلك في زيادة احترام الناس لتلك الأحكام الأوّليّة التي دُوّنت و وضعت في تلك المجتمعات من أجل إصلاحها و تنميتها، و أنّ أفراد أي مجتمع سيبلغون -و على نحوٍ أفضل- الهدف المنشود من الرقيّ و الإصلاح في ظلّ تطبيقهم للأحكام و القوانين الأوّليّة الموضوعة في ذلك المجتمع، حسب اختلاف تلك القوانين الموضوعة.
أمّا إذا تقرّر تعطيل العمل بالقوانين الجزائيّة لسببٍ ما، فإن ذلك سيوجب تساهل الأفراد في تطبيق القوانين، و إلى جرأة أهل الهوس على التعدّيّ. لذا، ينبغي إغلاق سبيل احتمال نجاة المجرم من العقاب بواسطة الارتشاء أو الشفاعة أو الفدية و العوض، أو بسائر أنواع الحيل، منعاً لحصول المجرم على نافذة للخلاص عند ارتكابه للجرم، و ردعاً له في النتيجة عن ارتكاب الجرم.
و على هذا الأساس العامّ فقد وُجّه الانتقاد إلى المسيحيّة بأنّ ما ورد فيها من أن عيسى كان مستعداً لاعتلاء خشبة الإعدام فداءً لذنوب العاصين هو أمر غير صحيح، لأنّ أتباع المسيحيّة سيتّكلون على فداء عيسى لتخليص أنفسهم يوم القيامة من حكم الله تعالى و إنقاذها من طائلة العقاب، فيعكفون في العاقبة على الذنوب و المعاصي.
و في هذه الحال، فإنّ الدين سيتسبّب في انهيار التعاليم الأخلاقيّة و اضمحلال شرف النفس و عفّتها، و في سقوط مقام الإنسانيّة الشامخ، و إلى سَوْق الإنسان المتحرّك نحو كماله و سعادته القهقرى، إلى الانحراف، و إكسابه الرذائل الأخلاقيّة بدلًا من الفضائل و بدلًا من أن يكون ذلك الدين مدعاة لرقي المجتمعات و صعودها إلى كمال الإخلاق و الإنسانيّة. و قد دلّت إحدى الإحصائيّات على أنّ المتديّنين بالمسيحيّة يكذبون و يتنكّبون عن صراط الأخلاق و العفّة و العدل أكثر من غير المتديّنين منهم، و العلّة في ذلك هي اعتماد أتباع شريعة عيسى على حقّانيّة دينهم و تعويلهم على شفاعة المسيح يوم القيامة، و عدم مبالاتهم بالتدنّس بالذنوب و المعاصي؛ خلافاً للذين لم ينتهجوا ديناً معيّناً، و الذين أسلسوا قيادهم لغرائزهم و صفاتهم الفطريّة، إذ لم يُبطل حُكمَ الأخلاق و الصفات الغريزيّة و الفطريّة في وجود هؤلاء شيء، فتكفّلت الفطرة الإنسانيّة و الأخلاق و حكم الوجدان
بردعهم عن المعصية و الجريمة.
و بناء على هذا الأساس، فقد لجأ كثير من الباحثين في العلوم الإسلاميّة إلى تأويل مسألة الشفاعة الواردة في الإسلام عن مدلولها الابتدائيّ و حملوها على معانٍ اخرى، مثل الشفاعة التكوينيّة و الشفاعة و الوساطة في تبليغ الأحكام، و التوسّط في إرشاد الامّة و هدايتها إلى سبيل الكمال من خلال إبلاغ الرسالات الإلهيّة، على الرغم من دلالة الآيات القرآنيّة على تلك الشفاعة و إمضاء سنّة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لذلك الحكم الإلهيّ حسب ما جاءت به الروايات المستفيضة المتضافرة.
و نقول في الإجابة على هذه الفئة: بأنّها أخطأت في جميع جوانب البحث، و أنّها لفّقت كلامها دونما تعمّق في موضوع الشفاعة و حكمها. فالإسلام أوّلًا لم يقرّر مثل هذه الشفاعة التي وضعوا لها هذا التفسير، كما أنّ الشفاعة التي أكّدها الإسلام ليس لها آثار و خصائص كالتي تخيّلوها. على أنّ من الأجدر بمن يتعمّق في مسائل الإسلام الاجتماعيّة أن يغور في بحث معارفه الدينيّة و أحكامه التشريعيّة القائمة على هيكل المجتمع الصالح و المدينة الفاضلة، و أن يطبّق جميع الجوانب التي أوردها الإسلام من الاسس و القوانين الاجتماعيّة على مواردها الخاصّة، ثمّ ينظر إلى ما تعينه الشفاعة الموعودة، و إلى موضعها بين المعارف التي ذكرها الإسلام و الاسس التي ترتكز عليها.
و ينبغي أن يُعلم في بداية الأمر بأنّ الشفاعة التي أثبتها القرآن الكريم خاصّة بالمؤمنين، و أنّها تعني عدم خلودهم يوم القيامة في نار جهنّم، بشرط أن يأتوا ربّهم بإيمان مرضيّ و دين حقّ.
هذا هو الوعد الذي وعد القرآن المؤمنين بتحقّقه، جُعل مشروطاً ببقاء الإيمان و النهج المرضيّ السديد الحميد.
و من جهة اخرى فقد بيّن الإسلام أنّ بقاء الإيمان في خطر عظيم، حيث تهدّد الذنوب -و على الأخصّ الكبائر منها- و بقاءَ إيمان المؤمن، خاصّة إدمان ارتكابها و الإصرار عليها، ذلك أنّ نفس ارتكاب المؤمن، خصوصاً لكبائر المعاصي، و الإدمان عليها و العكوف عليها، سيؤدّي إلى كسر ذلك الإيمان، و قد يؤدّي إلى الهلاك الدائميّ و الشقاء الأبدي.
لذا، فإنّ الشخص العاصي يقف باستمرار على مشارف الهلاك، و على شفا جرف الزوال و البوار.
و تبعاً لذلك فلن يكون بمقدور المذنب أن يحسب نفسه بمنجاة من العقاب، بل يراها متأرجحة على الدوام بين أمل النجاة و الخوف من الهلاك. كما أنّ نفس المؤمن تتردّد دوماً بين الخوف و الرجاء، فهو يعبد الله تعالى رغبة و رهبة. كما أنّ له سيراً في حياته الدنيويّة لا يجرّه إلى مرحلة اليأس، و لا يوقفه عند مرحلة التساهل و التكاسل و الوثوق الكاذب.
كما ينبغي أن يُعلم ثانياً بأنّ الإسلام قد وضع قوانينه الاجتماعيّة في الامور الماديّة و المعنويّة معاً و دوّنها على نحوٍ يجعلها تشمل جميع حركات الفرد و المجتمع و سكناتهما، و أنّه أقرّ لكلّ واحد منهما جزاءً دنيويّاً مناسباً، من العقاب و القضاء و الكفّارة و الدية و الحدّ و التعزير و غير ذلك، وصولًا إلى الحرمان من الحقوق الاجتماعيّة و التوبيخ و الملامة. كما أنّه عمل من أجل ضمان هذه الجهات -إضافة إلى دعمه حكومة اولي الأمر- على إيجاب قانون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و جعل الجميع يتنافسون في تنفيذه، و جعل بعضهم رقيباً على البعض الآخر، ثمّ لم يكتفِ بذلك، بل نفخ أصالة روح الدعوة الدينيّة في أمر حفظ الملكينِ الملازمينِ للإنسان و تدوينهما أعماله و سلوكه في السرّ و العلن، و في الخلوة و بين الملأ، فكبح جماح الإنسان باستمرار عن الإفراط و التفريط و الاعتداء على
الحقوق و النواميس و التعدّيات التي تنجم عن قواه الشهويّة و البهيميّة و الغضبيّة و الوهميّة، و عن استكباره و تمرّده على ذلّ العبوديّة، فساقه إلى الصراط المستقيم في العلم و العمل و العقيدة، و في الظاهر و الباطن. كما حافظ على توازن الإنسان من خلال الإنذار و التبشير، و الوعد بالثواب و الوعيد بالعقاب في مراحل الآخرة التي تعقب عالم الدنيا، و قد أرسى الإسلام و باستمرار اسسه في تربية المجتمع من خلال تلقينه معارف المبدأ و المعاد وفق هذا النهج، و لفت نظره بهذه الكيفيّة.
و هذه هي الجوانب الدينيّة الحقيقيّة التي جعلت الناس يعيشون على الأمل الدائم، و نجَّتهم من براثن اليأس المطلق و الانتحار و ارجعت المرء على الدوام إلى أصالة نفسه و حقيقتها، و أعلنت بأنّ الله تعالى هو الرقيب الحاضر و الشاهد الدائم.
و حقّاً، فإنّ مثل هذه التعاليم و الأحكام ستؤدّي إلى ترعرع عالم السعادة و الأمل في قلوب المذنبين، و خاصّة إذا اقترنت تلك التعاليم بالرحمة و الشفاعة التي تخصّ المستأهلين. بل ما أكثر ما نجَّت اولئك المذنبين من الهلاك الأبديّ بهذه البشري بالرحمة و المغفرة، و هذه هي حقيقة الشفاعة و آثارها الإيجابيّة.
و ثانياً: فإنّ الشفاعة التي ذكرها الإسلام تشريعاً بلحاظ الآيات القرآنيّة و الروايات الواردة عن النبيّ و الأئمّة عليهم السلام عائدة إلى يوم القيامة. و أثرها -كما سبق أن ذكرنا- يتمثّل في إنقاذ المؤمنين من الخلود في النار. أمّا سائر أنواع العذاب الدنيويّ و الاخرويّ، فمحفوظة في مواضعها.
لذا، فهذه الأحكام الجزائيّة من الحدود و التعزيرات، و هذه الأحكام التكوينيّة الدنيويّة، من انعكاسات الذنوب، و شدّة سكرات الموت، و هول
عالم القبر و سؤال منكر و نكير، و أنواع الغصص و الآلام المثاليّة البرزخيّة، و هول البعث و النشور و القيام في يوم القيامة، و مقام العرض و غير ذلك، محفوظة بأجمعها كلًّا في موضعه.
و افرضوا الآن أنّ المؤمن يوقن بأنّه لن يخلّد في جهنّم؛ أ فلا يكفي نفس وروده عالم البرزخ و مكثه فيه بالقدر الذي يطهّره -و مشقّات و مصاعب عالم القيامة، من السؤال و الحساب و الميزان و الصراط و صحيفة الأعمال و الموقف عند الله تعالى، و مصاعب عالم البرزخ و تطاوله، و عالم القيامة- أ فلا يكفي كلّ هذا في ردع المؤمن عن الذنب و صرفه عنه؟
و بغضّ النظر عن ذلك، أ فينحصر سبيل ردع المؤمن عن المعصية في تخويفه و إنذاره؟ أ فلا يكفي نظر رحمة الربّ الودود و هبوب نسائم الجذبات الإلهيّة و النغمات القدسيّة لسَوْق المؤمن إلى المنزل المقصود و هدايته إلى حرم أمن الله و أمانه؟ أ فلا يكفي ذلك لإحراق جذور المعصية و استئصالها من وجوده.
الجانب العاطفيّ لدى الشيعة أقوى بسبب أملهم في شفاعة أوليائهم
و ثالثاً: أنّ هذه الشفاعة بذاتها هي سبب لتقليل الذنوب و ليس لزيادتها، لأنّ اتّهام أتباع عيسى بأنّ ذنوبهم تفوق ذنوب سائر الأقوام لم يقم الدليل على صحّته، و سيبقى مجرّد ادّعاء يفتقر إلى الدليل؛ يضاف إلى ذلك أنّ إحصائيّة ذنوب المسيحيّين و تجرّؤهم على المعصية لا تشير إلى هذا الأمر، بل الأمر عند اليهود أشدّ و أكثر، و الخشونة و العنف في أوساطهم أكثر بأضعاف مضاعفة. و في المقابل فإنّ الرحمة و العطف و الشفقة في أوساط المسيحيّين تفوق نظائرها لدى اليهود. و هو أمر نابع من أمر الشفاعة و الاعتقاد بتضحية السيّد المسيح، على الرغم من أنّ ذلك لا حقيقة له.
يضاف إلى ذلك أنّ القرآن الكريم وصف المشركين و اليهود
بالفظاظة و الغِلظة و القسوة و تحجّر القلوب و تبلّد الأحاسيس، و نعتهم بشدّة عدائهم للمؤمنين، بينما نعت المسيحيّين في مواضع بالرحمة و الرأفة و العطف، و وصفهم بأنّهم: أقربهم مودّةً للمؤمنين.
و العلّة في مماثلة الدين المسيحيّ للدين الإسلاميّ في سرعة الانتشار و سرعة اعتناق الناس له تكمن في هذه الرحمة و الجوانب العاطفيّة التي تنسجم مع فطرة البشر.
و على أساس رحمة السيّد المسيح هذه صرنا نرى الكثير من أتباعه يشاركون في أعمال ذات جانب عاطفيّ كبير، كمعالجة المجذومين و تمريضهم، و صرنا نشاهدهم و هم يعرّضون أنفسهم إلى مثل هذه الامور الشاقّة تعظيماً منهم لتضحية المسيح الذي جسّد أمامهم ينبوع الرحمة. أمّا قساوة المسيحيّين و غلظتهم في كثير من الامور، فغير نابعة عن تلك الشريعة، بل ناشئة عن انحرافهم عنها.
و الأمر كذلك بالنسبة إلى المسلمين الذين يؤدّي انحرافهم عن الشريعة النبويّة المقدّسة -بدل تمسّكهم بها- إلى قساوتهم و تجرّؤهم.
و نلحظ بالوجدان و البديهة أنّ العطف و المودّة و الرحمة لدى الشيعة تفوق نظائرها لدى غيرهم، بسبب اقتفاء الشيعة خطوات أئمّتهم في الدين الذين ضحّوا بكلّ ما لديهم فداءً للإسلام و المسلمين، فأشرقت في نفوس الشيعة روح الرقّة و اللين حتّى صار ذكر الإمام الحسين عليه السلام -و هو الذي فدى نفسه عملًا بمذهب جدّه رسول الله و بنهج أبيه عليّ وليّ الله- كافٍ بمفرده لكبح بحار ثائرة من الغضب و الحقد و الطمع و البخل و غيرها، و لتفجير بحار من الرحمة و المودّة و اللين و الإيثار و العفو تجاه المجتمعات و الأقوام و الملل الاخرى. أ فليس هذا ناشئاً عن الشفاعة العمليّة؟!
إنّ هذه الشفاعة العينيّة الظاهريّة تمتلك باطناً و حقيقة في الملكوت
الأعلى، و ستطلع هذه الشفاعة هناك أيضاً، فتحرق بيادر الذنوب و تستأصلها بشرارة واحدة من الرحمة.
و السبب الذي حدا بهؤلاء الباحثين إلى تصوّر عدم امتلاك الشفاعة لمثل هذا الأساس الراسخ، هو أنّهم تطلّعوا إلى الإسلام من زواية واحدة و جانب واحد، و هو الجانب الظاهريّ المتمثّل في القوّة و الشوكة و الأمر و النهي و التنظيم و الجزاء و العقاب. و إذ أعموا هؤلاء المساكين أنفسهم بأيديهم، فلم يكن لهم بعدُ ثمّة أعين ينظرون بها إلى الإسلام ليعلموا أنّ له كذلك مقاماً للرحمة و العطف و الإيثار و العفو و العرفان و التوحيد و الفناء و الولاية و الشفاعة و آلاف من الامور المعنويّة و الحقيقيّة و الباطنيّة و الروحيّة التي يجهلون أمرها.
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ.۱
أجل، إنّ نتيجة امتلاك عين واحدة هي الحرمان عن إدراك كثير من الحقائق.
متى تتحقّق الشفاعة؛ في البرزخ أم القيامة
و خلاصة الأمر، فقد بقيت ضمن مسائل الشفاعة مسألة واحدة لم نتعرّض لها بعدُ، و قد أشرنا لها مؤخّراً، و هي أن نعلم متى تتحقّق الشفاعة. و المراد بالشفاعة تلك الشفاعة التي ترفع العذاب.
من جملة الآيات التي يمكن من خلالها إدراك زمن تحقّق الشفاعة: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ، فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ ، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ.٢
و قد مرّ خلال بحثنا في هذه الآيات أنّها تتحدّث بلسان طائفة يقول أفرادها: لقد كنّا كذا و كذا، و لقد فعلنا كذا و كذا؛ فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ.
و هذه الآيات تتحدّث عن أوصاف المشمولين بالشفاعة و أوصاف المحرومين منها. و نقول الآن بأنّ الآيات المذكورة تدلّ -مضافاً إلى دلالتها على أصل الشفاعة- على أنّ شفاعة الشافعين نافعة في فكاك النفوس من الارتهان، و في نجاتها من الخلود في جهنّم؛ أمّا سائر أهوال يوم القيامة و مشقات البرزخ و مخاوفه، فباقية في مواضعها، و لا دليل لدينا على تحقّق الشفاعة في شأنها.
و يمكننا أن نقول إنّ هذه الآيات تفيد انحصار الشفاعة في أمر الاستخلاص من رهن جهنّم، كما يمكن الاستفادة منها على أنّ المحاورات بين أصحاب الجنّة و أصحاب النار إنّما تجري بعد استقرار أصحاب الجنّة فيها و استقرار أصحاب النار فيها، و أنّها تحصل بعد تحقّق الشفاعة في حقّ طائفة من المجرمين و إخراجهم بواسطتها من النار. و ذلك لعدّة امور:
أولًا: قوله: في جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ؛ الدالّ على الاستقرار في الجنّات.
ثانياً: قوله: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؛ لأنّ السلوك لا يُطلق على مطلق الدخول، بل على نوع من الدخول المنظّم لطائفة و جماعة.
و ثالثاً: قوله: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ؛ و كلمة «ما» نافية للحال؛ يعني أنّ شفاعة الشافعين لن تنفعهم في حالهم تلك.
ورد في «تفسير عليّ بن إبراهيم» في ذيل قوله تعالى: وَ مِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخُ هُوَ أمْرٌ بَيْنَ أمْرِينِ، وَ هُوَ الثَّوَابُ وَ العِقَابُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ. وَ هُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ أنْكَرَ عَذَابَ القَبْرِ وَ الثَّوَابَ وَ العِقَابَ قَبْلَ القِيَامَةِ، وَ هُوَ قَوْلُ الصَّادِقِ عَلَيْهِالسَّلَامُ:
وَ اللهِ مَا أخَافُ عَلَيْكُمْ إلّا البَرْزَخَ، فَأمَّا إذَا صَارَ الأمْرُ إلَيْنَا فَنَحْنُ أوْلَى بِكُمْ.۱
و هذه الرواية صريحة في أنّ الشفاعة لا تعني رفع العذاب قبل يوم القيامة؛ أمّا الروايات الواردة في حضور رسول الله و الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين عند الاحتضار و في القبر، و إعانتهم للمؤمن في الشدائد التي تواجهه، فلا تدخل في باب الشفاعة، بل هي من قبيل التصرّف و الحكومة التي فُوّضت إليهم بإذن الله تعالى.
و سنذكر قريباً في باب الأعراف إن شاء الله تعالى أنّ مخاطبة أصحاب الأعراف (و هم الأئمّة الطاهرون) لأصحاب النار: أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ؛٢ و خطابهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ هو خطاب من نوع الحكومة صادر من الأئمّة و ولاة الأمر.
و يمكن -لجهة من الجهات- أن نعتبر الآية التالية من هذا القبيل: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ -الآية، لأنّ وساطة الإمام في إعطاء صحيفة الأعمال و في قراءتها هو من قبيل الحكومة المفوّضة له.
و نستخلص من مجموع ما مرّ أنّ زمن تحقّق الشفاعة مقارن للموقف الأخير من مواقف يوم القيامة، و أنّها تحصل من خلال شمول البعض بغفران الله تعالى، أو من خلال منع دخول البعض نار جهنّم، أو بإخراج بعض الداخلين في النار بواسطة اتّساع رحمة الحقّ و ظهور الكرامة و الحَمْدُ لِلَّهِ.
و قد انتهى بحثنا في أمر الشفاعة وَ لِلَّهِ الحَمْدُ وَ لَهُ المِنَّةُ، و كان بحثاً
وافياً كاملًا قد استوعب جميع جوانب مسألة الشفاعة، فصار جليّاً أنّ الشفاعة هي من المسلّمات؛ و يدعم هذا القول كلام الإمام الصادق في رواية عمارة؛ فقد روى الصدوق في «الأمالي» عن القطّان، عن السُّكّري، عن الجوهريّ، عن ابن عمارة، عن أبيه عمارة، قال: قال الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام:
مَنْ أنْكَرَ ثَلَاثَةَ أشْيَاءَ فَلَيْسَ مِن شِيعَتِنَا: المِعْرَاجَ وَ المُسَاءَلَةَ في القَبْرِ وَ الشَّفَاعَةَ.۱
اللهمّ إنّك تعلم و تخبر ما في ضمائرنا، من أنّنا لا نعتقد بالشفاعة فحسب، بل إنّنا -كذلك- لا نعوّل على شيء غير أملنا بشفاعة موالينا المعصومين الأربعة عشر، و تعلم أنّنا قد جعلنا ولايتهم و البراءة من أعدائهم شعارنا الذي رضعناه قبل لَبن الامّهات، فهو معنا لا يفارقنا حتّى بعد الموت، و تخبر أنّنا أوكلنا الدنيا و الآخرة و ما فيهما لأهليهما و طالبيهما، فلم يكن لنا من بُغية و قصد إلّا المحبّة الخالصة الممحّضة لأهل البيت:
امشب آن نيست كه در خواب رود چشم نديم | *** | خواب در روضهء رضوان نكند أهل نعیم |
خاك را زنده كند تربيت باد بهار | *** | سنگ باشد كه دلش زنده نگردد به نسيم٢ |
بوى پيراهن گم كردهء خود مىشنوم | *** | گر بگويم، همه گويند ضلالى است قديم |
عاشق آن گوش ندارد كه نصيحت شنود | *** | درد ما نيك نباشد به مداواى حكيم |
توبه گويندم از انديشهء معشوق بِكن | *** | هرگز اين توبه نباشد، كه گناهى است عظيم |
أي رفيقان سفر! دست برداريد از ما | *** | كه بخواهيم نشستن به دَرِ دوست مقيم |
أي برادر غم عشق آتش نمرود انگار | *** | بَر مَن اين شعله چنانست كه بر إبراهيم |
مرده از خاكِ لحد رقص كنان بر خيزد | *** | گر تو بالاى عظامش گذرى، وَ هى رميم |
طمع وصل تو مىدارم و انديشهء هجر | *** | ديگر از هر چه جهانم نه اميدست و نه بيم |
عجب از كشته نباشد به در خيمهء دوست | *** | عجب از زنده كه چون جان به در آورد سليم۱ |
سعديا عشق نياميزد و شهوت با هم | *** | پيش تسبيح ملايك نرود ديو رجيم۱ |
لي خَمْسَةٌ اطْفِي بِهِمْ حَرَّ الجَحِيمِ الحَاطِمَة | *** | المُصْطَفَى وَ المُرْتَضَى وَ ابْنَاهُمَا وَ الفَاطِمَة |
اللهُمَ بِحَقِّهِمْ وَ بِحَقِّ أبْنَائِهِم الطَّاهِرِينَ | *** | الطَّيِّبِينَ لَا سِيَّمَا وَلِيِّكَ القَائِمِ المُنْتَظَرِ |
نُوِّرْ قُلُوبَنَا بِمَعْرِفَتِهِمْ وَ ارْزُقْنَا لِقَاءَهُمْ | *** | وَ شَفَاعَتَهُمْ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. |
المَجْلِسُ الخَامِسُ وَ السِّتُّونَ: اخْتِصاصُ مِنْبِرُ الوَسِيلَةِ وَ لِوَاءُ الحَمْدِ يَوْمَ القِيامَةِ بِرَسُولِ اللهِ وَ آلِهِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ الضُّحى ، وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى ، وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى ، وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى.۱
يقول مؤلّف «تفسير بيان السعادة»: و معنى هذه الآية أنّ الله تعالى سرعان ما سيعطيك في الدنيا حتّى يحصل لك مقام الرضا، أو حتّى ترضى. و لهذه الجهة فقد فُسِّر المُعطي بمقام الشفاعة الكبرى و قد جاء في الرواية أنّ هذه الآية هي أرجى آية في القرآن الكريم.
و جاء عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:
رِضَا جَدِّي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنْ لَا يَبْقَى في النَّارِ مُوَحِّدٌ.٢
و هذه هي نفس رسول الله في سعتها و إحاطتها و شموليّتها بحيث تجعل جميع الأنبياء و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين من جميع الامم يفتقرون إلى إفاضة النور من تلك النفس المقدّسة، و تجعلهم ينتفعون به
و يقفون أمامه حامدين، و تجعله حائزاً للمقام المحمود.
ماه فرو ماند از جمال محمّد | *** | سرو نباشد به اعتدال محمّد |
قدرِ فلك را كمال و منزلتى نيست | *** | در نظر قدر با كمال محمّد |
وعده ديدار هر كسى به قيامت | *** | ليلة اسْرَى شبِ وصال محمّد |
آدم و نوح و خليل و موسى و عيسى | *** | آمده مجموع در ظِلال محمّد |
عرصهء گيتى مَجال همّت او نيست | *** | روز قيامت، نگَر مَجال محمّد |
و آنهمه پيرايه بسته جنّتِ فردوس | *** | بو كه قبولش كند بَلال محمّد |
همچو زمين خواهد آسمان كه بيفتد | *** | تا بدهد بوسه بر نعال محمّد۱ |
شمس و قمر در زمين حشر نتابد | *** | نور نتابد، مگر جمال محمّد |
شايد اگر آفتاب و ماه نتابند | *** | پيش دو ابروى چون هلال محمّد |
چشم مرا تا به خواب ديد جمالش | *** | خواب نميگيرد از خيال محمّد |
سعدي اگر عاشقي كني و جواني | *** | عشق محمّد بس است و آل محمّد۱ |
و قد أوردنا سابقاً عن «تفسير فرات بن إبراهيم» عن بشر بن شريح البصريّ، قال:
قلتُ لمحمّد بن عليّ (الباقر) عليه السلام: أيَّةُ آيَةٍ في كِتَابِ اللهِ أرْجَى؟
قال: ما يقول فيها قومك؟
قال، قلتُ: يقولون: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.٢
قال: لَكِنَّا أهْلَ البَيْتِ لَا نَقُولُ ذَلِكَ.
قال: قلتُ: فَأيّ شَيء تقولون فيها؟
قال، نَقُولُ: «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى».۱
الشَّفَاعَةُ، وَ اللهِ الشَّفَاعَةُ، وَ اللهِ الشَّفَاعَةُ!٢
تجلّي رسول الله و مقاماته في القيامة
و ينبغي أن نرى الآن السبب الذي صارت به آية: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى- و ليس آية: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ- أرجى آية في القرآن، و أن نرى السبب في كون النهي عن القنوط و اليأس من رحمة الله نهياً عن القنوط من رحمة الله التكوينيّة بشهادة مورد الآيات و موضوع بيانها، كما في الآية: وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ؛٣ و الآية: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ.٤
أمّا في الآيات مورد البحث: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ، وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ،٥ فقد ورد النهي عن القنوط و اليأس من الرحمة التشريعيّة. و المراد من النهي هو النهي عن القنوط من غفران الله و شمول رحمته للذنوب و المعاصي التي ارتكبها العباد، بقرينة جملة «أسْرَفُوا عَلَى أنفُسِهِم» الظاهرة في أنّ القنوط و اليأس يتنجان عن المعصية.
فَلِمَ لَمْ تُعدّ هذه الآية أرجى آية و أدعاها لترعرع براعم الأمل في
أعماق قلوب العاصين، مع أنّ مغفرة الله سبحانه و تعالى قد شملت جميع العاصين بلا استثناء؟
السرّ في ذلك هو أنّ النهي عن القنوط الوارد في هذه الآية، قد جاء بعد وعد الله تعالى بغفرانه جميع الذنوب الذي يعقبها المرء بالإنابة و الإسلام و اتّباع العمل الصالح. و من هنا فالآية تدلّ على أنّ من غير اللائق بالعبد المذنب الذي أسرف على نفسه أن يقنط من رحمة الله تعالى ما دامت التوبة و الإنابة و الإسلام و العمل الصالح في متناول يده.
فهذه الرحمة الإلهيّة -إذاً- ليست رحمة مطلقة، بل هي رحمة مقيّدة قد أمر الله سبحانه عباده بالتمسّك بها و بإعداد الأرضيّة المناسبة لنيلهم المغفرة من خلال التوبة و الإسلام و العمل الصالح.
تفسير آية: «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى»
أمّا في آية إعطاء الله تعالى نبيّه حتّى يرضى، فإن هذا الرضا يمثّل الرحمة المطلقة العامّة التي منّ بها الله تعالى دون قيد أو شرط على نبيّه الكريم الذي بعثه رحمة للعالمين. و هو وعد قد بعث السرور و البهجة في نفس رسول الله و أقرّ عينيه و طيّب خاطره.
و بيان ذلك أنّ هذه الآية وردت في مقام الامتنان، إذ إنّ الوعد الذي قُطع لرسول الله صلّى الله عليه و آله لم يُقطع نظير له لأيّ مخلوق سواه. و نلحظ في هذا المجال أنّ عطاء الله تعالى كان مطلقاً، و كان رضا رسول الله مطلقاً أيضاً.
أمّا بلحاظ الإعطاء، فقد منّ الله تعالى بنظيره على بعض عباده في الجنّة من خلال قوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ؛۱ و قوله: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ.٢
و تبيّن الآية الأخيرة أنّ ما خلق الله تعالى لأصحاب الجنة يفوق مشيئتهم، إذ إنّ مشيئة الإنسان تتعلّق بما يخطر على قلبه من امور الخير و السعادة. كما و يستفاد من الآية أنّ في الجنّة أموراً لم تخطر على قلب بشر، و أشياءً أعلى ذروةً من أن تنالها خطرات فكر الإنسان و هواجسه:
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ.۱
و إذا تقرّر أن يمنّ الله على المؤمنين من أصحاب العمل الصالح بهذه الامور التي تفوق الحدّ و التقدير، فلا ريب أنّ ما سيمنحه لرسوله الكريم في مقام الامتنان سيكون أسمى و أعظم و أوسع من ذلك، و هذا هو شأن عطاء الحقّ جلّ و عزّ.
أمّا شأن رضا رسول الله صلّى الله عليه و آله، فنحن نعلم بأنّه ليس رضا بأمر الله و مقدّراته و بما قسمه الله له، لأنّ مثل هذا الرضا القائم على أساس مالكيّة الحقّ و غناه المطلق هو ممّا لا بدّ للعبد الخاضع للحقّ أن يتحلّى به، لأنّ العبد لا يملك أمام ذلك الغني إلّا الفقر و الفاقة، فينبغي على النبيّ إذاً أن يرضى بما يعطيه ربّه، سواءً قلّ ذلك العطاء أم كثر؛ و عليه أن يرضى بما قدّر له الله تعالى، سواءً أوجب ذلك سروره أم حزنه.
بل إنّ الرضا المذكور، باعتبار وقوعه مقابل عطاء الحقّ تعالى، يفيد معنى آخر نظير رضا الفقير بما يزيل فقره، و رضا الجائع بما يسدّ جوعه، و ذلك هو الرضا بعطاء الحقّ تعالى دونما تحديد.
استنباط الشفاعة الكبرى من سورة البيّنة
و قد وعد الله تعالى طائفة من عباده بعطاء يماثل هذا العطاء، كما جاء في قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ،
جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ.۱
و إذا كان الجزاء في حقّ المؤمنين على هذا النحو، و كان رضاهم به رضاً بلا قيد و لا شرط، فما ظنّك بما يتعلّق برسول الله صلّى الله عليه و آله، مع لحاظ أن آية فَتَرْضَى قد وردت في مقام الامتنان و الاختصاص! من المحتّم أن يكون الأمر أعلى مقاماً ممّا ورد في شأن المؤمنين، و أوسع و أعظم.
و نعلم من جهة اخرى أنّ الله سبحانه وصف رسوله الكريم فقال: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.٢
فصادق بكلامه على مراتب رحمة النبي، و شهد برأفته بالمؤمنين. فكيف -و الحال هذه- سيرضى رسول الله صلّى الله عليه و آله و يطيّب خاطره بالتنعّم في نعيم الجنّة، و الانشغال بالتنزّه في جِنانها مسروراً محبوراً، و كيف يتلذّذ بأنواع لذائذ الجنان السرمديّة؛ بينما ترزح طائفة من المؤمنين مغلولة في دركات السعير، ممتحنةً في طبقات جهنّم، مع اعتراف اولئك المؤمنين بربوبيّة الحقّ تعالى، و إقرارهم برسالة نبيّه المصطفى و بما جاء به من عند ربّه، بسبب ذنوب قد ارتكبوها عند غلبة الجهل عليهم و بسبب اتّباعهم النفس الأمّارة و سقوطهم في حبائل الشيطان، و تدنّسهم في خاتمة المطاف بتلك الذنوب، دون أن يطرأ عليهم عناد و لا استكبار لا جحود و لا مبارزة لذات الحقّ القدسيّة!
و نجد في أنفسنا بالوجدان أنّنا حين ننظر إلى الأيّام التي سلفتْ من
أعمارنا، و نتأمّل في تقصيرنا عن الارتقاء في الكمالات، و ننحو باللأئمّة على أنفسنا في هذا التقصير و التفريط، و نوبّخها على عدم جدّها في السعي، ثمّ نلتفت إلى جهلها آنذاك، و إلى غرور الشباب و نقصان التجارب لديها حينذاك، عندها سيخمد لهيب ما استعر في نفوسنا و ما اضطرم فيها من سَوْرة اللوم و التوبيخ، بتأثير الرحمة الناقصة التي أودعها الخالق في وجودها و ادّخرها في فطرتنا.
فكيف سيكون الأمر فيما يتعلّق برحمة الربّ الرحيم الرءوف في موقفٍ لا يكبو بالإنسان إلّا جهله و ضعفه، و في مقامٍ تتجلّى فيه كرامة رسوله الأكرم و نبيّه المكرّم الذي نعته بالرحمة و الرأفة بالمؤمنين، و يأتي فيه المؤمن المبتلى الذي قد أنشب الموت براثنه فيه عند احتضاره بسبب وَبال أفعاله، و شاهد بامّ عينيه المحن و تجرّع الغصص حتّى بلغ هذا الموقف الأخير من مواقف يوم القيامة.
أ فيمكن أن يكون ظهور الرحمة و الرضا المطلقينِ من هذا النبيّ المبعوث رحمةً للعالمين شيئاً غير الشفاعة الكبرى للمؤمنين؟
روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره، بسنده المتّصل عن المفضّل بن عمر، أنّه سمع أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام يقول في قول الله: وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها.۱
قال: رَبُّ الأرْضِ إمَامُ الأرْضِ. قُلْتُ: فَإذَا خَرَجَ يَكُونُ مَا ذَا؟
قَالَ: إذاً يَسْتَغْنِي النَّاسُ عَنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَ نُورِ القَمَرِ، وَ يَجْتَزِؤُونَ بِنُورِ الإمَامِ.٢
الوسيلة هي منبر رسول الله ذو الألف درجة
و ورد كذلك في «تفسير عليّ بن إبراهيم» عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن ابن سنان، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، قال:
كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ: إذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوا لي الوَسِيلَةَ.
فسألنا النبيّ صلّى الله عليه و آله عن الوسيلة؛ فقال:
هي درجتي في الجنّة، و هي ألف مرقاة جوهر،۱ إلى مرقاة زبرجد، إلى مرقاة لؤلؤة، إلى مرقاة ذهب. فيؤتى بها يوم القيامة حتّى تُنصب مع درجة النبيّين، فهي في درجة النبيّين كالقمر بين الكواكب، فلا يبقى يومئذٍ نبيّ و لا شهيد و لا صدّيق إلّا قال: طوبى لمن كانت هذه درجته! فينادي المنادي، و يسمع النداء جميع النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و المؤمنين: هذه درجة محمّد صلّى الله عليه و آله. فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: فأقبلُ يومئذٍ متّزراً بريطة٢ من نور، عَلَيّ تاج الملك و إكليل الكرامة، و عليّ بن أبي طالب أمامي و بيده لوائي و هو لواء الحمد، مكتوب عليه: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، المُفْلِحُونَ هُمُ الفَائِزُونَ بِاللهِ. فإذا مررنا بالنبيّين قالوا: هذان مَلَكان لم نعرفهما و لم نرهما، و إذا مررنا بالملائكة قالوا: هذان نبيّان مرسلان، حتّى أعلو الدرجة و عليّ يتبعني، فإذا صرتُ في أعلى الدرجة منها و عليّ أسفل مني بيده لوائي، فلا يبقى يومئذٍ نبيّ و لا مؤمن إلّا رفعوا رؤوسهم إليّ يقولون: طوبى لهذين العبدينِ ما أكرمهما على الله!
فينادي المنادي يسمع النبيّون و جميع الخلائق: هذا حبيبي محمّد،
و هذا وليّي عليّ بن أبي طالب؛ طوبى لمن أحبّه، و ويلٌ لمن أبغضه و كذب عليه.
ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: يا عليّ! فلا يبقى يومئذٍ في مشهد القيامة أحد يحبّك إلّا استروح إلى هذا الكلام و ابيضّ وجهه و فرح قلبه؛ و لا يبقى أحد ممّن عاداك و نصب لك حرباً أو جحد لك حقّاً إلّا اسودّ وجهه و اضطربت قدماه. فبينا أنا كذلك إذا ملكان قد أقبلا إليّ، أمّا أحدهما فرضوان خازن الجنّة، و أمّا الآخر فمالك خازن النار، فيدنو رضوان و يسلّم عَلَيّ و يقول: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فأردّ عليه و أقول: أيّها الملك الطيّب الريح، الحسن الوجه، الكريم على ربّه، مَن أنت؟ فيقول: أنا رضوان خازن الجنّة، أمرني ربّي أن آتيك بمفاتيح الجنّة فخُذها يا مُحَمَّدُ! فأقول: قد قبلتُ ذلك من ربّي، فله الحمد على ما أنعم به عَلَيّ، ادفعها إلى أخي عَلِيّ بْنِ أبي طَالِب، فيدفعها إلى عليّ و يرجع رضوان؛ ثمّ يدنو مالك خازن النار فيسلّم و يقول: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حَبِيبَ اللهِ؛ فأقول له: و عليك السلام أيّها المَلَك، ما أنكر رؤيتك و أقبح وجهك! مَن أنت؟ فيقول: أنا مالك خازن النار، أمرني ربّي أن آتيك بمفاتيح النار. فأقول: قد قبلتُ ذلك من ربّي، فله الحمد على ما أنعم به عَلَيّ و فضّلني به، ادفعها إلى أخي عليّ بن أبي طالب! فيدفعها إليه. ثمّ يرجع مالك، فيقبل عَلِيّ و معه مفاتيح الجنّة و مقاليد النار حتّى يقعد على عجزة جهنّم و يأخذ زمامها بيده، و قد علا زفيرها، و اشتدّ حرّها، و كثر تطاير شررها، فتنادي جهنّم: يا عَلِيّ! جُزني، فقد أطفأ نورُك لهبي. فيقول عليّ لها: ذَري هذا وليّي، و خُذي هذا عدوّي؛ فلجهنّم يومئذٍ أشدّ مطاوعةً لعليّ من غُلام أحدكم لصاحبه؛ فإن شاء يذهب بها يمنة، و إن شاء يذهب بها يسرة؛ و لجهنّم يومئذٍ أشدّ مطاوعةً لعليّ من جميع الخلائق و ذلك أن عليا عليه السلام يومئذ قسيم الجنة
وَ النَّارُ.۱
و نقل الشيخ الصدوق هذه الرواية في «معاني الأخبار» و «الأمالي» عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن العبّاس بن معروف (عن عبد الله بن المغيرة - «معاني الأخبار») عن أبي حفص العبديّ، عن أبي هارون العبديّ، عن أبي سعيد الخدريّ، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله.٢ كما رواه الصفّار في «بصائر الدرجات» عن أحمد بن محمّد، عن العبّاس بن معروف، عن عبد الله بن المغيرة، عن أبي هارون العبديّ، عن أبي سعيد الخدريّ، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله.٣
و يتّضح من روايتَي الصدوق في «معاني الأخبار» و «الأمالي» و من رواية الصفّار في «بصائر الدرجات» عن أبي سعيد الخدريّ، أنّ هذه الرواية قد رويت عن أبي سعيد الخدريّ، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله؛ بَيدَ أنّ رواية عليّ بن إبراهيم التي رواها عن الإمام الصادق عليه السلام تتضمّن جملة «فسألنا النبيّ» و هي راجعة إلى أمير المؤمنين عليه السلام أو إلى أحد الصحابة الذين رووها عن رسول الله.
مواقف كلّ واحد من الأنبياء و الأئمّة يوم القيامة
و جاء في «تفسير عليّ بن إبراهيم» في ذيل الآية: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ،٤ عن أبيه إبراهيم، عن سليمان الديلميّ، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، قال:
إذا كان يوم القيامة دُعي محمّد فيُكسى حُلّة ورديّة، ثمّ يُقام عن يمين العرش؛ ثمّ يُدعى بإبراهيم فيُكسى حلّة بيضاء فيقام عن يسار العرش؛ ثمّ يُدعى بعليّ أمير المؤمنين فيُكسى حلّة ورديّة فيُقام عن يمين النبيّ، ثمّ يُدعى بإسماعيل فيُكسى حلّة بيضاء فيقام عند يسار إبراهيم، ثمّ يُدعى بالحسن فيُكسى حلّة ورديّة فيُقام عن يمين أمير المؤمنين، ثمّ يُدعى بالحسين فيُكسى حلّة ورديّة فيُقام عن يمين الحسن، ثمّ يُدعى بالأئمّة فيُكسون حللًا ورديّة فيقام كلّ واحد عن يمين صاحبه، ثمّ يدعى بالشيعة، فيقومون أمامهم، ثمّ يُدعى بفاطمة عليه السلام و نسائها من ذرّيّتها و شيعتها فيدخلون الجنّة بغير حساب، ثمّ ينادي منادٍ من بطنان العرش من قبل ربّ العزّة و الافق الأعلى؛ نِعم الأب أبوك يا محمّد و هو إبراهيم، و نِعم الأخ أخوك و هو عليّ بن أبي طالب، و نِعم السِّبطان سبطاك و هما الحسن و الحسين، و نِعم الجنين جنينُك و هو مُحسن، و نعم الأئمّة الراشدون ذرّيّتك و هم فلان و فلان، و نِعم الشيعة شيعتك.
ألَا إنَّ مُحَمَّداً وَ وَصِيَّهُ وَ سِبْطَيْهِ وَ الأئِمَّةَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ هُمُ الفَائزُونَ!
ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إلَى الجَنَّةِ؛ وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: «فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ ادْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ».۱
لواء الحمد يوم القيامة في يد أمير المؤمنين عليه السلام
يقول العيّاشيّ في تفسيره: عن يحيى بن مساور: قلتُ (للإمام الصادق عليه السلام): حدّثني في عليّ حديثاً؛ فقال: أشرحه لك أم
أجمعه؟
قلتُ: بل اجمعه!
فقال: عليّ بابُ هدى، مَن تقدّمه كان كافراً، و من تخلّف عنه كان كافراً.
قلتُ: زِدني!
قال: إذا كان يوم القيامة نُصب منبر عن يمين العرش له أربع و عشرون مرقاة، فيأتي عليّ و بيده اللواء حتّى يركبه و يُعرض الخلائق عليه، فمَن عرفه دخل الجنّة، و مَن أنكره دخل النار.
قلتُ له: توجدنيه من كتاب الله؟
قال: نعم؛ أ ما تقرأ هذه الآية، يقول تبارك و تعالى:
«فسيرى الله عملكم و رسوله و المومنون». هو و الله علي بن أبي طالب.۱
كما روى العيّاشيّ نظير هذه الرواية بسند آخر عن محمّد بن حسّان الكوفي، عن محمّد بن جعفر، عن أبيه عليه السلام.٢
و روى في «تفسير فرات بن إبراهيم» عن عبيد بن كثير، معنعناً عن أبي هريرة، أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال:
أتَانِي جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: ابَشِّرُكَ يَا مُحَمَّدُ بِمَا تَجُوزُ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ، قلْتُ لَهُ: بَلَي! قَالَ: تَجُوزُ بِنُورِ اللهِ، وَ يَجُوزُ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنُورِكَ، وَ نُورُكَ مِنْ نُورِ اللهِ!
وَ يَجُوزُ امَّتُكَ بِنُورِ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَ نُورُ عَلِيّ مِنْ نُورِكَ، وَ مَنْ
لَمْ يَجْعَلِ اللهِ لَهُ مَعَ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ.۱
و على أيّة حال، فقد جاء في الأحاديث التي أوردناها في هذا المجال في شأن الوسيلة، أنّ الوسيلة منبر في الجنّة مختصّ برسول الله و أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السلام. و الأحاديث في الباب متضافرة، إلّا أنّنا استشهدنا بعددٍ منها كأمثلة.
مواصفات لواء الحمد في يوم القيامة
و هناك أحاديث اخرى في أنّ لواء الحمد يوم القيامة في يد أمير المؤمنين عليّ عليه السلام. و نورد فيما يلي عدّة نماذج من هذه الأحاديث:
يروي الشيخ الصدوق في «الأمالي» عن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقانيّ، عن الحسن بن عليّ العدويّ، عن الحسين بن أحمد الطفاويّ، عن قيس بن الربيع، عن سعد بن الخفّاف، عن عطيّة العوفيّ الكوفيّ، عن مخدوج بن زيد الذهليّ، أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله آخى بين المسلمين، ثمّ قال: يا عليّ! أنت أخي، و أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي؛ أ ما علمتَ يا عليّ أنّه أوّل مَن يُدعى به يوم القيامة يُدعى بي، فأقوم عن يمين العرش فاكسى حلّة خضراء من حلل الجنّة، ثمّ يُدعى بأبينا إبراهيم عليه السلام فيقوم عن يمين العرش في ظلّه فيُكسى حلّة خضراء من حلل الجنّة، ثمّ يُدعى بالنبيّين بعضهم على أثر بعض، فيقومون سماطينِ عن يمين العرش في ظلّه و يُكسون حللًا خضراً من حلل الجنّة؛ ألا و إنّي اخبرك يا عليّ أنّ امَّتي أوّل الامم يُحاسبون يوم القيامة. ثمّ ابشّرك يا عليّ أنّ أوّل من يُدعى يوم القيامة يُدعى بك، هذا لقرابتك منّي و منزلتك عندي، فيدفع إليك لوائي و هو لواء الحمد، فتسير به
بين السماطينِ، و أنّ آدم و جميع مَن خَلَق الله يستظلّون بظلّ لوائي يوم القيامة و طوله مسيرة ألف سنة، سنانه۱ ياقوتة حمراء، قصبه فضّة بيضاء، زجّه٢ دُرّة خضراء، له ثلاث ذوائب من نور: ذؤابة في المشرق، و ذؤابة في المغرب، و ذؤابة في وسط الدنيا، مكتوب عليها ثلاثة أسطر، الأوّل: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، و الآخر: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، و الثالث: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ؛ طول كلّ سطر مسيرة ألف سنة و عرضه مسيرة ألف سنة؛ فتسير باللواء و الحسن عن يمينك و الحسين عن يسارك حتّى تقف بيني و بين إبراهيم في ظلّ العرش، فتُكسى حلّة خضراء من حلل الجنّة، ثمّ ينادي منادٍ من عند العرش:
نِعم الأب أبوك إبراهيم، و نِعم الأخ أخوك عليّ. ألا و إنّي ابشّرك يا عليّ إنّك تُدعى إذا دُعيتُ، و تُكسى إذا كُسيتُ، و تُحيّا إذا حُيّيتُ.٣
و يروي الصدوق في «عيون أخبار الرضا» عن أبيه، عن الحسن بن أحمد المالكيّ، عن أبيه، عن إبراهيم بن أبي محمود، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام، قال:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: يَا عَلِيُّ! أنْتَ أوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ وَ بِيَدِكَ لِوَائِي، وَ هُوَ لِوَاءُ الحَمْدِ، وَ هُوَ سَبْعُونَ شُقَّةٌ، الشُّقَّةُ مِنْهُ أوْسَعُ مِنَ الشَّمْسِ وَ القَمَرِ.٤
و روى في «علل الشرايع» بسنده المتّصل عن أمير المؤمنين عليه
السلام، قَالَ:
قَالَ لي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أنْتَ أوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ!
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أدْخُلَها قَبْلَكَ؟!
قَالَ: نَعَمْ، لأنَّكَ صَاحِبُ لِوَائِي في الدُّنْيَا، وَ صَاحِبُ اللِّوَاءِ هُوَ المُتَقَدَّمُ.
ثُمَّ قَالَ: يَا عَلِيُّ! كَأنِّي بِكَ وَ قَدْ دَخَلْتَ الجَنَّةَ وَ بِيَدِكَ لِوَائِي وَ هُوَ لِوَاءُ الحَمْدِ تَحْتَهُ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ.۱
أجل، و حاصل ما تفيده طائفة من الأخبار هو أنّ النبيّ الأكرم هو صاحب الوسيلة و لواء الحمد يوم القيامة، و أنّ الوسيلة هي منبر كبير ذو ألف مرقاة، ما بين المرقاة و المرقاة عدوة الفَرَس الجواد، و أنّ كلّ مرقاة من جوهر خاصّ يختلف عن جوهر المرقاة الاخرى؛ و أنّ الرسول الأكرم يرقى منبر الوسيلة حتّى يقف في ذروته، و يقف أمير المؤمنين أدنى منه بمرقاة. و أنّ هذا المنبر منصوب مقابل عرش الله عزّ و جلّ، و أنّ الأنبياء يتوزّعون على درجات المنبر كلًّا حسب درجته، بينما يتوزّع الصدّيقون و الصالحون و الشهداء على درجاته، و أنّ مَن حاز درجة أعلى في القُرب يقف على مرقاة تعلو مرقاة من يليه درجةً في القُرب. و يقف سائر الناس من أصناف المؤمنين أسفل المنبر في العرصات (و هي أرض فسيحة مستوية) و يحتشد الخلائق من الأوّلين و الآخرين حول المنبر يتطاولون ناظرين إلى رسول الله، كما يرفع الأنبياء الواقفون على درجات منبر الوسيلة في درجاتهم المعيّنة أبصارهم تلقاء رسول الله، فتحار أعينهم من سطوع نور طلعته و طلعة وصيّه و خليفته بلا فصل و حامل لوائه في التوحيد:
أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام، ذلك النور المتوهّج الشبيه بنور البدر ليلة تمامه، نور يخطف الأفئدة و ينعش الأرواح و يلفت إليه قلوب الأنبياء و الصدّيقين، ثمّ يأتي جبرئيل: الملك المقرّب من ملائكة السماوات بلواء الحمد فيضعه في يد رسول الله، فيسلّمه رسول الله إلى أمير المؤمنين عليه السلام الواقف أدنى منه بمرقاة، و هو لواء الحمد الذي يطبق مشرق العالم و مغربه، لأنّ طوله مسيرة ألف سنة؛ و سنانه من الياقوت الأحمر، و زجّه من الدرّ الأخضر، و قصبه من الفضّة البيضاء، مكتوب على ذوائبه الثلاث:
بسم الله الرحمن الرحيم، و الحمد للّه ربّ العالمين، و لا إله إلّا الله، محمّد رسول الله.
معنى الوسيلة و لواء الحمد في يوم القيامة
و ينبغي أن نرى الآن ما معنى الوسيلة و اللواء؟ و لما ذا يقف الرسول الأكرم على ذروته و يقف أمير المؤمنين أدنى منه بمرقاة؟ و لِمَ سُمّي ذلك المنبر بالوسيلة؟ و لِمَ سُمّي ذلك اللواء بلواء الحمد؟ و لِمَ لَمْ يُدعى بلواء التكبير، أو لواء التسبيح، أو لواء التهليل؟ و لِمَ يسلّم رسول الله ذلك اللواء لأمير المؤمنين؟ و لما ذا يتوزّع الأنبياء على درجات المنبر و يقف كلّ منهم في درجة معيّنة؟ و لما ذا يحتشد جميع المؤمنين في عرصات القيامة حول ذلك المنبر، و هم يحدّقون بأنظارهم على رسول الله و خليفته؟ هذه مجموعة من الحقائق ينبغي تسليط الضوء عليها.
يُطلق لفظ الوسيلة على ما يستعين به المرء على بلوغ مقصده؛ و ربّما كانت الألف مرقاة تعبيراً عن الحجب الألف التي تحجب النفس عن مقام المعرفة المطلقة للحقّ تعالى، أو عن أسماء الحقّ المقدّسة التي يبلغ عددها ألف اسم. و لقد تخطّى رسول الله صلّى الله عليه و آله جميع الحُجب و استقرّ في الحجاب الأخير (و هو الحجاب الأقرب)، بحيث لم يعد يوجد
شيء متصوّر بينه و بين الذات القدسيّة للحقّ عزّ و جلّ، و بحيث نهل رويّاً من جميع أسماء و صفات الله جلّ و علا، و فني في تلك الأسماء و تحقّق بحقيقتها، ثمّ فني في الاسم الأعظم للذات الأحديّة، و هو مقام العبوديّة المطلقة و الولاية الكلّيّة الإلهيّة. أمّا سائر الأنبياء فهم أدنى درجة من رسول الله و من أمير المؤمنين، حيث فني كلّ منهم في أحد أسماء الحقّ تعالى، فاستقرّ في تلك الدرجة.
و لمّا كانت درجات منبر الوسيلة تزداد شمولًا كلّما قربت من الذروة، فإنّ من فني من الأنبياء في الأسماء الكلّيّة سيقف في درجة أعلى، وصولًا إلى اسم العليم و القدير و الحي و اسم الله الأكمل و الأشمل من جميع الأسماء الاخرى، و هي معدودة من اصول الأسماء الإلهيّة.
و عليه فيمكن القول إنّ هذا المنبر مخروطيّ الشكل، يحتشد على درجته الاولى (و هي قاعدة المخروط) كثير من الخلائق، من الأنبياء و الصدّيقين و الشهداء؛ أمّا الدرجة التي تعلوها و تقلّ عنها مساحة و تزيد عليها قدرةً و عظمة و حياة، فيقف عليها عدد أقلّ. و هكذا تزداد القدرة و العلم و الحياة كلّما رقينا درجات المنبر، بينما يقلّ عدد الواقفين على تلك الدرجات وصولًا إلى الدرجة الأخيرة في ذروة المنبر، حيث يتعذّر وجود سعة غير سعة رسول الله، إذ هناك نقطة واحدة فقط هي نُقْطَةُ الوَحْدَةِ بَيْنَ قَوْسَي الأحَدِيَّةِ وَ الوَاحِدِيَّةِ.
أمّا من جهة العلم و القدرة و الحياة، فهي مجمع أنواع العلم و القدرة و الحياة، و المفيضة لهذه الأسماء و الصفات الكلّيّة الإلهيّة على جميع المخروط و على جميع عالم المُلك و الملكوت. و هناك مقام غيب الغيوب و الكنز المخفيّ و عالم العماء و سرّ الهُويّة، و تحقّق اسم هو و مبدأ تحقّق الولاية و الظهور. و أمّا المرقاة الأسفل منها، فهي أوّل نقطة ظهور و تجلّي
الأسماء و الصفات و عالم الولاية الكلّيّة الإلهيّة، و هي المقام المقدّس لمولى الموالي أمير المؤمنين الذي يكتسب -بواسطة رسول الله- من الذات القدسيّة للحضرة الأحديّة، و يفيضه على عالم الملك و الملكوت.
و يمثّل وجود رسول الله عدسةً مجهريّة صغيرة ينعكس من خلالها النور و صور الأجرام السماويّة على عدسة أكبر منها تمثّل محلّ الظهور و التجلّي.
فعليّ عليه السلام -إذاً- هو ظهور رسول الله، بينما يمثل رسول الله باطن هذا الظاهر. كما أنّ أمير المؤمنين الواقف على درجة أدنى من الذروة بمرقاة يكتسب حقيقة العلم و الحياة و القدرة من مقام بين بين، أي بين الذات و الاسم (و هو موضع حقيقة رسول الله). فأمير المؤمنين -من ثمّ- يجسّد أوّل تجلّ للولاية واقع بين البطون و الظهور، و يفيض تلك الولاية على جميع الأنبياء و الأولياء، و هؤلاء يفيضون بدورهم على من يقف أدنى منهم، وصولًا إلى جميع الخلائق الحافّين بمنبر الوسيلة، و اولئك يفيضون بالواسطة إلى مَن في النار و إلى الواقفين على مبعدة من منبر الوسيلة.
و ليست أفضليّة خاتم النبيّين و خليفته خاتم الوصيّين و شرف مقامهما أمراً اعتباريّاً صوريّاً، بل هي أمر متحقّق بواسطة السعة الوجوديّة و القرب الذاتيّ و كشف الحجب النورانيّة، و بواسطة تخطّي جميع الأسماء و الصفات من خلال المجاهدة و الرياضة القائمتيْن على أساس العلم و المشيئة الأزليّة الإلهيّة.
أمّا كون هذه الوسيلة و هذا اللواء يماثلان سائر المنابر و الألوية المعهودة في هذا العالم، أو هما معنى صرف تشبيه مجرّد من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، فقد مرّ بحث ذلك مفصّلًا في باب صراط جهنّم الذي
يقود إلى الجنّة،۱ حيث علمنا أنّهما لا يماثلان المنابر و الألوية المادّيّة، كما علمنا أنّ الميزان و الصراط لا يشبهان الموازين و الجسور المادّيّة، كما أنّهما ليسا معنى مجرّداً و تشبيهاً و كناية من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، بل إنّ الميزان و الصراط موجودان حقيقة، و إنّ الوسيلة و اللواء موجودان حقيقة، كلّ ما في الأمر أنّها متناسبة مع ذلك العالم، لأنّ المنبر و اللواء المعهودين هما في عالم الصورة، أمّا إذا تخطينا عالم الصورة، فليس ثمّة عنوان للمنبر و لا للواء يميّزان أحدهما عن الآخر. و ستتجسّد حقيقة هذه الوسيلة و حقيقة هذا اللواء في صور تتناسب مع ذلك العالم و تنسجم معه.
و علينا أن لا ننسى تناسب تحقّق وجودها مع ذلك العالم، و بغير ذلك فإنّ إشكالات كثرة سترد في هذا المجال.
و على سبيل المثال، فقد جاء في باب الوسيلة في رواية «تفسير عليّ ابن إبراهيم» -كما مرّ- عبارة: حَتَّى يَقْعُدَ عَلَى عُجْزَةِ جَهَنَّمَ وَ يَأخُذَ زِمَامَهَا بِيَدِهِ، وَ قَدْ عَلَا زَفِيرُهَا ... إلى قوله: فَإنْ شَاءَ يَذْهَبُ بِهَا يَمْنَةً، وَ إنْ شَاءَ يَذْهَبُ بِهَا يَسْرَةً.
و حاصل المطلب أنّ جهنّم يُجاء بها يوم القيامة، كما في القرآن الكريم: وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ.٢
و يكون لجهنّم لجام و زمام، فيستوي عليّ أمير المؤمنين على ظهرها و يُمسك بيده زمامها، فإن شاء ذهبَ بها يميناً، و إن شاء ساقها شمالًا، فتبتلع أعداءَ اللهِ و رسولهِ و أعداء مقام الولاية.
و ليس في أمر المجيء بجهنّم و إمساك عليّ بزمامها شكّ، و لكن هل هي مثل الرواحل الدنيويّة كالناقة و البغل، ليمتطيها عليّ و يمسك بلجامها كما في الأنعام الدنيويّة؟ من المسلّم أنّ الأمر ليس على هذا النحو، بل تلك الراحلة و ظهرها و لجامها و حركتها يميناً و شمالًا متناسبة بأجمعها مع ذلك العالم. و كما أنّ ذلك العالم مغاير لهذا العالم، إذ هناك غيب و هنا شهود، و هناك باطن و هنا ظاهر؛ فإنّ الأمر يجري كذلك على جميع موجودات ذلك العالم و أحكامه، فهي متناسبة مع ذلك العالم و منسجمة معه. و قد جاء في بحث الشفاعة:
فَيَأتِي دَارَ الرَّحْمَنِ وَ هِيَ عَدْنُ وَ إنَّ بَابَهَا سَعَتُهُ بُعْدُ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَ المَغْرِبِ فَيُحَرِّكُ حَلْقَةً مِنَ الحَلَقِ فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا! -وَ هُوَ أعْلَمُ بِهِ- فَيَقُولُ: أنَا مُحَمَّدٌ! فَيُقَالُ: افْتَحُوا لَهُ! قَالَ: فَيُفْتَحُ لي. قَالَ: فَإذَا نَظَرْتُ إلَى رَبِّي مَجَّدْتُهُ تَمْجِيداً لَمْ يُمَجِّدْهُ أحَدٌ كَانَ قَبْلِي وَ لَا يُمَجِّدُهُ أحَدٌ كَانَ بَعْدِي. إلَى أنْ يَقُولُ: ثُمَّ يُؤْتَى بِنَا فَيَجْلِسُ عَلَى العَرْشِ رَبُّنَا.۱
من الكفر أن تُحمَل بعض الألفاظ في المعارف الإلهيّة على معناها
و ليس من ريب في اشتمال هذه العبارات على قدر كبير من الحقائق. و لكن، أ يمكن الجمود على ظاهر هذه العبارات، و القول -من ثمّ- بأنّ بيت الله يماثل البيوت الدنيويّة أو هو أكبر منها؟ و بأنّ حلقة بابه كحلقات البيوت؟ و بأنّ الله موجود في بيته، و أنّه ينادي: مَن الطارق؟ و بأنّ نظر رسول الله يقع على الله؟ أ فهل الله جسم له صورة؟ و هل يشبه هذا
النظر ما هو معهود عندنا! و هل يجلس الله على عرش سلطانه و حكومته؟ و هل يناظر عرشه هذه العروش؟ و هل يماثل جلوسه جلوس غيره؟
ليس الأمر على هذا النحو، و لا يمكن أن يكون كذلك، لأنّ ذلك يستلزم محدوديّة الله و تعيّنه و تجسيمه؛ وَ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوَّاً كَبِيراً.
ليس الله موجوداً في بيته، و ليس عرشه مثل عروش هذا العالم، بل عالم المشيئة و الإرادة هو عرش الله تعالى، كما أنّ جلوسه هو استيلاؤه و إحاطته. و يحصل نظر رسول الله بالباطن و الملكوت إلى حقيقة ذات ما لا اسم له و لا رسم. أمّا حلقة الباب فكناية عن تمسّك النبيّ بصفة الرحمة و العطف و الغفران، لأنّ للّه أسماءً يُعدّ كلّ منها بمنزلة حلقة، فإن دُعي أحدها، فُتح للداعي من تلك الجهة.
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.۱
و لهذا لم يجد المرحوم المجلسيّ رضوان الله عليه مع شدّة جموده في باب المعارف الإلهيّة، بداً من أن يقول في ذيل هذه الرواية:
«فإذا نظرتُ إلى ربّي» أي إلى عرشه، أو إلى كرامته، أو إلى نور من أنوار عظمته. و الجلوس على العرش كناية عن ظهور الحكم و الأمر من عند العرش و «تكلّم الله» عبارة عن خلق الكلام هناك.٢
و على أيّة حال، فإنّه ينبغي رفع اليد عن الجمود على المعاني الظاهريّة في جميع المعارف، و لا اختصاص في هذا الأمر بذات الله
و أسمائه، و ذلك أوّلًا: لأنّ الألفاظ وُضعت للمعاني الكلّيّة. و ثانياً: لأنّ الرواية الواردة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله: إنا معاشر الأنبياء امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم،۱ تفتح لنا أبواباً من المعارف، لأنّها تحرّرنا -من جهة- من الجمود و من حمل الألفاظ في المعارف الإلهيّة على المعاني المادّيّة و الطبيعيّة. و لا تسمح لنا -من جهة اخرى- بحمل تلك الامور على المعاني الصرفة كلّيّاً. و علينا أن نعدّ تلك الامور معانٍ متصوّرة بما يناسب ذلك العالم.
و الآن و قد اتّضحت هذه المطالب، يتبيّن أنّ الوسيلة هي حقّاً منبر ذو ألف مرقاة، إلّا أنّه منبر ذو درجات يتناسب مع ذلك العالم.
كما أنّ اللواء هو عَلَم ذو سنان و زجّ و قصبة و ذؤابة، إلّا أنّه متناسب كذلك مع ذلك العالم. جعلنا الله بحقّ محمّد و آله الطاهرين من المنضوين تحت ذلك اللواء كي نراه و نتأمّله.
علّة تسليم لواء الحمد إلى رسول الله و أمير المؤمنين عليهما السلام
و هذا اللواء يُسلَّم في الوهلة الاولى بِيَدِ رسولِ الله، و هو لواء الحمد، لأنّ المقام المحمود -كما قلنا- مختصّ به صلّى الله عليه و آله، و هو المقام الذي يبلغه حمد كلّ حامد لكلّ محمود.
و قد ذكرنا سابقاً أنّ العباد المخلَصين دون غيرهم يمكنهم حمد الذات القدسيّة بمقتضى قوله تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.٢
ذلك أنّ حمد باقي الخلائق يقترن بالتسبيح و التنزيه و التقديس، أمّا العباد المخلَصون الذين تخطّوا جميع شوائب الغرور و العُجب و الأنانيّة، و علموا أنّ وجودهم ملك مطلق للحضرة الأحديّة، و الذين أفنوا وجودهم و دكّوه في ذات الله القدسيّة، فلم يعودوا يرون لأنفسهم وجوداً مقابل وجوده عزّ و جلّ، و الذين اكتسبت وجوداتهم سعة وجوده تعالى، فإنّهم هم الذين يحمدونه سبحانه كما يليق بشأنه.
لكنّ درجة المخلَصين هذه التي حازها الأنبياء و كثير من أولياء الله الذين بلغوا درجة الخلوص، تمثّل نهاية السفر الأوّل من الأسفار الأربعة إلى الله تعالى، و هو سفر غايته الله تعالى، كما أنّه ليس سفراً لا متناهياً.
أمّا المقام المحمود فهو مقام آخر أعلى من هذا المقام و أسمى، و هو عبارة عن إكمال الأسفار الأربعة، و إكمال السفر الرابع و هو السفر في الخلق بالحقّ، حيث إنّ السالك يرى آنذاك الله تعالى في كلّ موجود من الموجودات، و يسير في عالم الكثرات بنور الله عزّ و جلّ.
بَيدَ أنّ البقاء بالله ليس على درجة واحدة لدى جميع الأفراد، فالبعض يمتلك هذا البقاء محدوداً في محيط وجوده و ضمن دائرة أفكاره و آرائه و علومه، ثمّ يزداد الأمر لدى الأفراد، حتّى نصل إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله، فنلحظ أنّه كان مع كلّ موجود، أي أنّه كان مع جميع ما سوى الله من عالم المُلك و الملكوت، من العقول و الأرواح و النفوس العلويّة و السفليّة و موجودات عالم الصورة و عالم الطبع، بل كان حقيقة تلك الموجودات أوّلًا و بالذات، ثمّ طرأ الوجود على تلك الموجودات ثانياً و بالعرض. و هذا هو المقام المحمود.
و قد سبق أن نوّهنا بأنّ هذا المقام هو مقام يرجع إليه كلّ حمد من كلّ حامد موجّه إلى كلّ محمود. أي أنّنا لو شممنا وردةً فحمدناها، فإنّ حقيقة
الحمد سترجع إلى رسول الله. أي أنّ حقيقة وجود الورد و جمال الورد و رائحته الزكيّة و طراوته هي بأجمعها رسول الله صلّى الله عليه و آله.
و لو أطرينا بلبلًا أو شمساً أو قمراً، أو امتدحنا جمال العالم المملوء طراوةً و عشقاً و بهجة، و المكتظّ علماً و حياة و قدرة، لعاد جميع مدحنا إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله الذي يجسّد حقيقة تلك الامور.
إنّ وجود النبيّ و نفسه الواسعة من الشمول و الإحاطة بحيث إنّه مع كلّ موجود من الملكوت و الباطن و من الملك و الظاهر، و هذا هو مقام الولاية الكلّيّة الذي نعتقد به في أئمّتنا عليهم السلام.
و لو كنّا في شرق العالم أو غربه؛ في سهوله أو جباله؛ أحراراً أو مكبّلين في أعماق السجون، ثمّ ندبنا الإمام و ناديناه، لأدرك نداءنا و ردّ علينا.
و لا يمكن تصوّر هذا المعنى إلّا إذا كان الإمام مُقارناً لوجودنا، و كان له المعيّة مع وجود جميع الموجودات. فهو آنذاك سيكون معنا و أقربَ إلينا من أنفسنا، لأنّنا حين نشير إلى أنفسنا، فإنّنا سنشير إلى الإمام أوّلًا و بالذات، ثمّ إلى ذواتنا ثانياً و بالعَرَض.
إنّ الإمام مع كلّ قطرة مطر تهطل من السماء، و كلّ ذرّة تلمع في ضوء الشمس، و كلّ مدرة ملقاة على الأرض، و كلّ كوكب و نجم، وصولًا إلى المجموعة الشمسيّة و المجرّات.
و هكذا الأمر بالنسبة إلى سيطرة الإمام و إحاطته النفسيّة بعالم البقاء بالله تعالى، و هذا هو معنى الولاية التكوينيّة. و هو مقام لم يبلغه أي نبيّ من الأنبياء، حتّى شيخ النبيّين: نوح، و حتّى حامل لواء التوحيد: إبراهيم.
و أوّل من حاز هذا المقام، و نال -بإذن الله و نوره- مثل هذه السيطرة على عالم البقاء هو الوجود المقدّس لخاتم الأنبياء و المرسلين محمّد، و يليه
تلميذه الأوحد في نهجه: عليّ بن أبي طالب، الذي اختصّ بلقب إمرة المؤمنين. و لذا، فقد تسلّم لواء الحمد من يد رسول الله. ثمّ تسلسل ذلك المقام العظيم و الولاية الكبرى في سبطي رسول الله: الحسن و الحسين، و في التسعة من ذرّيّة الحسين، الواحد تلو الآخر، انتهاءً بِقَائِم آلِ مُحَمَّدٍ: الحُجَّةِ بْنِ الحَسَنِ العَسْكَرِيّ أرواحنا فداه، حيث ينحصر قطب دائرة الإمكان و محور الولاية التكوينيّة و التشريعيّة في ذاته المقدّسة.
و لو كنتم في منزلكم فقلتم: يا صاحب الزمان! لكان معكم. و لو كنتم في المسجد أو في الصحراء، في الجوّ أو البحر، غافلين أو منتبهين، في حال العبادة أو التجارة، و في كلّ حال، فإنّه معكم حقّاً، ليس بالمعيّة العلميّة فقط، بل بالمعيّة الحقّة الحقيقيّة.
و هذا باب من المعارف الإلهيّة فُتح ببركة رسول الله في آله و امّته، و هو باب لم يسبق فتحه في الامم السالفة التي لم تستطع أن تذهب إلى أبعد ممّا وصل إليه أنبياءهم من الدرجة العلميّة و العرفانيّة. و لم يكن السير في هذا السبيل ميسوراً لُاولئكم الأنبياء، و هو -من باب أولى- غير ميسور على امم أولئكم الأنبياء.
أمّا في امّة خاتم النبيّين فقد فتح سبيل هذا الباب، فاقتحم هؤلاء الأعلام منهل عالم التشريع و البقاء من خلال الخلوص و العبوديّة و المجاهدة، و أشبهت سعتهم الوجوديّة سعة رسول الله، فكانوا مع كلّ موجود من الموجودات.
أمّا الآن، و قد اتّضح هذا المطلب، فقد استبان لنا سبب تسمية ذلك اللواء بلواء الحمد، لأنّ التكبير: اللهُ أكْبَرُ، و التسبيح: سُبْحَانَ اللهِ و التهليل: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، و سائر الأذكار الاخرى تفتقر إلى مثل هذه السعة في عالم البقاء. و يمكن نتيجة لذلك أن يكون الحائز على ذلك المقام غير ممتلك
لمقام الحمد.
و قد علمنا لما ذا صار عليّ بن أبي طالب هو الحامل للواء الحمد، إذ افيض عليه من رسول الله، فأضحى صاحب مقام الولاية الكبرى، ذلك المقام الذي توارثه الأئمّة الواحد عن الآخر.
و قد علمنا أيضاً سبب انضواء الأنبياء تحت لواء الحمد المحمّديّ و العلويّ، و ذلك لعدم بلوغ أي منهم لهذا المقام، فصار أملهم في فيوضات رحمة الحضرة السبحانيّة منحصراً من خلال محمّد و عليّ.
و علمنا سبب تحلّق المؤمنين (من غير الشهداء و الصدّيقين و الصالحين) حول المنبر، لأنّهم لم يتخطّوا الحجب النورانيّة، و لعجزهم عن إفناء أنفسهم في أحد أسماء الحقّ تعالى.
كما تبيّن لنا سبب كتابة بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ و الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ و لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ على لواء الحمد؛ لأنّ لهذا اللواء هيمنة على جميع العوالم، فهو يعطي -باسم رحمانيّة الحقّ و رحيميّته- كلّ موجود احتياجاته الوجوديّة، و يحقّق حمد الله في كلّ موجود ذي حُسن (و كلّ الموجودات ذوات حُسن)، و يُعلن نداء وحدانيّة الله و رسالة نبيّه في جميع العوالم.
كانت هذه جهات مستنبطة من لواء الحمد، و لربّما سيخطر في ذهن القارئ الكريم، إثر التفكّر و التأمّل و التدبّر في المعارف الإلهيّة، مطالبُ اخرى غيرها تجعله يتمتّع بتلك المعارف الإلهيّة؛ رَزَقَنَا اللهُ وَ إيَّاكُمْ بِمُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّاهِرِينَ، وَ لَعْنَة اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعِينَ.
اي ختم پيمبران مرسل | *** | حلواي پَسين و مِلح أوّل۱ |
اي خاك تو توتياي بينش | *** | روشن به تو چشم آفرينش |
أي سَيّد بارگاه كَونَين | *** | نَسّابهء شهر قاب قَوسَيْن |
أي صدر نشين عقل و جان هم | *** | محراب زمين و آسمان هم |
أي ششجهت از تو خيره مانده | *** | بر هفت فلك، جَنبِيَه۱ رانده |
سر خيل توئي و جمله خيلاند | *** | مقصود توئي همه طُفَيلاند |
سلطان سرير كايناتى | *** | شاهنشه كشور حياتي |
أي كُنْيه و نام تو مُؤيّد | *** | بُو القاسم و أحمد و مُحَمّد٢ |
صَلَواتُ اللهِ وَ مَلَائِكَتِهِ وَ حَمَلَةِ عَرْشِهِ وَ جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ أرْضِهِ وَ سَمَائِهِ عَلَى سَيِّدِنَا وَ نِبِيِّنَا أصْلِ الوُجُودِ، وَ عَيْنِ الشَّاهِدِ وَ المَشْهُودِ، أوَّلِ الأوَائِلِ وَ أدَلِّ الدَّلائِلِ، وَ مَبْدَأ الأنْوَارِ الأزَلِيّ، وَ مُنْتَهَى العُرُوجِ الكَمَالِيّ، غَايَةِ الغَايَاتِ، المُتَعَيِّنِ بِالنَّشَئَاتِ، أبِ الأكْوَانِ بِفَاعِلِيَّةٍ، وَ امِّ الإمْكَانِ بِقَابِلِيَّةٍ، المَثَلِ الأعْلَى الإلَهِيّ، هَيُولَى العَوَالِمِ الغَيْرِ المُتَنَاهِي، رُوحِ الأرْوَاحِ وَ نُورِ الأشْبَاحِ، فَالِقِ إصْبَاحِ الغَيْبِ، رَافِعِ ظُلْمَةِ الرَّيْبِ، مَحْتِدِ التِّسْعَةِ وَ التِّسْعِينَ، رَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ، سَيِّدِنَا في الوُجُودِ، صَاحِبِ لِوَاءِ الحَمْدِ وَ المَقَامِ
المَحْمُودِ، المُبْرَقَعِ بِالعَمَاءِ، حَبِيبِ اللهِ مُحَمَّدٍ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ (وَ آلِهِ) وَ سَلَّمَ.
المَجْلِسُ السَّادِسُ وَ السِّتُّونَ: سَاقِي حَوْضِ الكَوْثَرِ؛ وَ أنْهارُ الجَنَّةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
في معنى و تفسير الكوثر
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ.۱
قال الشيخ الطبرسيّ رحمة الله عليه في تفسير هذه الآية:
خاطب سبحانه نبيّه صلّى الله عليه و آله على وجه التعداد لنعمه عليه فقال:
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ.
اختلفوا في تفسيره، فقيل هو نهر في الجنّة؛ عن عائشة و (عبد الله) ابن عمر.
قال ابن عبّاس: لمّا نزلت (إنّا أعطينك الكوثر)، صعد رسول الله صلّى الله عليه و آله المنبر فقرأها على الناس، فلمّا نزل، قالوا: يا رسول الله! ما هذا الذي أعطاك الله؟
قال: نهر في الجنّة أشدّ بياضاً من اللبن، و أشدّ استقامة من القدح، حافتاه قباب الدرّ و الياقوت، ترده طيور خضر لها أعناق كأعناق البخت.
قالوا: يا رسول الله! ما أنعم تلك الطير.
قال: أ فلا اخبركم بأنعم منها؟
قالوا: بلى.
قال: من أكل الطائر و شرب الماء و فاز برضوان الله.
و روى عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام أنّه قال: نهر في الجنّة أعطاه الله نبيّه صلّى الله عليه و آله عوضاً من ابنه.
و قيل: هو حوض النبيّ صلّى الله عليه و آله الذي يكثر الناس عليه يوم القيامة؛ عن عطاء.
و قال أنس: بينا رسول الله صلّى الله عليه و آله ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة، ثمّ رفع رأسه مُبتسماً، فقلتُ: ما أضحكك يا رسول الله؟
قال: انزلت عَلَيّ آنفاً سورة، فقرأ سورة الكوثر؛ ثمّ قال: أ تدرون ما الكوثر؟
قلنا: الله و رسوله أعلم.
قال: فإنّه نهر و عدنيه عليه ربّي خيراً كثيراً، هو حوضي ترد عليه امّتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء، فيختلج القرن منهم، فأقول: يا ربّ! إنّهم من امّتي! فيُقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك؛ أورده مسلم في الصحيح.
و قيل: الكوثر الخير الكثير؛ عن ابن عبّاس و ابن جبير و مجاهد.
و قيل: هو النبوّة و الكتاب؛ عن عكرمة.
و قيل: هو القرآن؛ عن الحسن.
و قيل: هو كثرة الأصحاب و الأشياع؛ عن أبي بكر بن عيّاش.
و قيل: هو كثرة النسل و الذرّيّة، و قد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة عليه السلام بحيث لا يُحصى عددهم، و اتّصل إلى يوم القيامة مددهم.
و قيل: هو الشفاعة؛ رووه عن الصادق عليه السلام.
و اللفظ يحتمل للكلّ، فيجب أن يُحمل على جميع ما ذُكر من الأقوال، فقد أعطاه الله سبحانه و تعالى الخير الكثير في الدنيا، و وعده الخير الكثير في الآخرة، و جميع هذه الأقوال تفصيل للجملة التي هي الخير الكثير في الدارين.۱
و روى الشيخ المفيد في «المجالس» و محمّد بن أبي القاسم الطبريّ الشيعيّ في «بشارة المصطفي» و الشيخ الطوسيّ في «الأمالي» عن المفيد، عن ابن قولويه، عن الحسين بن أحمد بن عامر، عن المعلّى بن محمّد، عن محمّد بن جمهور العميّ، عن ابن محبوب، عن أبي محمّد الوابشيّ، عن أبي الورد، قال: سمعتُ أبا جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام يقول:
إذا كان يوم القيامة، جمع الله الناس في صعيد واحد من الأوّلين و الآخرين عراة حفاة، فيقفون على طريق المحشر حتّى يعرقوا عرقاً شديداً و تشتدّ أنفاسهم، فيمكثون بذلك ما شاء الله، و ذلك قوله: فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً.٢
قال: ثمّ يُنادي منادٍ من تلقاء العرش: أين النبيّ الامّيّ؟
قال: فيقول الناس: قد أسمعتَ فسمِّ باسمه!
فينادي: أين نبيّ الرحمة محمّد بن عبد الله؟
قال: فيقوم رسول الله صلّى الله عليه و آله فيتقدّم أمام الناس كلّهم، حتّى ينتهي إلى حوضٍ طوله ما بين أيْلَة و صَنْعَاء، فيقف عليه؛ ثمّ يُنادى بصاحبكم، فيقوم أمام الناس فيقف معه؛ ثمّ يؤذن للناس فيمرّون.
قال أبو جعفر عليه السلام: فبين واردٍ يومئذٍ و بين مصروف، فإذا رأى رسول الله صلّى الله عليه و اله مَن يُصرف عنه من محبّينا بكى و قال: يا ربِّ شيعةُ عليّ!
قال: فيبعث إليه مَلَكاً، فيقول له:
يا محمّد! ما يُبكيك؟
فيقول صلّى الله عليه و آله: و كيف لا أبكى و اناس من شيعة عليّ بن أبي طالب أراهم قد صُرفوا تلقاء أصحاب النار و مُنعوا من ورود حوضي.
قال: فيقول الله عزّ و جلّ له: يا محمّد! قد وهبتُهم لك، و صفحتُ لك عن ذنوبهم، و ألحقتهم بك و من كانوا يتولّونه من ذرّيّتك، و جعلتُهم في زُمرتك، و أوردتُهم حوضك، و قبلتُ شفاعتك فيهم، و أكرمتُهم بذلك.
ثمّ قال أبو جعفر عليه السلام: فكم مِن باكٍ يومئذٍ و باكية ينادون يَا مُحَمَّدَاهُ! إذا رأوا ذلك، فلا يبقى أحد يومئذٍ كان يتولّانا و يحبّنا إلّا كان من حزبنا و معنا و ورد حوضنا.۱
و رواه بمضمونه عليّ بن إبراهيم في تفسيره، في ذيل الآية الكريمة: وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً؛ عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن ابن محبوب، عن الوابشيّ، عن أبي الورد.٢
و روى المفيد في «المجالس» عن عليّ بن هلال (بلال - خ ل) المهلبيّ، عن أحمد بن الحسين البغداديّ، عن محمّد بن إسماعيل، عن محمّد بن الصلت، عن أبي كُدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جُبير، عن عبد الله بن
عبّاس؛ و روى الشيخ الطوسيّ في «الأمالي» عن الشيخ المفيد؛ و روى صاحب كتاب «بشارة المصطفي» عن الشيخ على بن الشيخ الطوسيّ، عن أبيه، عن الشيخ المفيد، عن محمّد بن إسماعيل بنفس سلسلة السند إلى ابن عبّاس، قال:
اختصاص حوض الكوثر بعليّ بن أبي طالب عليه السلام
لمّا نزلت على رسول الله صلّى الله عليه و آله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ؛ قال له عليّ بن أبي طالب: ما هو الكوثر، يا رسول الله؟
قال: نهر أكرمني الله به.
قال عليّ عليه السلام: إنّ هذا لنهر شريف، فانعته لنا يا رسول الله.
قال: نعم يا عليّ؛ الكوثر نهر يجري تحت عرش الله تعالى، ماؤه أشدّ بياضاً من اللبن، و أحلى من العسل، و ألين من الزبد، حَصاه الزبرجد و الياقوت و المرجان، حشيشه الزعفران، ترابه المسك الأذفر، قواعده تحت عرش الله عزّ و جلّ، ثمّ ضرب رسول الله صلّى الله عليه و آله يده على جنب أمير المؤمنين عليه السلام، و قال: يا عليّ! إنّ هذا النهر لي و لك و لمحبيك من بعدي.۱
و روى المرحوم الصدوق في «عيون أخبار الرضا» و «الأمالي» عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن هاشم، عن عليّ بن معبد، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن (الرضا) عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِحَوْضِي فَلَا أوْرَدَهُ اللهُ حَوْضِي- (الخبر).٢
و روى المرحوم الصدوق في «الأمالي» عن حمزة بن محمّد العلويّ، عن عليّ، عن أبيه، عن على بن معبد، عن الحسين بن خالد، عن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله:
يَا عَلِيّ! أنْتَ أخِي وَ وَزِيرِي وَ صَاحِبُ لِوَائِي في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ! وَ أنْتَ صَاحِبُ حَوْضِي! مَنْ أحَبَّكَ أحَبَّنِي، وَ مَنْ أبْغَضَكَ أبْغَضَنِي!۱
كما روى الصدوق في «الأمالي» عن ماجيلويه، عن عمّه، عن محمّد ابن عليّ القرشيّ، عن محمّد بن سنان، عن المفضّل، عن أبي عبد الله (الصادق)، عن آبائه عليهم السلام، قال:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (في حديث طويل) مَنْ أرَادَ أنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ اليَوْمِ (أي يوم القيامة) فَلْيَتَولَّ وَلِيِّي، وَ لَيَتَّبِعْ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي عَلِيّ بْنَ أبي طَالِبٍ، فَإنَّهُ صَاحِبُ حَوْضِي، يَذُودُ عَنْهُ أعْدَاءَهُ، وَ يَسْقِي أوْلِيَاءَهُ، فَمَنْ لَمْ يُسْقَ مِنْهُ لَمْ يَزَلْ عَطْشَاناً وَ لَمْ يَرْوَ أبَداً؛ وَ مَنْ سُقِيَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَشْقَ وَ لَمْ يَظْمَأ أبَداً.٢
ورود الثقلين على رسول الله عند حوض الكوثر
و جاء في مقدّمة «تفسير عليّ بن إبراهيم»:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ في حِجَّةِ الوَدَاعِ في مَسْجِدِ الخَيْفِ: إنِّي فَرَطُكُمْ وَ إنَّكُمْ وَارِدُونَ عَلَيّ الحَوْضِ، عَرْضُهُ مَا بَيْنَ بُصْرَى
وَ صَنْعَاءَ، فِيهِ قِدْحَانٌ مِنْ فِضَّةٍ عَدَدَ النُّجُومِ. ألَا وَ إنِّي سَائِلُكُمْ عَنِ الثَّقَلَيْنِ!
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَ مَا الثَّقَلَانِ؟
قَالَ: كِتَابُ اللهِ: الثَّقَلُ الأكْبَرُ؛ طَرَفٌ بِيَدِ اللهِ، وَ طَرَفٌ بَأيْدِيكُمْ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ لَنْ تَضِلُّوا وَ لَنْ تَزِلُّوا! وَ الثَّقَلُ الأصْغَرُ عِتْرَتِي وَ أهْلُ بَيْتِي؛ فَإنَّهُ قَدْ نَبَأنِيَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ أنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ كَإصْبَعَيّ هَاتِيْنِ -وَ جَمَعَ بَيْنَ سَبَّابَتَيْهِ- وَ لَا أقُولُ كَهَاتَيْنِ -وَ جَمَعَ بَيْنَ سَبَّابَتِهِ وَ الوُسْطَى- فَتَفْضُلُ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ.۱
و أورد الصدوق في «الخصال» في حديث الأربعمائة:٢
قَالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
أنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ مَعِي عِتْرَتِي عَلَى الحَوْضِ؛ فَمَنْ أرَادَنَا فَلْيَأخُذْ بِقَوْلِنَا وَ لْيَعْمَلْ بِعَمَلِنَا، فَإنَّ لِكُلِّ أهْلِ بَيْتِ نَجِيباً، وَ لَنَا شَفَاعَةٌ وَ لأهْلِ مَوَدَّتِنَا شَفَاعَةٌ، فَتَنَافَسُوا في لِقَائِنَا عَلَى الحَوْضِ، فَإنَّا نَذُوذُ عَنْهُ أعْدَاءَنَا، وَ نَسْقِي مِنْهُ أحَبَّاءَنَا وَ أوْلِيَاءَنَا؛ وَ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأ بَعْدَهَا أبْداً. حَوْضُنَا مُتْرَعٌ فِيهِ شِعْبَان يَنْصَبَّانِ مِنَ الجَنَّةِ: أحَدُهُمَا مِنْ تَسْنِيمٍ، وَ الآخَرُ مِنْ مَعِينٍ؛ عَلَى حَافَّتَيْهِ الزَّعْفَرَانُ، وَ حَصَاهُ اللُّؤْلُؤْ
وَ اليَاقُوتُ، وَ هُوَ الكَوْثَرُ- (الخبر).۱
و روى الطوسيّ في «الأمالي» بسنده المتّصل عن أبي سعيد الخدريّ، قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول على المنبر: ما بال أقوام يقولون إنَّ رَحِمَ رَسولِ الله لا تشفع (لا تنفع- خ ل) يوم القيامة؟
بلى و الله؛ إنّ رحمي لموصلة في الدنيا و الآخرة، و إنّي أيّها الناس فرطكم يوم القيامة على الحوض، فإذا جئتم قال الرجل: يا رسول الله! أنا فلان بن فلان. فأقول: أمّا النسب فقد عرفته، لكنّكم أخذتم بعدي ذات الشمال و ارتددتُم على أعقابكم القهقرى.٢
لقاء الشيعة بأهل البيت عند حوض الكوثر
و روى المفيد في «الأمالي» و الطوسيّ في «الأماليّ» بسنده المتّصل عن عبد الرحمن بن قيس الرحبيّ، قال: كنتُ جالساً مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام على باب القصر، حتّى ألجأته الشمس إلى حائط القصر، فوثب ليدخل، فقام رجل من هَمْدان فتعلّق بثوبه و قال: يا أمير المؤمنين، حدِّثني حديثاً جامعاً ينفعني اللهُ به.
قال: أو لم يكن في حديث كثير؟
قلا: بلى، و لكن حدّثني حديثاً ينفعني الله به.
قال: حدّثني خليلي رسول الله صلّى الله عليه و آله:
إنِّي أرِدُ أنَا وَ شِيعَتِي الحَوْضَ رُوَاءً مَرْوِيِّينَ مُبْيَضَّةً وُجُوهُهُمْ؛ وَ يَرِدُ عَدُوُّنَا ظِمَاءً مُظَمَّئِينَ مُسْوَدَّةً وُجُوهُهُمْ؛ خُذْهَا إلَيْكَ قَصِيرَةً مِنْ طَوِيلَةٍ؛٣ أنْتَ مَعَ مَنْ أحْبَبْتَ، وَ لَكَ مَا اكْتَسَبْتَ. أرْسِلْنِي يَا أخَا هَمْدَانَ؛ ثُمَّ دَخَلَ
القَصْرَ.۱
و روى ابن شهرآشوب، عن الحافظ أبي نعيم الأصبهانيّ، بسنده عن عطيّة، عن أنس، قال: دخلتُ على رسول الله، فقال: قد اعطيتُ الكوثر.
فقلتُ: يا رسول الله! و ما الكوثر؟
قال: نهر في الجنّة، عرضه و طوله ما بين المشرق و المغرب، لا يشرب أحد منه فيظمأ، و لا يتوضّأ أحد منه فيشعث، لا يشربه إنسان أخْفَرَ٢ ذمّتي و لا قَتَلَ أهل بيتي.٣
و عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله:
يَذُودُ عَلِيّ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ لَيْسَ مِنْ شِيعَتِهِ؛ وَ مَن شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأ أبَداً.٤
و عن طارق، قال: قَالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
وَ الذي فَلَقَ الحَبَّةَ وَ بَرَأ النَّسَمَةَ، لأقْمَعَنَّ بِيَدَيّ هَاتِينَ مِنْ الحَوْضِ أعْدَاءَنَا إذَا وَرَدَتْهُ أحِبَّاؤُنَا.٥
و روى أحمد بن حنبل في «الفضائل» نحواً منه عن أبي حَرْبِ بْنِ أبي الأسْوَدِ الدُّؤَلِيّ.٦
و في أخبار أبي رافع من خمسة طرق؛ قال النبيّ:
يَا عَلِيُّ! تَرِدُ عَلَيّ الحَوْضِ وَ شِيعَتُكَ رِوَاءً مَرْوِيِّينَ، وَ يَرِدُ عَلَيْكَ عَدُوُّكَ ظِمَاءً مُقْمَحِينَ.۷
و جاء في تفسير قوله تعالى: وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً۱ يعني: سيِّدُهُم عليّ بن أبي طالب؛ و الدليل على أنّ الربّ بمعنى السيّد قوله تعالى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ.٢
و في «الفائق» للزمخشريّ، أنّ النبيّ صلّى الله عليه (و آله) و سلّم قال لعليّ:
أنْتَ الذَّائِدُ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ القِيَامَةِ؛ تَذُودُ عَنْهُ الرِّجَالَ كَمَا يُذَادُ البَعِيرُ الصَّادِي، أي الذي بِهِ الصَّيَدُ، و الصَّيَدُ دَاءٌ يَلْوِي عُنُقَهُ.٣
و الصَّيَد: داء يصيب الإبل في رؤوسها، فلا تقدر أن تلوي معه أعناقها، و هو من الأمراض المسرية، لذا يحرص رعاة الإبل المبتلاة بالصيد على ذودها عن المنهل.
و قال الصدوق في كتابه «العقائد» في الحوض:
اعتقادنا في الحوض أنّه حقّ و أنّ عرضه ما بين أيلة و صنعاء، و هو للنبيّ صلّى الله عليه و آله، و أنّ فيها من الأباريق عدد نجوم السماء، و أنّ الساقي عليه يوم القيامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهما السلام، يسقي منه أولياءه، و يذود عنه أعداءه، و مَن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً.
و قال النبيّ صلّى الله عليه و آله:
لَيُخْتَلَجَنَّ قَوْمٌ مِنْ أصْحَابِي دُونِي وَ أنَا عَلَى الحَوْضِ، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ
ذَاتَ الشِّمَالَ، فَانَادِي: يَا رَبِّ أصْحَابِي، أصْحَابِي! فَيُقَالُ: إنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أحْدَثُوا بَعْدَكَ.۱
أجل، فالروايات الواردة، عن طريقي الشيعة و العامّة، كثيرة في اختصاص حوض الكوثر بأمير المؤمنين عليه السلام، و تفيد بأجمعها على أنّ شيعة أمير المؤمنين و محبّيه يشربون من حوض الكوثر، و أنّ المنافقين و أعداء أهل البيت يُذادون عنه، و أنّ من شرب من حوض الكوثر ارتوى و لم يظمأ أبداً، و من ارتمس فيه طَهُر و ابيضّ وجهه و اكتسب قلبه جلاءً و صفاءً، لأنّ جنس ذلك الماء طاهر مطهّر. أمّا من يُذاد عنه فإنّ وجهه يسودّ، و بدنه سيكون مدنّساً تخرج منه الروائح الكريهة العفنة، و سيبقى كبده ظمآناً لاهباً.
و إجمالًا، فإنّ الواردين على حوض الكوثر هم المرتبطون بالولاية، كما أنّ المذودين عنه هم غير المرتبطين بتلك الولاية.
و نرى الآن حقيقة ذلك الحوض و ماهيّة ذلك الماء اللتين يُترقّب من خلالهما هذه الآثار و الخواصّ، و يُشاهد فيهما هذه الامور الخاصّة.
حقيقة الكوثر هي العلم المقترن بالعمل
لقد علمنا في الأبحاث السابقة أنّ الآخرة تمثّل ظهوراً لعالم الدنيا، بحيث تتجلّى في صورها الملكوتيّة و الحقيقيّة. و أنّ الماء هو العلّة في حياة كلّ حيّ، لقوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.٢
كما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه و آله: أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ المَاءُ.٣
و لو ضممنا هذه الرواية مع غيرها من الروايات، مثل: أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ العَقْلُ. و أوَّلُ مَا خَلَق اللهُ نُورُ نَبِيِّكَ يَا جَابِرُ. لاتضح أنّ المراد من الماء في الرواية الاولى هو مادّة الحياة المتمثّلة في العقل و العلم.
معاني العيون و الأنهار الجارية في الجنّة
و على هذا الأساس فقد ورد في مواضع كثيرة من القرآن الكريم أنّ الله تعالى يُدخل الذين آمنوا و عملوا الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ؛۱ ذلك أنّ المؤمنين قد اكتسبوا العلوم و المعارف الإلهيّة من خلال الإيمان المتلازم مع العمل الصالح، لذا فإنّ في ذلك العالم أنهاراً جارية دائمة في الجنّة، و هذه الأنهار هي العلوم و المعارف المتدفّقة باستمرار في نفوسهم. فقلب المؤمن هو محلّ تفيض منه على الدوام الرشحات العلميّة و العرفانيّة، و هو منبع جريان العلوم و الإلهامات الربّانيّة.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ.٢
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ.٣
كلّ ما في الأمر أنّ تلك العلوم و المعارف الإلهيّة قد تكون صافية
لا تشوبها شائبة من الآراء و الأفكار الشخصيّة، فتتجلّى في عالم الملكوت في هيئة ماء صاف زلال رقراق أشبه بالدموع المنهمرة.
و لأنّ المقرّبين من ساحة الله تعالى يستخرجون العلوم و المعارف من ينابيعها، من خلال التفكّر و الذكر و العبادة و العبوديّة و التسليم و الرضا و التفويض، و بواسطة السهر و القيام في الليل الحالك البهيم، و الصيام و المجاهدة في النهار القائظ اللاهب، فحالهم أشبه بالعيون التي تفجّرها أيدي الباحثين الهاوية بالفؤوس و المطارق، و ذلك من خلال البحوث العقليّة النظريّة و العلميّة التي تستخرج تلك المعارف من زوايا الخفاء، و تكشف عنها حُجب الآمال و الأماني. و هي كما وُصفت بأنّها:
عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً.۱
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ.٢
و قد أوردنا في الجزء الأوّل من «معرفة المعاد» المجلس العاشر، أنّ الأنهار الأربعة الجارية في الجنّة: من لبنٍ لم يتغيّر طعمه، و من ماءً غير آسن، و من عسلٍ مصفّى، و من خمر و شراب لذّة للشاربين، هي عبارة عن التجلّيات و الظهور الملكوتي للعلوم التي يحصل عليها المبتدءون في السير و السلوك، و الضعفاء في الطريق إلى الله، لأنّ اللبن هو طعام الطفل، فتكون تلك العلوم من العلوم الخالصة، و المعرفة بالله التي لا تشوبها شائبة، لأن حياة القلب بالعلم و المعرفة.
و عدم تغيّر الطعم عائد إلى عدم تلوّث تلك العلوم بالأفكار و الآراء النفسانيّة و الشيطانيّة، و بواردات عالم القدس و البوارق النورانيّة و اللذائذ
التي تحصل للسالكين المتوسّطين خلال الأحوال المختلفة، فتثير فيهم الوجد و الالتفات.
أمّا تصفية العسل فعبارة عن عدم تكدر تلك العلوم بالموادّ الشمعيّة التي قد تحصل من تسويلات النفس. ثمّ إنّ السالك يتعرّض لتجلّيات الجمال و عشق الذات، فينسى نفسه و يمّحي في أنوار الله تعالى.
و لمّا كان تجلّي الجلال يطهّر السالك من جميع التعلّقات الدنيويّة من التعيّن و المال و حبّ الجاه و الوجود، فقد دُعي لذلك بالشراب الطهور، وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً؛۱ لأنّ الطهور لا يعني الطاهر فحسب، بل هو أيضاً بمعنى المطهّر. و هذه العلوم و المعارف الجلاليّة تحرق السالك و تُفنيه أمام عظمة الحقّ و قهّاريّته و كبريائه.
و قد عبّر حافظ الشيرازيّ عنه بالشراب المرّ، في قوله:
شراب تلخ مىخواهم كه مرد افكن بود زورش
كه تا يكدم بياسايم ز دنيا و شر و شورش٢ و هذه الجذبات الجلاليّة الثمينة هي التي تحقّق ثمرة قضاء العمر في السلوك، ألا و هي نيل مقام الفناء في الله تعالى، حيث ورد: جَذْبَةٌ مِنْ جَذَبَاتِ الحَقِّ تُوَازِي عِبَادَةَ الثَّقَلَيْنِ.٣
اين چنين سيرى است مستثنى ز جنس | *** | كان فزود از اجتهاد جن و انس |
اين چنين جذبى است نى هر جذب عام | *** | كه نهادش فضل احمد و السلام |
و إذا اقترنت هذه العلوم و المعارف بحرارة الطلب، و بقي العشق حيّاً لدى السالك، فإنّ قدراً من الزنجبيل (و هو مادّة تثير الحرارة) سيضاف إلى تلك العلوم. وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا.۱
و حين يشاء الله تعالى منحهم قدراً من السكينة من خلال تجلّيات الجمال، فإنّه يصبّ في كأسهم قدراً من عين الكافور، و هو مادّة باردة. إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً.٢
و في المقابل، فلو اقترن إدراك العلوم بالإنكار و الجحود و الاستكبار، فإنّ تلك العلوم ستستحيل في هيئة ماء حميم يصبّ في الأفواه، لا يؤدّي إلّا إلى إلهاب العطش و إزدياد حرقة الظمأ:
تَصْلى ناراً حامِيَةً ، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ.٣
أمّا الأبرار، فيُسقون من عين التسنيم التي تُمزج بالرحيق المختوم،٤
و هي عين تنبع من الأعراف؛ و الأعراف -كما سيأتي لاحقاً- حجاب بين الجنّة و النار يقف عليه الأئمّة الطاهرون الحاكمون على الجنّة و النار.
و تجري عين التسنيم تحت أقدام أمير المؤمنين عليه السلام، و تصبّ في حوض الكوثر. أمّا ماء الكوثر، فهو مزيج من عين التسنيم و عين المعين، و هو ماء مُحيي نافع لتطهير قلوب المذنبين.
و بينما يجسّد الماء المعين العلوم و المعارف الإلهيّة، فإنّ ماء التسنيم يمثّل الولاية و المحبّة، و حين يُمزجان ينتج منها مزاج من العلوم الإلهيّة مقترن بالولاية (التي هي حقيقة التوحيد). و ذلك المزاج هو الذي يُطفئ ظمأ الأكباد الحرّى، فمن شرب منه ارتوى فلم يظمأ أبداً، و من لم يشرب منه لم يروه أي شراب غيره.
أجل، لقد كان عليّ باب علم النبيّ: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا.۱
و كان على صاحب ولاية رسول الله، إذ قال له: أنْتَ وَلِيّ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ مِنْ بَعْدِي.٢
فمن اقترب من مقام الولاية، و نهل من علم أمير المؤمنين و ولايته،
شرب من حوض الكوثر.
و عليّ عليه السلام هو معدن العلم، و المتجسّد بالحقّ و الحقيقة، و هو منبع الولاية و العبوديّة المحضة. فمن عاداه و لم يعظّم مقامه، و لم يفِ بعهده و ميثاقه، شطّ عن الحقّ و ابتعد، و جاء عطشاناً يلتهب كبده ظماً، لا سبيل له للدنوّ من الحوض، لأنّ ماء الكوثر محرّم على الكافرين و المعاندين.
وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ.۱
إنّ عالم الآخرة هو عالم ظهور الحقيقة، فمن لم يتّخذ لنفسه سبيلًا في الدنيا من خلال الإيمان و العمل الصالح و طاعة الأئمّة الأطهار عليهم السلام و تولّيهم، سوف يُحرم من الدنوّ من منهل ماء الحياة المعنويّة و من شُحنة الولاية الدافعة. و بينما يسودّ وجهه و هو يتلظّى عطشاً، يأتي أصحاب الولاية و المحبّون رواءً بوجوه مبيضّة مُشرقة. و من هنا فإنّ حَوْضَ الكَوْثَرِ هُوَ مَقَامُ ظُهُورِ الوَلَايَةِ وَ تَجَلِّيهَا.
كان هذا مجملًا لما يمكن بيانه عن الكوثر و ساقيه مولى الموالي عليه السلام، أمّا حقائقه فلا يتّسع لها لفظ و عبارة، و لا ترقى إليها الأفكار، و لا تتجسّد في هيئة معيّنة.
أمّا أنّ ذلك الحوض يمتدّ ما بين أيلة و صنعاء، و أنّ الأقداح على ضفتيه بعدد نجوم السماء، و أنّ حصباءه من الياقوت، و نباته من الزعفران، و أنّ السرادقات على جانبيه من الزبرجد و الياقوت و الدرّ، و سائر خصوصيّات الحوض، فهي امور صحيحة بأجمعها و محفوظة في مواضعها
في عالم الملكوت، إلّا أنّها بأجمعها تمثّل ظهور تلك الحقيقة لمقام العلم و الولاية؛ رَزَقَنَا اللهُ وَ إيَّاكُمْ أنْ نَرْوَى مِنَ الحَوْضِ رِوَاءً مَرْوِيِّينَ بِمُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبِينَ.
كلّ ما في الأمر أنّ علينا السعي لزيادة سعتنا و استفادتنا من ذلك الحوض من خلال تقوية ارتباطنا.
رؤيا الإمام الرضا عليه السلام في شأن حوض الكوثر
و من المناسب أن نورد هنا رؤيا للإمام الرضا عليه السلام رُويت عنه، من أجل أن تتّضح أهمّيّة حوض الكوثر و قيمة مقام الولاية و التمسّك بالولاية، و قيمة القصيدة الغرّاء لشاعر أهل البيت السيّد إسماعيل الحِمْيريّ.
يقول العلّامة المجلسيّ في «بحار الأنوار»:۱
وجدتُ في بعض تأليفات أصحابنا أنّه روي بإسناده عن سهل بن ذبيان، قال: دخلتُ على الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في بعض الأيّام، قبل أن يدخل عليه أحد من الناس؛ فقال لي: مرحباً بك يا بن ذبيان، الساعة أراد رسولنا أن يأتيك لتحضر عندنا.
فقلت: لما ذا يا بن رسول الله؟
فقال: لمنامٍ رأيتُه البارحة و قد أزعجني و أرّقني.
فقلتُ: خيراً يكون إن شاء الله تعالى.
فقال: يا بن ذبيان! رأيتُ كأنّي قد نُصب لي سُلّم فيه مائة مرقاة، فصعدتُ إلى أعلاه.
فقلتُ: يا مولاي! أهنيّك بطول العمر، و ربّما تعيش مائة سنة، لكلّ
مرقاة سنة.
فقال لي عليه السلام: ما شاء اللهُ كان.
ثمّ قال: يا بن ذبيان! فلمّا صعدتُ إلى أعلى السلّم رأيتُ كأنّي دخلتُ في قُبّة خضراء يُرى ظاهرها من باطنها، و رأيتُ جدّي رسول الله صلّى الله عليه و آله جالساً فيها، و إلى يمينه و شماله غلامان حسنان، يُشرق النور من وجهيهما، و رأيتُ امرأة بهيّة الخلقة، و رأيتُ بين يديه شخصاً بهيّ الخلقة جالساً عنده، و رأيتُ رجلًا واقفاً بين يديه و هو يقرأ هذه القصيدة «لُامِّ عَمْروٍ بِاللِّوَى مَرْبَعُ» فلمّا رآني النبيّ صلّى الله عليه و آله قال لي: مرحباً بك يا ولدي يا عليّ بن موسى الرضا، سَلِّمْ على أبيك عليّ! فسلّمتُ عليه. ثمّ قال لي: سلّم على امّك فاطمة الزهراء! فسلّمت عليها. فقال لي: و سلّم على أبويك۱ الحسن و الحسين! فسلّمتُ عليهما، ثمّ قال لي: و سلّم على شاعرنا و مادحنا في دار دنيا السيّد إسماعيل الحِميريّ! فسلّمتُ عليه و جلستُ. فالتفت النبيّ إلى السيّد إسماعيل، فقال له: عُد إلى ما كنّا فيه من إنشاد القصيدة، فأنشد يقول:
لُامِّ عَمْروٍ بِاللِّوَى مَرْبَعُ | *** | طَامِسَةٌ أعْلَامُهُ بَلْقَعُ |
فبكى النبيّ صلّى الله عليه و آله؛ فلمّا بلغ إلى قوله:
*** | وَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ إذْ تَطْلَعُ |
بكى النبيّ صلّى الله عليه و آله و فاطمة عليها السلام معه و مَن معه.
و لمّا بلغ إلى قوله:
قَالُوا لَهُ لَوْ شِئْتَ أعْلَمْتَنَا | *** | إلَى مَنِ الغَايَةُ وَ المَفْزَعُ |
رفع النبيّ صلّى الله عليه و آله يديه، و قال:
إلهي! أنت الشاهد عَلَيّ و عليهم أنّي أعلمتُهم و المفزع عَلِيّ بن أبي طالب، و أشار بيده إليه، و هو جالس بين يديه صلوات الله عليه.
قال عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: فلمّا فرغ السيّد إسماعيل الحِميريّ من إنشاد القصيدة، التفتَ النبيّ صلّى الله و آله إليّ و قال لي:
يا عليّ بن موسى! احفظ هذه القصيدة، و مُرْ شيعتنا بحفظها، و أعلمهم أنّ من حفظها و أدمن قراءتها ضمنتُ له الجنّة على الله تعالى.
قصيدة السيّد الحِميريّ في الولاية و خصائص الكوثر
قال الرضا عليه السلام: و لم يزل يكرّرها عَلَيّ حتّى حفظتها منه، و القصيدة هذه:
لُامِّ عَمْروٍ۱ بِاللِّوَى٢ مَرْبَعُ٣ | *** | طَامِسَةٌ٤ أعْلَامُهُ بَلْقَعُ٥ |
تَرُوحُ عَنْهُ الطَّيْرُ وَحْشِيَّةً | *** | وَ الاسْدُ مِنْ خِيفَتِهِ تَفْزَعُ |
بِرَسْمِ٦ دَارٍ مَا بِهَا مُؤْنِسٌ | *** | إلَّا صِلَالٌ۷ في الثَّرَى وُقَّعُ |
رُقْشٌ۱ يَخَافُ المَوْتُ مِنْ نَفْثِهَا٢ | *** | وَ السَّمُّ في أنْيَابِهَا مُنْقَعُ |
لَمَّا وَقَفْنَ العِيْسُ٣ في رَسْمِهِ | *** | وَ العَيْنُ مِنْ عِرْفَانِهِ تَدْمَعُ |
ذَكَرْتُ مَا قَدْ كُنْتُ ألْهُو بِهِ | *** | فَبِتُّ وَ القَلْبُ شَجٍ٤ مُوجَعُ |
كَأنَّ بِالنَّارِ لِمَا شَفَّنِي٥ | *** | مِنْ حُبِّ أرْوَى٦ كَبِدِي تَلْذَعُ۷ |
عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ أتَوْا أحْمَداً | *** | بِخُطَّةٍ لَيْسَ لَهَا مَوْضِعُ |
قَالُوا لَهُ لَوْ شِئْتَ أعْلَمْتَنَا | *** | إلَى مَنِ الغَايَةُ وَ المَفْزَعُ |
إذَا تُوِفِّيتَ وَ فَارَقْتَنَا | *** | وَ فِيهِمُ في المُلْكِ مَنْ يَطْمَعُ |
فَقَالَ لَوْ أعْلَمْتُكُمْ مَفْزَعاً | *** | مَا ذَا عَسَيْتُمْ فِيهِ أنْ تَصْنَعُوا |
صَنِيعَ أهْلِ العِجْلِ إذْ فَارَقُوا | *** | هَارُونَ فَالتَّرْكُ لَهُ أوْدَعُ۸ |
و في الذي قَالَ بَيَانٌ لِمَنْ | *** | كَانَ إذَا يَعْقِلُ أوْ يَسْمَعُ |
ثُمَّ أتَتْهُ بَعْدَ ذَا عَزْمَةٌ٩ | *** | مِنْ رَبِّهِ لَيْسَ لَهَا مَدْفَعُ |
أبْلِغْ وَ إلَّا لَمْ تَكُنْ مُبْلِغاً | *** | وَ اللهُ مِنْهُمْ عَاصِمٌ يَمْنَعُ |
فَعِنْدَهَا قَامَ النَّبِيّ الذي | *** | كَانَ بِمَا يَأمُرُهُ يَصْدَعُ۱۰ |
يَخْطُبُ مَأمُوراً وَ في كَفِّهِ | *** | كَفُّ عَلِيّ نُورُهَا يَلْمَعُ |
رَافِعُهَا أكْرِمْ بِكَفِّ الذي | *** | يَرْفَعُ وَ الكَفِّ الذي يُرْفَعُ |
يَقُولُ وَ الأمْلَاكُ مِنْ حَوْلِهِ | *** | وَ اللهُ فِيهِمْ شَاهِدٌ يَسْمَعُ |
مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا لَهُ | *** | مَوْلَى فَلَمْ يَرْضَوْا وَ لَمْ يَقْنَعُوا |
فَاتَّهَمُوهُ وَ حَتَتْ۱ مِنْهُمُ | *** | عَلَى خِلَافِ الصَّادِقِ الأضْلُعُ |
وَ ضَلَّ قَوْمٌ غَاظَهُمْ فِعْلُهُ | *** | كَأنَّمَا آنَافُهُمْ تُجْدَعُ٢ |
حَتَّى إذَا وَارَوْهُ في قَبْرِهِ وَ | *** | انْصَرَفُوا عَنْ دَفْنِهِ ضَيَّعُوا |
مَا قَالَ بِالأمْسِ وَ أوْصَى بِهِ | *** | وَ اشْتَرَوا الضُّرَّ بِمَا يَنْفَعُ |
وَ قَطَّعُوا أرْحَامَهُ بَعْدَهُ | *** | فَسَوْفَ يُجْزَوْنَ بِمَا قَطَّعُوا |
وَ أزْمَعُوا٣ غَدْراً بِمَوْلَاهُمُ | *** | تَبَّاً لِمَا كَانُوا بِهِ أزْمَعُوا |
لَا هُمْ عَلَيْهِ يَرِدُوا حَوْضَهُ | *** | غَداً وَ لَا هُوْ فِيهِمْ يَشْفَعُ |
حَوْضٌ لَهُ مَا بَيْنَ صَنْعَا إلَى | *** | أيْلَةِ٤ أرْضِ الشَّامِ أوْ أوْسَعُ |
يُنْصَبُ فِيهِ عَلَمٌ لِلْهُدَى | *** | وَ الحَوْضُ مِنْ مَاءٍ لَهُ مُتْرَعُ٥ |
يَفِيضُ مِنْ رَحْمَتِهِ كَوْثَرٌ | *** | أبْيَضُ كَالفِضَّةِ أوْ أنْصَعُ |
حَصَاهُ يَاقُوتٌ وَ مَرْجَانَةٌ | *** | وَ لُؤْلُؤٌ لَمْ تَجْنِهِ٦ أصْبَعُ |
بَطْحَاؤُهُ مِسْكٌ وَ حَافَاتُهُ | *** | يَهْتَزُّ مِنْهَا مَوْفِقٌ۷ مُونِعُ۸ |
أخْضَرَ مَا دُونَ الوَرَى نَاضِرٌ | *** | وَ فَاقِعٌ۱ أصْفَرَ مَا يَطْلَعُ |
وَ العِطْرُ وَ الرّيْحَانُ أنْوَاعُهُ | *** | تَسْطَعُ إنْ هَبَّتْ بِهِ زَعْزَعُ٢ |
رِيحٌ مِنَ الجَنَّةِ مَأمُورَةٌ | *** | ذَاهِبَةٌ لَيْسَ لَهَا مَرْجِعُ |
إذَا مَرَتْهُ فَاحَ مِنْ رِيحِهِ | *** | أزْكَى مِنَ المِسْكَ إذَا يَسْطَعُ |
فِيهِ أبَارِيقُ وَ قِدْحَانُهُ | *** | يَذُبُّ عَنْهُ الرَّجُلُ الأصْلَعُ٣ |
يَذُبُّ عَنْهُ ابْنُ أبي طَالِبٍ | *** | ذَبَّاً كَجَرْبَي٤ إبِلٍ شُرَّعُ٥ |
إذا دَنَوْا مِنْهُ لِكَيْ يَشْرَبُوا | *** | قِيلَ لَهُمْ تَبَّاً لَكُمْ فَارْجِعُوا |
دُونَكُم٦ فَالْتَمِسُوا مَنْهَلًا | *** | يُرْوِيكُمُ أوْ مَطْعَماً يُشْبِعُ |
هَذَا لِمَنْ وَالَى بَنِي أحْمَدٍ | *** | وَ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُم يَتْبَعُ |
فَالفَوْزُ لِلشَّارِبِ مِنْ حَوْضِهِ | *** | وَ الذّلُّ وَ الوَيْلُ لِمَنْ يُمْنَعُ |
فَالنَّاسُ يَوْمَ الحَشْرِ رَايَاتُهُمْ | *** | خَمْسٌ فَمِنْهَا هَالِكٌ أرْبَعُ |
فَرَايَةُ العِجْلِ وَ فِرْعَوْنُهَا | *** | وَ سَامِرِيّ الامَّةِ المُشنِعُ۷ |
وَ رَايَةٌ يَقْدُمُهَا أدْلَمٌ | *** | عَبْدٌ لَئِيمٌ لُكَعٌ أكْوَعُ۸ |
وَ رَايَةٌ يَقْدُمُهَا حَبْتَرٌ۱ | *** | لِلزُّورِ وَ البُهْتَانِ قَدْ أبْدَعُوا |
وَ رَايَةٌ يَقْدُمُهَا نَعْثَلٌ٢ | *** | لَا بَرَّدَ اللهُ لَهُ مَضْجَعُ٣ |
أرْبَعَةٌ في سَقَرٍ ادوِعُوا | *** | لَيسَ لَهُمْ مِنْ قَعْرِهَا مَطْلَعُ |
وَ رَايَةٌ يَقْدُمُهَا حَيْدَرٌ | *** | وَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ إذْ تَطْلُعُ |
غَداً يُلَاقِي المُصْطَفَى حَيْدَرٌ | *** | وَ رَايَةُ الحَمْدِ لَهُ تُرْفَعُ |
مَوْلَى لَهُ الجَنَّةُ مَأمُورَةٌ | *** | وَ النَّارُ مِنْ إجْلَالِهِ تَفْزَعُ |
إمَامُ صِدْقٍ وَ لَهُ شِيعَةٌ | *** | يُرْوَوا مِنَ الحَوْضِ وَ لَمْ يُمْنَعُوا |
بِذَاكَ جَاءَ الوَحْيُ مِنْ رَبِّنَا | *** | يَا شِيعَةَ الحَقِّ فَلَا تَجْزَعُوا |
الحِمْيَرِي مَادِحُكُمْ لَمْ يَزَلْ | *** | وَ لَوْ يُقَطَّعْ أصْبَعاً أصْبَعُ |
وَ بَعْدَهُ صَلُّوا عَلَى المُصْطَفَى | *** | وَ صِنْوِهِ حَيْدَرَةِ٤ الأصْلَعُ |
و قد اقتفى السيّد إسماعيل الحميريّ المعاصر لزمن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في هذه القصيدة التي أنشأها على اسلوب الشعراء العرب و ملوك الفصاحة و البلاغة حين يعبّرون عن أسفهم و أساهم على الأيّام الغابرة و العمر المنصرم، و حين يتلهّفون على المباهج و اللذائذ التي
مرّت عليهم في منازل المحبّة، ثمّ عصفت بها الأيّام فانقضت.
فهو يذكر -من باب الاستعارة- المنزل الداثر للحبيب و قد أضحى في وادٍ مقفر لا ماء فيه، و قد تهدّم سقفه و انهارت أعمدته؛ إيماءةً منه إلى أنّ البناء المعنويّ العامر قد استحال إلى مثل هذه الأطلال، و إلى أنّ أساس المحبّة و المودّة قد انطمس و انهار و تلاشى.
ثمّ إنّه، على أساس فنّ الغزل، يشبّه بالعشق تلك اللذّة المعنويّة و ذلك الهيام بالمقصود، و يشبّه ذلك المحبوب بالمعشوقة، ثمّ يتحدّث عن مسكن الحبيب و مأواه من خلال حديثه عن المربع الذي أضحى خربة بلقعا، دون أن يتطرّق إلى ذكر وجه الشبه بينهما.
ثم يعرّج على ذكر تلك النعم الزائلة و الرحمة المنقطعة، فيفصّل في بيانها.
و يريد المرحوم السيّد الحِميريّ في هذا المجال ذكر قصّة حقّانيّة أمير المؤمنين عليه السلام و مظلوميّته، مروراً بنصبه في غدير خُم بالإمارة و الإمامة و الولاية، و مخالفة المعاندين، و انتهاءً بغصب الخلافة و نصب العداء لأهل البيت الطاهرين، ثمّ مجيء حكومات ضالّة جائرة. ثمّ يذكر عاقبة الاستمساك بالولاية و عقاب الابتعاد عنها في إشارة إلى الرواية الواردة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله في ظهور حوض الكوثر في موقف عرصات القيامة و خصائصه و مزاياه، مؤكداً على أنّ تلك النعمة و الكوثر و التسنيم و النسيم العليل و الرياحين العطرة و الجواهر النفيسة مختصّة بمحبّي أمير المؤمنين و شيعته و أتباعه، و أنّهم هم الذين يرتوون من حوض الكوثر؛ أمّا المنافقون و المعاندون من أعداء أهل البيت و منكري فضائلهم، فليس لهم من ماء الكوثر نصيب.
لذا، فإنّه يذكر أوّلًا منزل محبوبته الخياليّة «أروي» متغزّلًا بها، ثمّ
يذكر اندثار ذلك البناء و انطماس أثر ذلك المنزل الذي استحال مأوى للأفاعي و الصِّلال التي لا رُقية لسمّها، و يذكر وقوف القافلة عند عبورها على تلك الأطلال. ثمّ يعرّج على ذكر تلك النعم الضائعة، و ذلك الصفاء و تلك المحبّة اللذين استحالا عداوة و ضغناً، فيتحسّر على ذلك و يأسف له، ثمّ يتعرّض لبيان ذلك مفصّلًا.
و قد أورد المجلسيّ رضوان الله عليه هذه القصيدة في «بحار الأنوار» المجلّد الحادي عشر، ص ٢۰٢ إلى ٢۰٤؛ كما ذكر السيّد الشهيد القاضي نور الله الشوشتريّ ترجمة السيّد الحميريّ في كتابه «مجالس المؤمنين» ص ٤٦٢ إلى ٤٦٤، و ذكر هذه القصيدة في ص ٤٦٥. و أوردها كذلك الحاجّ الميرزا حسين النوريّ في «دار السلام» ج ۱، ص ٤٤. كما أورد العلّامة الأمينيّ ترجمة السيّد الحميريّ في كتابه «الغدير» ج ٢، ص ٢۱٣ إلى ٢۸٩، و نقل له في ص ٢۱٩ ثلاثاً و عشرين قصيدة غديريّة، كانت هذه القصيدة عاشرتها. و أوردها كذلك أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام» ج ٣، ص ٣۰٩. و طُبعت أيضاً في آخر كتاب «المعلّقات السبع».
هذا و قد وردت القصيدة في «ديوان الحميريّ» ص ٢٦٢ نقلًا عن كتاب «ظرافة الأحلام»، و ذكر بأن رواية كتاب «ظرافة الأحلام» منقّحة و منقولة من نسخة خطّيّة يرجع تأريخ كتابتها إلى ما قبل ستمائة سنة، و أنّ مجموع أبيات القصيدة كان خمسين بيتاً. إلّا أنّ المرحوم المجلسيّ في «بحار الأنوار» و المرحوم النوريّ في «دار السلام» قد أوردا أربعة و خمسين بيتاً، و لم يكن البيت السادس و الثلاثون من ضمنها، و هو قوله:
إ ذَا مَرَتْهُ فَاحَ مِنْ رِيحِهِ | *** | أزْكَى مِنَ المِسْكَ إذَا يَسْطَعُ |
و قد صرّح العلّامة الأمينيّ في «الغدير» بأنّ مجموع الأبيات واحد و خمسون بيتاً، حيث لم يذكر الأبيات السادس و الثلاثين، السادس
و الأربعين، الثامن و الأربعين، الخمسين و البيت الحادي و الخمسين، لكنّه -من جهة اخرى- أورد أحد الأبيات مكرّراً بمضمونين. فقد أورد البيت
هَذَا لِمَنْ وَالَى بَنِي أحْمَدَا | *** | وَ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُمْ يَتْبَعُ |
ثمّ أورد:
هَذَا لِمَن وَالَى بَنِي أحْمَدَا | *** | وَ الحُبُّ في غَيْرِهِمُ لَا يَنْفَعُ |
فكان مجموع أبيات القصيدة واحداً و خمسين بيتاً. أمّا في «ديوان الحميريّ» حيث نُقلت هذه الأشعار عن «ظرافة الأحلام»، فقد أورد واحداً و خمسين بيتاً، كان منها البيت السادس و الثلاثون، السادس و الأربعون، السابع و الأربعون، الثامن و الأربعون، الرابع و الخمسون و البيت الخامس و الخمسون.
و أرى أنّ أقرب هذه النقول هو نقل رواية «مجالس المؤمنين» التي لم تورد البيتين السادس و الأربعين و السابع و الأربعين، لوضوح أنّ الحميريّ يريد الإشارة إلى رايات الضلال الأربع التي رفعها أربعة أشخاص، كان آخرهم معاوية بن أبي سفيان، بينما لو احتسبنا البيتين السادس و الأربعين و السابع و الأربعين ضمن القصيدة، لا نفرط عقدها لعدّة جهات، و للزم أن نعدّ السامريّ عطف تفسير على العجل، و هو خلاف المعهود.
أمّا مؤلّف «مجالس المؤمنين» و كما سبقت الإشارة، فلم يورد البيت السادس من القصيدة، كما أنّ مؤلّف «ظرافة الأحلام» لم يورد البيتين السادس و الأربعين و السابع و الأربعين. و كان ترتيب الأبيات حسب نقل «ظرافة الأحلام» على النحو التالي:
فَالنَّاسُ يَوْمَ الحَشْرِ رَايَاتُهُمْ | *** | خَمْسٌ فَمِنْهُمْ هَالِكٌ أرْبَعُ |
قَائِدُهَا العِجْلُ وَ فِرْعَوْنُهَا | *** | وَ سَامِرِيّ الامّةِ المُفْظِعُ |
وَ مَارِقٌ مِنْ دِينِهِ مَخْدِجٌ | *** | أسْوَدُ عَبْدٍ لُكَعٌ أوْكَعُ |
وَ رَايَةٌ قَائِدُهَا وَجْهُهُ | *** | كَأنَّهُ الشَّمسُ إذَا تَطْلَعُ |
و بناء على ما قيل فإنّ هذا التسلسل واضح، و يكون المراد من المارق من الدين و المخدج و العبد الأسود اللكع الأوكع: معاوية الذي اجتمعت فيه هذه الصفات. و يشهد على كلامنا الرواية التي رواها العلّامة المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ۱۱، ص ٢۰٢، الطبعة القديمة (الكمبانيّ)، و التي لم يرد فيها البيتان السادس و الأربعون و السابع و الأربعون.
يروي العلّامة المجلسيّ عن «رجال الكشّيّ»، عن نصر بن الصباح، عن إسحاق بن محمّد البصريّ، عن عليّ بن إسماعيل، عن فضيل الرسّان، قال: دخلتُ على أبي عبد الله عليه السلام بعد ما قُتل زيد بن عليّ، فادخلت بيتاً جوف بيت، فقال لي:
يَا فُضَيْلُ! قُتِلَ عَمِّي زَيْدٌ!
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ!
قَالَ: رَحِمَهُ اللهُ! أمَا إنَّهُ كَانَ مُؤْمِناً، وَ كَانَ عَارِفاً، وَ كَانَ عَالِماً، وَ كَانَ صَدُوقاً؛ أمَا إنَّهُ لَوْ ظَفَرَ لَوَفَي! أمَا إنَّهُ لَوْ مَلَكَ لَعَرَفَ كَيْفَ يَضَعُهَا.
قلتُ: يا سيّدي! أ لا أنشدك شعراً؟
قال: أمهل! ثمّ أمر بستور فسُدلت، و بأبواب ففتحت؛ ثمّ قال: أنشد! فأنشدتُه:
لُامِّ عَمْروٍ بِاللِّوَى مَرْبَعُ | *** | طَامِسَةٌ أعْلَامُهُ بَلْقَعُ |
الأبيات ... إلى قوله:
وَ رَايَةٌ قَائِدُهَا وَجْهُهُ | *** | كَأنَّهُ الشَّمْسُ إذَا تَطْلَعُ |
قال: سمعتُ نحيباً من وراء الستر. و قال: مَن قال هذا الشعر؟
قلتُ: السيّد ابن محمّد الحميريّ. فقال: رحمه الله!
فقلتُ: إنّي رأيتُه يشرب النبيذ. فقال: رحمه الله!
قلتُ: إنّي رأيته يشرب النبيذ الرستاق.
قال: تعني الخمر؟
قلتُ: نعم.
قال: رحمه الله، و ما ذلك على الله أن يغفر لمحبّ عليّ عليه السلام!
أجل، فقد كان الشاهد من ذكر هذه الرواية هو أنّ أشعار الحميريّ التي نقلها المجلسيّ برواية الفضيل في محضر الإمام الصادق عليه السلام لم تتضمّن البيتين السادس و الأربعين و السابع و الأربعين، و أنّها وردت حسب التسلسل الذي رجّحناه. و يلزم أن نشير هنا إلى أربع فوائد:
الفائدة الاولى: أن القاضي نور الله قد نقل هذه القصيدة في «مجالس المؤمنين» كما قد سبقت الإشارة إليه، إلّا أنّه أوّلًا لم يحذو في نقله رؤيا الإمام الرضا عليه السلام حذو المجلسيّ حين نسبها إلى بعض مؤلّفات الأصحاب، بل رواها عن أبي عمر الكشيّ في كتاب رجاله، عن سهل بن ذبيان.
و ثانياً فإنّ تفصيل الرؤيا التي نقلها يختلف في عدّة موارد مع تفاصيل مثيلتها التي نقلها المجلسيّ. منها: أنّ سهل بن ذبيان يقول فيها:۱
«فرأيتُه (أي رأيت الإمام الرضا عليه السلام) متفكّراً منكساً رأسه، فلمّا رآني قال ... إلى آخره».
و منها: قول الرضا عليه السلام: دخلتُ في قبّة خضراء فرأيت رسول الله صلّى الله عليه و آله جالساً فيها و إلى يمينه غلام حسن الوجه جالس على رُكبة شيخ كبير قد تدلّى حاجباه على عينيه فحجبهما، و ذلك الشيخ هو
السيّد إسماعيل الحميريّ. و منها: لمّا وصل السيّد الحميريّ إلى قوله:
قَالُوا لَهُ لَوْ شِئْتَ أعْلَمْتَنَا | *** | إلَى مَنِ الغَايَةُ وَ المَفْزَعُ |
رفع النبيّ صلّى الله عليه و آله يده إلى السماء، و قال: إلَهِي وَ سَيِّدِي! أنْتَ الشَّاهِدُ عَلَيْهِمْ وَ عَلَيّ أنَّنِي قَدْ أعْلَمْتُهُمْ أنَّ الغَايَةَ وَ المَفْزَعَ إلَيْهِ -وَ أوْمَأ بِيَدِهِ إلَى أمِيرِ المُؤْمِنِينَ- وَ قَالَ: يَا عَلِيّ! احْفَظْ هَذِهِ القَصِيدَةَ وَ مُرْ شِيعَتَنَا بِحِفْظِهَا!
بينما كان السياق في رواية المجلسيّ أنّ رسول الله لمّا قال:
إلَهِي! أنْتَ الشَّاهِدُ عَلَيّ وَ عَلَيْهِمْ أنِّي أعْلَمْتُهُمْ أنَّ الغَايَةَ وَ المَفْزَعَ عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ -وَ أشَارَ بِيَدِهِ إلَيْهِ (أي إلى أمير المؤمنين)- وَ هُوَ جَالِسٌ بَيْنَ يَدَيْهِ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ.
ثمّ التفت النبيّ صلّى الله عليه و آله إلى الإمام الرضا عليه السلام و أمره بحفظ القصيدة و بأن يأمر الشيعة بحفظها، و لم يأمر بذلك أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان قد ارتحل عن الدنيا آنذاك.
أجل، إنّ المرحوم النوريّ قد أشار في كتابه «دار السلام» إلى اختلاف رواية المجلسيّ عن رواية القاضي نور الله، ثمّ قال: و لكنّي لم أجد هذه الحكاية في «رجال الكشّيّ» و عندي منه عدّة نسخ، و لا نقلها غيره عنه؛ و يُحتمل بعيداً أنّه عثر على نسخة أصل الكشيّ التي اختصرها الشيخ الطوسيّ، و المختصر هو المتداول بين العلماء، و ليس من الأصل عين أثر.
الفائدة الثانية: من المسلّم أنّ هناك روايتين وردتا في أمر قصيدة السيّد الحميريّ العينيّة، أولاهما: رواية العلّامة المجلسيّ في «بحار الأنوار»۱ عن بعض مؤلّفات الأصحاب، عن سهل بن ذبيان الذي نقل رؤيا
الإمام الرضا عليه السلام؛ و قد نقل القاضي نور الله في «مجالس المؤمنين» نفس قصّة الرؤيا و نسبها إلى «رجال الكشّيّ».۱
و ثانيتهما: رواية العلّامة المجلسيّ عن «رجال الكشّيّ» عن نصر بن الصباح، عن إسحاق بن محمّد البصريّ، عن عليّ بن إسماعيل، عن الفضيل بن الزبير الرسّان،٢ و هذه الرواية المسندة موجودة في نسخ «رجال الكشّيّ» الحاليّة،٣ بَيدَ أنّها تخلو من ذكر الرؤيا. و قد ورد فيها اثنا عشر بيتاً من القصيدة، أنشدها الفضيل عند الإمام الصادق عليه السلام.
يقول العلّامة الأمينيّ: «و نقله (أي نقل المنام) الشيخ أبو علي (المامقانيّ) في رجاله «منتهى المقال» ص ۱٤٣، عن «عيون الأخبار» لشيخنا الصدوق، و تبعه الشيخ المعاصر (المامقانيّ) في «تنقيح المقال» ج ۱، ص ٥٩، و السيّد الأمين في «أعيان الشيعة» ج ۱٣، ص ۱۷۰؛ و لم نجده في نسخ «العيون» المخطوطة و المطبوعة.٤
الفائدة الثالثة: أورد كثير من العلماء الأعلام شروحاً لقصيدة الحميريّ العينيّة؛ فقد ذكر استاذنا و شيخنا في علم الرجال و الدراية و الحديث: العلّامة الحاجّ الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ ستّة عشر شرحاً بالعربيّة و الفارسيّة و الارديّة عن الأعلام، تحت رقم ۱٥۱۰ إلى ۱٥٢٣،٥
و ذكر العلّامة الأمينيّ في «الغدير» خمسة عشر شرحاً لها، و نوّه بقوله في الهامش: هذه الشروح وقفتُ على بعضها، و نقلتُ جملةً منها عن «الذريعة»؛ و قال: و خمّسها جمع من العلماء و الادباء منهم: شيخنا الحرّ العامليّ صاحب «الوسائل» و حفيده الشيخ عبد الغنيّ العامليّ، و الشيخ حسن بن مجلي الخطّيّ، و السيّد على النقي النقويّ الهنديّ.۱
الفائدة الرابعة: جاء في هذه القصيدة أنّ سعة حوض الكوثر ما بين أيلة و صنعاء أو أوسع، حيث ورد ذلك في كثير من الروايات: و ورد في بعض الروايات، كرواية الثقلين التي أوردناها عن مقدّمة «تفسير عليّ بن إبراهيم» أنّ سعته ما بين بصرى و صنعاء. و أيلة كما في معجم البلدان بلد على ساحل بحر القلزم قرب الشام. و قيل بأنّها منتهى أرض الحجاز و أوّل أرض الشام.
و في «لغت نامه دهخدا»٢: قلزم بلد بين مصر و مكّة، بالقرب من جبل الطور؛ يُنسب إليها بحر القلزم لوقوعه على ساحلها. (عن «منتهى الإرب» نقلًا عن «أقرب الموارد»).
و في «المعجم»: بُصرى: بلد في أطراف الشام، و هي قصبة قرية حوران؛ و صنعاء: بلدة باليمن.
فيكون المراد من بحر القلزم -إذاً- هو البحر الأحمر الذي يمتدّ ما بين بحر الروم و البحر الأبيض المتوسط إلى باب المندب. و لمّا كان وقوع بلدة القلزم المصريّة قرب هذا البحر، فقد دُعي بـ «بحر القلزم».
أمّا أيلة فليست في مصر، بل هي واقعة على الجانب الآخر من البحر، إلى اليسار ممّن يسافر بحراً من فلسطين إلى مكّة، على مقربة من ساحل البحر الأحمر، و هي من أراضي الشام.
و بطبيعة الحال، فإنّ مثل هذا الحوض الذي تمتدّ سعته ما بين أيلة و صنعاء، سيكون عرضه كبيراً أيضاً، لذا فإنّه سيمرّ في جانبه الشماليّ على بُصرى (من نواحي دمشق). و لن يكون هناك ثمّة تعارض بين الروايات.
و أيلة و بصرى موضعان قريبان من بعضهما، ذكرت بعض الروايات أحدهما كحدّ لسعة الحوض، بينما ذكرت الروايات الاخرى الثاني، و هما يعبّران عن حقيقة واحدة لها عنوانان.
و لمّا كانت صنعاء من نواحي اليمن الواقعة إلى الجنوب من بلاد الحجاز، فيتّضح أنّ الحوض يستغرق جميع أرض الحجاز، ابتداءً من الشام إلى أقصى نقطة في الجنوب. و هذا تشبيه لطيف جدّاً للتعبير عن سعة مقام الولاية، كما أنّ الأقداح و الأباريق الموجودة بعدد النجوم يدلّ أيضاً على هذه السعة.
(وَ صَلَوَاتُ اللهِ وَ مَلَائِكَتِهِ وَ حَمَلَةِ عَرْشِهِ وَ جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ أرْضِهِ وَ سَمَائِهِ): عَلَى سِرِّ الأسْرَارِ، وَ مَشْرِقِ الأنْوَارِ، المُهَنْدِسِ في الغُيُوبِ اللَاهُوتِيَّةِ، السَّيَّاحِ في الفَيَافِي الجَبَرُوتِيَّةِ، المُصَوِّرِ لِلْهَيُولَى المَلَكُوتِيَّةِ، الوَالِي لِلْوِلَايَةِ النَّاسُوتِيَّةِ، انْمُوذَجِ الوَاقِعِ وَ شَخْصِ الإطْلَاقِ المُنْطَبِعِ في مَرَايَا الأنْفُسِ وَ الآفَاقِ، سِرِّ الأنْبِيَاءِ وَ المُرْسَلِينَ، سَيِّدِ الأوْصِيَاءِ وَ الصِّدِّيقِينَ، صُورَةِ الأمَانَةِ الإلهيَّةِ، مَادَّةِ العُلُومِ الغَيْرِ المُتَنَاهِيَةِ، الظَّاهِرِ بِالبُرْهَانِ، البَاطِنِ بِالقُدْرَةِ وَ الشَّانِ، بَسْمَلَةِ كِتَابِ المَوْجُودِ، فَاتِحَةِ مُصْحَفِ الوُجُودِ، حَقِيقَةِ النُّقْطَةِ البَائِيَّةِ، المُتَحَقِّقِ بِالمَرَايَا الإنسانيَّةِ، حَيْدَرِ آجَامِ الإبْدَاعِ، الكَرَّارِ في مَعَارِجِ الاخْتِرَاعِ، السِّرِّ الجَلِيّ، وَ النَّجْمِ الثَّاقِبِ عَلِيّ بْنِ
أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ.۱
نه مراست قدرتِ آنكه دم زنم از جلال تو يا على | *** | نه مرا زبان، كه بيان كنم صفت كمال تو يا على |
شده مات عقل مُوحّدين، همه در جمال تو يا على | *** | چو نيافت غير تو آگهى، ز بيان حال تو يا على |
نَبَرد به وصف تو ره كسى، مگر از مقال تو يا على٢
توئى آنكه غير وجود خود، به شهود و غيب نديدهاى | *** | همه ديدهاى نه چنين بود شه من تو ديدة ديدهاى |
فقرات نفس شكستهاى، سُبُحات وهم دريدهاى | *** | ز حدود فصل گذشتهاى، به صعود وصل رسيدهاى |
ز فناى ذات به ذات حق بود اتّصل تو يا على٣
چو عقول و افئده را نشد ملكوت سرّ تو منكشف | *** | ز بيان وصف تو هر كسى، رقم گمان زده مختلف |
همه گفتهاند و نگفته شد ز كتاب فضل تو يك الف | *** | فُصَحاى دهر به عجز خود، ز اداى وصف تو معترف |
بُلغاى عصر به نطق خود شدهاند لال تو يا على۱
نه فرشته يافته در بشر چو تو ذو الكرم چو تو ذو العفا | *** | نه بشر شنيده فرشته را، به چنين صفت، به چنين صفا |
به خدا ظهور عجائبى، چو تو نيست در بشر از خدا | *** | كه تعجّب است بحقّ ز تو آن قناعت و اين سخا |
به طراز سورة هَلْ أتى چه نكوست فال تو يا على٢
نرسيد كشتى همّتم ز يَم غمت به كنارهاى | *** | بشكست فُلْك مرا فَلَك به حجارهاى ز اشارهاى |
به همين خوشم كه نشستهام به شكستهاى و به پارهاى | *** | چكنم ز غرق شدن مرا نه علاج هست و نه چارهاى |
مگرم ز غيب مدد كند يكى از رجال تو يا على۱