المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة المعاد
التوضيح
المَجْلِسُ السَّابِعُ وَ العِشْرُون: ظُهُور المَوْجُودات عِنْدَ إشْرَاف القِيَامَةِ برَبْطِ أنْفُسُهَا بِاللهِ تَعالَى
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ.۱
الآيات الدالّة على أنّ السماء و الأرض و الجبال و البحار و موجودات السماء و الأرض .. تفنى و تتلاشى و تتبدّد جميعها عند ظهور القيامة كثيرة جدّاً في القرآن الكريم، و قد ذكرنا بعضاً منها قبلًا.
و نقرأ في الآيتين ۱٩ و ٢۰، من السورة ۷۸: النبأ:
وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً ، وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً.
حيث إنّ السراب بمعنى الباطل و الوهم مقابل الماء؛ السراب يعني الماء الخياليّ و الوهميّ. فالسراب يطلق على الشيء الذي لا حقيقة له، و الذي أظهر نفسه و تجلّى في خيال الإنسان بصورة الواقع و الحقيقة، و السراب الحاصل في الصحارى و الفيافي صورة للماء، حيث تسطع الشمس على الأرض بأشعّتها و حرارتها، فيحصل للمناطق المغطّاة بالرمل
و الحصى بريق و لمعان يخاله الناظر من بعيد ماءً، فإذا اقترب منه تبيّن أنه ليس ماءً حقيقيّاً، بل كان ماء خياليّاً موهوماً.
يقول تعالى في هذه الآية إنّ الجبال تصبح سراباً، اي: باطلًا و وهماً؛ مع أنّ الجبال لو سُحقت و ذُرّت بين السماء و الأرض كالعهن المنفوش، و لو صُبّت في البحار، فإنّها -مع ذلك كلّه- لن تكون باطلًا و وهماً، بل هي حقيقة خرجت من صورة إلى صورة أُخرى.
إن الآية التي ذُكرت في مطلع البحث هي الآية التالية لآية نفخ الصور:
وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ، وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ.۱
و لمّا كانت هذه الآية تالية لآية نفخ الصور، فإنّها تريد عرض منظرٍ من مناظر القيامة، و هو منظر سير الجبال.
و إذا كان هذا السير حقيقيّاً، فإنّ ذلك الزمان الذي تنفطر السماء فيه، و تنشقّ الأرض و تفور البحار و يتصاعد اللَهب منها، و تحينُ زلزلة الساعة فتزلزل الناس بشدّة بحيث تذهل كلّ مرضعة عمّا أَرضعت، و تضع كلّ ذات حمل حملها، هو زمان ليس فيه من معنى لو «تَحْسَبُها جامِدَةً». ذلك أننا نعلم أنّ الجبال في حركة و سير و ارتعاش و تزلزل و اندكاك. و حينئذٍ ينبغي له أن يقول: وَ تَرَى الْجِبَالَ مُتَحرّكَةً مُتَزَلْزِلَةً لَا تَسْتَقِرُّ بِشَيْءٍ.
فيتّضح من قوله: وَ تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هي تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، أنّ الجبال قد حفظت ظاهرها، و أنها تستقرّ في أماكنها بصلابة
و عظمة و متانة.
أمّا من حيث الواقع فإنّها في سير و تجوال، و لها حكم السراب، و تشير بوجودها التكوينيّ إلى أنها لا تمتلك في الحقيقة استقلالًا وجوديّاً، و أنّ وجودها الاستقلاليّ ليس إلّا سراباً، بل وجودها الحقيقي هو الارتباط بالحقّ تعالى.
تجلّي الجبال يوم القيامة في هيئة السراب
و يشهد على هذا المعنى ذيل الآية، حيث يقول:
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ.
و هو شاهد على استقرار الجبال و إحكامها، لا على زوالها و اندكاكها و دمارها. و يمكننا أن نستفيد من هذه الآية أنّ الموجودات تتجلّى للإنسان عند طليعة القيامة بصورة السراب و هيئته، و أنّ الموجودات الجامدة التي ظاهرها الاستقلال في الوجود تُرى في حالة السير و الحركة و الاضمحلال.
-إذَن- ستتلاشى تلك الابهة و الجلال و العظمة و الاستقلال التي كانت مشهودةً في الأشياء، فلا استقلال للأشياء في وجودها بعدُ، و هذا هو في الحقيقة كون الموجودات سراباً و باطلًا و وهماً.
إن جميع الموجودات -بلا استثناء- قبل ظهور القيامة و طليعتها، و قبل انكشاف الحقائق هي موجودات مستقلّة في نظر الناس و نظر مشاهديها، و لها تشخّص و هويّات خاصّة، حيث جاءت الآية الكريمة و تَحْسَبُها جامِدَةً لبيان هذه الحقيقة.
أمّا عند ظهور و بروز مقدّمات القيامة و آثارها، فإنّها تفقد هذا المعنى لدى الناس و تصبح في هيئة السراب، فتُدمغ بأجمعها بخاتم الفناء و البُطلان و الزوال.
و الآية الكريمة: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ. دالّة على حقيقة ارتباط الموجودات بالله تعالى، ذلك الارتباط المتقن و المتين و الممتنع
زواله بأيّ وجه من الوجوه. فهذه الآية لا تريد الإيحاء أنّ السماء و الأرض و الشمس و القمر تبدو عند المحتضر كذا و كذا.
كأن تقول مثلًا إنّ الشمس ثابتة وطيدة في مكانها، إلّا أنها تبدو للمحتضر الذي يوشك أن تقوم قيامته مُعتمة مُنكسفة، كما يبدو له القمر منخسفاً. و إنّه و هو يعالج سكرات الموت في حال اضطراب و تشويش، يمسك الندم و الحسرة بتلابيبه، أمام عمرٍ قضاه في الدنيا، و قلبٍ وهبه لها و تعلّق بها، فلقد اعتاد أن يرى أمامه في الدنيا نور الشمس الزاهر، و القمر اللامع، و منظر النجوم المتلألئة، و المناظر الخضراء النضرة و المياه المنعشة، هذه المناظر التي أنس بآثارها و بغيرها، فهو يريد الآن أن يدعها و يرحل، و يدفنها في مقبرة النسيان حالًا. فهذا الموت و الارتحال سيكون مُرّاً و قاسياً عليه إلى الحدّ الذي ستبدو معه الشمس منكسفة أمامه، و سيبدو القمر منخسفاً، و تتساقط النجوم، و تفور مياه البحار و تتأجّج ناراً.
تماماً كما يقول أحدنا في محاوراته: إنّ الأرض قد انشقّت أمامي إثر الحادثة الفلانيّة، و إنّ السماء انهدّت على رأسي، و إنّ النهار المضيء الأبلج قد أظلم في عيني؛ فهذه الامور مشهودة حقّاً عند بعض الأفراد الذين يُصابون بخسارة و مُصيبة، إذ يلوح النهار المضيء يلوح في أعينهم مُظلماً حقّاً، و يتبدّل الطعام اللذيذ في مذاقهم سمّاً زعافاً.
إن الامّ التي فقدت طفلها لو أُخذت للنزهة و أُجلست على ضفة نهر، أو بجوار حوض من الماء ذي رونق جميل خلّاب من أجل الترفيه عن النفس، فإنّ تلألؤ الأمواج سيبدو في عينها كأنه بريق ألسنة نار جهنّم و شررها المتطاير، و سيكون كلّ نسيمٍ يهبّ مداعباً الحشائش و أوراق الشجر كالمشرط الذي يجرح روحها. فما الذي تدركه -يا ترى- من النزهة و التسلية؟ إنها تحترق الآن لفراق أعزّ أحبّائها، فالدنيا مظلمة خاوية في
عينيها، و سقوف عمارتها العظيمة الفخمة منهارة على رأسها، و أصوات الطيور و البلابل الساحرة في زقزقتها و شدوها الغزليّ تبدو كنعيب البوم و نعيق الغراب المقرّح للأفئدة.
أ فتريد الآية الكريمة وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً أن تُوحي هذا المعنى؟
كلّا، ليست الآية الشريفة في صدد بيان هذا القصد.
الآية تقول: إنّ الجبال تصبح باطلًا و وهماً؛ هذه الجبال التي تراها جامدة و وطيدة في أماكنها، ذات استقلال و عزّة في الوجود و أُبّهة و عظمة، هي الآن كالسراب ذليلة لا قيمة لها و لا أثر، و لا ثبات لها و لا استقرار، كشأن السحب المتفرّقة المتبدّدة في السماء. و هذا هو صنع الله الذي أتقن كلّ موجود خَلَقَه، و أنشأ كلّ شيء على أساس من المتانة و الثبات.
في ضوء ذلك نرى أنّ هذا الإتقان و الإحكام راجع إلى جهة ارتباطها باللَه تعالى، و يجعلنا نفهم معنى الوجهة الباطنيّة و الملكوتيّة للموجودات. و أنّ كونها سراباً بلحاظ الخلقة و النظر الاستقلاليّ للوجود، و هو عين الثبات و البقاء و الإتقان بلحاظ الارتباط بالله من الوجهة الوجوديّة المرتبطة بالله تعالى و عدم استقلالها في حيّز الوجود.
فالعالم -إذَن- سيتبدّل عند ظهور القيامة، و وجهة الموجودات ستتغيّر كلّيّاً يومئذٍ.
الموجودات أشبه بالسراب عند حلول القيامة
إن الموجودات التي كانت قبل أشراط القيامة ذات استقلال في الوجود، و تظهر و كأنها مستقلّة و معتمدة على نفسها، و كانت جهة ارتباطها باللَه كامنة و مخفيّة، ها هي الآن- و قد تبدّل العالم و ظهرت حقيقة الأمر للراحلين إلى القيامة بصورة أُخرى قد أظهرت حقيقة نفسها التي ما هي إلّا السراب و الفناء و أن لا استقلال لها و لا اعتماد لها على نفسها أبداً، و ها
وجهة ارتباطها بالله تعالى تتّضح و تتجلّى. و هذا هو معنى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ.
و وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم ينبغي النظر و التأمّل في كلّ منها بدقّة:
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.۱
فهل تظهر الموجودات في ذلك اليوم للّه تعالى، فهي اليوم خافية غير ظاهرة له؟
و هل القدرة و العظمة و المُلك لا تختصّ اليوم بالله تعالى، ثمّ تختصّ به آنذاك في ذلك العالَم و ذلك المشهد؟
ما هذه المطالب؟! ما لكم تنسبون المِلك و المُلك المطلقينِ ذلك اليوم للّه تعالى، و تقولون إنّ المُلك و العظمة و المِلك للّه تعالى يومئذٍ؟! يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ.٢
هل خُصّ ذلك اليوم بعدم المصونيّة؟! اي: أنّ الناس يمكنهم اليوم أن يهربوا من يد الله، إذ إنّ لهم رفيقاً و شريكاً و معيناً و مساعداً يحول بينهم و بين الله تعالى؟! ثمّ إنّ هؤلاء الرفقاء و الشركاء و الأعوان و المساعدين يفنون في ذلك اليوم، فتعود القدرة إلى الله مباشرة!! و تظهر قدرة الله و عظمته آنذاك؟!
ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ.٣ فيُؤويكم و يحميكم
و يذبّ عنكم أمام الله!
صفات الله و أسماؤه لا تختلف في الدنيا و يوم القيامة
يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ.۱
وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ.٢
وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ.٣
يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.٤
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ.٥
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً.٦
فهذه الآيات تدلّ بأجمعها على أنّ اي نفس لا تستطيع أن تعين نفساً أُخرى يوم القيامة و لا تقضي حاجاتها، و لا تنقذها من محنها، و لا تُنجيها من براثن العذاب، أو تدافع عنها. كما تدلّ الآيات المذكورة على أنّ القدرة و السلطنة و المِلك في ذلك اليوم للّه تعالى، و أنّ الأمر و النهي بيده لا بيد غيره. بينما نعلم أنّ القدرة و العظمة و المِلك و المُلك هي لله على الدوام، و أنّ الأمر و النهي ما برحا بيده تعالى، و أنّ أحداً لا يمكنه مطلقاً أن يقف في مقام الدفاع أمام الربّ، أو أن يسبق أمره عزّ و جلّ.
إن الله تعالى هو الحاكم دوماً، و لا ملجأ للإنسان في اي وقت إلّا الله، و لا قدرة و لا ملك و لا شفاعة لأحد إلّا بإذنِ الله تعالى، لا تفاوت في هذا الأمر اليوم أو غداً، و في الدنيا أو في الآخرة.
الله سبحانه هو القادر و القهّار و المستقلّ بالذات، و هو ذو الجلال و الإكرام، و هو الجبّار و الغفّار، و هو الغفور و الرحمن، لا فرق في ذلك بين اليوم و الغد.
إن الإله الذي يمتلك القدرة اليوم و لا يمتلكها غداً، او لا يمتلكها اليوم و يمتلكها غداً ليس إلهاً. إن الإله الذي تجري الأمور بدون إذنه و أمره و نهيه اليوم و يوم القيامة تجري بإذنه و أمره ليس إلهاً. إنّ الإله الذي لا استقلال له اليوم في تدبير الأمور و التكوين و غداً له الاستقلال ليس إلهاً.
وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ.۱
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ ، وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.٢
فصفات الحضرة الأحديّة هذه لا اختصاص لها بالآخرة، بل ما برحت هكذا و ستبقى كذلك. و لو قال أحد باختلاف هذه الصفات بين اليوم و الغد، و بين هذا العالم و عالم القيامة، لكان قوله عين الشرك.
فما الذي تريده هذه الآيات يا تُرى؟
إن هذه الآيات تريد أن تبيّن لنا أنّ قدرة الله و عظمته، و مُلكه و مِلكه، و أمره و نهيه، و سلطانه و قهّاريّته ستتجلّى لكم ذلك اليوم واضحة جليّة. أنّ ذلك اليوم يوم الإدراك و الفهم، و يوم المعرفة و كشف الحقائق،
و يوم الظهور و التجلّي. فأنتم لا يمكنكم اليوم أن تستوعبوا حقيقة توحيد ذات الباري تعالى شأنه العزيز و أسماءه الحسنى و صفاته العليا، أو أن تدركوها حقّ الإدراك و المعرفة. كما لا يمكنكم اليوم أن تلمسوا اختصاص هذه الصفات بالله تعالى لمس اليد، لكنّ هذه الحقيقة و الاختصاص سيتجلّيان لكم ذلك اليوم و يصبحان قابلينِ للفهم و الإدراك.
يتعذّر عليكم اليوم بسبب الحجب النفسيّة و الانشداد إلى المادّة و الطبع أن تدركوا أنّ الموجودات بأجمعها ليست إلّا سراباً، فقد صَرفت سلسلةُ العلل و المعلولات بنظامها العجيب المدهش هذا أنظاركم عن الحقيقة و عطفتها إليها. فلا يمكنكم أن تعقلوا أنّ ما يتّصف بالإتقان و الإحكام هو فقط جهة وجه الله و ارتباط الموجودات بخالقها و أنّ الموجودات فى حدّ ذاتها سراب و باطل و عدم و فناء محض.
أمّا ذلك اليوم الذي يطلع فيه نور حقيقة الذات المقدّسة للحضرة الربوبيّة، فستدركون أن ليس في جميع عوالم الإمكان و نشآت الخلقة من مالك للإرادة و الاختيار و القدرة و العظمة غير ذاته المقدّسة.
و ستدركون ذلك اليوم معنى قوله تعالى: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، و الحقيقة التي يريد بيانها الكلام المعروف القائل: لَيْسَ في الدَّارِ غَيْرهُ دَيَّارُ. و ستدركون ذلك اليوم معنى شعر لبيد الذي قال عنه رسول الله صلّى الله عليه و آله: هُوَ أصْدَقُ شِعْرٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ، و ذلك في قوله:
ألَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ | *** | وَ كُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ |
أ كُئوسٌ تَلَالاتْ بِمُدَامِ | *** | أمْ شُمُوسٌ تَهَلَّلَتْ بِغَمَامِ |
از صفاى مى و لطافت جام | *** | در هم آميخت رنگ جام و مُدام |
همه جام است و نيست گوئى مى | *** | يا مُدام است و نيست گوئى جام۱ |
و سيتّضح ذلك اليوم أنّ بناء الوجود الشامخ هو بأجمعه من المتجلّيات بجمال الله و من المتدلّيات بجلاله.
محُسن ازل پرده ز رُخ باز كرد | *** | فاش و نهان جلوه آغاز كرد |
نور و ظُلَم شد همه ظاهر ازو | *** | گشت عيان جمله مظاهر ازو |
بافت به هم سلسلهء جزو و كلّ | *** | يافت از آن مرتبه هر خار و گل |
فاش و نهان هر چه بود در نظر | *** | مَظهر حُسنند همه سر به سر٢ |
و ستفهمون آنذاك معنى أنّ الله تعالى، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، بل ستدركون أنّ الْمُلْك لِلَّهِ، الْعِزَّة لِلَّهِ، الْعِلْم لِلَّهِ، الْقُدْرَة لِلَّهِ، الْحَيَاة لِلَّهِ، و أنّ جميع صفات المُلك و السلطان و العزّة و العلم و الحياة و القدرة مختصّة بذات الله المقدّسة.
فنتيجة المطلب -إذَن- أنّ الآيات التي تنسب هذه الصفات إلى الله تعالى يوم القيامة، لا تنسبها من جهة قيام هذه الصفات بتلك الذات المقدّسة في ذلك اليوم، بل من جهة ظهور و بروز هذه الصفات يومئذٍ بحيث ستُدرك الخلائق بأجمعها هذا المعنى في القيامة.
وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ ، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ
وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ.۱
إن الأتباع الذين عقدوا الأمل على متبوعيهم، و أمّلوهم أن يجزوهم على متابعتهم لهم في الجرائم و المظالم و المعاصي التي ارتكبوها، يتوسّلون بهم يوم القيامة لرفع العذاب عنهم، بَيدَ أنّ الرؤساء و المتبوعين لا يقدرون يومئذٍ على شيء، لأنّ القدرة و القوّة مختصّة هناك بالله تعالى، و لأنّ جميع الروابط و السُّبل التي يمكنهم عن طريقها إعانة أتباعهم قد تقطّعت هناك. لذا فإنّهم يجيبونهم: لو كانت لنا قدرة لدفعنا بها العذاب عن أنفسنا. نحن و إيّاكم سواء، يائسون بلا قدرة و لا إرادة و لا اختيار قد فقدنا الوسيلة و الأسباب.
ظهور التوحيد يوم القيامة
و يبيّن قوله تعالى: وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ أنّ جميع سلسلة الروابط الاعتباريّة متعلّقة بالدنيا، و أنّ عنوان التابعيّة و المتبوعيّة، و الآمريّة و المأموريّة، و الرئاسة و المرءوسيّة ستزال جميعها يومئذٍ، فليس هناك من هذه الروابط شيء. و ليس هناك إلّا مخلوقات تعيش بجهة الارتباط بإلهها و ربّها، فهي جميعاً مرتبطة و متعلّقة بنور التوحيد، و ليس لأيّ موجود وجود بنفسه -و لو قيد شعرة- مقابل وجود الله تعالى.
وَ صَرِّحْ بِإطْلَاقِ الْجَمَالِ وَ لَا تَقُلْ | *** | بِتَقْييدِهِ مَيْلًا لِزُخْرُفِ زِينَةِ |
وَ كُلُّ مَلِيحٍ حُسْنُهُ مِنْ جَمَالِهَا | *** | مُعَارٌ لَهُ بَلْ حُسْنُ كُلِّ مَلِيحَةِ٢ |
و تدلّ الآية الكريمة: وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ على عدم قبول شفاعة و لا فدية.
و عند ما لا يأذن الله في أمرٍ ما، فليس هناك تفاوت و اختلاف، سواءً
في هذا العالم أم في ذلك. غاية الأمر أنّ الاستشفاع في هذا العالم، لما كان بغير الله تعالى، فإنّه حين يؤثّر فإنّ تأثيره في الحقيقة من الله تعالى. أمّا في ذلك العالم فمشهود أنّ كلّ عمل يحصل من اي شخص منوط و مرتبط باللَه تعالى و بإذنه.
و لا بدّ لنا من ذكر مقدّمة لتستبين المطالب التي قيلت بشكل أفضل: إنّ هذا العالم، عالم المادّة و الطبع الذي، له سُنن و أسباب، و إنّ الحقائق التي تشكّل هذه الدنيا، مثل الشمس و القمر و النجوم، و الصحراء و الجبل و البحر، و الريح و المطر، و تغييرات الفصول، و اختلاف الليل و النهار، بآثارها و خواصّها التي لا تعدّ، و روابطها و نسبها التي لا تُحصى، لها وجهتان و صورتان:
وجهة خلقيّة و وجهة إلهيّة، صورة خلقيّة و صورة أمريّة تدعى وجه الله. إذَن لهذا الظاهر المحسوس باطن، و هذا الظاهر هو ستار و حجاب عن إدراك الحقائق الباطنيّة.
الظاهر هو الشيء المشهود بالحواسّ الظاهريّة، من الأشياء المرئيّة و المسموعة و المشمومة و المذوقة و الملموسة التي يستند نشوؤها و فقدانها و حدوثها و انعدامها إلى سلسلة علل و معلولات و أسباب و مسبّبات لا تقبل التغيّر و التبدّل في هذا العالم.
وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا.۱
وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا.٢
موجودات هذا العالم تمتلك جانبي الوجه الخلقيّ و الوجه الإلهيّ
فهذا العالم جميعه بنظامه العجيب، و بما فيه من سلسلة الروابط و العلاقات المتينة و الدقيقة، يعمل على أساس هذه السنّة الإلهيّة دون أدنى تخلّف.
و لو سقطت بذرة على الأرض فإنّها لن تنمو إذا لم تُسقَ بالماء، و هكذا فإنّ بذور الخشخاش لن تنمو في زجاجة البذور الموضوعة على رفّ بائع البذور، أمّا لو أخضعنا بذرة الخشخاش هذه إلى سلسلة علل نموّ طبيعيّة، فنثرناها على الأرض، و سقيناها، و كان الجوّ مساعداً، و الشمس ساطعة، لا ينعت تلك البذرة و أورقت.
و نحن نرى أنّ هذه البذرة خاضعة لسلسلة أسباب لا تتغيّر، يتبع بعضها بعضاً، و لا يمكن لأيّ منها التخلّف.
و بالإضافة إلى ظروف البيئة المناسبة، فإنّ هذه البذرة -من حيث تغذيتها- ينبغي أن تبقى في مأمن من الحشرات و الآفات كي تنمو و تخضرّ، و إلّا جرفها السيل، أو أصبحت طعمة للنمل و العصافير.
كما أنّ النطفة يجب أن تُراق في الرحم، و يجب أن تصلها الموادّ الغذائيّة لتطوي مراحل تكاملها، حتّى يطلّ على العالم طفل سويّ ذو ذكاء و قابليّة.
أمّا عن غير هذا الطريق فإنّ بذرة الخشاش لن تتفتّح، و الجنين لن يصبح طفلًا كاملًا سويّاً.
و لو لا الشمس لما اخضرّت شجرة، و ما كانت هناك بيئة يعيش فيها الإنسان و الحيوان، و لو لا قوّة الجاذبيّة و قوّة الدفع لما وجد العالم، و لو انعدمت قوّة الجذب إلى المركز و القوّة الطاردة عنه لما وجد العالم، و لو لا حركة الذرّة لما وجد العالم، و لو لا الحركة الجوهريّة لما وجد العالم.
إنّنا ننسب الموجودات بأجمعها إلى هذه السلسلة من العلل
و المعلولات وفق قوانين صحيحة منطقيّة و فلسفيّة، و هذه السلسلة من العلل كلّها صحيحة غير قابلة للتغيير.
أمّا لو تخطّيتم سلسلة العلل هذه إلى ما فوقها و تطلّعتم إلى ذلك الوجه الإلهي للموجودات، لرأيتم أنّ جميع هذه الموجودات هي بإرادة الله و قدرته، و أنّ ملكوتها بِيَدِ الله تعالى، و حقيقتها الارتباط بالله تعالى الذي أوجدها بلفظ واحد هو «كُن»، و أنه هو الذي يحفظها و يُبقيها. و لشاهدتم أنّ هذه الموجودات من وجهة نظر الوجود سراب باطل بدون ذلك الارتباط، إن أفاض عليها رحمته وُجدت بأسرها، و إلّا كانت كلّها عدماً.
هذا العالم يشبه تماماً مصنعاً لو دخلتموه لشاهدتم آلات عديدة يقومُ كلّ منها بعملٍ خاصّ. فإحدى الآلات تستلم الموادّ الاوّليّة و تحوّلها إلى موادّ أُخرى، ثمّ ترسلها بعد تحويلها إلى آلة أُخرى تجري عليها بدورها تغييراً خاصّاً، ثمّ تبعث بها إلى آلة ثالثة، و هكذا تترك كلّ آلة أثرها في تلك الموادّ، لتصل بعد ذلك إلى الآلة الأخيرة التي تكمل تلك المادّة المطلوبة و ترسلها خارجاً لعرضها للاستفادة منها.
و هكذا فإنّكم ستعجبون حين تشاهدون تلك السلعة، كيف قامت كلّ واحدة من هذه آلات بإنجاز عمل معيّن على تلك المادّة آليّاً دون الاستعانة بالإنسان و رقابته،، بحيث أعدّتها للاستعمال في نهاية المطاف بنحو مرغوب و مطلوب.
أمّا لو خرجتم من المصنع و ذهبتم إلى مقرّ الشركة لرأيتم أنّ الذي حرّك هذا المصنع و نظّمه وفق هذا المعيار و الاسلوب الدقيق، شخص واحد يعمل هذا المصنع بإرادته، و يتوقّف عن العمل بإرادته.
كان هذا من باب التمثيل، بَيدَ أنّ حقيقة أمر وجه الله قياساً للموجودات أرقى جدّاً، و الارتباط أقوى و أمتن كثيراً.
إن جميع سلسلة العلل و المعلولات في هذه الدنيا تنجز عملها بدقّة و نظام فائقين، فالأبوان، و الرفيق، و الشريك، و الزوجة، و الولد، و الرئيس، و الحاكم، و الأرض، و المطر، و النهر، و الشمس، و القمر، و النجوم، و حركة جزر البحر و مدّه و غيرها، يحتلّ كلّ منها مكانه اللائق به، و لها تأثيرها في تأمين حياتنا، و لو زالت حلقة واحدة من هذه السلسلة، و من هذه الروابط في الأسباب و الحوادث، لدّمّر العالم و آل أمره إلى العدم.
هذه هي وجهة الخلق؛ أمّا الوجهة الإلهيّة فهي الارتباط الكامل لهذه السلسلة و لكلّ حلقة من حلقاتها بالله تعالى، حيث إنّ نور التوحيد وحده هو الذي يشعّ من سرادق عالم الغيب على هذه الهياكل، و هو المسيّر لعمل عالم الوجود، فهذه السلسلة برمّتها مأمورة بأمر الله، مطيعة لأمره، و مظاهر آيات جماله و جلاله.
و الوَجْهُ الإلهيّ هذا هو المُشاهد و المحسوس في القيامة، أمّا الوجه الخلقيّ فباطل و سراب زائل.
علّة ظهور نور التوحيد يوم القيامة
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.۱
إن أهل الدنيا غافلون عن هذه الحقيقة لانغمارهم في الطبيعة و أُنسهم بالأسباب و المسبّبات. أمّا حين يردون إلى عالم القيامة حيث لا أثر لهذه الطبيعة و للأسباب و المسبّبات، فإنّهم سيفهمون لبّ الحقيقة و مغزاها: كَانَ اللهُ وَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ.
و جليّ أنّ الأفعال التي تُنسب إلى الله ثابتة و دائمة و مستمرّة، فلا معنى في عالم الالوهيّة للماضي و المضارع. لذا فإنّ جملة وَ الآنَ كَمَا كَانَ تُستنتج من نفس هذا الحديث الشريف، فلا حاجة بنا إلى حديث آخر.
فقدان الموجودات شخصيّتها و كيانها عند ظهور نور التوحيد
إن الله تعالى ما برح موجوداً، لم يكن معه شيءٍ، كما أنه ليس معه شيء الآن. فكيف تُظهر الموجودات السرابيّة الباطلة وجودها مقابل ذات وجود الحقّ جلّ و علا مع أنّ غيرة الحقّ و اسم جلاله ستستأصل أساسها؟!
لقد كان الله سبحانه و سيبقى موجوداً، و صفات الله معه لا تفارقه، فهو سبحانه واحد في ذاته، و في أسمائه و صفاته، و في أفعاله. كان هذا التوحيد معه و سيبقى دوماً. الله سبحانه واحد مُوحَّد في العوالم قاطبة، و لا ينحصر تأثير صفاته في عالم التوحيد على يوم القيامة وحدها، بل هو واحد سواءً هنا أم في القيامة.
لم يكن معه سبحانه شيء، و لن يكون معه شيء، و الآن كما كان، فمن سيكون زيد و عمرو يا ترى؟ و ما ذا ستكون العلل و الأسباب؟
همه هر چه هستند از آن كمترند | *** | كه با هستيش نام هستى برند۱ |
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.٢ سيُشاهد عند طلوع نور التوحيد أنّ هذه الجبال الصلبة الشديدة ليس لها بنفسها قدرة و لا عظمة مقدار قشّة، بينما لو كانت قد تلاشت في الجوّ كالعهن المنفوش حقّاً، لكان لها وجود أيضاً.
بَيدَ أنّ الجبال و الموجودات جميعها بلا استثناء تفقد وجودها و شخصيّتها مقابل ظهور نور التوحيد، إذ اي نور سيكون للشموع الضعيفة شبه المحروقة في عالم بزوغ نور التوحيد؟
نور التوحيد هو الظاهر الوحيد يوم القيامة
و عند ما يتبدّل العالم فإنّ جميع الموجودات ستفقد وجودها تماماً
كقطع الثلج الكبيرة التي تُظهر وجودها في الأودية و الحفر و العقبات شتاءً و هي في منتهى الصلابة، و ما أن تسطع عليها شمس تمّوز حتّى تضمحلّ و تذوب رويداً رويداً و تفقد شخصيّتها كلّيّاً.
طَلَعَ الشَّمْسُ أَيُّهَا الْعُشَّاقُ | *** | فَاسْتَنَارَتْ بِنُورِهِ الآفَاقُ |
و ما أروع و أسمى بيان القرآن الكريم حول اضمحلال الأسباب و العلل و الامور الاعتباريّة في هذه الفقرة:
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.
وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ، وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.۱
و هاتان الفقرتان الأخيرتان في منتهى الطرافة و إثارة العجب في عرضهما كيفيّة ترك الأموال و ضياع الأعوان و الأرحام و الأرقاب و العشيرة، و فقدان الرئيس و الحاكم و المرءوس و الرعيّة في هذه الدنيا، بحيث لا يبقى منها أدنى أثر في عالم ظهور الحقيقة و تمثّل الملائكة كافّة.
لقد قضى الإنسان عُمراً و هو يتلهّى بعشق الموجودات الدنيويّة و بالتولّع بها، و الآن أصبح من الواضح له أنها كانت بأجمعها دُمى و سراباً. لقد أنفق- طوال عمره و أفضل ثرواته الوجوديّة، و هي علمه و حياته و قدرته، في لهو تعشّق الباطل و السراب، و الهيام باناس فارغين
مهزوزين، و بعالمٍ لا اعتبار له و لا وزن. و لقد أجاد الملّا الروميّ حقّاً في بيان هذا المعنى حيث قال:
گر به جهل آیيم آن زندان اوست | *** | ور به علم آیيم آن ايوانِ اوست |
گر به خواب آیيم مستانِ ویيم | *** | ور به بيدارى به دستانِ ویيم |
ور بگریيم أبرِ پُر زَرقِ ویيم | *** | ور بخنديم آن زمان برقِ ویيم |
ور به خشم و جنگ عكسِ قهر اوست | *** | ور به صلح و عذر عكسِ مهر اوست |
ما كیيم اندر جهان پيچ پيچ | *** | چون الف كو خود ندارد هيچ هيچ |
چون الف گر تو مجرّد مىشوى | *** | اندرين ره مَردِ مُفرَد مىشوى۱ |
و أبدع كذلك في إنشاده:
إسْقِنِي يَا رَبِّ كَأسَ الْوَحْدَةِ | *** | سُكْرُهَا يُمحي ظَلَامَ الْكَثْرَةِ |
ساقيا آن بادة وحدت بيار | *** | تا بَرَد از چهره دل اين خُمار |
عشقِ وحدت ار دَمى آيد به كار | *** | مىكشاند مر تو را تا كوى يار |
بشنوى آن دم تو با صوتِ حَسَن | *** | بى مهابا بانگ المُلكُ لِمَن |
ار چه مولى گفته در أُمُّ الكتاب | *** | در قيامت باشد اين بانگ آن جناب |
ليك مطلبها بسى باشد دقيق | *** | گويمت شرح ار بخواهى اى رفيق |
سر برآر از عوالم تا به هُو | *** | تاى تعبير است و ضيق گفتگو |
لب ببند از گفتگو و كُن طواف | *** | سير فى الله را ترا باشد مطاف۱ |
ردّ آنچه مر ترا بسپرده دوست | *** | هر چه هست و نيست ملك و مالِ اوست |
گوش كثرت ار رها بنمودهاى | *** | بى مهابا بانگ حقّ بشنيدهاى |
ليك وا گو با مَنَت آن گوش كو | *** | وَه چهها بنموده كثرت مو به مو۱ |
إن العين الحولاء، و العين الرمداء كانت تخطئ التصوّر في الدنيا، إذ طلب أصحابُها غير الله فيها، و نسوا أحكام التوحيد، و خُيّل إليهم أنّ تلك المتخيّلات السرابيّة لها حقّ العبور و المرور في عالم الحقيقة أيضاً، فاتّضح في القيامة أنّ الأمر ليس كذلك.
مؤخّر عالم شده است مظهر حسن و جمال تو | *** | اى جان بگو كه مظهر جان و جهان كجاست؟ |
مقدّم روى تو ظاهر است به عالم نهان كجاست | *** | گر او نهان بود به جهان پس عيان كجاست؟٢ |
مقولة أمير المؤمنين عليه السلام في التوحيد
قال المرحوم العارف الصمدانيّ و العالم الربّانيّ الحاجّ الميرزا جواد
الملكيّ التبريزيّ رضوان الله عليه في كتاب «أسرار الصلاة»:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: مَا نَظَرْتُ إلَى شَيْءٍ إلَّا وَ رَأيْتُ اللهَ قَبْلَهُ وَ بَعْدَهُ وَ مَعَهُ.۱
و قال في رسالة «لقاء الله»: قال الإمام الصادق عليه السلام:
مَا رَأيْتُ شَيْئاً إلَّا وَ رأيْتُ اللهَ قَبْلَهُ وَ بَعْدَهُ وَ مَعَهُ.٢
لكنّ المرحوم صدر المتألهين رضوان الله عليه يقول: نُقل عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال: مَا رَأيْتُ شَيْئاً إلَّا وَ رَأيْتُ اللهَ قَبْلَهُ. و روي: مَعَهُ وَ فِيهِ.٣ و٤
ياريست مرا وراى پرده | *** | حسن رخ او سزاى پرده |
عالم همه پرده مصوَّر | *** | اشيا همه نقشهاى پرده٥ |
اين پرده مرا ز تو جدا كرد | *** | اينست خود اقتضاى پرده |
نى نى كه ميان ما جدائى | *** | هرگز نكند غِطاى پرده۱ |
الشراب الطهور الملكوتيّ لسالكي طريق لقاء الله تعالي
بلى، لأنّ سالكي طريق لقاء الله قد خطوا خطواتهم بهمّةٍ و قدمٍ في هذا المضمار فقد نالوا قصب السبق فيه، و نفضوا أثوابهم عن أن يعلق بها شيء من العالَمَينِ، فهم لا يعرفون شيئاً غير لقاء المحبوب تعالى فلا يجعلون قصدهم و مقصودهم و هدفهم و معبودهم سواه، و هم الذين فاقوا درجات الإخلاص ليفوزوا بمقام المخلَصين و الأبرار و المقرّبين.
أُولئك الذين تخطّوا الأشياء جميعها بقدم المصابرة و مجاهدة النفس، و غضّوا أبصارهم عمّا سوى الله تعالى، فهم يرونه تعالى مع كلّ شيء و قبل كلّ شيء و بعد كلّ شيء.
دلى كز معرفت نور صفا ديد | *** | ز هر چيز كه ديد اوّل خدا ديد٢ |
هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.٣
ظهور نور التوحيد في المقرّبين و المخلصين
و هنا يصبح لكلّ واحد نصيب من ذلك الشراب الملكوتيّ، فيتحرّر فكره من سكر هوى النفس و يثمل بلقاء الله و أوليائه، و يتجلّى هذا المعنى في الآية:
وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً.٤
و ز سقاهم ربّهم بين جملهء ابرار مست | *** | و ز جمال لايزالى هفت و پنج و چار مست |
تن چو سايه بر زيمن و جان پاك عاشقان | *** | در بهشت عدن تجري تحتها الأنهار مست |
خود چه جاى عاشقان كز جام توحيد خدا | *** | كوه و صحرا و جبال و جملهء اشجار مست۱ |
وَ كَشْفُ حِجابِ الْجِسْمِ أبْرَزَ سِرَّ مَا | *** | بهِ كَانَ مَسْتوراً لَهُ مِنْ سَرِيرَتِي |
وَ مَنْ يَتَحَرَّشْ بِالْجَمَالِ إلَى الرَّدَى | *** | رَأى نَفْسَهُ مِنْ أنْفَسِ الْعَيْشِ رُدَّتِ |
وَ نَفْسٌ تَرَى في الْحُبِّ أنْ لَا تَرَى عَناً | *** | مَتَى مَا تَصَدَّتْ لِلصَّبَابةِ صُدَّتِ |
فَنِلْتُ وَلَاهَا لَا بِسَمْعٍ وَ نَاظِر | *** | وَ لَا بِاكْتِسَابٍ وَ اجْتلَابٍ جِبِلَّةِ |
وَهِمْتُ بِهَا في عَالَمِ الأمْرِ حَيْثُ لَا | *** | ظُهُورٌ، وَ كَانَتْ نَشْوَتِي قَبْلَ نَشْأتِي |
بَدَتْ بِاحْتِجَابٍ، وَ اخْتَفَتْ بِمَظَاهِرٍ | *** | عَلَى صِبَغِ التَّلْوِينِ في كُلِّ بَرْزَةِ |
فَطِبْ بِالْهَوَى نَفْسَاً لَقَدْ سُدْتَ أنْفُس ال | *** | عِبَادِ مِنَ الْعُبَّادِ في كُلِّ امَّةِ |
تَجَمَّعتِ الأهْواءُ فِيها، فَمَا تَرَى | *** | بِهَا غَيْرَ صَبٍّ لَا يَرَى غَيْرَ صَبْوَةِ |
لَئِنْ جَمَعَتْ شَمْلَ الْمَحَاسِنِ صُورَةٌ | *** | شَهدْتُ بِهَا كُلَّ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ |
فَلَو بَسَطَتْ جِسْمِي رَأَتْ كُلَّ جَوْهَر | *** | بِهِ كُلُّ قَلْبٍ فِيهِ كُلُّ مَحَبَّةِ |
وَ لَمَّا نَقَلْتُ النَّفْسَ مِنْ مُلْكِ أَرْضِهَا | *** | بحُكْمِ الشِّرَا منها إِلَى مُلْكِ جَنَّةِ |
رَفَعْتُ حِجَابَ النَّفْسِ عَنهَا بِكَشْفي ال | *** | نقَابِ فَكَانَتْ عَنْ سُؤالِي مُجِيبَتِي |
وَ كُنْتُ جَلَا مِرَآةِ ذَاتِي مِن صَدا | *** | صِفَاتِي وَ مِنِّي أَحدقَتْ بِأشِعّةِ |
وَ أشْهَدْتُنِي إيّاي إذْ لَا سِوَاي في | *** | شُهُودِي مَوْجُودٌ فَيقضِي بِزَحْمَةِ |
فَشَاهِدُ وَصْفي بِي جَلِيِسي وَ شَاهِدِي | *** | بِهِ لِاحْتِجَابِي لَنْ يَحِلَّ بِحِلَّتِي |
كَذَاكَ بِفِعْلِي عَارِفِي بِي جَاهِلٌ | *** | وَ عَارِفُهُ بِي عَارِفٌ بِالْحَقِيقَةِ |
فَلَفْظٌ وَ كُلِّي بِي لسَانٌ مُحَدِّثٌ | *** | وَ لَحْظٌ وَ كُلّي في عَيْنٌ لِعَبْرَتِي |
وَ سَمْعٌ وَ كُلِّي بِالنّدَى أسْمَعُ النِّدَا | *** | وَ كُلِّي في رَدِّ الرَّدَى يَدُ قُوَّةِ |
مَعَانِي صِفَاتٍ مَا وَرَا اللَّبْسِ أثْبَتَتْ | *** | وَ أسْمَاءُ ذَاتٍ ما رَوَى الْحِسُّ بَثَّتِ |
تَحَقَّقْتُ أنَّا في الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ | *** | وَ أثْبَتَ صَحْوُ الْجَمعِ مَحْوَ التَّشَتُّتِ |
وَ كُلِّي لِسَانٌ نَاظِرٌ مِسْمَعٌ يدٌ | *** | لِنُطْقٍ و إدْرَاكٍ وَ سَمْعٍ وَ بَطْشَةِ |
فَعَيْنِي نَاجَتْ وَ اللِّسَانُ مُشَاهِدٌ | *** | وَ يَنْطِقُ مِنِّي السَّمْعُ وَ اليدُ أصْغَتِ |
وَ سَمْعِي عَيْنٌ تَجْتَلِي كُلَّ مَا بَدَا | *** | وَ عَيْنِي سَمْعٌ إنْ شَدَا القوْمُ تُنْصِتِ |
وَ مِنِّي عَنْ أيْدِ لِسَانِي يدٌ كَمَا | *** | يَدِي لي لِسَانٌ في خِطَابِي وَ خُطْبَتِي |
كَذَاكَ يَدِي عَينٌ تَرَى كُلَّ مَا بَدَا | *** | وَ عَيْنِي يَدٌ مَبسُوطَةٌ عِنْدَ بسْطَتِي |
وَ سَمْعِي لِسَانٌ في مُخَاطَبَتِي كَذَا | *** | لِسَانِي في إصْغائهِ سَمْعٌ مُنْصِتِ |
وَ لِلشَّمِّ أحْكَامُ اطِّرَادِ الْقِيَاسِ في اتِّ | *** | حَادِ صِفَاتِي أوْ بِعَكْسِ الْقَضِيَّةِ |
هي النَّفْسُ، إنْ ألْقَتْ هَوَاهَا تَضَاعَفَتْ | *** | قُوَاهَا وَ أعْطَتْ فِعْلَهَا كُلَّ ذَرَّةِ |
وَ إِنّي وَ إنْ كُنْتُ ابْنَ آدَمَ صُورَةً | *** | فَلِي فِيهِ مَعْنى شَاهِدٌ بَأُبُوَّتِي |
وَ مَا كُنْتَ تَدْرِي، قَبْلَ يَوْمِكَ مَا جَرَى | *** | بِأمْسِكَ أوْ ما سَوْفَ يَجْرِي بِغُدوَةِ |
فَأصْبَحْتَ ذَا عِلْمٍ بِأخْبَارِ مَنْ مَضَى | *** | وَ أسْرَارِ مَنْ يَأتي مُدِلَّا بِخِبْرَةِ |
وَ إيَّاكَ وَ الإعْرَاضَ عَنْ كُلِّ صُورَةٍ | *** | مُمَوَّهَةٍ أوْ حَالَةٍ مُسْتَحِيلَةِ |
ألَا هَكَذَا فَلْتَعْرِفِ النَّفْسُ أوْ فَلَا | *** | وَ يُتْلَ بِهَا الْفُرْقَانُ كُلَّ صَبِيحَةِ۱ |
و أنشد حافظ الشيرازيّ عليه الرحمة في هذا المعنى:
هزار جهد بكردم كه يارِ من باشى | *** | مُراد بخشِ دلِ بى قرارِ من باشى |
چراغ ديدهء شبزندهدارِ من گردى | *** | أنيس خاطرِ اميدوارِ من باشى |
چو خسروان مَلاحت به بندگان نازند | *** | تو در ميانه خداوندگارِ من باشى |
در آن چمن كه بُتان دستِ عاشقان گيرند | *** | گرت ز دست برآيد نگارِ من باشي٢ |
شود غزاله خورشيد صيدِ لاغرِ من | *** | گر آهوئى چو تو يكدَم شكارِ من باشى |
من ار چه حافظِ شهرم جُوى نميآرزم | *** | مگر تو از كرمِ خويش يارِ من باشي۱ |
الإعراض عن ذكر الله يسبّب العمى يوم القيامة
فإن جاء و صار حبيبنا و رفيقنا، فإنّه سيجعل أعيننا مُبصرة، و آذاننا سميعة، و لساننا ناطقاً بليغاً، أمّا إن لم يأتِ، و وكلنا إلى أنفسنا، فإنّنا سنقضي عمراً في حجب عنه، و سنكون قد طوينا طريق الإعراض و المجاز بقدر ما نسبنا صفاته إلينا.
وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً ، قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى.٢
نعوذ بالله من أن يعتمد الإنسان في هذه الدنيا على غير الله، فيصبح حينئذٍ خالي الوفاض، أمّا إذا سلك طريق الحبّ للّه و الهيام به و تعامل مع الله و أسراره، و مع الحقائق و الامور الواقعيّة وفق دعاء المولى أمير المؤمنين عليه السلام: وَ اجْعَلْ قَلْبِي بِحُبِّكَ مُتَيَّمَاً؛٣ و غسل أثوابه من
لوث الاعتبار و دنس المجاز، لصار آنذاك حبيب الله، و يد الله، و روحالله، و ولى الله.
أ فللّه حبيب و خليل يا ترى؟ إنّ هذه بأجمعها أسماء الله قد أنعم بها على المقرّبين و المخلصين.
فبأيّ كيفيّة كان أمير المؤمنين عليه السلام أسد الله، يد الله، لسان الله، عين الله، و فضل الله!
إن المرء لو سلك سبيل مودّة ذلك المولى و محبّته، و قَبِلَ ولايته بصدق و صفاء نقيّين من الغشّ و الدغل، و كان في طاعته إيّاه ملبّياً لا يعترض و لا يُناقش؛ فإنّ ذلك الإمام سَيُريه طريق سماء المعرفة، و سيفتح له ما استغلق من الأقفال بالمفتاح الذي وهبه الله إيّاه؛ و سيرفع عنه الحجب الظلمانيّة و النورانيّة.
گر در ره عاشقى قدم صدق نهي | *** | معشوقه باوّل قدمت پيش آيد۱ |
فالإمام سيتلقّى الإنسان و يلتقي به و يقضي له حوائجه و يرفع فاقته.
نجاة عمران بن شاهين من عضد الدولة ببركة أمير المؤمنين
ينقل المجلسيّ رضوان الله عليه عن كتاب جاء فيه عن الشيخ حسن بن الحسين بن الطحّال المقداديّ، عن أبيه، عن جدّه عليّ بن الطحّال أنه قال: حكي أنّ عمران بن شاهين من أهل العراق عصى على عضد الدولة الديلمي. فطلبه حثيثاً، فهرب منه إلى النجف الأشرف متخفيّاً، فرأى أمير المؤمنين عليه السلام في منامه و هو يقول له: يا عمران! في غد يأتي فنا خسرو إلى هاهنا فيخرجون مَن بهذا المكان، فتقف أنت هاهنا- و أشار إلى زاوية من زوايا القبّة فإنّهم لا يرونك. فسيدخل و يزور و يصلّي
و يبتهل في الدعاء و القسم بمحمّد و آله أن يُظفره بك، فادنُ منه و قل له: أيّها الملك! مَن هذا الذي قد ألححتَ بالقسم بمحمّد و آله أن يظفرك به؟
فسيقول: رجلٌ شقّ عصاي و نازعني في مُلكي و سلطاني.
فقل: ما لمن يظفرك به؟
فيقول: إن حتّم عَلَيَّ بالعفو عنه عفوتُ عنه.
فأعلمه بنفسك فإنّك تجد منه ما تريد. فكان كما قال له. فقال: أنا عمران بن شاهين. قال: مَن أوقفك هاهنا؟
قال له: هذا مولانا قال في منامي: غداً يحضر فنا خسرو إلى هاهنا، و أعاد عليه القول.
فقال له: بحقّه قال لك: فنا خسرو؟
قلت: اي و حقّه!
فقال عضد الدولة: ما عرف أحد أن اسمي فنا خسرو إلّا اميّ و القابلة و أنا. ثمّ خلع عليه خلعة الوزارة و طلع من بين يديه إلى الكوفة. و كان عمران بن شاهين قد نذر عليه أنه متى عفا عنه عضد الدولة أتى إلى زيارة أمير المؤمنين عليه السلام حافياً حاسراً. فلمّا جنّة الليل خرج من الكوفة وحده. فرأى جدّي عليّ بن طحّال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في منامه و هو يقول له: اقعد افتح لولييّ عمران بن شاهين الباب!
فقعد و فتح الباب، و إذا الشيخ قد أقبل، فلمّا وصل قال له: بسم الله يا مولانا. فقال، و من أنا؟ فقال: عمران بن شاهين!
قال: لستُ بعمران بن شاهين. قال: بلي! إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أتاني في منامي و قال لي، اقعد افتح لولييّ عمران بن شاهين!
قال له، بحقّه هو قال لك؟ قال، اي و حقّه هو قال لي.
فوقع على العتبة يقبّلها، و أحاله على ضامن السمك بستّين ديناراً،
و كان له زوارق تعمل في الماء في صيد السمك.
ثمّ يقول المجلسيّ: و بني الرواق المعروف برواق عمران في المشهدين الشريفين الغرويّ و الحائريّ على مشرّفها السلام.۱
يا على گر به حشر قنبر تو سايه بر گبر محشر اندازد | *** | جاى دارد كه ابر رحمت گبر سايه بر اهل محشر اندازد٢ |
هُوَ النَّبَأُ الْمَكْنُونُ وَ الْجَوْهَرُ الَّذِي | *** | تَجَسَّدَ مِنْ نورٍ مِنَ الْقُدْسِ زَاهِرِ |
ألَا إنَّمَا الإسْلَام لَوْ لا حُسَامُهُ | *** | كَعَفْطَةِ عَنْزٍ أوْ غُلَامَةِ حَافِرِ |
ألَا إنَّمَا التَّوْحِيدُ لَوْ لا عُلُومُهُ | *** | كَعَرْضة ضِلِّيلٍ وَ نَهْبَةِ كَافِرِ |
صِفَاتُكَ أسْمَاءٌ وَ ذَاتُكَ جَوْهرٌ | *** | بِرِيٌ الْمَعَانِي مِنْ صِفَاتِ الْجَوَاهِرِ |
يِجِلُّ عَنِ الأعْرَاضِ وَ الأيْنِ وَ الْمَتَى | *** | وَ يَكْبُرُ عَنْ تَشْبِيهِهِ بِالْعَناصِر٣ |
المَجْلِسُ الثَامِنُ وَ الْعِشْرُون: خَفَاءُ جَانِب وَجْهِ الْخَلْقَ وَ ظُهورَ جَانِب وَجْه اللهِ في القِيَامَة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.۱
و هي مقطع من آخر آية في سورة القصص، و تمام الآية:
وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
و كما هو مُلاحظ فقد وردت فقرات خمس في هذه الآية:
الاولى: لا تدعُ مع الله إلهًا ءاخر.
الثانية: لا إله إِلّا هو.
الثالثة: كلّ شىْءٍ هالك إلّا وجهه.
الرابعة: له الحُكم.
و الخامسة: إليه ترجعون.
و في الحقيقة فإنّه بعد بيان تكليف عدم جواز دعوة إله آخر مع الله، جاءت الفقرات الأربع الاخرى في مقام التعليل للفقرة الاولى.
إذَن، على الإنسان أن لا يدعو موجوداً غير الله تعالى، و لا يشركه معه، إذ لا معبود و لا إله إلّا الله، و لأنّ كلّ شيء فانٍ و هالك إلّا وجهه، و لأنّ الحكم له و مختصّ به، و أخيراً لأنّ رجوع الناس إليه.
كلّ شيء هالك و فانٍ فعلًا عدا وجه الله تعالي
يضاف إلى ذلك أنّ الفقرة الثالثة و هي شاهد كلامنا، يمكن أن تكون تعليلًا للفقرة الثانية، اي: لا إله و لا معبود إلّا الله لأنّ كلّ شيء فانٍ و هالك إلّا وجهه.
و على ذلك لما كان كلّ شيء فانياً و هالكاً إلّا وجه الله، فإنّ على الإنسان ألّا يدعو غير الله سبحانه، لأنّ وجه الله هو الله نفسه، و دعوة الله بوجهه هي دعوة له تعالى. و على الإنسان أن يدعو الموجود الباقي لا الموجود الهالك الفاني، و هو الله الذي لا إله إلّا هو، له الأمر و الحكم، و إليه ترجعون.
هل يرجع ضمير المضاف إليه في (وجه) إلى اللَّهِ أو إلىالشي؟
إذا كان مرجع الضمير هو الله: أنّ كلّ شيء فان و هالك إلّا وجه الله. و إذا كان مرجعه هو الشيء فسيكون المعنى: كلّ شيء فانٍ و هالك إلّا وجه ذلك الشيء.
و المعنى صحيح في الحالتين كليهما، لأنّ وجه الشيء مقابل نفس الشيء الفاني، فما يبقى هو الوجهة الباطنيّة للأشياء وجهة ارتباطها بالله تعالى، الذي هو في الحقيقة وجه الله نفسه.
بَيدَ أنه بالنظر إلى الجِناس في العبارة، فإنّ قوله: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» قد ورد في الجملة السابقة و فيه أنّ الضمير «هُوَ» عائد إلى اللَّهِ تعالى، لذا من المناسب أن يعود الضمير في «وَجْهَهُ» إلى الله تعالى أيضاً.
فهذه الآية -إذَن- لا تريد القول إنّ جميع الأشياء تهلك و تفنى و يصيبها البوار و العدم مستقبلًا إلّا وجه الله تعالى، بل تدلّ على أنّ جميع
الأشياء فانية و هالكة، و هي فانية و هالكة فعلًا.
ذلك أنّ كلمة «هالِكٌ» من المشتقّات، و المشتقّات هي حقيقة في خصوص من تلبّس بالمبدأ، أمّا في سوى ذلك- و خاصّة في المضارع و المستقبل فاستعمالها مجاز، و لا يمكن حمل العبارة على ذلك دون الإتيان بقرينة.
إذَن طُبع خَتم البوار و الهلاك و البُطلان على الموجودات جميعها، وفق مفاد هذه الآية الكريمة، فالموجودات هي في عين وجودها فانية و باطلة و معدومة. و في ضوء هذا المفاد وردت الآية الكريمة:
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ.
فإنّ «فانٍ» يعني أنها فانية فعلًا، لا أنها سترتدي خلعة الفناء مستقبلًا فيبقى آنذاك وجه الله تعالى.
و نقرأ من جهة أُخرى قوله: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.
فوجه الله -إذَن- في كلّ مكان، و قد أحاط وجهه الموجودات كلّها. و ما أفادته تلك الآية في أنّ وجه الله باقٍ على الدوام، يستنتج منه أنّ الموجودات باقية على الدوام.
بينما يقول سبحانه في صدر الآية: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ. فكيف يمكن القول إنّ الموجودات بأسرها هالكة و فانية غير وجه الله، في حين أنها ثابتة باقية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تتمّ بنفس النظرة التي ذكرناها، و هي أنّ الموجودات و الأشياء التي يمكن أن تتّخذ طابع الشيئيّة لها وجهان: وجه خلقي، و وجه أمريّ، اي: لها صورة و وجه استقلاليّ خلقيّ، و صورة و وجه إلهيّ. فمن حيث الوجه الخلقيّ نرى أنّ الموجودات برمّتها فانية و هالكة و باطلة، أمّا من حيث وجه الله فإنّ الموجودات كلّها باقية لا يطرأ
عليها الزوال و الفناء و البوار و لا يصيبها أبداً.
و هذا هو المطلب الذي أثبت في الفلسفة الإلهيّة و هو أنّ الوجود ناقض و طارد للعدم، و أنّ الشيء الموجود المرتدي لباس الوجود بالرغم من إمكان تغيّر شكله و صورته فيما بعد أو انعدامه في زمان لاحق، إلّا أنه مع تلك الخصائص جميعها، بما فيها ملاحظة الزمن و سائر الخصائص و المواصفات، لا يمكن أن يعدم بعد وجوده مع تلك الشرائط و الخواصّ، و لا يُمكن أن يقال للوجود عدماً، لأنّ المفهوم القائل (الوجود و العدم مفهومان متناقضان) من المفاهيم البديهيّة الأوّليّة.
و هذا المطلب الذي أوضحه القرآن الكريم مطلب دقيق جدّاً و جدير بالتفكّر و التأمّل و هو أنّ الموجودات و الأشياء بالرغم من حفظها لوحدتها، فإنّ أصالتها مرتبطة بجهة وجه الله تلك. و بناءً على تلك الجهة فإنّ الموجودات قاطبة موجودة لا يطرأ عليها البوار و الزوال. أمّا بناءً على الجهة الخلقيّة فإنّ الموجودات جميعها زائلة بلا شكّ. هذا إذا كان كلّ موجود شيئاً واحداً لا ينقسم و لا يتجزّأ إلى جزءين أو قسمين لنقول إنّ جزءاً منه زائل و الآخر باقٍ ثابت.
الوجه الخلقيّ للأشياء فانٍ على الدوام، و وجهها الإلهيّ باقٍ على الدوام
و عليه فإنّ هذا الفناء الذي نحسّه في الموجودات، و ما تذكره الآيات القرآنيّة المباركة في ظهور القيامة أنّ الشمس تنكسف، و النجوم تنكدر و تتهاوى و تتناثر، و الأرض تسطّح و تمدّ، و السماء تنشقّ و تنصدع، و البحار تسجّر و تفور، و الأشياء بأسرها تفنى و تبطل و تعطّل، و هذا النظام كلّه زائل و فان، هذه الأشياء بأجمعها من حيث وجه الخلق.
أي: أنّ شيئيّتها من جهة وجه الخلق التي ينظر إليها الإنسان فانية و هالكة بأجمعها، أمّا من جهة وجه الله، فإنّ الموجودات كافّة، بما فيها هذه السماء و الأرض، و هذه الجبال و البحار، ثابتة وطيدة، لأنّ وجه الله
باقٍ لا يزول. و هذه النتيجة تستند إلى الآيات التي ذكرناها إذ ليس هناك موجود إلّا و فيه وجه الله، لأنّ وجه الله موجود في كلّ موجود. و أنّ كلّ موجود لا يوجد حتّى يكون فيه عنوان وجه الله، اي: حتّى يكون فيه ارتباطه الملكوتيّ بالله تعالى، فوجود الموجود مرتبط بالجانب الملكوتيّ و الوجه الإلهيّ. و عليه فإنّ وجه الله موجود في الموجودات برمّتها.
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.۱
و من ذلك المنظار فإنّها لا فناء لها و لا بطلان.
الروايات الواردة في فناء الوجه الخلقيّ و بقاء الوجه الربّيّ
و قد وردت روايات تثبت الوجود للموجودات، للسماء و الأرض، و الزمان في الوقت الذي تدلّ فيه على زوال هذه الموجودات عند حلول القيامة و تجلّيها. فهي تقول إنّها موجودة في نفس الوقت الذي تقول إنّها معدومة. فهو وجود -إذَن- في عين الفناء و العدم، و عدم و فناء في عين الوجود و الأصالة. و هذه مسألة جديرة بالتأمّل و الدقّة، و ينبغي الالتفات جيّداً إلى أمر معيّن، و هو: ما مفاد و مفهوم هذه الروايات؟
يقول أمير المؤمنين ضمن خطبة في نهج البلاغة:
و إن الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها بلا و قت و لا مكان و لا حين و لا زمان. عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات، و زالت السنون و الساعات. فلا شيء إلا الواحد القهار، الذي إليه مصير جميع الامور.٢
فأمير المؤمنين عليه السلام يقول هنا: إنّ الله سيكون وحده لا شيء معه، كما كان من قبل وحده لا شيء معه، و إنّ الساعات و الحين و الأجل
و الزمان ستزال و تطوى، و إنّ مصير الكلّ إلى الله تعالى.
و يستفاد من هذا أنّ هناك أُموراً لا تزول و لا تصبح عدماً صرفاً، و أنّ لها عودة و رجوعاً، و أنّ عودتها و مآلها إلى الله سبحانه.
يروي عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره، في ذيل آية «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ»، بسنده عن عبيد بن زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه عليه السلام قال:
ثُمَّ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: لِمَنِ الْمُلْكُ اليَوْمَ؟ فَيَرُدُّ عَلَى نَفْسِهِ: اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، أيْنَ الَّذِينَ ادَّعَوا مَعِيَ إلَهاً آخَرَ؟ أيْنَ الْمُتكَبِّرُونَ؟۱
و يلاحظ في هذه الرواية أنه أثبت لذاته المقدّسة اسم الواحد و اسم القهّار، و أنّ هذين الاسمين عالمان موجودان.
كما يروي عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره في ذيل آية (نفخ الصعق) رواية عن ثوير بن أبي فاختة، عن الإمام السجّاد عليه السلام، و قد أوردنا هذه الرواية ضمن البحث في نفخ الصور؛ و من جملة فقراتها:
فَعِنْدَ ذَلِكَ يُنَادِي الْجَبَّارُ بِصَوْتٍ مِنْ قِبَلِهِ جَهْوَرِيٍّ يَسْمَعُ أقْطَارُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرَضِينَ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فَلَا يُجِيبُهُ مُجِيبٌ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْجَبَّارُ مُجِيباً لِنَفْسِهِ: اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.٢
و يستفاد من هذه الرواية أيضاً أنّ هناك صوتاً يومئذٍ، و هو صوت جهوريّ، و أنّ السماوات و الأرض موجودة أيضاً، و أنّ أقطارها و نواحيها قاطبة تسمع صوت الله تعالى، فليس من مُجيب له. إذَن فالسماء و الأرض موجودتان آنذاك.
و ينقل الصدوق في «التوحيد»، بسنده عن الإمام الرضا عليه السلام رواية يستشهد في سياقها بكلام أمير المؤمنين عليه السلام، حيث يفسّر الإمام معاني حروف الهجاء، فيقول عن حرف الميم:
فَالْمِيمُ مُلْكُ اللهِ يَوْمِ الدِّينِ يَوْمَ لَا مَالِكَ غَيْرُهُ؛ وَ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ ثُمَّ تَنْطِقُ أرْوَاحُ أنْبِيائِهِ وَ رُسُلِهِ وَ حُجَجِهِ فَيَقُولُونَ: اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.۱
و يستفاد من هذه الرواية أنّ أرواح الأنبياء و المرسلين و الحجج الإلهيّة موجودة في ذلك الزمان.
كما يروي الصدوق في «الأمالي»، عن جميل بن درّاج، عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:
ا ذَا أرَادَ اللهُ أنْ يَبْعَثَ الْخَلْقَ أمْطَرَ السَّمَاءَ أرْبَعِينَ صَبَاحاً، فَاجْتَمَعَتِ الأوْصَالُ، وَ نَبَتَتِ اللُّحُومُ.٢
و ورد في هذه الرواية عنوان أربعين صباحاً و ذُكر فيها المطر، فهذه الأشياء موجودة إذَن.
و ينقل الشيخ الطبرسيّ في «الاحتجاج» ضمن حديث مفصّل جدّاً عن عبد الله بن سنان، في احتجاج الإمام الصادق عليه السلام على الزنديق، و فيه أنّ الزنديق سأل قائلًا: أ فَتَتَلَاشَى الرُّوحُ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ قَالَبِهِ، أمْ هُوَ بَاقٍ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بَلْ هُوَ بَاقٍ إلَى وَقْتِ يُنْفَخُ في الصُّورِ؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَبْطُلُ الأشْيَاءُ وَ تَفْنَى فَلَا حِسَّ وَ لَا مَحْسُوسَ، ثُمَّ اعِيدَتِ الأشْيَاءُ كَمَا بَدَأها مُدَبِّرُهَا؛ وَ ذَلِكَ أرْبعمِائَة سَنَةٍ؛ يَسْبُتُ فِيهَا
الْخَلْقُ، وَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ.۱
و مع أنّ هذا الكلام صريح في أنّ الأشياء جميعها ستزول، فلا حسّ و لا محسوس، إلّا أنّ المستفاد منه هو أنّ الفترة بين النفختين أربعمائة سنة، فيتّضح من ذلك أنّ هناك زماناً، يضاف إلى أنه عليه السلام يقول يَسْبُتُ فيهَا الْخَلْقُ لا أنهم يفنون و يصبحون عدماً صرفاً.
و بعد حوار آخر، يستوضح فيه الزنديق الإمام، فيقول عليه السلام ضمن إجابته له:
فَإِذَا كَانَ حِينَ الْبَعْثِ مُطِرَت الأرْضُ مَطَرَ النُّشُورِ، فَتَرْبُو الأرْضُ ثُمَّ تُمَخَّضُوا مَخْضَ السِّقَاءِ، فَيَصِيرُ تُرَابُ الْبَشَرِ كَمَصِيرِ الذَّهَبِ مِنَ التُّرَابِ إذَا غُسِلَ بِالْمَاءِ، وَ الزَّبَدِ مِنَ اللَّبَنِ إذَا مُخِضَ، فَيَجْتَمِعُ تُرَابُ كُلِّ قَالِبٍ إلَى قَالِبِهِ، فَيَنْتَقِلُ بِإِذْنِ اللهِ الْقَادِرِ إلَى حَيْثُ الرُّوحِ، فَتَعُودُ الصُّوَرُ بِإِذْنِ الْمُصَوِّرِ كَهَيئَتِهَا وَ تَلِجُ الرُّوحُ فِيهَا، فَإِذَا قَدِ اسْتَوى لَا يُنْكرُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً.٢
و ورد في هذه الفقرة من الرواية أيضاً تعبير «مطرت الأرض» فيستبين أنّ هناك مطراً، و أنّ هناك أرضاً، و أن للأرض حركة و مخضاً كمخض السقاء.
إحياء جبرئيل شخصين ميّتين لرسول الله في البقيع
و كذلك يروي عليّ بن إبراهيم في تفسيره، عن أبيه، عن ابن أبي عُمير، عن جميل بن درّاج، عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:
إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحاً فاجتمعت الأوصال و نبتت اللحوم. و قال أتى جبرئيل رسول الله صلّى الله عليه و آله فأخذ بيده و أخرجه إلى البقيع فانتهى به إلى قبر فصوت بصاحبه فقال: قُم بإذن الله! فخرج منه رجل أبيض الرأس و اللحية يمسح التراب
عن وجهه و هو يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ اللهُ أكْبَرُ. فقال جبرئيل: عُد بإذن الله. ثمّ انتهى به إلى قبر آخر فقال: قُم بإذن الله! فخرج منه رجل مسوّد الوجه و هو يقول: يَا حَسْرَتَاهُ يَا ثُبُورَاهُ. ثمّ قال له جبرئيل: عُد إلى ما كنتَ فيه بإذن الله. فقال: يا محمّد! هكذا يُحشرون يوم القيامة، فالمؤمنون يقولون هذا القول و هؤلاء يقولون ما ترى.۱
الإشكالات الواردة على انعدام الزمان بين نفخي الصور
و نرى أيضاً في هذه الرواية مجيء عنوان المطر و عنوان الأربعين صباحاً. و أمثال هذه الروايات أو أمثال هذه التعابير كثير و جمّ، و ذكرنا هذه المجموعة من الروايات كنموذج و مثال. و هي جميعها تدلّ على عدم بقاء اي موجود، و على أنّ الموجودات ستزول و تبطل، و أنّ الله تعالى سيبقى دون سواه، فـ «لَا حِسَّ وَ لَا مَحْسُوسَ».
و على هذا، فما معنى التقدير بالزمان في قوله «أرْبَعمِائَة سَنَة ... بَيْنَ النَّفْخَتَينِ»؟
إذ إنّ الزمان هو نفسه أحد الموجودات و سيزول أيضاً. إذَن فإنّ التقدير بالسنوات الأربعمائة -مع أنّ الموجودات كلّها تزول فلا يبقى غير ذات الله الواحد القهّار. فلا حسّ و لا محسوس- أمرٌ لا ينسجم مع سياق الرواية.
و نعلم من جهة أُخرى أنّ الموجودات بأسرها لو فنيت و زالت، فإنّ الزمان سيزول و ينعدم أيضاً، فالإعادة -إذَن- لن تكون ذات معنى.
إذ إنّ تعبير «اعِيدَتِ الأشْيَاءُ» يعني أنّ هناك شيئاً كان موجوداً ثمّ فنى و انعدم، فأعاده الله تعالى في زمان آخر.
و حينما ينعدم الزمان و يفنى كلّيّاً، فإنّ ذلك الشيء الذي يريد الله
إيجاده الآن لا يحمل عنوان العَوْد، إذ ليس هناك زمان.
و لو كان هناك زمان، لقلنا في الزمن الأوّل: خَلَق، ثمّ أماتَ، ثمّ أعادَ. أمّا إذا لم يكن زمان في البين، فلن يكون هناك عنوان الإعادة. و عليه فإنّ تلك الموجودات التي يوجدها الله تعالى ليس لها مَعاد، فقد أوجد سابقاً موجودات معيّنة، و يوجِد موجودات أُخرى بعدُ، فهذه الموجودات لا تمتلك عنوان التأخّر نسبة إلى السابق فنقول: إنّها عادت.
ذلك أنّ الزمان قد أُزيل، فلا عنوان للتقدّم و التأخّر، و صارت نسبة الموجودات السابقة و اللاحقة سواء، فلا سبق و لا لحوق لأحدها بالنسبة إلى الآخر، و لا (قبلُ) في الأمر و لا (بعدُ). لأنّ الزمان هو الذي ينسّق الموجودات في نظام واحد و يرتّبها كحبّات المسبحة و كصفحات الكتاب، و يمنحها عنوان التقدّم و التأخّر.
و كما أننا لا يمكن أن ننسب الموجودات السابقة إلى الزمان السابق -لأنّ الزمان لما أُزيل فليس من معنى بعدُ للزمن الحاضر- فإنّنا لا يمكننا كذلك أن نقول للموجودات اللاحقة أنها لا حقة.
هلمّوا و اعكسوا الأمر هنا و قولوا إنّ تلك الموجودات السابقة هي معاد هذه الموجودات اللاحقة، إذ عند ما ينعدم تدرّج الزمان و يزول تحقّق عنوان التقدّم و التأخّر و اللحقوق و السبق، فما الفرق بين أن نعتبر الموجودات اللاحقة معاداً للموجودات السابقة أو أن نعكس الأمر فنضع السابقة معاداً للّاحقة؟ و في ضوء افتراض انعدام الزمان كلّيّاً، فإنّ عنوان العود و المعاد و العودة و الرجوع و المآل و جميع الألفاظ التي تفيد هذا المعنى ستفقد معناها، و ستكون الموجودات اللاحقة موجودات أوجدها الله ابتداءً، و يكون عنوان اللحوق لها مجرّد تعبير و لقلقة لسان.
و هذه المسألة مسألة مهمّة، و هذا الإشكال ينبغي حلّه، كما أنّ هذه
الروايات لا يمكن تخطّيها و رفضها و طرحها جانباً، إذ إنّها كلمات الأئمّة الذين هم معدن العلوم و مستودع أسرار الغيب و المعارف الإلهيّة، إنّه كلام أمير المؤمنين و السجّاد و الصادقَينِ عليهم السلام، و لا يمكن أن نغضّ الطرف عنها.
و هؤلاء الأئمّة هم مفسّر و القرآن، و هم المستقرّون في منهل المعرفة، و العالمون بحقائق كتاب الله و بواطنه، و باطن معاني آيات القرآن و روحها في متناول أيديهم.
قال جدّنا العلّامة المجلسيّ رضوان الله عليه بعد أن ذكر الخبر المرويّ عن «الاحتجاج» للشيخ الطبرسيّ في خبر الزنديق الذي كان يطرح أسئلة على الإمام الصادق عليه السلام و يسأل عن بقاء الروح بعد الموت، و أجاب الإمام بالبقاء، و قال إنّ بين النفختين أربعمائة سنة: هذا الخبر يدلّ على فناء الأشياء و انعدامها بعد نفخ الصور، و على أنّ الزمان أمر موهوم و إلّا فلا يمكن تقديره بأربعمائة سنة بعد فناء الأفلاك، و يمكن أن يكون المراد ما سوى الأفلاك، أمّا ما سوى فلك واحد يتقدّر به الأزمان.۱
و قال أُستاذنا العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه العالي٢ في تعليقته على كلام العلّامة المجلسيّ: ظاهرُ الخبر بطلانُ الأشياء و فناؤها بذواتها و آثارها، فيشكل حينئذٍ أوّلًا بأنّ بطلان الأشياء و حركاتها يوجب بطلان الزمان، فما معنى التقدير بأربعمائة سنة؟
و ثانياً أنّ فرض بطلان الأشياء مع بطلان الزمان لا يُبقى معنى
للإعادة، إذ مع بطلان الزمان و انقطاع اتّصال ما فرض أصلًا و ما فرض معاداً يبطل نسبة السابقيّة و اللاحقيّة بينهما و لا معنى للإعادة حينئذٍ. و أمّا ما ذكره المؤلّف قدّس سرّه الشريف أوّلًا من احتمال كون الزمان أمراً موهوماً، فلا يدفع الإشكال لاستلزامه بطلان كلّ تقدّم و تأخّر زمانيّ في العالم حتّى قبل نفخ الصور، و لا يمكن الالتزام به. و ما ذكره ثانياً: أنّ المراد بطلان ما سوى الأفلاك فهو ممّا يأبى عنه لسان الخبر و الخبر الآتي، على أنّ ما اعتمد عليه في ثبوت وجود الأفلاك لو تمّ لدلّ على وجوب اشتمال الفلك على عالم العناصر في جوفه. و ما ذكره من كون المراد بطلان الأشياء ما سوى فلك واحد يتقدّر بها الزمان يشكل عليه ما يشكل على سابقه، و يزيد أنّ هذه الفلك على فرض وجودها تقدّر الزمان بحركتها الوضعيّة، و لا معنى للحركة الوضعيّة مع انعدام الأشياء الخارجة من الفلك، و هو ظاهر. على أنّ فرضيّة وجود الأفلاك البطليموسيّة ممّا اتّضح فسادها في هذا العصر؛ و الرواية مع ذلك كلّه غير مطروحة و لبيان معناها الدقيق محلّ آخر ذو مجال وسعة- انتهى.۱
الطريق الوحيد لحلّ الإشكال في روايات نفخ الصور المحدّدة بزمن معيّن
و لقد كان كلام الاستاد العلّامة في ردّه على المرحوم المجلسيّ في غاية المتانة و الإتقان. و يمكن أن يكون ذلك المعنى الدقيق الذي أشار إليه هو المعنى الذي نعبّر عنه بوجه الخلق و وجه الربّ. كما أنّ العلّامة يعتقد في رسالته الخطّيّة في المعاد بجهتي الفناء و البقاء، و ببطلان سلسلة علل هذا العالم و أسبابه، و بإشراق نور التوحيد في ذلك العالم. و مُحَصّلُ الجَوابِ هُوَ الَّذِي أعْطَاهُ القرآنُ الكريم.
و هذه الأخبار في الوقت الذي تنفي فيه السماء و الأرض، فإنّها
تثبتهما أيضاً، و بينما تنفي الساعات و السنوات و الآجال و الأزمنة، فإنّها تثبت الأجل و السعة و الزمن و السنة.
أي: أنها تريد القول إنّ هذه جميعها فانية، لكن بفنائها هي، و إنّها جميعاً باقية، و لكن ببقاء الحقّ، كما أنّ القول قد سبق بأنّ للموجودات وجهين: وجهة خلقيّة، و وجهة خالقيّة. فالوجهة الخلقيّة كلّها فانية، قد حتّم عليها جميعاً البوار و الهلاك و البطلان، و طُبع على جبينها بخاتم الزوال.
أمّا الوجهة الخالقيّة فهي وجهة باقية، موجودة بوجود الله تعالى، و هذا أمر غير قابل للزوال: كلّ شيء هالك إلّا وجهه.
و العجيب هنا أننا نتخيّل أنّ هذه السماوات و الأرض و كلّ ما هو موجود هالك جميعاً إلّا وجه الله، و أنّ وجه الله أمر موهوم خياليّ لا أصالة له و لا اعتبار و لا قوام.
مع أنّ الأمر على عكس ذلك تماماً، فهذه الموجودات المحسوسة اللافتة للنظر التي ملأت العالم كلّه، أصالتها و حقيقتها هي جانب وجه الله، و هي موهومة خياليّة بغير وجهتها الإلهيّة، اي: أنّ وجهتها الخلقيّة ضعيفة و موهومة كَبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، لا أساس لها و لا اعتبار، فهي سراب فحسب.
ما أكثر ما جرى الكلام عن هذه الوجهة في القرآن الكريم و الأخبار بتعبيرات لطيفة أُخرى تماثل هذا التعبير!
اثنينيّة جانبي الوجه الخلقيّ و الوجه الإلهيّ بلحاظ النظر الاعتباريّ و الحقيقيّ
و يجب أن نرى الآن كيف تمتلك الموجودات وجهتين مع أنها شيء واحد! فكيف -ترى- يصبح الواحد اثنينا؟ و ما هو منشأ هذا التعدّد في الوجه الذي عبّرنا عنه بوجه الخلق و وجه الربّ أو وجه الخالق أو وجه الله؟ و ما هما الأصلان المختلفان اللذان هما منشأ و أساس هذين العنوانينِ؟
هل كان جانبا وجه الخلق و وجه الله جزءين خارجيّين في الموجودات، بحيث يوجد كلّ موجود بواسطة مزج و تركيب ذينك الجزءين؟ كما هي الحال في المركّبات الخارجيّة مثل العقيق الذي يحصل إثر تفاعل عنصرين أو أكثر، فيرتديان لباس الوحدة و يصبحان شيئاً واحداً؟
و هل هذان الجانبان و الجهتان جزءان تحليليّان عقليّان كالناطقيّة و الحيوانيّة التي أنتج مجموعهما مفهوم الإنسانيّة، بحيث صارت حقيقتا الحيوان و الناطق في الخارج إنساناً؟
في الحقيقة أنّ في الخارج موجوداً واحداً فقط باسم الإنسان، لكنّ العقل حين ينظر إليه بمجهره الدقيق، فإنّه يرى جهة اشتراك مع سائر الحيوانات المتحرّكة ذات الإرادة تعود منه إلى الحيوان؛ كما يرى جهة مختصّة بالإنسان، و هي قابليّة إدراك المعاني الكلّيّة المعبّر عن صاحبها بالناطق. إلّا أنّ منشأ هذا التحليل العقليّ في النهاية أمران خارجيّان هما حقيقتا الحيوان و الناطق في الخارج، و هاتان الحقيقتان هما شيء واحد في الخارج، إلّا أنّ منشأ انتزاع هذين العنوانين العقليّين من الخارج متعدّد.
الوجه الخلقي مجازيّ، و الوجه الإلهيّ حقيقيّ
أو أنّ هذين العنوانين: وجه الخلق و وجه الخالق ليسا منشأ الانتزاع الخارجيّ في عين وحدة الأشياء، بل إنّ وجه الخلق أمر اعتباريّ، و وجه الخالق أمر واقعي حقيقيّ؟
و عليه فإنّ الاختلاف بين هذين الوجهين هو اختلاف المجاز و الحقيقة، و الباطل و الصحيح، و النظر البدائيّ و النظر النهائيّ، و السراب و الماء.
أمّا في نظر الأفراد الذين ينظرون إلى هذا العالم بناءً على سلسلة العلل و الأسباب المستقلّة، فإنّ وجهها الخلقيّ موجود؛ و أمّا في نظر الأفراد الذين
تغيّرت رؤيتهم الاستقلاليّة إلى الأشياء، في الدنيا أو بعد الموت إلى رؤية تبصر حقيقتها و واقعها، و يرون العوالم جميعها مجرّد ظهور و تجلٍّ لذات الحقّ المتعال، فإنّ وجهها الخالقيّ موجود.
فوجهها الخلقيّ هو مشاهدة هذا العالم بناءً على محور تحقّق العلل و المعلولات، حيث ترى الأسباب و العلل مستقلّة التأثير في المسبَّبات و المعلولات. و هذه الوجهة الخلقيّة هي التي يقال عنها: إنّ النبات لا ينبت و لا يخضرّ ما لم توجد الشمس؛ و إنّه لا ينمو بلا ماء، و إنّه يحتاج إلى الهواء؛ و إنّ شروط البيئة التي ينمو فيها النبات تؤثّر في نموّه تماماً؛ و إنّ الجنين يجب أن يكون في بطن أُمّه على النحو الفلانيّ، و إنّ عليه أن يطوي مراحل معيّنة، و إلّا لما وجد و نما، و لما صار له عقل و ذكاء؛ و إنّ موجودات هذا العالم جميعها تتحرّك في سلسلة انتظام صحيح للعلّة و المعلول، فإن تخطّت إحدى العلل محلّها فإنّ العالم سيفسد من أساسه. فهذا العالم هو عالم الخلق، و عالم الخلق موضوع على سنّة عالم العلل و الأسباب، فإذا زالت روابط العلّة و المعلول في هذا العالم، زال هذا العالم معها، فلا وجود لعالم الخلق بعدُ.
لو جرى النظر إلى عالم الخلق بالنظرة التوحيديّة لظهر عالم الأمر
أمّا لو نظر امرؤ من جانب الوجهة الخالقيّة و من جانب الوجه الإلهيّ، فإنّه سيرى هذه العلل و المعلولات كلّها في يد الربّ الذي هو علّة العلل، و سيراه علّة العلل في الموجودات و يرى أنه هو المؤثّر؛ كما أنه سيرى العوالم برمّتها و هذه السلسلة الطوليّة المترتّبة طائعة و خاضعة للّه و مندكّة و فانية فناءً محضاً تحت قدرة الله و علمه و إرادته. و سينظر إلى عوالم الوجود قاطبة على أنها نوره و ضياؤه و شعاع ذاته، و سيعتبر العوالم بأسرها آثار الحقّ جلّ و علا و خواصّه، التي هي في حكم ملكات الإنسان و صفاته و أفعاله و جوارحه المتعلّقة بروحه. فأسماء ذات الحقّ و صفاته و أفعاله هذه
ليست موجبة للتعدّد و لا للتحديد في الوجود، كما أنها لم تتخطَّ دائرة قدرته و علمه و حياته و إرادته جلّ و عزّ. و يُدرك قوله تعالى: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ.۱
و يُدرك: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.٢
و يُدرك: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.٣
و يُدرك: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.٤
و يُدرك: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ.٥
و يُدرك بوضوح حصر آيات القرآن للصفات في ذاته تعالى، مثل:
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.٦
و مثل: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.۷
و مثل: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.۸
أي أنه سيدرك أنّ المقدّس و المنزّه هو الله الذي بيده روح كلّ شيء و ملكوته.
و يدرك أنه الأوّل و الآخر و الظاهر و الباطن و العالم بكلّ شيء.
و يدرك أنّ ملك السماوات و الأرض و سلطانها مختصّ به، و أنَّ مرجع
كلّ الامور إلى الله سبحانه.
و يدرك أنه معكم أينما كنتم.
و يدرك أنّ الله -لا سواه هو المعبود الحيّ القيّوم بالموجودات، و أنه- لا سواه السميع العليم، و أنه- لا سواه السميع البصير.
و أمثالها ممّا لا يعدّ و لا يُحصى التي قد عمّت أرجاء القرآن، و سيدرك ذلك كلّه جيّداً.
فهذا العالم الطويل و العريض بسلسلة العلل و المعلولات جميعها، و مع كلّ الشرائط و الموانع و المُعِدّات باطل و فانٍ بأسره، و سرابٌ ليس إلّا.
و لكن متى يكون سراباً؟ يكون سراباً في ذلك الظرف، في ظرف ذلك العالم، اي: في عالم وجه الله. أمّا في هذا الظرف فالجميع ثابت و له حقيقة و واقعيّة، لا يمكن أن تتحرّك شعرة أو قشّة فيه عن مكانها بدون الروابط الموجودة، و لا يمكن لشعرة أو قشّة أن توجد أو تُعدم بدون سلسلة العلل.
و الحقّ أنّ روابط هذه السلسلة دقيقة و عميقة إلى الحدّ الذي يبهر العقول و يحيّرها، فهذه السلسلة من الأسباب و المسبّبات التكوينيّة و الامور الشرعيّة من الأمر و النهي و القانون و آلاف العلل و الأسباب التي طبقت أرجاء العالم من منظارَي التكوين و التشريع، هي التي تكوّن هذا النظام.
و سيزول هذا النظام حين يطلع نظام آخر لا محلّ فيه لنظرة هذا النظام و رؤيته، و سيبدو جليّاً أنّ الاختلاف و المباينة بين هذين النظامين إنّما يقوم على ميزان تباين النظر: نظر الحقيقة و نظر الاعتبار.
إن كلّ عالم محكوم بنظام مختصّ به، فالأفراد الذين يعيشون في نظام الحسّ و عالم المادّة و الطبع و روابطه العلية يتطلّعون إلى العلل المستقلّة لهذا النظام، و يقولون: الشمس مؤثّرة، القمر مؤثّر، الأرض و الزمان
مؤثّران، الماء و المطر و الهواء مؤثّرة، الغذاء مؤثّر، الأب، الامّ، الرفيق، الشريك، و ... جميعهم مؤثّرون و لهم استقلال في التأثير على حياة الإنسان.
أمّا في نظام وجه الله و طلوع الحقيقة فيقولون: لا شيءٌ إلّا الله، و لا مؤثّر في العالم إلّا الله تعالى:
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ.۱
لذلك فإنّ مناط اختلاف النظرتين، اختلاف مجال رؤية الإنسان و إدراكه.
و لقد بُني عالم الكثرة و الأسباب هذا على أساس النظر الاستقلاليّ للنفس، فإن طهرتْ رؤية النفس و تنزّهت، و بلغت مقام النزاهة و الرؤية الطاهرة، لم يعد عالم الخلق و عالم الربط و الباطن يمثّلان عالمينِ حينئذٍ، بل سيظهر الباطن فنرى عالم الخلق بجميع تشكيلاته و عجائبه و غرائبه هذه عالم وجه الله و عالم الأمر.
لقد جاءت نفسنا إلى هذه الدنيا و نظرت إلى الموجودات، فشاهدتها مستقلّة بواسطة غلبة الكثرة و ضياع نور التوحيد من شدّة الظهور في الشبكات المجالية و الظاهر و العلل و الأسباب، لذا فإنّها أوجدت عالم الخلق مقابل عالم الأمر بهذا الافق من الرؤية و شعاع النظر.
فإن أوكلت هذه النفس -بواسطة غلبة الوحدة و ظهور نور التوحيد في مظاهر العالم نظرها الاستقلاليّ إلى الله تعالى، و عطفته عن هذا العالم، فلن يكون ثمّة عالم للخلق، بل إنّ عالم الأمر- لا سواه هو الذي سيوجد. و عليه فإنّ الموجودات برمّتها موجودة في مواقعها، و قيّومها هو الله تعالى:
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.۱
وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ.٢
و بناءً على ذلك فلا يعني فناء الموجودات و بقاء الله أنّ الموجودات ينبغي أن تنعدم بوجودها الحقيقيّ في الخارج، و أن تفقد جهة وجه الله فيها، ليبقى الله تعالى وحده. لأنّ ذلك الإله الذي تتوقّف وحدته على زوال الموجودات الخارجيّة ليس إلهاً؛ و ليس إلهاً ذلك الذي خلق الموجودات فامتلكت بخلقه لها قدرة و عظمة و علماً أعادت بها إلى الوراء قدرة الله و عظمته و علمه، فأوجدت فيها فتوراً و نقصاناً، و أجبرته -من ثمّ- على إزالتها و إعدامها ليستعيد وحدته بإحاطته و استيلائه على الحياة و العلم و القدرة.
بل إنّ عالم الخلقة و نشوء الموجودات لا يضعف وحدة الله، بل يجعل إثبات وحدته و قهّاريّته أفضل و أحسن، لا أنهُ يُضعف وحدته.
و على هذا لما كان وجود السماء و الأرض و البحار و النجوم و الفضاء و المجرّات و المدارات و عالم الملكوت و العقل و الملائكة، لا يتنافى مع توحيد الله تعالى، بل إنّ هذه الموجودات هي بأجمعها لسان واحد و بيان واحد في إثبات الله تعالى، فإنّ الله تعالى واحد حتّى مع وجود الموجودات قاطبة. كَانَ اللهُ وَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شيءٌ وَ الآنَ كَمَا كَانَ.
و لذلك فإنّ هذه الأشياء التي تُشاهد مقابل الله تعالى لا تقابله، بل هي مندكّة فيه سبحانه.
إن العين عند ما تكون حولاء فإنّها ترى هذه الأشياء مقابل الله تعالى،
و بدلًا من إفناء الموجودات و إزالتها فإنّ هذه العين ينبغي أن تُعالج و تُطبّب. و ما أعجب رفعَ الأئمّة الطاهرين عليهم السلام هذه الأستار عن آيات القرآن، و كشفهم هذه الحقائق جليّة للعيان!
هذه الآيات هي إعجاز القرآن؛ فقوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ معجزة؛ و قوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ معجزة؛ و هذه الروايات التي بُيِّنت عن مصادر الوحي، و أوضحت لنا الحقائق بهذه الصورة و الكيفيّة، و أمعنت النظر في تنقيح المطالب هي الاخرى معجزة، إلّا أننا نمرّ عليها مرور الكرام، و ننظر إليها نظراً بدائيّاً ساذجاً فنقول: يجب أن تزول السماء و تزول الأرض ليظهر التوحيد و قدرته.
فما هو ذنب السماء و الأرض؟
لو كان الإنسان يمتلك خزانة مليئة بالأوراق النقديّة، و أراد إبطال تلك الأوراق، فلا ضرورة أن يحرقها جميعاً بعود الثقاب ليحيلها رماداً، بل يمكنه أن يدع تلك الأوراق النقديّة في مكانها دون أن يمسّها بشيء، كلّ ما هنالك أنّ على المصرف الذي منحها الاعتبار أن يُسقط اعتباره عنها، فينشر في الصحف أنّ الأوراق النقديّة الفلانيّة لا اعتبار لها في المصرف؛ و هكذا تفقد تلك الأوراق قيمتها بمجرّد هذا العمل، و بذلك يُلغى رصيد القيمة التي كانوا يعدّونها لكلّ ورقة منها بعد أن كانوا يعملون في ضوئها و يلتزمون بآثارها. إنّ من يمتلك عيوناً ضعيفة تعشو عن رؤية الشمس في رائعة النهار يجب ألّا يقول: إنّ الشمس يجب أن تُزال لأنّ عيني لا تراها. بل عليه معالجة عينه.
عدم مشاهدة فناء الموجودات في ذات الله ناشئ عن الحول في النظر
إن الأعين التي أصابها مرض التراخوما، و العيون الرمداء المريضة المتورّمة التي تقطر دموعاً، حين تنظر إلى القمر ليلة الرابع عشر من الشهر
و قد اكتمل بدراً كاملًا يشعّ على العالم بنوره، فإنّها سترى هالة كبيرة تحيط بالقمر، لذا عليها ألّا تقول بأنّ القمر يجب أن يزول. افرضوا أنّ السماء و الأرض قد أُزيلتا، فهل ستصل النفس إلى درجة التوحيد و تصير موحّدة؟
إن النفس يجب أن تعالج، فإن عالجها الإنسان في هذه الدنيا فإنّ عالم أمره سيظهر في هذه الدنيا، و قيامته ستقوم هنا؛ اي: أنه سيرى الله تعالى بوحدته، و إلّا فإنّه في النهاية سيتخطّى بواسطة الموت جميع عالم الأسباب هذا، إلى حيث يطلع جانب وجه الله.
و على الإنسان أن يعترف -شاء أم أبى- أن لا موجود مؤثّر في عالم الوجود إلّا الله فهو عِلَّةُ الْعِلَلَ، وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.
وَ هكذا فإنّ الإقرار و الاعتراف بوحدانيّة الله هناك أمر وجدانيّ.
يُحكى أنه قيل للّقلق: لما ذا تبدّل عشّك باستمرار فَوق قمم الأشجار، فتُهاجر من هذه الشجرة إلى تلك؟ ابقَ في عشّك الذي بنيته على شجرة واحدة شأن الطيور الاخرى.
فأجاب: هذه الأشجار ذات رائحة كريهة متعفّنة، لذا أُجبر على السير و الحركة و الانتقال باستمرار.
قيل له: و أنى لهذه الأشجار أن تكون متعفّنة؟ (إذ يُقال إنّ اللقلق حين يعشعش على شجرة ما و يضع فراخه، فإنّ من عادته أن يلقي فضلاته و أقذاره هناك فيسبّب تعفّن ذلك المكان، لذا فإنّه يغادره إلى شجرة أُخرى و هكذا دواليك) إنّ الأشجار ليست متعفّنة، و لكن ما دامت أسافل أعضائك معك فإنّ الأشجار جميعها ستكون متعفّنة. أصلح نفسك، فالعيب ليس في الشجرة.
و هكذا فإن عالج الإنسان عينه الحولاء فرأى الله واحداً فقد أصلح أمره فذاك، و إلّا فإنّ الله سبحانه سيُري الإنسان في عقبات الموت و بعده
أنه واحد ليس معه غيره.
قصّة العطّار و زيت الزيتون و المستخدم الأحول
قيل: إنّ عطّاراً كان له مستخدم، و كان هذا المستخدم في غاية الحُسن إلّا أنّ فيه عيباً واحداً، و هو أنه كان أحول يرى الشيء الواحد شيئين.
و في ذات يوم قَدِم مُشترٍ إلى العطّار فسأله أن يبيعه قنّينة زيت، فأجلسه العطّار و قال للمستخدم: اذهب إلى منزلي فوراً، تجد في السرداب قنّينة زيت فهاتها!
أسرع المستخدم إلى البيت و نزل إلى السرداب فرأى قنّينتين فيهما زيت الزيتون. فتساءل في نفسه: اي واحدةٍ منهما ينبغي أن آخذها؟ إن أخذتُ هذه فلربّما كان يريد الاخرى، و إن أخذتُ الاخرى فلربّما كان يريد هذه، كما أنه لم يطلبهما معاً. و هكذا وقف المستخدم يفكّر ثمّ عاد إلى العطّار يمشي الهوينا فقال: قلتَ إنّ في السرداب قنّينة واحدة، لكنّي رأيت اثنتين، فأيّهما أجلب لك؟
قال العطّار: يا عزيزي! إنّها قنّينة واحدة وضعتها بيدي في السرداب، فاذهب و هاتها!
عاد المستخدم إلى البيت راكضاً، فدخل السرداب و نظر محدّقاً فرأى قنّينتين، و كلّما فرك عينيه رآهما اثنتين لا واحدة، لا ريبة في ذلك.
و هكذا عاد إلى العطّار ثانية فقال: لقد نظرت إليهما بإمعان فكانتا اثنتين! فامتعض العطّار لجلوس المشتري و انتظاره طويلًا، و خشي أن ينصرف فيفقده، فأعطى المستخدم عصاه و قاله له: غاضباً: اذهب و اكسر إحدى القنّينتين و هاتِ الثانية.
فعاد المستخدم و العصا في يده و دخل السرداب فأهوى بالعصا على
إحداهما، فانكسرت القنّينتان كلتاهما و اريق زيتهما، فلم يجد ثمّة قنّينة أُخرى يأت بها، و عندئذٍ وقف يفكّر أنه ضرب إحداهما بعصاه و لم يضربهما معاً فكيف انكسرتا. و قال في نفسه: لقد كانت هناك قنّينة واحدة في الحقيقة، لكنّي كنت أرى إلى جانبها قنّينة أُخرى تخيّليّة موهومة، و ها قد جئت أكسر إحداهما، لكنّي لم أهوِ بعصاي على الموهومة منهما و أُبقي الحقيقيّة على أقلّ تقدير لآخذها إلى أُستاذي، بل أهويت بعصاي على الحقيقيّة، فليس ثمّة من قنّينة هناك.۱
و لو شاء هذا المستخدم أن يدع الحقّ سالماً و يكسر الباطل، لكان عليه أن يُعالج عينه لترى الواحد واحداً، و لترى القنّينة واحدة، و لو فعل ذلك لزهق الباطل تلقائيّاً.
و هكذا فإنّ كسر الباطل إنّما هو بمعالجة العين، لا بالضرب بالعصا، لأنّ العصا تكسر الحقّ.
و لقد فطن هذا المستخدم إلى أنّ عيبه في حوله و رؤيته الشيء شيئين فكان يفكّر في نفسه أنّه سيعود إلى صاحبه، و كيف سيحكي له القصّة؟ و كيف يبيّن له عيبه؟ و هكذا فقد اتّجه نحو الصحراء خجلًا.
جميع الناس -عدا أهل التوحيد- يُشركون بالله في أعمالهم
إن أفراد البشر العالم منهم و التاجر و الكاسب يقضون العمر مغرمين بالباطل، يبنون لأنفسهم أصناماً متفرّقة و يجعلونها شركاء للّه تعالى، في جميع أعمالهم، من كسب و تجارة، و مطالعة و علم، و في الرئاسة و الجاه، و محبّة الأهل و الأولاد، و في كلّ نفس يتنفّسونه يضعون صنماً إلى جانب الله سبحانه و تعالى و قنّينة زيت باطلة وهميّة و شريكاً.
لقد قال النبيّ يوسف على نبيّنا و آله و عليه السلام لرفيقيه في
السجن: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.۱
حتّى الطعام الذي يتناوله الإنسان، و الملعقة التي يرفعها يراهما مؤثّرين مقابل الله سبحانه و تعالى، يشتري فيراه مؤثّراً، و يبيع فيراه مؤثّراً، و ينام فيراه مؤثّراً، حتّى أنه يتناول الإبريق في دورة المياه فيرى الإبريق مؤثّراً مقابل الله تعالى، فضلًا عن سائر الأعمال المهمّة الاخرى، و إذا صلّى و رأى نفسه موجوداً مستقلّا واقفاً للعبادة في ساحة عظمة الله، فإنّه يكون قد غرس بذرة أنّيّة النفس.
فممارساته هذه جميعاً شرك، لأن النظر الاستقلاليّ إلى الموجودات مهما كان و اي فعل كان، شركٌ بدون استثناء. و تلك الامور تمثّل بأجمعها وجه الخلق، و ينبغي لها أن تزول فيبقى وجه الله لا سواه.
ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ.٢
و إذا ما استطاع الإنسان القضاء على هذا النظر الاستقلاليّ في هذه الدنيا بقوّة التقوى و التوكّل و الاستقامة في طيّ طريق الإخلاص، فستكون قيامته قد قامت؛ و إلّا فإنّ تلك الجهة للوجه الإلهيّ ستطلع، فتدمغ هذا العالم كلّه بختم البُطلان، و سيرى الإنسان آنذاك هذا العالم -في عين انعدامه بنفسه- موجوداً بالله تعالى، و ستكون الشمس و القمر و الكواكب من الثوابت و السيّارات معدومة في عين وجودها، و موجودة في عين انعدامها.
إن غير الموحّدين لا يرون وجود تلك الأشياء، بل يرون عدمها في هيئة الوجود. أمّا الموحّدون فلا يرون عدمها، بل يرون وجودها المجرّد قائماً بالحقّ.
و مهما نادى الأنبياء و الأئمّة بأنّ موجودات العالم ليست فانية، فمن ذا الذي يقتنع؟ و لكن حين يظهر جانب وجه الله فسيكون مشهوداً للإنسان أنّ تلك الأشياء كانت معدومة بأنفسها، و موجودة بالحقّ.
و سيُلاحظ الإنسان آنذاك أنّ سلسلة الأشياء التي رتّبها لنفسه و اعتمد عليها من مال و عشيرة و ولد و قدرة و ...؛ و تصوّر أنها ستنفعه و تعينه و تأخذ بيده، و تشفيه و تقضي حاجاته؛ عاجزة عن فعل اي شيء.
و هكذا يُساق الإنسان إلى القيامة، فيقول المجرم:
ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ.۱
إن ذلك المال الذي كان ينفعه في الدنيا، سوف لن ينفعه يومئذٍ إذ إنّ ذلك النظام سيكون قد طُوي، و هذا النظام نظام آخر له نشأة منفصلة، و من خصائصه و معالمه أنّ المال لا يمكنه أن يُغني عن الإنسان شيئاً؛ و لو كانت أموال الدنيا جميعها متعلّقة بالإنسان، لما أمكنها أن تفعل له شيئاً: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ. و أنّ هذا الوقت هو وقت ظهور وجه الله الذي سيكون مشهوداً فيه كالشمس في رائعة النهار أن: هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ.
هلك سلطاني و قدرتي جميعهما، و تلاشت تلك القدرات التي امتلكتُها في الدنيا و كنت أنتفع بها في ذلك النظام، و فنت و امّحت، اي: أنها خُتمت هنا بختم البُطلان المحض.
و سيخاطبه الله تعالى أو ملائكته قائلين:
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ، إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ، وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ ، وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ،
لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ.۱
ذلك أنه لم يكن من المؤمنين بالله العظيم، و كان يعدّ الموجودات بأسرها مؤثّرة عدا الله تعالى، فلم يكن يصلّي أو يرتبط بالله سبحانه، إذ إنّ الصلاة تربط الإنسان بالله، و تقوّي فيه جانب وجه الله، و تضعف جانب مشاهدة استقلال العلل و تأثير الأسباب. اي: أنّ الصلاة لها أثر هامّ في طبع سلسلة علل عالم الخلق و معلولاته بختم البطلان، و في ختم جهة وجه الله بختم الحقّ و الصحّة و الاعتبار.
و من فوائد الصلاة أيضاً أنها قربان كلّ تقيّ، و أنها تقرّب كلّ فرد ملتزم إلى الله سبحانه و تعالى.
و العلّة الاخرى (لإلقائه في النار) هي عدم اهتمامه بإطعام المساكين؛ فإعطاء الزكاة موجب لطهارة المال و القلب. و الإنفاق في سبيل الله تعالى يخرج الإنسان من العُجب و الغُرور. لأنّ الإنسان يحبّ المال و يتعلّق به و حين ينفقه في سبيل الله يكون قد أنفق محبّة في الله تعالى، و هكذا فإنّه يقترب منه تعالى.
و لم يكُ ذلك المرء يُطعم المساكين و الفقراء، لذا لم يقترب منّا و في النتيجة، فليس له هاهنا صديق و لا حميم. حميمه اليوم عمله الصالح، بَيدَ أنه لم يستصحبه معه، فلا عون له و لا حميم.
ندم المشركين عند طلوع وجه الله تعالي
و ها هو أوان طلوع وجه الله، لكن هذا المرء لم يجلب معه تلك الأعمال الصالحة التي ستعينه يومئذٍ؛ لذا فعند ظهور وجه الله حيث تجتمع القدرة في الله وحده، و تُشاهد الأشياء بأجمعها مُندكّة فيه، تكون قابليّة مثل هذا الشخص ضعيفة، إذ لم يحمل معه زاداً إلّا الحسرة و الندم. طعامه من
غِسلين، من القيح و الدم الفاسد المتعفّن، و من المعدن المصهور، من ذلك الطعام الذي لا يحتمله و لا يتجرّعه إلّا الخاطئون.
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ.۱
إن الصلاة و الإنفاق ركنان أساسيّان للوصول إلى سماء المعرفة؛ فالصلاة تصل الإنسان بالله سبحانه و تقوّى نور الله و نور التوحيد في قلب المرء؛ أمّا الزكاة فتزيد علاقة الإنسان بربّه و تنقصها بالدنيا.
الصلاة، و الزكاة بمعناها المطلق الذي يمثّل الإنفاق في سبيل الله، هما جناحان للسير و التحليق في عالم التجرّد.
حُبُّ الدُّنْيَا رَأسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ.٢
فالصلاة و الإنفاق يُضعفان هذا الحبّ لدى الإنسان.
إن يوم القيامة و الجزاء يومٌ لا بَيْعٌ ينفع فيه و لا خُلَّةٌ و لا تجارة، كما أنّ علاقات الصداقة الدنيويّة ليست مُثمرةً و لا مفيدة هناك.
و لو أعطي الإنسان يومئذٍ كلَّ ما يملك من أجل نجاته لما نفعه ذلك شيئاً، و لو كانت الدنيا في قبضته و قايضها بالحصول على صكّ نجاة من النار، أو تخفيف العذاب عنه، لما نفعه ذلك، إذ ليس هناك بيع و لا شراء وَ لا خِلالٌ. و الصداقة لا تنفع أيضاً إلّا إذا كانت على أساس الروابط الإيمانيّة. إذ إنّ صداقات الدنيا برمّتها ستصبح عدوّة للإنسان في ذلك اليوم، فأولياء الله هم أصدقاء أولياء الله و حَسب.
و ما لم يمتلك الإنسان رابطة و علاقة بالله تعالى، و ما لم يكن له صديق و لا وليّ في سبيل الله تعالى، و ما لم تكن له خُلَّةٌ في سبيله تعالى، فإنّه سيكون صفر اليدين.
و من ثمّ فإنّ سلسلة الأسباب و المسبّبات كلّها، الأصدقاء و الأعوان و الأقوام جميعهم و سائر من كان يعتمد عليهم الإنسان في الدنيا، و المال الذي كان يركن إليه، و بشكل عامّ فإنّ كلّ أُسس معيشة حياة الإنسان التي كان يعتمد عليها في الدنيا، ستصبح هناك صفراً لا قيمة له.
و سيقول الملائكة للإنسان:
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.۱
و حاصل هذا البحث أنّ الأرض و الزمان و الموجودات الخارجيّة لا ذنب لها، و إذا ما كنتم تتذمّرون من شيء فلا تلعنوا الدهر و الزمان، و لا تلعنوا الشمس و الأرض و السماء.
جوانب الوجه الخلقيّ لا تفيد ظهور الوجه الإلهيّ
فقد ورد في الرواية أنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله قال:
لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللهُ.٢
فما الذي يعني الدهر؟ يعني الشمس و القمر و النجوم و الأرض و غير ذلك، و ليست هذه بالسيّئة الطالحة، بل هي صالحة بأجمعها، و أساس وجودها وجه الله تعالى، فذلك العنوان السّيئ الذي تلصقونه بها إنّما هو من أنفسكم و عنوان القبح من وجهة نظركم. لذا فإنّ النفس السيّئة و النفس المذنبة العاصية هي التي ترى هذه الموجودات سيّئة.
فلما ذا -إذَن- تسبّون الموجودات الخارجيّة؟! عليكم إصلاح
أنفسكم أوّلًا، و إصلاح النفس يعني إعادة الإنسان بناء نفسه و معالجتها و تطهيرها و تنزيهها، لا القضاء على الموجودات الخارجيّة.
و من هذا المنطلق ورد في الحديث: مُوتُوا قَبْلَ أنْ تَمُوتُوا، ما جاء في «مثنوي» (ج ٦، ص، طبعة ميرخاني):
بهر اين گفت آن رسولِ خوش پيام | *** | رمز مُوتوا قبلَ مَوْتٍ يا كرام |
پس قيامت شو قيامت را ببين | *** | ديدن هر چيز را شرطست اين |
تا نگردى اين ندانيش تمام | *** | خواه كان أنوار باشد يا ظَلام۱ |
و على هذا الأساس أُثر في الدعاء:
اللَهُمَّ أرِنَا الأشْيَاءَ كَمَا هي.
و قال أمير المؤمنين عليه السلام:
لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً.
و بناء على ما ذُكر فقد حُلّت مسألتنا اليوم بحمد الله و منّه، و علمنا أنّ جميع الروايات التي ذكرت زوال الأرض، و زوال الزمان، و فوران البحار و تسجيرها، و كسوف الشمس، و انشقاق الأرض، هي كلّها حقّ، لكن من جهة الوجه الخلقيّ.
أمّا من جهة وجه الحقّ و الوجه الربّيّ فإنّ كافة هذه الأشياء قائمة بالله تعالى و ثابتة به، و أنه سُبحانه لا يحتاج في واحدانيّته إلى إزالة الأشياء من أجل استوائه على عرش وحدته و هيمنته عليه.
الله عزّ و جلّ واحد و موحَّد، وجهة وجه الله موجودة قائمة دائمة، و لا منافاة بينها و بين وحدة الخالق تعالى، بل هي مؤيّدة لها.
فما يتنافى مع الكون موحّداً (لا مع التوحيد و الوحدة): الأفكار الشهويّة المتدنّسة بالمعاصي و الآمال، التي تفرّق بين الناس و بين الله و لا تدع الناس يرون نور الله متجلّياً في الموجودات قاطبة، و لا تدعهم يدركون ذلك التجلّي.
فإذا اصلحت النفس فإنّ جميع هذه المسائل ستحلّ، و سيزول التشاؤم و النظرة السيّئة، و سترتبط سلسلة العلل و أسباب عالم الخلق بالله الخالق، و سيشرق نور الله تعالى في العوالم كلّها، فيشاهد المؤمن نور الله و يُدركه فيها، و هذا -لا غيره- هو المقصود بالقيامة. لأنّ القيامة عالم المعاد، و المعاد يعني عودة الإنسان و رجوعه إلى الله تعالى:
كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ.۱
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ.٢
و إذا افتُرض أنّ الإنسان رحل عن الدنيا و لم يصبح جانب وجه الله مشهوداً له، فإنّه لم يَعُد إلى الله تعالى.
القيامة هي محلّ إدراك توحيد الله لا محلّ التوحيد
و حينئذٍ فإنّ الله سيكون قد خلق الإنسان و جزاه على أعماله، مع أنّ جزاء الأعمال لا يعني معاداً، إذ إنّ معني المعاد هو العود إلى الله، و يلزم من العود إلى الله انكشاف جميع الحقائق التي قد قام الإنسان بفعل ظواهرها، لا أن يكون ذلك معنى المعاد نفسه.
و من هنا فإنّ إدراك قدرة الله تعالى و عظمته و قهّاريّته و وحدانيّته
سيحصل في المعاد و سيتّضح في القيامة جليّاً، و ليس الأمر بحيث أنّ هذه القدرة و العظمة و القهّاريّة و الوحدانيّة و العدل، و سائر الصفات العليا و الأسماء الحسنى ستظهر يوم القيامة. فذلك الإدراك يحصل لأولياء الله في هذه الدنيا، و سيحصل لعموم الناس في القيامة و في العوالم التي تعقب الموت.
و قد ورد في ذيل دعاء عرفة لسيّد الشهداء عليه السلام حسب رواية ابن طاووس قوله:
إلَهِي عَلِمْتُ بِاخْتِلَافِ الآثَارِ و تَنَقُّلَاتِ الأطْوَارِ أنَّ مُرَادَكَ مِنِّي أنْ تَتَعَرَّفَ إلَي في كُلِّ شَيءٍ حَتَّى لَا أجْهَلَكَ في شَيْءٍ.
إلى أن يصل إلى قوله:
إِلَهِي أمَرْتَ بِالرُّجُوعِ إلَى الآثَارِ فَارْجِعْنِي إلَيْكَ بِكِسْوَةِ الأنْوَارِ وَ هِدَايَةِ الاسْتِبْصَارِ حَتَّى أرْجِعَ إلَيْكَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْتُ إلَيْكَ مِنْهَا مَصُونَ السِّرِّ عَنِ النَّظَرِ إلَيْهَا وَ مَرْفُوعَ الْهِمَّةِ عَنِ الاعْتِمَادِ عَلَيْهَا.
إلى أن يصل إلى قوله:
أنْتَ الَّذِي أشْرَقْتَ الأنْوَارَ في قُلُوبِ أوْلِيَائِكَ حَتَّى عَرَفُوكَ وَ وَحَّدُوكَ؛ وَ أنْتَ الَّذِي أزَلْتَ الأغْيَارَ عَنْ قُلُوبِ أحِبَّائِكَ حَتَّى لَمْ يُحِبُّوا سِوَاكَ وَ لَمْ يَلْجَأُوا إلَى غَيْرِكَ؛ أنْتَ الْمُؤْنِسُ لَهُمْ حَيْثُ أوْحَشَتْهُمُ الْعَوَالِمُ، وَ أنْتَ الَّذِي هَدَيْتَهُمْ حَيْثُ اسْتَبَانَتْ لَهُمُ الْمَعَالِمُ، مَا ذَا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ؟ وَ مَا الَّذِي فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ؟۱
أشعار حافظ الشيرازي في تجلّي توحيد التوحيد الإلهيّ
عكس روى تو چو در آئينه جام افتاد | *** | صوفى از خنده مِى در طمع خام افتاد۱ |
حسن روى تو به يك جلوه كه در آينه كرد | *** | اينهمه نقش در آئينه اوهام افتاد |
اين همه عكس مِى و نقش و نگارى كه نمود | *** | يك فروغ رخ ساقيست كه در جام افتاد |
غيرت عشق زبان همه خاصان ببريد | *** | كز كجا سِرِّ غمش در دهنِ عام افتاد |
من ز مسجد به خرابات نه خود افتادم | *** | اينم از عهدِ ازل حاصل فرجام افتاد |
چه كند كز پى دوران نرود چون پرگار | *** | هر كه در دايرهء گردشِ ايّام افتاد |
هر دمش با منِ دل سوخته لطفى دگر است | *** | اين گدا بين كه چه شايسته انعام افتاد۱ |
زير شمشيرِ غمش رقص كنان بايد رفت | *** | كانكه شد كُشته او نيك سرانجام افتاد۱ |
أجل إنّ ما ذكرناه في هذا البحث من طلوع و شهود وجه الله في عوالم ما بعد الموت، و فناء و انعدام الموجودات جميعها، ببطلان إدراك الاستقلال في سلسلة العلل و المعلولات، لا يتنافى مع ما ورد في ظاهر الآيات و الروايات حول كسوف الشمس، و خسوف القمر، و تسجير مياه البحار يوم القيامة، و ذلك لعدم استبعاد وقوع هذه الحوادث أيضاً في الأرض و السماء يوم القيامة الكبرى. فقد أخذنا- إذَن بالظاهر مضافاً إلى أخذنا بتفسير القرآن و تأويله، فللّه الحمد وحده.
القرآن يعتبر جميع عوالم الخلقة آيات للّه، اي وجه الله تعالى
إن كلّ ما يصفه القرآن الكريم من الموجودات جميعها يعبّر عنها بعنوان الآية، و الآية تعني العلامة و الدلالة لذي الآية؛ و من هنا فإنّ المخلوقات جميعها تمثّل وجه الله تعالى، لأنها آياته.
و هكذا فإنّ عالم الخلقة الذي هو آيات إلهيّة، كلّه وجه الله سبحانه:
وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ.٢
وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ.٣
و ما أجمل وصف الازريّ وجه رسول الله في قصيدته إذ نعته بوجه الله:
هُوَ سِرُّ السُّجُودِ في الْمَلَا الأع | *** | لَى وَ لَوْلَاهُ لَمْ تُعَفّرْ جِبَاهَا |
وَ هُوَ الآيَةُ الْمُحِيطَةُ بِالْكَوْنِ فَف | *** | ي عَيْنِ كُلِّ شَيْءٍ تَرَاهَا |
الْفَرِيدُ الَّذِي مَفَاتِيحُ عِلْمِ ال | *** | وَاحِدِ الْفَرْدِ غَيْرُهُ مَا حَوَاهَا |
هُوَ طَاوُوسُ رَوْضَةِ الْمُلْكِ بلْ | *** | نَامُوسُهَا الأكْبَرُ الَّذِي يَرْعَاهَا |
وَ هُوَ الْجَوْهَرُ الْمُجَرَّدُ مِنْهُ | *** | كُلَّ نَفْسٍ مَلِيكُهَا زَكَّاهَا۱ |
المَجْلِسُ التَّاسِعُ وَ الْعِشْرُون: المَعَادُ هُوَ الْعَوْدُ إلَى اللهِ وَ شُهُودُ وَجْهِ اللهِ تَعَالَي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.۱
المعاد يعني العود و الرجوع إلى الله تعالى، أو زمان العود، أو محلّ العود إليه تعالى، لأنه من مادّة عَادَ يعودُ بمعنى الرجوع. و من ثمّ فإنّ المعنى المطابق للمعاد ليس جزاء الأعمال و الأجر عليها.
أجل، إنّ ما يستلزمه الرجوع و العودة إلى الله تعالى، و ظهور قدرة الله و عظمته و معرفته و توحيده، هو انكشاف الأعمال و الآثار المترتّبة عليها من الجنّة و النار: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ.٢
و من هنا فإنّ المعاد هو الرجوع إلى الله، و لا بدّ للإنسان أن يعود إلى مبدأه؛ و من الطبيعيّ إنّ الحقائق ستنكشف للإنسان في هذا الرجوع، تلك الحقائق التي كانت خافية عليه في هذا العالم، فقد كانت سلسلة العلل
و المعلولات و الأسباب و المسبّبات قد حبست الإنسان في أغلال التعيّن و التقيّد، فلم تدعه يشاهد جمال الأحديّة واضحاً جليّاً في الموجودات بأسرها.
إن الأفكار التي تغلب على الإنسان في عالم الحسّ و المحسوسات هذا، و غرائزه التي تخرج عن حدّ الاعتدال، كالشهوة و الغضب و الوهم، تُغرقه في عالمٍ من الوهم و الخيال يفصله عن إدراك الحقيقة، إذ إنّ هذا الوهم و الخيال معاكس للحقيقة و مخالف لها.
و عند ما يعزم على السفر و يشدّ رحاله، فإنّ هذه التخيّلات و الأوهام ستحترق و تزول، و تنكشف له تلك الحقائق.
فهذه التخيّلات هي أوهام هذا العالم الذي نشأت فيه خلافاً لأصالة الواقع، و كان لها جانب وجه الخلق؛ أمّا تلك الحقائق فترجع إلى ذلك العالم و لها جانب وجه الله. على أنّ حقيقة الموجودات واحدة لا أكثر، لأنّ التشخّص ملازم للوحدة. فكلّ شخص من الموجودات و الأشياء واحد، و جانبا وجه الخلق و وجه الله اعتباران لا ينافيان تشخّص تلك الأشياء. و لأنّ أحدهما ظاهر فإنّ الآخر خافٍ كامن، اللهم إلّا للأفراد الذين وصلوا إلى مقام جمع الجمع و صاروا يحفظون الباطن و الظاهر بملاك الباطن و الظاهر تماماً.
و على كلّ حال فإنّ الإنسان ينظر حيناً إلى الموجودات في هذا العالم بنظر الاستقلال، و يرى أنّ كلًا منها مؤثّر و فاعل؛ و ينظر حيناً آخر إليها على أنها قائمة بالله تعالى، و أنّ الله قيّوم عليها؛ و أن لا موجود قيّوماً في العوالم كلّها إلّا الله. فهذا هو وجه الله و وجه الربّ الوارد في قوله:
وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ.
و ما دام الإنسان في هذه الدنيا أسير هوى النفس الأمّارة و الآمال البعيدة و الخيالات الباطلة و الأفكار الشيطانيّة، فإنّ هذه الأشياء ستمنع ظهور وجه الربّ له، و تحول بينه و بين إدراك حقيقة الأمر.
الروايات الواردة في إمكان القضاء على حجاب الظنّ و رؤية وجه الله
يقول الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي:
وَ أنَّ الرَّاحِلَ إلَيْكَ قَرِيبُ الْمَسَافَةِ، وَ أنكَ لَا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إلَّا أنْ تَحْجُبَهُمُ الأعْمَالُ۱ دُونَكَ.٢
إن تلك الحقائق ستكون مكشوفة للأفراد الذين يسيرون في صراط مستقيم بقدم راسخة بحثاً عن معرفة الله، و قيامتهم ستكون ظاهرة لهم في الدنيا، و جميع العوالم التي يطويها سائر أفراد البشر بعد الموت عالماً بعد آخر، يطوونها هم في هذه الدنيا.
و على هذا الأساس رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه و آله قوله: مُوتُوا قَبْلَ أنْ تَمُوتُوا.٣
و روي كذلك عنه صلّى الله عليه و آله:
أوْلِيَائِي تَحْتَ قُبَابِي لَا يَعْرِفُهُمْ غَيْرِي.٤
كما ورد أيضاً:
رَأيْتُ رَبِّي عَزَّ وَ جَلَّ لَيْسَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ حِجَابٌ إِلَّا مِنْ حِجَابِ يَاقُوتَةٍ بَيْضَاءَ في رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ.٥
و ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:
لَوْ كُشِفَ لي الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً.
و روي عنه عليه السلام أنه كان يقول في دعائه قاضي الحاجات: اللَهُمَّ أرِنِي الأشْيَاءَ كَمَا هي.۱
و روي أنّ عيسى ابن مريم على نبيّنا و آله و عليه السلام كان يقول:
لَنْ يَلِجَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ مَنْ لَمْ يُولَدْ مَرَّتَيْنِ.٢
و من الجليّ أنّ المراد بالولادة الاخرى، إماتة نفسه من الدنيا و من غير الله و من الوجه الخلقيّ للأشياء، و الحياة بالله و الوجه الربّيّ للأشياء.
و ورد في الحديث القدسيّ أنّ الله عزّ و جلّ يخاطب نبيّه داود على نبيّنا و آله و عليه السلام قائلًا:
يَا دَاوُدُ أبْلِغ أهْلَ الأرْضِ أني حَبِيبٌ لِمَنْ أحَبَّنِي، وَ جَلِيسٌ لِمَنْ جَالَسَنِي، وَ مُؤْنِسٌ لِمَنْ أنَسَ بِذِكْرِي، وَ صَاحِبٌ لِمَنْ صَاحَبَنِي، وَ مُخْتَارٌ لِمَنِ اخْتَارَنِي، وَ مُطِيعٌ لِمَنْ أطَاعَنِي، مَا أحَبَّنِي عَبْدٌ أَعْلَمُ ذَلِكَ يَقِيناً مِنْ قَلْبِهِ إلَّا قَبِلْتُهُ لِنَفْسِي، وَ أحْبَبْتُهُ حُبَّاً لَا يَتَقَدَّمُهُ أحَدٌ مِنْ خَلْقِي.
مَنْ طَلَبَنِي بِالْحَقِّ وَجَدَنِي، وَ مَنْ طَلَبَ غَيْرِي لَمْ يَجِدْنِي.
فَارْفُضُوا يَا أهْلَ الأرْضِ مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ غُرُورِهَا، وَ هَلُمُّوا إلَى كَرَامَتِي وَ مُصَاحَبَتِي وَ مُجَالَسَتِي، وَ آنِسُوا بِي أُؤانِسْكُمْ وَ اسَارِعُ إلَى مَحَبَّتِكُمْ.٣
و نقل المرحوم العلّامة الحاجّ الملّا مهدي النراقيّ أعلى الله تعالى مقامه الشريف في «جامع السعادات» فقال:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى شَراباً لأوْلِيَائِهِ إذَا شَرِبُوا سَكَرُوا، وَ إذَا سَكَرُوا طَرِبُوا، وَ إذَا طَرِبُوا طَابُوا، وَ إذَا طَابُوا ذَابُوا، وَ إذَا ذَابُوا خَلَصُوا، وَ إذَا خَلَصُوا طَلَبُوا، وَ إذَا طَلَبُوا وَجَدُوا، وَ إذَا وَجَدُوا وَصَلُوا، وَ إذَا وَصَلُوا اتَّصَلُوا، وَ إذَا اتَّصَلُوا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ حَبِيبِهِمْ.۱
فِي معنى كَلِمَةُ لَا إلَهَ إِلَّا اللهُ حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أ مِنَ مِنْ عَذَابِي
و روى الصدوق في «معاني الأخبار» عن محمّد بن موسى بن المتوكّل، عن أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسديّ، عن محمّد بن الحسين الصوفيّ، عن يوسف بن عقيل، عن إسحاق بن راهويه قال:
لما وافى أبو الحسن الرضا عليه السلام نيسابور و أراد أن يخرج منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا له: يا ابن رسولِ الله! ترحلُ عنّا و لا تحدّثنا بحديث فنستفيده منك؟
و كان قد قعد في العُمارية، فأطلع رأسه و قال:
سمعتُ أبي موسى بن جعفر يقول: سمعتُ أبي جعفر بن محمّد يقول: سمعتُ أبي محمّد بن عليّ يقول: سمعتُ أبي عليّ بن الحسين يقول: سمعتُ أبي الحسين بن عليّ بن أبي طالب يقول: سمعتُ أبي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهم السلام يقول: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: سمعتُ جبرئيل عليه السلام يقول:
سَمِعْتُ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ: «لَا إلَهَ إلَّا اللهُ حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أ مِنَ [مِنْ] عَذَابِي».
قال: فَلَمَّا مَرَّت الرَّاحلةُ نَادانَا: بِشُرُوطِهَا وَ أنَا مِنْ شُرُوطِهَا.
ثمّ يقول الصدوق: و قد أخرجت ما رويته في هذا المعنى من الأخبار في كتاب «التوحيد».۱
و من الطبيعيّ أنّ البحث في هذا الحديث المبارك المعروف بحديث سلسلة الذهب بحث طويل سواء من جهة صحّة السند أم من جهة المعاني و الفوائد التي تُستخرج منه، و نكتفي بالإشارة إليه قائلين: إنّ المراد بـ «لا إله إلّا الله حصني» هو معنى التوحيد، حيث إنّ من ورد وادي التوحيد أمن من عذاب الله تعالى؛ و وادي التوحيد هو نفس الارتباط بوجه الله الذي انكشف له، فصار ينظر إلى العالم كلّه بنظر التوحيد.
إذ لم يرد في الرواية تعبير: مَن قال لا إله إلّا الله، بل ورد نفس لا إله إلّا الله، اي حقيقة معنى التوحيد و عالمه. فما يصون الإنسان من العذاب هو نفس التوحيد لا التفوّه به، مع أنّ آثاراً تترتّب على النطق به لا محالة.
و ما ورد في سند آخر لهذه الرواية من أنّ:
كلمة لا إله إلا الله حصني.
لا ينافي هذا المعنى، لأنّ الكلمة تعني الموجود و الشيء و العالم، و الأشياء جميعها هي كلمات الله تعالى؛ و من رأى الموجودات برمّتها و عدّها كلمة الله و كلامه، فقد نظر إليها- بطبيعة الحال من جانب وجه الله.
و لمّا تعذّر الوصول إلى مقام التوحيد و انكشافه بالشهود العينيّ و العلميّ بغير الاتّصال و الارتباط بالولاية التي هي طريق و سبيل و علامة و دلالة ذي الآية، اي: حقيقة الذات و الأسماء و الصفات، فقد بيّن الإمام
الرضا عليه السلام -من ثمّ- في هذا الحديث أنّ شرط الوصول إلى مقام التوحيد هو قبول الولاية.
و حصيلة القول فإذا تجاوزنا هذه الجماعة و الفئة التي صار نور الحضرة الأحديّة مشهوداً لها في الدنيا، و التي وصلت إلى مقام وجه الله، فإنّ باقي الأفراد الذين أسرهم هوى النفس، قد أطبق على بصيرتهم و ران على قلوبهم حجابٌ من الأوهام و الخيالات صوّر لهم باطلًا، و الباطل حقّاً.
نور الله تعالى و وجهه مشهودان للجميع يوم القيامة
فهم حين يرحلون عن هذه الدنيا إلى حيث عالم الحقيقة و الحقّ المحض، و إلى حيث تتجلّى الحقيقة و تظهر، و حيث هناك محلّ و موطن ظهور قدرة الله و علمه و قيّوميّته و إرادته و مشيئته، و أخيراً محلّ عالم التوحيد، فسيكون مشهوداً لهم هناك أنّ هذه الدنيا التي عاشوها لم يكن فيها شيء غير الله و آثاره و ظهوراته، و أنّ جميع عالم الإمكان و الوجود كان قائماً بالله سبحانه، و أنه لم يكن هناك موجود أصيل و مستقلّ، تعتمد عليه الموجودات و ترتبط به غير الذات المقدّسة للحضرة الأحديّة. إلّا أنهم لم يدركوا هذه الحقيقة في الدنيا، و سيدركونها حقّ الإدراك في القيامة.
سيسألهم الله تعالى حين يمثلون بين يديه: لما ذا كنتم مشركين في الدنيا، و لِمَ عددتم غيري مؤثّراً و فاعلًا؟ و لِمَ كنتم في كلّ حال و في كلّ حركة و سكنة تجعلون غيري شريكاً لي و تعتقدون به؟
و حيث استنارت نواظرهم في ذلك العالم و رأوا جمال الأحديّة في الموجودات جميعها، و لم يروا مؤثّراً غير الله، و شاهدوا أنّ كافّة أُولئك المعبودين الذين عبدوهم في الدنيا دون الله سبحانه كانوا باطلًا و وهماً و سراباً و خيالًا، فقد قالوا يا إلهنا، لم نعبد غيرك في الدنيا: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ، مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ
شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ.۱
و جوابهم هذا «ضلّوا عنّا» ليس مفاده أنهم موجودون و مختفون عن أنظارنا، بل مفاده أنهم ضلّوا و فنوا و انعدموا.
ثمّ ارتقوا فقالوا: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً؛ لم نعبد في الدنيا أساساً غير الله تعالى.
أي أنّ العبادة التي كنّا نقوم بها متعلّقة بالله تعالى، إذ لم يكن غير الله من شيء، و لم يكن من شيء نعبده غير الله و أسمائه و صفاته. و لقد كانت عبادتنا التي فعلناها متعلّقة بالله تعالى على الرغم من أنّ حجاباً كان يغطّي أبصارنا فلا يدعنا نميّز الحقّ أو نرى ذلك الجمال الخالد في الموجودات قاطبة، و على الرغم من أننا كنّا نضع مقابل الله تعالى صفحة من التخيّلات و الأفكار الواهية فنعبدها و نجعلها معبودنا.
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ.
المعبودون ينكرون يوم القيامة عبادة المشركين لهم
أَي: أنّ اولئك الذين يريدون ستر وجه الحقّ سيضلّون مسيرهم بواسطة أفكارهم، و سيكون الحقّ لديهم مختفياً و الباطل متجلّياً في صورة الأصالة و الحقيقة و الواقع، و ذنبهم أنهم لم يميّزوا بين الحقّ و الباطل، و إلّا فليس هناك موجود أصيل تتعلّق به العبادة حقّاً غير الله تعالى.
وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ، فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ ، هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.٢
و هي آية في غاية العجب.
ذلك أنّ الإنسان يرضى بموجودات معيّنة في الدنيا بصفتها مؤثّرة، و يستعين بها لقضاء حوائجه و رفع فاقته، و ينظر إليها نظراً استقلاليّاً؛ و هو الشركُ بالله تعالى، سواءً كان شركاً جليّاً أم شركاً خفيّاً. لأنه لا مؤثّر غير الله سبحانه؛ فهو تعالى يقول: إنّنا سنحضرهم جميعاً و نحضر معهم الأفراد الذين أطاعوهم و عبدوهم، لكنّهم لن يستطيعوا أن يقتربوا في ذلك العالم من أُولئك المعبودين، فقد كان ذلك القرب مختصّاً بعالم الدنيا، حيث كان بعضهم يقضي حاجات البعض الآخر، و حيث كانوا يتوسّلون بأُولئك الشركاء في الشدائد و المحن، و يسألونهم رفع فاقتهم و حاجتهم.
أمّا في ذلك العالم، عالم الحقيقة، حيث لا مؤثّر إلّا الله تعالى، فإنّ الشركاء لا يمكنهم أن يرتبطوا بهم ذلك الارتباط الذي كان لهم في الدنيا و في عالم المجاز و البُطلان، لذا فإنّهم يفترقون و يبثعدون بعضهم عن بعض.
ثمّ إنّهم يقولون لشركائهم الذين اتّخذوهم لأنفسهم: لقد عبدناكم في الدنيا، فأعينونا اليوم! إنّ تلك العبادات و الادعية و الطاعات، و ذلك التواضع و المدح و الثناء لكم هناك يوجب عليكم مساعدتنا هنا!
فيجيبهم شركاؤهم: إذا ما كنتم إيّانا تعبدون! و لم نكن نحن الذين كنتم تعبدون و تطيعون؛ أنكم لم تعبدوا واقعنا و حقيقتنا، بل عبدتم خيالكم و و همكم! و الله شاهدٌ بيننا و بينكم أنّ ما نقوله هو الحقّ، و أننا لم نكن نعلم بعبادتكم إيّانا. هنالك يظهر لكلّ نفس جميع ما اجترحت في الدنيا و رُدّوا إلى المولى الحقيقيّ الواقعيّ، و سيدرك الجميع أنّ هذا النحو من العبادات التي مارسوها لغير الله كانت باطلة و خاطئة كلّها. و لقد تبدّل العالم، فلم تعد تنفعهم هذه الأعمال و هؤلاء الشركاء شيئاً:
وَ رُدُّوا إلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِ.
فاولئك الموالي و الأفراد الذين كانوا يطيعونهم في الدنيا و يعتقدون أنّ لهم عنوان الأولويّة و حقّ المولويّة عليهم، كانوا باطلًا بأجمعهم، و قد ضلّوا و ضاعوا قاطبة، و تجلّى لهم المولى الحقّ هذا اليوم، و ظهر لهم مشهوداً بجميع قدرته و عظمته.
وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
لقد ضلّ عنهم ما كانوا يفترونه على الله، و ما كانوا يسرقون من قدرته و عظمته و علمه فينسبونه إلى هؤلاء الأرباب المتفرّقين و موالي الباطل و يطيعونهم فيه. ضلّ كلّه عنهم، لأنّ العلم متعلّق بالله تعالى وحده، فنسبته إلى الموالي الآخرين خطأ؛ و القدرة مختصّة بالله الأحد، و نسبتها إلى موالي الباطل خطأ.
المشركون يقولون يوم القيامة: لقد كنّا نعبد الله تعالى
و سيظهر لهم ذلك اليوم و يرون رأى العين بعد عمر قضوه في العبادة أنهم قد عبدوا الوهم فقط و أطاعوا غير الله سبحانه و تعالى و أنّ حقيقة العبادة قد عادت إلى مرجع العبادة و هو الله سبحانه. و أنّ ذنبهم كان توهمّه- و هو الله الذي لا شريك له، ذو الذات اللامتناهية و الحياة اللامتناهية و العلم اللامتناهي و القدرة اللامتناهية مقيّداً محدوداً. فَلِمَ حَدّدوا ذلك اللامتناهي و حبسوه في هذه النوافذ الصغيرة؟ و لِمَ رجوا تلك الذات المقدّسة و الأسماء الجماليّة و الجلاليّة التي لا تتناهى بصورة ذات و أسماء معيّنة و مقيّدة؟ ذنبهم في تحديده و تقييده، لا في أصل عبادته.
وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ، قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ.۱
و سيناديهم الله يوم القيامة: أين تلك الموجودات التي كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي؟ اي: أنه يقول لهم: إنّني لم أجعل لنفسي شريكاً في فعلي، و ليس لي شريك حقيقي، فشركائي هؤلاء هم أوهامكم و تصوّراتكم!
لقد أوجد هذا الوهم و الخيال شركاء لي في ذاتي و حياتي و علمي و قدرتي و سائر صفاتي، فعكفتم على عبادتهم، فأين هم؟
هذا هو نداء الله لهم.
لقد كان أُولئكم يجرّون الناس إلى المعاصي و الذنوب، و يسوقونهم معهم إلى جهنّم، و ها هي قد حقّت عليهم كلمة عذاب الله، فهم يقولون: ربّنا هؤلاء الذين أغوينا، أغويناهم كما غوينا، تبرّأنا إليك من عبادتهم التي كانوا يعبدوننا بها، فهم لم يعبدونا قطّ.
هذا مع أننا نعلم أنهم قد عبدوهم، عبدوهم جميعاً مقابل الله تعالى، لكنّ حقيقة العبادة ترجع إلى الله سبحانه، أمّا تلك العبادة التي كانوا يعبدونها بواسطة إغوائهم إيّاهم، فلم تكن إلّا خيالًا و وهماً.
آنجا كه دستگاهِ حقيقت شود پديد | *** | شرمنده رهروى كه عمل بر مجاز كرد۱ |
و الخلاصة، فعند ما يتجلّى نور الخالق عزّ و جلّ و يسطع في ذلك العالم، و تنكشف الحقائق: وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها، و حينما تضيء الأرض و تشرق بنور ربّها و تتخلّى عن ظلماتها و تتألّق الحقائق فسيكون مشهوداً أنّ أفراد البشر في الدنيا حيثما كانوا يتحرّكون و اي هدف كانوا يرومون، فإنّه ليس هناك غير الله من شيء، حتّى أنّ عبادة المشركين كانت في
الحقيقة للّه تعالى. فما هو ذنبهم يا ترى؟
ذنبهم هو أنّ الإله الذي كان ينبغي عليهم عبادته و النظر إليه بعينٍ مُبصرة، و التطلّع إلى جماله في الموجودات جميعها؛ و عدّه مؤثّراً، قد حبسوه في حدود التعيّن. فَلِمَ فعلوا ذلك؟ و لِمَ شاهدوا تلك القدرة العظيمة و العلم العظيم و الحياة العظيمة في زيد و عمرو، و في الشمس و القمر، و في الأب و الامّ و الرئيس و الحاكم، و في المال و الجاه و الاعتبار؟ إنّ أُولئكم ليسوا ربّاً، فَلِمَ عبدتموهم و أطعتموهم؟
إن القدرة و العلم اللتين كنتم تشاهدونها فيهم في الدنيا كانت متعلّقة بالله تعالى، فليس لا حد قدرة في ساحة الله تعالى و في مقابله سبحانه؛ فلِمَ نسبتم قدرته تلك إلى الموجودات المتعيّنة المقيّدة؟ و لبئس ما فعلتم. فالتعيّن و التقيّد سراب، و الباطل لا يلبث أن يزول و يتبدّد فليس له هنا أثر.
وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
كان ذلك التعيّن هو افتراؤهم على الله تعالى، و ها هم يرون اليوم أنّ أُولئكم ضلّوا و تلاشوا في ديار العدم.
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى.۱
المشركون عبدوا الوجه الخلقيّ لا الوجه الإلهيّ
إن ذنب المشركين هو أنهم عبدوا جانب الوجه الخلقيّ للموجودات و غفلوا عن جانب الوجه الإلهيّ، مع أننا قلنا إنّ جانب الوجه الإلهيّ هو الحقيقي، و إنّ جانب الوجه الخلقيّ هو السراب و الوهم.
و هكذا فإنّ أسفهم و حسرتهم أنهم عاشوا عمراً في الدنيا و لم يفتحوا أعينهم ليروا الله تعالى. لقد رأوا الله صغيراً منكسراً مهشّماً، كنور الشمس و القمر المتكسّر على أمواج البحر، كلٌّ قد حدّق في قسمٍ منه فتخيّل أنه الشمس و القمر.
إن هذه الخيالات و الأوهام خاطئة، و هي ثرثرة في الكلام، و تمريج في القلوب؛ لا تدع أذهاننا تهدأ و تصفو عمّا يكدّرها كي تتجلّى الشمس و القمر في الذهن كما هو حقّها من التجلّي، و لينال قلب الإنسان و سرّه مقام مشاهدة الجمال الحقيقيّ للّه كما ينبغي له.
إن المعاد يعني الاطّلاع على عظمة الله و قدرته و علمه و حياته اللامتناهية، اطّلاعاً يشبه ما كان مشهوداً لنا إجمالًا في العالم الذي يسبق عالم الطبع و المادّة، و هو عالم بدئنا، و إنّ عودتنا ستكون إلى ذلك العالم الذي كانت بداية خلقنا منه.
لا بدّ لنا من الرحيل، و نيل مقام لقاء الربّ جلّ و علا و شهوده تفصيلًا، حيث إنّ الفرق بين التوحيد البدائيّ و النهائيّ يتمثّل في الإجمال و التفصيل فحسب. هذه هي حقيقة المعاد، إذ إنّ الظاهر و الباطن شيء واحد هناك؛ الظاهر عنوان الباطن، و ليس الباطن إلّا الجانب المرآتيّ و الآيتيّ للظاهر. و الوجه الخلقيّ و الوجه الربّيّ هناك شيء واحد، و سلسلة العلل و الأسباب في عين إتقانها مندكّة و فانية في وجه الله تعالى.
إن كلّ شيء له ظهور في عالمه الخاصّ و في الكينونة؛ فعنوان الباطن هو عنوان الغيبة، لأنّ الظاهر فاقد لشيء بالنسبة إلى شيء آخر. و من ثمّ فإنّ الظاهر و الباطن شيئان مختلفان عن بعضهما.
أمّا لو كان الشيء غير مخفيّ عن الشيء الآخر، فهذا هو عين البروز، و هذا البروز هو عين الظهور.
إن الإنسان في الدنيا أسير حجاب الوهم، يرى هذا العالم مرتبطاً بسلسلة علل و أسباب مستقلّة، و يراه مفكّكاً مجزّءاً، فهو يبحث عن أثر مستقلّ لكلّ جزء. و هذه الرؤية و المشاهدة هي التي أوجدت الظاهر مقابل الواقع، كما أوجدت الوجه الخلقيّ مقابل الوجه الربّي.
علم الله و قدرته مشهودان للجميع يوم القيامة
أمّا لو زالت سلسلة الأسباب هذه، و صار بطلانها مشهوداً للعيان، و صار تأثير علّة العلل و الإله الفرد الواحد مُشاهداً للموجودات جميعها كشعاع الشمس في المرايا المختلفة، فسيكون الظاهر هناك عين الباطن، و سيكون الغيب و الشهادة هناك واحداً، و لن يكون شيء مختفياً عن شيء.
إن الأفراد الذين يحضرون في الحشر يشاهدون أنّ الله تعالى مطّلع خبير بأحوالهم و أفعالهم؛ و هو مطّلع و خبير هنا أيضاً، بَيدَ أنّ هذا المعنى مبهم مستغلق لا يدركه جُلّ الناس، و سيفهمونه و يدركونه هناك.
وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً.۱
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ.٢
ليس هناك من حجاب، فالحجاب و الستر متعلّقان بعالم الخيال و الوهم، و الحجاب مرتبط بعالم وجه الخلق.
و عند ما يضمحلّ جانب الوجه الخلقيّ و ينقضي، و يظهر جانب الوجه الإلهيّ و الوجه الربّيّ للموجودات و يكون الإنسان في عالم مشرق بنور الله، ذا علم و اطّلاع على بواطن الأشياء، فليس هناك عندئذٍ من شيء مخفيّ مستور.
فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.٣
بصرك حادّ نافذ يرى جيّداً، ينفذ إلى الباطن و يشاهد الأسرار و الغيب، البصر الحديديّ يعني البصر الحادّ العالِم بالباطن علماً ذا قبس ملكوتي، و علماً حقيقته الأرتباط بالله سبحانه.
يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ.۱
و هو يومٌ تنكشف فيه الخفيّات و النوايا الكامنة، و تتّضح فيه الأفكار و العقائد، لأنّ هذه النظرة التي نظر بها الإنسان في هذه الدنيا إلى الموجودات و يرى كلّا منها مستقلّا متباعداً مجزّءاً لا يرتبط بالبعض الآخر و بالله، هي نظرة و مشاهدة كامنة و مخفيّة في باطن أفكاره. أمّا في ذلك اليوم فإنّ هذه المخفيّات ستظهر و تنكشف، لأنّ العالم عالم القلب، عالم قلب الظاهر إلى الباطن، و لأنّ اليوم يوم ظهور البواطن.
أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ ، وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ.٢
ألا يعلم الإنسان أنه إذا انشقّت القبور و ألقت ما فيها (و ظهر ما في القلوب من العقائد الفاسدة و النوايا الباطلة و الأغراض السقيمة)، و إذا حُصِّلَ ما في الصدور فتجلّى من الظلمة و الخفاء و الكمون و صار جليّاً للعيان؛ أ لا يعلم أنّ الله يومئذٍ خبير و عليم بهم؟
القلب السليم قلبٌ ليس فيه إلّا الله تعالى
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.٣
فما هي سلامة القلب؟ هي أن لا يكون فيه سوى الله تعالى. فإذا وجد سوى الله تعالى في قلب الإنسان بأيّ قدرٍ كان، كان ذلك القلب سقيماً مريضاً.
يروي الكلينيّ في «الكافي» عن عليّ بن إبراهيم بإسناده المتّصل عن سفيان بن عُيينة، عن الإمام الصادق عليه السلام: سَألْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَ «إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» قال: الْقَلْبُ السَّلِيمُ الَّذِي يَلْقَى رَبَّهُ وَ لَيْسَ فِيهِ أحَدٌ سِوَاهُ.
قَالَ: وَ كُلُّ قَلْبٍ فِيهِ شِرْكٌ أوْ شَكٌّ فَهُوَ سَاقِطٌ: وَ إنَّمَا أرَادُوا الزُّهْدَ في الدُّنْيَا لِتَفْرُغَ قُلُوبُهُمْ لِلآخِرَةِ.۱
القلب الفارغ هو القلب المهيّأ لطلوع نور توحيد الله تعالى، و هو محلّ إشعاع الأنوار الإلهيّة و التجلّيات السبحانيّة.
چو تافت بر دل من پرتو جمال حبيب | *** | بديد ديدهء جان حُسن بر كمال حبيب |
چه التفات به ذات كائنات كند | *** | كسى كه يافت دمى لذّت وصال حبيب |
به دام و دانهء عالم كجا فرود آيد | *** | دلى كه گشت گرفتار زلف و خال حبيب |
خيال مُلك دو عالم نياورد به خيال | *** | سَرى كه نيست دمى خالى از خيال حبيب٢ |
درون من نه چنان از حبيب مملوّ شد | *** | كه گر حبيب درآيد بود مجالِ حبيب |
حبيب را نتوان يافت در دو كون مثال | *** | اگر چه هر دو جهان هست بر مثالِ حبيب |
بدان صفت دل و جان از حبيب پُر شده است | *** | كه از حبيب ندارم نظر به حال حبيب |
چه احتياج بود ديده را به حُسن برون | *** | چو در درون متجلّى شود جمال حبيب |
ز مشرق دلت اي مغربى چه كرد طلوع | *** | هزار بَدْر برفت از نظر هلال حبيب۱ |
و روي في كتاب «أسرار الصلاة» للشهيد الثاني أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال:
قَلْبُ الْمُؤْمِنِ أجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يَزْهَرُ؛ وَ قَلْبُ الْكَافِرِ أسْوَدُ مَنْكُوسٌ.٢
و قال أيضاً:
لَوْ لا أنَّ الشَّيَاطِينَ يَحُومُونَ عَلَى قُلُوبِ بَنِي آدَمَ لَنَظَرُوا إلَى الْمَلَكُوتِ.٣
و ما أبدع إنشاد الحكيم السنائيّ حين يقول:
دل ان كس كه گشت بر تَنْ شاه | *** | بود آسوده مُلك از او و سپاه |
بد بود تَنْ چو دل تَباه بود | *** | ظلمِ لشكر ز ضعفِ شاه بود |
اين چنين پُر خَلَل دلى كه تو راست | *** | دَدْ و ديوند با تو زين دل راست |
پارهء گوشت نام دل كردى | *** | دل تحقيق را بهل كردى |
اينكه دل نام كردهاى به مجاز | *** | رو به پيش سگان كوى انداز |
از تن و نفس و عقل و جان بگذر | *** | در رهِ او دِلى بدست آور |
آن چنان دل كه وقت پيچاپيچ | *** | اندر او جز خدا نباشد هيچ |
دل يكى منظريست ربّانى | *** | خانهء ديو را چه دل خواني۱ |
از درِ نفس تا به كعبهء دل | *** | عاشقان را هزار و يك منزل۱ |
الأفراد الذين مكّنوا غير الله من قلوبهم ابتلوا بالعذاب
إن من يرحل عن الدنيا بقلب غير سليم، هو مريض بشتّى أنواع الأمراض الباطنيّة، كالشكّ و الشرك و الحسد و الرياء و الخدعة و حبّ الجاه و حبّ المال، فهذه الأمراض ستكون مانعاً من تجلّي الجمال الإلهيّ في القلب. و عليه إخراجها من قلبه، و هو أمر عسير شاقّ.
أ فيمكن -يا ترى- معالجة هذه الأمراض عند الاحتضار، و عند سؤال منكر و نكير، و عذاب القبر، و عالم البرزخ، و في عالم الحشر و السؤال و الحساب و العَرْض؟
و من كانت الأباطيل شغله الشاغل طول عمره، و من نأى عن عالم التجرّد و مقام حقيقة النفس، و عاش في عالم الظلمات، و ولع بالدنيا من أساسها، و مرّن قلبه و روحه و خواطره على هذا الأمر، و راضها بالآمال النفسانيّة و الظلم و الجناية و الإعراض عن الله تعالى، فصارت ملكاته ملكات حيوان و سبع ضارّ مفترس، كيف تُنتزع هذه الملكات منه؟ إنّكم لو قلتم لمن كان مرابياً في الدنيا: تُب و اقلع عن ذنبك هذا! إنّ أرباحك التي عادت عليك ليست حلالًا لك، فإن عرفت أصحابها فعليك أن تقسّمها بينهم، و إن لم تعرفهم فستكون مجهولة المالك و عليك إعطاءها للفقراء!
فأنى له أن يتقبّل هذا الكلام؟ و متى سيكون مستعدّاً للتوبة و لردّ الأموال الربويّة؟ لقد قضى العمر لحظاته و ساعاته مغرماً بأوساخ المال، و في جمع الدينار و الدرهم، و تمرّس على ظلم المظلومين و انتزاع لقمة العيش من حلقوم الصغير و اليتيم و البائس، و لم يتورّع عن بيع أموال
الفقراء و المساكين في سوق المزايدة، و عن تمريغ أصحابها بالتراب، فانعكست هذه الأعمال الشيطانيّة و البهيميّة في روحه و أثّرت فيها، حتّى كأنها تحجّرت كالصخر في مسرح خواطره. أ فماءٌ هو حتّى يطهّره الإنسان يا ترى؟
إن تحجّر هذه الصفات السيّئة القبيحة قد جعل نفسه كالحجر الأصمّ الصلد، و هذا التحجّر كالنقش و النحت في الصخر، فأنى له أن يزول بالماء؟ إنّ علاجه هو أن تُقلب ماهيّته.
لذا يُشاهد أنّ أمثال هؤلاء الأفراد يضحّون بأنفسهم في سبيل الدرهم و الدينار، و أنهم يصبحون جشعين بخلاء قساة، بحيث لو رأوا أبناءهم يجودون بأنفسهم أمام أعينهم لما كانوا مستعدّين للإنفاق من أجل إنقاذهم، مع ما يكنزونه من الثروة الطائلة. بل يضنّون بالمال حتّى على أنفسهم و لا يصرفون شيئاً لمعالجتها فيما إذا ابتلوا بمرض أو احتضروا.
فكيف -و الحال هذه- يُخرجون هذه الأمراض؟ و ما هي العقبات التي يلزم على القلب طيّها ليصل إلى مرحلة السلامة؟ الله وحده يعلم ذلك. بَيدَ أنه لا مفرّ من طيّ الطريق و اجتياز العقبات في نهاية المطاف.
و لا سبيل للخلاص إلّا إذا تجلّى نور الله في القلب، و تحرّك المؤمن بالفرقان الإلهيّ.
و يلزم هنا بيان نكتة معيّنة، و هي أنّ نور الله و توحيده و عظمته و علمه إذا كانت ظاهرة للجميع في عوالم ما بعد الموت، فلما ذا نرى في بعض الآيات أنّ المجرمين محجوبون ذلك اليوم؟
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ.۱
معنى تجلّي توحيد الله و عظمته يوم القيامة و محجوبيّة المشركين
إذا كان من لوازم عالم الآخرة، و هو عالم المعاد، الاعتراف و الإقرار بقدرة الله و وحدته و سائر أسمائه الحسني، فما ذا يعني حجاب الكفّار و المشركين؟ و نذكر المثال الآتي لتوضيح ذلك:
افرضوا أنّ هناك ملكاً يعيش تحت ظلّ حكومته جماعات معيّنة، منهم أفراد مطيعون من أهل الصلاح و النزاهة يأتمرون بأمره، و آخرون من أهل الظلم و الطغيان و التمرّد و التعدّي.
و أذِنَ هذا الملك لجميع الأفراد المطيعين من أهل الصلاح و دعاهم إلى بلاطه ليوزّع عليهم الهدايا و الصلات و الجوائز، فجالسهم و تبسّط معهم في الحديث و المفاكهة، و وقّرهم و كرّمهم و أحاطهم برعايته و عنايته، فيكون الملك قد أظهر نفسه لهم و هم جالسين في بلاطه، ناظرين إلى عظمته و قدرته.
و في ذلك اليوم يأمر هذا الملك بالقبض على الظالمين و الخائنين و الغشّاشين و حَبْسهم، فيمتثل الخدم و الحشم أمره و يبادرون إلى اعتقال المتمرّدين و تكبيلهم بالأغلال و السلاسل و يأتون بهم. فتكون قدرة الملك قد ظهرت لهم أيضاً في ذلك اليوم، لأنهم يرون أنفسهم أسرى في يده و قبضته، فهم لا يستطيعون أن يدّعوا إمكان فرارهم و خلاصهم و أنّ تحزّبهم و تجمّعهم سيحرّرهم.
و على كلّ حال، فقد ظهرت قدرة السلطان و عظمته لكلتا المجموعتين، المطيعة منهما و المتمرّدة، و لكن شتّان بين هذه و تلك؟
فأفراد المجموعة الاولى منعّمون يرفلون في الرياض و تهبّ عليهم النسائم متمتّعين بجمال السلطان و في كنف عطفه و عنايته، و في ظلّ إحسانه و إنعامه. و هؤلاء في السجن و العذاب و الأغلال، يتلوّعون في أُتون الحياة.
اولئك تنالهم المراحم و العنايات و الألطاف، و هؤلاء عرضة للنقم
و النكايات.
المؤمنون و الكافرون في معرضي التجلّيات الجماليّة و الجلاليّة
أجل، كلّ جماعة تقف حيال تجلّيات السلطان، لكنّ تجلّيات الجماعة الاولى الجمال و تجلّيات الثانية الجلال.
الجمال لطف و إحسان، و إجلال و إكرام، و مرحمة و إنعام؛ بينما الجلال قهر و غضب، و جبروت و شدّة، و بأس و نقمة.
اى آخر هر اوّل و اى اوّل هر آخر | *** | اي ظاهر هر باطن و اى باطن هر ظاهر |
انوار جمال توست در ديدهء هر مؤمن | *** | آثار جلالِ توست در سينهء هر كافر |
قد صار لنا الطَرْف في حسنكم و اله | *** | قد ظلّ لنا العقل في حسنكم حائر۱ |
إن المؤمنين حين يرحلون عن الدنيا فإنّهم في مظاهر جمال الحقّ جلّ و علا على الدوام، يسلّم بعضهم على بعض و يعظّم بعضهم بعضاً و يجلّونهم و يكرمونهم، و قد بيّن لنا القرآن الكريم هذه الحقيقة في سور مختلفة تبعاً للسير و المقام الذي كان لكلّ منهم في الدنيا، و تبعاً لمقدار القرب من الله تعالى.
كما أنّ الكفار واقعون تحت ظهور و بروز اسم القهّار و الجبّار و شديد المحال و أشدّ المعاقبين، و تحت ظهور و بروز الأسماء الجلاليّة. و هذا الظهور و التجلّي من القوّة بدرجة تجعل شركاء المشركين ينكرون عبادة
اولئك إيّاهم، فيقولون: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ.
كما أنّ المشركين يُنكرون عبادتهم بالنسبة إلى اولئك، فيقولون:
وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ.۱
التوحيد منكشف ظاهر للجميع، لكنّ تجلّيات الجلال توجب حَجب المشركين و الكفّار عن تجلّيات الجمال.
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ.٢
و بغضّ النظر عن هذا، فإنّ اي عمل يفعله الإنسان في الدنيا، فإنّ عاقبته ستكون ملازمة له قريبة منه في الآخرة. الكذب الذي يجترحه هنا سيظهر هناك في هيئة الكذب، و الخدعة و المكر و الحيلة التي يقابل بها الله تعالى في الدنيا، ستظهر له في الآخرة و تبرز في هيئة تلك الأفعال. لذا فإنّ المشركين يُنكرون شركهم يومئذٍ و يقولون: وَ اللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.
و ذلك أنّ كذبهم في الدنيا له ظهور أمامهم في الآخرة، و الأيمان التي أقسموها كذباً سيكون لها مثال و ظهور هناك، كما أنّ عدم استطاعتهم السجود يوم القيامة إنّما هو ظهور لاستنكافهم عن السجود في الدنيا.
و مع أنّ عظمة الله تعالى و قدرته تظهر حينئذٍ، ممّا يستلزم غاية الخشوع و التذلّل و السجود، و لكنّ باعتبار انطباع نفوس المشركين على عدم السجود، و عدم استعدادها للسجود للمعبود تعالى في الدنيا، فقد تجلّت هذه الحالة النفسيّة فيهم هناك في هيئة عدم القدرة على السجود، فصاروا
يُدْعَون إلى السجود فلا يستطيعون.
أثر انحرافات العاصين مشهود يوم القيامة
إن الأفراد الذين كانوا لا يسجدون في الدنيا و لا يصلّون، و لا يرون في أنفسهم الاستعداد لإظهار العبوديّة للّه تعالى، و الذين تمنعهم روحهم المتعالية المستكبرة في الدنيا من الهوي إلى التراب، و تمريغ الوجه فيه مقابل مقام عزّ الله و عظمته؛ سيعجزون هناك أيضاً عن السجود و الصلاة أمام الله تعالى، و عن إظهار الخضوع و الخشوع اختياراً، و الإقرار و الاعتراف بمسكنتهم قلباً، و عن تعظيم الله تعالى، بالرغم من ظهور القدرة و الوحدة و تجلّيهما.
و ذلك أنهم لم يقرّوا في هذه الدنيا بوحدة ذات الله المقدّسة طائعين، و سيعجزون هناك أيضاً -مع ظهور التوحيد و بسط مقام الوحدة- عن التلفّظ بالشهادة بالتوحيد و إجرائه على ألسنتهم مهما حاولوا.
و ما أورع البيان القرآنيّ لهذه الحقائق! إذ نقرأ في سورة إبراهيم قوله:
وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ.۱
أجل، أفئدتهم هواء خالية، لأنها كانت خالية من محبّة الله و معرفته في هذه الدنيا، نازعة إلى الباطل الذي لا أصالة له و لا وزن. هذا الباطل الذي سيضمحلّ هناك، فيبقى الفؤاد خالياً فارغاً.
وَ أَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما
لَكُمْ مِنْ زَوالٍ ، وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ ، وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ ، فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ ، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.۱
أجل، ستكون الأرض ذلك اليوم نقيّة لا أمت فيها، منوّرة بنور ربّها، أرض لا يُعصى الله عليها. و ستُقلب هذه الأرض و تنشقّ و تتخلّى عن أثقالها فتُلقيها خارجاً، و هناك محلّ ثواب الأعمال و جزائها. فمن عمل مثقال ذرّة خيراً أو شرّاً، وجد عمله حاضراً عنده يراه و يلمسه.
أمّا الذين ساروا في الدنيا بخطوات الاستقامة و المصابرة، و بقدم ثابتة في ساحة التقوى و الإيمان و الصدق و مجاهدة النفس الأمّارة و قمع هذا الشيطان المتمرّد بصدق، و حفظوا دينهم في الهزاهز و الفتن، فإنّ أعمالهم و نواياهم و مصائبهم محفوظة عند الله تعالى و في باطن عالم الكون هذا، و ستصل إليهم.
أمّا الذين تخيّلوا أنّ الله و عالم الخلقة و الرسل و الكتب الإلهيّة أُمور سطحيّة لا طائل فيها، فتعاملوا معها عابثين، و لم يروا لأنفسهم مسؤوليّة و التزاماً و شُغلوا في هذا العالم الفسيح باللهو و اللعب جامحين، و تفوّهوا بكلّ ما جرى على ألسنتهم، و عملوا ما أمكنهم فعله، و أطلقوا العنان لأنفسهم، و هتكوا المحرّمات الإلهيّة، فإنّ أعمالهم و نواياهم محفوظة عند الله تعالى أيضاً، و ستلاحقهم سياط العدل.
و قد جرى ذكر روايات مختلفة بشأن السابقين في طريق الله
و الركبان يوم القيامة، إلّا أننا نورد هنا رواية يرجع سندها إلى بني العبّاس من منطلق إقرار الخصم بفضائل أهل البيت.
الركبان في المحشر: رسول الله و صالح و أمير المؤمنين و فاطمة
يقول الشيخ المفيد في كتابه «الأمالي»: أخبرني أبو عليّ الحسن بن عليّ بن فضل الرازيّ، قال: حدّثنا أبو الحسن عليّ بن أحمد بن بشر العسكريّ، قال: حدّثنا أبو إسحاق محمّد بن هارون بن عيسى الهاشميّ، قال: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن مهدي الابليّ، قال: حدّثنا إسحاق بن سليمان الهاشميّ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني هارون الرشيد، قال: حدّثني أبي المهديّ، قال: حدّثني المنصور أبو جعفر عبد الله بن محمّد بن علي، قال: حدّثني أبي، عن جدّي علي بن عبد الله بن العبّاس، عن عبد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب، قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، قال: يا أيّها الناس نحن في القيامة ركبان أربعة ليس غيرنا. فقال له قائل: بأبي أنت و أُمّي يا رسول الله، من الرُّكبان؟
قال: أنا على البراق، و أخي صالح على ناقة الله التي عقرها قومه، و ابنتي فاطمة على ناقتي العضباء، و عليّ بن أبي طالب على ناقة من نوق الجنّة خِطامها من لؤلؤ رطب، و عيناها من ياقوتتين حمراوين، و بطنها من زبرجد أخضر، عليها قبّة من لؤلؤ بيضاء يرى ظاهرها من باطنها، و باطنها من ظاهرها، ظاهرها من رحمة الله، و باطنها من عفو الله، إذا أقبلت زفّت، و إذا أدبرت زفّت، و هو أمامي.
على رأسه تاج من نور، يضيء لأهل الجمع ذلك التاج، له سبعون ركناً كلّ ركن يُضيء كالكوكب الدرّيّ في أُفق السماء و بيده لواء الحمد، و هو ينادي في القيامة: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، فلا يمرّ بملأ من الملائكة إلّا قالوا: نبي مرسل، و لا يمرّ بنبيّ مُرسل إلّا قال: مَلَك مقرّب، فينادي منادٍ من بُطنان العرش: يا أيّها الناس ليس هذا ملكاً مقرّباً، و لا نبيّاً
مرسلًا، و لا حامل عرش، هذا عليّ بن أبي طالب، و تجيء شيعته من بعده فينادي منادٍ لشيعته: مَن أنتم؟ فيقولون: نحن العلويّون. فيأتيهم النداء: أيُّهَا الْعَلَوِيُّونَ. أنتم آمنون، ادخلوا الجنّة مع من كنتم توالون.۱
الولاية الكلّيّة لأمير المؤمنين و تحقّقه بالوجه الإلهيّ
أجل، هذا هو مقام أمير المؤمنين عليه السلام الذي يمسك بلواء الحمد، اي: أنه قد وصل إلى مقام التوحيد و الفناء في ذات الحضرة الأحديّة، بحيث إنّه يحمد الله تعالى كما هو أهله. و لذا فإنّه حقيقة وجه الله المحيط بالكون و المكان، و هو و الأئمّة الطاهرون في عالم سعة التجرّد و إحاطة الإطلاق.
و يُشير الملّا الروميّ في أشعاره إلى مقام سعة و إحاطة وجهه الإلهيّ فيقول:
تا صورتِ پيوند جهان على بود | *** | تا نقشِ زمين بود و زمان بود على بود |
مسجود ملائك كه شد آدم ز على شد | *** | آدم چو يكى قبله و مسجود على بود |
هم آدم و هم شيث و هم ايوب و هم ادريس | *** | هم يوسف و هم يونس و هم هود، على بود |
هم موسى و هم عيسى و هم خضر و هم الياس | *** | هم صالح پيغمبر و داود، على بود٢ |
آن عارف سجّاد كه خاكِ درش از قدر | *** | بر كنگره عرش بر افزود على بود |
اين كفر نباشد سخنِ كفر نه اينست | *** | تا هست على باشد و تا بود على بود۱ |
كما قال فيه عليه السلام:
رومي! نشد از سرّ على، كس آگاه | *** | زيرا كه نشد كس آگه از سرّ إله |
يك ممكن و اين همه صفات واجب | *** | لا حول و لا قوّة إلّا بالله٢ |
كما أنشد الشيخ كاظم الازري فيه:
لَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ مَفَاتِيحُ كَشْفٍ | *** | قدْ أمَاطَتْ عَنِ الْغُيُوبِ غِطَاهَا |
وَ اسْألِ الأعْصُرَ الْقَدِيمةَ عَنهُ | *** | كَيْفَ كَانَتْ يَدَاهُ رُوحَ غَذَاهَا |
وَ هوَ عَلَّامَةُ الْمَلَائكِ فاسْألْ | *** | رُوحَ جِبْرِيلَ عَنْهُ كَيْفَ هَدَاهَا |
اي نَفْسٍ لَا تَهْتَدِي بِهُدَاهُ | *** | وَ هوَ مِنْ كُلِّ صُورَةٍ مُقْلَتَاهَا |
يَا عَليُّ حسْبُكَ الْمِقْدَارُ لَا هو | *** | تِيَّةٌ لَا يُحَاطُ في عُلْيَاهَا |
هي قُطْبُ الْمُكَوِّنَاتِ وَ لَوْ لا | *** | هَا لَمَا دَارَتِ الرَّحَى لَوْلَاهَا |
لَكَ نَفْسٌ مِنْ جَوْهَرِ اللُّطْفِ صِيغت | *** | جَعلَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ فِدَاهَا۱ |
المَجْلِسُ الثَّلاثُون: القِيَامَةُ لَيْسَتْ في عَرْضِ هَذا الْعَالَمَ بَلْ مُحيِطَةٌ بِهِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.۱
المعاد هو عودة الإنسان و رجوعه إلى مبدأه، و من لوازم هذا السفر طلوع نور التوحيد في عالم القيامة، و بطلان سلسلة الأسباب و المسبّبات التي لها عنوان الوجه الخلقيّ.
المعاد عودة الإنسان إلى الله تعالى، و إقراره و اعترافه بمقام توحيد الله و عظمته و وحدانيّته و صفات جماله و جلاله. و لذا فإنّ عالم المعاد و القيامة ليس في عَرْض هذا العالم، بل مُحيطٌ به، لأنّ مقام توحيد الله تعالى و صفاته و أسمائه محيط بجميع العوالم، كما أنّ إدراك عالم القيامة و ظهور النفس إحاطة أيضاً بهذه النشأة و هذا العالم.
أيّان يوم القيامة؟ و أين مكانها؟
و لعلّ الإجابة على أسئلتهم: متى تقوم القيامة؟ و أين تقوم؟ أتقوم في الأرض أم في إحدى الكواكب السماويّة؟ أين المكان الذي أعدّ الله عزّ
و جلّ فيه الجنّة و جهنّم للمؤمنين و الكافرين؟ أين محلّه؟ و متى يحين زمان ذلك؟ قد اتّضحت للبعض تلقائيّاً خلال المباحث الأخيرة، و لكن لا بدّ لنا من ذكر مقدّمة لتنقيح الموضوع بصورة كاملة و بيانه بوضوح لإفادة الجميع، و سيتّضح بعد هذه المقدّمة متى سيكون زمن قيام القيامة، و أين مكان الجنّة و جهنّم.
لقد كانوا يسألون النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله: متى قيام الساعة؟ و متى قيام القيامة؟ و متى يحين هذا الوعد الذى تعد به؟ و منذ ذلك الوقت كان هذا السؤال يتردّد في أذهان الناس و عامّة الطبقات.
و المقدّمة التي سبق الإشارة إليها هي:
إن هذا العالم الذي نعيش فيه هو عالم المادّة و الطبع، اي: أنّ موجوداته موجودات مادّيّة، و لها طبائع مختلفة، و من لوازم عالم المادّة الزمان و المكان.
أي: أنه ليس هناك وجود لمادّة خارجة عن الزمان و المكان، فهما من أعراض الجوهر المادّيّ التي لا تنفكّ عنه. و من ثمّ فقد دُعي هذا العالم بعالم الطبع و المادّة. و لدينا عالم آخر ليس فيه مادّة، و لا وجود فيه للطبائع، و هو عالم المِثال و البرزخ، حيث إنّ حقيقة و ملكوت موجوداته أقوى بكثير و أعجب و أشرف و أعلم و أقدر. و بوجه عامّ فهو من جميع الجهات أقوى بكثير من هذا العالم.
إلّا أنّ ذلك العالم محيط بهذا العالم، و هو لا يتبع هذا العالم بحيث إذا ما انقضى هذا العالم و تصرّم، فإنّ الزمان الذي سيتبع هذا الزمان هو عالم البرزخ و المثال.
و هناك عالم أعلى من عالم المثال و البرزخ، و هو عالم النَّفْس، حيث إنّ موجوداته أعجب و أقوى بكثير، و علمها و قدرتها و إدراكها أكثر من
عالم البرزخ. كما أنّ ذلك العالم لا يتبع عالم البرزخ بحيث نقول إنّ زمن عالم البرزخ حين يتصرّم و ينقضي، فإنّ عالم القيامة سيطلع آنذاك، لأنّ عالم القيامة -أساساً- ليس له زمان خاصّ، بل هو فوق الزمان، و نتيجةً لذلك فإنّ عالم القيامة الذي هو ظهور تجلّيات النفس محيط بعالم البرزخ. و هكذا فإنّ عالم البرزخ محيط بهذا العالم، و عالم القيامة محيط بعالم البرزخ.
و بناءً على ذلك فإنّ عالمي البرزخ و القيامة موجودان الآن؛ بَيدَ أنه ليس صحيحاً أن نقول (الآن)، لأنّ كلمة (الآن) تعني هذا الزمان، فنكون بذلك قد أشرنا إلى عالم الطبع الذي له زمان. و علينا القول إنّ عالم البرزخ موجود، و إنّ عالم القيامة موجود.
أمّا قولنا إنّ عالم القيامة موجود الآن فهو من باب ضيق العبارة، لأننا لا نستطيع استخدام غير هذه العبارة لإيصال المعنى المذكور. و يمكننا فقط أن نقول إنّ عالم القيامة موجود، و هو لا يتبع هذا العالم، بل محيطٌ به. و إذا ما استعملنا لفظ (فعلًا) بدلًا من لفظ (الآن)، لواجهنا الإشكال نفسه، لأنها ألفاظ تؤدّي نفس المعنى. فهي أخيراً عوالم متداخلة، يحيط أحدها بالآخر و يُسيطر عليه.
إن هذا العالم تحت إشراف عالم البرزخ و سيطرته، كما أنّ عالم البرزخ تحت إشراف عالم القيامة و سيطرته. ذلك أنّ تلك العوالم لها السيطرة على هذا العالم، فجهات هذا العالم جميعها تحت إشراف تلك العوالم، إلّا إذا عكسنا الأمر فإنّه سيختلف، فعالم البرزخ ليس له سيطرة و إحاطة بعالم القيامة؛ و عالم الطبع ليس له سيطرة و إحاطة بعالم البرزخ. كما أنّ الموجودات التي في عالم الطبع و المادّة ليس لها سيطرة على عالم المثال و الصور الملكوتيّة؛ و الموجودات التي في عالم المثال و الملكوت
الأسفل ليس لها سيطرة على عالم الملكوت الأعلى و النفس.
تمثيل الحجاب بين عالم الطبع و عالم القيامة بجدار طويل ممتدّ
هذا هو موجز الموضوع، و لعلّ هذه المسألة تستبين جيّداً بإيراد المثال الآتي: أنّ هذا الموضع الذي نجلس فيه الآن هو مسجد، فافرضوا أنّ هناك روضة خلف هذا المحلّ و هذا المسجد لها صفة الروضات البرزخيّة. و افرضوا أنّ هناك جنّة برزخيّة أو جهنّم برزخيّة، و أنّ هذا الجدار جدار طويل. اي: أنّ هذا الحائط الذي بيننا و بين هذه الروضة، أو هذا الموقد و جهنّم جدار ممتدّ إلى مسافة بعيدة. و أنه يُقال لكم بأنّ عليكم أن تتحرّكوا من هنا و تذهبوا إلى تلك الروضة. و هو سيرٌ ينبغي على أفراد البشر قاطبة أن يسلكوه. فالجميع عليهم أن يدخلوا في عالم البرزخ. فإن زكّى الإنسان نفسه باتباعه التعاليم و الأوامر الإلهيّة و وصل إلى مقام الطهارة، و نزّه سريرته بحيث أصبح بإمكانه أن يرى و هو جالس هنا في المسجد موجودات عالم الملكوت و سينهض مباشرة نحو الجدار و يضربه بمعول أو فأس ضربات متتابعة حتّى يثقبه ثمّ يشرع في توسعة ذلك الثقب حتّى يتمكّن أخيراً من الدخول إلى تلك الروضة.
فهو في هذه الدنيا، إلّا أنه وصل إلى البرزخ، و طريقه في ذلك مجاهدة النفس و اتّباع ما أمر الله به، و الاحتراز عمّا أرادته النفس الأمّارة.
أمّا هذه الفؤوس و المعاول التي يضرب بها الجدار، فيسقط إثر كلّ ضربة قطعة من الحجر أو الطوب، أو الإسمنت، فهي في حكم تلك الأعمال الصالحة التي يفعلها الإنسان في الدنيا، فيرتفع مع كلّ عمل صالح حجاب من الحُجب، حتّى يُزال أخيراً هذا الجدار، فيدخل الإنسان في الروضة.
فالأفراد الذين لا يفعلون هذا العمل هم الذين لا يقومون بأعمال صالحة بحيث يمكنهم أن يفتحوا ثغرة في الجدار ليدخلوا تلك الروضة. أو
الذين يقومون بأعمال صالحة أحياناً، فيطرقون الجدار طرقات غير منتظمة، و الزمان يمرّ بالطبع، لأنّ هذا الجدار إنّما هو الزمان الذي يقع بيننا و بين تلك الروضة، و امتداد هذا الجدار إنّما هو امتداد الزمان.
و عليه فإنّ ذلك الزمان يزيحهم من أمام الجدار إلى جانب و طرف آخر، و كلّما مرّ الوقت و الزمن، فإنّهم يتحرّكون معه بامتداد الجدار، يتقدّمون إلى الأمام. و بدلًا من أن يثقبوا الجدار، فإنّهم يتقدّمون إلى الأمام و يطوون امتداد طول الجدار. فأمّا أن يوفّقوا في النهاية إلى فتح ثغرة فيه خلال سنة أو سنتين أو عشر سنوات، فيدخلون إذ ذاك في عالم البرزخ أو أنهم سيعجزون عن ذلك فيأخذهم طيّ الزمان اضطراراً إلى امتداد الجدار، حتّى ينتهي جدار زمنهم، اي: حتّى يحين موتهم، فيصلون إلى نقطة التوقّف التي عليهم أن يردوا منها إلى عالم البرزخ.
و قد رأيتم أنّ بعض المصانع تعمد إلى نصب سكّة حديديّة على الأرض، تتحرّك عليها باستمرار عجلات و أحزمة ناقلة. فإن شاءوا نقل كرسيّ أو صندوق أو شيء آخر إلى نهاية المصنع، فإنّهم يضعونه على هذه السكّة الحديديّة، فتوجب حركة الحزام الناقل و العجلات المتّصلة من سقف المصنع بهذه السكّة، حركةَ هذا الشيء حتّى يصل إلى آخر المصنع.
فتصوّروا أنكم تقفون على هذه السكّة الحديديّة الممتدّة بمحاذاة جدار الزمن، و أنّ حزام عالم الغيب هذا يحرّك عجلات الزمن و يُديرها، فيحرّك الكرسيّ الذي تجلسون عليه و ينقله إلى الأمام باستمرار.
و لو فرضنا أنّ الوقت الآن وقت الظهر، فإنّ كرسيّنا سيقابل نقطة معيّنة من هذا الجدار، ثمّ تمرّ ساعة فيتحرّك الكرسيّ إلى الأمام و يقابل نقطة أُخرى من الجدار. و هكذا فإنّه يتحرّك إلى الأمام باستمرار دون إرادتكم و اختياركم. و هذه العجلات في حركة دائبة مستمرّة، تأخذ الإنسان إلى
الأمام -شاء أم أبى- حتّى يحين موته و ينتهي الجدار و يصل إلى نهاية المصنع. هذا الجدار هو السدّ بيننا -نحن و إيّاكم و بين عالم البرزخ.
إن الأفراد الذين يفتحون ثغرة في الجدار فإنّهم ينفذون من الجدار إلى عمق الروضة و يردون عالم البرزخ. أمّا الذين لم يفتحوا ثغرة في الجدار، و ظلّوا جالسين على كراسيهم دونما حراك، فإنّ السكّة الحديديّة ستدفعهم إلى الأمام باستمرار، فهم ينتظرون -على الدوام البرزخ الذي سيأتيهم بعد انقضاء هذا العالم، و لا يعلمون أنّ ذلك البرزخ يواجههم، و أنّ جداراً واحداً يفصلهم عنه، و أنّ عليهم التحرّك من أمام الجدار لا من امتداده و في موازاته. بَيدَ أنهم- لمّا لم يكونوا من أُولي الهمّة في تدمير هذا الجدار- فإنّ عجلة الزمن ستجرفهم إلى الامام، حتّى يحين الموت و ينهدم الجدار، فيردون البرزخ حينئذٍ. و نعلم في ضوء ذلك أنّ البرزخ موجود خلف جدار الزمان، و الحور العين موجودات حاضرات خلف هذا الجدار، و الأشجار و المياه و النسائم و الأرواح الطيّبة الطاهرة، و أنواع العذاب و النقم حاضرة جميعاً، لكنّ هناك جداراً و حجاباً و ساتراً يمنع رؤيتها.
إن الذين يسيرون في طريق الله و يعملون بأمره سيردون ذلك العالم، أمّا الذين لا يتحرّكون فإنّهم لن يردوهُ حتّى يحين موتهم، فيكونوا قد طووا الطريق إلى البرزخ حتّى وصلوا إلى زمن الموت. فهذا الزمن لم يوصلهم إلى نقطة الموت في حقيقة الأمر، بل جعلهم يطّلعون على أحوال البرزخ. كما أنّ البرزخ موجود الآن دون أن يمتلكوا اطّلاعاً عليه، لأنّ جداراً فاصلًا يحول بينهم و بينه. هذا بالنسبة إلى البرزخ، أمّا بالنسبة إلى القيامة فإنّ الموضوع على هذا النحو أيضاً.
افرضوا أنّ هناك روضة أُخرى أمام الذين وردوا البرزخ، تُدعى بالقيامة و تجلّيات النفس، إلّا أنّ بين تلك الروضة و بين هذه الروضة
البرزخيّة جداراً فاصلًا أيضاً. فإذا استطاع الذين و ردوا عالم المثال -من خلال تزكية النفس الأمّارة و مجاهدتها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها- أن يطهّروا أنفسهم و سرائرهم من لوث و دنس عالم الصورة و لم يجعلوا غير الله فيها، و كانت أعمالهم و أفكارهم و حركاتهم و سكناتهم كلّها وفق أمر الله تعالى، فإنّ ذلك الحجاب القيامتيّ سيُزال عن أنظارهم. و سيكونون موجودين في الدنيا، يعيشون على أرض الطبع و عالم الزمان، لكنّهم و ردوا عالم النفس و القيامة من البرزخ، فصارت تلك الجنان الموعودة يوم القيامة حاضرةً بأجمعها أمامهم، مشهودة لديهم.
أمّا الذين لا يفعلون ذلك، فقد ذهبوا إلى عالم البرزخ، لكنّهم عجزوا عن الذهاب إلى القيامة، لذا فإنّ عليهم أن يطووا المسافة التي بينهم و بين القيامة، و يجتازوا الجدار الحائل بينهم و بينها ليصلوا إلى الزمن الذي يحضرون فيه عند نفخ الصور في عالم القيامة.
و في ضوء ذلك فإنّ القيامة ليست في عَرْض البرزخ بل في طوله، لكنّ انكشاف عالم القيامة و معرفة خصائص ذلك العالم و أحواله و خصوصيّاته و آثاره يتوقّفان على نفخ الصور و اضمحلال عالم البرزخ.
و من هنا فإنّ الأفراد الموجودين في الدنيا يصلون إلى البرزخ، كما يصلون إلى القيامة، و سيُشاهدون أنّ عالم البرزخ محيط بعالم الطبع هذا، و أنّ عالم القيامة محيط بعالم البرزخ و الدنيا كليهما.
و يتّضح -بعد بيان هذا المطلب الذي ذكرناه بوصفه مقدّمة- الجواب الذي نجيب به إذا ما سُئلنا عن وقت قيام القيامة.
الجواب أنّ القيامة حاضرة حاضرة، و هي أقرب إلى الإنسان من لمح البصر، و رضوان الله أقرب إلى الإنسان من لمح البصر، لأنّ برزخ الإنسان في الإنسان نفسه، و لأنّ قيامة الإنسان في الإنسان نفسه.
إن نفس الإنسان محيطة بعالم مثال الإنسان و صورته، و المثال محيط بالبدن، و من ثمّ فإنّ برزخ الإنسان و قيامته أقرب شيء إليه، و هما أقرب إليه حتّى من لمح البصر.
غاية الأمر أنّ عليه- من أجل الوصول إلى هذا المعنى و إدراكه أن يطوي هذا الجدار، فهذا الجدار البرزخيّ يجب أن يُطوى، و يجب أن يُنفَخ في الصور. فهذه الامور هي لطول المسافة لا لبُعد الطريق.
و ينبغي على من يعجز الآن عن شقّ هذا الجدار و فتح ثغرة فيه و بلوغ هدفه و مقصده، أن يطوى طول هذا الجدار. أمّا كم يستغرق طيّ هذا الجدار؟ هل يستغرق خمسين، أم ستّين، أم سبعين، أم مائة سنة؟ فالجواب هو أنه ينبغي له أن يعيش ليفهم ما هو البرزخ. ثمّ إنّه يذهب إلى البرزخ إلّا أنه لا يمكنه الذهاب إلى القيامة فوراً، لأنه أسير عالم المثال و الصورة.
و هكذا يجب عليه مسايرة ذلك الجدار الفاصل بين البرزخ و القيامة، فيسير و يسير حتّى يصل إلى نهاية الجدار. مع أنه لو تمكّن لفَتَح ثغرة في الجدار على الفور و وصل إلى رضوان الله و إلى تلك النعم التي وعد الله عزّ و جلّ بها في القيامة. و ما عليه إلّا أن يفتح في الجدار، فيجد نفسه في القيامة.
يسألون: أين تقوم القيامة؟ و متى تقع؟
هي أقرب من لمح البصر.
وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.۱
الله سبحانه موجود في كلّ مكان، و ملكوت السماوات و الأرض و غيبهما موجودان في كلّ مكان. فغيبهما -إذَن- في يد الله و مع الله و للّه.
كم يستغرق وصول الإنسان إلى القيامة؟ هي أسرع و أقرب من لمح البصر، لأنّ وجود نفس الإنسان و حقيقتها، أقرب إلى الإنسان من لمح البصر. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. و يمكنه إيصالكم إلى القيامة في لمح بصر أو أسرع منه.
فمتى -إذَن- تقوم القيامة؟ لا يمكن القول: الآن. متى يقوم البرزخ؟ لا يمكن القول: الآن.
إلّا أنّ من الممكن القول إنّ كلّا من القيامة و البرزخ قائم و موجود.
حجاب الصورة هو الفاصل بين البرزخ و القيامة
متى يصل الإنسان إلى البرزخ فيدرك آثار ذلك العالم؟ و الجواب أنه عند ما يخطو خارج عالم الطبع، و يرى سلسلة الأسباب و المسبّبات محكومة في يد الله تعالى.
متى يخرج من عالم البرزخ فيدرك عالم القيامة؟ و الجواب أنه حينما ينسف عالم الصورة و يتخطّاه، عندئذٍ يرد عالم القيامة، بسرعة أكثر فأكثر، أمّا الذين لا يمكنهم الإسراع فسيصلون متأخّرين.
المؤمنون يصلون أسرع من الكفّار، و الكفّار يصلون متأخّرين، و قد يحصل أن يطول برزخ البعض كثيراً في تخطّيهم للعقبات، حيث تواجههم مصاعب جمّة للوصول إلى القيامة، أمّا البعض الآخر فالأمر ميسور لهم.
و هو يسير جدّاً للأئمّة الطاهرين عليهم السلام و أولياء الله، فقد طووا في الدنيا البرزخ و القيامة، و شاهدوا الحساب و الكتاب و الصراط و الميزان و العدل و الجنّة و جهنّم و عبروها جميعاً، فوصلوا إلى مقام الفناء في ذات الحضرة الأحديّة، ثمّ عادوا إلى عالم البقاء فجاءوا لنا بالخبر.
الآيات القرآنيّة الكريمة الدالّة على اقتراب يوم القيامة
يُسألون رسول الله صلّى الله عليه و آله: مَتى هذَا الْوَعْدُ؟
وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً.۱
فما الذي يفهمه اولئك السائلون -ترى- من هذه المعاني؟ إنّ عالم النفس و الروح و التجلّيات الأنفسيّة، و إحاطة عالم النَّفس بالبرزخ، و إحاطة البرزخ بهذا العالم هي مباحث مهمّة، بل في غاية الأهميّة.
و هذه المطالب التي عُرضت في عدد من الأبحاث الأخيرة التي مرّت هي عصارة مُستخلصة من جميع الآيات القرآنيّة و الروايات و الأخبار الواردة في أمر المعاد و المعارف الإلهيّة.
و عند ما يأتي ذلك الشخص الذي كان مُشركاً فآمن لتوّه، أو ذلك المشرك الذي لم يؤمن بعد، فيسأل رسول الله صلّى الله عليه و آله: متى تقوم القيامة التي تعد بوقوعها؟
فما الذي سيقوله الرسول الأكرم في جوابه؟ و بأيّ كيفيّة سيفهمه؟ و كيف يُلفت نظره و يقول له: ها أنت تحترق في النار الآن؟ إنّ النار تحيط بوجودك كلّه لكنّك لا تدرك شيئاً! إنّ قيامتك معك الآن لكنّك لا تفهم و لا تدرك! عليك أن تطوي هذه الدنيا ثمّ تذهب إلى البرزخ فتذوق أنواع العذاب البرزخيّ الشديد حتّى تصل إلى القيامة! ثمّ يُنفخ في الصور فيُحضر الخلائق في المحشر، الأوّلون منهم و الآخرون. يجب طيّ يومٍ مقداره خمسون ألف سنة لتفهم كيف هي القيامة!
لا يمكن للنبيّ أن يقول شيئاً غير هذا! و كم كان جوابه رائعاً صحيحاً مدروساً مطابقاً للواقع! و ما أحسن قوله: إذ قال:
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً.
فَأيّ كلامٍ أروع و أعلى من هذه الكلام؟
وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ، فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ قِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ.۱
يقولون إن كنتَ صادقاً في هذا الوعد الذي تعده (فتقول إنّ هناك أصحاب الجنّة و أصحاب جهنّم، و إنّ الجنّة محلّ المؤمنين و جهنّم محلّ الكفّار) فعيِّنْ وقته و قل متى سيجيء؟
فقل لهم أيّها النبيّ: إنّما العلم عند الله، و لقد جئت لأنذركم من العواقب الوخيمة للكفر و الشرك و النفاق و العمل السيّئ. إنّما أنا نذير مُبين لكم من هذا الخطر، فاذهبوا و أصلحوا أنفسكم! ما شأنكم بوقت القيامة؟ إنّ اطّلاعكم على وقتها لن ينفعكم شيئاً، فأصلحوا أنفسكم لئلّا يشملكم البلاء، فهذا هو المهمّ!
لقد كنتم تسخرون بالقيامة عبر قولكم: متى هذا الوعد؟ و كيف تزول الأرض؟ و كيف تنهار الكرات و الكواكب السماويّة؟ و شاهدتم رأي العين أنه كان أقرب إليكم من لمح البصر، و أدركتم كَمْ كان قربياً منكم!
وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ.٢
حيث عبّر القرآن الكريم هنا عن قُرب الدنيا إلى القيامة بالمكان القريب.
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً.٣
و لهذه الآية دلالة على أنّ الأعمال التي يفعلها الإنسان من خير و شرّ، ستكون محضرة بنفسها يوم القيامة. اي: أنّ هذه الأعمال بعينها ستوجد في البرزخ، و في القيامة؛ غاية الأمر أنّ صورتها البرزخيّة و القيامتيّة لا تُرى في هذه الدنيا؛ فالقيامة و البرزخ -إذَن- قريبان من الدنيا إلى الحدّ الذي يحضر معه نفس العمل الدنيويّ فيهما (في القيامة و البرزخ) بمجرّد فعله، و لما كان الإنسان خلف جداري البرزخ و القيامة فإنّه لا يرى هذه الأعمال بصورتها القيامتيّة.
فإذا عبر، شاهد الأعمال التي أرسلها من قبل حاضرة و موجودة و محفوظة بأجمعها. و هكذا ستوجد في القيامة الصورة البرزخيّة للعمل و حقيقة العمل نفسه بمجرّد حصول العمل في عالم الطبع، و سيستقرّ كلٌّ منهما في موطنه و موضعه.
و الآية الكريمة: وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ۱ آيةٌ عجيبة جدّاً في إفادة هذا المعنى مثار البحث.
لو لا كلمةٌ سبقت من ربّك في أن يبقى الناس في الدنيا إلى أجل مسمّى، و يؤخّر موتهم إلى ذلك الزمان، لقُضي بين الناس فوراً، و لرأى جميع أفراد البشر أنفسهم في القيامة. و إذ ليس بيننا و بين القيامة فاصل و حاجز، و العلّة في الفاصل الذي وقع بيننا و بين القيامة كلمةُ الله و إرادته، فقد سبقت و حالت دون ذلك.
فما هي تلك الكلمة؟
وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ.٢
لمّا جاء أفراد البشر من نسل آدم إلى الدنيا، فقد قدّر الله سبحانه لهم أن يستقرّوا في الأرض و يتمتّعوا بثمراتها حتّى حين.
إن حكم الله و تقديره هذا في سكنى البشر فوق الأرض هو الكلمة الإلهيّة التي أبقت الإنسان في الدنيا إلى زمان خاصّ و معيّن، و لو لا هذه الكلمة الخاصّة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فوراً، و لفُصل بينهم بأعمالهم. فكان الإنسان في جهنّم أو في الجنّة على الفور. و لا فاصلة بينه و بين عالم الملكوت الأعلى، و بينه و بين الجنّة و النار.
و ذلك أن السَّبْق يستعمل في اللغة عند ما تكون هناك فاصلة بين شيئين، كأن يقول أحدكم مثلًا: سبقتُ رفيقي؛ اي: أنك سبقته و تركته و راءك في الطريق، و أنك سبقته إلى مكان معيّن. و نتيجة لهذا السبق فقد صارت بينك و بين رفيقك فاصلة، و إلّا لما كان للسبق من معنى. و لو كنت قد تحرّكتَ مع رفيقك في مسيرٍ ما بسرعة معيّنة، لكنتَ معه دون أن يفصل بينكما فاصل.
إن سبق كلام الله هو الذي يحول دون القضاء و الحكم بين الناس، و تلك هي «الكلمة الإلهيّة» التي قضت أن تبقوا في الأرض إلى أمد و زمان معيّن:
وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ.
فلولا هذه الكلمة لما كانت هناك مُهلة، بل كان قد قُضي بين الناس و صدر حكم الله فيهم، و لرأى جميع أفراد البشر أنفسهم في الملكوت، سواء كان ملكوت الجنّة أم جهنّم.
أهل المحشر يرون الدنيا والبرزخ قريبين من القيامة
و قد وردت آيات قرآنيّة جاء فيها أنّ المجرمين حين يُحشرون يوم الجزاء فإنّ الله تعالى يسألهم: كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟
فيجيبون: لبثنا في عالم البرزخ -الذي يُقال له عالم الأرض أيضاً-
قليلًا. بينما كان عذاب الله شديداً عليهم في البرزخ، و كانت لهم مشاكلهم في الحشر أيضاً، كما أنهم عاشوا و عمروا طويلًا في الدنيا، و مجموع هذه الأزمنة كثيرٌ لكنّهم يقولون: ما لبثنا إلّا ساعة.
فما هي هذه الساعة؟
إنّها تعني أنهم حين يردون عالم القيامة، و يلحظون إحاطة ذلك العالم بالبرزخ و الدنيا، فإنّهم يرون أنّ تلك العوالم كأنها لشدّة ارتباطها و اتّصال بعضها ببعض عالم واحد لا أكثر، و أنّ مكثهم و لبثهم في الدنيا و البرزخ لم يكن غير ساعة، و هناك يحسّون جيّداً بقُرب العوالم بعضها من بعض.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها ، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها.۱
و سيرون ذلك العالم متّصلًا و مرتبطاً بهذا العالم، و قريباً منه بحيث إنّهم:
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ.٢
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ، قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ ، قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.٣
وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ.٤ وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى
يَوْمِ الْبَعْثِ۱ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.٢
لقد جئتم هنا فها أنتم ترون هذه السعة العجيبة و الإحاطة المدهشة قياساً بالدنيا، و أنتم تخالون أنّ ذلك لم يدم إلّا ساعة واحدة، بينما كان مكثكم طويلًا. و لقد تصرّمت الأزمنة المتطاولة و القرون و الأحقاب المتمادية، لكنّ شدّة هذه السعة و الإحاطة و اتّحاد العوالم هذه الأشياء كلّها قلّلت هذا الزمن المتمادي في نظركم و جعلته ساعة واحدة!
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.٣
المجرمون في النار، إلّا أنهم لا يدركون احتراقهم من سكر الشهوة
قلنا: إنّ القيامة قريبة، و موجودة الآن، موجودة معك، و النار قد أحاطت بك، و عذاب الله قد أحاطك، لكنّ بدنك قد تخدّر و روحك قد تبلّدت و فقدت الإحساس بالألم، فهي لا تدرك كيف انّها في حالة اشتعال و احتراق.
إن الشخص الغاضب الذي تجيش أحاسيسه العصبيّة فإنّ عقله سيفقد الإدراك في تلك الحال، فتراه يضرب الكأس و الكوز فيكسرهما، و يقتل امرءاً و يرتكب ألف جناية، بَيدَ أنه لا يدرك ذلك. أمّا إذا هدأ و سكن غضبه فإنّه سيفهم آنذاك اي نارٍ كانت قد استعرت في روحه.
و عند ما تطغى شهوة المرء فإنّه يرتكب ألف عمل شنيع و لا يدرك
قبحه، و إذا ما عاد إلى حالته الطبيعيّة فإنّه يفهم ما الذي فعله حال الشهوة، و كيف انّه قد زنى بامّة أو ابنته و أسقط نفسه إلى مستوى أرذل و أدنى من الحيوان.
إن الناس أسرى الشهوات في الدنيا، و هذه الشهوات قد دوّخت أرواحهم و أنفسهم و عقولهم، و لم تدعهم يفهمون أنهم متألّمون مبتلون. و إنّ أهل الدنيا الذين يعيشون مع الآمال البعيدة، مبتلين بحبّ المال و حبّ الجاه، لا يدركون الحقائق. و مع أنهم يحترقون في النار لكنّهم لا يحسّون ألماً و لا يجدون حرقة. و لكن عند ما يتخلخل عالم الأسباب و المسبّبات و سلسلة العلل و المعلولات و تتداعى تشكيلات هذا العالم و أنظمته، و يطلع نور الله تعالى، و يتخطّى الإنسان مسير الشهوة. فإنّهم سيدركون يومئذٍ أنّ النار طاغية، و ما أعجبها من نار!
و كم أحرقت من أبدانهم و أنضجتها.
علماً أنّ سكر شهوة الإنسان و غضبه يمنعانه من إدراك الاحتراق و الاشتعال، لأنّ حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي و يُصِمُّ.
و عند ما ينقلب العالم و يتبدّل، و يخرج المرء من الطبع و المادّة و يشدّ الرحال إلى عالم التجرّد، فإنّه سيرى اي مصائب قد انصبّت على امّ رأسه، و اي جراح و قروح قد ألحقها بنفسه اللطيفة، و كيف قذف بها في اتون النار! لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً.
و هكذا تأتي القيامة بغتةً فتجرف الجميع، و لكن إلى أين؟
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها؛ وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى.
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ.۱
و هذه الآية ليست عائدة إلى المؤمنين؛ فلقاء الإنسان الوارد في هذه الآية و في كثير من آيات القرآن الكريم عائد إلى الإنسان عموماً، المؤمن و الكافر، المتّقي و الفاجر، العادل و الفاسق. و على الإنسان- أيّاً كان أن يتحرّك صوب الله تعالى و يحظى بلقائه.
إظهار الله سبحانه لنعم الجنّة الكامنة في النفوس
و هكذا يشعّ نور الله من نافذة عالم وحدانيّته، فيضيء جميع البواطن، و تصل إلى الإنسان -إثر طلوع نور التوحيد- آثار النعم الإلهيّة في مظاهر الجمال، من الجنّة و الحور العين، و جنّات تجري من تحتها الأنهار، و النسائم المبهجة؛ و الروائح العطرة المنعشة ، وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ، و كافّة النعم التي وُعد بها في القيامة.
وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ.۱
فهذه النعم كانت مختفية في بواطن النفوس، مُستترة في حقيقة المؤمن، و لكنّ قوله: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ.
وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها؛ فنور الله تعالى سيُضيء هذه المواضع و المواقع في صُقع النفوس.
إن العاصين و المذنبين هم هكذا دائماً، يُسبّبون النار و الحريق لأنفسهم فلا يُدركون ذلك، لأنهم سكارى بالشهوة، و الغضب، و الغفلة.
و لقد تخدّرت و تبلّدت في وجودهم الحواسّ التي يجب أن تُدرِك هذه النيران و تحسّ بها، و لقد بطل ذلك الحسّ و فقد أثره و قوّته.
و لقد تعطّل ذلك الحسّ المعنوي المجرّد -الذي يُدعى حسّاً لضيق التعبير- و أصبح قابعاً في زاوية الجمود متشرنقاً في سجن الجمود و البطلان.
أمّا حين يظهر نور الله فيشرق على هذه الحواسّ الميّتة الثملة النائمة، فيمنحها الحياة و الصحو و التيقّظ، فإنّ الأمر سيتّضح آنذاك.
مَثَل ذلك تماماً كصحراء تتراكم في جهةٍ منها الأقذار و القُمامة و الموادّ العفنة، في حين تزهر في جهتها الاخرى الورود و الرياحين و الياسمين، لكن لمّا كان الوقت ليلًا، و الجوّ بارداً، و الشمس غائبة لا تمنح نوراً و لا حرارة، لذا لا روائح للأقذار تزكم الانوف، و لا عطور للرياحين تعبق من هذه الجهة.
أمّا حين تبزغ الشمس من وراء الافق، و تشعّ بنورها على هذه الأراضي اليابسة الباردة المظلمة، فستتحرّك كافّة هذه الموجودات و تنشط و تظهر الآثار و الخصائص الكامنة المودعة في وجودها.
فتهبّ من تلك الجهة حينئذٍ الروائح العفنة الكريهة، و تعبق من هذه الجهة عطور الورود و الرياحين.
إن ما يستلزمه ظهور الباطن و خفاء الظاهر هو ظهور الحقائق و ارتفاع حُجب الماهيّات و أستار الهويّات، و وصول الكلّ إلى غايةِ الغاياتِ و نهاية النهاياتِ الذي هو بدء البداياتِ و هو الله سبحانه و تعالى. فالجميع يصل إلى الله الذي هو المنزل الأقصى المقصود للموجودات بأسرها.
وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ.۱
أي: أنكم سترجعون و تنقلب آثاركم و خصائصكم برمّتها فتصبحون شيئاً آخر، و كأنّ عالم القيامة -و هو ظهور الحقّ- يقلب الإنسان و يبدّله إنساناً آخر. إنّ طلوع القيامة يجعل شئون الحياة كلّها في صورة اخرى لا يتّسع لها فكر الإنسان أساساً، و يجسّدها و يجعلها في مرأى منه
بنحو آخر.
وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.۱
و قد وردت هذه الفقرة من الكلام الإلهيّ في كثير من الآيات القرآنيّة.
وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ.٢
أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ.٣
إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.٤
فما أسعد الذين يتحرّكون بكيفيّة صحيحة! اولئك الذين استعدّوا للسفر كما جاء في القرآن الكريم و في سيرة روّاد طريق الحقّ: الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين، و لم يتخلّفوا عن قافلة طريق الحقّ.
فمن نال درجةً من السعادة، فقد نالها بسبب متابعتهم عليهم السلام، و من شقي فإنّما شقي بمخالفتهم، لأنهم وجه الله المتحقّقون بالحقّ و الواقعيّة.
و جليّ أنّ الإنسان يقترب من متن الواقع و حقيقة نفس الأمر بقدر اقترابه منهم، و أنّ مَن بَعُد عنهم فقد شطّ و ابتعد عن أصالة الواقع و نفس الأمر و ميزان تشخيص ذلك وجدان الإنسان نفسه.
ذلك أنه إذا أنجز عملًا صائباً، فيمكنه بوجدانه أن يوازنه بعمل الأئمّة عليهم السلام، و إذا قام بعمل خاطئ، فعليه أن يزنه على هذا المنوال
أيضاً، ليُدرك قُبحه و كراهته.
المقام المحمود يوم القيامة هو مقام الشفاعة الكبرى
على هذا الأساس تقوم درجات و مقامات رسول الله و الصدّيقة الطاهرة و الأئمّة عليهم الصلاة و السلام.
يروي المجلسيّ رضوان الله عليه في «بحار الأنوار» عن «تفسير فرات بن إبراهيم» بسلسلة سنده المتّصل عن الإمام جعفر الصادق، عن آبائه، قال:
قال النبيّ صلّى الله عليه و آله: إنّ الله تبارك و تعالى إذا جمع الناس يوم القيامة و عدني المقام المحمود و هو وافٍ لي به، إذا كان يوم القيامة نصب لي منبر له ألف درجة، فأصعد حتّى أعلو فوقه فيأتيني جبرائيل عليه السلام بلواء الحمد فيضعه في يدي و يقول: يا محمّد هذا المقام المحمود الذي وعدك الله تعالى، فأقول لعليّ: اصعد! فيكون أسفل منّي بدرجة فأضع لواء الحمد في يده، ثمّ يأتي رضوان بمفاتيح الجنّة فيقول: يا محمّد هذا المقام المحمود الذي وعدك الله تعالى، فيضعها في يدي فأضعها في حجر عليّ بن أبي طالب، ثمّ يأتي مالك خازن النار فيقول: يا محمّد هذا المقام المحمود الذي وعدك الله تعالى، هذه مفاتيح النار، أدخِلْ عدوَّك و عدوّ امّتك النار، فآخذها و أضعها في حجر عليّ بن أبي طالب، فالنار و الجنّة يومئذٍ أسمعُ لي و لعليّ من العروس لزوجها، فهي قول الله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ.۱
ألقِ يا محمّد يا عليّ عدوّكما في النار. ثمّ أقومُ و اثني على الله ثناءً لم يُثنِ عليه أحدٌ قبلي، ثمّ اثني على الملائكة المقرّبين، ثمّ اثني على الأنبياء و المرسلين، ثمّ أثنى على الامم الصالحين، ثمّ أجلس فيُثني الله
عَلَيَّ، و يثني عَلَيَّ ملائكتُه، و تثني عَلَيَّ أنبياؤُه و رسلُه، و يُثني عَلَى الاممُ الصالحة؛ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ العَرْشِ:
يَا مَعْشَرَ الْخَلَائِقِ غُضُّوا أبْصَارَكُمْ حَتَّى تَمُرُّ بِنْتُ حَبِيبِ اللهِ إلَى قَصْرِهَا، فَتَمُرُّ فَاطِمَةُ بِنْتِي، عَلَيْهَا رَبْطَتَانِ خَضْرَاوَانِ، وَ مِنْ حَوْلِهَا سَبْعُونَ ألْفِ حَوْرَاءَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إلَى بَابِ قَصْرِهَا وَجَدَتِ الْحَسَنَ قَائِماً وَ الْحُسَيْنَ قَائِماً۱ مَقْطُوعَ الرَّأسِ. فتقول للحسن: مَن هذا؟ يقول: هذا أخي، إنّ امّة أبيك قتلوه و قطعوا رأسه.
فيأتيها النداء من عند الله: يا بنت حبيب الله إنّي إنّما أريتُك ما فعلت به امّة أبيك لأني ذخرتُ لك عندي تعزيةً بمصيبتك فيه، إنّي جعلتُ لتعزيتك بمصيبتك أني لا أنظر في محاسبة العباد حتّى تدخلي الجنّة أنتِ و ذرّيّتك و شيعتك و من أولاكم معروفاً ممّن ليس هو من شيعتك قبل أن أنظر في محاسبة العباد، فتدخل فاطمة ابنتي الجنّة و ذرّيّتها و شيعتها و مَن أولاها معروفاً ممّن ليس هو من شيعتها، فهو قول الله تعالى في كتابه: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ.٢ قال: هُوَ يَوْمُ القِيامَةِ. وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ،٣ هي وَ اللهِ فَاطِمَةُ وَ ذِرِّيَّتُهَا وَ شِيعَتُهَا وَ مَنْ أوْلَاهُمْ مَعْرُوفاً مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مِنْ شِيعَتِهَا.٤
لقد أعطى سيد الشهداء عليه السلام وجوده للّه تعالى، و قدّم حتّى طفله الرضيع، فإن أعطاه الله تعالى كلّ ما لديه فقد عامله بعدله.
دو كَون در خور يك موى اصغر تو نيرزد | *** | چو كار در تو فِتَد چيست خونبهات حسين جان؟۱ |
و قد ورد في بعض الروايات أنه عليه السلام جاء إلى خيام الحرم و قال:
إيتِينِي بِوَلَدِيَ الرَّضِيعِ حَتَّى أوَدِّعَهُ.
فَأُعطِي ولده الرضيع، فانحنى عليه ليقبّله، فجاءه على تلك الحال سهم حَرْمَلة فأسلم الروح شهيداً.
المَجْلِسُ الْحَادِيَ وَ الثَّلاثُون: الْقِيَامَةُ عَالَم النُّورِ وَ الإشْرَاقِ وَ ظُهُور الحَقَائِق
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
إلى قوله تعالى:
وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.۱
بلغنا في أبحاثنا عن المعاد موضوع الحشر، فقد عرضنا الكثير من أبحاث تتمّة عالم الدنيا و جميع مسائل عالم البرزخ، و كيفيّة إحياء الموتى و بعثهم يوم المحشر، و معنى الحشر، و ها هم الموتى قد نهضوا من قبورهم فحضروا في المحشر.
و نستعرض هذا الموضوع و ما سيجري يوم القيامة في ما يأتي من أبحاث إن شاء الله تعالى مستهدين بالآيات القرآنيّة المباركة و الأخبار الموجودة لدينا.
سبقت الإشارة إلى أنّ الموجودات ليست محجوبة عن بعضها البعض في القيامة، لأنّ القيامة ليست عالم المادّة و الزمن. فالموجودات ليس لها يومئذٍ حجاب و ساتر فيما بينها بحيث يفصل بين مفرداتها.
و قد تقدّم ذكر هذا الموضوع في بحث مفصّل سابق، استشهدنا فيه بآيات من القرآن الكريم.
في تفسير الآية : وأشرقت الأرض بنور ربها
أمّا كلامنا الآن فيدور حول عالم القيامة بوصفه عالم الظهور و البروز و التجلّي، اي: عالم النور لا عالم الظلمة. و لذا نرى أنّ موجودات ذلك العالم كلّها موجودات نورانيّة على الرغم من أنّ الموجودات محجوبة بعضها عن البعض إجمالًا:
وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.
و الشاهد هنا في قوله:
وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.
أي: أنّ له قدرة بحيث إنّ الأرض و السماء في قبضته و تحت سيطرته و هيمنته و حكومته.
سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
تنزّه و تقدّس و علا و سما عمّا يُشرك به الناس، و يجعلون له شريكاً في وحدانيّته.
إن ذلك العالم عالم نوراني، و إنّ سنخ ذلك العالم مبدئيّاً هو الظهور و البروز و التجلّي. أمّا هذا العالم الذي نعيش فيه فله مادّة و زمن، و الهيولى الاولى فيه -و هي مادّة الموادّ- تتّخذ لنفسها صوراً مختلفة، ثمّ إنّ الموجودات تستقرّ على تواتر الأيّام و بالتقيّد في المكان. و في ضوء ذلك
فلمّا كان الزمان و المكان من مواصفات الموجودات في العالم، و كان تحقّق الموجودات و تشخّصها مرتبطاً بالزمان و المكان، فإنّ الموجودات المادّيّة ستزال بإزالة الزمان و المكان. لذا فإنّ كلّ موجود في هذا الزمان منفصل عن الأزمنة الاخرى، كما أنّ كلّ موجود في هذا المكان معزول عن الأمكنة الاخرى، و لا يمكن للإنسان أن يوجد في عدّة أزمنة أو عدّة أمكنة في آن واحد.
و كلّ موجود إنما يوجد في مكان واحد و زمان واحد، حيث يكوّن هذان العرضان شخصيّته الماهويّة.
افرضوا أنّ هذا العالم الذي نعيش فيه ليس له ثقل المادّة و كثافتها، و أنّ هناك مكاناً لا ينفصل فيه موجود عن موجود آخر بلحاظ إشغال حيّز و مكان ما، و أنّ هناك زماناً لا تنفصل فيه الأزمنة بعضها عن بعض، فالماضي و الحاضر و المستقبل تصبح شيئاً واحداً. و تكون هذه الجهة من العالم مع تلك الجهة جهة واحدة، باعتبار افتراضنا انعدام المكان.
الأشياء برمّتها ظاهرة و مشهودة لجميع الأشياء يوم القيامة
لذا فإنّ الموجودات جميعها ستكون حاضرة و مشهودة هناك، و سيكون كلٌّ منها منكشفاً و مشهوداً للموجود الآخر، إذ إنّ الحجاب ليس مادّة فيفصلها بعضها عن بعض، كما ليس هناك زمانٌ أو مكان فيفرّقا بينها.
و بناءً على ذلك فإنّ كلّ شيء سيكون موجوداً، و كلّ شيء سيكون منكشفاً و جليّاً لكلّ شيء.
افرضوا أنّ هناك جماعة متحلّقةً في أحد المساجد و مشغولة بتبادل الحديث و بتدارس القرآن و بحثه و تفسيره، فإنّ أفراد هذه الجماعة سيحسّون بوجودهم و شخصيّتهم في تلك الساعة التي يجلسون فيها، لكنّهم لا يحسّون بمحادثة الساعة السابقة، و لا بوجود الساعة السابقة،
و لا الساعات اللاحقة و لا المحادثة الدائرة فيها. كما أنهم لا يدركون اليوم الذي انقضى و الساعات التي تصرّمت، و لا يدركون اليوم الذي لم يأتِ بعد و لا ساعاته. و من جهة اخرى فإنّ هذه الجماعة تواجه بعضها بعضاً فحسب، لذا فإنهم يتعاملون مع الأفراد الذين يتذاكرون و يتخاطبون معهم، لكنّهم لا يرون ما وراء جدار المسجد فضلًا عن الموجودات الأبعد و الأشياء الأبعد.
أمّا لو افترضنا أنهم يجلسون في مسجد توجد فيه ساعة المذاكرة و الساعة التي قبلها و الساعة التي بعدها، و أنّ وجودهم الفعليّ واحد مع وجودهم في اليوم السابق و اليوم اللاحق، و أنّ السنة السابقة و اللاحقة شيء واحد لهم؛ هذا من جهة.
و من جهة اخرى فإنّ هذا المسجد مسجدٌ نورانيّ، جدرانه بلّوريّة و سقفه بلّوري و أرضه بلّوريّة، و الساعة الموجودة فيه من البلّور أيضاً، و عقارب الساعة و عجلاتها المسنّنة و إطارها من البلّور، و أنّ فراش المسجد من البلّور، و أرضيّته من البلّور.
و في هذا الفرض لن يشاهد ظاهر الساعة فحسب، بل يُشاهد باطنها كلّه بما يضمّه من عجلاتها و لوالبه و رقّاصها. و لما كان الفراش بلّوراً فإنّه لا يحجب مشاهدة الأرض، فيستطيع الإنسان أن يرى الأرض من فراشها. و لمّا كانت الأرض بلّوريّة، فإنّ كلّ ما تحتها إلى تخومها سيشاهد أيضاً. و لما كانت الجدران بلّوريّة، فإنّ ما خلفها سيشاهد هو الآخر.
العالم -إذَن- عالمٌ بلّوريّ، كما أنّ وجود الإنسان نفسه بلّوريّ أيضاً، و كما يدرك كلّ إنسان نفسه و يراها، فإنّه يدرك جميع الموجودات الاخرى، كما أنّ تلك الموجودات تدرك الإنسان و تفهمه، فليس هناك شيء غائب عن شيء.
و هكذا يسطع النور على هذه الأشياء البلّوريّة، فيتلألأ كلٌّ منها و يعكس النور على الأشياء البلّوريّة الاخرى؛ و لما كانت الأشياء جميعها متلألئة و مُشعّة، فإنّ العالم سيكون عالماً نورانيّاً و مشهوداً برمّته.
هذه هي كيفيّة العوالم العلويّة، و قد مثّلنا بالدنيا، إلّا أنّ حقيقتها في عالم الآخرة.
و لقد سُئل أمير ألمؤمنين عليه السلام عن العالم العلويّ، و كانوا يستوضحونه عن كيفيّة ذلك العالم و خصائصه و آثاره، ذلك العالم الذي يقابل العالم السفليّ الذي نعيش فيه، و ذلك العالم هو محلّ الملائكة و الأرواح و العقول و الموجودات المجرّدة. فما هي خصائص هذه الموجودات يا ترى؟
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: صُوَرٌ عَارِيَةٌ عَنِ الْمَوَادِّ؛ عَالِيَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ وَ الاسْتِعْدَادِ؛ تَجَلَّى لَهَا فَأشْرَقَتْ؛ وَ طَالَعَهَا فَتلألأتْ؛ وَ ألْقَى في هُويَّتَهَا مِثَالَهُ؛ فَأَظْهَرَ عَنْهَا أفْعَالَهُ. وَ خَلَقَ الإنْسَانَ ذَا نَفْسٍ نَاطِقَةٍ؛ إنْ زَكَّاهَا بِالْعِلْمِ وَ الْعَمَلِ، فَقَدْ شَابَهَتْ جَوَاهِرَ أوَائِلِ عِلَلِهَا؛ وَ إذَا اعْتَدَلَ مِزَاجُهَا، وَ فَارَقَتِ الأضْدَادَ، فَقَدْ شَارَكَ بِهَا السَّبْعَ الشِّدَادَ.۱
و قد أوردنا هذا الحديث الشريف مع سنده و ناقشناه في الجزء الثالث من «معرفة المعاد»؛
شرح حديث أمير المؤمنين عليه السلام: صور عارية عن الموادّ
و نشرع الآن ببحث مفاده و معناه.
لقد أجاب الإمام عليه السلام بأن لا وجود للمادّة في العالم العلويّ، فهناك صور عارية عن المادّة؛ و من الطبيعيّ أنّ المادّة لمّا كانت غير موجودة فإنّ الزمان غير موجود أيضاً، لأنّ المادّة من ملازمات الزمان.
و تلك الموجودات موجودات فعليّة محضة، ليس لها قوّة و قابليّة، أمّا
الموجودات التي تتحرّك نحو الكمال، فتمتلك القوّة و القابليّة و توصل قواها إلى الفعليّة -بطي مدارج الكمال- فهي في حركة دائبة بين القابليّة و الفعليّة، تبدّل القوّة إلى الفعل في كلّ لحظة، و في اللحظة الاخرى تبدّل تلك الفعلية- التي هي بدورها قوّة و قابليّة بالنسبة إلى المراحل و المراتب التالية فعليّة أُخرى. و هكذا تتبدّل باستمرار كلّ قوّة إلى فعليّة نسبيّة، و تتبدّل تلك الفعلية النسبيّة إلى فعلية أكمل، حتّى تصل إلى منزل الفعليّة المحضة، و تحوز الفعليّة المطلقة.
إن بذرة الفاكهة التي أُودعت فيها القوّة و القابليّة لتكون جذراً، و ساقاً، و شجرة، و أوراقاً، و لتعطي -من ثمّ- فواكه كثيرة لسنين طويلة، إذا زرعت تحت الأرض في حركة تكامل و نمو شجرة و إعطاء فاكهة.
و هكذا تقوم موجودات هذا العالم جميعها- بامتلاكها القوّة و القابليّة بواسطة اللبس و الخلع بتبديل تلك القوى إلى الفعليّة، و تصعد سلّم الترقّي فتصل إلى التكامل، و ذلك الترقّي و الكمال يعدّان من مختصّات هذا العالم. أمّا في ذلك العالم فإنّ الموجودات كلّها تمتلك الفعليّة المحضة.
إن كلّ موجود يرحل عن هذه الدنيا، فإنّه يُختم هناك بالفعليّة التي كان عليها عند رحيله بمجرّد رحيله، و مع أنّ في البرزخ إجمالًا حركة و تكاملًا، إلّا أنه -كما أُشير سابقاً- يعدّ من تتّمة عالم الدنيا لأنه يمتلك خصائص الكمّ و الكيف التي تُشبه الموجودات المادّيّة. أمّا في القيامة فلا حركة و لا تكامل أبداً، فمَن وضع قدمه فيها فإنه سيكون قد وصل إلى الفعليّة المحضة.
كما تنعدم الحركة و التكامل لدى ملائكة ذلك العالم، فقد خُلق كلّ منهم ليظلّ في مهمّته التي وُجد من أجلها إلى الأبد، و ليس لهم ضعف و قدرة و نقصان و زيادة، كما لا يمكنهم أن يتخطّوا ما عُيّن لهم، و لا أن
يقصّروا أو يتماهلوا في أداء ذلك.
هذه هي بعض خصائص موجودات العالم العلويّ الخالية من المادّة و الحجاب، و المستقرّة على أرضيّة الفعليّة و التحقّق الصرف المحض.
و لقد تجلّى الله تبارك و تعالى لهم، اي: أنه أظهر نفسه في مرآة هويّاتهم و ماهيّاتهم التي تُدعى في اصطلاح العرفاء ذوي العزّة و القدر بـ «الأعيان الثابتة»، فَأَشْرَقَت، و طلع فيها فتلألأت و أنارت. ثمّ إنّه ألقى في هويّات تلك الموجودات شبهه و مثاله، و هو ظهور و بروز صفاته و أسمائه، فأظهر أفعاله عن تلك الموجودات.
و لذلك فإنّ ظهور أفعال الله عن تلك الموجودات كان بسبب إلقائه مثاله فيها، فقد وضع فيها أوّلًا الاسم و الصفة، فظهرت تبعاً لذلك أفعاله عنها. فأفعال موجودات العوالم العلويّة كلّها هي ظهور صفات و أسماء النور فحسب، حيث قد ظهر فيها على أساس التجلّي الذاتيّ.
لقد خلق الله الإنسان ذا النفس الناطقة و ميّزه و فضّله بها على سائر المخلوقات، فإن زكّى الإنسان نفسه و نمّاها بالعلم و العمل، شابهت إذ ذاك أصل جواهر سلسلة عللها في مبدأ التكوين، و تناسخت و تشابهت مع تلك الموجودات الطاهرة و المنوّرة في العالم العلويّ.
و إذا اعتدل مزاج الإنسان و فارق الأضداد و القوى الشهويّة و الغضبيّة و الوهميّة المختلفة، و جعل استعمال تلك القوى على أساس الاعتدال، و تبعاً لأوامر قوّته العقليّة و قوّته الناطقة القدسيّة، فإنّ السماوات السبع التي تشرف عليه ستشترك معه في الحياة و آثارها.
أي: أنّ الإنسان سيرتقي كالسبع الشداد «السموات السبع» المحكمة المتقنة، و ستكون له روح الكمال، و يصبح مثلها ذا صفات و أفعال مجرّدة و مطلقة.
كان هذا شرحاً مختصراً حول الحديث الشريف المشار إليه، أمّا البحث المفصّل عنه فلا يسعه هذا الكتاب.
و ما أروع الأبيات التي أنشدها الخواجه حافظ الشيرازيّ في نشأة العالم العلويّ و اختلاف الظروف و الماهيّات و خلقة الإنسان الذي هو جامع لصفات الله تعالى.
أشعار حافظ الشيرازي في كيفيّة نشوء الإنسان و عالم الملكوت
در ازل پرتو حُسنت ز تجلّى دم زد | *** | عشق پيدا شد و آتش به همه عالم زد |
جلوهاى كرد رُخَت، ديد مَلَك عشق نداشت | *** | عينِ آتش شد از اين غيرت و بر آدم زد |
عقل مىخواست كز آن شعله جهان افروزد | *** | برق غيرت بدرخشيد و جهان بر هم زد |
مُدّعى خواست كه آيد به تماشاگه راز | *** | دستِ غيب آمد و بر سينهء نامحرم زد |
ديگران قرعهء قسمت هم بر عيش زدند | *** | دلِ غمديده ما بود كه هم بر غَم زد۱ |
جان عِلْوى هوسِ چاهِ زَنَخدان تو داشت | *** | دست بر حلقهء آن زلفِ خَم اندر زد |
حافظ آن روز طربنامهء عشقِ تو نوشت | *** | كه قلم بر سَرِ اسباب دلِ خُرّم زد۱ |
و يقول في موضع آخر:
عكسِ روى تو چو در آئينه جام افتاد | *** | عارف از خنده مِى در طمعِ خام افتاد |
حُسن روى تو به يك جلوه كه در آينه كرد | *** | اين همه نقش در آئينه اوهام افتاد |
اين همه عكس مى و نقش و نگارى كه نمود | *** | يك فروغِ رخِ ساقيست كه در جام افتاد |
من ز مسجد به خرابات نه خود افتادم | *** | اينم از عهدِ ازل حاصل فرجام افتاد٢ |
هر دَمَش با منِ دلسوخته لطفى دگر است | *** | اين گدا بين كه چه شايسته إنعام افتاد |
زير شمشير غَمش رقص كنان بايد رفت | *** | كانكه شد كشتى او نيك سرانجام افتاد |
در خمِ زلف تو آويخت دل از چاه زَنخ | *** | آه كز چاه برون آمد و در دام افتاد۱ |
و قال المرحوم الحكيم السبزواري:
إذ لا حجاب في المفارقاتِ | *** | و إنما اختصّ المقارناتِ |
فكان في كلٍّ جميع الصور | *** | كلّ من الكلّ كمجلى الآخر٢ |
ليس هناك من حجاب في موجودات العالم العلويّ التي تدعى بالمفارقات، كما هو الأمر في عالم العقول و النفوس المجرّدة؛ بل يختصّ الحجاب بموجودات العالم السفليّ، لأنه عالم المادّة و الطبع، الممتلك لقابليّة المادّة و الهيولى الاولى.
لذلك فإنّ الصور جميعها تنعكس في عالم المفارقات و الموجودات العلويّة الملكوتيّة، فكلٌّ منها بالنسبة إلى الآخر كموضع التجلّي الآخر بالنسبة إلى الأوّل، فلكلٍّ ظهور و تجلٍّ في الآخر، و كلّ منها مظهر و مجلى لأنوار قدسيّة اخرى.
و يقول السبزواريّ في شرح هذه الأشعار:
فَهِيَ كَالْمَرَائِي الْمُتَعَاكِسَاتِ، هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ أِرسطاطاليسُ: وَ الأشْيَاءُ الَّتي في الْعَالَمِ الأعْلَى كُلُّهَا ضِيَاءٌ؛ لإنهَا في الضَّوْءِ الأعْلَى؛ وَ لِذَلِكَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَرَى الأشْيَاءَ في ذَاتِ صَاحِبِهِ؛ فَصَارَ لِذَلِكَ كُلُّهَا وَ الْكُلُّ في الْوَاحِدِ؛ وَ الْوَاحِدُ مِنْهَا هُوَ الْكُلُّ؛ و النُّورُ الَّذِي يَسْنَحُ عَلَيْهَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، هَذَا كَلَامُهُ.۱
ثمّ يقول السبزواريّ في الحاشية بعد بيان هذا المطلب:
وَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَ في الْعُقُولِ الَّتِي هي فَوَاتِحُ كِتَابِ التَّكْوِينِ يَتَحَقَّقُ في الْعُقُولِ الَّتِي هي خَوَاتِمُهُ؛ كَعُقُولِ إخْوَانِ الْحَقِيقَةِ وَ الصَّفَا؛ فَإنهَا حَيْثُ كَانَتْ وَحْدَانِيَّةَ الْوِجْهَةِ وَ الْعَقِيدَةِ، مُتَّفِقَةَ الأخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَ الأعْمَالِ الْحَسَنَةِ، كَانَ كُلُّهَا في كُلِّهَا؛ وَ الْكُلُّ في الْوَاحِدِ، وَ الْوَاحِدُ مِنْهَا هُوَ الْكُلُّ.٢
متّحد بوديم و يك گوهر همه | *** | بى سر و بى پا بُديم آن سر همه |
يك گهر بوديم، هم چون آفتاب | *** | بى گِرِه بوديم و صافى همچو آب |
چون به صورت آمد آن نور سَرِه | *** | شد عدد چون سايههاى كنگره |
كنگره ويران كنيد از منجنيق | *** | تا رود فرق از ميان اين فريق٣ |
شرح كلام أرسطو بشأن موجودات العالم العلويّ
و نذكّر توضيحاً بأنّه كما كانت موجودات العالم العلويّ كلّها في البداية نوراً محضاً و ضياءً صرفاً و خالصاً، فإنّ النفوس الناطقة و وجود الإنسان ستصل -بدورها- إلى هناك في مراتب صعودها و مراحل تكاملها.
و سيصل هذا الإنسان ذو النفس الناطقة إلى حيث يشاهد جميع الموجودات و يراها منطوية في وجوده. فمن باب المثال افرضوا أنّ لنا -نحن المتحلّقين هنا- بدناً و مادّة. و هو أمر لا ريب فيه، إذ نملك يداً و رجلًا و عيناً نستخدمها لإنجاز أعمالنا، فنذهب و نرجع و يرى بعضنا بعضاً. و نحن لا ندرك بحواسّنا الظاهريّة شيئاً عن بعضنا غير هذا الهيكل الظاهر، إلّا أنّ حقيقتنا و واقعنا ليست هذا البدن، إذ إنّ لنا أفكاراً و إدراكات، فنحن نعرف أصدقاءنا و معارفنا و ندركهم في أذهاننا. و إذا قُدّر أن تكون لنا نورانيّة و صفاء، فإنّنا ما إن ننظر بأعيننا إلى الأصدقاء و نرى ظاهرهم، فإنّنا سنخبُر بجميع ما تختزنه عقولهم و أفكارهم و أذهانهم و حقائقهم و عقائدهم و صفاتهم و نواياهم.
و لو كنّا نحن و أصدقاؤنا موجودات متلألئة و متشعشعة نورانيّة كهذه المرايا و البلّورات، بحيث لا يُحجب اي موجود عن حقائقنا و حقائق الموجودات الاخرى، فإنّنا سندرك الكلّ، كما سيدرك الكلّ كلّ الكلّ.
إن العلّة في عدم اطّلاعي على علومكم، و في عدم اطّلاعكم على علوم الأصدقاء، و في عدم اطّلاعكم على ما في خارج هذا المسجد الذي تجلسون فيه، و على ما يُخبِّئهُ الغد، تكمن في هذه الحجب المادّيّة. فإن ازيل الزمان و المكان و تلاشي حجاب المادّة، فإنّ جميع الموجودات ستكون حاضرة الآن أمامكم، و ستكونون حاضرين لأصدقائكم، و سيكون كلّ صديق حاضراً و مشهوداً لصديقه الآخر.
و لن يكون عندئذٍ من حجاب، و لا من موجود محجوب عن موجود آخر؛
نفس الإنسان الناطقة تحصل في مقام كمالها على الإحاطة بالموجودات
و سيصل الإنسان ذو النفس الناطقة، إثر تكامل قواه و إمكاناته المودعة فيه، إلى حيث يدرك الموجودات برمّتها، و إلى حيث تصبح جميع حقائق العالم و العقول و الصور و المعارف الإلهيّة منطوية في وجوده.
و كما كان الإنسان في أصل النشأة بسيطاً دون تعقيد، و كان في مكان
حيثُ الواحد الذي لا أحد غيره. لم يكن إلّا الله فحسب؛ كان هناك واحد و هو الله الواحد. و وحدته ليست عدديّة، بل هي وحدة بالصرافة. و تبعاً لهذه المقدّمة فإنّ وجود الله المقدّس لم يدع غيراً في العالم، و لم يكن في العالم موجود سواه. أجل كما كان الإنسان على ذلك النحو، فإنّ عليه أن يعود بنفس الصورة إلى مقامه الأوّل.
و لما كان نور النفس الناطقة الموجود في عالم التوحيد ذا سعة و إحاطة في مقابل تشعشع أنوار الحضرة الأحديّة جلّ و عزّ. فقد تنزّل إلى عالم الصورة، ثمّ إلى عالم المادّة فظهر في عالم الكثرة، و صار متكثّراً كتكثّر النور الخالص حين يسقط على الشرفات التي تعلو البنايات فتنشأ منه هذه الاختلافات.
و هكذا فإنّ هذه الشرفات يجب أن تُحطّم بمنجنيق الهمّة الراسخة و الإرادة المتينة، و بطيّ طريق الله، و الورود في عالم تزكية النفس الأمّارة، و بشدّ الرحال إلى لقاء الله. و ينبغي لهذه الازدواجيّة و الأنانيّة و الاستكبار أن تدفن في مقبرة النسيان، ليعود الإنسان من جديد إلى مقام التوحيد و الصفاء و الطهارة التي كانت له أوّل خلقه، و ليرجع كما كان جوهرة متلألئة وهّاجة، و يصبح كالشمس الساطعة، مركزاً لبثّ النور في العوالم و يكون محيطاً بها. علينا أن نرجع شئنا أم أبينا، فالمعاد أمر لا مناص منه. و لكن لو تحرّكنا طوع إرادتنا، فما أروع ذلك و ما أثمنه!
غلام همّت آنم كه زير چرخ كبود | *** | ز هر چه رنگ تعلّق پذيرد آزاد است۱ |
ترا ز كنگره عرش مىزنند صفير | *** | ندانمت كه در اين دامگه چه افتادست |
كه اي بلند نظر شاهبازِ سدره نشين | *** | نشيمنِ تو نه اين كُنجِ محنتآباد است۱ |
بيان مقام الإنسان و منزلته في أشعار سعدي الشيرازيّ
و ما أجمل ما مثّل سعدي الشيرازيّ به مقام و منزلة الإنسان في غزله الوعظيّ المشهور:
تن آدمى شريفست به جان آدميّت | *** | نه همين لباسِ زيباست نشان آدميّت |
اگر آدمى به چشم است و دهان و گوش و بينى | *** | چه ميانِ نقشِ ديوار و ميانِ آدميّت |
خور و خواب و خشم و شهوت شَغَبست و جهل و ظلمت | *** | حَيَوان خبر ندارد ز جهانِ آدميّت |
به حقيقت آدمى باش و گر نه مرغ باشد | *** | كه همين سخن بگويد به زبان آدميّت٢ |
مگر آدمى نبودى كه اسير ديو ماندى | *** | كه فرشته ره ندارد به مكان آدميّت |
اگر اين درنده خوئى ز طبيعتت بميرد | *** | همه عُمر زنده باشى به روانِ آدميّت |
طَيَرانِ مرغ ديدى تو ز پاى بندِ شهوت | *** | بدر آي تا بينى طَيَرانِ آدميّت |
نه بيانِ فضل كردم كه نصيحتِ تو گفتم | *** | هم از آدمى شنيدم بيان آدميّت۱ |
و كما قلنا فإنّ المعاد ضروريّ، إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، إذ إنّنا جميعاً ملك مطلق للّه، و نحن الراجعون إليه تعالى. فأيّ عالم هو ذلك العالم؟ هو عالم الظهور و البروز. يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ؛ و السرائر جمع السريرة و هي موضع السرّ، اي يوم تنكشف القلوب و البواطن، و يوم ينكشف سرّ الإنسان و باطنه و كمون نفسه و نيّته و تتّضح جهاراً.
يُقال إنّ الهدهد له نظر حادّ بحيث إنّه يحلّق في السماء و يرى الماء في طبقات الأرض السفلى، إلّا أننا لا نستطيع رؤية الماء. و هكذا فإنّنا حين نريد الحصول على الماء فإنّنا نحفر الأرض؛ و ما أكثر ما حصل أن
حفرنا و نقّبنا فلم نعثر على الماء فاجبرنا على التفتيش عنه و الحفر في أماكن أُخرى.
أمّا نظر الهدهد فلمّا كان حادّاً ثاقباً، فإنّ الأمواج التي يعكسها شعاع نور عينه تخترق طبقات الأرض فتصل إلى الماء،۱ و هو من خصائص الهدهد.
إنّنا نفتح أعيننا اليوم فلا نرى إلّا الشخص الذي يواجهنا، لكنّ الله سبحانه يقول لرسوله: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.٢ إنّ نظرك اليوم حادّ ثاقب حديد. إنّنا كشفنا الحجاب عن عينيك فصرتَ ترى ما لا يراه الآخرون، و تطّلع على الظاهر و الباطن، و الشهادة و الغيب، و الذهن و العقيدة، و الفكر و النيّة، و كلّ الماضي و المستقبل، و ما كان و ما يكون و ما هو كائن.
فلما ذا ...؟ و ما السبب؟ إنّه قوله تعالى: وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها؛ لقد أشرقت أرض قلب رسول الله و سرّ نفسه و صقعها بإشراق نور ربّه.
يحدث أحياناً أن تشرق أرض الخارج عند إشراق الشمس، و يحدث حيناً آخر أن تشرق أرضيّة القلب -و هي أرض أيضاً- بنور الله تعالى. ففي القيامة تُنار أرض القلوب و تظهر السرائر و المخفيّات، و تنير مقابل إشراق نور الله و بنور الله.
و جملة القول إنّنا نتحرّك من هنا فنذهب إلى ذلك العالم، حيث لا مادّة هناك، و حيث الجميع سواسية لا فرق بين المؤمن و المشرك و المنافق،
و الرجل و المرأة، و لا بين الشرقي و الغربيّ. و على من شاء الذهاب إلى ذلك المكان أن يترك البدن في القبر فيحلّق إلى ذلك العالم. و الموت مكتوب على الجميع، و عليهم أن يتركوا عالم المادّة وراء ظهورهم، و يمزّقوا حجاب الزمان و المكان، و يرحلوا إلى مكانٍ مجرّد من المادّة، إلى مكانٍ يستبين فيه كلّ شيء.
و إذا ما شاء الإنسان أن يفعل شيئاً في هذه الدنيا، فعليه أن يعلم أنّ القيامة هي عالم البروز و الظهور، و أنّ عمله هذا سيظهر و يتجلّى أمام أنظار الخلائق.
و هنا يخاف الإنسان إذا فعل شيئاً أن يعرف به أبوه أو أُمّه أو أخوه أو رفيقه، لذا يسعى دوماً لإخفاء عمله و إبقائه طيّ الكتمان. أمّا هناك فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ، إذ إنّ كلّ شيء سيكون حاضراً و مشهوداً.
فِي رحاب الآية: ... فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.
إن أبصار موجودات العالم العلويّ حديد، فما أن يفعل الإنسان شيئاً و يحاول إخفاءه، فإنّ عمله هذا و محاولة إخفائه سيكونان حاضرين مشهودين بأجمعهما. سيحضر العمل و معه ذلك المكر و الخداع الذي دبّره و أراد به إخفاء فعله. و واويلاه إذَن! إذ لم يكن الإنسان يتوقّع أو ينتظر أن يصبح عمله مشهوداً للخلائق، فها هي الحيلة النفسيّة في الإخفاء قد تجسّدت بجلاء، ناهيك عن العمل نفسه.
هنالك يعضّ الإنسان على أصابعه ندماً، هنالك: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ. فوا عجباً أين كُنّا؟ و إلى أين جيء بنا؟ لقد تصوّرنا في مكاننا الأوّل أنّ كلّ شيء مخفي عن كلّ شيء، فجيء بنا إلى حيث نرى أنّ جميع الموجودات مشهودة لجميع الموجودات. صار الأمر معكوساً تماماً، فلقد تبدّل سنخ العالم و تحقّق قوله: وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ، و اتّضح قوله: وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها.
و ليس هذا الإشراق كإشراق الشمس الذي ينير الأرض، بل هو إشراق آخر، فما الذي يهمّنا يا ترى لو أنارت هذه الشمس سطح الأرض كلّه، أو ما تحت الأرض، أو أنارت النصف الآخر من الكرة الأرضيّة فرضاً؟ و اي أثر سيتركه ذلك في أبصارنا؟
إنّنا نرى مسافة معيّنة محدودة بقدر مدى نور أعيننا؛ أمّا تلك الشمس التي تضيء بنور ربّها أرضَ القلب و النفس و القيامة فهي شمس أُخرى. تلك هي شمس الولاية التي تطلع بنور ربّها فتضيء الأرض إلى تخومها السفلى، و تنار بها الأذهان، و تتلألأ النفوس و العقول و يشرق بها سرّ النفس الناطقة و حقيقتها. و مَثَل ذلك تماماً كمثل كرة بلّوريّة في يدكم ترون داخلها، و ترون ظاهرها و باطنها، و ليس لها ظاهر و باطن آخر. كما أنّ الحور هناك كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ مضيئة و مشرقة.
هذه هي كيفيّة طلوع نور الولاية في عوالم الغيب و ظهور القيامة الأنفسيّة. وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً.۱
إنّ أبواب السماء مغلقة الآن فليس لدينا ثمّة خبر من الغيب، بَيدَ أَنها تُفتَح يومئذٍ فيكون التردّد عبرها مُباحاً، قد ازيلت منها لا فتات منع المرور و الدخول؛ و إذا ما ذهبتم إلى السماء فإنّكم ستطّلعون على كلّ شيء.
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.٢
كيفيّة تلالؤ عالم القيامة و اطّلاع النفوس بعضها على بعض
إن الأرض الترابيّة المادّيّة المخلوقة على أساس الثقل و الكثافة تُبدّل إلى أرض نورانيّة، فتصبح الأرض و السماء بلّوريّتين. و من الطبيعيّ أنّ
وصفهما با لبلّوريّة وصف منّي قد أوردته للتشبيه، بَيدَ أنه ليس هناك عنوان للبلّور.
الجميع اذن، و عين، و فَهم و إدراك، و طاعة و انقياد، أمّا الآن فمهما قيل للإنسان إنّ الله حاضر فهل سيصدّق يا ترى؟
لو قيل لمسجون قضى مدّة في السجن لم ير خلالها نوراً: لقد طلعت الشمس فأنارت الأرض بحيث لم يعد فيها نقطة مظلمة و مبهمة! فإنّ تصديق ذلك سيكون عسيراً عليه. أمّا حين يُكسر باب السجن و يطلق هذا السجين فيرى نفسه -من شدّة الضياء- مدهوشاً بهذا الإشراق و النور، فإنّه لو أُقسم له بأن ليس هناك شمس و لا نور، لما صدّق و لقال: إنّ الإخبار عن الظلام مع وجود الرؤية و الوجدان و الشهود أمر خاطئ غير مقبول.
وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.۱
إن الناس يتصوّرون أنّ الحياة و العيش بمعنى النوم و الشخير و التنفّس، و أنّ من يتنفّس فهو حيّ، فإن انقطع نَفَسُه كان ميّتاً؛ إلّا أنّ الحياة ليست كذلك. الحياة هي الإدراك المحض، و العقل المحض؛ الحياة هي العيش بلا موت. إنّ حياتنا نحن الذين نعيش على الأرض هي توأم الموت، ليس بسبب الموت الذي سيدركنا، بل لأننا في حال خَلْع و لبس دوماً. اي: أنّ لنا موتاً و حياةً. فبدننا في حركة دائبة دائماً تدور بين الحياة و الموت، و الوجود و العدم، فنحن نسير من الوجود إلى العدم، و من العدم إلى الوجود؛ نموت و نحيا باستمرار. و شرح و تفصيل هذا المختصر يحتاج إلى مجال واسع. إلّا أننا نقول إجمالًا إنّ حياتنا الحاليّة ليست حياة محضة و خالصة، بل حياة مخلوطة بالموت، تُشبه مثقال ذهب خلط بمثقال من النحاس
فصيغت منهما حِلية ما، و في كلّ ذرّة ذهب ذرّة نحاس، فهما متجاورتان. أمّا حين يضع الصائغ هذا المخلوط في البوتقة فيصهره و يفصل الذهب الخالص، فإنّ كلّ ذرّة من الذهب ستكون ذهباً خالصاً.
و هكذا فإنّ حياتنا في هذه الدنيا ليست حياة محضة، و ليست حياة عقليّة صرفة، و نحن لا نتمتّع بالأرزاق المختصّة بالنفوس الناطقة القدسيّة و الأنوار الإلهيّة، إذ إنّ هذه الحياة توأم اللهو و اللعب، اللعب بالأوهام و الخيالات، و تعشّق الجيفة و الميتة، و بدننا في حال تغيّر و تبدّل دائمين.
أمّا حياة ذلك العالم، فحياة صرفة لا موت فيها و لا نوم و لا سِنة، و لا لهو فيها و لا لعب و لا لغو؛ كما أنها ليست بطلاناً و مجازاً.
إنّنا ننام هنا فنفقد إدراكاتنا، أمّا هناك فنحن إدراك محض و علم محض. و هذه المزعجات و المنغّصات التي تزعجنا هنا ناشئة عن ضعف في درجة الحياة، أمّا هناك فلذّة و مسرّة محضة: وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ.
ثمّ إنّ العلوم و المعارف الإلهيّة المكتسبة معنا بأجمعها يوم القيامة، فهي ليست قابلة للنسيان و لا يطرأ عليها الخطأ و السهو و الاشتباه. الحياة هناك لها فَوَران، و اللذّة و السرور و البهجة لها فَوَران، و العالم هناك عالم بسيط مملوء بالنور و الإشراق.
وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ، وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ.
حيث تطهر الأرض و تشرق و تتمهّد. و إنّ في باطن الأرض الآن أشياء كثيرة غير الأرض نفسها، فإذا شئنا تطهيرها و تصفية قابليّتها و تنقيتها من غيرها، فعلينا أن نطرح كلّ ما كان غيرها.
على النفس أن تتنزّه عن الأدران لتتنوّر بنور الله تعالى
و هكذا الأمر بالنسبة إلى نفس الإنسان. ففيها أشياء كثيرة من غير حقيقتها. هناك ثعبان، و عقرب، و حيوانات مفترسة، و صور شيطانيّة، و هناك خيالات و أوهام و آمال لا أساس
لها و لا أصالة. و هذه الامور قد اصطفّت في نفس الإنسان متأهّبة للقتال و المنازلة مع جنود العقل الذين لا يبارحون النفس. و الحرب فيها قائمة مستمرّة بين الامم الاثنتين و السبعين و بين أُمّة العقل، و هي قائمة على الدوام بين جنود الشيطان و جنود الرحمن. و هذه كلّها يجب تطهيرها و تصفيتها.
فيُقتل جنود الشيطان، و تُسحق الأفاعي و العقارب، و تُقطع رؤوس الحيّات، كما يجب كنس جميع الخيالات و نفي الخواطر قاطبة استهداءً بالأسماء الإلهيّة، و تصفية الذهن و تنزيهه. و جَعْل القلب بحضور و انتباه كامل مقابل الأنوار الإلهيّة ليكتسب المعارف الإلهيّة كالمغناطيس.
و خلاصة القول إنّ أرض القلب يجب أن تطهّر من كلّ ما عدا الحقيقة البسيطة للنفس الناطقة المشرقة بنور الله، فإن لم تخرج باختيارها، فإنّها ستُلقى خارجاً بمشقّة و عسر، و ذلك عند سكرات الموت، و سؤال منكر و نكير و أنواع العذاب البرزخيّ و شدّة نفخ الصور، ذلك أنّ الجنّة محلّ المطهّرين المنزّهين.
تفسير الآية: وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ
و قد روي في «تفسير عليّ بن إبراهيم» و هو من كبار المحدّثين و المفسّرين، و يُعدّ مقدّماً على الشيخ الكلينيّ و من مشايخه في الحديث، عن الإمام زين العابدين عليه السلام في تفسير الآية المباركة:
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ.۱
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَعْنِي بِأرْضٍ لَمْ تُكْتَسَبْ عَلَيْهَا الذُّنُوبُ بَارِزَةً لَيْسَ عَلَيْهَا جِبَالٌ وَ لَا نَبَاتٌ كَمَا دَحَاهَا أوَّلَ مَرَّةٍ وَ يُعِيدُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ كَما كَانَ أوَّلَ مَرَّةٍ، مُسْتَقِلًّا بِعَظِمَتِهِ وَ قُدْرَتِهِ.٢
أي: كما كان عرش الله على الماء في أوّل الخلقة، قال تعالى:
وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ.۱
و المقصود بعرش الله إرادة ظهور بناء الخلقة الشامخ و المشيئة في إيجاده، اي: الحياة المحضة و القدرة المحضة، ثمّ إنّ تلك القدرة و العظمة ظهرت في عالم الكثرة بصور مختلفة، و ظهر عالم الكثرة هذا بواسطة التجلّيات الإلهيّة. ثمّ إنّ هذا العالم سينطوي مرّة أُخرى فيتحرّك الإنسان نحو عالم الحياة و القدرة المحضة. كما أنّ الموجودات جميعها تعود إلى أصلها، فليس هناك من أحد غير الله و قدرته و عظمته، وَ لَيْسَ في الدَّارِ غَيْرَهُ دَيَّارُ.
هنالك سيفهم الإنسان:
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.٢
و قال سماحة استاذنا العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظله في تفسير كلام الإمام السجّاد (مُسْتَقِلًّا بِعَظَمَتِهِ وَ قُدْرَتِهِ): تفسير لكون عرشه على الماء، و له شواهد من الكتاب تدلّ على أنّ الماء إشارة إلى منبع كلّ حياة و قدرة و عظمة، إن تمحى نقوش الخلقة ظهرت الموجودات، و إذا انمحت عاد العرش على الماء.٣
هذا هو معنى قوله تعالى وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ، إذ إنّ الموجودات ستعود فتجد عظمة الله تعالى و علمه و قدرته.
و خلاصة القول، فإنّ هذه المطالب جاءت لإقرار الإنسان و اعترافه
أنّ الله العظيم القدير واحدٌ أحد، لا تدخّل و لا تصرّف لأيّ موجود في حكومته المطلقة، لا أنه كان مستقلًّا في العظمة و القدرة أوّل الخليقة، ثمّ يصبح ممتلكاً لهما من جديد عند المعاد و عودة الموجودات؛ و إذا ما ظهرت في غضون ذلك نقوش الكائنات و ارتدت الماهيّات رداء الوجود، فإنّ قدرته و عظمته ستقلّان، أو أنّ استقلاله سيتصدّع و ينهار، أو أن غيره في صدد منازعته و مشاركته في هذه الصفات. ثمّ إنّ تلك الشركة ستُفسخ عند الرجوع و العودة، فتستبدل المصالحة بالمنازعة.
ليس الأمر كذلك أبداً، و إن كانت أذهان العوامّ مشحونة بهذا المعنى، لكنّ هذا يمثّل شركاً يجب تصحيحه؛ و لقد كانت جهود الأنبياء و المرسلين و الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين لمحاربة أمثال هذا الشرك، و عند ما كانوا يدعون الإنسان إلى هذه النقطة من التوحيد، فإنّه كان يفرّ و يتمرّد و يهرب هنا و هناك.
نفس اژدرهاست او كى مرده است | *** | از غم بى آلتى افسرده است۱ |
و قد يحدث أحياناً أنّ الفأر يتورّط و يقع ذَنَبه في شرك المصيدة، فيقول «سلّمنا و آمنّا»، و يكل اموره إلى الله، لكنّه بمجرّد أن يُفرج عنه و يُرفع عُسره فإنّه يرجع إلى حالته الاولى في الغفلة.
إن الإنسان يتوجّه نحو التعاليم الدينيّة دفعاً للآفات و العاهات، فيقرّ بوحدانيّة الله و يقول مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. أمّا في القيامة حيث يزال الستار عن هذه الحقيقة، فإنّه يقرّ بمالكيّة الله و ملكيّته بروحه و سرّه و عقله و لسانه و نفسه و يقول: آمَنَّا وَ صَدَّقْنَا.
نحن اليوم نرى بعضنا بعضاً أوّلًا، ثمّ نرى الله، و ننظر إلى الموجودات و الآثار بادئ بدء ثمّ نستدلّ على وجود الله و إتقان صنعه. أمّا هناك فالأمر على العكس. حيث يقع النظر على الله و صفاته أوّلًا. ثمّ يقع بالتبع على الموجودات. و سيكون مشهوداً أنّ الأرض في قبضة الله تعالى، و هي إذ ذاك أرضٌ مشرقة نورانيّة. كما سيكون مشهوداً أنّ السماوات مطويّات في يد قدرته. اي: أنّ المُلك و الملكوت، و الأرض و السماء، و عالم الغيب و الشهادة، و الظاهر و الباطن، و الدنيا و الآخرة، و الجسم و الروح كلّها جميعاً في قدرة الله مقهورة مشهودة بالمقهوريّة.
إن الامتحانات و الابتلاءات التي يبتلي الله سبحانه بها الناس هي من أجل الإقرار و الاعتراف بهذه المسألة، لا من أجل أن ينكشف للّه أمرٌ ما.
الم ، أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ.۱
إن الناس سيُمتحنون و يُفتنون ليتّضح لهم أنّ القول باللسان دون اعتقاد و إيمان قلبيّ ليس مثمراً.
فجليّ للّه و واضح مَن هو المؤمن و مَن هو الكافر؟، فلا حاجة له في الابتلاء، و لكنهم يُمتحنون و يُفتنون من أجل أن لا يدّعوا الإيمان الكامل، و لئلّا يعدّوا أنفسهم في مصافّ سلمان الفارسيّ أو في مرتبة جهاد عمّار بن ياسر و أبي ذرّ الغفاريّ، و لتتّضح لهم درجتهم و منزلتهم و تصبح مشهودة لديهم. كذلك فإنّ ظهور سائر أسماء الله و صفاته في القيامة هو من أجل إقرار و اعتراف المنكرين، لا لتحقّق هذه الصفات نسبة إلي نفس ذات الباري تعالى شأنه العزيز.
كيفيّة نزول نور التوحيد و الولاية في عالم الإمكان مشهود لأهل القيامة
إن الإنسان محبوس في هذه الدنيا خلف الحجب الظلمانيّة و النورانيّة،
لكنّه حين يتحرّك و يتعرّف على موجودات العالم العلويّ، و يأنس بتلك الصور العَارِيَة عَن الْمَوادِّ الْعَالِيَة عَنِ القُوَّةِ وَ الاسْتِعْدَادِ، فإنّه سيرى أنّ ذلك العالم كلّه نور. فهو أوّلًا نور أزليّ و أبديّ أشرق على الموجودات؛ اي: على تلك الموجودات الملكوتيّة التي هي روح محض بلا صورة، و الأعلى من الكمّ و الكيف. ذلك أنّ الصورة تتعلّق بعالم المثال و البرزخ، أمّا هناك فعالَمٌ لا صورةَ فيه يفوق عالم المثال. هناك عالم ذو معانٍ مجرّدة و بسيطة و حقائق بحتة و صرفة.
ثمّ إنّ ذلك النور تنزّل من هناك و جاء إلى عالم الصورة، فصار مشهوداً للإنسان كيف قد أشرق النور على الأسماء الجزئيّة، و من ثَمّ على الأسماء الأقلّ جزئيّة، و وصل إلى جميع ملائكة عالم الصورة، حيث كان للعوالم: الواحد بعد الآخر حظّ من نور الله تبعاً لسلسلة مراتبها المنظّمة، ثمّ انتشر من العوالم العلويّة إلى النفس الإنسانيّة، و منها إلى العوالم الأدنى.
و هنا يتجلّى لنا كلام مولى الموالي في هذا الحديث الشريف الذي سبق ذكره:
وَ إذَا اعْتَدَلَ مِزَاجُهَا وَ فَارَقَتِ الأضْدَادَ فَقَدْ شَارَكَ بِهَا السَّبْعَ الشِّدَادَ.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً.۱
و يُستفاد منه أنّ القصد من خلق السماوات و الأرض معرفة الإنسان و إقراره بسعة قدرة الله و إحاطة علمه تعالى شأنه.
المَجْلِسُ الثَّانِيَ وَ الثَّلَاثوُن: الكُفّارُ وَ الفُجّارُ مَحْجُوبُونَ في الْقِيَامَةِ في عَيْنِ النُّورِ وَ الإشْرَاقِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
إلى قوله تعالى:
وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.۱
دار البحث في أنّ ذلك العالم هو عالم الإشراق و عالم النور، لذا فإنّ أيّاً من موجوداته ليس محجوباً عن الموجود الآخر، و أنّ كلّ شيء ظاهر و بارز لكلّ شيء.
و يُثار هنا سؤال مفاده: ما هي حال أهل المعصية و الشقاء و الكفر الذين يرحلون عن هذه الدنيا إلى ذلك العالم، و يحلّ عليهم هناك غضب الله فيبتلون بنار جهنّم جزاءً وفاقاً على أعمالهم؟ هل يكون وجودهم نورانيّاً و مشرقاً، أم مظلماً مع أنّ العالم هناك عالم النور و الإشراق؟
و إذا كان وجودهم نورانيّاً فما الذي سيعنيه العذاب و الابتلاء و الوقوع تحت تأثير أسماء الله الجلاليّة؟
و إذا كان وجودهم ظلمانيّاً، مع فرض أنّ سنخ ذلك العالم نور و إشراق و ظهور و بروز؛ فكيف يكون لوجودهم الظلمانيّ سنخيّة مع عالم النور و الإشراق ذلك؟
و الإجابة عن هذا السؤال هي:
أنّ الأفراد الذين يرحلون عن هذه الدنيا، يرحلون عنها بما اكتسبوا فيها:
لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ.۱
وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ، وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى.٢
و من ثَمَّ فإنّ اي درجة ينالها الإنسان في ذلك العالم، إنّما ينالها إثر الأعمال التي قام بها هنا. كلّ ما في الأمر أنّ تلك الأعمال قد ظهرت و برزت هناك جليّة. و إذا ما كان للإنسان ترقٍّ في عالم البرزخ أيضاً، أو كُتب في صحيفة أعماله شيء بعد موته، فإنّه في آخر المطاف نتيجة أعمالٍ قام بها في الدنيا و كان لها آثار واقعيّة؛ و إلّا فإنّ ذلك العالم في حدّ نفسه ليس عالماً للعمل.
الْيَوْمَ عَمَلٌ وَ لَا حِسَابَ، وَ غَداً حِسَابٌ وَ لَا عَمَلَ.
فالإنسان كان له عمل في الدنيا، سواء كان عملًا صالحاً أم طالحاً، فإنّ كلّ نيّة كانت له، و كلّ غريزة تسوقه إلى جهةٍ ما، و كلّ عقيدة ضمّ عليها جوانحه كلّ اولئك سيكون قابلًا للتغيير إلى وقت الموت، أمّا حين يموت
فإنّ نفسه تُختم، و كتاب عمله يُغلق، فيحاسَب هناك على أساس ما عمل في الدنيا.
أمّا الذين لم يتّجهوا في هذه الدنيا بحثاً عن المعارف الإلهيّة، و لم يعرفوا الله سبحانه، و تحرّكوا في اتّجاه معاكس للغرائز و الفطرة الموهوبة من قبل الله تعالى، و ساروا في جهة منحرفة كانوا من أهل الشقاء و الظلم و الذنوب، و كما كانت روحهم ظلمانيّة عديمة النور محجوبة عن الحقيقة في هذه الدنيا، فستكون هناك أيضاً بلا نور.
وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.۱
و من كان بلا نور، فما له من نور؛ و أنّ «زيد بن عمرو هو زيد بن عمرو» سواءً كان في المسجد أم الشارع أم المنزل أم مكان آخر.
وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا.٢
و ليس المراد بالعمى عمى العين الظاهريّة، إذ ليس لهذه الأعين عمى يوم القيامة، فقد جاء في كتاب المعارف الإلهيّة: القرآن الكريم أنّ هؤلاء الأفراد العُمي هُنا لا يُعدّون هناك عُمياناً:
فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.٣
إلى اي درجة الإبصار المعنوى مهمّ جدّاً، و ذلك العمى مهمّ أيضاً، بحيث إنّ بصيرة القلب و الإبصار الاخرويّ و ذلك العمى الروحيّ و العمى الاخرويّ أُمور يؤبه لها، و لا يعدّ هذا العمى الظاهريّ عمى قياساً بذلك العمى.
القرآن الكريم يقول: إِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبْصَارُ وَ لَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدور
يقول القرآن الكريم إنّ هذه الأعين لا تعمى، بل إنّ العمى يصيب ذلك القلب الذي في الصدور، و هو الذي فقد -أثر انغماسه في الشهوات- إدراكاته و معارفه و نظرته الواقعيّة، فصار أعمى.
العمى للقلب الذي لا يدرك الحقائق و الامور الواقعيّة، و يتخبّط في الأوهام و الأباطيل. لذلك فإنّ من كان أعمى البصيرة في الدنيا، فهو أعمى البصيرة في الآخرة أيضاً.
وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى.
إن من لم يكحّل عيني بصيرته بكحل الهداية، و لم يدرك أسرار العالم، و لم يرتبط بالله سبحانه، و لم يعتمد على الذات الأزليّة الأبديّة، و سار نحو هوس النفس و الهواجس الوهميّة، فأعمى بذلك بصيرة قلبه هنا، فهو هناك أعمى و محجوب أيضاً.
أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.۱
كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ.٢
كلّا ليس كما يتخيّلون أنّ آيات الله أساطير الأوّلين و خرافات السابقين، و ليس كما يكذّبون بحقائق الآيات الإلهيّة و يعدّونها كذباً و افتراءً، بل إنّ أعمالهم القبيحة و سلوكهم السّيئ على تواتر الأيّام سبّبا الكدر و الدنس و الرين على قلوبهم.
كلّا، ليس كما يتصوّرون أنّ لهم مقام القرب في الآخرة كذلك، و أنهم حين عاشوا في هذا العالم عيش المستكبرين، فسيعيشون بالملازمة
في رفعة و رفاهيّة هناك. بل هم محجوبون عن ربّهم يومئذٍ، محجوبون و عُميان. و العلّة في ذلك غلبة الرين على قلوبهم. و الرين بمعنى الدنس و اللوث، فهذا الرين هو الذي حجب قلوبهم فمنعها من لقاء الله تعالى، و حبسها في المحجوبيّة.
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها.۱
هذه الأقفال تمنع التدبّر و التفكّر و إدراك المعاني الحقيقيّة للقرآن، و هي حجاب و ستر يطبق على القلوب فيمنع ظهور الحقائق و تجلّيها فيها. إنّ الأقذار حين تغطّي المصباح، فإنّها تمنع نفوذ النور الباطنيّ إلى الخارج، فيُحبس ذلك النور الداخلي الباطنيّ، و مع أنّ المصباح يكون مضيئاً، إلّا أنّ البيت- مع ذلك سيبقى مظلماً معتماً.
الإعراض عن ذكر الله يوجب العمى و المعيشة الضنكى في الآخرة
و هكذا الحال بالنسبة إلى مصباح قلب الإنسان، إذ يُحجب و يُستر و يتّسخ إثر الهوى و الهوس و المعاصي و الأفكار الشيطانيّة، فلا يدع القلب يفكّر و يتدبّر في الآفاق و الأنفس، أو يعتبر من عالم الخلقة، أو يفطن من الآيات الإلهيّة إلى وجود الصانع الحكيم.
وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً ، قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى.٢
و المعيشة الضنكى هي المعيشة الشاقّة العسيرة المقرونة بالابتلاء، و هي عاقبة الإعراض عن ذكر الله سُبحانه. و مهما امتلك الإنسان أموالًا و ثروة طائلة، إلّا أنّ حياته مقرونة بالقلق و تشويش البال و الابتلاءات
و انعدام بركة العمر و الثروة و الولد، إذ يبتلى المرء بضغط الاضطرابات الروحيّة و هجوم الخواطر المزعجة و الأفكار الشيطانيّة.
و لعلّه يمتلك قدرة و إمكانيّة و ثروة تعادل الملايين، إلّا أنه لا يتمكّن من تناول طعام هانئ بلا تشويش، و لا أن ينام نوماً مريحاً بفراغ بال، أو يتنفّس نفساً مريحاً هادئاً، و هذا كلّه من نتائج الإعراض عن ذكر الله تعالى. إنّ من يُعرض عن الارتباط بالله و ذكره سبحانه، و يشيح عن الاعتماد عليه تعالى؛ فإنّ معيشة الدنيويّة تتمخّض بالمحن و المصائب؛ هذا في الدنيا.
أمّا في الآخرة فإنّ العمى سيكون نصيبه، لذا يخاطب الله تعالى في مقام السؤال أو الاعتراض: لقد كنتُ بصيراً في الدنيا، فَلِمَ حشرتني أعمى هنا؟
بَيدَ أنّ هذا المسكين لا يعلم أنّ هذا العمى الاخرويّ هو غير عمى العين المبصرة في الدنيا، إذ يتصوّر أنّ كلّ من كانت له في الدنيا عينٌ ظاهرةٌ، فإنّه ينبغي كذلك أن يكون في الآخرة بصيراً. لذا يسأل مثل هذا السؤال متعجّباً. فيجاب بأنّ تلك العين المادّيّة و البصر الواقع في الرأس غير هذه العين المعنويّة و البصر الواقع في القلب.
أنّ باطنك أعمى اليوم، لأنك أعميته في الدنيا، و نحن لم نتجنّ عليك، بل حشرنا بصيرتك العمياء عمياء. و لقد أتتك آياتنا فنسيتها و لم تفتح عين بصيرتك لتراها، فها هي اليوم عين بصيرتك مغلقة محجوبة، فأنت في زمرة العميان.
و كما لم تتقبّل بقلبك آياتنا، و لم تفتح بصر قلبك عليها، و لم تُزِل صدأ قلبك و أوساخه و رينه بالعمل الصالح و الإيمان و الاعتقاد بالله تعالى، فبقيت أخيراً في حجاب و في عمى عن إدراك الحقائق، فإنّ نتيجة العمى
و الإعراض ستكون عمى في هذا اليوم.
و يستفاد من هذه الآية بجلاء أنّ من لم يرتبط بالله تعالى في الدنيا، و لم يخضع لأوامره و تشريعاته، و لم يسجد للحقّ، و لم يرتدِ رداء ذلّ العبوديّة، فجاءه الموت على هذه الحال، فإنّه سيكون هناك أيضاً في عمى و ظلمة و حجاب. فما الذي سيعود على هذا الأعمى لو كان عالم القيامة كلّه إشراقاً و ضياءً؟ و مَثَله تماماً كمثل العميان في هذه الدنيا، إذ ما ذا يفيدون منها لو كانت جميعها مشرقة بنور الشمس؟
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً.۱
و سنتحدّث بحول الله و قوّته حديثاً وافياً عن تفسير هذه الآية المباركة في فصل الأعراف الذي سيأتي لا حقاً، إلّا أننا سنتكلّم عنها باختصار يناسب مقامنا و بحثنا الحالي.
سيأتي يومٌ ترى فيه يا رسولنا نورَ المؤمنين و المؤمنات يسعى و يُسرع أمامهم و عن أيمانهم، و هو بالطبع نورهم الذي يسعى أمامهم حيثما ذهبوا، فيستضيئون به في ظلمات طرقات القيامة و عقباتها، و يُنيرون به مواطئ أقدامهم.
و كما قدّم المؤمنون إلى الآخرة أعمالهم التي فعلوها في الدنيا ثمّ أتبعوها بأنفسهم، فإنّ هذا النور سيسعى أمامهم هو الآخر يوم القيامة يمثّل تجلّي الأعمال. و سيبشّر ملائكةُ الرحمة المؤمنين بأنهم سيردون اليوم
جنّات غنّاء متشابكة الأغصان، تجري الأنهار في أرضها، فيخلّدون هناك، و ذلك هو الفوز العظيم.
يومذاك يقول المنافقون و المنافقات للمؤمنين: انظرونا نقتبس من نوركم قبساً ننتفع به، فيُقال في جوابهم: ارجعوا إلى الوراء فالتمسوا هناك نوراً.
النور في الآخرة يجب اصطحابه من الدنيا
إن المنافقين لا نور لهم في الآخرة، و ذلك أنّ الذين جاءوا بنورهم إلى الآخرة، فإنّما جاءوا به من هذه الدنيا. و يُطلق لفظ المنافق على من غاير قلبه لسانه، فهو يُظهر الإيمان بلسانه و يُبطن الكفر بقلبه؛ لسانه يقول: أنا خادمكم (مخاطباً أحد العلماء)، روحي فداكم، إنّ استقرار الإسلام من بركات السادة العلماء. لكنّ قلبه يقول: أيّها اللئيم. (يقصد العالِم المخاطَب).
لسانه يقول: صلّوا على محمّد و آل محمّد من أجل سماحة آية الله! لكنّ قلبه يقول: أهلكه الله، فهو إنسان سىّء.
إن المنافقين أسوأ من الكفّار و المشركين، لأنّ الكافر و المشرك يقولان علناً نحن كفّار لا نقبل الإسلام و لا نعتقد بشريعة محمّد صلّى الله عليه و آله، فيعلم المسلمون واجبهم تجاههم، أمّا المنافقون فيتشدّقون بالحديث عن الإسلام، و يتحدّثون دوماً عن الإيمان و القرآن و العدل، إلّا أنهم لا عقيدة لهم في الباطن، بل هم في صدد تخريب الإسلام و هدمه.
يأتي المنافق إلى المسجد فيقف في الصفّ الأوّل خلف الإمام و قريباً منه، فيخلع رداءه و يضع العباءة على منكبيه، و يصلّي النافلة باستمرار. و يقرأ الأدعية في كتاب «المفاتيح»،۱ و يقرأ سورة الواقعة في صلاة الوتيرة،
إلّا أنه يركّز سمعه و فكره و جميع قواه الباطنيّة في متابعة ما يدور في المسجد، محاولًا معرفة مَن يلتقي بإمام الجماعة، و ما الذي يقوله الإمام لهم، ما رأيه و نظره بشأن الحكومة؟ فيركّز هذه الامور كلّها في ذهنه ليأخذها إلى أعداء الإسلام و يكشفها لهم باعتباره جاسوساً لهم. يأتي في الظاهر فيقبّل يد الإمام و ينحني إجلالًا له و تقديساً، لكنّه يخطّط في باطنه لسجنه و إعدامه.
و على هذا الأساس فقد قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: مَا اوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا اوذِيتُ، لأنه كان في غاية الانزعاج و الأذى من المنافقين في الداخل.
و لقد كان المنافقون يأتون إلى مسجد رسول الله فيصلّون، و يعدّون أنفسهم شركاء للمسلمين، فإذا جنّهم الليل جلسوا حول بعضهم إلى الصباح يخوضون في سيرة رسول الله و يسخرون من أعماله و يهزأون به و يخطّطون في السرّ ضدّ الإسلام، و يتعاونون مع الكفّار و المشركين سرّاً.
وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.۱
و على هذا الأساس جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.٢
المنافقون يتخبّطون في الظلمات يوم القيامة
هم يوم القيامة في ظلمات محضة، و في عقبات مظلمة معتمة، قد ابتلوا بمتاهات و سبل و عرة عسيرة، متاهات ما إن تزلّ فيها أقدامهم حتّى
يرتطمون بقعر وادي جهنّم و ساء لهم منزلا. فلا نور الخارج يهديهم سواء السبيل، و لا نور الباطن فيهتدوا بضيائه.
ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ.۱
و يقول هؤلاء المنافقون و المنافقات للمؤمنين و المؤمنات:
انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ؛ فيأتي الجواب: قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً.
هنا لا يأتي أحد بالنور، و من كان له نور، فإنّما جاء به من الدنيا، و كان ينبغي أن يكون لكم نور، لكنّكم لا تملكونه الآن، و هؤلاء المؤمنون و المؤمنات ذوو النور الذين ترونهم قد جاءوا بنورهم معهم من الدنيا، فهو نورهم لا نور غيرهم؛ و بينما يسبح المؤمنون في بحار من مياه رحمة الله، يلهث المنافقون ظماءً إلى جرعة من ماء.
وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.٢
وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.٣
لمّا كان المنافقون لا يؤمنون بكلام رسول الله، و لجأوا- من جهة أُخرى إلى التخريب و الإفساد بالاحتيال و المكر، فإنّ مكانهم في الدرك الأسفل من النار، و مهما طلبوا نوراً فإنّ أحداً لن يأبه لهم.
أمّا المؤمنون فإنّ: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ.٤
نورهم و أجرهم معهم دوماً، و كلٌّ منهم يتمتّع بعالم النور المتناسب
مع مقدار إيمانه. ذلك أنّ النور كالماء، له نهر و شطّ و بحيرة و بحر و محيط؛ فالمؤمنون أصحاب اليقين يغوصون في بحار النور و محيطاته.
نُورٌ عَلى نُورٍ.۱
جميع الأنوار متراكمة شفّافة؛ فالنور على النور يشمل المؤمنين و يسعهم.
أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.٢
أي: أنّ الكافرين سعداء يُخَيّل إليهم أنّ لهم نوراً، لكنّ الأمر ليس كذلك، فهم في الظلمات، و لقد زُيّنت لهم أعمالهم فهم يتخيّلون الفهم و البصيرة. و توضّح هذه الآية أنّ الإيمان نور و حياة، و أنّ من آمن بالله و عمل صالحاً كان حيّاً، أمّا باقي الناس فأموات غير أحياء. الحياة عبارة عن حياة العلم و الوجدان؛ الحياة ارتباط بربّ العالم و قيّومه. فالذين آمنوا يمشون بين الناس بنور الله، و يشاركون في شئون المجتمعات و يعاشرون و ينكحون و يتاجرون و يزرعون و يصنعون و يسافرون و ينامون و يستيقظون، فجميع أعمالهم هذه إنّما هي بنور الله تعالى، و بقلب يقظ و عين مُبصرة، و هم يمارسونها ببصيرة و وعي قلبيّ و وجدانيّ.
خلافاً للأعمال التي يقوم بها سائر الناس الذين يمارسون الأعمال نفسها: يسافرون و يمسكون المسحاة و يزرعون و يتاجرون و يشتغلون بالامور الصناعيّة و ينكحون و ينجبون الأولاد و يرسلونهم إلى المدارس، إلّا
أنّ كلّ هذه الامور تحصل في الظلمة، فقد ضرب ستار من الجهل و عدم البصيرة و فقدان اليقين على قلوبهم و ضمائرهم، فهم يمارسون هذه الأعمال بلا هدف أو قصد و هي مشوبة بالشكّ و الريب.
فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.۱
يتردّدون في عالم الشكّ و الاحتمال و الظنّ، فلا يضعون أقدامهم على مسير عالم العلم و اليقين: أمّا المؤمنون بقلوبهم المشرقة و صدورهم المنشرحة و فكرهم المنفتح، كالبصير الذي يفعل ما يفعله عن تروٍّ و تأمّل، فيُقدم على القيام بالامور المهمّة بفكر متين و عزم راسخ.
هل المؤمن البصير العالم كالكافر الأعمي الجاهل؟
فهل يستوي مَن كان له مثل هذا النور و مَن هو في الظلمات لا يخرج منها؟ و هل يستوي من كان مرتبطاً بربّه و من يزحف في سجن الوهم و التخيّل، فيرى هذا العالم -مع ما فيه من الجمال و السعة- منفصلًا و متفرّقاً لا ارتباط له بالله؟ إنّ الذي لا يعرف ربّه عدوّ للعالَم و منفصل عنه، و عدوّ للأُمّ و الأب، و الزوجة و الولد، و عدوّ لسائق السيّارة، و لساعي البريد، و للرفيق و الشريك، و للعالم و الجاهل، و للشيخ و الشابّ؛ لأنه ينظر إلى الموجودات بنظر التفرقة. و بدلًا من أن ينظر إليها كلّها بنظر أُلفة و أُنس لارتباطها و اتّحادها بأصل الخلقة، فإنّه ينظر إليها بنظر الاثنينيّة و الانفصال و العداء، فيبقى في سجن الظلام المليء بالجهل.
و مهما حاول إخراج نفسه من هذا السجن فإنّه سيعجز، إذ لا عين له فيبصر بها، و لا معرفة له بمحلّ الخروج و الخلاص، فهو أشبه بمن يغرق في البحر فتغمره اللجج العظيمة، كلّما تخبّط في جهة ما زاد انغمارة فيها، حتّى يكتنفه الهلاك المحض. و هذه هي عاقبة الجهل و الغفلة و الخيانة
و الجناية في الدنيا.
إن الله تعالى ينمّي كل عمل يفعله الإنسان، فإن سار الإنسان في سبيل الخير و في مسير النور، فإنّ الله سيقوّي ذلك و ينمّيه؛ و إن تحرّك في مسير الظلمة، و الشرّ، فإنّ الله سينمّي ذلك أيضاً.
و لو زرع الإنسان بذور نبات البطيخ الأحمر الحلو، لحصل على البطيخ الأحمر الحلو، أمّا لو زرع بذور الحنظل لما جنى غير الحنظل.
كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً.۱
إنّنا سنعطي كلّ فردٍ ما شاء، فإن شاء أحدٌ الدنيا أعطيناها مَن نشاء، و إن شاء أحدٌ الآخرة و سعى لها و كان مؤمناً، فإنّنا سنعطيه إيّاها، فنحن نمدّ الجميع و نساعدهم.
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً.٢
لقد هدينا الإنسان السبيل، فإمّا يختار سبيل الجنّة و السعادة، أو سبيل جهنّم و الشقاء. و لذا يستفاد من هذه الفقرة من الآية:
كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها،٣ أنّ هناك جماعة في الظلمات لا يمكنهم الخروج منها، قد تسرّبت الظلمات إلى قلوبهم و ترسّخت فيها، فصارت جوارحهم و أعضاؤهم مظلمة، و صارت الظلمة تكتنفهم و تحيط بهم أينما اتّجهوا؛ الظلمة في قبورهم، فإن خرجوا منها وجدوها أمامهم؛ و الظلمة في المحشر، و الصراط، و الميزان و سائر
المواقف، فهم يواجهونها في المواطن بأسرها. قال تعالى:
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.۱
و هذه الآية بَعد قوله تعالى:
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ.
و من الجليّ أنّ المراد بالنور و الظلمة ليس هذا النور و الظلمة الطبيعيّينِ الخارجيّين، بل المراد بهما النور و الظلمة المعنويّان الروحيّان، و الأنوار النفسانيّة و الظلمات النفسانيّة التي تلازمهم و تقترن بهم.
كلّ عمل للمؤمن هو ورود في عالم النور، و كلّ عمل للكافر ورود في الظلمات
على أنّ اي عمل يفعله المؤمن سيقوده إلى عالم النور، فيوجب ازدياد نوره، و سيكون الله سبحانه ربّه و مدبّره، حتّى يدخله في حريم أمنه و أمانه.
كما أنّ اي فعل يفعله الكافر المُعرِض عن الله تعالى إنّما يخطو به خطوة في الظلمات، فالأفراد الذين اعتمدوا على أنفسهم و على علومهم التجريبيّة، أنكروا الله تعالى و تردّوا في وادي الإنكار و الإلحاد، لأنهم لم يروا الله تعالى عياناً، و لم يشاهدوه بالعلوم التجريبيّة، و لم يلمسوه تحت مبضع الجراحة؛ فأولياؤهم الطاغوت.
أي: أنهم ذوو الطغيان، طغيان القدرة و طغيان العلم و طغيان المال و الهوى و الهوس، فهؤلاء يريدون -إذَن- أن يتنصّلوا من المسئوليّة و الالتزام، إلّا أنهم لا يعلمون أنهم يفرّون من الله إليه. مثلهم كمثل الحَجَل الذي يهرب من يد الصيّاد فيدفن رأسه تحت الثلج. فهو لم يفرّ، بل أسلم نفسه لذلك الصيّاد، و أسدل حجاب الغفلة و الجهل على عينيه
و أغمضها و دفن رأسه في الثلج كي لا يراه الصيّاد، فهو بعمله هذا لا يرى الصيّاد، لكنّ الصيّاد يراه.
و هكذا فإنّ الحَجَل لم يُخرج نفسهِ- في عالم الواقع و متن الخارج من سيطرة الصيّاد و قبضته، بل جعل نفسه طعمة سائغة له على أساس من الجهل و إسدال حجاب على فهمه و بصره.
و هكذا فإنّ الذين يفرّون من يد الله تعالى يتصوّرون أنهم يدخلون عالماً من البهجة و اللذّة و المسرّة، إلّا أنهم يجهلون أنهم خرجوا من الرحمة و دخلوا في البلاء و النكبة و النقمة. و أنّ الطاغوت، و نعني به الامراء و الحكّام الجائرين المستكبرين الجاهلين بالله، سيدخلونهم في الظلمات، و يسلبونهم ذلك القدر الذي كان لهم من النور، فيغوصون في الظلمة و الحلكة تدريجيّاً إثر متابعة الطاغوت، حتّى يصلوا إلى محض الظلمة المطبقة، فيخلدوا هناك.
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
ذلك أنّ جهنّم من مظاهر البُعد عن رحمة الله و قربه، فمن كان مخلّداً فيها كان مخلّداً في الظلمة.
الكفّار في الظلمات يوم الحساب مع أنّ القيامة تمثّل عالم النور
إذَن يستفاد من هذه الآية أنه على الرغم من أنّ القيامة هي عالم النور، إلّا أنّ هناك شِرذمة يعيشون مخلّدين في الظلمة. و قد عرضنا سابقاً نظير هذا المطلب في موضوع الحجب، و قلنا: إنّ العالَم ليس بعالم الحجاب، بل هو عالم الظهور و البروز و التجلّي، إلّا أنّ البعض -في الوقت نفسه- محجوبون عن البعض الآخر، و أنّ الكفّار محجوبون، فهذه المحجوبيّة من لوازم محدوديّة وجودهم، فقد حدّدوا وجودهم و ضيّقوه في الدنيا، فصارت هذه المحدوديّة موجبة لحجابهم و بُعدهم، و صاروا لا يستطيعون الخروج من ذلك التعيّن و التقيّد.
كما نقرأ في القرآن الكريم مثل هذا المعنى، في أنّ المخفيّات تظهر يومئذٍ، و أنّ هناك عالم السرّ و الحقيقة، فليس لأحد -من ثمّ- قدرة على الكذب، كما لا يمكن لأحد أن يجيب منكر و نكير كذباً حين يسألانه: مَن ربُّك؟ فلا يمكنه الكذب للخلاص من عذابهما، و لا يسعه إلّا التصريح بما كان يعبده و يجعله إلهه و معبوده في هذه الدنيا. كما لا يمكن لأحد يوم القيامة -و هي يوم الجمع و يوم الشهود- أن يظهر خلاف عقائده.
الكفّار يحلفون كذباً يوم القيامة.
بَيدَ أنه وردت -في الوقت نفسه- بعض الآيات التي تذكر أنّ الأفراد الذين كانوا في الدنيا من أهل الكذب، يحاولون هناك أيضاً تخليص أنفسهم بالكذب. قال تعالى:
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.۱
فهم يقولون هناك: و الله ربّنا ما كنّا مشركين. فانظر (أيها النبيّ) كيف كذبوا على أنفسهم و ضلّ عنهم ما كانوا يفترون.
فَألْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ.٢
و حين يأتي الملائكة الشداد الغلاظ لقبض أرواح الظالمين و سوقهم إلى جهنّم، فإنّ هؤلاء الظالمين يحاولون مسالمتهم و خداعهم بالحيلة و المكر للخلاص من أيديهم، و تخفيف شدّة سكرات الموت و أ لم نزع أرواحهم. لذا يقولون مسالمين: ما كنّا نعمل من سوء في هذه الدنيا.
بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.٣
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ.۱
فهذا الحلف الكاذب هو ظهور حيلتهم في الكذب و الافتراء الذي يظهر يومئذٍ، فمن كان الكذب سجيّته، لازمته سجيّته هذه و اصطحبها حين يرد المحشر.
إن اللصّ يحبّ السرقة على الدوام، فإن نام رأى في المنام أنه يسرق. فهو في اليقظة يسرق خفية بعد ملاحظة ما يحيط به، و يتكتّم على سرقته لئلّا يطّلع عليها أحد، أمّا حال النوم حيث لا يرى سرقته أحد، فإنّه يسرق دونما مبالاة.
و الأمر صادق بالنسبة إلى المحتكرين الذين يجنون الأرباح الطائلة، فإنّهم يرون في النوم أنهم يحتكرون و يبيعون بأثمان مرتفعة فيلتذّون برؤياهم هذه، ثمّ يستيقظون فيتحسّرون لأنّ ذلك كان مجرّد رؤيا، و لأنّ ذلك الاحتكار للأرزاق لم يكن له وجود خارجيّ.
و هكذا الأمر بالنسبة إلى الإنسان المتهتّك الغارق في الشهوات، فهو يرى في المنام المناظر الشهويّة، فيرى نفسه ملِكاً، و يرى أنه يأمر و ينهى و يضرب و يسلب. أمّا العالِم فيرى رؤيا تدور حول المطالعة و التدريس، كما يرى العابد رؤيا تحوم حول العبادة و الصلاة و الركوع و السجود. و هذا أمر مسلّم تصدّقه التجربة و تشهد عليه بشواهد صادقة، و قد بُيّنت علّته في الفلسفة الإلهيّة.
إن بعض الأفراد يكذبون إجمالًا، لكنّ فيهم من ينسج الأكاذيب و يلفّقها بمهارة و حنكة، فهم يختلقون أمام الإنسان قصّة كاذبة دون أدنى تأمّل أو تروٍّ سابق فيخدعونه بها. فمثل هؤلاء الأفراد قد تحجّرت خليقة
الكذب القذرة في أنفسهم، فهم يرحلون عن الدنيا بهذه النفس الكاذبة، و يردون المحشر بها، و يحاولون هناك أيضاً أن يخدعوا الله تعالى، فيختلقون الكذب و يحلفون افتراءً و ينكرون كفرهم و شركهم و ظلمهم و جناياتهم أيّما إنكار. و مثلهم كمثل سارقي الجيوب الذين إذا ما أمسك أحد بأيديهم حال تلبّسهم بالسرقة، فإنّهم سينكرون ذلك مع أنّ أيديهم في جيوب الناس. و ما أكثر ما شوهد أنهم يُعتقلون و معهم الأموال التي سرقوها، فيلقون التهمة على مَن أمسك بهم و يتّهمونه أنه سرق تلك النقود من جيبهم؛ نعوذ بالله.
و إذا ما حضر هؤلاء يوم القيامة، فإنّهم يحاولون إلقاء التبعة على الله تعالى، و تحميله المسئوليّة و إدانته.
و بناءً على ما قيل في باب ظهور السجايا و المَلَكات، فإنّ سوق كذب الكاذبين و إنكار المنكرين و حجاب المحجوبين ستكون رائجة يوم القيامة. فكيف -ترى- ستقع هذه المخالفات مع أنّ العالم هناك هو عالم الحقيقة المحضة و الصدق الخالص و النور و الإشراق، و عالم الظهور و البروز؟
سيتّضح الأمر بإيراد مقدّمة مختصرة، و هي أنّ ذلك العالم، على الرغم من كونه عالم النور، إلّا أنّ مراتب النور متفاوتة متغايرة.
افرضوا أنّ الشمس قد طلعت فأشرقت في الوهلة الاولى على سقف بلّوريّ، ثمّ إنّها عبرت من هناك إلى سقف بلّوريّ آخر أسفل منه، و هكذا تعبر من الطبقات البلّوريّة المتعدّدة للعمارة لتصل إلى أرضيّة الغرف و إلى داخل البناية السفلى.
فإذا كان لكلّ واحد من هذه السقوف و البلّورات إجمالًا شخصيّة و أنانيّة، فإنّ ذلك سيؤثّر في النور العابر خلاله، و حينئذٍ سيفقد لونه قدراً من إشراقه عند عبوره من كلّ بلّورة، فإذا وصل إلى الطابق الأسفل كان لونه
معتماً متفاوتاً كلّ التفاوت مع اللون المشرق الشفّاف للطابق الأعلى.
و هكذا سيرى الشخص الجالس في الطابق العلويّ نور الشمس و ينعم بضيائها و إشراقها، إلّا أنّ الأمر يختلف كثيراً بالنسبة إلى الجالس في الطبقة السفلى، إذ إنّه يتمتّع بإشراق الشمس أيضاً، لكنّه إشراق ضعيف مرّ من الحجب و زادت عليه التعيّنات الإمكانيّة حجباً جديدة.
و لا ريب في أنّ الواردين إلى القيامة أُولو درجات مختلفة في الإيمان و العلم و التقوى، و أنّ العاصين و المذنبين هم أيضاً في درجات متباينة. و هذا الاختلاف سيوجب قلّة الحجب أو كثرتها. و نتيجة ذلك أنّ المنغمرين في المعصية و المصرّين المعاندين على الشرك و الكفر و الإنكار و الجحود، هم في مراتب بعيدة نائية عن الرحمة، و أنّ حجبهم أكثر و النور الذي يصلهم أقلّ و أندر، فهم بالملازمة في الظلمة و العتمة المبهمة.
أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.۱
أمّا المقرّبون الذين يتمتّعون بالمرحلة الاولى للنور، فيكتسبونه بلا غشّ و لا رَيْن و لا تلوّث. و هكذا يتلقّى الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام الفيض من الذات المقدّسة للحضرة الأحديّة و يستجلبون النور بلا واسطة؛ أمّا باقي الأفراد من المقرّبين و أهل الإخلاص و الأبرار و الأخيار و أصحاب اليمين، فلكلّ منهم نور حسب درجته و مقامه و منزلته.
وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ.٢
و أنّ أصحاب الشمال هم أيضاً في درجات متنوّعة، لأنّ درجة شقائهم متفاوتة. و من ثمّ فإنّ الأشقياء في عالم النور، و لكن من وراء
حجاب و تحت غطاء الأسماء الجلاليّة.
المؤمنون و المقرّبون و الأبرار و الأخيار تحت إشراق النور و الأسماء الجماليّة، و الأشقياء و الكفّار تحت إشراق النور و الأسماء الجلاليّة، و شتّان بين هذين الأمرين. فحين يوزِّع المَلِكُ في يوم معيّن صِلاته العامّة على الجميع، فإنّه يكرم أهل خدمته كما يستحقّون، و يجزي أهل العصيان بالعذاب و السجن و العقوبة حسب ما يستحقّون. الجميع يرون المَلِكَ و هو بمرأى منهم و مسمع، إلّا أنّ المطيعين في ظلّ ألطافه و عناياته، و العاصين و المتمرّدين تحت سطوته و غضبه و قهره.
كيفيّة عبور النور من الهويّات و الماهيّات الإمكانيّة
و هكذا سينعم المؤمنون ذوو العمل الصالح يوم القيامة بالأنوار الجماليّة و اسم الرحيم و الرءوف و الودود و ذي المنّ و الكرم؛ بينما سيرزح الكفّار و المجرمون تحت الأنوار القاهرة الجلاليّة، و تحت اسم شديد العقاب و الجبّار و القهّار و أعظم المتجبّرين. فهم بأجمعهم في النور و الإشراق، و الإقرار و الاعتراف، و عدم إمكان التمرّد و الإنكار، و كلّ منهم حسب مرتبته و درجته في المقامات و الكمالات، و في حجب متفاوته حسب القُرب و البُعد، و تبعاً لظهور مراتب القُرب و البعد من الجنّة أو من جهنّم.
لذا فإنّ الفرق بين المؤمن و غير المؤمن سيتّضح بجلاء، إذ إنّ العالم هناك عالم الصدق و عالم النور و الإشراق و الظهور و البروز. و لما كان للمؤمنين في الدنيا صدقٌ غير مشوب بكذب، و نورٌ غير مشوب بكدر و ظلمة، فإنّ هذه المعاني التي تتجلّى لهم يومئذٍ توجب دخولهم في الإشراق و النور المحض. و أمّا الكافرون فلمّا كانوا معروفين بالكذب و العتمة و الكدر، فإنّهم يصيرون في شبكات النور محجوبين بالحُجب و الأستار.
و تلك الجماعة المجبولة على الظلم و الجور، التي عُجنت أرواحها بالكذب و الافتراء، و خُلطت بالشقاء و القسوة، موجودة هناك في شبكات نوريّة بعيدة و ضعيفة جدّاً، و ممزوجة بظلمة الحجب الظلمانيّة؛ و أنّ بلّور قلوبهم المخلوط بالرين و الشين سيجعل ذلك النور الإلهيّ المجرّد الطاهر البسيط في شبكات القلب المظلمة و العفنة الملوّثة في هيئة نور خافت و معتم يدخل في قلوبهم. و ذلك أنّ البلّور المعتم يجعل النور معتماً، و البلّور الداكن يجعل اللون داكناً.
فأمرهم من حيث إشعاع النور غير قابل للإنكار، أمّا من جهة تلوّثه بالهواجس النفسيّة و حجب الإدراك و البصيرة الباطنيّة، فإنّهم سيصبحون في العتمة و الحجاب و مظاهر البُعد.
المغيرة بن شعبة يُغالط متعمّداً
و جاء في «نهج البلاغة» ما نصّه:
وَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِر (وَ قَدْ سَمِعَهُ يُرَاجِعُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ كَلَاماً): دَعْهُ يَا عَمَّارُ فَإِنَّهُ لَمْ يَأخُذْ مِنَ الدِّينِ إلَّا مَا قَارَبَهُ مِنَ الدُّنْيَا؛ وَ عَلَى عَمْدٍ لَبَّسَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِيَجْعَلَ الشُّبُهَاتِ عَاذِراً لِسَقَطَاتِهِ.۱
و هذا الوصف من الإمام للمغيرة ممّا يثير العجب، أن يصل امرؤٌ إلى الحدّ الذي يتّخذ فيه -عالماً عامداً- ستاراً من الشبهات للدعاوى الباطلة، كي يجعل لباس الشبهة ذلك وجهه الموجّه يوم المحاكمة و في أوساط الناس.
و تمثّل هذه الحالة نفاقاً باطنيّاً شديداً، إذ يتجاهل الإنسان و يظهر عدم الاطّلاع متعمّداً مع علمه و بصيرته و تنوّره و وعيه، و يحاول الفرار من مؤاخذة الناس حفظاً لكرامته، و ذلك بحمل أعمال الناس على وجه
غير صحيح مع علمه أنها صحيحة، أو بحملها على وجه صحيح مع علمه بخطئها و عدم صوابها. و باتّخاذه موارد الشبهة تلك مستمسكاً لعمله. و هذا نوع من الظلمة في عالم النور، و نوع من العمى في عالم الإبصار، و سيظهر في عالم القيامة على هذا النحو و الكيفيّة.
و هناك أفراد كثيرون من هذا القبيل في المجتمع، من الذين يجعلون الدين آلة لنيل الدنيا، فيصلّون و يخطبون خطباً خادعة ليحكموا في الدنيا. و قد استخدم سيّد الشهداء عليه السلام استعارة لطيفة للتعبير عن أهل الدنيا و كيفيّة استخدامهم الدين للوصول إلى نواياهم و مقاصدهم الدنيويّة، و ذلك في خطبة قصيرة له خطبها في «ذي حسم» عند مسيره إلى كربلاء، جاء فيها كما في «تحف العقول»:
وَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ في مَسِيرِهِ إلَى كَرْبَلَاء:
إن هَذِهِ الدُّنْيَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَ تَنَكَّرَتْ وَ أدْبَرَ مَعْرُوفُهَا؛ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإنَاءِ؛ وَ خَسِيسُ عَيشٍ كالْمَرْعَى الْوَبِيلِ.
ألَا تَرَوْنَ أنَّ الْحَقَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ وَ أنَّ الْبَاطِلَ لَا يُنْتَهَي عَنْهُ، لِيَرْغَبِ الْمُؤْمِنُ في لِقَاءِ اللهِ حَقّاً. فَإِنِّي لَا أرَى الْمَوْتَ إلَّا سَعَادَةً وَ لَا الْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إلَّا بَرَمَاً.
إن النَّاسَ عِبِيدُ الدُّنْيَا، وَ الدِّينُ لَعِقٌ عَلَى ألْسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَائِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ.۱
المَجْلِسُ الثَّالِثُ وَ الثَّلَاثُون: قِيَامُ الإنْسَانِ في سَاحَةِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ مَحْضَره
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ، فَالْحامِلاتِ وِقْراً ، فَالْجارِياتِ يُسْراً ، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ، إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ.۱
قسماً بالرياح التي تذرو التراب و تفرّقه؛ و قسماً بالسحب التي تحمل المياه الثقيلة؛ و قسماً بالسفن التي تجري في البحار رخاءً ميسّرة؛ و قسماً بالملائكة التي تقسّم أمر الله في العالم، فتأخذ الأمر الواحد للحضرة الأحديّة من عالم اللاهوت، حسب اختلاف مقاماتها و مراتبها، و تبعاً لسعة ماهيّاتها أو ضيقها، فتقسّم ذلك الأمر على العوالم الاخرى؛ إنّ ما توعدون و ما أنذرتكم به صادقٌ و واقع، و إنّ الجزاء و الثواب لأمر واقع و لازم.
يروي عليّ بن إبراهيم في تفسيره، عن أبيه، عن ابن أبي عُمير، عن جميل بن درّاج، عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآيات على النحو
الذي ذكرناه.۱
كما خرّجه السيوطيّ على هذا النحو الوارد في التفسير المذكور، في تفسير «الدرّ المنثور» عن عبد الرزّاق و الفريابيّ و سعيد بن منصور و حارث بن أبي أُسامة و ابن جرير و ابن منذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في «المصاحف»؛ و عن الحاكم في «المستدرك» و صحّحه؛ و عن البيهقيّ في «شعب الإيمان»، جميعاً عن عليّ بن أبي طالب.٢
و قال الفخر الرازيّ في تفسيره: و الأقرب أنّ هذه صفات أربع للرياح، فالذاريات هي الرياح التي تنشئ السحاب أوّلًا؛ و الحاملات هي الرياح التي تحمل السحب التي هي بخار المياه التي إذا سحّت جرت السيول العظيمة، و هي أوقار أثقل من جبال؛ و الجاريات هي الرياح التي تجري بالسحب بعد حملها؛ و المقسّمات هي الرياح التي تفرّق الأمطار على الأقطار.٣
و يشهد على التفسير المرويّ عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ هذا القسم المتكرّر إشارة إلى عامّة التدبير، حيث ذكرت أُنموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البرّ و هو: وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً؛ و أُنموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البحر و هو: فَالْجارِياتِ يُسْراً؛ و انموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في الجوّ و هو: فَالْحامِلاتِ وِقْراً؛ و تمّم الجميع بالملائكة الذين هم وسائط التدبير: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً.٤ و مجمل الأمر أنّ الله تعالى يقسم بهذه الامور التي هي
من أهمّ الامور ثمّ يقول: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ.
إن يوم الجزاء صادق و واقع، و ليس أمراً تخيّليّاً و موهوماً جاء به الأنبياء كفرضيّة و نظريّة لإسكات نفوس البشر، و إلجام أجيال البشريّة المتمرّدة و المتعدّية، و رتّبوا أمر القيامة و الجزاء و الثواب و قدّموه إلى الناس ليحدّوا بهذه الوسيلة من الاعتداءات.
المعاد عبارة عن عودة الإنسان و رجوعه إلى الله سبحانه، لأنّ المعاد بمعنى محلّ الرجوع أو زمنه أو أصله، فبواسطته يتحقّق عود الإنسان و رجوعه إلى الله تعالى. و يستخلص منه أنّ مجيء الإنسان يجب أن يكون من عند الله تعالى، ليكون عوده و رجوعه إليه، فالسير في طريق لم يسبق للإنسان سلوكه و طيّه لا يدعى رجوعاً. فنحن -لهذا- قد جئنا من عند الله سبحانه، و علينا أن نعود إلى حيث كنّا و إلى المكان الذي قدمنا منه.
كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ.۱
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ.٢
كما بدأنا أوّل خلق و أنزلناه من نقطة نزوله الاولى، فأقمنا هذا العالم و خلقناه، فإنّنا سنُعيد هذا الخلق و نرقى به ثانيةً إلى تلك النقطة.
عود الإنسان بكلّ وجوده و أرجاء كيانه
و من هنا فإنّ هناك معاداً للإنسان و الحيوانات و الموجودات جميعاً، و ستعود إلى حيث كانت بداية خلقها، و الإنسان أحد الموجودات و المخلوقات و له معاد أيضاً.
و لمّا كان الإنسان قد نزل بجميع وجوده و مراتبه، فعليه أن يصعد و يعود ثانية بجميع وجوده و أرجائه، و إلّا لمّا تحقّق معاده كما ينبغي. لقد
نزل الإنسان بوجوده كلّه فظهر في عالم الكثرة و ارتدى لباس الطبع و المادّة، و عليه أن يعود بهذه المجموعة التي هي عبارة عن البدن و المثال و النفس، و الظاهر و الباطن، و المُلك و الملكوت. و إلّا فإن تقرّر أن يبقى هنا قسم من الإنسان و يعود القسم الآخر منه، لما كان قد عاد بوجوده كلّه.
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.۱
إن العالم الذي نعيش فيه ليس عالم العبث و الجزاف و اللعب، فأعمال الإنسان تدوّن و تسجّل، سواءً تجاهل الإنسان ذلك أم لا، بل إنّ هذا التجاهُل نفسه سيسجّل و يدوّن أيضاً.
لذا فإنّ الإنسان ليس بمعزل عن الحساب و المحاكمة، فإن تكلّم رأى أنّ جهاز التسجيل يسجّل كلماته حرفاً حرفاً، و إذا ما قلّب صفحات كتاب أو أوراق ما، لسُجّل صوت تلك الورقة و الصفحة أيضاً.
و من ثمّ فإنّ الإنسان لا يمكنه أن يُخفي شيئاً في عالم الكون و التكوين، و ستكون عودته إلى الله الذي سيُطلعه على جميع أفعاله و سيرته.
لقد كان لقمان من الحكماء الكبار، و كان له منصب النبوّة على ما في بعض الروايات، و كان من بين نصائحه و مواعظه لابنه، قوله:
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ.٢
و حينما لا تخفى على الذات الأحديّة و لا تخرج من دائرة علمها
و قدرتها و إحاطتها الوجوديّة و الحياتيّة حبّة من خردل في صخرة أو خلف جبل أو في أعماق بحر أو في الفضاء أو في السماوات، و كذلك كلّ موجود بقدر هذه الحبّة وزناً، فكيف يمكن للإنسان الادّعاء بأنّ وجوده و أفعاله و عقائده و صفاته خارجة عن دائرة علم الله و قدرته؟ و كيف يُنكر وجوده و حياته مع أنّ من المعلوم أنّ هذا الوجود الفعليّ في عالم التكوين ملازم و مستلزم للستجيل و التدوين و تحقّق المعاد؟
إنّ الله تبارك و تعالى مقتدر، و سيبعث الإنسان و يُحييه، فيفهم آنذاك أنّ هذه الدنيا لم تُخلق عبثاً، بل خُلقت وفق حساب دقيق. و سواءً أنكر الإنسان المعاد أم لم ينكره، أو قال إنّ أحداً لم يذهب إلى ذلك العالم الذي أخبر الأنبياء به فيأتينا بالخبر اليقين. و لو تساءل: من سافر -ترى- إلى الآخرة ليجيء بخبرها؟!
إنّ الإنسان يرى من منظار الإدراك الحسّيّ أنه يموت و يُدفن تحت التراب و يصبح رميماً، كما أنّ روحه ليست بالشيء المرئيّ لنقول إنّها لا تزال حيّة. فحقيقة الإنسان -إذَن- هي بدنه العنصريّ الذي يتلاشى و يتبدّد، و ليس هناك خبر عن الروح أيضاً، فلا معاد و لا خبر حينئذٍ. هذه هي مقولة المادّيّين و الدهريّين.
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ.۱
إعلان المعاد من قبل الأنبياء لم يكن لإخافة الناس و إفزاعهم
و بناءً على ذلك فإنّ ما قاله الأنبياء إنّما كان من أجل مصلحة المجتمعات البشريّة و تنظيمها، و لمنع الناس من الاعتداء على بعضهم البعض، لذا كانوا يضعون فزّاعة على مرأى و مسمع من الناس تتمثّل بعذاب عالم الآخرة و جزائها و يظهرونها أمام قواهم المتخيّلة و الوهميّة ليحدّوا من
سبعيّتهم و بهيميّتهم نوعاً ما، مثلهم في ذلك كمثل الفلّاحين و المزارعين الذين ينصبون فزّاعة لِيُخيفوا بها الطيور و الغربان كي لا تهاجم الثمار و الأزهار و الحبوب.
لقد تصوّر الأنبياء أنّ الله و القيامة هي الوسيلة الأفضل لإخافة البشر، فكانوا يلقّنون الناس أمر وجود الله و المعاد لإيقافهم عند حدّهم و منعهم من الاعتداء على أموال الغير و أعراضهم و نفوسهم. أمّا حقيقة الأمر فليس هناك شيء من هذا، إذ إنّ المطالب و الأحكام الطويلة و العريضة لا تعتمد على أساس المعاد الواقعيّ و لا على أساس الإله الحقيقيّ.
و إذا مات الإنسان و تلاشى بدنه و صار رميماً و اضمحلّ تحت الأرض و فنى، فكيف يجمع الله هذه الذرّات و يمنحها الحياة من جديد؟ كيف يتأتّى ذلك؟!
هذا هو حصيلة كلام الطبيعيّين الذي عرضوه منكرين على الإلهيّين إيمانهم بالمعاد. و الجواب هو أنكم لم تذكروا شيئاً غير الظنّ و الاستبعاد و ترتيب مقدّمات شعريّة مشوبة بالأخطاء.
فأين العجب يا ترى؟ انظروا إلى أصل خلقكم و بدايته و انظروا اي شيء كنتم؟
عجائب خلقة الإنسان ليست أقلّ من عجائب عودته إلى الله
فهل هناك قصّة أعجب و أغرب من قصّة خلق الإنسان؟ لقد قلتُ يوماً لأولادي: إنّني كلّما فكّرتُ في الآيات الآفاقيّة لربّ العزّة تعالى لم أتحيّر كحيرتي في تفكيري بالجنين في بطن أُمّه.
إن أصل الإنسان من نطفة، ثمّ يصبح عَلَقة، ثمّ مُضغة، ثمّ عظاماً تُكسى لحماً، و هذه هي المراح التي لادّ للجنين من طيّها في رحم الامّ ليصير إنساناً كاملًا يتنفّس و يمتلك الشعور و العقل، فيخطو إلي العالم، و ما أعجبها من أُمور! ثمّ بعد ذلك يبدأ في الكلام فيرتفع منه صُراخ «أنا رجل».
إن هذه التحوّلات و التطوّرات عجيبة و غريبة بحيث إذا ما حاول الإنسان أن يفكّر فيها، و أن يتدبّر في المدارج و المعارج الصعوديّة و التكامليّة لهذه النطفة، فإنّ عقله سيشلّ عن التفكير، و لسانه سيخرس عن النطق.
و على الرغم من أنّ الموجودات جميعها عجيبة، لكن لا حدّ للعجب في طي المراحل التكامليّة للنطفة. و لذا فإنّ الله سبحانه حين ذكر في مواضع عديدة من القرآن الكريم قصّة خلق الجنين، فإنّه أشار إليها بعنوان العظمة، و يقول في موضوع من تلك المواضع:
فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.۱
إن مثل هذه اليد التي تخلق هذا الخلق طافحة بالبركة و الجود حقّاً! فالنطفة هي ذرّة لا تراها العين المجرّدة، و لا عقل لها و لا شعور، و لا يد و لا رجل، و لا سائر الأعضاء و الجوارح، و هي مبدأ خلقة الإنسان. و حين تُقسّم قطرة من نطفة إلى أربعة ملايين جزء، فإنّ جزءاً واحداً غير مرئيّ منها هو أصل النطفة (أي الحويمن)، اي لا شيء في الحقيقة.
و هكذا فإنّ الله تعالى يخلق من هذا اللاشيء عيناً و أُذناً و قلباً و كبداً و رئة و كلية و عروقاً و شحماً، و يخلق عظاماً و غضروفاً و عضلات و أعصاباً، و يخلق في كلّ يد خمسة أصابع، و لكلّ إصبع مفاصل عديدة لها جميعها أعصاب متّصلة كلّها بالمخّ. فهناك أعصاب للحسّ و أعصاب للحركة، و هناك مواضع فيها أعصاب للحركة و ليس فيها أعصاب للحسّ، فأمعاء الإنسان تتحرّك إلّا أنها بدون حسّ، اي: أنّ إحساسها ضعيف. و هكذا فإنّ معدتنا و كليتنا في حركة دائمة دائبة، إلّا أننا لا نحسّ بتلك الحركة،
و هذه أُمور تبعث على العجب.
فكيف خُلقت هذه الأعضاء كلّها من حويمن واحد صغير؟ ذلك الحويمن البالغ في الصغر حدّاً لا يُرى معه بالعين المجرّدة. فتلك الذرّة الصغيرة يجب أن توضع تحت المجاهر القوية لتصبح قابلة للرؤية. و على كلّ حال فهي ذرّة و جزء صغير لا تُشاهد فيه هذه الأعضاء أبداً و لو بعنوان الاندماج.
كيف تمتلك هذه النطفة حركة في جوهرها و كينونتها؟ و بأيّ سرعة عجيبة تغيّر نفسها؟ فتتقدّم في كلّ لحظة، و تصبح علقة، ثمّ تصبح في هيئة موجود أكثر إتقاناً و إحكاماً، اي: مُضغة من لحم، ثمّ تظهر على سطحها نقاط صفراء عديدة أشبه بالبقع الصغيرة، فيقال إنّ هذه النقط و البقع هي المخّ و الكبد و القلب. ثمّ تتحرّك نحو تكاملها بسرعة. فإن شاهد الإنسان تلك البقع، لما أمكنه أن يُدرك أنها عيون و قلوب. تماماً كما تضعون با لقلم نقاطاً صفراء على ورقة ما؛ أ فيمكن القول إنّ تلك النقاط عين و قلب و كبد؟ أ يمكن القول إنّ هذا هو البطين الأيمن و ذلك هو البطين الأيسر للقلب؟
و إنّ هذا هو دهليز القلب! و إنّ ذلك هو مدخل القلب؟
ما هو المخّ؟ و ما فيه من الامور؟ ما الذي تمتلكه كلّ من القوّة الحافظة أو الذاكرة و القوّة المفكّرة و القوّة المتخيّلة و القوّة الواهمة و الحسّ المشترك، من أجهزة و من أشرطة تسجيل؟ و ما أطول أشرطة التسجيل في مخّ الإنسان! و من أين صنعت؟
إنّنا نرى ظاهرها فنحار و نبقى مبهوتين خرساً و بكماً لما نشاهده من صنع الله المتعال، و يتوقّف عقلنا عن الحركة و التفكير، ناهيك عمّا يحصل لنا لو أدركنا باطنها. لقد كانت هذه الامور جميعاً من تلك الذرّة غير المرئيّة؛
سُبْحَانَ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ الْحَكِيمِ.
أ فهذه الأعمال من صنع الله أم لا؟ أ يمكننا الإنكار يا ترى؟
أ فلا يمكن للربّ الذي يفعل هذه الامور أن يُحيي الموتى، و لم يُستكثر على الله إحياء الموتى؟ و لِمَ يُستبعد ذلك من قدرته تعالى؟
آيات القرآن الكريم في خلق الإنسان و بعث الأرض في الربيع
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ، ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ۱
نعم، إنّ هذه الحوادث و الوقائع كافّة دليل على وحدانيّة و حقّانيّة ذاته المقدّسة.
عجائب خلقة بدن الإنسان دالّة على وحدانيّة الله و حقّانيّته
افرضوا أنكم موجودون في عالم الوجود وحدكم، دون أن يكون معكم موجود آخر و افرضوا أن ليس هناك من معاد؛ لكنّ وجودكم نفسه أمرٌ لا يمكن إنكاره، فأنتم موجودون و لا يمكنكم إنكار وجودكم. فما ذا كنتم سابقاً؟ أ كنتم تراباً ثمّ صرتم نطفة؟
إن أصل النطفة من الدم، و الدم هو جوهر الغذاء الذي تناوله الإنسان، و كان ذلك الغذاء إمّا لحماً أو حبوباً أو خُضَراً أوفوا كه. فأصل الإنسان -إذَن- من التراب، لأنّ المادّة الأصليّة لهذه الموادّ هي التراب. و لقد تبدّل هذا التراب علقة و دماً متخثّراً، ثمّ تحوّلت النطفة تدريجيّاً إلى
مادّة كمثل المضغة من اللحم، ثمّ صارت عظاماً. و ما أعجب العظام التي خلقها ربّنا! عظام القدم، و عظام اليد، و عظام الصدر. و لم يحصل في خلق الله و صنعه اي خطأ، كأن يضع عظام الصدر في القدم مثلًا أو بالعكس. و لم يخلق العظام حادّة الحافّات فتؤذي اللحم، و لم يضعها بحيث تخرج من اللحم و العضلات، بل صنعها كما لو كانت قد صُقلت و بُردت بالمبرد.
و العجيب أنّ بين هذه العظام تزييتاً دائماً يحول دون تأكلها الناتج من احتكاك بعضها ببعض.
إن رجال الصناعة الذين يعملون بآلات خراطة المعادن و صقل سطوحها و مكائن التفريز و أشباه ذلك يعمدون إلى تشحيم تلك الآلات لئلّا تتآكل نتيجة دوران العجلات و العجلات المسنّنة و احتكاك بعضها ببعض، ممّا يولّد أصواتاً عند احتكاكها و يفضي ذلك إلى عطب الآلات و توقّفها عن العمل. و هكذا فإنّ هذه العجلات يجب أن تكون مزيّتة باستمرار لتعمل جيّداً.
و حين يتحرّك إصبع الإنسان، أو تتحرك مفاصل الإصبع أو المعصم أو المرفق أو العمود الفقري، أو كلّ مفصل يتحرّك فيه العظمان المتّصلان معاً، فإنّ ذلك المفصل يتزيّت بنحو تلقائيّ بمجرّد إرادة الإنسان و مشيئته لتحريك ذلك المفصل، فتتزيّت أطراف العظام على أفضل صورة. و العجيب أنّ الإنسان عند ما يريد حَنْوَ إصبعه فإنّ تلك المادّة الزيتيّة اللزجة اللاصقة تترشّح في تلك النقطة المعيّنة، فإذا أُوقف الإصبع أو أُوقفت سائر المفاصل عن الحركة، توقّف معها عمل التزييت.
أ فنحن الذين نقوم بهذا العمل؟! خسئنا! خسئنا حقّاً!
إنّنا لو أردنا أن نعمل على آلة ما، فقد يحدث أن نفقد علبة الشحم أو مادّة التزييت فنبحث عنها ساعة هنا و هناك، و لعلّنا لا نعثر عليها في
الأعمّ الأغلب. فأني لنا أن نتمكّن من ذلك! ناهيك عن أن نقوم في آن واحد بتزييت أكثر مفاصل العظام أو جميعها.
عجائب مرحلة تكامل الجنين دليل على المعاد
و قد قيل إنّ بدن الإنسان يحتوي على أربعمائة و ستين عظماً و نيّف. و هذه العظام تتزيّت في مواضعها عند الضرورة و الحركة.
لما ذا تستقرّ هذه العظام في كلّ بدن بلا زيادة أو نقصان؟ و كلّ واحد منها في موقعه و مكانه، عظم الجمجمة و المخّ في موضعه، و عظام الوجه في مواضعها، و عظام الرقبة، و العمود الفقريّ كلٌّ في موضعه، فلم يحصل اي خطأ في هذا الهيكل العظميّ كلّه لدى أفراد البشر جميعهم.۱
ببين تا يك انگشت از چند بند | *** | به صنع الهى به هم در فكند |
پس آشفتگى باشد و ابلهى | *** | كه انگشت بر حرف صنعش نهى |
تأمّل كن از بهر رفتار مرد | *** | كه چند استخوان پى زد و وصل كرد |
كه بى گردش كعب و زانو و پاى | *** | نشايد قدم بر گرفتن ز جاى |
از آن سجده بر آدمى سخت نيست | *** | كه در صُلب او مهره يك سخت نيست |
دو صد مهره بر يكديگر ساختست | *** | كه گل مهرهاى چون تو پرداختست |
رگت بر تنت اي پسنديده خوى | *** | زمينى در او سيصد و شصت جوى |
بَصَر در سر و راى و فكر و تميز | *** | جوارح به دل، دل به دانش عزيز |
بهايم برو اندر افتاده خوار | *** | تو همچون الف بر قدمها سوار |
بأيّ سرعة مُذهلة و محيّرة للعقول تتكوّن العظام؟ يقال إنّ الطفل يلبث تسعة أشهر في بطن أُمّه، فهذه المدّة خاصّة بالإنسان، أمّا بيضة الدجاجة فإنّ هذه التحوّلات و التغيّرات الوجوديّة جميعها تحصل فيها خلال بضع و عشرين يوماً.
و إنّ الأشهر التسعة في بطن الامّ قصيرة جدّاً، إذ إنّ حركة الجنين في غاية السرعة. فإذا ما شاء هذا التراب أن يتبدّل إنساناً، فإنّه يتطلّب ملايين السنين من الزمن. و إذا ما أراد هذا التراب بسرعته الذاتيّة و حركته الجوهريّة أن يتحرّك باتّجاه صيرورته نطفة، ثمّ باتّجاه صيرورته علقة، ثمّ مضغة، ثمّ إنساناً، لاحتاج إلى ملايين السنين. و لا يمكننا في الواقع أن نوضّح ذلك من منظار العلوم الطبيعيّة، و لكنّكم ترون أنّ النطفة في بطن الامّ تطوي هذه المراحل البعيدة في تسعة أشهر، فيولد منها طفل ذو شعر ذهبيّ فنقول: (ما أحسن هذا! لقد رزق الله فلاناً طفلًا). لا نزيد على ذلك شيئاً، و لا نعلم اي أسرار و ألغاز، و اي عجائب و غرائب، و اي نكات و دقائق قد أودعتها اليد المقتدرة المباركة لأَحْسَنُ الْخالِقِينَ في هذا الطفل.
لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.
إن هذه الامور جميعها هي لمعرفة الإنسان و علمه، كي يقترب من الله سبحانه، و يسلك -با لتفكّر و التأمّل و التدبّر- طريق الخلوص و التقرّب.
إن الجنين يستقرّ في موضعه من رحم الامّ، فتنام الامّ و تستيقظ،
و تتناول طعامها و تتحرّك، و تغتسل و تسير في الظلمة و النور، و في الماء و على اليابسة، و تركب إحدى وسائط النقل، و تجلس في الباخرة أو الطائرة، لكنّ رحم الامّ يبقى في كلّ الأحوال كالمهد، يحتضن الطفل في حجره الحنون. و يهزّه أحياناً بينما يحافظ على استحكامه و استقراره و لا يطرأ عليه اي تزلزل و خلل أبداً. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا.
ثُمّ نخرجكم من رحم الامّ في هيئة طفل قد نبت شعر رأسه و ظهرت أصابعه و أظفاره و خُطّ بنانه، و نمت رموش عينيه. طفل تتلألأ عيناه و تومضان كمصباحين متألّقين، يبكي و يُعلن ببكائه جوعه، و تبحث شفتاه عن الثدي لامتصاص الحليب.
ندفع هذا الطفل باتّجاه كماله دائماً، و نسوقه إلى فعليّة درجات القابليّة و الاستعداد:
ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ.
فنصل بكم إلى مقام إحكامكم و استحكامكم في القوى الظاهريّة، و نبلغ بكم درجة شدّة الشباب و قوّته و بلوغه و النبوغ في العقل و الأحاسيس و النشأة. و كمال قوى التفكير و سائر القوى الباطنيّة، و قدرة الهيكل الجسميّ و عظمته. و إجمالًا أنكم قد وصلتم إلى مراحل فعليّة القوى الكامنة لديكم.
وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً.
ثُمّ إنّ البعض منكم يُتَوفّون قبل أن يصلوا إلى مرحلة الشيخوخة، و البعض الآخر يردّون إلى أرذل العمر و العيش، فيفقدون قواهم بأجمعها و ينتابهم العجز بحيث لا يُبقي لهم اي بهجة و نشاط، و يغلب عليهم النسيان بعد كلّ مراحل العلم و المعرفة، حتّى كأنهم لم يعلموا شيئاً أساساً.
و كما يُلفّ الطفل الرضيع في القماط و ينظّف من الأقذار، فإنّ هنا العجوز الطاعن في السنّ يجب تعاهده و تنظيفه على الدوام. و هكذا فإنّ تلك العظمة و القدرة، و ذلك النشاط و الحركة، و ذلك الإحساس و الرأفة، و ذلك العقل و الكياسة، و ذلك العلم و البصيرة، سيطوي ملفّه و يودّع وداعاً أبديّاً و يرحل، فلا يبقى منه اي أثر.
لقد دُفنت الدراية و الذكاء في تراب النسيان دفعةً واحدة، و عاد المرء لا يميّز يده اليمنى عن اليسرى، و لا يفرّق بين يوم الجمعة و يوم السبت. لقد كان قبل سنين يسمّي نفسه (أعلم العلماء) و يضفي على نفسه ألقاباً فذّة تفرّد بها على وجه الأرض، و كان يحفظ في صدره كتباً فلسفيّة و استدلاليّة و فقهيّة. و ها هو قد بلغ أمره درجة أنه إذا خرج إلى مكان ما، نسي محلّ عودته إلى منزله فيبقى حائراً؛ و إذا غمس إصبعه في العسل، فإنّه يضع إصبعه الآخر في فمه فيلعقه سهواً.
وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً.
أيّها الناس! إنّكم ترون الأرض هامدة ساكنة لا حراك فيها، و يابسة لا طراوة فيها، كأنها فقدت اي أثر للحياة، و هي تظهر في فصل الشتاء على هيئة ميّت لا أثر له، و على هيئة جذور شجرة لا أثر فيها لساق و أوراق و أزهار و ثمار. فمن يحتمل -يا ترى- أن تكون فيها حياة جديدة؟
فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
فَإذا أنزلنا عليها الماء من السماء اهتزّت و تحرّكت و اكتسبت الحياة، و نمت فأنبتت من كلّ زوج بهيج من أقسام الأعشاب و الأشجار و الإنسان و الحيوان، و صارت تفيض جميعها بالبهجة و القوّة و النشاط.
الأشجار جميعها خضراء، و متحرّكة. ليس بهذه الحركة الظاهريّة، بل إنّ لها حركة في داخلها و في جوهرها و كينونتها. فهي متحرّكة في الكمّ
و الكيف و في (أين) و (متى)، و في ظلّ سائر الأعراض. و متحرّكة في جوهرها و ذاتها مع تغيّرات و تبدّلات سريعة.
و لو وضعنا ورقة شجرة تحت المجاهر القويّة لرأينا أنّ في داخلها خِلالًا و فتحات كثيرة، كالأنهار التي تطفو فيها الأسماك؛ و الموادّ الغذائيّة تتحرّك فيها باستمرار و هي تماثل حركة أشياء طافية داخل هذه الأنهار. و هذه الورقة متحرّكة على الدوام.۱
إنّنا ننظر إلى هذه الأوراق نظراً ساذجاً عابراً، و قد نقطفها حين نريد تناول العنب و التوت و أمثالها، فنضع هذه الأوراق في إناء و نضع عليها العنب و التوت مثلًا؛ إلّا أننا لا نعلم ما ذا في هذه الاوراق. إنّ الأشجار جميعها متحرّكة في ذاتها، جذورها، و جذوعها، و سياقها و فروعها و أوراقها. الخلايا جميعها في حركة، و هي ذات قوّة لتناول الغذاء و للنموّ و الهضم و الإفراز، و تميّز بين العدوّ و الصديق، و هي في صدد كسب المنافع لنفسها و دفع الضرر عنها ما وسعها ذلك. ثمّ إنّ كلّ ورقة شجرة لا تفقد خواصّها
شيوة نرگس ببين نزد بنفشه نشين | *** | سوسن رعنا گزين زرد شقايق بيار |
خيز و غنيمت شمار جنبش باد ربيع | *** | نالة موزون مرغ بوى خوش لالهزار |
هر گُل و برگى كه هست ياد خدا مىكند | *** | بلبل و قمرى چه خواند ياد خداوندگار |
برگ درختان سبز پيش خداوند هوش | *** | هر ورقى دفتريست معرفت كردگار |
الأوّليّة، بل تحتفظ بها باستمرار، و تحافظ على وجودها و لا تختلط بخواصّ سائر الأوراق المزروعة في مزرعة ما. فمن ذا الذي صنع ذلك؟ من الذي خلق هذه الحياة من الأرض الميّتة الهامدة الجامدة الصامتة؟ اي رسّام أبدع هذه اللوحة المدهشة لرياض الأزهار و الأوراد؟ من الذي بَرَأ الإنسان و الحيوان من هذه الأرض الميّتة؟ مَن خلق الطاوس الجميل؟ مَن أنشأ الزاغ و الغراب الأسود؟ من ذرأ العصفور و الصقر؟ من أوجد البعوضة و الفيل؟ و من وضع غصن الورد و شجرة الدُّلب و شجرة الصفصاف؟
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فِي تفسير الآية: ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنهُ و يُحْيِ الْمَوْتَى
اعلموا، و لا تسقطوا إنسانيّتكم بإسدال ستار الغفلة على فهمكم و درايتكم، أنّ الله قد فعل ذلك، و أنها جميعها معتمدة على الله و قائمة بذاته سبحانه و تعالى.
و لقد كانت هذه الأمثلة التي أوردناها، و النماذج التي فصّلناها من أجل أن تعلموا أنه هُوَ الْحَقُ، و أنه يُحيي الموتى بهذه الطريقة و الكيفيّة و بمنتهى السهولة و اليسر، و أنه على كلّ شيء قدير.
فما الذي يعنيه إنماء الوردة من الطين و التراب؟ و ما الذي يعنيه خلق البلبل من التراب و الرمل و الطين؟ و ما الذي يعنيه بثّ التغاريد الفتّانة في البلبل؟ و ما الذي يعنيه إيجاد الحماس و الإحساسات؟ و ما الذي يعنيه العشق و الجَذْبة و المناجاة؟
اين همه نقشِ عجب بر در و ديوار وجود | *** | هر كه فكرت نكند نقش بود بر ديوار۱ |
يأتي البرد القارس فيهدّد الأرض في فصل الشتاء، و يسقط الثلج فيجعلها مكتئبة، و تعصف الرياح الباردة القاسية اللاذعة من كلّ صوب و حدب (مع أنها من آيات الله الكبرى أيضاً و هي لا تختلف عن تلك الوردة و البلبل حقّاً)، أمّا في فصل الربيع فتخضرّ الروضة، و تنمو الأوراد و الأزهار، و تعبق العطور و النسائم المنعشة المبهجة للرياحين و الورود من كلّ جهة، و ما ذا تفعل البلابل و طيور الكناري و الببغاوات؟
و من الذي صنع هذا كلّه؟
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى.
إن الله سبحانه يُحي الموتى باستمرار، و هذه الامور هي دوماً خلع و لبس، و موت و حياة، فظهور الثلج و المطر و البرد اللاذع القارس، و ذَرْأُ الأوراد و البلابل و الرياض و المروج هي بأجمعها إحياء للموتى. و ليس إحياء الإنسان و بعثه من القبور شيئاً غير هذا، بل إنّه جزء من أجزاء هذا القانون و الناموس العامّ و القدرة اللامتناهيّة.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أ فتشكّون في حياتكم أنتم؟ أ ليست هذه حياةً؟ أ لم تكن هذه ميّتة فأحياها الله؟ أ لم يكن ميّتاً ذلك الإنسان الذي كان نطفة أو تراباً بلا حسّ و لا حركة؟ فلا تدعوا تلك النطفة إنساناً أصلًا! إذ إنّها لم تكن شيئاً، بل كانت عدماً، كانت عدماً محضاً. ثمّ إنّ الله جاء بالإنسان من كتم العدم إلى الوجود. و هذه البلابل و طيور الكناري، و هذه الحيوانات ذوات الإحساس و الشعور التي لم تكن موجودة، كانت ميّتة و عدماً أيضاً.
و هذه الأوراق و السيقان و الأشجار، و هذه المياه و الثمار و النسائم،
كانت كلّها ميّتة، و هكذا الأمر في الأرض التي كانت ميّتة هامدة كئيبة. فمن الذي نفخ في هذه الأرض؟ و اي قدرة و علم و تدبير و حكمة كوّنت هذه اللوحة و المنظر، بحيث بُعثت الأرض و محتوياتها فاكتسبت حياةً جديدة، و نشطت و تحرّكت بفعّاليّة، فظهر في كلّ شبر منها آلاف مؤلّفة من ضروب الحياة، و تحرّكت آلاف الموجودات الحيّة وفق نظام صحيح للبدء و العَوْد، و برنامج معيّن و مشخّص للموت و الحياة و السير الواضح المعلوم، متحرّكة من القابليّة إلى الفعلية، من الاستعداد إلى الكمال، بلا تفاوت و لا اختلاف، و تحرّكت كلّ بعوضة و ذبابة نحو كما لها أيضاً بإتقان و كمال و جدّ.
أشعار هاتف الإصبهاني في حقّانيّة الباري تعالى
يار بى پرده از در و ديوار | *** | در تجلّى است يا أولى الأبصار |
شمع جوئى و آفتاب بلند | *** | روز بس روشن و تو در شب تار |
گر ز ظلماتِ خود رَهى بينى | *** | همه عالم مشارق الأنوار |
كوروَشْ قائد و عصا طلبى | *** | بهر اين راه روشن و هموار |
چشم بگشا به گلستان و ببين | *** | جلوهء آب صاف در گُل و خار |
ز آب بيرنگ صدهزاران رنگ | *** | لاله و گل نگر در آن گلزار۱ |
پا به راه طلب نه از ره عشق | *** | بهر اين راه توشهاى بردار |
شود آسان ز عشق كارى چند | *** | كه بود نزد عقل بس دشوار |
يار گو بالغدوّ و الآصال | *** | يار جو بالعشى و الإبكار |
صد رَهت لَنْ تَرانى ار گويد | *** | باز مىدار ديده بر ديوار |
تا به جائى رسى كه مىنرسد | *** | پاى اوهام و پايه افكار |
بار يابى به محفلى كانجا | *** | جبرئيلِ امين ندارد بار |
اين ره آن زاد راه آن منزل | *** | مردِ راهى اگر بيا و بيار |
ور نِه اي مردِ راه چون دگران | *** | يار مىگوى و پشت سَر ميخار |
هاتف ارباب معرفت كه گهى | *** | مست خوانندشان و گه هشيار |
از مى و بزم و ساقى و مطرب | *** | و ز مُغ و دير و شاهد و زُنار |
قصد ايشان نهفته اسراريست | *** | كه به ايما كنند گاه اظهار۱ |
پى برى كه به رازشان دانى | *** | كه همينست سِرِّ آن اسرار |
كه يكى هست و هيچ نيست جز او | *** | وَحْدَهُ لَا إلَهَ إِلَّا هُو۱ |
بلى، يتصاعد هنا تلقائيّاً من فم كلّ عبد موحّد نداء:
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.
فحصر الحقّانيّة في الذات المقدّسة للّه تعالى شأنه دليل على حصر الصفات و الأسماء فيه جميعها سبحانه. إنّ الإنسان يتصوّر أنه يمتلك وحده هدفاً و مسيراً، لكنّ الأمر ليس كذلك.
توحيد گوئى او نه بنى آدمند و بس | *** | هو بلبلى كه زمزمه بر شاخسار كرد٢ |
و هكذا فإنّ لكلّ ذبابة هدفاً، و لكلّ بعوضة هدفاً، فهذا البعوض الذي يحطّ على الورد له هدف و مقصد و آمال، و له تناسل و تناكح، و له زوجة و أولاد، و له عشق و مناجاة، و له مسير، و له حياة و موت و له معبود و عبادة.
وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ.٣
إن هذه الموجودات جميعها لها أثر و خاصيّة، في و وجودها على أساس من المصلحة و الحكمة.
أ رأيتم العنب الياقوتيّ؟ إنّ حبّاته مهما تراصّت فإنّ هناك حشرة صغيرة تتحرّك على هذه الحبّات و تنفذ أحياناً إلى داخل العنقود، و نحن نسمّي هذه الحشرة حشرة الدعسوقة (الرفّاء)، و هي حشرة صغيرة ذات أجنحة حمراء منقّطة بنقط سوداء، و من الطبيعيّ أن لا شأن لهذه الحشرة بالعنب الياقوتيّ فحسب، بل إنّها موجودة على غالب الخضراوات و الاسباناخ و الأعناب الاخرى، لكنّها تكثر على العنب الياقوتيّ خاصّة و تحبّ الدخول بين حبّاته. و هي حشرة سامّة يُقال إنّ أكلها خطر، و لو أنّ الإنسان أكل منها اثنتين لمات.
ذهبتُ ذات ليلة أيّام صباي مع المرحوم والدي إلى مجمع علميّ كان قد دُعي إليه. فجرى الحديث حول هذا الموضوع هناك، و قيل إنّ الكتب العلميّة ذكرت بأنّ هذه الحشرة سامّة يكفي اثنتان منها لإهلاك الإنسان، و قيل خاصّة أنّ على الإنسان أن يتناول العنب الياقوتيّ حبّة حبّة لئلّا تؤكل معه حشرة الدعسوقة المختفية في طيّاته.
فخطر في ذهني سؤال حول الحكمة من خلق الله تعالى هذا الكائن السامّ، و جَعْله في مكان حسّاس كهذا، ليؤدّي بالنتيجة إلى موت الإنسان، أو ليختفي في الخضراوات و الاسباناخ فيسبب الخطر، ثمّ تبيّن لي في أيّام شبابي بعد البحث و التدقيق أنّ هذه الحشرة ليست من جنس الحشرات السامّة.
و لقد خلقها الله سبحانه لدفع السموم عن النباتات، و أنشأها للقضاء على المكروبات، و هي في حركة دائبة دائمة فوق حبّات العنب و فوق سيقان الخضراوات، تصعد من الأسفل إلى الأعلى، و تهبط من الأعلى إلى الأسفل، فتلتهم كلّ حشرة و موجود مجهري فوقها؛ و يصبح بدنها نتيجة ذلك محلّا لتجمّع السموم. فهي تقوم بتعقيم العنب و الخضراوات لنا،
و تقضي على المكروبات الموجودة فيها.
نحن نرقد في الليل براحة تامّة، لكنّ هذه الحشرة يقظة تحرس سيقان الاسباناخ و الكرّاث و الحلبة و البقدونس، و تلتهم السموم و تنقّي النبات و تسلّمنا إيّاه معقّماً.
فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.۱
و قد رأيتُ في بعض المزارع أنّ الفلّاحين لا يقتلون هذه الحشرة و يقولون إنّها مفيدة لدفع الآفات.
إذَن، لهذه الحشرة وظيفة تؤدّيها، فهي تكثر في النباتات التي تكثر سمومها، و هكذا فإنّنا نرقد و ترقدون في الليل، ثمّ نذهب صباحاً إلى دكّان بائع الخضراوات لشراء الخضراوات و العنب الياقوتيّ، فنجد أنّ حشرة الدعسوقة قد قامت في الليلة السابقة بتعقيم هذه الخضراوات و هذا العنب من وجود البكتريا و المكروبات.
وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
إن كلّ من يرقد في جوف الليل ثمّ يستيقظ صباحاً فقد كان له موت و حياة، لا شكّ في هذا الأمر، موت و بعث جديد، و لا أعجب من النوم و الاستيقاظ و لا أغرب منهما. إنّنا نواجه طوال يومنا ملايين العجائب و الغرائب التي يصل كلّ منها إلى حدّ الإعجاز، حتّى أنّ كلامنا هذا و استماعكم و إدراككم كلّ ذلك معجزة، فنزول المطالب و المعاني من صقع النفس و عالم الذهن إلى عالم الألفاظ معجزة، و صعود الألفاظ بواسطة الاستماع إلى عالم المعنى في الذهن، ثمّ إلى جهة النفس معجزة أيضاً. و هناك الآلاف من هذه المعجزات تحصل كلّ آن، إلّا أننا لا نعدّها معجزة
أصلًا.
إن الدم الذي يجري في أبداننا يقوم بوظيفته في تبديل و تحليل ما يتحلّل من ذرّات كلّ نقطة بما يتناسب معها هو معجزة، و الحركة الدائمة للقلب دون لحظة واحدة من فتور و توقّف معجزة، و عمل الكلية و هذا الجهاز المعقّد و المختبر السيّار معجزة. و عمل المخّ معجزة، و كلّ خليّة مشغولة بعملها وفق الأمر الإلهيّ في عدم تغيّرها و كيفيّتها، و هذا بحدّ ذاته قصّة عجيبة و معجزة.
الموجودات بأسرها معجزة؛ و لا اختصاص للإعجاز بإحياء الموتى
و هذا الهواء، و هذا الفضاء، و هذا الماء، و هذا النبات، و هذه الشجرة، و هذا الحيوان، و هذا الإنسان، كلّ أُولئك معجزة؛ غاية الأمر أننا نرى هذه الحوادث يوميّاً، لذا صرنا ننظر إليها نظراً عابراً عاديّاً، فالمشابهات قد تخطّت لدينا أمر العجب و الغرابة، أمّا لو حصل شيء ما خلافاً للمعتاد، و ليس له شبيه، لعددناه معجزة و لأذعنّا آنذاك و اعترفنا بقدرة الله تعالى.
و هذا الأمر ناشئ من استغراب الامور غير الواقعة و النوادر من الوقائع و الحوادث، لا من حيث تعلّق قدرة الله بالامور غير العاديّة. فقدرته سبحانه لا تتفاوت بالنسبة إلى الامور العاديّة و غير العاديّة.
و لكن إذا زرعنا بذرة في الأرض و سقيناها بالماء، و أشرقت عليها الشمس فتفتّحت و صار القسم الأسفل منها جذراً و الأعلى ساقاً و أوراقاً لما أوليناها أدنى اهتمام، و لاعتبرنا ذلك أمراً اعتياديّاً، و لما عددنا ذلك من المقدورات بقدرة الله عزّ و جلّ، و لما جلسنا عند هذا النبات و الورد للتدبّر و التفكّر و المشاهدة لساعة، و لما تأمّلنا هذه المعجزات بحذافيرها بحيث نرى فيها تجلّيات ذات الحقّ نصب أعيننا، لذا فإنّنا نتخطّاها بنظر عابر ساذج.
نحن نمرّ على مزرعة الحنطة التي تُعدّ كلّ بذرة فيها معجزة،
فنتجاوزها بلا اهتمام، إذ لا نأخذ منها العبر، أمّا لو فرضنا أننا بذرنا بذرة في الأرض فنمت معكوسة، بحيث امتدّت ساقها و أوراقها و أزهارها و ثمارها إلى الأسفل في داخل الأرض، و ارتفع جذرها من الأرض إلى الأعلى، لصرخنا فوراً: لقد حدثت معجزة، لقد حدث شيء مخالف للعادة! و هكذا نقوم بنشر هذا الخبر في وسائل الإعلام، فيهجم المراسلون و المصوّرون من أطراف العالم و أكنافه يتساءلون عن الخبر، لقد أرتفع الجذر إلى الأعلى و اتّجه الساق إلى الأسفل.
ما الخبر، لقد وُلد إنسان له رأسان و أربع أيدٍ!
هل هو أعجب من هذا الإنسان العاديّ؟ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا. كم من العجائب و الغرائب في هذا الطفل ذي الشعر الذهبيّ الذي يولد من رحم أُمّه؟
الغرائب و العجائب قد ملأت أرجاء عالم الوجود قاطبة
انظر إلى تفّاحة واحدة تشتريها من بائع الفواكه «مشهدي حسن» فتأكلها، كم هي مشحونة بالعجائب؟ إنّ ليلنا و نهارنا عجائب، و لقد أحاطت بنا المعجزات و العجائب من كلّ صوب، فنحن نواجه كلّ لحظة آلاف العجائب، و نلتقي بآلاف المظاهر من علم الله المتعال و قدرته فلا نأبه لأيّ منها؛ فإذا وجدنا في زاويةٍ ما شيئاً مخالفاً للمعتاد اجتمعنا حوله فصرنا نتحدّث عن قدرة الله سبحانه. و هو أمر يرجع إلى قصور فكر الإنسان، و إلّا فإنّ أحداً لو أراد حقّاً البحث عن قدرة الله و مشاهدة تلك القدرة عياناً، فإنّ العالم جميعه و كلّ واحد من ظواهره و موجوداته قدرة الله سبحانه. العالم برمّته قدرة، و علم، و حكمة. أين نذهب فيكون ذلك المكان خارج علمه و قدرته و حكمته، ثمّ نريد أن نعثر عليه هناك؟! أين المكان الذي لا علم فيه؟ و أين المكان الذي لا قدرة فيه؟ و أين المكان الذي لا حياة فيه، لنذهب هناك و نعثر على الله سبحانه؟! نحن نرى هذه
الامور في حياتنا اليوميّة و لا نعجب، ثمّ نقول حينئذٍ: أنى يُحيي الله الميّت؟ هنا تتعثّر خطى الإنسان فيعترض آلاف الاعتراضات على قدرة الله، و يؤلّف المادّيّون الكتب، و يُنكر الدهريّون، و يُثيرون الصخب و الضجيج، و ينفخون في النفير. أن: كيف يبعث الله ميّتاً تلاشى تحت الأرض، و عظاماً صارت رميماً و رماداً؟.
إشكالات المادّيّين على المعاد لا تعدو كونها تراه مستبعداً
علماً أنّ الإشكالات التي يثيرها المادّيّون هذه الأيّام ليست بالشيء الجديد، بل هي نفس الاستبعاد الذي كان المادّيّون يتذرّعون به قبل عدّة آلاف من السنين.
وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.۱
مراحل تكامل الإنسان أو قيام القيامة و ظهور الآيات الأنفسيّة
لقد تلاشت أبدانكم تحت الأرض، لكنّ حقيقتكم لم تتلاشَ بعدُ، و لقد كانت لكم أطوار معيّنة: كنتم تراباً، فصرتم نطفة، ثمّ عَلَقة، ثمّ مُضغة، ثمّ عظاماً، ثم أُنشئتم خلقاً آخر و اكتسبتم قوّة النطق و روح الإنسانيّة فخرجتم طفلًا، ثمّ وصلتم إلى مقام القدرة و الشدّة و حزتم حدّ النصاب. و ها أنتم قد انتقلتم من الدنيا إلي البرزخ، فصار بدنكم تحت الأرض، لكنّ وجودكم لم يذهب و لن يذهب تحت الأرض. لأنّ ملك الموت يقبض وجودكم و حقيقتكم، فيبقونكم في البرزخ. و حين تقوم القيامة يُجمع بين الروح و البدن و يُؤلّف بينهما، فتحضرون بأجسامكم هذه في القيامة.
إن عود الروح إلى البدن أيسر على الله من شربنا الماء، و ينبغي ألّا
نعدّ هذا العمل غريباً ممتنعاً و نحن نشاهد قدرة الله و عظمة ذاته القدسيّة اللامحدودة و اللامتناهية، و ألّا يُعدّ محالًا بمجرّد الاستبعاد، و سنبيّن إن شاء الله تعالى فيما بعد كيف يكون إحياء الموتى أيسر من شُرب الماء. إنّ هذا الإنسان الميّت يُبعث: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (تتمّة الآيات مورد البحث).
إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.۱
نحن مِلك مطلق للّه تعالى، و سنعود إليه لا محالة.
از جمادى مردم و نامى شدم | *** | و ز نَما مُردم به حيوان سر زدم |
مُردم از حيوانى و آدم شدم | *** | پس چه ترسم كى ز مردن كم شدم |
حَملهء ديگر بميرم از بشر | *** | تا بر آرم از ملائك بال و پر |
و ز مَلَك هم بايدم جَستن ز جو | *** | كلّ شَيْءٍ هَالِك إِلَّا وَجههُ |
بار ديگر از مَلَك قربان شوم | *** | آنچه اندر وَهْم نايد آن شوم |
پس عدم گردم عدم چون ارغنون | *** | گويدم: إِنَّا إِلَيْه رَاجِعُون٢ |
إن الإنسان لن يقرّ قراره ما لم يصل إلى موطنه الأصليّ، و موطن الإنسان حرم الله تعالى، فهناك محلّ استقرار القلب و هدوئه. و لقد قدم
الإنسان إلى الدنيا للكسب و العمل و تحصيل زاد المعرفة، ثمّ إنّ عليه الرجوع. و عليه العودة بثروة و خَلاق.
دلا تا كى در اين چرخِ مجازى | *** | كنى مانند طفلان خاك بازى |
توئى آن دست پرور مرغ گستاخ | *** | كه بودت آشيان بيرون از اين خاك |
چرا زان آشتيان بيگانه گشتى | *** | چو دونان مرغ اين ويرانه گشتى |
بيفشان بال و پر ز آميزش خاك | *** | بپر تا كنگره ايوان افلاك۱ |
خُلِقْتُمْ لِلْبَقَاءِ لَا لِلْفَنَاءِ.٢
إن الإنسان لا يفنى مبدئيّاً، و ليس للعدم المحض سبيل إليه. فالموت و البعث خلعٌ و لبس، و الحركة إلى البرزخ إلى القيامة هي المسير الكماليّ للإنسان و صعوده إلى الله المتعال، و هي قابليّة الحضور في محضر العلم و القدرة و الحياة اللامتناهية. فالموت -إذَن- هو كمال الإنسان لا فتوره و ضعفه و نقصانه.
و ما أروع الأبيات التي أنشدها الإمام سيّد الشهداء عليه السلام في الموت إذ قال:
لَئِنْ كَانَتِ الدُّنيا تُعَدُّ نَفِيسَةً | *** | فَدَارُ ثَوَابِ اللهِ أعْلَى وَ أنبلُ |
وَ إنْ كَانَتِ الأبْدَانُ لِلْمَوْتِ أُنْشِئتْ | *** | فَقَتْلُ امْرِيءٍ بِالسَيفِ في اللهِ أفْضَلُ |
وَ إنْ كَانَتِ الأرْزَاقُ شَيْئاً مُقَدَّراً | *** | فَقِلَّةُ سَعْي الْمَرْءِ في الرِّزْقِ أجْمَلُ |
وَ إنْ كَانَتِ الأمْوَالُ لِلتَّرْكِ جَمْعُهَا | *** | فما بَالُ مَتْرُوكٍ بِهِ الْمَرْءُ يَبْخَلُ۱ |
المَجْلِسُ الرَّابِعُ وَ الثَّلَاثُون: إنْكَار الطَّبِيعيّيِنَ لَامْرِ المَعَادِ لَا يَسْتَنِد عَلَى أُسُسٍ عِلْمِيَّةٍ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ، وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ.۱
إن استدلال المادّيّين و الدهريّين على عدم وجود المعاد لا يرتكز على مسألة علميّة، و لا يتجاوز مجرّد الاستبعاد كما سلف.
إن قولهم هو: كيف يحيي الله الموتى و يخلع عليهم رداء الوجود بعد العدم؟
إذ إنّ هذا الأمر أمر بديع لا يوافق العقول -بزعمهم- و الشبهات التي يثيرونها غير مبتنية على مقدّمات علميّة و براهين منطقيّة.
المسائل العلميّة ينبغي أن تعتمد على مقدّمات يقينيّة
ذلك إنّ من الجليّ و المبرهن عليه في علم المنطق و الميزان أنّ مقدّمات الاستنتاج في
المسائل اليقينيّة للعلوم يجب أن تكون يقينيّة أيضاً.
و لكي يمكن للإنسان أن يحصل على نتيجة يقينيّة من مقدّمات الاستدلال، فإنّ جميع المقدّمات الواردة في تلك المسألة ينبغي أن تكون يقينيّة. و حينئذٍ فإنّ ذلك الاستدلال يُسمّى القياس و البُرهان، و تُجعل نتيجته مبدأ ثابتاً يُستفاد منه و يستدلّ و يُستشهد به في العلوم، و تُبنى سائر المسائل العلميّة عليه.
أمّا لو لم تكن مقدّمات مسألةٍ ما أو إحداها يقينيّة، بل كانت مبتنية على أساس الخرص و التخمين من الظنّيّات و الشكّيّات و الوهميّات، فإنّ تلك النتيجة لن تصبح نتيجة البرهان و القياس.
و هكذا فإنّ المقدّمات التي يقيمها الطبيعيّون لإثبات عدم وجود المعاد لا تتعدّى كونها نوعاً من المقدّمات التخيّليّة و الشعريّة، لذا فإنّها ليست مسألة برهانيّة، بل مسألة شعريّة أو خطابيّة لا قيمة لها في العلوم.
إن القياس و البُرهان يجب أن يتألّف من إحدى المقدّمات اليقينيّة الستّ، و هي: الأوّليّات، المشاهدات، الفطريّات، التجربيّات، المتواترات و الحدسيّات؛ و إلّا فإنّ النتيجة ستكون تابعة لأخسّ المقدّمتين، و ستكون بالمآل وهميّة أو ظنّيّة، و لن تجد لنفسها موضعاً في الكتب العلميّة.
و قد أُشير في القرآن الكريم إلى إنكار منكري المعاد بوصفه مسألة ظنّيّة:
وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.۱
القرآن الكريم يُقيم وزناً لاتّباع اليقين دون غيره
كما يعدّ القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته اتّباع الإنسان منوطاً بالعلم
و اليقين فحسب و ينهى بقوّة عن اقتفاء الامور المشكوكة و المظنونة، فيقول:
وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا.۱
وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ.٢
إن آذان أهل جهنّم و عيونهم و جلودهم تشهد على أعمالهم، فيعترضون على شهادة جلودهم فتجيبهم: لقد أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء. فيخاطبهم الله تعالى:
وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ.٣
وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ.٤
و هو خطابٌ للكفّار الذين يذهبون يوم القيامة إلى جهنّم.
وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ.٥
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ
سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ.۱
و كان الخطاب في هذه الآية للمشركين الذين كانوا يعبدون اللّات و العُزّى و أشباههما من الأصنام.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى ، وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.٢
و العجيب أنّ الله سبحانه أمر بعد هذه الآية بالإعراض تماماً عن الذين تصوّروا أنّ غاية علمهم هي الوصول إلى المادّيّات و إشباع الغرائز الجنسيّة و العيش الدنيويّ، فأعرضوا بذلك عن ذكر الله سبحانه.
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى.٣
و الخلاصة أنّ الآيات القرآنيّة تُجمِع على لزوم العلم و اليقين، و على عدم جواز اتّباع الظنّ و الحدس، سواءً في العقيدة أم في الأفكار، أو في العمل و السلوك.
إن المادّيّين و الدهريّين لا يمتلكون دليلًا على عدم الإمكان الذاتيّ للقيامة أو عدم إمكان وقوعها، فالذريعة التي يتوسّلون بها في الكتب و المباحث لا تعدو الاستبعاد و نسج المطالب الشعريّة و الخطابيّة. و بشكلٍ عامّ فإنّهم قد تخطّوا بنظر ساذج جميع هذه الآيات الأنفسيّة و الآفاقيّة الإلهيّة التي ملأت السماء و الأرض، فلم يعتبروا بها و لم يتفكّروا فيها. فلم تكن
هذه الآيات العريضة الطويلة التي طبقت الأرجاء -عندهم- إلّا آلة للّهو و اللعب.
وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ.۱
كم من آية في السماوات و الأرض لتوحيد الله و أسمائه الحُسنى و صفاته العليا و آيات القيامة و نظائرها من الموت و الحياة و الخلع و اللبس و غيرها يمرّون عليها فيضربون عنها صفحاً!
لا أثر للمعجزات ما لم يعدّ الناس أنفسهم في اسرارهم و ذواتهم
و من هنا فإنّ أساس قبول الآيات القرآنيّة و نيل الحقائق و الامور الواقعيّة يتمثّل في حالة إذعان القلب و تسليمه، و عدم التجبّر و الاستكبار الباطنيّ و التحصّن و التخندق مقابل الحقّ تعالى، فهذا الانقياد و سلامة القلب يجعلان الأدلّة و البراهين العلميّة و الآيات الوجدانيّة الإلهيّة تستقرّ على أرضيّة الذهن و النفس؛ و إلّا فإنّ الأدلّة و البراهين الفلسفيّة و الآيات الإلهيّة جميعها ستكون بلا نتيجة و أثر للشخص المعاند و المنكر.
و على هذا الأساس، و كما ورد في سورة الأحقاف، فإنّه حين نفر من الجنّ طائفة إلى رسول الإسلام و استمعوا للقرآن، فإنّهم أذعنوا و اعترفوا و أسلموا، و ما أن عادوا إلى قومهم حتّى دعوهم إلى قرآنٍ جاء بعد كتاب موسى مصدّقاً للكتب السماويّة الاخرى و هادياً إلى الحقّ و الصراط المستقيم، و قالوا لهم: أجيبوا داعي الله هذا، و صدِّقوا برسالة رسول الله هذه و آمنوا بها. ذلك أنّ من لا يُجب دعوته من صميم قلبه فلن يكون له في الأرض وليّ و لا نصير، و سيلحقه الذلّ و الصغار و ينغمس في الضلال المبين.
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ، وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.۱
ثمّ إنّ أُولئك النفر المسلمين من الجنّ يقولون لقومهم عن المعاد و يوم القيامة:
أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.٢
و قد جاء في آيات قرآنيّة كريمة جمّة أنّ كثيراً من الامم السابقة لم تؤمن بالرغم من مشاهدة البرهان و المعجزة اللذين عرضهما أنبياؤهم، و أنّ حسّ الغرور و العُجب لديهم كان مانعاً من قبول الحقّ و الإذعان لواقع الأمر.
و هكذا كان الأمر بالنسبة إلى الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله، فإنّ أشراف قريش و أعيانهم لم يؤمنوا بسبب تكبّرهم و نخوتهم مع أنهم كانوا أُناساً أذكياء ذوي فطنة يُعدّون من دُهاة العرب. و لقد كانوا يرون من رسول الله الآيات البيّنات و المعجزات الواضحة غير القابلة للتأويل، إلّا أنّ الاستكبار و التعالي -مع ذلك كلّه- كان يُغلق أمامهم الطريق إلى الحقّ، لأنّ نفوسهم لم تكن تسمح لهم أن يخضعوا لمحمّد صلّى الله عليه و آله الذي كان بلا ثروة و لا سلطان و لا جاه و لا اعتبار دنيويّ، فالدهاء و الكياسة لا ينفعان في هذا الموضع، و الذكاء و الفكر المتين لا طائل فيهما هنا؛ بل إنّ ما يلزم المرء هنا هو الطهارة و النزاهة و صفاء القلب. فإن كان القلب مدنّساً
قذراً، جعل آلافاً من الأفكار المتينة الصائبة هباءً منثوراً و أسلمها إلى طوفان الفناء، و صيّرها أشبه بالحشائش المتقصّفة و التراب الذي تذروه الريح، و أحرق ما ينبته حقل الذهن و استأصله كما تحرق النار العشب فتجعله هشيماً، و لفّق للمعجزات و الكرامات تأويلات و تفسيرات باطلة غير مقبولة، و سخر بالعلم و اليقين و البرهان و هزأ بها. و لقام في النهاية بجمع شرذمة من الناس حوله بألف حيلة و مكر و خداع للعوامّ، و فعل كما فعل ذلك الماكر المحتال الذي رسم على الأرض صورة الحيّة، ثمّ اتّهم بالجهل ذلك العالم و المفكّر الذي كان قد كتب اسم الحيّة على الأرض. و سعى في إفساد سوق ذلك العالم و ترويج سوقه هو، و ذلك في مجتمع جاهل يتخبّط في الظلمة و الجهالة. و لقام بكتمان دعوة الحقّ في زوايا الخفاء، و نشر أباطيله و أراجيفه الفكريّة تلك و جعلها هي الحاكمة.
قصّة الوليد بن المغيرة و إنكاره رسولَ الله مع قيام الدليل و البرهان
لقد كان الوليد بن المغيرة من شيوخ العرب و كبارهم، و كان يُشار إليه بالبنان في الفطنة و الذكاء، و كانت له ثروة و مكنة و أموال وافرة في بسيط مكّة و جزيرة العرب؛۱ لكنّه مع ذلك حين سمع آيات من القرآن تلاها رسول الله نفسه، فقد غرق في التفكير و التأمّل، و لم يجد مفرّاً في النهاية
إلّا أن يعدّه سحراً مُبيناً يؤثر و قال: هذا الكلام سحر، و هذا الرجل ساحر؛ سحرٌ قويٌّ مبين و ساحر ماهر لا يُغلب.
و قد ورد في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ في سورة المدّثّر أنّ الآيات الواردة في التهديد في قوله تعالى: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، نزلت في الوليد بن المغيرة، و كان شيخاً كبيراً مجرّباً من دهاة العرب، و كان من المستهزئين برسول الله صلّى الله عليه و آله، و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يقعد في الحجرة [أي حجر إسماعيل] و يقرأ القرآن، فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة فقالوا: يا أبا عبد الشمس ما هذا الذي يقول محمّد، أ شعرٌ هو أم كهانة أم خطب؟! فقال: دعوني أسمع كلامه. فدنا من رسول الله صلّى الله عليه و آله، فقال: يا محمّد أنشدني من شعرك، قال: ما هو شعر و لكنّه كلام الله الذي ارتضاه لملائكته و أنبيائه. فقال: اتلُ عَلَيَّ منه شيئاً. فقرأ رسول الله صلّى الله عليه و آله حم السجدة، فلمّا بلغ قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا (يا محمّد- أعني قريشاً).
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ. قال: فاقشعرّ الوليد و قامت كلّ شعرة في رأسه و لحيته، و مرّ إلى بيته و لم يرجع إلى قريش من ذلك، فمشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم! إنّ أبا عبد الشمس صبا إلى دين محمّد، أ ما تراه لم يرجع إلينا؟ فغدا أبو جهل فقال له: يا عمّ! نكستَ رؤوسنا و فضحتنا و أشمتَّ بنا عدوَّنا و صبوتَ إلى دين محمّد.
فقال: ما صبوتُ إلى دينه و لكنّي سمعتُ منه كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود. فقال له أبو جهل: أ خطيبٌ هو؟ قال: لا، إنّ الخطب كلام متّصل و هذا كلام منثور و لا يشبه بعضه بعضاً.
قال: أ فشعرٌ هو؟ قال: لا، أما إنّي قد سمعت أشعار العرب بسيطها و مديدها و رملها و رجزها، و ما هو بشعر.
قال: فما هو؟ قال: دعني أفكّر فيه.
فلمّا كان من الغد قالوا: يا أبا عبد شمس، ما تقول فيما قلناه؟
قال: قولوا هو سحر فإنّه أخذ بقلوب الناس.
فأنزل الله على رسوله في ذلك: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً؛ و إنّما سُمّي وحيداً لأنه قال لقريش: أنا أتوحّد بكسوة البيت سنة، و عليكم في جماعتكم سنة. و كان له مالٌ كثير و حدائق، و كان له عشر بنين بمكّة، و كان له عشر عبيد عند كلّ عبد ألف دينار يتّجر بها، و تلك القنطار في ذلك الزمان. و يُقال إنّ القنطار جلد ثور مملوّ ذهباً. فأنزل الله ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً- الآيات.۱
و هذه الآيات التي نزلت بشأن الوليد في سورة المدّثر: السورة الرابعة و السبعين من القرآن الكريم هي عشرون آية، ابتداءً من الآية الحادية عشرة إلى الآية الثلاثين:
ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ، وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً ، وَ بَنِينَ شُهُوداً ، وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ، كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً ، سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً، (أيّ سآخذه بعنف و شدّة و أبتليه بالعبور من العقبات الضيّقة الصعبة العبور) إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ ، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ، وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ ، لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ، عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ.
أي: أنه فكّر في آيات القرآن ثمّ قدّر على أساس تفكيره، اي: أنه نظر في نظم القرآن و المعاني الواردة فيه من تقديم و تأخير، و وضع
و رفع، لاستنتاج غرضه المقصود من التقدير، ثمّ أراد أن يستنتج شيئاً من تفكيره و تقديره بحيث يُرضي معاندي القرآن و مُنكريه، فقدّر قائلًا: أ شِعرٌ هو، أم كهانة، أم أساطير الأوّلين و خرافات القدماء؟ أم هذيان و كلام لا طائل فيه؟ ثمّ استقرّ به التفكير على أنه سحر من كلام البشر، و أنّ أثره المغناطيسي كأثر سحر السحرة الذي يؤثّر في النفوس فيفرّق بين المرء و زوجه، و بين الرجل و أهله و أبنائه، و على هذا المنوال فهو سحر يؤثّر في النفوس فيجذبها إلى معانيه و نكاته، إلّا أنه سحرٌ قد أُثر.
يقول القرآن: لقد أجلى الوليد فكره و قدّر، فقُتل على تقديره، ثمّ قُتل كيف قدّر؟ ثمّ إنّه نظر فتجهّم وجهه و عبس و تمثّلت في وجهه حينذاك ملامح الكُره و الرفض جليّةً، ثمّ إنّه أعرض عن معاني القرآن تماماً، و نأى بجنبه عن حقائقه، و تجلّى استكباره و عُجبه للعيان، فقال: إن هذا القرآن إلّا قول البشر، و ليس هذا القرآن إلّا سحر يؤثر.
يقول الله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ.
أ فتعلم يا رسول الله ما سقر؟ النار التي لا تذر أحداً، و التي تبتلع الجميع فلا تُبقي على أحد، النار التي تلوّح بشرة الأبدان و تحرقها، و هناك تسعة عشر ملك من ملائكة العذاب مأمورون با لمحافظة عليها.
و قد روي عن ابن عبّاس أنه لمّا نزلت: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ، قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أُمّهاتكم أسمع ابن أبي كبشة (يقصد رسول الله) يُخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر، و أنتم الدهم. أ يعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجلٍ منهم؟ فقال أبو الأسعد ابن أسيد بن كلدة الجمحيّ و كان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين.۱
ردّ منكري الله و المعاد على أساس الاستكبار
و هكذا تحول روح التنمّر و التمرّد في البشر دون التسليم و الانقياد للحقائق، و ما لم يُعالج هذا الضعف، فإن إنكار المنكرين سيبقى على حاله.
إن الوليد بن المغيرة و أبا جهل و أبا لهب و أبا سفيان و أمثالهم لم يكونوا من العامّة، بل كانوا أُناساً مطّلعين مجرّبين خبروا الدنيا، و كانت لهم أسفارهم إلى إمبراطوريّتي فارس و الروم، و كانوا من الناحية الاجتماعيّة و السياسيّة من رؤساء العرب و ساستهم و في طليعتهم و من أصحاب الرأي فيهم، إلّا أنّ التسليم لرسول الله و متابعته و تفويضه صلوات الله عليه و آله الامور السياسيّة و الاجتماعيّة و الحكومة و الولاية على الناس؛ و هي من نتائج و فروع الإيمان بالله و التوحيد؛ لم يكن ليتّفق و ينسجم مع روحيّاتهم الاستكباريّة.
و كان ذلك هو السبب في تمرّدهم و عدم انقيادهم، و شنّهم الحروب و تحريضهم الأحزاب و الجماعات ضدّ رسول الله. و كانوا يقولون: لما ذا يكون رسول الله من طائفة البشر؟ اي: أنه يجب أن يكون مَلَكاً ملكوتيّاً ليكون لائقاً و جديراً فنخضع - نحن البشر- لأوامره و حكومته الإلهيّة.
و لو شئتَ أن تروّض هذه الروح المستكبرة، و هذه النفس المغرورة بألف برهان و منطق و معجزة و آية لما أمكنك ذلك.
و لو كفّ رسول الله صلّى الله عليه و آله يده عن كلامه التوحيديّ، فعمل وفق آرائهم و أفكارهم، لسلّموا إليه جميعاً دون شكّ و لو لم يأتِ لهم بمعجزة واحدة.
و ما دامت فيهم هذه الروح الاستكباريّة، فإنّهم لن يخضعوا للحقّ و لن يسلّموا إليه، حتّى لو جاءهم رسول الله بمئات الأضعاف من المعجزات التي جاء بها من قبل. حتّى و لو شقّ لهم القمر و الشمس كلّ يوم، و عبر أمامهم على الماء و النار كلّ يوم، و أحيا الموتى و أَبرأ الأكمه
و الأبرص.
و لقد جاء في شأن النبيّ عيسى ابن مريم أنّ قومه كانوا يحملون المعجزات التي أتاهم بها -و منها إحياؤه الموتى- على السحر.
و قد ذكر الله سبحانه ذلك في سورة المائدة:
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.۱
و نقرأ في سورة آل عمران أنّ الله سبحانه قال بعد أن بيّن هذه المعجزات جميعها عن عيسى عليه السلام علاوةً على إخباره بما يأكله الناس و ما يدّخرون في بيوتهم، و بعد أن أحسّ عيسى منهم الكفر و آمن به الحواريّون فقط:
وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ.٢
و حصيلة القول، فإنّ نسبة السحر و الخداع إلى الأنبياء لم تكن بالأمر الجديد، إذ ابتلي الأنبياء جميعهم بهذه الصعاب التي انبعثت كلّها من حسّ الطبع المتعالي المعبّر عنه في القرآن الكريم بالعلوّ و الاستكبار.
لقد كان وجود رسول الله صلّى الله عليه و آله و حركاته و سكناته و منطقة و سكوته معجزة. و هذا القرآن الذي في أيدينا اليوم، القرآن الذي
نتلوه صباحاً و مساءً، هو نفس القرآن الذي كانوا يتخيّلونه في ذلك الزمان سحراً. فيعدّون رسول الله بسببه ساحراً؛ فأيّ آيةٍ فيه من السحر يا ترى؟
هذا القرآن الذي بين أيدينا اليوم هو أكبر و أعجب معجزة من معجزات الرسول الأكرم و الأنبياء السابقين كافّة من حيث دقائق المعاني و لطائف النكات، و إتقان القوانين و الآداب و السنن، و من حيث الحقائق العرفانيّة و بيان درجات توحيد الباري تعالى شأنه، و انطباق أخبار الأنبياء السابقين و أُممهم على متن الواقع و حقيقة الأمر. و حقّاً فكلّما اتّسعت دائرة علومنا و معارفنا، زاد إدراكنا بإعجاز هذه التحفة الإلهيّة الفريدة، معجزة رسول الله الباقية إلى يوم القيامة.
إن إعجاز القرآن لا ينحصر في فصاحته و بلاغته، لأنّ القرآن لم ينزل للناطقين بالعربيّة فحسب، بل نزل لعموم العالم. فكيف- و الحال هذه يمكن اعتبار فصاحته و بلاغته كلّ إعجازه؟ كما أننا لا نجد آية أو رواية تشير إلى أنّ القرآن تحدّى الناس أن يأتوا بمثله من هذه الوجوه، بل إنّ إعجاز القرآن هو هذه المعاني و الحقائق الواقعة تحت مدلول الألفاظ، التي تتكفّل بهداية المجتمعات البشريّة جميعها، أبيضها و أسودها، و حضريّها و بدويّها، و عالِمها و عامّيها في اي نقطة من أرجاء العالم إلى يوم القيامة، و تتعهّد بإراءة الطريق و الإيصال إلى مقام التوحيد للحضرة الأحديّة عزّ و جلّ، هذا من جهة إعجاز القرآن الكريم نفسه.
حفظ القرآن إحدى معجزات رسول الله
و أمّا من جهة إعجاز وجود رسول الله فقد خطر في بالي مطلب جدير بالتأمّل، و هو مطلب لم يسبق أن سمعته من أحد أو شاهدته في كتاب.
أننا نعلم أنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله كان حافظاً للقرآن بلا زيادة أو نقصان لحرف واحد، و كان يقرأ منه في الصلوات الواجبة و النوافل و خاصّة في ركعات صلاة الليل. و جاء في الرواية أنه صلوات الله
عليه و آله كان يقرأ المسبّحات الخمس (أي: سور الحديد، و الحشر، و الصفّ، و الجمعة و التغابن) كلّ ليلة قبل أن يرقد.
و حين سئل عن سبب قراءته لهذه السور أجاب: أنّ في كلّ سورة منهنّ آية أفضل من ألف آية. و على هذا الأساس فقد ورد في الرواية أنّ من يقرأ المسبّحات ليلًا قبل أن يرقد، فإنّه لا يموت حتّى يرى الرسول الأكرم فيُريه محلّه و مقامه في الجنّة.
و لقد كان حفظ القرآن بالنسبة إلى رسول الله معجزة، لأنه يختلف عن حفظ سائر الناس. ذلك أنه صلوات الله عليه و آله لم يعرف الكتابة؛ و كان نفسه لا يكتب الآيات التي توحي إليه، و لا شكّ و لا ترديد في هذا الأمر أبداً. إذ لم يُشاهِد أحد رسول الله طول حياته و هو يُمسِك القلم و الورق، فضلًا عن أن يكتب آية واحدة. بل كان يرجع إلى كتّاب الوحي فيكتبون له، و كان رسول الله يقرأ عليهم فيكتبون.
رسول الله يكرّر عند الحاجة عبارات نطق بها قبل سنوات عديدة
و هذه المسألة تثير العجب، إذ إنّ رسول الله مع أنه لم يعرف الكتابة، و لم يكتب الآيات، إلّا أنه كان يقرأ هذه السور و سائر سور القرآن بعد نزولها، و بعد مرور الشهور و السنين، بل بعد عشرين سنة أو أكثر، دون أن يزيد أو ينقص كلمة واحدة. فما أقواها من ذاكرة! أَ وَ يمكن أن نسمّي أُصولًا هذا الضرب من الحفظ قوّة الذاكرة؟
و هل شوهد أمر مثل هذا على مرّ تأريخ البشريّة؟ أ يمكن لأمهر الخطباء و أقواهم حفظاً، إذا لم يسجّل خطابه على الورق أو شريط التسجيل، أن يُعيد لدقيقة واحدة عين عباراته التي أنشأها خلال الخطاب أو بعده دون أن يزيد أو ينقص أو يقدّم أو يؤخّر منها حرفاً واحداً؟
لقد كان المسلمون يومئذٍ يقرأون آيات القرآن عند رسول الله، فكان صلوات الله عليه و آله يصحح أخطاءهم، حتّى لا تصبح الواو فاءً أو
الفاء واواً، و لكي لا تُقرأ كلمة (و يعلمون) (فيعلمون).
و هو أمر عجيب في غاية الغرابة كلّما زاد التأمّل في أطرافه و جوانبه صار إعجازه أكثر شهوداً و جلاءً.
و قد عرضتُ هذه المسألة على أُستاذي الكريم: العالم الفذّ و الفقيه النبيل آية الله الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ، فقال: بلى، إنّ الأمر على ما تقولون. إذ كان رسول الله يقرأ آيات القرآن دون أن يقدّم أو يؤخّر فيها حرفاً واحداً، حتّى أنه كان يُعيد في مواقع الحاجة عين العبارات التي كان قد قالها قبل سنوات عديدة، و كأنه يقولها الساعة.
و عند ما دنا أجله صلوات الله عليه و آله كانت فاطمة سلام الله عليها في غاية الحزن و التأثّر، تذرف الدموع و تندب (وا سوأتاه و ا سوأة أبي)، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه و آله: يا فاطمة ... قولي كما قال أبوك على إبراهيم: الْقَلْبُ يَحْزَنُ، وَ الْعَيْنُ تَدْمَعُ، وَ لَا نَقُولُ إلَّا حَقّاً، وَ إنّا بِكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ.
فانظروا إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله في سكرات الموت و قد غلب عليه المرض و تبدّلت حاله، كيف يعيد في تلك الحال الشديدة الصعبة عين العبارة التي قالها قبل سنوات عند موت إبراهيم، و هي معجزة عجيبة. أجل، هذه هي الإحاطة بالملكوت و السيطرة على عالم المعنى، و لا علاقة للأمر بقوّة الذاكرة و المسائل المادّيّة- انتهى كلام الاستاذ دام ظلّه.
و أقول هنا: شتّان بين هذا الكلام الذي يحكي عن متن الواقع و بين قول عُمر حين طلب رسول الله دواة و قرطاساً ليكتب للناس كتاباً لا يضلّوا بعده أبداً فقال: قَد غلبه الوجع، إنّ الرجل ليهجر!
قصّة أصحاب الكهف و الرقيم من منظور قرآنيّ
من جملة الآيات الإلهيّة الدالّة على المعاد، قصّة أصحاب الكهف و الرقيم. و هي من القصص المشهورة بين أهل الملل و النحل و التواريخ. و قد أورد القرآن الكريم تفصيلها با لقدر الذي يكون شاهداً على مسألة المعاد، حيث وردت جملة هذه الآيات في السورة ۱۸: الكهف، اعتباراً من الآية السادسة إلى الآية السادسة و العشرين. يقول تعالى في بيان هذه القصّة التي استغرق أصحابها في نوم عميق امتدّ ثلاثمائة و تسع سنين، ثمّ استيقظوا:
وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها.۱
و يقول تعالى في بدايتها:
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ، إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ، وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً.٢
ثمّ يشرع بذكر متن قصّة أصحاب الكهف و يقول:
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً.٣
ثمّ يشرح هذه القصّة: لقد كان أصحاب الكهف و الرقيم فتية عاشوا و ترعوعوا في مجتمع و ثني فشت فيه عبادة الأوثان و الأصنام. و حين أمكن دين التوحيد طريقه إلى ذلك المجتمع، آمن به هؤلاء الفتية و عبدوا
الله خالق السماوات و الأرض وحده، و تمرّدوا على عبادة الطواغيت.
إلّا أنّ الناس ضيّقوا عليهم في المعاملة و تشدّدوا معهم و عذّبوهم ليُجبروهم على ترك دين التوحيد و الإعراض عن عبادة الإله الواحد و العودة إلى عبادة الأوثان، فكانوا يقتلون من كان يصرّ على مخالفتهم بأبشع صورة.
و كان هؤلاء الفتية قد آمنوا بالله عن هُدى و بصيرة، فزادهم الله هدى، و فتح لهم أبواب العلم و المعرفة مُشرعة في وجوههم، و كشف لهم الأنوار الإلهيّة بحيث صاروا من أصحاب اليقين، و جعل قلوبهم مرتبطة به سبحانه بحيث ما عادت تخاف موجوداً سواه، و بحيث إنّ الحوادث المؤلمة و المصائب الشديدة لم تكن تخيفهم أو تفزعهم.
و لقد كانوا يعلمون أنهم إن عاشوا في مجتمع جاهلي مستكبر كذلك المجتمع، فلن يكون أمامهم من مناص إلّا السير بسيرة أعضائه، و عدم التفوّه بالحقّ و عدم سلوك شريعة الحقّ. و لمّا كانوا قد اهتدوا إلى سبيل التوحيد و هجروا الشرك، فقد علموا أنّ السبيل الوحيد للنجاة يتمثّل في الاعتزال عن ذلك المجتمع الجاهلي. لذا فقد امتنعوا عن مسايرة ذلك المجتمع المشرك الجاهليّ و نهضوا بقلوب قويّة و إيمان راسخ لا يُثنيهم شيء لإعلان توحيد الحقّ تعالى و تقديسه، فأصحروا جهاراً في ردّهم على القوم قائلين:
رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً ، هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً.۱
ثمّ قالوا فيما بينهم:
وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً.۱
و هكذا دخلوا الكهف فجلسوا في متّسع منه و بسط كلبهم ذراعية في و صيد الكهف، و كانوا يعلمون حقّ العلم أنّ قومهم لو علموا بمكانهم لعذّبوهم و قتلوهم، لذا دعوا ربّهم تعالى:
فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً ، فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً.٢
فناموا و نام كلبهم معهم، ناموا مدّة ثلاثمائة و تسع سنين قمريّة تعادل ثلاثمائة سنة شمسيّة: ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً.٣
إلى أن يقول:
وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ.٤
ثمّ يستمرّ القرآن الكريم في القصّة حتّى يصل إلى قوله:
وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها؟٥
و يستنتج منه أنّ قصّة أصحاب الكهف و اختفائهم فيه، و نومهم ثلاثمائة و تسع سنين ثمّ استيقاظهم بعد هذه المدّة الطويلة، و المجيء إلى
المدينة لشراء الطعام و اطّلاع الناس على هذه القصّة كان بأجمعه من أجل إعلان المعاد و كيفيّته و عدم استبعاده. و قد ذكر شتّى أصحاب التفاسير و الروايات خصائص القصّة، و نورد هنا تفصيلها وفقاً للرواية الواردة في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ:
قصّة أصحاب الكهف وفق رواية و تفسير علي بن إبراهيم القمّيّ
يقول عليّ بن إبراهيم: حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، قال: كان سبب نزولها، يعني سورة الكهف، أنّ قريشاً بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران، النضر بن الحارث بن كلدة، و عقبة بن أبي معيط و العاص بن وائل السهميّ ليتعلّموا من اليهود و النصارى مسائل يسألونها رسول الله صلّى الله عليه و آله، فخرجوا إلى نجران إلى علماء اليهود فسألوهم فقالوا: سلوه عن ثلاث مسائل، فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق، ثمّ سلوه عن مسألة واحدة فإن ادّعى علمها فهو كاذب. قالوا: و ما هذه المسائل؟ قالوا: سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأوّل فخرجوا و غابوا و ناموا، كم بقوا في نومهم حتّى انتبهوا؟ و كم كان عددهم؟ و اي شيء كان معهم من غيرهم؟ و ما كان قصّتهم؟ و اسألوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالِم و يتعلّم منه، مَن هو و كيف تبعه و ما كان قصّته معه؟ و اسألوه عن طايف طاف من مغرب الشمس و مطلعها حتّى بلغ سدّ يأجوج و مأجوج، مَن هو و كيف كان قصّته؟ ثمّ أملوا عليهم أخبار هذه الثلاث مسائل و قالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق، و إن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدّقوه. قالوا: فما المسألة الرابعة؟ قالوا: سلوه متى تقوم الساعة؟
فإن ادّعى علمها فهو كاذب، لأنّ قيام الساعة لا يعلمها إلّا الله تعالى. فرجعوا إلى مكّة و اجتمعوا إلى أبي طالب عليه السلام فقالوا: يا أبا طالب! إنّ ابن أخيك يزعم أنّ خبر السماء يأتيه، و نحن نسأله عن مسائل فإن
أجابنا عنها علمنا أنه صادق و إن لم يجبنا علمنا أنه كاذب. فقال أبو طالب: سلوه عمّا بدا لكم. فسألوه عن الثلاث مسائل، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: غداً أخبركم (على أمل أن يأتي الأمين جبرئيل بالإجابة عنها من جهة ذات الحقّ تعالي) و لم يستثن.
فاحتبس الوحي عليه أربعين يوماً حتّى اغتمّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و شكّ أصحابه الذين كانوا آمنوا به، و فرحت قريش و استهزأوا و آذوا، و حزن أبو طالب. فلمّا كان بعد أربعين يوماً نزل عليه [جبرئيل] بسورة الكهف، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: يا جبرئيل، لقد أبطأتَ! فقال: إنّا لا نقدر أن ننزل إلّا بإذن الله. فأنزل:
أَمْ حَسِبْتَ (يا محمّد) أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً.
ثمّ قصّ قصّتهم فقال:
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً.
فقال الصادق عليه السلام: إنّ أصحاب الكهف و الرقيم كانوا في زمن ملك جبّار عاتٍ و كان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام، فمن لم يُجبْه قَتَلَه، و كان هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون الله عزّ و جلّ. و وكّل الملكُ بباب المدينة و كلاء و لم يدع أحداً يخرج حتّى يسجد للأصنام، فخرج هؤلاء بحيلة الصيد، و ذلك أنهم مرّوا براعٍ في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم، و كان مع الراعي كلب فأجابهم الكلب و خرج معهم.
فقال الصادق عليه السلام: فلا يدخل الجنّة من البهائم إلّا ثلاثة:
حمار بلعم بن باعوراء و ذئب يوسف۱ و كلب أصحاب الكهف.
فخرج أصحاب الكهف من المدينة بحيلة الصيد هرباً من دين ذلك الملك، فلمّا أمسوا دخلوا ذلك الكهف و الكلب معهم فألقى الله عليهم النعاس كما قال الله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً، فناموا حتّى أهلك الله ذلك الملك و أهل مملكته، و ذهب ذلك الزمان و جاء زمان آخر و قوم آخرون، ثمّ انتبهوا فقال بعضهم لبعض: كم نمنا هاهنا؟ فنظروا إلى الشمس قد ارتفعت، فقالوا: نمنا يوماً أو بعض يوم.
ثمّ قالوا لواحد منهم: خذ هذا الورق و ادخل المدينة متنكّراً لا يعرفوك فاشتر لنا طعاماً؛ فإنّهم إن علموا بنا و عرفونا يقتلونا أو يردّونا في دينهم.
فجاء ذلك الرجل فرأى مدينة بخلاف التي عهدها و رأى قوماً بخلاف أُولئك لم يعرفهم و لم يعرفوا لغته و لم يعرف لغتهم، فقالوا له: من أنت و من أين جئت؟ فأخبرهم، فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه و الرجل معهم حتّى وقفوا على باب الكهف و أقبلوا يتطلّعون فيه. فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة و رابعهم كلبهم، و قال بعضهم: خمسة و سادسهم كلبهم. و قال بعضهم: هم سبعة و ثامنهم كلبهم، و حجبهم الله عزّ و جلّ بحجاب من الرعب فلم يكن أحد يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإنّه لمّا دخل إليهم وجدهم خائفين أن يكون أصحاب دقيانوس شُعروا بهم، فأخبرهم صاحبهم أنهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل و أنهم آية للناس، فبكوا و سألوا الله تعالى أن يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما كانوا.
ثمّ قال الملك: ينبغي أن نبني هاهنا مسجداً و نزوره فإنّ هؤلاء قوم مؤمنون. فلهم في كلّ سنة نقلتان، ينامون ستّة أشهر على جنوبهم اليمنى و ستّة أشهر على جنوبهم اليسرى و الكلب معهم قد بسط ذراعيه بفناء الكهف.۱
و قال العلّامة الطباطبائيّ بعد نقل هذه الرواية: و الرواية من أوضح روايات القصّة متناً و أسلمها من التشوّش، و هي مع ذلك تتضمّن أنّ الذين اختلفوا في عددهم فقالوا: ثلاثة أو خمسة أو سبعة هم أهل المدينة الذين اجتمعوا على باب الكهف بعد انتباه الفتية، و هو خلاف ظاهر الآية. و تتضمّن أنّ أصحاب الكهف لم يموتوا ثانية بل عادوا إلى نومتهم و كذلك كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، و أنّ لهم في كلّ سنة تقلّبين من اليمين إلى اليسار و بالعكس، و أنهم بعدُ على هيئتهم، و لا كهف معهوداً على وجه
الأرض و فيه قوم نيام على هذه الصفة.۱
و ننهي هذه القصّة بذكر عدّة أُمور:
أصحاب الكهف و الرقيم جماعة واحدة
۱- الكهف: هو المغارة في الجبل إلّا أنه أوسع منها بحيث يمكن للإنسان و الحيوان أن يدخلاه و يعيشا فيه براحة. و الرقيم بمعنى المرقوم، كالجريح بمعنى المجروح.
و قد دُعي أصحاب الكهف بأصحاب الرقيم لأنّ أسماءهم قد كُتبت و رُقّمت في لوح نحاسيّ أو ذهبي نُصِبَ في خزانة الملك. أو لأنها قد رقّمت و حُفرت في داخل الغار. و عليه فإنّ أصحاب الكهف و أصحاب الرقيم هم جماعة واحدة.
أمّا ما ورد في بعض الروايات الضعيفة الدالّة على أنّ أصحاب الرقيم هم غير أصحاب الكهف، و التي ذكرت أن ثلاثة من المؤمنين كانوا قد ساروا في الصحراء فألجأهم المطر و الطوفان إلى غار، و سقطتّ صخرة من الجبل فسدّت مدخل الغار تماماً. فدعوا الله تعالى و ذكروه بالأعمال الصالحة التي كانوا قد فعلوها، فتحرّكت الصخرة ببركة دعائهم و انزاح ثلثها فبان ثلث من باب الغار؛ فلا يمكن قبوله، إذ يستبعد من سياق الآيات القرآنيّة المباركة أن تذكر قصّتين مختلفتين فتشرح إحداهما مفصّلة و تُعرِض عن ذكر الثانية كلّيّاً.
و قال البعض: إنّ الرقيم اسم الجبل الذي فيه الكهف، أو اسم الصحراء التي يقع الجبل فيها، أو اسم البلد الذي خرجوا منه إلى الكهف، أو اسم الكلب الذي كان مع أصحاب الكهف، بَيدَ أنه لا دليل على هذه الادّعاءات. و الدليل قائم على أنّ الرقيم بمعنى الكتابة و الخطّ و قد عرفوا
بأصحاب الرقيم لأنّ أسماءهم قد كُتبت.
عدد أصحاب الكهف و أسماؤهم
٢- عدد أصحاب الكهف: ورد عددهم في القرآن الكريم في قوله تعالى:
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً.۱
و يستشفّ العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه أنّ عددهم كان سبعة من عدّة جهات:
الجهة الاولى: أنّ القرآن الكريم حين يذكر القولين الأوّلين فإنّه يعقّب عليهما بعبارة: رَجْماً بِالْغَيْبِ، و الرجم هو الرمي بالحجارة، اي كالرامي بالحجر دونما هدف، كناية عن أنهما قول بغير علم و لا دليل. إلّا أنه حين يقول وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فإنّه لا يعقّب عليه شيئاً.
الثانية: أنه ذكر الواو في قوله: سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، بينما لم يوردها في الفقرتين الاوليين، و هو دلالة على الثبات و الاستقرار. يقول في الكشّاف: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الواقعة حالًا عن المعرفة في نحو قولك: جَاءَنِي رَجُلٌ وَ مَعَهُ آخَرُ، و مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَ بِيَدِهِ سَيْفٌ. و منه قوله تعالى: وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ. و فائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف، و الدلالة على أنّ اتّصافه بها أمر ثابت مستقرّ. و هذه الواو هي التي آذنت بأنّ الذين قالوا: سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قالوه عن ثبات علم و طمأنينة نفس و لم يرجموا بالظنّ كما [فعل] غيرهم. و الدليل عليه أنّ الله سبحانه أتبع القولين الأوّلين
قوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ و أتبع القول الثالث قوله: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ.
و قال ابن عبّاس: حين وقعت الواو انقطعت العدّة، اي لم يبق بعدها عدّة عادٍّ يُلتفت إليها، و ثبت أنهم سبعة و ثامنهم كلبهم على القطع و الثبات انتهى ما جاء في «الكشّاف».۱
الثالثة: بدليل الآية المباركة: وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ.٢
إذ إنّ الفاعل في المحاورة كان جماعتين، و أقلّ الجمع ثلاثة؛ لذا فإنّ مجموع هاتين الجماعتين مع السائل لا يمكن أن يقلّ عن سبعة نفر.٣
٣- أسماء أصحاب الكهف: قال العلّامة الطباطبائيّ: قيل في الروايات الإسلاميّة المنتهية إلى الروايات اليونانيّة و السريانيّة إنّ أسماءهم كالتالي:
الأوّل: مكس ميليانوس Maxi Milianos
الثاني: اميلخوس- مليخا Iamblichos
الثالث: مرتيانوس - مرطلوس- مرطولس (Martelos) - Martinos
الرابع: ذوانيوس -دوانيوانس- دنياسيوس Dionysios
الخامس: ينيوس -يوانيس- نواسيس J oannes
السادس: اكساكدثو دنيانوس -كسقسططيونس-
الكسقطوسطط -كشفوطط Exakaustodianos
السابع: انطونس (افطونس) اندونيوس -انطينوس Antonios
و اسم كلبهم قِطْمير.
و يرى بعضهم أنّ الأسماء العربيّة مأخوذة عن القبطيّة المأخوذة عن السريانيّة.۱
أين كان كهف أصحاب الكهف؟
٤- تعيين محلّ الكهف: إن أشهر الكهوف المكتشفة في الدنيا حاليّاً، التي ينسب إليها أهل الكهف خمسة كهوف:
الأوّل: كهف إِفِسوس (بكسر الهمزة و الفاء)؛ الثاني: كهف رَجِيب؛ الثالث: كهف جبل قاسيون؛ الرابع: كهف البَتْراء؛ و الخامس: الكهف الواقع في شبه الجزيرة الإسكندنافيّة.
و يقع كهف جبل قاسيون في الصالحيّة في دمشق؛ و يقع كهف البتراء في فلسطين، بينما يقع الكهف الإسكندنافيّ في شبه لجزيرة الإسكندنافيّة، و لا تنطبق الخصائص الجغرافيّة و الشواهد التأريخيّة على كهف أصحاب الكهف، لذا لا نتعرّض للبحث عنها.
هل كان محلّ أصحاب الكهف كهف إفِسوس؟
أما كهف إفِسوس فيقع في مدينة خربة من مدن تركيا تبعد عن مدينة إزمير ثلاثة و سبعين كيلومتراً، و يقع هذا الكهف على بُعد كيلومتر أو أقلّ من إفسوس الواقعة قرب قرية أياصولوك على سفح جبل ينايرداغ. و هو كهف واسع جدّاً بُنيت فيه مئات القبور بالآجر، و باب الكهف باتّجاه الشمال الشرقيّ، إلّا أنه لا أثر فيه لكنيسة أو صومعة أو مسجد. و يعتقد الكثير من المؤرّخين و المفسّرين أنه هو كهف أصحاب الكهف، كما يُعَدّ
من أشهر الكهوف لدى النصارى. و هو عموماً من أشهر الكهوف بين جميع الامم و الأقوام و المعتقدين بقصّة أصحاب الكهف.
بَيدَ أنّ أُستاذنا العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه يعتقد أنه لا يمكن أن يكون الكهف المعنى، و ذلك لعدّة أدلّة:
أمّا أوّلًا: فقد قال تعالى:
وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ.۱ و هو صريحٌ في أنّ الشمس يقع شعاعها عند الطلوع على جهة اليمين من الكهف، و عند الغروب على الجانب الشماليّ منه. و يلزمه أن يواجه باب الكهف جهة الجنوب، و باب الكهف الذي في إفسوس متجه نحو الشمال الشرقيّ.
و هذا الأمر، أعني كون باب كهف إفسوس متّجهاً نحو الشمال و ما ورد من مشخص إصابة الشمس منه طلوعاً و غروباً، هو الذي دعا المفسّرين إلى أن يعتبروا يمين الكهف و يساره بالنسبة إلى الداخل فيه لا الخارج منه، مع أنه المعروف المعمول.
قال البيضاويّ في تفسيره: إنّ باب الكهف في مقابلة بنات نَعْش، و أقرب المشارق و المغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان و مغربه، و الشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن و هو الذي يلي المغرب، و تغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جانبه و يحلّل عفونته و يعدّل هواءه و لا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم و يبلي ثيابهم. انتهى- و نحو منه ما ذكره غيره.
و أمّا ثانياً: فلأن قوله تعالى: وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ، اي في مرتفع منه،
و لا فجوة في كهف إفسوس -على ما يقال- و هذا مبني على كون الفجوة بمعنى المرتفع و هو غير مُسلّم، و قد تقدّم أنها بمعنى الساحة.
و أمّا ثالثاً: فلانّ قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً.
الكهف الوارد في القرآن كهف إفِسوس أو كهف رجيب؟
ظاهر في أنهم بنوا على الكهف مسجداً، و لا أثر عند كهف إفسوس من مسجد أو صومعة أو نحوها.
و رابعاً: على أنه ليس هناك شيء من رقيم أو كتابة أو أمر آخر يشهد و لو بعض الشهادة على ذلك، خلافاً لسائر الكهوف و خاصّة كهف رجيب.
و يقع كهف رجيب على مسافة ثمانية كيلومترات من مدينة عَمّان عاصمة الأردن بالقرب من قرية تسمّي رجيب، و الكهف في جبل محفوراً عليال صخرة في السفح الجنوبيّ منه، و أطرافه من الجانبين الشرقيّ و الغربي مفتوحة يقع عليه شعاع الشمس منها. و باب الكهف يقابل جهة الجنوب، و في داخل الكهف صفة صغيرة تقرب من ثلاثة أمتار في مترين و نصف على جانب من سطح الكهف المعادل لثلاثة (أمتار) في ثلاثة تقريباً. و في الغار عدّة قبور على هيئة النواويس البيزنطيّة كأنها ثمانية أو سبعة.
و على الجدران نقوش و خطوط باليونانيّ القديم و الثموديّ منمحية لا تُقرأ، و أيضاً صورة كلب مصبوغة بالحمرة و زخارف و تزويقات أُخرى.
و فوق الغار آثار صومعة بيزنطيّة تدلّ النقود و الآثار الاخرى المكتشفة فيها على كونها مبنيّة في زمان الملك جوستينوس الأوّل (٤۱۸- ٤٢۷ ميلاديّة)، و آثار أُخرى على أنّ الصومعة بدّلت ثانياً بعد استيلاء المسلمين على الأرض مسجداً إسلاميّاً مشتملًا على المحراب و المئذنة
و الميضاة.
و كان هذا الكهف متروكاً منسيّاً و بمرور الزمان خربة و ردماً متهدّماً حتّى اهتمّت دائرة الآثار الأردنيّة أخيراً بالحفر و التنقيب فيه فاكتشفته فظهر ثانياً بعد خفائه قروناً، و قامت عدّة من الأمارات و الشواهد الأثريّة على كونه هو كهف أصحاب الكهف المذكورين في القرآن.
و قد ورد كون كهف أصحاب الكهف بعمّان في بعض روايات المسلمين، و ذكره ياقوت (الحمويّ) في «معجم البلدان» و أنّ الرقيم اسم قرية بالقرب من عمّان. و بلدة عمّان أيضاً مبنيّة في موضع مدينة فيلادلفيا التي كانت من أشهر مدن عصرها و أجملها قبل ظهور الدعوة الإسلاميّة، و كانت هي و ما والاها تحت استيلاء الروم منذ أوائل القرن الثاني الميلاديّ حتّى فتح المسلمون الأرض المقدّسة. و الحقّ أنّ مشخّصات كهف أصحاب الكهف أوضح انطباقاً على هذا الكهف من غيره.۱
لقد كان بحث أُستاذنا في هذا الشأن في غاية المتانة، إلا أننا نحتاج إلى شرح مختصر لإحدى النقاط. و هي أنه تصوّر -وفقاً للآية الشريفة- أنّ باب الكهف يجب أن يقابل الجنوب ليقع عليه شعاع الشمس في وقتين، فتشرق عند طلوعها على يمين فتحة الكهف، و تصيبه أشعتها عند غروبها على يسار فتحة الكهف. فيرى الجالسون فيه الشمس خلال هذين الوقتين فقط. لذا فقد أشكل على من اعتبروا فتحة الكهف في جهة الشمال و قال: و المعمول في اعتبار اليمين و اليسار لمثل الكهف و البيت أن يؤخذ باعتبار الخارج منه دون الداخل فيه.
لكنّنا نقول إنّ فتحة الكهف لو كانت باتّجاه الشمال، لكان ذلك
أقرب إلى الاعتبار و إلى دلالة الآية القرآنيّة دون أن نحتاج إلى تغيير اليمين و اليسار عن الاعتبار المعمول نسبة إلى من في داخل الكهف. ذلك أنه لم يرد في الآية القرآنيّة لفظ يشير إلى أنّ الشمس كانت تسطع على فتحة الكهف عند طلوعها و غروبها، بل جاء أنها كانت إذا طلعت تزاور عن كهفهم و إذا غربت تقرضهم.
و التزاور بمعنى الميل و الانحراف، اي أنّ الشمس إذا طلعت إلى يمين الكهف (أي يمين الجالس في الغار) فإنّها تميل و تنحرف دون أن تسطع على داخل الغار، ثمّ تعبر من خلف الغار، ثمّ تكون عند الغروب قد طوت نصف دائرة من قوس دائرتها، فتكون عند غروبها إلى جانب الغار الأيسر ثمّ تغيب.
و هذا المعنى يتناسب مع الغار و الكهف الذي تكون فتحته باتّجاه الشمال لا باتّجاه الجنوب.
يضاف إلى ذلك أننا نعلم أنّ باب الكهف لو كان جنوبيّاً لسطعت الشمس داخل الكهف خلال النهار، و خاصّة في فصل الشتاء، و لأنارت الكهف كلّه لأنه واقع في المنطقة المعتدلة الشماليّة.
أمّا لو كان باب الكهف باتّجاه الشمال فإنّ نور الشمس لن يصل أبداً إلى داخله فيعفّن الأجساد، لأنّ سير الشمس سيكون جنوبيّاً باستمرار بالنسبة إلى الكهف، و من المحال أن يسطع نورها على داخل الكهف الواقع في الشمال. و لذلك فإنّ أصحاب الكهف سيتمتّعون بمكان واسع و هواء بارد و نسيم لطيف لا تلسعهم فيه حرارة الشمس.
و لعلّ المرحوم الشعراني قد فسّر ذلك في كتابه «نثر طوبي» على هذا الأساس فقال: إنّ الشمس تنحرف من أصحاب الكهف إلى يمين الواقف في الكهف مقابل بابه، كما هو المقصود من نظائر هذه العبارة؛ اي: أنّ
الشمس تطلع أوّل الصبح فتشرق على الغار ثمّ تنحرف إلى اليمين و تغيب، ثمّ تعود عند الغروب و تمرّ من اليسار. فإن كان باب الكهف باتّجاه الشمال، لكانوا أوّل الصبح و عند الغروب مستنيرين بالشمس، و كانوا في الظلّ وسط النهار. أمّا لو كان باب الكهف باتّجاه الجنوب، لكانت الشمس تسطع عليه باستمرار. بَيدَ أنهم كانوا نائمين في كهف تميل الشمس من على يمينه و يساره دون أن تؤذيهم.۱
ما هو العصر الذي عاش فيه أصحاب الكهف؟
٥- اي زمان عاش أصحاب الكهف.
يمكن القول تقريباً إنّ المفسّرين مُجمعون على أنّ قصّة أصحاب الكهف كانت زمن دَقْيُوس إمبراطور الروم الذي حكم بين ٢٤٩- ٢٥۱ ميلاديّة، أو زمن دَقْيانُوس إمبراطور الروم الآخر الذي حكم بين ٢۸٥- ٣۰٥ ميلاديّة و المسيحيّون أيضاً يدّعون ذلك و يقولون بأنّ الحكّام كانوا يضيّقون على دين المسيحيّة و يعذّبون الموحّدين بأصناف الأذى و الجوع و العطش.
بَيدَ أنه لا يمكن قبول هذا الأمر، لأنّ أوّل من كتب قصّة أصحاب الكهف في كتابه من السريانيّين جيمس الساروغيّ Jimes of Sarug المتوفي سنة ٥٢۱ ميلاديّة، و قد ألّف هذا الكتاب سنة ٤۷٤ ميلاديّة.
و في ضوء الآية القرآنيّة فإنّ أصحاب الكهف كانوا قد ناموا ثلاثمائة و تسع سنين، و لمّا كانت سنوات القرآن قمريّة، و حسبنا الفرق بين السنوات القمريّة و الشمسيّة في هذه المدّة لوجب إنقاص تسع سنين، فتكون مدّة بقائهم في الكهف ثلاثمائة سنة شمسيّة. و لمّا كانت السنوات الروميّة شمسيّة، فلا بدّ أن يكون بقاء أصحاب الكهف أسبق بكثير من
زمن دقيوس أو دقيانوس.
بَيدَ أنّ المسيحيّين لا يعتقدون بالقرآن الكريم، و هم- من جهة أُخرى يعتبرون زمن استيقاظ أصحاب الكهف هو زمن الملك الصالح تيودوسيوس الذي حكم بين ٤۰۸- ٤٥۱ ميلاديّة. فيكون بقاء أصحاب الكهف إلى زمن دقيوس مائتي سنة أو أقلّ.
و قد التفت رفيق وفا الدجّانيّ إلى ذلك في كتاب «اكتشافات كهف أهل الكهف» الذي نشره سنة ۱٩٦٤ ميلاديّة فقال في كتابه: إنّ الطاغية الذي هرب منه أصحاب الكهف فدخلوا الكهف هو «طراجان الملك ٩۸- ۱۱۷ م» لا دقيوس الملك .. و لا دقيانوس الملك. و قد أصدر طراجان في سنة ۱۱٢ م مرسوماً يقضي أنّ كلّ عيسويّ يرفض عبادة الآلهة يحاكم كخائن للدولة و يعرض للموت.
و لو فرضنا أنّ أصحاب الكهف قد لجأوا إلى الكهف في تلك السنة، فإنّ، ۱۱٢ + ٣۰۰ = ٤۱٢ فيكونون قد استيقظوا في سنة ٤۱٢ بعد نومهم ثلاثمائة سنة (شمسيّة)، و ذلك يصادف أيّام حكم الملك الصالح العادل تيودوسيوس.۱
و ما يمكن أن نشكله على صاحب هذا الكتاب هو أننا لا نملك دليلًا كافياً على نوم أصحاب الكهف في زمن (طراجان) و استيقاظهم في زمن (تَيودوسيوس). فهذا الرأي الذي أبداه لا يعدو كونه فرضيّة لا شاهداً تاريخيّاً. و على هذا الأساس فإنّ العلّامة الطباطبائيّ قد امتنع عن تعيين زمنهم و لم يتابع بحثه مع ما عرضه من البحث و النقد و التحليل.
كما أننا نعلم من جهة أُخرى أنّ هذه القصّة لو وقعت قبل السيّد
المسيح لكانت مدعاة لفخر اليهود و مباهاتهم، و لكانوا قد نمّقوها و زيّنوها و ذكروها، بينما نجد أنّ الكتب اليهوديّة تخلو من ذلك. فمعظم المعتقدين بها -عدا المسلمين- هم من المسيحيّين. و قد نقل خواندمير هذه القصّة و ذهب إلى أنها وقعت زمن الملك بلاش بن فيروز الثامن الملك الأشكانيّ.۱
و يقول حمد الله المستوفيّ بعد أن ينقل أسماء ستّة نفر منهم و إذا ما أُضيف إليهم الراعي يصيرون سبعة؛ و كان هؤلاء في زمن دقيانوس الذي عاش قبل النبيّ عيسى، و كانوا ينتمون إلى دين النبيّ موسى؛ و لمّا لم يتابعوا الملك الظالم، فقد لجأوا إلى الكهف و ناموا ثلاثمائة و تسع سنين ثمّ أحياهم الله بعد ظهور المسيح عليه السلام.٢
كما أنّ بلعميّ الطبريّ يذكر قصّتهم مفصّلة وفقاً للآيات القرآنيّة، ثمّ يذكر أنّ نومهم في الكهف كان زمن دقيانوس. و يعتقد كذلك أنهم لجأوا إلى الكهف قبل السيّد المسيح بجرم متابعتهم شريعة النبيّ موسى و عدم طاعتهم للآلهة.
ثمّ ظهر عيسى فقصّ قصّة أصحاب الكهف الذين كانوا من بني إسرائيل، و قال إنّهم سيُبعثون فيراهم الناس ثمّ يموتون من جديد، و إنّ هذه آية على المعاد و القيامة. ثمّ إنّ أحدهم -و اسمه مكسلمينا- بُعث حيّاً، و كان كبيرهم فناداهم فبُعثوا جميعاً، و بُعث كلبهم فقام على أقدامه. و حين شاهد الناس تلك المسكوكة التي أرسلوا بها أحدهم ليبتاع لهم بها طعاماً، فقد علموا أنه من أصحاب الكهف الذين قرأوا قصّتهم في الإنجيل، فاجتمع علماء الإنجيل ليسمعوا منه القصّة -و كان اسمه يمليخا- و أخذوه إلى الملك،
فقال له الملك: أيّها الفتى؟ أُبشّرك بأنّ دقيانوس قد مات و انقضى على عهده ثلاثمائة و تسع سنين حتّى يومنا هذا، و لقد بعث الله نبيّاً اسمه عيسى جاء بكتاب من السماء اسمه الإنجيل ذُكرت فيه قصّتكم. إنّنا نعبد الله و نحن على دين عيسى، و كنّا نترقّب خروجكم من الكهف ... ثمّ يذكر القصّة إلى آخرها.۱
و الخلاصة فلا إشكال على ما نقله المؤرّخون من حيث انطباق الزمن، إلّا أنهم ذكروا أنّ ذلك الملك الجائر كان دقيانوس، و من البيّن أنّ عهد حكمه كان بعد قرنين و نصف من ولادة عيسى عليه السلام.
و جاء في «لغت نامه دهخدا» [معجم دهخدا] بشأن الكهف: و أصحاب الكهف من الروم على دين المسيح، و روى ابن قتيبة أنهم كانوا قبل المسيح.٢
و يبدو أنّ ما أفاده آية الله الشعرانيّ في هذا المقام أقرب إلى الواقع، فقد قال: و قد وقعت هذه القصّة في عصور موغلة في القدم، حيث نقلها أرسطو الذي عاش قبل ميلاد المسيح بما ينيف على ثلاثمائة سنة. و الله أعلم كم سنة كان أصحاب الكهف قبل أرسطو.
و كان الشيخ الرئيس أبو على ابن سينا يعتقد أنّ أصحاب الكهف كانوا قوماً آخرين، و أن القصّة التي نقلها أرسطو قصّة أُخرى غير قصّتهم. يقول في طبيعيّات «الشفاء» ص ۷۰ في السطرين ما قبل السطر الأخير:
وَ قَدْ حَكَى الْمُعَلِّمُ الأوَّلُ أيضاً أنَّ قَوْماً مِنَ الْمُتألِّهِينَ عَرَضَ لَهُمْ شَبِيهٌ بِذَلِكَ؛ وَ يَدُلُّ التَّارِيخُ عَلَى أنهُمْ كَانُوا قَبْلَ أصْحَابِ الْكَهْفِ.
و لعلّ المسيحيّين بعد بعثة السيّد المسيح عليه السلام نسبوا هذه القصّة التي كانت متداولة على الألسن في اليونان و نقلها أرسطو، إلى المؤمنين بالسيّد المسيح عليه السلام تبعاً للارتكاز الذهنيّ.
و أنّ أكثر مسيحييّ عصرنا لا يقيمون اعتباراً لقصّة أصحاب الكهف، كما أنّ القرآن لم يصرّح بزمنهم، فلا يُستبعد أن تكون القصّة قد وقعت قبل المسيح، أمّا التفاصيل الاخرى غير الموجودة في القرآن، فهي اقتباس من المسيحيّين المعتقدين بأصحاب الكهف، اللَهمّ إلّا إذا ثبت عن المعصوم شيء آخر.۱
هل مات أصحاب الكهف أم ناموا بعد استيقاظهم؟
٦- هل نام أصحاب الكهف مرّة ثانية بعد استيقاظهم أم أنهم ماتوا؟
الروايات الواردة عن رسول الله و أهل البيت في هذا الشأن متفاوتة، فلبعضها دلالة على أنهم ناموا ثانية فهم أحياء إلى اليوم، و بعضها الآخر يدلّ على أنهم ماتوا بعد استيقاظهم و اطّلاع ملك ذلك الزمان على قصّتهم.
و ورد في رواية نقلناها عن تفسير عليّ بن إبراهيم أنهم حين علموا أنّ الله تعالى جعلهم آية إلهيّة فإنّهم:
بَكَوا وَ سَألُوا اللهَ أنْ يُعِيدَهُمْ إلَى مَضَاجِعِهِمْ نَائِمِينَ كَمَا كَانُوا.٢
و عدّ العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه هذه النكتة أحد وجوه الإشكال على هذه الرواية فقال: و لا كهفَ معهوداً على وجهِ الأرض و فيه قومٌ نيامٌ على هذه الصفة.٣
كما قال: و من ذلك ما في بعض الروايات أنهم قُبضت أرواحهم؛ و في بعضها أنّ الله أرقدهم ثانياً فهم نيام إلى يوم القيامة، و يقلّبهم كلّ عام مرّتين ثمّ إنّه يورد رواية عن «الدرّ المنثور» عن ابن عبّاس يقول فيها:
غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم، فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذي ذكر الله في القرآن، فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم. فقال له ابن عبّاس: ليس ذلك لك، قد منع الله ذلك عمّن هو خير منك فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً.۱ وَ٢
و الرواية مشهورة أوردها المفسّرون في تفاسيرهم، و الكهف الذي في المضيق و هو كهف إفسوس المعروف اليوم، و ليس على هذا النعت.
و الآية التي تمسّك بها ابن عبّاس إنّما تمثّل حالهم و هم رقود قبل البعث لا بعده. و قد وردت عن ابن عبّاس في «الدرّ المنثور» رواية أُخرى عن عبد الرزّاق و ابن أبي حاتم، عن عكرمة ورد في آخرها بعد ذكر القصّة:
فركب الملك و ركب معه الناس حتّى انتهى إلى الكهف. فقال الفتى: دعوني أدخل إلى أصحابي. فلمّا أبصروه و أبصرهم ضُرب على آذانهم، فلمّا استبطئوه دخل الملك و دخل الناس معه، فإذا أجساد لا يبلى منها شيء غير أنها لا أرواح فيها. فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم.
فغزا ابن عبّاس مع حبيب بن مسلمة فمرّوا بالكهف فإذا فيه عظام، فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف. فقال ابن عبّاس: ذهبت عظامهم أكثر من ثلاثمائة سنة (الحديث).٣
علّة دخول أصحاب الكهف فيه
۷- ما علّة خروج أصحاب الكهف من المدينة و دخولهم فيه؟
إن الله تعالى يذكر قصّتهم في القرآن الكريم على هذا النحو:
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً ، وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ.۱
فيذكر لهم ثلاث صفات:
الاولى: أنهم كانوا فتية.
الثانية: زيادة الهداية إلى الكمال، فنفس الإيمان و التقوى موجب لزيادة الإيمان.
و الثالثة: انشداد القلب إلى خالقه و ارتباطه به، بحيث يتحرّر من الحيرة و الشكّ و القلق و الاضطراب، فيلازم الحقّ على الدوام و يحترز من تجاوز الحدّ و تخطّيه.
إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً ، هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً.٢
فقد أظهروا حقيقة إيمانهم و صفاتهم بهذه النهضة و الإعلان بأنّ ربهم ربّ السماوات و الأرض، و بأنهم لا يعبدون معبوداً غير الله، إذ سيكونون حينئذٍ قد قالوا شططاً و جزافاً من القول. ثمّ يحكمون بحجّتهم على حجّة قومهم و يعترضون عليهم اتّخاذهم عبادة الآلهة و اتّباعهم إيّاها بلا دليل و برهان جليّ، بل بتقليد أعمى. ثمّ يدعونهم بالظلم و الجور في قولهم:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً.
و هي مقولة مشحونة بالحكمة، قاموا من خلالها بإبطال ربوبيّة أرباب الأصنام من الملائكة و الجنّ و المصلحين من أفراد البشر الذين تُثبت فلسفة
الوثنيّة أُلوهيّتهم. و هي فلسفة تُثبت أُلوهيّة الأرباب، لا نفس الأصنام و التماثيل التي هي صور و أمثله لُاولئك الأرباب، و تمثّل تلك الحقيقة في هذه الصورة و الهيئة.
و لقد بدأ هؤلاء الفتية كلامهم هنا بالتوحيد و نداء رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، فَأسندوا ربوبيّة الموجودات جميعها إلى ذات الحقّ، الحقّ الذي لا شريك له تعالى؛ و أبطلوا الوثنيّة القائلة بإله و ربّ لكلّ نوع من المخلوقات، مثل ربّ السماء، و ربّ الأرض، و ربّ الإنسان.
ثمّ أكّدوا مطلبهم بقولهم: لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، فنفوا بهذه الحقيقة الآلهة التي جعلتها الوثنيّة فوق أرباب الأنواع كالعقول الكلّيّة، و يعبدها الصابئة و البراهمة و طائفتا السيوا و الوشنو.
ثمّ أكّدوا المطلب الآتي بقولهم: لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً.
فأعلنوا أنّ هذا الكلام مقرون بالظلم و التجاوز و الغلوّ في حقّ المخلوق الذي يرقى به إلى درجة الخالق. ثمّ هاجموا قومهم و أبطلوا فلسفتهم بقولهم: اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ و جملة القول إنّهم وقفوا في وجه الوثنيّين الذين كانت لهم فلسفتهم، و أعلوا التوحيد جهاراً، فعُرِّضوا للضرب و القتل و الاغتيال، و أُجبروا على الفرار من بلدهم و اللجوء إلى الكهف الذي كان مقرّ رحمة الله.
و لقد أكرم الله تعالى قدوم ضيوفه، فضرب على آذانهم -كما يُفعل بالأطفال من أجل هدهدتهم و تنويمهم- بنغمات الشوق و جذبات الرحمة الإلهيّة، فناموا في ذلك المكان المرتفع الممتع، يقلّبهم ذات اليمين و ذات الشمال- كالامّ العطوف التي تودّع طفلها المهد، فتبقى ساهرة عنده تهزّ مهده و ذلك لئلّا تبلى أبدانهم، و كانوا ينشقون النسيم الوارد في الغار بمأمن من الشمس و سطوع أشعّتها.
الحكمة في قصّة أصحاب الكهف، عرض مشهد من البعث و المعاد
۸- ما الحكمة في نوم أصحاب الكهف و استيقاظهم؟
لقد وردت في هذا الشأن آيات عديدة، إلّا أنها لم تعدّ قصّتهم من الامور العجيبة. و ارتباط هذه الآيات بالآيات السابقة لها الدالّة على أنّ الله قد جعل ما على الأرض زينة لها يأنس