المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة المعاد
التوضيح
تشمل 75 مجلساً في كيفية سير الإنسان وحركته في الدنيا وعالم الغرور، وكيفية تبدل نشأة الغرور إلى عالم الحقائق والواقعيّات وارتحال الإنسان إلى الله وغاية الغايات.
وتقع هذه المجموعة في عشر مجلّدات طبعت بأجمعها بالفارسيّة؛ وقد جرى فيها على نحوٍ وافٍ ومستفيض طرح مباحث من قبيل: عالم الصورة والبرزخ وكيفيّة ارتباط الأرواح هناك مع هذه العوالم، كيفيّة خلقة الملائكة ووظائفهم، النفخ في الصور وموت جميع الموجودات ثم إحياؤها وقيام الإنسان في ساحة الحضرة الأحديّة، عالم الحشر والنشر والحساب والكتاب والجزاء والعرض والسؤال والميزان والصراط والشفاعة والأعراف والجنة والنار؛ وذلك بالاستفادة من الآيات القرآنية وأخبار المعصومين ومن الأدلّة العقليّة والفلسفيّة والمطالب الذوقيّة والعرفانية.
المَجْلِسُ الحَادِي وَ الخَمْسُونَ: في حَقِيقَةِ جَهَنَّم، وَ الصِّرَاط وَ مَعْنَاهُ يَوْم القِيَامَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
جهنّم ذات صراط و طريق
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ، إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.۱
يستفاد من هذه الآية أنّ لجهنم طريقاً يوصل سالكيه من الكفّار و الظالمين إليها.
و قال تعالى:
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ ، مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ، وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ، ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ.٢
و قد بيّن في هذه الآية الشريفة أيضاً أنّ هناك طريقاً موصلًا إلى الجحيم، و المراد بالجحيم جهنّم، إذ يُطلق لفظ الجحيم على كلّ نار يلفحها الهواء أو تُنفخ في الموقد فتتقد و يتأجّج لهبها.
جَحَمَتِ النارُ جَحْماً و جَحَماً، و جَحُمَت النارُ جُحُوماً، اشتعلت و اضطرمت و تأجّجت، و من باب جَحَمَ- جَحْماً المتعدّي، و هو إشعال النار و إضرامها.
و صراط جهنّم هو أحد المنازل التي يتوجّب على الكفّار و الظالمين عبوره، و الطريق الذي يجب على المؤمنين أيضاً اجتيازه للوصول إلى الجنّة. و يعلو هذا الصراط جهنّم أو يمرّ في داخلها، و هو كالجسر الذي ينبغي على جميع الناس عبوره. و يدعوه العوامّ خطاً بـ (جسر الصراط)۱ لأنّ الجسر و الصراط لفظان مترادفان لهما معنى واحد، و ليس صواباً أن يُضاف الاسم إلى مرادفه. و نظير ذلك تعبير «شب ليلة الرغائب»، و تعبير «سنگ حجر الأسود».٢
و عليه، فينبغي لنا أن نعلم المكان الذي نُصِب فيه هذا الجسر، أ هو على جهنّم أم في داخلها؟
و هل يتوجّب اجتيازه على جميع الأفراد، أم على بعضهم؟
و هل ينبغي حتماً على من يريد الوصول إلى الجنّة أن يعبر هذا الصراط، أم أنّ للجنّة طريقاً آخر غيره؟
و ما هي حقيقة الصراط أساساً؟ و لِمَ يتوجّب على الإنسان أن يعبره ليصل إلى الجنّة؟
و ما التلازم بين الذهاب إلى الجنّة و العبور على الصراط؟
لا ريب أنّه في باطن و وجدان كلّ فرد من أفراد البشر الذين يعيشون في هذه الدنيا هدف و مقصد يتحرّك لبلوغه؛ سواءً كان على علم بذلك
أم لا.
فكلّ فرد شاء أم أبي يتحرّك في ذاته و حقيقته باتّجاه ذلك المقصد، و يهدف من خلال أعماله و أفعاله إلى ترميم نقاط الضعف في وجوده، و إلى تأمين احتياجاته الباطنيّة و النفسيّة.
لكلّ نفس من النفوس طريق خاصّ إلى الله تعالى
و ممّا لا شكّ فيه أنّنا حين نعيش في هذه الدنيا، نكون في حركة إلى الأمام سنة بعد سنة حتّى يأتي أجلنا فيتعيّن علينا الرحيل. لذا فمن الطبيعيّ أن يكون لنا كذلك سيراً و كدحاً باطنيّاً نحو هدف معيّن. و لا يكون هذا السير بين المسافات المكانيّة الدنيويّة، أي أن نتحرّك من نقطة معيّنة لبلوغ نقطة اخرى، بل هو سير باطنيّ و تحوّل ذاتيّ.
و هذا السير عامّ، لأنّ لجميع أفراد البشر سير في ملكاتهم، الأسود منهم و الأبيض، المؤمن منهم و الكافر و المنافق. و هذه الحركات الخارجيّة التي تصدر عنهم إنّما هي لإصلاح نقاط الضعف الموجودة في أنفسهم، إلى أن يصلوا إلى نهاية السفر و هم يظنّون أنّهم قد بلغوا هدفهم المنشود و قاموا بإصلاح أنفسهم من العيوب و ترميم نقاط ضعفهم.
و ممّا لا شكّ و لا ريب فيه أيضاً أنّه في عين امتلاك جميع أفراد البشر للغرائز، إلّا أنّ تلك الغرائز و الملكات متفاوتة لديهم. فبعض منهم يُخلق شجاعاً، و البعض الآخر جباناً. بينما لبعض متوسّطي الحال درجات و مراتب مختلفة. فكما يمتلك البعض مَلَكة الحياء منذ الطفولة، يتميّز البعض الآخر بالفظاظة و الوقاحة. و كذلك الأمر بالنسبة إلى تفاوت سائر الصفات الاخرى لدى الأفراد، سواء كانت ذميمةً كالبخل و الحسد و الحقد و حبّ الانتقام، أم كانت حسنة حميدة. و لكلّ فرد من هؤلاء سير في ملكاته و غرائزه تلك، و عليه أن يُوصلها إلى حدّ الاعتدال.
لذا ينبغي على كلّ فرد أن يُكمل نفسه حسب قابليّته و استعداده ليكون إنساناً سويّاً معتدلًا في أخلاقه و ملكاته بلا إفراط و لا تفريط.
و يستفاد هنا أنّ في ذات كلّ شخص طريق خاصّ إلى الله تعالى؛ لذا قال أهل الحكمة:
الطُّرُقُ إلَى اللهِ بِعَدَدِ أنْفَاسِ الخَلائِقِ.
أي من حيث النفسيّة الخاصّة التي يمتلكها كلّ موجود؛ فإنّ له طريقاً خاصّاً من باطنه إلى الله تعالى. و بطبيعة الحال، فهذه العبارة ليست آية و لا رواية، بل هي من أقوال الأعلام، و هي مقولة صحيحة و صائبة.
و بغضّ النظر عن ذلك، فلقد جاء الأنبياء و الأولياء لدعوة الإنسان إلى الله عزّ و جلّ، و ليضعوا له خطّة عمل بلحاظ الباطن و الوجدان -ناهيك عن خطّة عمل للخارج- من أجل أن يسير على ضوئها فيبلغ هدفه. على أنّ تلك الطرق التي عيّنوها لبلوغ هذه الغاية مختلفة و متفاوتة.
و مع أنّ الشرائع الإلهيّة تدعو برمّتها إلى التوحيد، إلّا أنّها متفاوتة تكاملًا من حيث القوانين و الأوامر. فشريعة النبيّ موسى -مثلًا- تختلف عن شريعة النبيّ عيسى.
كما أنّ شريعة النبيّ إبراهيم تنتهج طريقاً خاصّاً. أمّا شريعة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله المكمِّلة و المتمِّمة لجميع الشرائع، فتشير إلى الصراط المستقيم الذي يقود جميع قوى الإنسان من حالتَي الإفراط و التفريط إلى الصراط الأوسط، صراط العدالة، و يبلغ بالإنسان إلى هدفه في أسرع وقت و أقصر طريق.
و لقد عاش النبيّ نوح على هذه الأرض تسعمائة و خمسين عاماً بين قومه، حسب ما ذكر القرآن، أمّا رسول الله صلّى الله عليه و آله فكانت
حياته الدنيويّة ثلاثاً و ستّين سنة، امتلك فيها مقامات و درجات عالية من المسلّم أنّه لم يحظ بها النبيّ نوح -مع كونه جدّ نبيّنا الأكرم- و بلحاظ النهج فقد كان تلميذَ مدرسة ابنه، و ربيبَ ولايته و روحانيّته.
وَ إنِّي وَ إنْ كُنْتُ ابْنَ آدَمَ صُورَةً | *** | فَلِي فِيهِ مَعْنى شَاهِدٌ بِابُوَّتِي۱ |
لذا نلاحظ أنّ آدم أبا البشر و نوحاً و إبراهيم و موسى و عيسى و سائر الأنبياء على نبيّنا و آله و عليهم الصلاة و السلام كانوا يتوسّلون بالأنوار الطيّبة للخمسة آل الكساء لرفع الموانع الغيبيّة، و لفتح سُبل السلام، و لطيّ مدارج القرب و معارجه.
و عليه فإنّ سبلهم الباطنيّة إلى الله تعالى كانت مختلفة، إلّا أنّها أيضاً موصلة إلى المطلوب، و هادية إلى مقام قرب الحقّ و معرفته.
و يُلاحظ في الآية المباركة:
وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ٢
أنّ السبل قد جاءت بصيغة الجمع؛ أي أنّ هناك سبلًا و طرقاً للوصول إلى الله عزّ و جلّ لكسب مقام القرب و الخلوص، أمّا الصراط المستقيم فواحد لا يمكن أن يكون أكثر من واحد.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.٣
وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ، وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً.٤
فالذين يسلّمون للّه سبحانه و لرسوله تسليماً محضاً، و لا يجدون في
أنفسهم حرجاً ممّا قضى .. و يطيعون أوامره و مواعظه إطاعة محضة ..
اولئك هم المحسنون المُنعم عليهم بالثبات التامّ و الاستقامة، و بالتالى إتيانهم الأجر العظيم بالهداية إلى الصراط المستقيم.
و قد ورد تعبير «الصراط المستقيم» في القرآن الكريم في ثلاثة و ثلاثين موضعاً، و جميعها بلفظ «المستقيم» و مطلقاً لم يرد لفظ «الصراط» في القرآن بصيغة الجمع «الصُّرُط»، بل بصيغة المفرد. أمّا السبيل فقد تكرّر كثيراً بصيغة الجمع «السُّبُل»، كما في الآيات الكريمة التالية:
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ.۱
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا.٢
وَ ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا.٣
و يستفاد هنا أنّ السُّبل إلى الله سبحانه كثيرة، أمّا الصراط المستقيم فواحد لا غير، و أنّ جميع هذه السبل تكتسب من الصراط المستقيم (الذي يمثّل الفاصلة الأقصر بين العبد و ربّه) بمقدار قربها منه.
فكلّما زادت زاوية الانحراف المتصوّرة لتلك السبل عن الصراط المستقيم، تضاءلت تبعاً لذلك استفادتها من الصراط المستقيم؛ و كلّما قلّت زاوية انحرافها عنه، تضاعفت في المقابل استفادتها منه.
و لو فرضنا أنّ هذه الجهة تمثّل مقام قُرب الحقّ تعالى، فسيمكن تمثيل الصراط المستقيم و السبل المختلفة بالشكل التالى:
و الخلاصة فإنّ الإنسان يأتي إلى هذه الدنيا، فيطوي طريقه فيها إلى أن يموت، سواءً استفاد من نهج الأنبياء أم لم يستفد، إلّا أنّه -في كلّ حال- يمتلك في باطنه سبيلًا، تكامل بتربية الأنبياء أم بقي ناقصاً غير متكامل، فالحقيقة التي لا يعتريها الشكّ أبداً هي حركته الباطنيّة الذاتيّة الدائمة.
و سيكون لهذا السبيل الذي يسلك به الإنسان إلى ربّه في الحياة الدنيا ظهورٌ في عالم القيامة. و قد علمنا سابقاً أنّ جميع موجودات و أفعال عالم المادّة و الطبع و المُلك و الشهادة لها في عالم الغيب و الملكوت صورة ملكوتيّة، و إحداها الصراط، الذي هو الصورة المُلكيّة في هذا العالم لسير الإنسان النفسيّ نحو مبدأه. و صورته الملكوتيّة هناك سيكون الصراط، إذ
لا ريب في أنّ كلّ امرئ في هذه الدنيا يمتلك صراطاً سيظهر في الآخرة بالهيئة الملكوتيّة لذلك العالم.
و لا بدّ أن يكون لصراط الدنيا في عوالم الطبع و المادّة، و الشهوة، و الغضب، و الأوهام و الامور الاعتباريّة، و يربط بين الموجودات المتفرّقة على أساس تلك الامور الاعتباريّة؛ صورة ملكوتيّة تمثّل بروز الصورة المُلكيّة و تجلّيها.
و عليه فإنّ حقيقة الدنيا التي جاء إليها جميع أفراد البشر ثمّ رحلوا عنها ستظهر يوم القيامة و تتجلّى في هيئة جهنّم. و لأنّ الصراط هو الطريق الذي يسلكه الإنسان من الدنيا إلى الجنّة و يقع في جهنّم، لذا يجب عبوره للوصول إلى الجنّة، لأنّ جهنّم هي كلّ ما يُبعد الإنسان عن الله تعالى.
ينبغي على جميع الافراد عبور جهنّم
و ليس المراد بالدنيا هو العيش على الأرض، حيث إنّ كلّ فرد حين يقدم إلى هذه الدنيا سوف يكتسب علائق معيّنة، بل المراد بها العيش في عالم العلائق التي تحجبه عن ربّه و تستدعي غفلته، و ستظهر يوم القيامة و تتجلّى في هيئة جهنّم. و قد ورد في الآية الشريفة: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا.۱
و جاء في الآيات التي سبقتها:
وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ، أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ، فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ، ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا.٢
و يستفاد من جملة وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها التي تنصّ على التعميم فضلًا على الإطلاق؛ و من الحصر بين النفي و الإثبات، أنّ جميع البشر بلا استثناء يردون جهنّم، المؤمنون منهم و الكفّار و المنافقون.
سئل رسول الله: أ تدخل النار أنت أيضاً؟ قال: بلى، لكنّي أعبرها كالبرق الخاطف.۱
و جاء في الرواية أنّ رسول الله بكى حين نزلت الآية المذكورة حتّى ابتلّت الأرض من دموعه، ثمّ نزلت: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا.
و لقد كان صلوات الله عليه و آله يبكي و يذرف الدموع رحمةً بامّته حين سمع بأنّ الله عزّ و جلّ يورد الامّة بأجمعها في جهنّم، لأنّ مسؤوليّة الامّة على عاتق الرسول الحميم الشفيق على امّته.
و علينا أن نرى الآن ما السرّ في ورود الجميع جهنّم؟ إنّ السرّ يكمن في كون جهنّم مظهراً للدنيا في الآخرة. و لقد جاء الأنبياء و الأئمّة و الأولياء إلى هذه الدنيا؛ و هذا يعني أنّهم قد جاءوا إلى جهنّم. و عليهم أن يجتازوها للوصول إلى الجنّة، و لأنّ الدنيا جسر الآخرة، و جهنّم جسر الجنّة؛ و لأنّ بلوغ الجنّة و إدراك مقام قرب الحقّ تعالى أمر متعذّر بدون القدوم إلى الدنيا و بدون المجاهدات النفسانيّة، فلا بدّ للجميع -و الحال هذه- أن يقدموا إلى جهنّم هذه ثمّ لينجوا منها.
لما ذا يجتاز الانبياء الصراط كالبرق الخاطف؟
و نظائر الأنبياء يأتون إلى الدنيا و يرحلون عنها دون أن يعلق بهم أي رجس منها، و دون أن تلبسهم من مدلهمّات ثيابها أو يصطبغوا بصبغتها،
و دون أن يحجبهم عن الله تعالى زوجة أو ولد، و لا كسب و لا تجارة؛ فيجتازون الدنيا كالبرق الخاطف، و يغدون مصداقاً للآية الشريفة:
رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ.۱
هم رجال لم تدنّسهم الدنيا أبداً، و لم تجذبهم إليها.
و يستفاد هنا أنّ ورودهم جهنّم كان من حيث ورودهم إلى هذه الدنيا و خروجهم منها؛ و بما أنّ قلوبهم لم تنصرف إليها أبداً، و لم يتعلّقوا بها و لم يتدنّسوا بأوساخها، لذا فلم يتوقّفوا فيها و عبروها كالبرق الخاطف.
و لقد مكث رسول الله صلّى الله عليه و آله في هذا العالم ثلاثاً و ستّين سنة، إلّا أنّه لم يكن في هذه الدنيا لحظة واحدة. و نقصد بالدنيا محبّة غير الله سبحانه، و الولع بزينة هذا العالم، و الميل إلى عالم الباطل و الغرور.
و إذاً فقد مكث النبيّ على هذه الأرض، إلّا أنّه لم يمكث في الدنيا. و حين قدم إلى الأرض فقد عبر كالبرق الخاطف دونما لحظة تأمّل أو وقوف على سائر العلائق الدنيويّة كالرياسة و الجاه و حبّ المال و أمثال ذلك.
الدنيا تعني عالم الاعتبار، و الإعراض عن الحقائق و الانشغال بالامور الاعتباريّة، و البقاء خلف الحجب الظلمانيّة، و التنزّل عن مستوى الإنسانيّة، و العيش في حدود أفكار البهائم و الشياطين. فهل كانت هذه حياة رسول الله؟ أبداً. فحياة الرسول الأكرم لم تكن على هذا النحو أساساً، و لأنّ النبيّ الكريم لم يعِش طوال عمره الشريف دقيقة واحدة لهدف دنيويّ شأنه شأن أهل الدنيا.
و قد جاء في الرواية أنّ الأنبياء و الأولياء يعبرون الصراط كالبرق الخاطف. أ فرأيتم السماء حين تومض بالبرق؟ أ رأيتم كيف تحار أعينكم لو ميضة؟ و هكذا و بتلك السرعة يجتاز الأنبياء الصراط.
و ما الحياة الدنيا إلّا جسر جهنّم الذي لا بدّ من عبوره للخروج منها، لقد ورد الأنبياء إلى عالم الاعتبار، إلّا أنّهم عبروه بسرعة، لأنّهم لم يتعلّقوا بالحياة الدنيا هنا أبداً، لذا يعبرون الصراط هناك بسرعة أيضاً.
و بغضّ النظر عن الأنبياء و الأئمّة و الأولياء، فللعبور درجات مختلفة باختلاف درجات الأفراد من حيث تعلّقهم بالحياة الدنيا، فالذين تعلّقوا بها، هم في درجة أدنى و بالتالى فإنّ عبورهم مختلف.
فهناك المؤمنون الذين قد جاءوا إلى هذه الحياة الدنيا و ابتلوا بامتحانات عديدة و ذلك لقطع كلّ العلائق الدنيويّة و الوصول إلى مقام التوحيد، فإنّهم سيعبرون الصراط بسرعة، و لكن ليست كسرعة الأنبياء، بل كسرعة الريح.
و من أهل الآخرة هناك أفراد لا يمكن عدّهم من الأشقياء، لأنّهم ليسوا من أهل الذنوب، بل هم من أصحاب اليمين، إلّا أنّ قلوبهم تفتقر إلى ذلك العشق و الحماس، و إلى جذبة أهل التوحيد التي تومض كالشرر فتحرق الأوهام و الامور الاعتباريّة. و على الرغم من أنّهم يبحثون عن الله تعالى، إلّا أنّ بحثهم ينقصه الهمّة العاليّة و العزم القاطع و السرعة الفائقة.
و سيعبرون هؤلاء الصراط كمثل راكب الفرس. و كما يحسّ راكب الفرس خلال عبوره جسراً ما بحرارة النار المتأجّجة تحت ذلك الجسر، فكذلك سيشعر أصحاب اليمين بحرارة النار خلال عبورهم الصراط مع أنّ النار لا تمسّهم.
و هناك آخرون و بالرغم من أنّهم أصحاب اليمين لكنّهم ليسوا على
قدر كبير من الطهارة و النزاهة، فقد كانت لهم بعض الأخطاء، و بعض التقصير، و كانت لهم ذنوبهم التي غفرها الله لهم. و أمثال هؤلاء سيعبرون الصراط بسرعة الراجل.
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ.۱
و نظائر هؤلاء سيدخلون الجنّة دونما شفاعة -كما سيأتي لاحقاً في بحث الشفاعة- إلّا أنّ عبورهم على الصراط سيكون أصعب و أعسر، كما أنّ عبور الراجل على جسر ما أصعب من عبور الراكب. و لا بدّ للراجل من إطالة رؤيته لمنظر النار، و تأثّره بحرارتها بشكل أشدّ.
و هناك بعض الأفراد ممّن ارتكب الكبائر، إلّا أنّ الشفاعة شملتهم باعتبارهم من ذوي الإيمان الراسخ. و أمثال هؤلاء يعبرون الصراط بتؤدة و سير أعرج.
أمّا الظالمون و الكافرون فيهوون في جهنّم. و لكن، كم ستطول إقامتهم فيها؟ الله أعلم.
و بطبيعة الحال فإنّ درجات الظلم و الكفر متفاوتة، و على هؤلاء أن يمكثوا في جهنّم حتّى تطهّرهم النار. و الله أعلم كم سيطول بقاؤهم فيها، فقد يمكثون فيها شهراً واحداً أو شهرين، و قد يبقون سنة واحدة أو سنتين؛ و قد يرزحون فيها عشر سنين أو حتّى ألف سنة، إذ إنّ يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، و عليهم أن يمكثوا في جهنّم حتّى يخرجوا منها. اللهمّ إلّا المخلّدون منهم في النار، الذين استحال وجودهم ناراً.
و سيأتي الكلام لاحقاً عن خصائص أحوال المخلّدين في النار.
إنّ الخارجين من النار يغتسلون في حوض الكوثر، فيتخلّصون من تلك الظلمات و الخرائب ببركة الولاية، و يذهبون إلى الجنّة طاهرين مطهّرين.
و السؤال، هل سيقام الصراط على جهنّم أم في داخلها؟ ليس لدينا رواية صريحة في هذا الشأن، إلّا أنّ الطبرسيّ ينقل في «مجمع البيان» رواية عن ابن مسعود تلقي أضواءً على المطالب المذكورة. قال:
درجات عبور الناس على الصراط يوم القيامة
عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَالَ: يَرِدُ النَّاسُ النَّارَ ثُمَّ يَصْدُرُونَ بِأعْمَالِهِمْ، فَأوَّلُهُمْ كَلَمْعِ البَرْقِ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَحَضْرِ الفَرَسِ، ثُمَّ كَالرَّاكِبِ، ثُمَّ كَشَدِّ الرَّجُلِ ثُمَّ كَمَشْيِهِ.۱
و جاء في «تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ»:
الصِّرَاطُ أدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ وَ أحَدُّ مِنَ السَّيْفِ.
و هذا الصراط المستقيم هو نفسه صراط عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فما أدقّه و ما أحدّه!
تأمّلوا في أعمال أمير المؤمنين عليه السلام، و انظروا إلى كلّ لحظة من لحظاته و كيفيّة مراعاته من جميع الجهات لُامور الظاهر و الباطن، و إلى جمعه بين العوالم، و إعطائه كلّ ذي حقٍّ حقّه، و سيره في عالم الوحدة سيراً لا يمزج فيه أحكام ذلك العالم مع أحكام عالم الكثرة، و إلى إيفائه حقّ عالم الكثرة، و قيامه عبداً محضاً في مقام العبوديّة للحقّ تعالى، و مراعاته في كلّ الحركات و السكنات لآثار توحيده عزّ و جلّ في جميع العوالم، و ملاحظته لجميع الجوانب الضروريّة لدرجات السلوك و المجاهدة على أعلى نحوٍ و أتمّه. ليس فقط للحظة واحدة أو للحظتين، بل في جميع
مراحل حياته الكريمة.
و تأمّلوا كم كان لطيفاً و عميقاً و دقيقاً! و كم كان قاطعاً محتاطاً مراقباً! و من الطبيعيّ أن لا يهوي الإنسان في جهنّم بانحراف بسيط، بَيدَ أنّه بذلك لا يعطي حقّ ذلك الصراط المستقيم المتناهي الدقّة و بمقدار انحرافه يقلّ حظّه في الانتفاع من الصراط المستقيم. و كلّما زاد الانحراف زاد الخطر الذي يواجهه، و قلّت استفادته من هذه الخصوصيّة للاستقامة في الطريق.
و هذا الصراط المستقيم هو الذي يقول عنه الإمام الباقر عليه السلام بأنّه أدقّ من الشعرة و أحدّ من السيف، و الذي يختلف عبور الناس عليه ما بين البرق الخاطف و سرعة الريح و حضر الفرس و كالراكب و كشدّ الرجل و مشيه، و ذلك بنفس درجة انحراف سلوكهم و نهجهم عن سيرة الإمام و نهجه.
و حقيقة المطلب أنّه لا بدّ للإنسان أن يعيش في هذه الدنيا، ثمّ يتخطّاها إلى العوالم الاخرى، فإذا عاش مقتدياً بالأنبياء و الأئمّة الطاهرين في صدق و أمانة و توحيد، فقد عبر الدنيا عبوراً حسناً، و إلّا فقد خسر، لأنّ الصراط هو الصورة الواقعيّة الحقيقيّة للإنسانيّة، و حقيقة تلك الصورة سيرة عليّ بن أبي طالب و نهجه.
لقد عمل أمير المؤمنين عليه السلام في الزراعة، حيث زرع البساتين و حفر قنوات المياه و غرس النخيل، إلّا أنّه بقي طاهراً مطهّراً من الرجس، تزوّج و أنجب و بقي الطُّهر الطاهر، تسلّم منصب الحكم و لم يتدنّس بالأنجاس. هذا بالإضافة إلى الأعمال الاخرى التي كان يقوم بها كبقيّة الناس، و مع ذلك فله نهجه المختلف عنهم، إذ لم تكن له نيّة أو غرض أو قصد إلّا نفس تلك الأعمال خالصة للّه سبحانه و تعالى، أمّا الناس فيعملون نفس الأعمال و لكن بنوايا عدّة. و هذا هو مفترق الطريق ما بين
أولياء الله و سائر الناس. فلأعمال أولياء الله صبغة إلهيّة، و هل أحسن منها صبغة؟
صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً.۱
أولياء الله لا يتحيّرون عند عبورهم على صراط الجنّة
و بطبيعة الحال فإنّ أولياء الله لا يرتقون إلى مقام و مرتبة أمير المؤمنين عليه السلام، و لكن من الممكن أن يصبح صراطهم مستقيماً و أن يعبروه أيضاً كالبرق الخاطف، و ذلك على أثر متابعتهم له و اقتدائهم به، إذ يصلون إلى مقام المقرّبين و المخلصين، و من يصل إلى هذا المقام الرفيع، فلا معنى للنار بعد عنده.
و هذه هي الحقيقة، فالأئمّة عليهم السلام، أئمّة لأجل أن يأخذوا بأيدي الناس ليسلكوا بمعيّتهم نفس الطريق .. و إلّا ما صدق معنى الإمامة ... إنّهم الذين يسيرون على الصراط المستقيم و لا فزع لهم و لا هم يحزنون.
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ.٢
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ.٣
وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ، وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً.٤
و لأنّ صراطهم مستقيم، فإنّهم يعبرون بلحظة واحدة طرفي جهنّم، كما أنّهم كالأنبياء و الأولياء قد تطهّروا من الرجس كلّيّاً، و هذا من لوازم مقام التسليم و الطاعة الذي جعلهم في معيّة الأنبياء و الأولياء و حَسُنَ اولئك
رفيقاً. و جعلهم من أصحاب الصراط المستقيم؛ الصراط الذي ندعو الله تعالى كلّ يوم عدّة مرّات بقولنا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، راجين هدايتنا إليه بكلّ ما للهداية من معنى.
و الخلاصة، فإنّ الله سبحانه سيوفِّق لنيل هذا المقام مَن يطع الله و رسوله في الدنيا طاعة محضة، دون أن يجد في نفسه حرجاً ممّا قضى الله و رسوله، و يسلم تسليماً مطلقاً ... و هؤلاء هم الذين يقطعون الصراط كالبرق.
أمّا: أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ؛ فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ.۱
فهم من السعداء، بَيدَ أنّهم لم يمتلكوا ذاك الثبات الجازم التامّ في التوحيد، و لم يرتقوا إلى منزلة المعيّة مع الأنبياء بواسطة تلك الطاعة الصرفة كالسيف القاطع، و لم يحظوا بدقّة العبوديّة المتناهية ليتحمّلوا الأسرار الخفيّة للأنبياء و الأئمّة، و لم يصلوا إلى لقاء الله تعالى و لم يعرفوا حقّ المعرفة معنى: إلَهِي مَا عَبَدْتُكَ خَوْفاً مِن عِقَابِكَ، وَ لَا طَمَعاً في ثَوَابِكَ، بَلْ وَجَدْتُكَ أهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُكَ.٢
فهم يقولون: إلهنا؛ لقد جئنا إلى هذه الدنيا لنعيش، و أمرتنا أن نفعل كذا و أن نجتنب كذا، فلم نأكل المال الحرام، و لم نسرق، و لم نقامر، و لم نعتدِ على أعراض الناس و نواميسهم، لكنّنا نريد أن نعيش هذه الحياة الدنيا، و نسعى إلى الطعام اللذيذ، و ننتظر وعدك إيّانا بالحور العين و الجنّات و الأنهار؛ نريد هذه الامور و نشتهيها.
و مهما خاطبهم تعالى بأنّه سيمنحهم تلك الامور، إلّا أنّ عليهم أن لا يكتفوا، و أن يتطلّعوا إلى ما فوقها، و أن يعرفوا غاية إمامهم و هدفه.
هر آنكه كارَد قصدِ گندم بايدش | *** | كاه خود اندر تَبَع مىآيدش۱ |
قالوا إنّ إمامنا و قدوتنا، إنّما كان عليّ بن أبي طالب؛ فما شأننا نحن و أين نحن منه؟
و على هذا، فإنّ هؤلاء الأفراد اناس صالحون، و لكن لا يمتلكون تلك المزايا المطلوبة، كما أنّهم يفتقرون إلى دقّة الصراط. و سيطول عبور هؤلاء على الصراط بقدر تعلّقهم بالدنيا. إذ سبقت الإشارة إلى أنّ الآخرة يجب أن تُدرَك من خلال الدنيا. لقد كنّا في الجنّة و لكن في جنّة القابليّة لا جنّة الفعليّة. و شتّان بين الجنّة التي عقدنا العزم على الذهاب إليها، و شددنا الرحال و أعددنا الزاد و الراحلة للسفر نحوها، و بين الجنّة التي كنّا فيها سابقاً! حيث الفاصلة عبارة عن مائة ألف سنة. فشتّان بين هذه و تلك!
شكر مازندران و شكر هندوستان | *** | هر دو شيريناند امّا اين كجا و آن كجا |
دانة فلفل سياه و خال مه رويان سياه | *** | هر دو جان سوزند امّا اين كجا و آن كجا٢ |
تماماً كالفرق بين شجرة تفّاح كبيرة مترامية الأطراف قد تشابكت أغصانها فأحالت ما حولها إلى روضة غنّاء، و اثقلت بألف تفّاحة حلوة
المذاق، فصارت تخطف الأفئدة بدلالها و غنجها؛ و بين بذرة تفّاح واحدة.
و مع أنّ شجرة التفّاح هذه هي ذاتها بذرة التفّاح تلك. و تلك البذرة هي ذاتها هذه الشجرة، و لكن أين هذه من تلك؟! و كم هو كبير الفرق بينهما؟!
و بينما تمثّل هذه الفعليّة و تجسّد التفّاح الحلو المبهج، تمثّل تلك القابليّة و الإمكان المحض. و الأمر على هذا المنوال بالنسبة إلى الجنّة التي وُجدنا فيها سابقاً، ثمّ توجّب علينا أن نأتي إلى هذه الدنيا، و أن نعبر من جهنّم و نجتاز مدرسة الامتحان و الابتلاء.
إنّ طريق الجنّة هو الصبر و التحمّل و الاستقامة.
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ.۱
وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ.٢
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ.٣
و من البديهيّ أنّ علم الله تعالى علم حضوريّ، و إنّ نفس أعمال الناس و تحققها في الخارج تمثل علم الله عزّ و جلّ؛ فيكون معنى علمه سبحانه هو نفس إتيان الناس بالأعمال.
الم ، أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ.٤
و يكون بلوغ جنّة الفعليّة -أي الجنّة التي تُدرَك في القيامة بعد طيّ
عالم البرزخ- بعد اجتياز الامتحانات في الدنيا. فمن تفوّق في امتحانه و نتيجته كان أقرب إلى الصراط المستقيم، و أجدر و أليق بنهج عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
و مع أنّ أصحاب اليمين هم السعداء الذين عملوا الصالحات و اجتنبوا القبائح و السيّئات و الأعمال الطالحة، إلّا أنّهم -مع ذلك- لم يتمكّنوا من استئصال أساس التعلّق بالدنيا و بما سوى الله تعالى من وجودهم. و نقصد بالدنيا كلّ ما سوى الله عزّ و جلّ، مهما كان و في أي مقام و درجة و فضيلة كان.
فغير الله تعالى -مهما كان- هو دنيا، و لو كان جنّةً و مقاماً؛ لأنّ الدنيا هي الحياة الفانية، فمن لم يحصر هدفه في الذات القدسيّة للحضرة الأحديّة، عاش حياةً متدنّية و لو تحلّى خلال ذلك بالفضائل و المكارم.
إنّ أصحاب اليمين يعبرون جهنّم، إلّا أنّهم لم يدركوا حقيقة النار في الدنيا، فاقتربوا منها بعض الشيء، لذا سيكونون كالراكب أو الراجل الذي يتحيّر خلال عبوره من مناظر جهنّم، و ينزعج من حرارتها و هوائها المؤذي.
في الصراط المستقيم و الصراط المنحرف
أمّا المقرّبون و الأبرار، فهم الذين عرفوا حقيقة النار و وعوها، فلم تتعلّق قلوبهم بها، لذا صاروا يعبرونها كالبرق الخاطف و كالريح العاصفة.
وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً.۱
و أمّا الذين لم يؤمنوا بالله و لم يعتقدوا بيوم الجزاء، و الذين ظنّوا هذا العالم عالم فوضى لا حساب بعده، فيقول تعالى عنهم:
وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ.۱
صراط علىّ بن أبي طالب هو الصراط المستقيم الاوحد.
نعم، الصراط هو صراط عليّ بن أبي طالب، و صِرَاطُ عَلِيّ حَقّ نُمْسِكُهُ. ذلك النهج هو نهج الحقّ الذي ينبغي الاقتراب منه و التمسّك به، و الدنوّ منه كلّ يوم أكثر فأكثر، حتّى يغدو المرء تابعاً له تمام الإتباع، و حتّى يُضحي لعليّ شيعةً و يلحق به و يصحبه إلى الجنّة التي أدركها و سعى إليها. و عليه أن لا يتعدّى ذلك الصراط في جميع الأفعال و الأقوال، فذاك -لعمري- هو الخسران المبين.
نقل المحدّث القمّيّ عن كتاب «مصابيح الأنوار» قال:
بَلَغَنَا أنَّ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اشْتَهَى كَبِداً مَشْوِيَّةً عَلَى خُبْزَةٍ لَيِّنَةٍ، فَأقَامَ حَوْلًا يَشْتَهِيهَا، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ هُوَ صَائِمٌ يَوْماً مِنَ الأيَّامِ، فَصَنَعَهَا لَهُ، فَلَمَّا أرَادَ أنْ يُفْطِرَ قَرَّبَهَا إلَيْهِ، فَوَقَفَ سَائِلٌ بِالبَابِ. فَقَالَ: يَا بُنَيّ احْمِلْهَا إلَيْهِ، لَا نَقْرَأ صَحِيفَتَنَا غَدَاً: «أذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَ اسْتَمْتَعْتُم بِهَا».٢
و قد استشهد الإمام في بيانه هذا بالآية ٢۰، من السورة ٤٦: الأحقاف: وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ.
تأمّلوا عليّ بن أبي طالب هو خليفة المسلمين و حاكم العالم الإسلاميّ و قد اشتهى كبداً مشويّة، فينقضي عليه الحول و هو يغالب اشتهاءه٣ دون
أن يسعه المجال لتحقيقه، و دون أن يُلقي إليه بالًا، بحيث لم يسعه الوقت و لا الحال طوال سنة كاملة ليقول جملة واحدة: (أريد كبداً مشويّة).
و بعد مرور سنة، و عند الإفطار يرى خليفة الإسلام ما اشتهاه ماثلًا أمامه، لكنّه يعتبر مدّ يده إليه لانتزاع لقمة منه -مع وجود سائل يطرق الباب- انشغالًا بالحياة الدنيا، و استمتاعاً بالطيّبات في الحياة الحيوانيّة، و تنزّلًا عن مقام الإنسانيّة، فيُعرض عنها دون أن يأمر ابنه بإعطاء السائل نصفها، بل يقول له: احملها إليه! فليأكل السائل هنيئاً مريئاً، و لنتفرّج نحن!
هذه هي الحياة العليا، و هذه هي الحياة الرفيعة السامية، و هذه هي حياة الإنسان و تواجده في صراط الإنسانيّة المستقيم: أن يؤثر المرء على نفسه، فيُعرض عن طعامه الذي اشتهاه طوال سنة، و صار يراه الآن ماثلًا أمامه على مائدة فطوره، و يُعطيه للسائل.
هذا هو الصِّراطُ المُستَقيم. اقسم بالله عليكم، لو فكّرتم من الآن إلى يوم القيامة، فهل ستعرفون صراطاً أكثر استقامة من هذا الصراط؟
أ وَ يمكنكم أن تتصوّروا في ذهنكم أفضل منه و أحسن؟!
إنّني كلّما تأمّلت في هذه القصّة و نظائرها التي ملأت بحمد الله و منّه صفحات تأريخنا و عطّرتها بسيرة ذلك الإمام و سائر الأئمّة الطاهرين؛ و قارنتُ ذلك باسلوب معيشة خلفاء الإسلام الجائرين أمثال بني أُميّة و بني العبّاس ممّن تسلّطوا على رقاب الناس باسم الإسلام و عنوان خلافة رسول الله، غمرتني الحيرة و العجب الشديدينِ.
لقد كانت الموائد تبسط لمعاوية و فيها ألذّ أنواع الأطعمة في الدنيا، من لباب الفستق و دهن مخّ طيور نادرة؛ فكان يأكل بإفراط دون أن يشبع.
و كان يقول: كللت من المضغ و لم أشبع بعدُ!
قيل إنّ زوايا فمه كانت لا تنفكّ مصفرّة من الطعام، و كان نهماً في أكله عجولًا بحيث كان كُمّ ردائه ملوّثاً بالدسم. و يُعرض حاليّاً أحد أرديته ذات الأكمام المعروفة في أحد المتاحف العالميّة المشهورة؛ و هذا الصراط صراطٌ معاكس للإنسانيّة. لذا نجد أمير المؤمنين عليه السلام يعبّر عن معاوية بالإنسان المعكوس و الجسم المركوس:
وَ سَأجْهَدُ في أنْ اطَهِّرَ الأرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ المَعْكُوسِ وَ الجِسْمِ المَرْكُوسِ.۱
يقول أحد شعراء أهل البيت في عصر الإمام الصادق عليه السلام:
سَمَّاهُ جَبَّارُ السَّمَا | *** | صِرَاطَ حَقٍّ فَسَمَى |
فَقَالَ في الذِّكْرِ: وَ مَا | *** | كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى |
هَذَا صِرَاطِي فَاتْبَعُوا | *** | وَ عَنْهُمُ لَا تُخْدَعُوا |
فَخَالَفُوا مَا سَمِعُوا | *** | وَ الخُلْفُ مِمَّنْ شَرَعَا٢ |
المَجْلِسُ الثَّانِيَ وَ الخَمْسُونَ: في حَقِيقَةِ الصِّرَاطِ، وَ انْحِصَارِ مِصْدَاقِهِ الأعْلَى بِأمِيرِ المُؤمْنِيِنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.۱
تكرّر ذكر الصراط المستقيم في القرآن الكريم، كما شاع ذكره و تكرّر في السُّنَّة النبويّة و أحاديث المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين و سنبحث في هذا المجلس بحول الله و قوّته في حقيقة الصراط، ثمّ في حقيقة الصراط المستقيم، ليتجلّى واقعهما للعيان.
الصراط إلى الله هو طريق باطنيّ في نفس الإنسان إلى الله تعالى
و لا بد -وصولًا إلى ذلك- من مقدّمتين.
المقدّمة الاولى: إنّ الألفاظ الموضوعة و المستعملة في اللغات المختلفة لدى الجماعات المتباينة لفهم المعاني و تفهيمها، هي ألفاظ ذات معانٍ عامّة. و لا يمثّل المعنى الموضوع له اللفظ أو المستعمل فيه اللفظ خصوص فرد معيّن من أفراد ذلك المعنى.
فلفظ «المصباح» مثلًا قد وُضع لمعنى عامّ، و هو عبارة عن موجود نورانيّ يضيء الموجودات المظلمة بأشعّته، و ذلك ضمن مدى إشعاعه.
و كان المصباح منحصراً في الماضي بفتيلة توضع في وعاء للزيت، ثمّ توقد تلك الفتيلة فينبعث منها النور و الدخان. و كان ذلك الشيء المعيّن بتلك الكيفيّة الخاصّة يُدعى مصباحاً. ثمّ شاع استعمال النفط و الفانوس النفطيّ، فأضحوا يضعون النفط في وعاء مغلق و يثبتون فيه فتيلة يغطّونها بزجاجة، و دعوه مصباحاً دون أن يغيّروا في الاسم أدنى تغيير كأنّ معنى المصباح الذي كان يشتعل بالزيت سابقاً، هو بعينه معنى المصباح النفطيّ ذي الزجاجة.
فلا خصوصيّة إذاً لزيت المصباح و دخان الفتيلة في معنى اسم المصباح، بل إنّ معناه هو المعنى العامّ الذي يمثّل جسماً نورانيّاً مضيئاً.
و باعتبار أنّ هذا المعنى الكلّيّ لا يختلف في هذين الفردينِ من فئة المصباح، فقد استعمل لفظ «المصباح» للفرد الثاني بنفس العناية التي استعمل بها للفرد الأوّل.
و استمر الأمر على هذا النحو حين اخترع المصباح الغازيّ، و تبعه المصباح الكهربائيّ بأنواعه المختلفة، حيث اطلق عليها بأجمعها اسم المصباح؛ و لا يختصّ الأمر بلفظ المصباح، فقد كان لفظ المصباح مجرّد مثال، بل إنّ الأمر ينسحب على جميع الألفاظ في جميع لغات الدنيا، حضريّة كانت أم بدويّة.
و الأمر على هذه الشاكلة بالنسبة إلى لفظ «الصراط» فهو يعنى الطريق و الشيء الذي يُوصَل من خلال طيّه إلى شيء آخر، و الواسطة و الرابط بين أمرينِ، بحيث يرتبط ذانك الأمران بينهما من خلال الحركة و السير في تلك الواسطة؛ سواءً كان ذلك الطريق طبيعياً أم صوريّاً و مثاليّاً أم نفسيّاً، و بجميع الأقسام و الجهات المختلفة التي يمكن تصوّرها في كلّ نوع.
فالفاصلة بين مدينتين أو بيتين تدعى صراطاً، و الفاصلة بين قطبين
كهربائيّين، و بين الشرايين و الأوردة التي تنقل الدم من القلب إلى نقاط البدن و تعيده من نقاط البدن إلى القلب، و قراءة الكتاب التي تُعدّ طريقاً لتحصيل العلم؛ و السفر في البحر و الصحراء للتجارة، الذي يمثّل سبيلًا لإعانة خلق الله و تهيئة ضروراتهم المعيشيّة؛ و الزراعة لتحصيل الغذاء؛ و عبادة الله التي هي سبيل للتقرّب إليه؛ و الموت الذي يجسّد الطريق للورود في عالم البرزخ؛ و الموت من البرزخ الذي يمثّل طريق الورود إلى عالم القيامة؛ و إظهار الشهادتينِ الذي يعدّ طريقاً للإسلام؛ و الولاية التي هي الطريق للإيمان؛ و أخيراً الواسطة التي يحتاجها المرء للوصول إلى أي شيء، هي بأجمعها امور تدعى صراطاً.
و من الجليّ أنّه على الرغم من صدق معنى الصراط على جميع هذه المصاديق، و أنّ هذا الصدق صدق حقيقيّ لا مجازيّ، إلّا أنّ من البديهيّ أنّ أفراد هذا المعنى تتفاوت فيما بينها. فالطريق إلى «كرمان» هو غير الطريق لتقييم العدالة. و طريق الوصول للمحبوب هو غير طريق الوصول إلى مجهولٍ في المعادلات الجبريّة. كما أنّ طريق الجنّة هو غير طريق حلّ المسائل الرياضيّة.
المقدّمة الثانية: جاء في الآيات القرآنيّة الكريمة و الروايات الواردة عن المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين أنّ الله عزّ و جلّ قد عيّن طريقاً معيّناً لبلوغ المقام الكريم للإنسانيّة، و للتقرّب إلى الله و إيصال القوي إلى فعليّتها، و للقاء الله سبحانه، و لطيّ مراحل الكمال و درجاته. كما أنّه نهي عن سلوك بعض السبل. مثل آية:
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي.۱
و آية: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى.۱
و آية: وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.٢
أمّا الآن و قد اتّضحت هاتان المقدّمتان، فنقول بأنّ صراط الله تعالى هو السبيل إليه. و لأنّه عزّ و جلّ ليس له مكان خارجيّ، فإنّ المقصود من السبيل -إذاً- هو السبيل من النفس لمعرفة ذات الله القدسيّة جلّ جلاله.
فالإنسان يمتلك حالات روحيّة مختلفة من بداية عمره إلى آخر لحظة من حياته، كما يمتلك حركات نفسانيّة و ملكات أخلاقيّة نشأت من تكرار أعماله و حالاته. فهو ينتقل باستمرار من صورة إلى صورة، و من حالٍ إلى اخرى، و من عقيدة إلى اخرى، و من كمال إلى آخر، حتّى يصبح من المقرّبين و السابقين. فإن أخذت العناية الإلهيّة بيده، صار من الكاملين.
و إن كان من المتوسّطين، صار من أصحاب اليمين. أمّا لو قاده الشيطان و النفس الأمّارة، صار من الأشقياء و أصحاب الشمال.
على أنّ في وجدان و باطن نفس كلّ فرد من أفراد البشر طريقاً إلى الله تعالى، كما أنّ جميع الأعمال التي يقوم بها في الظاهر، إنّما يقوم بها وفق خطّته الباطنيّة. و يُدعى ذلك الطريق الباطنيّ بالصراط.
و باعتبار أنّ كلّ فرد من الأفراد يمتلك صفاتاً و ملكات و غرائز خاصّة، و يمتلك -في النهاية- عقائد و شاكلة و منهاجاً يختصّ به؛ فإن لكلّ فرد طريقاً خاصّاً إلى الله تعالى. و يتّضح على هذا الأساس بجلاء معنى الكلام المعروف: الطُّرُق إلَى اللهِ بِعَدَدِ أنْفَاسِ الخَلائِقِ.
بَيدَ أنّ هذه الطرق -على كثرتها و تعدّدها- تعدّ مستقيمة فيما لو بلغت بالإنسان من خلال أقصر فاصلة و أدنى زمان إلى جنّة مرضاة الله الجليل و لقائه و الاندكاك و الفناء المحض في ذاته عزّ و جلّ. و هذا هو طريق المعرفة الذي يُعتبر كلّ واحد من الأئمّة مبيّناً و شارحاً و مفصّلًا له. بل إنّ وجود الإمام هو نفس الصراط و التحقّق الخارجيّ للصراط المستقيم. الإمام هو الصراط المستقيم، من أجل أن يسلك أتباعه الطريق الذي سلكه و انتهجه.
و باعتبار أنّ الإمام قد طوى، من خلال طريق صفاته، أسرع و أقصر و أقرب الطرق إلى الله تعالى، فإن نفس الإمام تمثّل الصراط المستقيم إلى الله سبحانه، و هو حقّاً طريق أحدّ من السيف و أدقّ من الشَّعرة.
يُروى عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال:
إنّ الصُّورَةَ الإنْسَانِيَّةَ هِيَ الطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ إلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَ الجِسْرُ المَمْدُودُ بَيْنَ الجَنَّةِ وَ النَّارِ.۱
و بطبيعة الحال، و كما سبق أن ذكرنا، فإنّ جميع موجودات هذه النشأة لها ظهور في نشأة القيامة، كما أنّ الصراط -بدوره- له ظهور و تجلٍّ، و ذلك الظهور و التجلّي هو الطريق الذي يسلكه الإنسان في الدنيا، لأنّ حقيقة الدنيا تتمثّل في جهنّم، و صراط جهنّم هو الطريق الذي يسلكه الإنسان في الدنيا تجاه الله تعالى. فالبعض يعرج و يتعثّر عند عبوره هذا الصراط فيهوي في جهنّم. و اولئك هم المغمورون في الشهوات، و المنغمسون في المادّيّات و اللذائذ الدنيويّة، إلّا أنّهم لمّا آمنوا بالله عزّ و جلّ فقد أضحوا يعبرون الصراط بقدم عرجاء.
في اختلاف العبور على الصراط تبعاً لاختلاف درجات الإنسانيّة
روي في «تفسير القمّيّ» عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
هُوَ أدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ وَ أحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ مِثْلَ البَرْقِ، وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ مِثْلَ عَدْوِ الفَرَسِ، وَ مِنْهُمْ مَن يَمُرُّ عَلَيْهِ مَاشِياً، وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ حَبْواً، وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقاً فَتَأخُذُ النَّارُ مِنْهُ شَيْئاً وَ تَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئاً.۱
و هذه الطرق بأجمعها طرق إلى الله تعالى، منتهى الأمر أنّها مختلفة تبعاً لحركة النفوس المختلفة. و هي -بعبارة اخرى- طريق واحد، إلّا أنّ سرعة العبور عليه مختلفة تبعاً للنفوس المختلفة. و أقرب الطرق و أقصرها و أسرعها هو صراط الإمام. أي ذلك الطريق الذي طواه الإمام بحسب ظروف الزمان و المكان و المقتضيات، و بما يحمله من عقبات و مشاكل و صعاب. أمّا باقي السبل فتمتلك حظوظاً متفاوتة من الصراط المستقيم بحسب قربها أو بعدها من هذا الطريق.
و من هنا يتجلّى بوضوح كيف أنَّ عَلِيَّاً عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ.
يتمثّل السبيل الذي يطويه الإنسان باتّجاه ربّه في نفس الإنسان، إذ ينبغي على الجميع أن يجتازوا أنفسهم لكي يصلوا إلى الله عزّ و جلّ.
و باعتبار تفاوت النفوس طهارةً و نزاهة، و اختلافها بلحاظ الصدق و الصفاء، و شوائب الإنّيّة الشخصيّة و الاستكبار، و في خلوص النيّة و التزكية، فإن هذه السبل ستتفاوت من ثَمّ و تختلف. ثُمّ إنّ النفس التي تتفوّق في إخلاصها و صدقها و صفائها و تزكيتها و طهارتها و سرعة حركتها ستجسّد الصراط المستقيم. و لا نعرف من بين جميع النفوس، و من ضمنها نفوس الأنبياء،
نفساً تفوق أو تماثل -بلحاظ استقامة الطريق- نفس الرسول الأكرم و نفس عليّ بن أبي طالب و نفوس الأئمّة من ذرّيّتهما بالحقّ. لذا، فإنّهم هم الصراط الأقوم و السبيل الأعظم.
أنْتُمُ الصِّرَاطُ الأقْوَمُ وَ شُهَدَاءُ دَارِ الفَنَاءِ وَ شُفَعَاءُ دَارِ البَقَاءِ.۱
حقيقة الصراط: مسير العودة إلى نقطة بداية قوس النزول
إنّ حقيقة الصراط هي الطريق الذي لا اعوجاج و لا انحراف فيه -مهما كان جزئيّاً- الذي يبلغ بالإنسان إلى وطنه الأصليّ، و هو حرم أمن الله و أمانه. أي ذلك الطريق المستقيم الذي يحرّك الإنسان و يسوقه إلى نقطة بداية نزوله إلى هذا العالم.
و لقد نزل الإنسان إلى عالم الطبع هذا من مبدأ معيّن، و كان يمثّل قوّةً و قابليّة محضة، فتوجّب عليه في هذا العالم أن يحوّل جميع القوى و القابليات إلى فعليّتها من أجل العودة إلى نفس النقطة بفعليّة تامّة. و يدعى طريق العودة و كيفيّة الرجوع صراطاً، كما تدعى طهارة الطريق و نزاهته و سرعته في الإيصال استقامةً.
و على جميع أفراد البشر -شاءوا أم أبوا- أن يطووا هذا الطريق إذ إنّهم يمتلكون -كلًّا بدوره- من الصفات الموهوبة من الله عزّ و جلّ و من الغرائز الجبلّيّة ما يمكنهم أن يبلغوا مرحلة كمالهم من خلال هذه الصفات و الغرائز و بواسطة مجاهدتها و تطهيرها. فإن بلغوا مرحلة الكمال انكشفت الحقيقة لهم و حظوا بمقام لقاء الله عزّ و جلّ.
بَيدَ أنّ هناك فاصلًا بين الذين يحظون بلقاء الله من خلال التجلّيات الجماليّة للحقّ عزّ و جلّ، و بين الذين يحصلون على كشف للحجب من
خلال التجلّيات الجلاليّة و القهّاريّة، فيصلون إلى نقطة عودتهم بواسطة ظهور أسماء الله مثل الجَبَّار و شَدِيدُ العِقَاب و المُنْتَقِم و أمثال ذلك.
على أنّ الإنسان يصل إلى المقصد في نهاية الأمر من خلال نسيان الطبع و المادّة و الموت الاختياريّ أو الاضطراريّ، فتتجسّد فيه التجلّيات الربّانيّة. إلّا أنّ الاستفادة من خصوصيّات أسماء الله و صفاته تتفاوت باختلاف الدرجات التكامليّة للنفوس، فإن كان في حركته ملتفتاً إلى الحقّ مستعيناً به تاركاً للنفس الأمّارة و متناسياً لها، كان طريقاً مستقيماً. أي أنّه يطوي السبيل المستقيم من خلال استفادته من صفاته. فإن راجع وجدانه في كلّ لحظة و كلّ حادثة تمرّ عليه، فأبعد عن عينه كلّ شائبة من النوايا التي تبعده عن مسيره، و طرد عنها ألوان الشهوات و الغضب و الخواطر الوهميّة و الشيطانيّة، و لم يعمل شيئاً دون الالتزام بهذه القاعدة، فسيكون قد خطا في الصراط المستقيم، لأنّ الإنسان بصير على عمله و نيّته، و يفهم ما يعمله، كما يدرك فيما لو ابتعد عمله عن جوانب الإفراط و التفريط أم لا.
أمّا لو شابت نيّة الإنسان و خلوصه شائبة، لأدّى ذلك الانحراف إلى خروجه عن الصراط المستقيم. فإن كان انحرافه عن ذلك الصراط يسيراً، كانت استفادته من الصراط كبيرة. أمّا إذا ازداد انحرافه عن الصراط، قلّت تبعاً لذلك استفادته من ذلك الصراط.
فالشخص الذي يتحرّك في سلوكه بزاوية انحراف خمس درجات عن الصراط المستقيم، له حظّ من الصراط أعظم من المتحرّك بزاوية انحراف خمس و أربعين درجة. و إذا ما انحرف هذا الأخير على تسعين درجة، فقد انعدمت استفادته من الصراط المستقيم. فإن زاد على التسعين و تحرّك في الجهة المعاكسة، صار لا يزيد من الله إلّا بُعداً، و هو في هذه
الحالة لا يستفيد شيئاً من الصراط المستقيم، و كلّما ازداد حركة ازداد دخولًا في الظلمة و تكاثرت عليه الحجب.
و بيان ذلك أنّ الصراط الذي يقود الإنسان إلى الله تعالى ليس جسراً حقيقيّاً من الحديد و الطابوق و القير و أمثال ذلك، بل هو طريق نفسانيّ يتوجّب على النفس أن تتحرّك فيه، فيكون هذا الصراط مطابقاً لتلك العادات و الصفات النفسانيّة.
على أنّ لكلّ مسيرٍ نحوٌ خاصّ، كما أنّ السير في كلّ طريق له كيفيّة خاصّة مختصّة به. فلو شاء المرء -مثلًا- الذهاب إلى المسجد، توجّب عليه طيّ الطريق الأرضيّ. أمّا لو شاء السفر إلى مكّة، لتوجّب عليه اختيار الطريق الجوّيّ أو البحريّ. أمّا لو شاء الإنسان السير إلى الله سبحانه، فإنّ الأمر سيتعدّى أمر الحركة في الأرض و البحر و الجوّ، إذ ليس للّه من جهة و لا مكان خاصّ. و على المرء -و الحال هذه- أن يسير في صفاته.
و ستكون هذه الحركة حركةً و سيراً من نوع مختلف، كما أنّ ذلك الصراط هو الصراط النفسانيّ، و سيكون ذلك العبور عبوراً من جميع الإنيّات في عوالم الحسّ و المثال و العقل، و إيكال أرجاء مراتب الوجود إلى الحقّ سبحانه و تعالى.
و أجاد العارف الجليل الشيخ محمّد الشبستريّ حين أنشد في هذا المجال:
جهان آن تو و تو مانده عاجز | *** | ز تو محرومتر كس ديد هرگز۱ |
چو محبوسان به يك منزل نشسته | *** | به دست عجز پاى خويش بسته |
نشستى چون زنان در كوى ادبار | *** | نميدارى ز جهل خويشتن عار |
دليران جهان آغشته در خون | *** | تو سر پوشيده ننهى پاى بيرون |
چه كردى فهم از دين العجائز | *** | كه بر خود جهل مىدارى تو جائز |
زنان چون ناقصات عقل و ديناند | *** | چرا مردان رهِ ايشان گزينند |
اگر مردى برون أي و نظر كن | *** | هر آنچ آيد به پيشت زان گذر كن |
مياسا يك زمان اندر مراحل | *** | مشو موقوف همراه رَواحِل |
خليلآسا برو حقّ را طلب كن | *** | شبى را روز و روزى را به شب كن۱ |
ستاره با مه و خورشيد اكبر | *** | بود حسّ و خيال و عقل انور |
بگردان زان همه أي راهرو روى | *** | هميشه لا أحِبُّ الآفِلين گوى |
و يا چون موسى عمران در اين راه | *** | برو تا بشنوى إنِّى أنَا الله |
ترا تا كوهِ هستى پيش باقى است | *** | جواب لفظ أرنى لَن تَرَانِى است |
حقيقت كهربا ذات تو كاه است | *** | اگر كوهِ توئى نبود چه راهست |
تجلّى گر رسد بر كوه هستى | *** | شود چون خاك ره هستى ز پستى |
گدائى، گردد از يك جذبه شاهى | *** | به يك لحظه دهد كوهى به كاهى |
برو اندر پى خواجه به اسرا | *** | تفرّج كن همه آيات كبري۱ |
برون أي از سراى امّ هانى | *** | بگو مطلق حديث من رآنى |
گذارى كن ز كاف كُنج كَونين | *** | نشين بر قاف ترب قاب قوسين |
دهد حق مر ترا از آنچه خواهى | *** | نمايندت همه اشيا كما هي۱ |
و يقول:
كتاب حق بخوان از نفس و آفاق | *** | مُزيّن شو به اصل جمله اخلاق |
اصول خُلق نيك آمد عدالت | *** | پس از وى حكمت و عفّت شجاعت |
حكيمى راست گفتار است و كردار | *** | كسى كو متّصف گردد به اين چار |
ز حكمت باشدش جان و دل آگه | *** | به گُرْبُزْ باشد و نه مرد ابله٢ |
به عفّت شهوت خود كرده مستور | *** | شَرَه همچون خمود از وى شده دور |
شجاع و صافى از ذلّ و تكبّر | *** | مُبرّا ذاتش از جبن و تهوّر |
عدالت چون شعار ذات او شد | *** | ندارد ظلم از آن خُلقش نيكو شد |
همه اخلاق نكو در ميانه است | *** | كه از افراط و تفريطش كرانه است |
ميانه چون صراط المستقيم است | *** | ز هر دو جانبش قعر جحيم است |
به باريكى و تيزى موى و شمشير | *** | نه روى كشتن و بودن بر او دير۱ |
إلى أن يصل إلى قوله:
بسيطُ الذات را مانند گردد | *** | ميان اين و آن پيوند گردد٢ |
نه پيوندى كه از تركيب اجزاست | *** | كه روح از وصف جسميّت مبّراست |
چو آب و گل شود يكباره صافى | *** | رسد از حقّ بدو روح اضافى |
چو بايد تسويه أجزاى اركان | *** | در او گيرد فروغ عالم جان |
شعاع جان سوى تن وقت تعديل | *** | چو خورشيد زمين آمد به تمثيل۱ |
الاسماء و الاعتبارات المختلفة للمنازل الواقعة على الصراط
و على أيّة حال فقد عُبِّر عن المنازل و المراحل باختلاف العبارات و التعبيرات، و عُدّ اجتياز الصراط أمراً منوطاً بهذه الاعتبارات. فقد عدّ البعض الصراط عبارة عن النفس، و اعتبر اجتيازه، بمثابة عرفان النفس:
وَ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ.٢
أو بتطهير النفس و تزكيتها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها.٣ أو بإماتة النفس: أمَاتَ نَفْسَهُ وَ أحْيَا قَلْبَهُ.٤
و اعتبره البعض عبارة عن الدنيا، و يقصد بالدنيا ما سوى الله، حيث
ورد: أخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أبْدَانَكُمْ.۱
كما عدّه البعض معادلًا للإنّيّة و الوجود. فقد قيل:
بَيْنِي وَ بَيْنَكَ إنِّيّي يُنَازِعُنِي | *** | فَارْفَعْ بِلُطْفِكَ إنِّيِّي مِنَ البَيْنِ |
و عدّه البعض العبور من الصراطين: الظاهر و الباطن؛ أو الدنيا و الآخرة، أو الشريعة و الطريقة، أو عالَمَي الشهادة و الغيب، أو عالَمَي الخَلْق و الأمر.
و اعتبر البعض الصراط ذا منازل ثلاثة: الطبع و المثال و العقل؛ و عدّوا عبور هذه المنازل بمثابة وقوف على المطلوب.
و اعتبر البعض الآخر العبور ذا أربع مراحل، حيث نقل عن بايزيد البسطاميّ قوله: تركتُ الدنيا في اليوم الأوّل، و تركتُ الآخرة في اليوم الثاني، و تخطّيت ما سوى الله في الثالث، و في اليوم الرابع سُئلت: مَا تُرِيدُ؟
فقلت: ارِيدُ أنْ لَا ارِيدَ.
و هو إشارة إلى المطلب الذي قاله البعض في تعيين المنازل الأربعة:
الأوّل: ترك الدنيا.
الثاني: ترك العقبى.
الثالث: ترك المولى.
الرابع: ترك الترك.
و اعتبر البعض العوالم خمسة، و دعوها بـ «عوالم الحضرات الخمس» حيث ورد في الدعاء المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السلام:
اللهُمَّ نُوِّرْ ظَاهِرِي بِطَاعَتِكَ؛ وَ بَاطِنِي بِمَحَبَّتِكَ، وَ قَلْبِي بِمَعْرِفَتِكَ؛ وَ رُوحِي بِمُشَاهَدَتِكَ؛ وَ سِرِّي بِاسْتِقْلَالِ اتِّصَالِ حَضْرَتِكَ يَا ذَا الجَلَالِ
وَ الإكْرَامِ.۱
و يقول محيي الدين بن عربي ضمن صلواته على خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: مُحْصِي عَوَالِمِ الحَضَرَاتِ الخَمْسِ في وُجُودِهِ «وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ».
فعبَّر البعض عن هذه العوالم الخمسة بعوالم الطبع و المثال و العقل و السرّ و الذات. بينما اعتبر بعض آخر أنّ الطرق الأرضيّة سبعة طرق، و أنّ الطرق السماويّة سبعة طرق أيضاً، و أنّ المراد بالأرضين السبع الحجب الظلمانيّة، و بالسماوات السبع الحجب الملكوتيّة و النورانيّة.
ثمّ جاء آخرون فاعتبروا المجموع سبعة عوالم، و هي: عوالم الحسّ، المثال، العقل، السرّ، السرّ المُستَسِرّ، السرّ المقنّع بالسرّ، و الذات؛ حيث ورد في الروايات ذكر الحجب السبعة.
و عدّ بعض آخر العوالم عشرة، كما في رواية عبد العزيز القراطيسيّ الذي قال له الإمام الصادق عليه السلام بأنّ للإيمان عشر درجات كدرجات السلّم. يُضاف إلى ذلك ما ورد في الرواية من أنّ سلمان الفارسيّ كان يمتلك درجات الإيمان العشر بأجمعها.
هذا و قد قسّم المرحوم الخواجه نصير الدين الطوسيّ في «أوصاف الأشراف» المنازلَ إلى ستّ مراحل، ثمّ قسّم كلّ مرحلة من المراحل الخمس الاولى إلى ستّة أقسام، فصار مجموع العوالم مع المنزل الأخير الذي ذكر له مرحلة واحدة، واحداً و ثلاثين عالماً.
و قد اعتبر البعض الحجبَ سبعين حجاباً، حيث أورد المجلسيّ
رضوان الله عليه نقلًا عن «كشف اليقين» أنّه روى بإسناده عن رسول الله صلّى الله عليه و آله رواية عن معراج النبيّ جاء فيها قوله صلّى الله عليه و آله:
فَتَقَدَّمْتُ فَكُشِفَ لي عَنْ سَبْعِينَ حِجَاباً.۱
و اعتبر بعضٌ المنازلَ مائة منزل، حيث ذكر الخواجة عبد الله الأنصاريّ في «منازل السائرين» أنّ المنازل عشرة، ثمّ قسّم كلًّا من هذه المنازل إلى عشرة، فصار مجموعها مائة منزل. و بطبيعة الحال فإنّ المائة التي هي مجموع المنازل تمثّل اسم الله تعالى، أحدها مكنون و مخزون، و تسعة و تسعون منها معلوم. لذا فقد ورد في كثير من روايات الخاصّة و العامّة أنّ للّه تسعة و تسعين اسماً.
يروي الشيخ الصدوق في «التوحيد» و «الخصال» بسنده المتّصل عن سليمان بن مهران، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله:
إنّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَ تِسْعِينَ اسْماً، مِائَةً إلَّا وَاحِداً، مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ.٢
كما ذكرت بعض الروايات أنّ للّه ثلاثمائة و واحد و ستّين اسماً، كما في الرواية الواردة عن إبراهيم بن عمر، عن الإمام الصادق عليه السلام.٣
و اعتبر البعض أنّ مجموع الحجب ألف حجاب، كما اعتبروا أسماء الله ألف اسم؛ و عدّها البعض ألف منزل و منزل.
از ره نفس تا به كعبه دل | *** | عارفان را هزار و يك منزل۱ |
و صرّح البعض بأن هناك سبعين ألف حجاب، كما في الرواية الواردة في «كشف اليقين» عن رسول الله صلّى الله عليه و آله أنّه قال: «... و وصلتُ إلى حجب ربّي، دخلتُ سبعين ألف حجاب، بين كلّ حجاب إلى حجاب من حجب العزّة و القدرة و البهاء و الكرامة وا لكبرياء و العظمة و النور و الظلمة و الوقار و الكمال، حتّى وصلتُ إلى حجاب الجلال ...».٢
في كيفيّة الاسفار الاربعة
و قد قسّم العرفاء المسلمون الأجلّاء أسفار نفس الإنسان إلى الله تعالى وصولا إلى آخر مرحلة منها، إلى أربعة أسفار. و اقتدى بهم حكماؤنا العظام فاعتبروا الأسفار أربعة، فيقول المرحوم صدر المتألّهين الشيرازيّ قدّس سرّه في كتاب «الأسفار»:
وَ اعْلَمْ أنَّ لِلسُّلَّاكِ مِنَ العُرَفَاءِ وَ الأوْلِيَاءِ أسْفَاراً أرْبَعَةً: أحَدُهَا السَّفَرُ مِنَ الخَلْقِ إلَى الحَقِّ. وَ ثَانِيهَا السَّفَرُ بِالحَقِّ في الحَقِّ. وَ السَّفَرُ الثَّالِثُ يُقَابِلُ الأوَّلَ لأنَّهُ مِنَ الحَقِّ إلَى الخَلْقِ بِالحَقِّ. وَ الرَّابِعُ يُقَابِلُ الثَّانِي مِنْ وَجْهٍ، لأنَّهُ بِالحَقِّ في الخَلْقِ.٣
و لأنّ العشق و السُّكْر و الحماس و الهياج في السلوك امور منحصرة في السفر الأوّل، بينما تسود الطمأنينة و السكينة و الاستقرار في بقية الأسفار، فربّما يتّضح على هذا الأساس معنى شعر حافظ في قوله:
نگويمت كه همه ساله مىپرستى كن | *** | سه ماه مى خور و نه ماه پارسا مىباش۱ |
إذ إنّ دورة السفر تشمل أربعة مراحل، عَبَّر عن ربع الدورة الأوّل «السفر الأوّل» بشرب الخمر، و عن الأسفار الثلاثة الاخرى بالتقوى.
و قد ذكر المرحوم الحكيم المتألّه الآخوند الملّا محمّد رضا القمشهاي مطالب حول كيفيّة الأسفار الأربعة؛ و مضمونها أنّ السفر الأوّل (من الخلق إلى الحقّ) يتمثّل برفع الحجب الظلمانيّة و النورانيّة. و أنّ الحجب الظلمانيّة متعلّقة بالنفس، أمّا الحجب النورانيّة فتتعلّق بالقلب و الروح، حيث ينبغي على السالك العبور من الأنوار القلبيّة و الأضواء الروحيّة. و أن يتحرّك من مقام النفس إلى القلب، و من القلب إلى الروح، و من الروح إلى المقصد الأقصى.
فالعوالم الفاصلة بين السالك و بين الحقيقة -إذاً- ثلاثة عوالم، و جميع الحجب التي ذُكرت في الأخبار أو على لسان الأعلام ترجع إلى هذه الحجب الثلاثة. و حين تزاح جانباً هذه الحجب الثلاثة، و تُطوى هذه العوالم الثلاثة، أي عوالم النفس و القلب و الروح، فسيصل السالك إلى مقام معرفة جمال الحقّ، و يفني ذاته في الحقّ تعالى. و يُدعى هذا المقام -تبعاً لهذا الأساس- بمقام الفناء في الذات. و يتضمّن ثلاثة مقامات: مقام السِّرِّ و الخَفِيّ و الأخْفَى، و تقع في السفر الثاني.
في العبور من العوالم السبعة لاكتساب الكمال الإنسانيّ
و قد جرى التعبير أحياناً عن مقام الروح بالعقل. و نظراً لتفصيل شهود المعقولات، فقد اعتبروا مقام العقل غير مقام الروح، فيكون
مجموع المقامات على هذا الأساس سبع مقامات:
مَقَامُ النَّفْسِ، مَقَامُ القَلْبِ، مَقَامُ العَقْلِ، مَقَامُ الرُّوحِ، مَقَامُ السِّرِّ، مَقَامُ الخَفِيّ، مَقَامُ الأخْفَى.
و هذه المقامات السبعة هي مراتب الولاء و بلاد العشق التي يقول عنها المولويّ الروميّ:
هفت شهر عشق را عطّار گشت | *** | ما هنوز اندر خم يك كوچهايم۱ |
و حين يتخطّى السالك مقام الروح و يتجلّى له جمال الحقّ، و يفني نفسه في ذات الحقّ تعالى، فسيكون سفره الأوّل قد انتهى و صار وجوده حقّانيّاً، و سيكون قد عرض عليه المحو و بلغ مقام الولاية. ثمّ يشرع في السفر الثاني من موقف الذات (و هو مقام السرّ) فيسير في كلّ واحد من الكمالات حتّى يشاهد جميع كمالات الحقّ، و يرى نفسه فانياً في جميع الأسماء و الصفات: فَبِهِ يَسْمَعُ، وَ بِهِ يَبْصُرُ، وَ بِهِ يَمْشِي، وَ بِهِ يَبْطِشُ. فَعَالَم السرّ هو مقام الفناء في الذات، و عالم الخفيّ و هو أعلى من سابقة مقام الفناء في الصفات و الأسماء و الأفعال. أمّا عالم الأخفى فهو مقام الفناء و من الاثنين: فناء الذات و فناء الصفة، و هو أعلى من السفرين الأوّليّين، و يمثّل المرحلة الأخيرة من السفر الثاني.٢
و إن شئتَ فعبِّر عن عالم السرّ بأنّه فناء ذات السالك، و هو نهاية
السفر الأوّل و بداية السفر الثاني؛ و عن عالم الخفاء بأنّه مقام الفناء في الالوهيّة؛ و عن العالم الأخفى بأنّه مقام الفناء من كلا الفناءينِ. و من هنا فإنّ دائرة الولاية ستنتهي في هذه الحال، و يصل السفر الثاني إلى غايته، و ينقطع فناء السالك فيضع قدمه على مسار السفر الثالث.
فالسفر الأوّل: إذاً، هو العبور من عوالم الناسوت و الملكوت و الجبروت؛ و السفر الثاني هو العبور من عالم اللاهوت؛ أمّا السفر الثالث و هو السفر من الحقّ إلى الخلق بالحقّ، فهو أرقى من السفر الثاني و أعلى.
بمعنى أنّ السُّكر و الصحو سيزولان فيسير السالك في مقام الأفعال -مع وجود الفناء في الحقّ و الفناء في صفات الحقّ و الفناء عن الفناء- و يبقى على الرغم من المحو التامّ ببقاء الحقّ، و يشاهد جميع عوالم الجبروت و الملكوت و الناسوت بأعيانها و لوازمها، و يُخبر عن معارف الذات و الصفات و الأفعال.۱
و للحكيم المتألّه العلّامة الميرزا محمّد حسن النوريّ نجل الحكيم المتألّه العلّامة على النوريّ قدّس الله سرّهما كلام عن كيفيّة الأسفار الأربعة، يُعدّ -بلحاظ فهم العموم- أسهل بياناً و أشدّ إمتاعاً، و يتلخّص مضمونه بما يلي:
أنّ الإنسان ما دام لم يضع أقدامه على مسار السلوك العلميّ و النظريّ، فإنّه يشاهد الكثرة و يغفل عن مشاهدة الوحدة. فتكون الكثرة في تلك الحال حاجباً عن الوحدة. أمّا حين يشرع في السلوك العلميّ فيسير من الوجودات إلى الصانع، فإنّ الكثرات ستضمحلّ شيئاً فشيئاً و تتبدّل إلى الوحدة الصرفة الحقّة الحقيقيّة، بحيث إنّه لن يرى الكثرة أبداً، و لن ينظر
إلى أعيان الموجودات، و لن يشاهد شيئاً غير الوحدة. فتكون الوحدة -إذ ذاك- حاجباً عن الكثرة. فالسالك قد أغمض عينه عن مشاهدة الكثرة بواسطة استغراقه في مشاهدة الوحدة.
و مرتبة هذا المنزل في السلوك الحاليّ بمرتبة السفر الأوّل للسالك العارف، الذي ذكره الملّا صدرا في كتابه، و هو السفر من الخلق إلى الحقّ، أي من الكثرة إلى الوحدة.
و حين يصل السالك إلى عالم الوحدة فيحجب عن مشاهدة الكثرة، فإنّه يستدل -من خلال السلوك العلميّ- بذات الحقّ على أوصاف الحقّ و أسمائه و أفعاله الواحد بعد الآخر و المرتبة بعد المرتبة. و هذه الدرجة بمثابة السفر الثاني للسلوك الفعليّ، و هو السفر في الحقّ بالحقّ.
أمّا في الحقّ، فلأنّ هذا السفر يمثّل سفراً في صفات الحقّ و أسمائه و خواصّه؛ و أمّا بالحقّ، فلأنّ السالك يتجسّد في هذه الحال بحقيقة الحقّ، و يخرج من إنّيّة و وجود جميع كثرات العالم و أعيانه الخارجيّة.
و كثيراً ما يحصل في هذه المرحلة أن ينشرح صدر السالك و تُحلّ عُقدة من لسانه، فيلاحظ الوحدة في الكثرة كما يلاحظ الكثرة في الوحدة، دون أن يحجب أحدهما الآخر، و يصبح السالك جامعاً لكلا النشأتينِ و برزخاً بين المقامينِ، و تصبح له -من ثمّ- قابليّة تعليم الناقصين و إرشاد ضعفاء العقول و النفوس. و منزلة هذه الدرجة من السلوك الحالي و العمليّ بمثابة السفر الثالث، و هو السفر من الحقّ إلى الخلق بالحقّ. و هذه المرحلة أعلى ممّا سبقها.
و هناك مرحلة اخرى أدقّ و أتقن و أكمل، و هي الاستدلال على الحقّ بوجود الحقّ و وجود غير الحقّ. بحيث تنعدم الواسطة -في البرهان- لوجوده و وجود غيره. و قد دُعي هذه البُرهان بـ بُرهان لِمّ و طريقة
الصدّيقين. و هذه المرتبة بمثابة السفر الرابع و هو السفر في الخلق بالحقّ.۱
فإن شئنا أن نعثر على أحد من الموجودات سائر على الصراط المستقيم و النهج القويم في جميع خصوصيّاته في هذه الأسفار الأربعة، بحيث يفوق الجميع في أفكاره و عقائده و ملكاته و كيفيّة طيّه منازل فنائه في ذات الحضرة الأحديّة، و يمتلك سيراً في كلّ ذلك -بلحاظ عبور مراحل النفس- دون أن ينحرف أدنى انحراف، فإنّه سيجسّد حقيقة الصراط المستقيم، و يجسّد الإمام الذي ينبغي أن يكون قدوة و مثالًا يُحتذى. فهو أوّلًا في مقام التكوين حقيقة الصراط، و السبيل للوصول إلى مدارج الكمال. و هو ثانياً في مقام التشريع الهادي و المقتدي. و هذا هو المعنى الوارد في الرواية من أنّ الصورة الإنسانيّة هي الصراط المستقيم. و قد ورد
في الرواية في تفسير الآية الشريفة: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، أنّ المراد به صراط عليّ بن أبي طالب عليه السلام؛ و ذلك لأنّ المراد بالصورة الإنسانيّة، مرحلة الفعليّة المحضة التي تتواجد في أعلى صورها و أتقنها في عليّ بن أبي طالب عليه السلام. أمّا عامّة الناس فليس لهم صورة إنسانيّة فعليّة، بل يمتلكون مجرّد قابليّة تحقّقها، هذا إن لم يكونوا قد بدّلوا صورة الإنسانيّة من خلال ارتكابهم الذنوب الكبيرة.
و على أيّة حال فإنّ أفراد البشر هم في مقام التكامل، إلّا أنّهم ليسوا كاملين، أمّا الصورة الإنسانيّة فمختصّة بالإنسان الكامل. لأن الإنسان لم يمتلك صورة إنسانيّة حين كان نطفة، لأنّه -إذ ذاك- في مرحلة تكامل.
ثمّ إنّ الإنسان ينمو فيكون كذا و كذا، فلا يمتلك تلك الصورة بعدُ. ثمّ يأتي إلى الدنيا فلا يحوز صورتها الفعليّة، إذ يولد طفلًا يلهو و يلعب.
ثمّ يصبح شابّاً، إلّا أنّه يمتلك في جميع أحواله صورة حيوانيّة، لأنّه لم يدرك بعدُ ذلك المقصد الذي خُلق الإنسان و هُيّئ للوصول إليه. فإن هو بلغ ذلك المقصد، تحقّقت فيه آنذاك فقط الصورة الإنسانيّة.
و من هنا فإنّ الشخص المنساق وراء الشهوات لا يمتلك صورة إنسانيّة، بل يمتلك الصورة الحيوانيّة للحيوان الذي له هذه الخصوصيّة من الشهوة.
أمّا لو سار الإنسان باتّجاه الفعليّة في جميع مراحل القوّة و القابليّة، و أوصل جميع القوى التي منّ الله بها عليه إلى مرحلة الفعليّة و في سبيل التقرّب إلى الله تعالى، فإنّه سيصبح إنساناً كاملًا له صورة إنسانيّة؛ الحِكْمَةُ صَيْرُورَةُ الإنْسَانِ عَالَماً عَقْلِيَّاً مُضَاهِياً لِلْعَالَمِ العَيْنِيّ.
و الحكيم هو الذي أكمل الصورة الإنسانيّة و جعل نفسه عالماً عقليّاً.
و كما أنّ لدينا عالماً طبعيّاً في الخارج، فإنّ الحكمة العلميّة و العمليّة التي
تمثّل السير في الآفاق و الأنفس، تجعل الإنسان -علماً و عملًا- عالَماً عقليّاً.
و ذلك الإنسان هو الإنسان المجرّد، كما أنّه يمثّل الإنسان الخارج عن الزمان و المكان الذي لا تحدّه الجهات. و الإنسان الذي يمثّل أقرب الحجب إلى الله تعالى، و الإنسان الذي يمثّل اسم الله الأعظم، و الإنسان الأفضل من الملائكة، الذي لا يمكن لأيّ مَلك مقرّب أو نبيّ مرسل أن يفصل بينه و بين الحضرة الأحديّة.
يصل هذا الإنسان إلى المقام الذي هو أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ، و يفنى في العقل الكلّيّ و النور الكلّيّ، فيُعبَّر عنه بالإنسان المقرّب و المخلَص، إلّا أنّه بعد فنائه يجد البقاء بعالم البقاء و يصبح جامعاً لجميع صفات الحقّ المتعال و أسمائه الحسنى، فتظهر فيه و تتجلّى جميع أسماء الحقّ و صفاته -و ليس ذاته فقط- و تلك الصورة هي الصورة الإنسانيّة. فإن شئنا حقّاً أن نعثر في الخارج على مصداق أتمّ و أكمل لمثل هذه الصورة الفعليّة، فإنّه لن يكون غير أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
أي أنّ وجود ذلك الإمام و سرّه و عقيدته و حركته و فعله و ظاهره و باطنه و دنياه و آخرته و جسمه و روحه على ذلك الصراط المستقيم الهادي إلى الجنّة، و هو الصراط بين الجنّة و النار.
أي أنّ على مَن يريد الذهاب إلى الجنّة أن يجتاز هذا الصراط، لأنّ سعة و قدرة و جاذبيّة تلك النفس المقدّسة تدعو الناس إلى ذلك المقصد الرفيع بتلك الكيفيّة.
ما بدان مقصد عالى نتوانيم رسيد | *** | هم مگر پيش نهد لطف شما گامى چند۱ |
لذا فقد جاء في الروايات أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الصراط المستقيم، و أنّ الولاية و الإمامة هما الصراط المستقيم.
و بطبيعة الحال فقد ذكرنا ما ذكرنا عرضاً للمطلب، إلّا أنّنا سنذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى أنّ الصراط المستقيم الذي هو النفس الخارجيّة للإمام، له شمول آخر و جامعيّة اخرى أسمى من هذا المعنى و أعلى.
في العبور من العوالم السبعة لاكتساب الكمال الإنسانيّ.
الروايات التي ذكرت أن المراد بالصراط المستقيم هو علي بن أبي طالب
و على كلّ تقدير، فقد وردت روايات جمّة عن طريق الخاصّة و العامّة في أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام هو الصراط المستقيم.
يروي البحرانيّ في كتابه النفيس «غاية المرام» رواية واحدة عن العامّة، و عشر روايات عن الخاصّة في تفسير الآية المباركة:
وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.۱
ورد فيها أنّ عليّ بن أبي طالب هو المراد بالصراط المستقيم في هذه الآية.
أمّا الرواية التي نقلها عن العامّة، فحديث نقله عن الشيرازيّ -أحد أعيان علماء العامّة، له كتاب في المناقب- عن قتادة، عن الحسن البصريّ، في الآية الشريفة: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، قَالَ: يَقُولُ: هَذَا طَرِيقُ عَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ وَ ذُرِّيَّتِهِ طَرِيقٌ مُسْتَقِيمٌ وَ دِينٌ مُسْتَقِيمٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ تَمَسَّكُوا بِهِ فَإنَّهُ وَاضِحٌ لَا عِوَجَ فِيهِ.٢
و أمّا الروايات العشر التي نقلها عن الخاصّة فننقل منها ثلاث روايات:
الأولى: حديث جاء عن عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره عن الإمام الصادق عليه السلام في معنى الآية: «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ»؛ قَالَ: الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ الإمَامُ. وَ «لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ». قَالَ: يَعْنِي غَيْرَ الإمَامِ. «فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ». يَعْنِي تَفَرَّقُوا وَ تَخْتَلِفُوا في الإمَامِ.۱
الثانية: حديث يرويه محمّد بن الحسن الصفّار في «بصائر الدرجات» بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ، عن الإمام الصادق عليه السلام؛ قَالَ: سَألْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: «أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ»؟ فَقَالَ: هُوَ وَ اللهِ عَلِيّ، هُوَ وَ اللهِ الصِّرَاطُ وَ المِيزَانُ.٢
الثالثة: حديث يرويه محمّد بن مسعود العيّاشيّ بإسناده عن بُريد العجليّ، عن الإمام الصادق عليه السلام؛ قَالَ:
«وَ أنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ».
قَالَ: تَدْرِي مَا يَعْنِي بـ «صِرَاطِي مُسْتَقِيماً»؟! قُلْتُ: لَا.
قَالَ: وَلَايَةُ عَلِيّ وَ الأوْصِيَاءِ.
قَالَ: وَ تَدْرِي مَا يَعْنِي «فَاتَّبِعُوهُ»؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: يَعْنِي عَلِيّ بْنَ أبي طَالِبٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَ تَدْرِي مَا يَعْنِي: «وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ»؟
قُلْتُ: لَا! قَالَ: وَ اللهِ وَلَايَةُ فُلَانٍ وَ فُلَانٍ.
قَالَ: وَ تَدْرِي مَا يَعْنِي: «وَ لَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ»؟
قَالَ: يَعْنِي سَبِيلَ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.۱
أمّا في تفسير الآية الشريفة: أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؛٢ فقد وردت في «غاية المرام» رواية واحدة عن طريق العامّة و ثلاث روايات عن طريق الخاصّة جاء فيها أنّ المراد بالصراط المستقيم في الآية هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
و نورد هنا رواية عن الخاصّة.
يروي محمّد بن يعقوب الكلينيّ بإسناده عن محمّد بن الفضيل، عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام؛ قَالَ: قُلْتُ: «أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»؟ قَالَ: إنَّ اللهَ ضَرَبَ مَثَلًا: مَنْ حَادَ عَنْ وَلَايَةِ عَلِيّ كَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ لَا يَهْتَدِي لأمْرِهِ، وَ جَعَلَ مَنِ اتَّبَعَهُ سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ.٣
أمّا الرواية الواردة عن طريق العامّة، فيقول الراوي عن عبد الله بن عمرإنه قال لي: إني أتبع هذا الأصلع٤ فإنه أول الناس إسلاما و الحق معه، فإني سمعت النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول في قوله تعالى:
«أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»: فَالنَّاسُ مُكِبُّونَ عَلَى الوَجْهِ غَيْرَهُ.٥
كما أورد في «غاية المرام» ثلاثة أحاديث عن طريق العامّة و أربعة عن طريق الخاصّة في شأن الآية المباركة: وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ،۱ جاء فيها أنّ المراد بالصراط هو ولاية أهل البيت عليهم السلام. و ننقل هنا رواية واحدة من كلٍّ من الطريقين.
أمّا عن طريق العامّة فيروي إبراهيم بن محمّد الحموينيّ بإسناده عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام في قوله تعالى: «وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ»، قَالَ:
عَنْ وَلَايَتِنَا.٢
و أمّا عن طريق الخاصّة فيروي محمّد بن العبّاس بن ماهيار في تفسيره «فيما نزل في أهل البيت» بإسناده عن الإمام عليّ بن أبي طالب في تفسير قوله تعالى: «وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ»، قال: عن و لا يتنا أهل البيت.٣
و في الحديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: لَا يَجُوزُ أحَدٌ عَنِ الصِّرَاطِ إلَّا وَ كَتَبَ لَهُ عَلِيّ الجَوَازَ.
و قد أوردنا هذه الروايات بأسانيدها المختلفة عن طريق الشيعة و العامّة في الجزء الأوّل من مجموعة «معرفة الإمام». و ممّا يثير العجب أنّ أبا بكر هو أحد الذين رووا هذه الرواية عن رسول الله بلا واسطة، حيث تُعدّ سلسلة سند هذه الرواية إلى أبي بكر صحيحة في نظر العامّة؛ كما أنّ من الذين رووا هذا الحديث دونما واسطة ابن عبّاس و ابن مسعود، إلّا أنّ معظم
أعيان علماء العامّة نقلوا هذا الحديث في كتبهم المعتبرة بإسنادهم إلى أبي بكر، و قد نقل المرحوم آية الله الشيخ نجم الدين الشريف العسكريّ ذلك مفصّلًا.۱ كما نُقلت هذه الرواية في «غاية المرام» الباب الرابع و الخمسين، ص ٢٦٢ في عشرة أحاديث عن طريق العامّة، و في الباب الخامس و الخمسين ص ٢٦٢ في سبعة أحاديث عن طريق الخاصّة.
و نشرع الآن ببحث إجماليّ في مضمون هذا الحديث الشريف، إذ يقول الحديث بأنّ عليّاً هو صراط الحقّ، و إنّ مَن سيتمكّن من عبور هذا الصراط هو الذي يمتلك تقارباً مع عليّ عليه السلام في جميع الجوانب، سواءً من جانب العقيدة أم المَلَكة و الأخلاق و الصفات و السيرة. فإن لم يكن كالإمام استقامةً، فعليه -على الأقلّ- أن لا يبتعد عنه و لا يُخالفه في النهج.
ثمّ إنّ الإنسان يمرّ خلال اجتيازه الصراط بجملة من العقبات منها عقبة الصلاة، عقبة الأمانة، عقبة الرَّحِم، عقبة الولاية، عقبة التوحيد؛ و ينبغي على المرء أن يحصل على تصريح بالعبور في كلّ واحدة من هذه العقبات التي يعسر تخطّيها و اجتيازها. أي أنّه ينبغي أن يكون هناك تشابهاً -على أقلّ تقدير- بين صلاته و صيامه و جهاده و حجّه و زكاته مع أعمال ذلك الإمام.
فإن شاء امرؤ -و الحال هذه- أن يتحرّك على هذا الصراط دون أن يكون له معرفة به، و دون أن يكون منخرطاً في طريق الولاية و نهج التوحيد، فإنّه سيحتاج إلى تصريح بالعبور، و سيكون ممّن يُلقى بهم في نار جهنّم فيصدق عليهم أنّهم عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ.
و من هنا فقد جاء في الروايات المتواترة للشيعة و العامّة: عَلِيّ قَسِيمُ الجَنَّةِ وَ النَّارِ، أي أنّ عليّاً هو صراط الحقّ الذي عيّنه الباري المتعال و قال في شأنه: إن شئتم السير باتّجاهي و الخلود في حَرَمي و التنعّم برضواني فينبغي أن تكون جميع اموركم سويّة صحيحة، و أن تكونوا قد أعطيتم لنفسكم حقّها و للآخرين حقوقهم و للّه تعالى حقّه، و أن تكونوا قد اجتنبتم الظلم و التعدّي. أنتم بشر، فعليكم أن تجعلوا لأنفسكم صورةً إنسانيّة، و أن تتخطّوا الصفات البهيميّة.
و حقّ الله هو أن تعرفوه، فتعبروا -من خلال ورودكم هذا الصراط و انسكم بالأنوار القدسيّة الإلهيّة و استجلابكم لها- من ظلمات عالم النفس و كدورات الشهوة.
و هذا المعنى محال و متعذّر بدون الورود في صراط الولاية المستقيم.
و على هذا الأساس، فسيكون الوارد في هذا الصراط وارداً في الجنّة، أمّا غير الوارد فيه فسيهوي في النار. و البغض و العداوة و الحسد و الحقد و البخل و الطمع و الجشع، و الاعتداء على الحقوق، و الجحود، و إنكار الحقّ، و الاستكبار هي النار؛ أمّا العطف و المحبّة و الحنان و الإيثار و العفو و العدل و التواضع و الخضوع و الخشوع و التسليم و الانقياد للحقّ تعالى فهي الجنّة. و حبّ عليّ الذي يمثل انموذج هذه الصفات و مَثَلَها الأعلى هو طريق الجنّة؛ أمّا بغضه و نصب العداوة له فيستلزمان الخشونة و الاستكبار الباطنيّ، و يستلزمان جهنّم في نهاية المطاف.
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: حُبُّ عَلِيّ حَسَنَةٌ وَ بُغْضُ عَلِيّ سَيِّئَةٌ.۱
حبّ عليّ حسنة، و الحسنة -كما هو بيّن- طريق الجنّة. و بغض عليّ سيئة، و السيّئة -كما هو جليّ- طريق النار. فعليّ -إذاً- قسيم الجنّة و النار.
هذا من جهة.
و من جهة اخرى فإنّ الصراط الذي يفصل بين الإنسان و بين الحقّ هو طريق يبلغ بالإنسان إلى مقام العرفان و يجعله فانياً في ذات الحقّ تعالى، و ينفي عنه جميع شئون عالم الوجود و عالم الاستكبار و التفرعن، و يدخله في عالم التوحيد، ثمّ يجعله -عند العودة إلى عالم البقاء- متّصفاً بصفات الحقّ عزّ و جلّ.
و أمير المؤمنين عليه السلام هو الجامع لكلّ هذه الصفات و المقامات أي أنّه هو الوليّ الذي بلغ مقام الفناء في الله عزّ و جلّ، و صار -فوق ذلك- باقياً بمقام البقاء بالله؛ كما أنّه حامل لواء الحمد و الإمامة، و ذو سعة و شمول يكتنفان جميع عالم الوجود، و هو الجامع لجميع أسماء الحقّ و صفاته. فمن شاء عندئذٍ اجتياز مرحلة من هذه المراحل، فينبغي أن يكون عبوره و عمله منطبقاً مع الإمام، سواءً في الصلاة، أم في الأمانة أم في صلة الرحم أم في الجهاد، أم في إعانة الفقراء و المساكين أم في الإنفاق في سبيل الله أم في الإيثار أم في المحبّة و الولاية أم في اتّباع كتاب الله و سُنّة رسوله أم في مراحل تزكية النفس و تهذيبها.
فكلّما كان المرء أقرب إلى هذا الصراط، سهل عليه العبور عندئذٍ، و زادت سرعة طيّه للصراط فصار يجتازه كالبرق الخاطف. أمّا إذا أبطأ في سرعته قليلًا، عبر بسرعة الريح، فإن أبطأ و ثقُل مرّ كالراكب، فإن ثقل مرّ
كالراجل، فإن ثقل و أبطأ مرّ يجرّ أقدامه جرّاً. أمّا إذا كان الأمر لا سمح الله أعسر من ذلك، فستتعلّق إحدى قدميه في النار و ينال منها لفحة. فإن ثقل أكثر، هوى في النار ليطهّره الله بذلك. فإن كان من الأشقياء و المنكرين خُلِّد في عذاب الله نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ الحَلِيمِ.
المَجْلِسُ الثَّالِثُ وَ الخَمْسُونَ: صِرَاطُ جَهَنَّم، وَ الطَّرِيقُ إلَى الجَنَّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
سير الظالمين باتّجاه جهنّم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً ، لِلطَّاغِينَ مَآباً ، لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ، لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً ، إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً ، جَزاءً وِفاقاً.۱
ورد في كثير من الآيات القرآنيّة أنّ العبور على صراط جهنّم أمر مختصّ بالظالمين، بينما يتعيّن -في الوقت نفسه- على جميع الجنّ و الإنس أن يردوا في النار، ليخرج منها من شاء الله تعالى له الخروج و النجاة.
فتبعاً لمضمون الآية الكريمة: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها التي بحثنا معناها مفصّلًا؛ و لمضمون الآية المباركة:
وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ.٢
فينبغي على جميع أفراد الجنّ و الإنس المكلّفين بالتكليف الإلهيّ دخول جهنّم التي تمثّل ظهوراً للدنيا و تجلّياً لها، ثمّ إنّهم يخرجون منها
تبعاً للإرادة و المجاهدة فيتوجّهون إلى الجنّة التي تمثّل الحياة العُليا.
و يمكن القول -توضيحاً لهذه الحقيقة- بأنّ هناك صراطاً إلى جهنّم مآله و مرجعه إلى النار؛ و أنّ هناك صراطاً إلى الجنّة ينتهي إلى الرضوان، على الرغم من كونه فوق جهنّم، ممّا يجعل الوصول إلى مقام الرضوان مستلزماً للعبور على جهنّم.
و هناك آيات ذات دلالة على أنّه ينبغي على جميع الأفراد أن يجتازوا الصراط، و أنّ الصراط هو الصورة الإنسانيّة و حقيقة الولاية.
صراطٌ مرجعه و مآله جنّةُ الله و رضوانه، و لو استلزم المشاق و المشكلات و الامتحانات و الابتلاءات و المجاهدات، و كان العبور منه -و هو الصراط على جهنّم النفس الأمّارة- قد تجسّد في ذلك العالم على هيئة صراط على جهنّم، بحيث لا يمكن للمرء بلوغ الدرجات العليا و المقامات الحسني إلّا باجتيازه و العبور فوقه.
و هناك آيات ذات دلالة على أنّ الصراط الذي يعبر عليه الظالمون و المستكبرون هو صراطٌ إلى جهنّم، مآله و مرجعه عذاب الله و سخطه.
مثل آية:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ، إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً.۱
و آية: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ ، مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ.٢
و ليس المراد من الأزواج في هذه الآية خصوص نسائهم، لأنّ عبارة
الَّذِينَ ظَلَمُوا تشمل الرجال و النساء؛ بل المراد بها الأزواج من طائفة الجنّ الذين بادلوا الظالمين المودّة. يشهد على هذا المعنى الآية الشريفة:
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا.۱
فالمراد -إذاً- من الأزواج، شياطين الجنّ الذين يتعاملون مع الإنس و يلقون إليهم بالمودّة، فيشتركون في إغواء بعضهم البعض و في إبعادهم عن طريق الله تعالى، دون أن ينطوي الأمر على إجبار للطرف الآخر و لا على سلبٍ لإرادته و اختياره. إذ يُستفاد من الآيات القرآنيّة و الروايات الواردة أنّ الظالمين لهم شيطان يُلقي إليهم سيّئ القول و خادعه و يجهد لسدّ طريقهم إلى الله تعالى.
و مثل آيات:
أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ، وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ، وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ.٢
حيث بيّنت الآية الكريمة أنّ الله تعالى للطاغين بالمرصاد. و من الجليّ أنّ الطغيان هو الإفراط في الظلم و الاستكبار.
و مثل آية: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً ، لِلطَّاغِينَ مَآباً.٣
و على أيّة حال فإن الظلم هو الاعتداء و التجاوز، أو التفريط و التقصير في حقّ الناس، أو في حقّ النفس، أو في حقّ الله تعالى.
فالظلم للناس هو الإجحاف بحقوقهم، و الاعتداء على أموالهم و أعراضهم و نواميسهم و نفوسهم و تهديد إيمانهم، أو التقصير و التفريط في حقّهم كعدم إعطاء نصيب الفقراء و المحتاجين، و عدم رعاية الضعفاء و اليتامى و المساكين و البائسين، و حرمانهم من الاستفادة من معارف الإسلام و القرآن، و من التعليم و التربية بالآداب الدينيّة و السنن النبويّة وفقاً لمنهاج الأئمّة المعصومين، و ترك أفكارهم متعطّشة لمعين التوحيد و المعارف الحقّة. و أخيراً فإنّ الظلم عبارة عن التقصير و الإمساك عن إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه الذي يجب له على الإنسان بنحوٍ من الأنحاء.
و الظلم في شأن النفس هو عدم تربيتها تربية صالحة و تركها مرخاة العنان في نواياها الشيطانيّة و الشهويّة و الغضبيّة، و إهدار ثروة الحياة و العمر، و إضاعة أيّام العمر باطلًا باللهو و اللعب، و عدم إيصال الكمالات و القابليّات الموهوبة من قبل الله تعالى إلى فعليّتها في طريق التقرّب إليه سبحانه و بلوغ مقام الإنسانيّة الشامخ. كما أنّه عبارة عن إتلاف العلوم و المعارف، و صرف القدرات و الإمكانات في امور سطحيّة و غير نافعة.
و ظلم النفس -أخيراً- هو كلّ ما يحدّها عن الرقيّ و التكامل و يقطع عليها طريق الوصول إلى الفناء في الله عزّ و جلّ و البقاء به تعالى.
أمّا الظلم في شأن الله تعالى فهو التقصير تجاهه عزّ و جلّ، أي التقصير في أمر الولاية التي مرجعها إلى أولياء الله؛ فمن ظلم الولاية و ظلم أولياء الله، فإنّه قد ظلم الله تعالى.
و لقد خاطب الله سبحانه نبيَّه موسى على نبيّنا و آله و عليه السلام:
يا موسى لم لا تعودني في مرضي؟
فقال: أ وَ تمرض أنتَ يا إلهي؟!
فجاءه الخطاب: بلى، لقد مرض عبدي فلان و وليّي فلان في الموضع
الفلاني فلم تعده. فأنتَ -إذاً- لم تعدني!
أجل، إنّ وليّ الله الذي ليس في قلبه و لا في خواطره و أفكاره من شيء إلّا الله، سيكون قلبه محلّ الله تعالى و مأواه، و مركزاً لتجلّياته و ظهوره. و الله تعالى لا يمرض، لكنّنا إذا شئنا أن نبلغ بارتباط و توحّد أولياء الله معه سبحانه إلى أقصاه، فعلينا القول إنّ الله قد مرض بمرض وليّه.
و من جهة اخرى فإنّ من يعادي مقام الولاية، فإنّه يعادي الله عزّ و جلّ؛ و من يودّهم و يحبّهم فإنّه يودّ الله و يحبّه. و من يُثير عليهم الفتنة، فإنه يثير الفتنة على الله تعالى. و من يعينهم فإنّه يعين الله تعالى.
و على أيّة حال فإنّ جميع أقسام الظلم الذي قد يبدر من الإنسان، و الطغيان و التمرّد اللذين قد يصدران منه ناشئة من اتّباعه الأهواء الشيطانيّة و النفس الأمّارة. و أساس ذلك الاغترار بزينة الدنيا و التعلّق القلبيّ بالأوهام و التخيّلات التي ندعوها في عالمنا -عالم الاعتبار- بالنظام الاجتماعيّ و المدنيّة، فنبتعد بذلك عن الحقائق و نتعلّق بالأوهام فنسلك في النتيجة طريق جهنّم، و نبتعد عن الصراط المستقيم بمقدار ازدياد درجة ظلمنا و إجحافنا.
على أنّ هناك مزالّ تدعى بالعقبات في الصراط الذي نجتازه؛ و العقبة هي الهوّة في المناطق الجبليّة التي يصبح الطريق فيها ضيّقاً و خطراً، بحيث إنّ أدنى زلّة و غفلة ستكون كافية للمرء ليهوي في أعماق الوادي السحيق.
كلام الشيخين الصدوق و المفيد في عقبات الصراط
و للمرحوم الشيخ الصدوق كلام في كتابه «الاعتقادات» نورده هنا مع إيضاحات منّا. قال: اعتقادنا في العقبات التي على طريق المحشر أنّ كلّ عقبة منها اسمها اسم فرض و أمر (كعقبة الصلاة، عقبة الصيام، عقبة الزكاة، عقبة الجهاد، عقبة الحجّ، عقبة الأمانة، عقبة الولاية و غير ذلك من
الفرائض) و نهي (كعقبة ترك الكذب، و ترك الغيبة، و ترك الزنا، و سائر المحرّمات الإلهيّة).
فمتى انتهى الإنسان إلى عقبةٍ اسمها فرض، و كان قد قصّر في ذلك الفرض، حُبس عندها و طولب بحقّ الله فيها. (و خوطب بخطاب: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ. فهو يُسأل مثلًا: ما ذا عملتَ بشأن الأمانة؟ و ما ذا عملتَ بشأن الصلاة؟ و هكذا يُسأل في كلّ واحدة من العقبات). فإن هو خرج منها بعملٍ صالح أو برحمةٍ تدركه، فقد نجا منها إلى عقبة اخرى، و يبقى يُدفع من عقبة إلى اخرى، و يُحبس عند كلّ عقبة فيُسأل عمّا قصّر فيها من معنى اسمها؛ فإن سلم من جميعها انتهى إلى دار البقاء فيحيا حياةً لا موتَ فيها أبداً، و سعد سعادةً لا شقاوة معها أبداً، و سكن في جوار الله مع أنبيائه و حُججه و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين من عباده.
و إن حُبس على عقبة فطُولب بحقٍّ قصّر فيه فلم يُنجه عمل صالح قدّمه، و لا أدركته من الله عزّ و جلّ رحمةٌ، زلّت به قدمه عن العقبة فهوى في جهنّم نعوذ بالله منها. و هذه العقبات كلّها على الصراط (أشبه بالعقبات الموجودة في الجبال، فإن نحن اجتزنا عقبةً منها سلمنا منها، و إن زلّت بالإنسان قدمه فيها هوي).
اسم عقبةٍ منها الولاية، يُوقف جميعُ الخلائق عندها فيُسألون عن ولاية أمير المؤمنين و الأئمّة من بعده عليهم السلام. فمن أتى بها نجا و جاز، و من لم يأت بها بقي فهوى. و ذلك قول الله عزّ و جلّ: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ.۱
و أهمّ عقبة منها المرصاد، و هو قول الله عزّ و جلّ: إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصادِ.۱
و يقول عزّ و جلّ: وَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي لَا يَجُوزُنِي ظُلْمُ ظَالِمٍ.
و اسمُ عقبةٍ منها الرَّحِم؛ و اسم عقبة منها الأمانة؛ و اسم عقبة منها الصلاة؛ و اسم كلّ فرض أو أمر أو نهي يُحبس عندها العبد فيُسأل.
كان هذا هو كلام الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى ابن بابويه في «الاعتقادات». و قال الشيخ المفيد: محمّد بن النعمان رحمة الله عليه في شرحه على «اعتقادات الصدوق»:
العقبات عبارة عن الأعمال الواجبة و المُساءلة عنها و المُوافقة عليها.
و ليس المراد بها جبالٌ في الأرض تُقطع. و إنّما هي الأعمال شُبّهت بالعقبات، و جُعل الوصف لما يلحق الإنسان في تخلّصه من تقصيره في طاعة الله تعالى، كالعقبة التي يجهده صعودها و قطعها. قال تعالى:
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ، وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ ، فَكُّ رَقَبَةٍ.٢
فسمّى سبحانه الأعمال التي كلّفها العبد عقبات تشبيهاً بالشعب المتعرّجة بأعالى الجبال، لما يلحق بالإنسان في أدائها من مشاقّ، كما يلحقه في صعود العقبات و قطعها. و قال أمير المؤمنين صلوات الله و سلامه عليه:
إنّ أمَامَكُمْ عَقَبَةً كَؤُوداً وَ مَنَازِلَ مَهُولَةً لَا بُدَّ مِنَ المَمَرِّ بِهَا وَ الوُقُوفِ عَلَيْهَا، فَإمَّا بِرَحْمَةِ اللهِ نَجَوْتُمْ وَ إمَّا بِهَلَكَةٍ لَيْسَ بَعْدَهَا انْجِبَارٌ.
أراد عليه السلام بالعقبة تخلّص الإنسان من العقبات التي عليه، و ليس كما ظنّه الحشويّة من أنّ في الآخرة جبالًا و عقبات يحتاج الإنسان
إلى قطعها ماشياً أو راكباً. و ذلك لا معنى له فيما توجبه الحكمة من الجزاء و لا وجهَ لخلق عقبات تسمّى بالصلاة و الزكاة و الصيام و الحجّ و غيرها من الفرائض يلزم الإنسان أن يصعدها، فإن كان مقصّراً في طاعة الله حالَ ذلك بينه و بين صعودها، إذ كان الغرض في القيامة الوقوف على الأعمال و الجزاء عليها بالثواب و العقاب، و ذلك غير مفتقر إلى تسمية عقبات و خلق جبال و تكليف قطع ذلك و تصعيبه أو تسهيله، مع أنّه لم يرد خبرٌ صحيح بذلك على التفصيل فيُعتمد عليه و تخرج له الوجوه. و إذا لم يثبت بذلك خبر، كان الأمر فيه ما ذكرناه.
كان هذا هو بيان الشيخ المفيد أعلى الله تعالى مقامَه الشريف.
كلام المجلسيّ في معنى عقبات صراط جهنّم
و يقول المجلسيّ رضوان الله عليه عقب كلام المفيد رحمة الله عليه:
تأويل ظواهر الأخبار بمحض الاستبعاد بعيدٌ عن الرشاد، و للّه الخيرة في معاقبة العاصين من عباده بأيّ وجهٍ أراد. (لذا فلا إشكال بأن يكون المراد من العقبات المعنى الظاهريّ من العقبات و الجبال صعبة العبور) و قد مضى بعض الأخبار في ذلك و سيأتي بعدها و الله الموفّق للخير و السداد.۱
كان هذا كلام جدّ امّنا لأبيها: العلّامة محمّد باقر المجلسيّ رحمة الله عليه، و الحقّ أنّه كلام مقبول، لأنّ الإنسان لا يمكنه تأويل ظواهر الأخبار بمجرّد الاستبعاد، خاصةً فيما يتعلّق بعوالم الغيب التي لا يدركها بالحسّ.
و بغير ذلك فإنّ جميع المعارف الغيبيّة من الحور و القصور و الجنّات و النعيم قابلة للتأويل. و إذا فُتح باب التأويل في هذا المجال على مصراعيه، و فُسح المجال للإنسان للتأويل بحرّيّة، فإن كلّ شيء سينهار وَ لَنْ يَبْقَى حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ.
و يبدو أنّ المرحوم المفيد يريد بيان معنى دقيق من خلال التفاته إلى هذا المعنى، و هو أنّ هناك معانٍ معقولة جرى تشبيهها في الأخبار و الروايات بالمحسوسات، و علينا أن نأخذ بذلك المعنى المعقول و نعتبر المعنى المحسوس مجرّد تشبيه.
فقد جاء في القرآن الكريم مثلًا: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.۱
وَ من المسلّم أنّه من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، لأنّ الله ليس بجسم، و ليس له عرش للحكم. فينبغي علينا أن نعتبر أنّ هناك عرشاً للّه يتناسب مع وجوده البحت البسيط المجرّد الذي لم يزل و لا يزال، و هو عالم إرادة الله و مشيئته، و البناء المشيّد للإمكان و عالم الوجود. و كما أنّ عرش حكومة السلطان هو محلّ ظهور قدرته و صدور أوامره حين يتربّع عليه فيصدر أحكامه و أوامره و ينادي بنداء الأنانيّة؛ فإن الله تعالى -في المقابل- يتسلّط على عالم الوجود و يهيمن عليه و يصدر أحكامه التكوينيّة و التشريعيّة بواسطة عالم المشيئة و الإرادة. فعرش الله و كرسيّه -إذاً- هما عالم مشيئته و إرادته. و من المسلّم أنّ الله تعالى له عرش بهذه الصفة.
و ورد في القرآن الكريم: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ.٢ حيث إنّ من المسلّم أنّ حمل العرش ليس كمثل حمل عرش السلطان على أكتاف الناس.
و في القرآن الكريم أيضاً: وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ.٣
فهل هناك ثمانية ملائكة يحملون على أكتافهم عرش الله و كرسيّ
حكومته؟ أم أنّ الأمر يختلف عن ذلك؟ إنّ المؤتمرين بإرادة عرش الحضرة الأحديّة سبحانه و تعالى في هذا العالم -عالم المادّة و الإمكان- أربعة من الملائكة المقرّبين هم عزرائيل، جبرائيل، ميكائيل و إسرافيل؛ و هم حملة وسائط الفيض و ما يحتاجه عالم الطبع. أمّا في ذلك العالم فإنّ حملة احتياجات ذلك العالم سيتضاعفون نظراً لسعة ذلك العالم و تجرّده الملكوتيّ، فيصبحون ثمانية من الملائكة المقرّبين يشكّلون واسطة للفيض السبحانيّ لمقام الأحديّة إلى ذلك العالم. و هذا هو معنى الثمانية و معنى حمل عرش الله عزّ و جلّ.
و جاء أيضاً في القرآن الكريم: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا.۱
فهل الله سبحانه جسم له مجيء و ذهاب، شأنه شأن الإنسان؟
أبداً أبداً. بل إنّ معنى مجيء الله هو ظهوره عزّ و جلّ، لأنّ المجيء في اللغة بمعنى الظهور التدريجيّ. و من هنا فإنّ ظهور الله و الملائكة هو مجيئوهم، و مجيء الله عزّ و جلّ هو ظهور و طلوع قدرته و علمه و حياته البسيطة المجرّدة. و نظير هذه التعابير كثير و جمّ في الآيات و الروايات مثل: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ؛٢ و مثل: عَيْنُ اللهِ، و اذُنُ اللهِ، و لِسَانُ اللهِ و غيرها ممّا لا يُحصى.
و قد جاء في القرآن الكريم:
وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ.٣
فهل يمكن اعتبار الصراط و السبيل و السبل في هذه الآية بمعنى الطرق المادّيّة الطبيعيّة، و القول بأنّ المراد بذلك الجادّة، لأنّ الجادّة مستقيمة و معبّدة، في مقابل الطرق المعوجّة غير المعبّدة؟
من المسلّم أنّ هذا الصراط و هذا السبيل أمران معنويّان، و أنّهما كناية عن كشف الحجب عن العبد و وصوله إلى مقام العزّ الشامخ للحقّ تعالى من خلال العمل بالقرآن و السنّة و اتّباع نهج النبيّ العظيم الشأن.
و لو قلتم -مثلًا- بأنّ لديكم محاكمة غداً، و إنّها عقبة يتوجّب عليكم اجتيازها، فما ذا سيكون مرادكم -يا ترى- من تلك العقبة؟ أهناك في جلسة المحاكمة جبل يتوجّب اجتياز عقبته؟ أم أنّ المراد بذلك هو تمكّنكم من الإجابة بصورة مقنعة، و استطاعتكم الدفاع عن حقّكم؟
تجسّد المعاني المعقولة بالصور في عوالم الصورة
و على أيّة حال فإنّ جميع هذه الموضوعات هي من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، أو من باب استعمال الألفاظ في معانيها الحقيقيّة بناءً على قولنا بأنّ الألفاظ قد وُضعت للمعاني العامّة.
و على هذا الأساس فإنّ العقبة لا تعني عقبة الجبل، كما أنّ العرش لا يعني الكرسي الخشبيّ أو الذهبيّ؛ بل العقبة بمعنى الضائقة مادّيّةً كانت أو معنويّة. كما أنّ العرش بمعنى محلّ الحكم، سواءً كان ذلك العرش خشبيّاً أم ذهبيّاً أم كان إحاطةً و هيمنةً مثاليّة و برزخيّة و نفسيّة و قيامتيّة.
و العلّة في ذلك أنّهم لمّا أرادوا بيان تلك المعاني المعقولة، فإنّهم لم يجدوا مناصاً من استعمال هذه الألفاظ المتداولة المستعملة في المعاني المحسوسة، فعبّروا عن تلك المعاني بقالب الألفاظ المتداولة. بَيدَ أنّ المجلسيّ -على أيّة حال- لم يتكلّم في هذا المجال على غير طائل. إذ من المسلّم بأنّ الموجود المادّيّ محسوس في هذا العالم، و كثيراً ما يحصل أن تخرج بعض الامور عن نطاق عالم المادّة و تدخل ضمن عالم المثال
و الصورة، فيراها الإنسان في عالم الصورة.
فقد تشاهدون في نومكم أنّكم تشربون الماء -مثلًا- أن تسبحون في بحر زلال صافٍ، و يحصل ذلك بسبب اتّباعكم المعارف و العلوم. فالعلم من الصفاء بالقدر الذي لو شُبّه معه في عالم الحسّ بشيء، لكان ذلك الشيء ماءً، لا حجارةً و لا خشباً و لا شجراً. فالماء في جريانه يمثّل رحمةً لا بُخل فيها. إذ يمكن لكلّ امرئ أن يشرب الماء دون تزاحم مادّيّ، و لو صُبّ الماء على الأرض لجرى أينما أمكنه الجري، و لتسلل في فتحات الأرض و الجبال و مساماتها، و لجرى في طبقات الصخور. فتلك هي خاصّيّة الماء.
و العلم في عالمه و مرتبته على هذه الشاكلة. لذا يرى طلبة العلم في نومهم أنّهم يبحثون عن الماء؛ فإن انهمكوا في تحصيله فعلًا، شاهدوا أنّهم يشربونه أو يسبحون فيه.
أمّا من يشاهد في نومه أنّه يشرب اللبن، فإنه يحظى بالمعارف الإلهيّة.
و أمّا من يشاهد أنّه يذهب إلى الحمّام فيغسل بدنه أو يتوضّأ أو يغتسل، فمن المسلّم أنّه في صدد تزكية نفسه و تطهيرها، لأنّ الاغتسال و الطهارة الظاهريّة مثال و انموذج محسوس من الطهارة الباطنيّة، حيث تتجلّى تلك الطهارة الباطنيّة في ذلك العالم في هيئة الوضوء و الاغتسال.
و قد يرى امرؤ في النوم أنّه يريد التوضّؤ أو القيام بالتطهير، لكنّه يبحث عن الماء فلا يعثر عليه. و مثل هذا الشخص في صدد تزكية نفسه إلّا أنّه لم يوفّق بعدُ للقيام بتلك التزكية. و بطبيعة الحال فإنّ هذه المطالب متعلّقة بعالم المثال و البرزخ و الصورة و ليس بعوالم ما فوق الصورة.
فما أخبرنا به القرآن -إذاً- من أنّ الجنّة و النار و الحور العين وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ و درجات الجنّة و دركات الجحيم هي امور ذات
صورة يمثل أمراً صحيحاً صائباً، و علينا ألّا نقول بأنّها معانٍ محضة لا صورة لها، و أنّها بأجمعها من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، إذ ليس الأمر على هذه الشاكلة.
فكما يرى الإنسان المعاني المعقولة في النوم في صورة و هيئة معيّنة، و كما تتجسّد أعماله و مقاصده و نواياه و أمانيه في صورة معيّنة في عالم النوم؛ فإنّ الصلاة و الحجّ و الصوم و الجهاد و الولاية و الأمانة تتجسّد -بدورها- في ذلك العالم في صور نِعم الجنّة، و تتجلّى أمام الإنسان في تلك الصور.
قد ترون في النوم أنّكم تريدون عبور طريق متعرّج مليء بالمنعطفات، و أنّ الغبار و التراب يتساقط من جوانب الطريق ممّا يجعل العبور عسيراً و شاقّاً. و معنى ذلك أنّ هناك موانع و مشكلات تعترض مسيركم إلى هدفكم. و أنّ بلوغكم ذلك الهدف يستلزم تجشّم المشاقّ و الصعوبات.
أجل، فقد كان كلام المجلسيّ متيناً حين نوّه على عدم استطاعتنا تأويل المعارف الدينيّة و حملها على المعاني المعقولة و المحامل غير الظاهريّة بمجرّد استبعادنا لها؛ إلّا أنّ ذلك صحيح فيما يتعلّق بعالم الصورة و بالملكوت الأسفل.
بَيدَ أنّ كلام المرحوم المفيد و قوله بأنّه ما لم تقم الحجّة، و ما لم يردنا خبر صحيح من المعصومين، فإنّنا نرفض باب استعمال المعقول في المحسوس، و نلتزم بكثير من الصور، هو كلامٌ لا يخلو من وجه. وَ السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى.
ينقل عليّ بن إبراهيم القمّيّ رواية في كيفية الصراط على جهنّم، ينقلها المرحوم الصدوق بدوره في كتاب «الأمالى». و النقلان متشابهان، إلّا
أنّنا نورد عبارة الصدوق باعتبار وجود اختلاف طفيف في المتن.
في كيفيّة صراط جهنّم
يروي المرحوم الصدوق في «الأمالى» عن أبيه، عن عليّ، عن أبيه، عن عليّ بن الحكم، عن المفضّل بن صالح، عن جابر، عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: و «وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ» سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ؛ فَقَالَ:أخْبَرَنِي الرُّوحُ الأمِينُ أنَّ اللهَ لَا إلَهَ غَيْرُهُ إذَا جَمَعَ الأوَّلِينَ وَ الآخِرِينَ اتِيَ بِجَهَنَّمَ تُقَادُ بِألْفِ زِمَامٍ؛ أخَذَ بِكُلِّ زِمَامٍ مِائَةُ ألْفِ مَلَكٍ مِنَ الغِلَاظِ الشِّدَادِ، لَهَا هَدَّةٌ وَ تَغَيُّظٌ وَ زَفِيرٌ وَ إنَّهَا لَتَزْفِزُ الزَّفْزَةَ. فَلَوْ لَا أنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ أخَّرَهُمْ إلَى الحِسَابِ لأهْلَكَتِ الجَمْعَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ يُحِيطُ بِالخَلَائِقِ:
البَرِّ مِنْهُمْ وَ الفَاجِرِ. فَمَا خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَبْداً مِنْ عِبَادِهِ مَلَكاً وَ لَا نَبِيّاً إلَّا نَادَى: رَبِّ! نَفْسِي نَفْسِي؛ وَ أنْتَ يَا نَبِيّ اللهِ تُنَادِي: امَّتِي؛ امَّتِي! ثُمَّ يُوضَعُ عَلَيْهَا صِرَاطُ أدَقُّ مِنْ حَدِّ السَّيْفِ عَلَيْهِ ثَلَاثُ قَنَاطِرَ، أمَّا وَاحِدَةٌ فَعَلَيْهَا الأمَانَةُ وَ الرَّحِمُ؛ وَ أمَّا الاخْرَى فَعَلَيْهَا الصَّلَاةُ؛ وَ أمَّا الاخْرَى فَعَليْهَا عَدْلُ رَبِّ العَالَمِينَ لَا إلَهَ غَيْرُهُ. فَيُكَلَّفُونَ المَمَرَّ عَلَيْهِ فَتَحْبِسُهُمُ الرَّحِمُ وَ الأمَانَةُ، فَإنْ نَجَوْا مِنْهَا حَبَسَتْهُمُ الصَّلَاةُ، فَإنْ نَجَوْا مِنْهَا كَانَ المُنتَهَى إلَى رَبِّ العَالَمِينَ جَلَّ وَ عَزَّ؛ وَ هُوَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» وَ النَّاسُ عَلَى الصِّرَاطِ فَمُتَعَلِّقٌ وَ قَدَمٌ تَزِلُّ وَ قَدَمٌ تَسْتَمْسِكُ وَ المَلَائِكَةُ حَوْلَهُمْ يُنَادُونَ: يَا حَلِيمُ اغْفِرْ وَ اصْفَحْ وَ عُدْ بِفَضْلِكَ وَ سَلِّمْ سَلِّمْ.
وَ النَّاسُ يَتَهَافَتُونَ فِيهَا كَالفَرَاشِ، وَ إذَا نَجَا نَاجٍ بِرَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ نَظَرَ إلَيْهَا فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي نَجَّانِي مِنْكِ بَعْدَ إيَاسٍ بِمَنِّهِ وَ فَضْلِهِ، إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.۱
و ورد في «علل الشرائع» عن الإمام الصادق عليه السلام في معنى الآية الشريفة: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ؛ قال:
لَا يُجَازُ بِهِ قَدَمُ عَبْدٍ حَتَّى يُسْألَ عَنْ أرْبَعٍ: عَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أبْلَاهُ وَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أفْنَاهُ؛ وَ عَنْ مَالِهِ مِنْ أيْنَ جَمَعَهُ وَ فِيمَا أنْفَقَهُ؛ وَ عَنْ حُبِّنَا أهْلَ البَيْتِ.۱
و يروي على بن إبراهيم القمّيّ في «تفسيره»، عن الإمام الصادق عليه السلام؛ كما يروي الصدوق في «الأمالى» و «عيون أخبار الرضا» عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إنَّ المَسْؤُولَ عَنْهَ وَلَايَةُ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.٢
و روى في «مجمع البيان» عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، قال:
تَقُولُ النَّارُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ: جُزْ يَا مُؤْمِنُ فَقَدْ أطْفَأ نُورُكَ لَهَبِي.٣
كما روى عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: أنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» -الآيَاتُ، فَقَالَ: إذَا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أ لَيْسَ قَدْ وَعَدَنَا رَبُّنَا أنْ نَرِدَ النَّارَ؟ فَقَالَ: قَدْ وَرَدْتُمُوهَا وَ هِيَ خَامِدَةٌ.٤
إنّ جهنّم هي مظهر الدنيا؛ و لقد قدم أولياء الله إلى الدنيا بَيدَ أنّهم اجتازوها دون أن يتعلّقوا بها، لذا فإنّ نار جهنّم ستكون خامدة و هامدة عند عبورهم عليها في الآخرة، و ستكون عليهم برداً و سلاماً، إذ إنّ
النفس الأمّارة خاضعة لهيمنتهم و سيطرتهم و ليس العكس.
صراط الدنيا: نفس الإمام الواجب الطاعة
روى في «تفسير الصافي» حول تفسير: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ نقلًا عن «معاني الأخبار» عن الإمام الصادق عليه السلام:
هِيَ الطَّرِيقُ إلَى مَعْرِفَةِ اللهِ، وَ هُمَا صِرَاطَانِ: صِرَاطٌ في الدُّنْيَا وَ صِرَاطٌ في الآخِرَةِ، فَأمَّا الصِّرَاطُ في الدُّنْيَا فَهُوَ الإمَامُ المُفْتَرَضُ الطَّاعَةُ، مَنْ عَرَفَهُ في الدُّنْيَا وَ اقْتَدَى بِهُدَاهُ، مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ الذي هُوَ جِسْرُ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ، وَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ في الدُّنْيَا زَلَّتْ قَدَمُهُ عَنِ الصِّرَاطِ في الآخِرَةِ فَتَرَدَّى في نَارِ جَهَنَّمَ.۱
و جاء في رواية اخرى: نَحْنُ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ.٢
و جاء في بعض الروايات: هُوَ صِرَاطُ عَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.٣
و روي عن الإمام الصادق عليه السلام: إنَّ الصِّرَاطَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.٤
صراط الظاهر و صراط الباطن
أجل، فالدقّة و التأمّل في هذه الروايات النازلة من مصادر الوحي تبيّن بجلاء أنّ الصراط له ظاهر و باطن. فظاهره نهج الإمام، و باطنه حقيقة الولاية التي تتجلّى يوم القيامة في هيئة صراط يمدّ على جهنّم فيُنجي الناس
من ورودها.
قال المرحوم المحدّث القمّيّ: أقول: جمعوا الحروف المقطّعات من أوائل سور القرآن و حذفوا المكرّرات منها، فصار تركيبها: عَلِيّ صِرَاطُ حَقٍّ نُمْسِكُهُ، أو: صِرَاطُ عَلِيّ حَقٌّ نُمْسِكُهُ.۱
و قال: و جاء في «تفسير الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام»:
تَعَلُّقُ مُحِبِّي فَاطِمَةَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهَا في القِيَامَةِ بِأهْدَابِ٢ مِرْطِهَا٣ مَمْدُوداً عَلَى الصِّرَاطِ.٤
و من المناسب أن نختم بحثنا عن الصراط برواية عن «جامع الأخبار» ننقلها تيمّناً و تبرّكاً: إنّ فاطمة صلوات الله عليها قالت لأبيها: يا أبت! أخبرني كيف يكون الناس يوم القيامة؟ قال: يا فاطمة! يشغلون فلا ينظر أحد إلى أحد، و لا والد إلى الولد، و لا ولد إلى امّه. قالت: هل يكون عليهم أكفان إذا خرجوا من القبور؟ قال: يا فاطمة! تبلى الأكفان و تبقى الأبدان، تُستر عورة المؤمن و تبدى عورة الكافر.
قالت: يا أبت! ما يستر المؤمنين؟ قال: نور يتلألأ لا يبصرون أجسادهم من النور. قالت: يا أبت! فأين ألقاك يوم القيامة؟ قال: انظري عند الميزان و أنا انادي: ربّ أرجح مَن شهد أن لا إله إلّا الله. و انظري عند الدواوين إذا نُشرت الصحف و أنا انادي: ربِّ حاسِبْ امَّتِي حساباً يسيراً.
و انظري عند مقام شفاعتي على جسر جهنّم، كلّ إنسان مشغول بنفسه، و أنا
مشتغل بامّتي انادي: يا ربِّ سلِّمْ امّتي، و النبيّون عليهم السلام حولي ينادون: ربِّ سَلِّمْ امّة محمّد صلّى الله عليه و آله. و قال عليه السلام: إنّ الله يُحاسب كلّ خلق إلّا من أشرك بالله فإنّه لا يحاسب و يؤمر به إلى النار.۱
المَجْلِسُ الرَّابِعُ وَ الخَمْسُونَ: حَقِيقَةُ مِيزَان الأعْمَالِ يَوْم القِيامَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ.۱
الحقّ هو الواقع، ضدّ الباطل الذي هو الأمر الموهوم المتخيّل و غير الواقعيّ. فما له تحقق و وجود في الخارج يدعى حقّاً، أمّا ما يفتقد الأصالة و الوجود، و يحوم حول الاعتبار و الخيال و الوهم فيُدعى باطلًا. و العالم الآخر هو عالم الحقّ في مقابل عالم الباطل. و هو دار القرار في مقابل دار المجاز؛ و دار الواقعية و اليقين في مقابل دار الاعتبار؛ و عالم الثبات و الاستقرار في مقابل عالم الوهم و الخيال. و من هنا فإنّ ما يمتلك واقعاً سيكون هناك ذا وزن و ثقل، أما الامور التي لا تمتلك واقعاً و حقيقة فستكون بلا وزن:
وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ،
وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ.
و يستفاد من هذه الآية عدّة امور؛ أحدها أنّها تقول: فمن ثقلت موازينه و لا تقول: و من ثقل ميزانه. ممّا يُستنتج منه امتلاك الإنسان يوم القيامة عدّة موازين و ليس ميزاناً واحداً فقط. فمن ثقلت موازينه كان كذا، و من خفّت موازينه كان كذا.
و يستفاد من بعض الروايات أنّ سبب مجيء تعبير الموازين -بصيغة الجمع- بلحاظ تعدّد أنواع أعمال الإنسان و صنوف سيرته. و لو لا ذلك، لكان الميزان واحداً و الحقّ واحداً.
و الأمر الآخر الوارد في الآية الشريفة أنّ ميزان عمل المفلحين هو الثقيل فقط. أمّا الخاسرون و المسيئون فميزان عملهم خفيف طفيف.
و ليس الأمر بحيث إنّ لأفراد البشر المختلفين موازين أعمال تتفاوت ثقلًا و درجةً.
و علينا أن نرى الآن ماهيّة ميزان الأعمال، فهل يؤتى بميزان فيضعون الحسنات في إحدى كفّتيه، و السيّئات في الكفّة الاخرى، فمن ثقلت حسناته سعد و فاز، و من ثقلت سيّئاته خسر و شقى؟
لو كان الأمر على هذه الشاكلة لقيل: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ. مع أنّ الآية لم تستخدم هذا التعبير. فهي لا تقول بأنّ ميزان حسنات أصحاب الجنّة ثقيل، و إنّ ميزان سيّئات أصحاب النار ثقيل، بل ورد التعبير في هذه الآية و في غيرها بأنّ موازين أعمال المفلحين ثقيلة، و أنّ موازين أعمال الظالمين و الخاسرين خفيفة. لكأنّ الأعمال السيّئة ليست ذات وزن و لا ثقل أساساً، بل هي خفيفة في ذلك
العالم و بلا وزن.
ميزان أصحاب النار خفيف
و يستفاد من هذا الأمر أنّ ما هو متداول بين العوامّ من أنّ الحسنات توضع يوم القيامة في كفّة ميزان، و توضع السيّئات في كفّته الاخرى، فإن رجحت كفّة حسنات الإنسان سيق إلى الجنّة، و إن رجحت كفّة سيّئاته اقتيد إلى النار، يمثّل كلاماً اختلقه العوامّ من عند أنفسهم، لا تؤيِّده آية و لا رواية. ناهيك عن أنّ آيات القرآن -و من بينها الآية التي نحن بصدد تفسيرها- تخالف هذا الذوق و الاتّجاه، و تُجمع على أنّ الحسنات ذات وزن و ثقل، و أنّ السيّئات خفيفة بلا وزن، ممّا يستتبع كون ميزان أعمال المحسنين ثقيلًا و ميزان أعمال المسيئين خفيفاً. إذ إنّ المفسدين بلا وزن أساساً، فلا يقيم لهم الله يوم القيامة وزناً.
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ، أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً.۱
يقول تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً، أي أنّنا لا نضع لمثل هؤلاء الضالّين ميزاناً لأنّهم بلا وزن. و الحال أنّ السيّئات لو كانت ذات وزن و ثقل، لثقل ميزانها بلحاظ السوء و القُبح و رجح على جميع الموازين.
و لمّا كانت أعمال هؤلاء المسيئين في منتهى القبح بحيث لا تحتوي على شيء من الحسنات فتجعل لميزانهم وزناً و لو طفيفاً، لذا فقد تعذّر تسمية ميزان أعمالهم بالخفيف، و صار ميزانهم بلا وزن أساساً. بل هو لا شيء في الحقيقة.
الحسنات ثقيلة لكنّها ترتفع إلى الأعلى
و لمّا كانت أعمال و موازين الذين ثقلت موازينهم ترتفع إلى
الأعلى، و موازين من خفّت موازينهم تنحطّ إلى الأسفل؛ فلا بدّ لنا من توضيح المراد بذلك.
فنقول: إنّنا نزن الأشياء في عالمنا -عالم الطبيعة- فينزل الميزان إن ثَقُل، و يرتفع إن خفّ. أمّا في ذلك العالم فإنّ الأمر على العكس تماماً.
و هناك في القرآن الكريم آية تقول: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.۱
و الكلمة الطيّبة هي روح المؤمن؛ و صعودها هو النتيجة و الصفة الخاصّة الناتجة من الإيمان؛ كما أنّ العمل الصالح هو الذي يرفع هذه الروح الطيّبة الطاهرة للمؤمن.
العمل الصالح يمنح الروح قوّة و قدرة و يُعينها في الارتقاء في درجات القرب من الحقّ تعالى. فهو أشبه -لو مثّلناه- بالوقود الذي تستخدمه الطائرة في تحليقها إلى الأعالى. منتهى الأمر أن هذا الأمر يحصل في عالم الطبيعة، و ذاك في عالم المعنى و الملكوت.
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ.٢
و لدينا أيضاً الآية الشريفة: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ٣ التي تبيّن بجلاء أنّ أوضع الأمكنة و أدناها قدراً و أخفّها وزناً ليس الموضع العلويّ، بل هو أسفل المواضع. إذ السِّفل في مقابل العلوّ. و من هنا فإنّ جميع الأشياء التي لا قيمة معنوية لها تهبط إلى الأسفل؛ أمّا الموضع العالي فهو محلّ المطهّرين و موضع النزاهة و الطهارة.
و جاء في الآية القرآنيّة الكريمة:
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.۱
فلما ذا تصعد حسنات الإنسان الثقيلة في ذلك العالم، بينما تهبط سيّئاته الخفيفة إلى الأسفل؟ و لِمَ ينعكس الأمر في هذا العالم؟
الجواب: أنّ هذا العالم هو عالم المادّة، و حقيقة هذا العالم مستبطنة داخل المادّة. و نظراً لأنّ الموازين التي تستخدم في هذا العالم هي موازين مادّيّة تعمل وفق قوّة الجاذبيّة الأرضيّة التي تمنح للأشياء وزناً و ثقلًا، فإنّ من يثقل في الميزان يهبط إلى الأسفل، و من يخفّ في الميزان يرتفع إلى الأعلى. أمّا ذلك العالم فليس عالماً مادّيّاً، لذا فإنّ الأعمال لا توزن هناك وفق انجذابها إلى مركز الأرض. ذلك العالم عالمٌ علويّ يرجع فيه كلّ شيء إلى أصله و يلتحق بمنبعه و مبدئه. و سيتّجه -من ثمّ- كلّ عمل حسن إلى مركز أسماء الحقّ المتعال و صفاته، كما سيتّجه الكلم الطيّب -بدوره- إلى ذات الحقّ. و سيُقاس كلّ عمل في ذلك العالم وفق حقيقته. فإن فاقت حقيقته حقائق الأعمال الاخرى ارتفعت و علت و اتّجهت إلى أسماء الحقّ و صفاته، و اتّجهت نحو ذات الحقّ.
و باعتبار أنّ ذلك العالم عالم علويّ مقابل عالمنا السفليّ، فإنّ العمل الذي له حقيقة أقلّ سوف لن يتّجه إلى عالم القُرب، بل يصوّب إلى عالم البُعد و يتدنّى هابطاً إلى العالم الأسفل و أسفل السافلين.
و يتّضح -بناءً على ما قيل- أنّ الآيات التي تدلّ على أنّ الكلام الطيّب يرتفع إلى الله تعالى، و أنّ الله يرفع المؤمنين و أهل العلم، أنّ مرجعها إلى أمر استقرار المركز في الأعلى. الأمر الذي ينجم منه أنّ من كانت حقيقته
أكثر، فإنّ ميزانه يثقل و يتّجه نحو المركز إلى الأعلى. و من خفّ ميزانه فإنّه يبتعد عن ذلك المركز و المبدأ.
و قد حان الوقت -بعد ان اتّضحت هذه المطالب- لنرى هيئة الموازين التي تُقاس بها أعمال الإنسان يوم القيامة، لأنّ عالم الميزان هو أحد العوالم التي سنواجهها فيما بعد. و قد تطرّقت أبحاثنا في عالم القيامة إلى بحث قيام الإنسان في محضر الله تعالى، و إلى عالم العَرْض، و عالم الحشر، و عالم النشور، ثمّ إلى عالم صحف الأعمال و تطاير الكتب، ثمّ إلى عالم الشهادة و عالم الصراط. أمّا الآن فقد بلغ بنا البحث إلى عالم الميزان، و سنتحدّث فيما بعد مفصّلًا -و بالترتيب- عن عالم الحساب، عالم الجزاء، عالم الأعراف، عالم الشفاعة، عالم المياه الأربعة و ماء الكوثر و كيفيّة فوران عين الكوثر، ثمّ نتحدّث عن عالم الجنّة و النار.
و نحتاج في بياننا لعالم الميزان لذكر مقدّمتين تطرّقنا إليهما في عالم الصراط. الاولى، عن معنى الميزان، و هل يشبه ميزان يوم القيامة الموازين ذات الكفّتين المستعملة في هذا العالم، أم أنّه ميزان ذو هيئة و كيفيّة اخرى تختلف عنها؟ حيث ستتّضح -بذلك- العلّة في قوله تعالى في قرآنه الكريم: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ و مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ، و عدم قوله: فمن ثقلت حسناته أو من ثقلت سيئاته.
أمّا المقدّمة الاولى، فهي: أنّ الألفاظ الموضوعة في اللغة ذات معانٍ عامّة. و قد أشرنا في مباحث الصراط -مثلًا في هذا الأمر- عن مثال المصباح، و تبيّن كيف أنّ الخصوصيّات الفرديّة لا دخل لها في معاني الأفراد.
كلام الملّا محسن الفيض الكاشانيّ في معنى الميزان
و من المناسب أن نورد هنا عبارة المرحوم الفيض: الملّا محسن الكاشانيّ في «تفسير الصافي» باعتبار أهمّيّتها البالغة.
قال: إنّ لكلّ معنى من المعاني حقيقة و روحاً، و له صورة و قالب.
و قد تتعدّد الصور و القوالب لحقيقة واحدة. و إنّما وُضعت الألفاظ للحقائق و الأرواح، و لوجودهما في القوالب تستعمل الألفاظ فيهما على الحقيقة لاتّحاد ما بينهما. مثلًا لفظ القلم إنّما وضع لآلة نقش الصور في الألواح من دون أن يعتبر فيها كونها من قصب أو حديد أو غير ذلك. بل و لا أن يكون جسماً و لا كون النقش محسوساً أو معقولًا، و لا كون اللوح من قرطاس أو خشب، بل مجرّد كونه منقوشاً عليه. و هذا حقيقة اللوح و حدّه و روحه فإن كان في الوجود شيء يستطر بواسطة نقش العلوم في ألواح القلوب، فأخلق به أن يكون هو القلم فإنّ الله تعالى قال: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ؛۱ بل هو القلم الحقيقيّ حيث وجد فيه روح القلم و حقيقته و حدّه، من دون أن يكون معه ما هو خارج عنه. و كذلك الميزان مثلًا فإنّه موضوع لمعيار تُعرف به المقادير، و هذا معنى واحد هو حقيقته و روحه، و له قوالب مختلفة و صور شتّى بعضها جسمانيّ و بعضها روحانيّ، كما يُوزن به الأجرام و الأثقال مثل ذي الكفّتين و القبّان و ما يجري مجراهما، و ما يوزن به المواقيت و الارتفاعات كالإسطرلاب، و ما يوزن به الدوائر و القسي كالفرجار، و ما يوزن به الأعمدة كالشاقول، و ما يوزن به الخطوط كالمسطر، و ما يوزن به الشِّعر كالعروض، و ما يوزن به الفلسفة كالمنطق، و ما يوزن به بعض المدركات كالحسّ و الخيال، و ما يوزن به العلوم و الأعمال، كما يوضع ليوم القيامة، و ما يوزن به الكلّ كالعقل الكامل، إلى غير ذلك من الموازين.٢
الانبياء و أوصياؤهم موازين الامم
و قال أيضاً: إنّ ميزان كلّ شيء هو المعيار الذي به يُعرف قدر ذلك الشيء، فميزان الناس يوم القيامة ما يوزن به قدر كلّ إنسان و قيمته على حسب عقيدته و خلقه و عمله، لتجزى كلّ نفس بما كسبت. و ليس ذلك إلّا الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام، إذ بهم و باتّباع شرائعهم و اقتفاء آثارهم و ترك ذلك، و بالقرب من سيرتهم و البعد عنها يعرف مقدار الناس و قدر حسناتهم و سيّئاتهم. فميزان كلّ امّة هو نبيّ تلك الامّة و وصيّ نبيّها و الشريعة التي أتى بها، فمن ثقلت حسناته و كثرت فاولئك هم المفلحون، و من خفّت و قلّت فاولئك الذين خسروا أنفسهم بظلمهم لها من جهة تكذيبهم للأنبياء و الأوصياء أو عدم اتّباعهم.
روي في «الكافي» و «معاني الأخبار» عن الإمام الصادق عليه السلام:
إنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ»؛ قَالَ: هُمُ الأنْبِيَاءُ وَ الأوْصِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
و في رواية اخرى: نَحْنُ المَوَازِينُ القِسْطُ.۱
و على أيّة حال فإنّ المطلب الأخير الذي ذكره المرحوم الفيض في تفسير سورة الأعراف، ذيل الآية: وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، هو بمثابة المقدّمة الثانية للمطلب الذي نحن في صدد بيانه، حيث اتّضحت من خلال ذلك النتيجة المتوخّاة، و تبيّن بناءً على المقدّمة الاولى أنّ الألفاظ -و بضمنها لفظ الميزان- وُضعت لمعاني عامّة.
كما تبيّن -بناءً على المقدّمة الثانية- أنّ الله عزّ و جلّ يضع يوم القيامة ميزاناً لأعمال الإنسان و مقامه. و ينتج من ضمّ هاتين المقدّمتين إلى بعضهما
أنّ ميزان الأعمال يوضع ليوزن فيه الناس و الأنبياء و الأوصياء و نهجهم و شريعتهم و سلوكهم إلى الله تعالى، و أنّ عمل كلّ فرد من أفراد الامم السابقة و اللاحقة سيوزن بهذا الميزان.
بيان تفصيليّ في معنى الميزان
أمّا الآن و قد اتّضحت بحمد الله هاتين المقدّمتين و النتيجة المترتّبة عليها إجمالًا، فنشرع بتفصيل ذلك تبياناً لهذه الحقائق:
أمّا المقدّمة الاولى، فإنّ الميزان يعني آلة للقياس و الوزن. و كان الميزان سابقاً ذا كفّتين معلّقتين بسلاسل طويلة و في قمّته مؤشّر (لسان الميزان). ثمّ شاع استعمال ميزان ذي كفّتين غير معلّقتين، و له مؤشّر في الأسفل. و دُعي الميزان الثاني ميزاناً بنفس العناية الاولى. ثمّ استعملت موازين عموديّة ذات كفّة واحدة (قبّان)، و موازين كبيرة لوزن الأشياء الثقيلة و موازين ذات عتلات و نوابض؛ فدُعيت بأجمعها موازين بنفس العناية.
و يُلاحظ أنّ لفظ الميزان لم يوضع لخصوص وزن الأشياء، بل إنّه كذلك يعني آلة لقياس الأشياء و الامور المختلفة. و من البديهيّ أنّ آلة قياس شيء تختلف عن آلة قياس الأشياء الاخرى. فجهاز قياس مقدار الكهربائيّة المستهلكة (عدد الكيلو واطات) يُدعى مقياساً للكهرباء؛ أمّا جهاز قياس فولتيّة المحرّك الكهربائيّ فيدعى «فولتمتر»، كما يدعى جهاز قياس شدّة جريان التيّار الكهربائيّ «امبيرمتر»، و يُدعى جهاز قياس المقاومة الكهربائيّة، «اومتر»، و يُدعى جهار قياس درجة حرارة البدن «ترمومتر». و هي بأجمعها تدعى مقاييس على الرغم من اختلافها و تنوّعها.
كما تدعى كلّ آلة من آلات قياس ضغط الدم، و نبض القلب، و اتّجاه الريح،
و ضغط الهواء، و الزلزلة، و حرارة الجوّ، ميزاناً و جهازاً للقياس مع أنّ تركيب كلّ منها و مهمّته مغاير تماماً لتركيب الآخر و مهمّته.
فجهاز القياس هو لفظ عامّ يُطلق على جميع هذه الأجهزة، بَيدَ أنّ جهاز قياس كلّ شيء يتناسب مع ذلك الشيء. فمقياس الماء يختلف عن مقياس الحرارة، كما أن مقياس نبض القلب يُغاير الميزان الذي يوزن به الحطب.
و يُلاحظ أنّ الموازين و المعايير الأخلاقيّة، كالمحبّة و السخاء و الشجاعة تدعى بدورها موازيناً، إلّا أنّها ليست مادّيّة و ليس لها هيكل معيّن.
فإن شئنا قياس محبّة شخص ما، كأن نرى المحبّة التي يمتلكها زيد -مثلًا- فعلينا أن نمتلك ميزاناً و معياراً لذلك. إذ إنّ مقدار المحبّة متفاوت لدى أفراد البشر. و ينبغي حتماً أن يكون هناك شاخص معيّن نجعله بمثابة الميزان فنقيس به. فما هو ذلك الشاخص؟ و ما صفته و كيفيّته؟
و لو أردنا قياس الخضوع و الخشوع و العبوديّة و التقوى و الصدق و الغيرة و الحميّة و الإيثار و الإنفاق و الجهاد و الشجاعة و الصفات الحسنة الاخرى، و قياس فناء الوجود المجازيّ و البقاء بالحقّ تعالى، و تجلّي الأسماء و الصفات، و درجة الفناء و مرتبة البقاء؛ فأيّ معيار و ميزان ينبغي استخدامه لتحقيق هذا الغرض؟ هل تختلف درجات هذه الامور أم لا؟ و إذا اختلفت، فما هو ميزان قياسها؟
لقد علمنا أنّ مقياس كلّ شيء ينبغي أن يتناسب مع ذلك الشيء، فإن ساقونا يوم القيامة و أرادوا قياس صفاتنا هذه، فإنّ وزن بدننا لن يضيرنا شيئاً في ذلك العالم. لأنّ المرء لن يُسأل عن وزنه بالكيلو غرامات، و كم نقص وزنه في شهر رمضان؟ لأنّهم لا يتعاملون في ذلك العالم مع البدن
و الوزن.
سيسألون المرء هناك: ما مقدار المحبّة التي لديك؟ و ما قدر خضوعك و خشوعك للحقّ تعالى؟ و ما درجة عبوديّتك له؟ و كم كان إيثارك و عفوك؟ و ما درجة معرفتك بذات الحقّ تعالى و درجة يقينك و إيمانك؟ و كم هي درجة إخلاصك و خلوصك؟
و عليهم أن يقيسوا هذه الامور فيشخّصوا على ضوئها مقام المرء و درجته، لأنّ درجات الجنّة و مقاماتها الثمانية تقابل المقادير المختلفة الموجودة من هذه الامور، كما أنّ دركات النار و أبوابها السبعة تقابل -بدورها- درجات فقدان هذه الامور و انعدامها لدى المرء.
فبأيّ معيار ينبغي قياس هذه الامور من أجل تعيين أجر الإنسان أو عقابه؟
أمّا المقدّمة الثانية، فقد جاء في الآيات المباركة و الروايات الواردة عن الأئمّة الطاهرين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين أنّ الله تعالى قد وضع ميزاناً لقياس أعمال الإنسان في الدنيا، كما أنّ الأعمال ستوزن في الآخرة. بَيدَ أنَّهُ لم يُشاهد في آية أو روايةٍ ما، أنّ الحسنات توضع في أحد كفّتي الميزان، و أنّ السيّئات توضع في الكفّة الاخرى. بل إنّ جميع الآيات و الروايات متّفقة في الدلالة على أنّ الحسنات ذات وزن و اعتبار، و أنّ السيّئات بلا وزن و لا اعتبار، و أنّ الحسنات هي التي تأخذ بِيَدِ الإنسان و تنجيه في ذلك العالم الربوبيّ، و أنّ السيّئات ليس لها قابليّة للمقاومة و الصمود هناك. فمن زادت حسناته ثقل ميزانه، و من قلّت حسناته خفّ ميزانه. يُضاف إلى ذلك أنّ السيّئات تسبّب خفّة الميزان.
ورد في كتاب «التوحيد» للشيخ الصدوق، عن أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير الآية الشريفة:
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ... أنّه قال (ضمن حديث طويل):
فَإنَّمَا يَعْنِي الحِسَابَ؛ تُوزَنُ الحَسَنَاتُ وَ السَّيِّئَاتُ؛ وَ الحَسَنَاتُ ثِقْلُ المِيزَانِ وَ السَّيِّئَاتُ خِفَّةُ المِيزَانِ.۱
أي أنّ الحسنات هي معيار جميع الأعمال التي عملها الإنسان في دنياه، حسنةً كانت أم سيّئة. فالأعمال الحسنة و الأعمال السيّئة للإنسان تُقاس بمعيار الحسنات.
إنّ شجاعة حَسَن -مثلًا- لها ميزان خاصّ في ذلك العالم، و سخاءه له ميزان خاصّ؛ و لكلّ من عبوديّته و عفّته ميزان خاصّ. كما أنّ جميع درجات شجاعة الإنسان، حسنها و سيّئها، تقاس بميزان الشجاعة. كما تقاس درجات عبوديّة الإنسان بما فيها من مراتب حسنة مقبولة و مراتب سيّئة مذمومة بمقياس العبوديّة. و الأمر على هذا المنوال بالنسبة إلى جميع الصفات و الأخلاق و الملكات التي يقاس كلٌّ منها بمعيار و ميزان خاصّ توزن به تلك الصفة المعيّنة.
أمّا الآن و بعد أن ذكرنا هاتين المقدّمتين بالتفصيل، فنقول: إنّ المراد بميزان الأعمال في يوم القيامة هو المثل الكامل للحُسن و التقوى و الصبر و الإيثار و الجهاد و الورع و العبوديّة و اليقين و التوحيد في كلّ امّة من الامم السالفة، و يتجسّد ذلك المثل الكامل في نبيّ تلك الامّة و وصيّ نبيّها، و في الكتاب و الشريعة اللذين أتى بهما إلى تلك الامّة. أمّا في هذه الامّة -امّة آخر الزمان- فيتجسّد في الوجود المقدّس للرسول الأكرم و الصدّيقة الكبرى فخر نساء العالم سيّدة نساء العالمين و الأوصياء الإثني عشر للنبيّ
الأكرم، و أوّلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ثمّ أولاده الأحد عشر الواحد تلو الآخر، و آخرهم قائم آل محمّد الحجّة بن الحسن العسكريّ عجّل الله تعالى فَرَجه الشريف، الذين يُعدّ وجودهم و توحيدهم و عبادتهم و جهادهم و إنفاقهم و صفاتهم النفسانيّة و عقائدهم و جميع ملكاتهم، الميزان و المعيار لتشخيص مقدار الصفات الحسنة في امّة آخر الزمان.
الحقّ و العدل هما الميزان يوم القيامة
جاء في «الاحتجاج» عن الإمام الصادق عليه السلام: أنَّهُ سُئِلَ: أ وَ لَيْسَ تُوزَنُ الأعْمَالُ؟ قَالَ: لَا؛ لأنَّ الأعْمَالَ لَيْسَ أجْسَاماً، وَ إنَّمَا هِيَ صِفَةُ مَا عَمِلُوا، وَ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى وَزْنِ الشَّيءِ مَنْ جَهِلَ عَدَدَ الأشْيَاءِ وَ لَا يَعْرِفُ ثِقْلَهَا وَ خِفَّتَهَا وَ إنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ.
قِيلَ: فَمَا مَعْنَاهُ في كِتَابِهِ: «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ»؟ قَالَ: فَمَنْ رَجَحَ عَمَلُهُ.۱
أي أنّ من رجح عمله و اقترب من العدل، ثقل ميزانه تبعاً لذلك؛ و من كان فعله مرجوماً و بعيداً عن العدل، خفّ ميزانه تبعاً لذلك. و العدل هو ذلك الموجود الذي لوحظت جميع جهاته على نحو الكمال بلا إفراط و لا تفريط. فإن زادت الشجاعة فيه عن حدّها المطلوب المستوى صارت تهوّراً مذموماً، و إن انحطّت عن ذلك الحدّ استحالت جُبناً مقيتاً. فالشخص الكامل -إذاً- شجاع بلا تهوّر و لا جُبن.
و نرى أنّ المتهوّر يرتكب أعماله دون تأمّل و دراية فيخطئ فيها و يندم في العاقبة عليها. أمّا الجبان فيقصّر تبعاً لضيق نفسه عن فعل ما هو صحيح في موقعه دفاعاً عن حريم غيرته و عزّته، فيندم في العاقبة على
تقصيره. أمّا الشجاع فيدافع بالقدر اللازم بما هو صحيح و في الموقع المناسب، فيكون فعله صائباً، و لا يتعرّض للندم على فعله أبداً.
و ستقاس الشجاعة يوم القيامة بميزان العدل، أي بشاخص الشجاعة؛ فيوضع شاخص للشجاعة يمثّل العدل المحض الخالى من الجبن و التهوّر، فتقاس شجاعة الأفراد وفقاً لذلك الشاخص.
و الأمر على هذه الشاكلة بالنسبة إلى العفّة و الحياء. فهما إن تخطّيا الحدّ استحالا خموداً غير مقبول، و إن قصرا عن الحدّ و لم يبلغاه كانا شرهاً غير مقبول. حيث تمثّل ملكة العفّة الحدّ المعتدل بين صفتي الإفراط و هي الخمود، و التفريط و هي الشره. و ذلك الحدّ الوسط هو العدل في هذه الصفة.
و الأمر كذلك بالنسبة إلى الفهم و الذكاء اللذين لو زادا عن حدّهما كانا دهاءً مذموماً، لأنّ صاحب الدهاء له من حدّة الذهن و الذكاء ما يجعله -علاوة على سرعة فهمه للُامور- يُضيف إليها شيئاً من ذهنه و من عند نفسه، فيفهم من النتيجة اموراً معيّنة، و يدرك و يعتقد بامور غير موجودة في الخارج يختلقها ذهنه، فيتعامل معها على أنّ لها وجوداً خارجيّاً. و هو فهم خاطئ بطبيعة الحال.
أمّا الأبله ذو الذهن الضعيف، البطيء في استيعاب الامور و إدراكها، فيدرك الامور أقلّ من حقيقتها، و هو فهم خاطئ بدوره.
على أنّ الحدّ المعتدل بين الدهاء و البلاهة يمثّل الحكمة التي تمتاز بصفة العدالة، أي أنّها تجسّد الفهم الصحيح الكامل، لا التقصير في فهم الحقيقة و لا الإضافة عليها، ثمّ الاعتقاد بأنّ تلك الإضافة منها.
و سيؤتى بميزان العدل فتُقاس به ملكة السخاء و الإنفاق، و ملكة الإيثار و التضحية، و العفو و التسامح، و كلّ واحدة من الصفات النفسانيّة
الاخرى.
فإن هم أرادوا قياس شجاعة الشجعان بذلك الميزان، توجّب عليهم أن يضعوا في إحدى كفّتيه معيار العدالة المذكور، و في الكفّة الاخرى شجاعة أحد الأفراد؛ فإن تساوتا في الوزن، اتّضح أنّ الشجاعة المقاسة قد بلغت حدّها الأعلى؛ أمّا لو خفّت تبيّن أنّها لم تبلغ الذروة بعد. فإن كانت خفيفة جدّاً، كانت بعيدة عن حدّ العدل (أي الشجاعة) و انتمت إلى التهوّر أو الجبن.
و باعتبار أنّ الشجاعة المقبولة للأفراد يوم القيامة ينبغي أن تتحلّى -إضافة إلى جانب الاعتدال- بقصد القُربة، و أن تبتعد عن الهوى و الهوس و الرغبات النفسانيّة و البواعث الشيطانيّة، لذا ينبغي -بالنسبة إلى هذه الامّة مثلًا- أن توضع في إحدى كفّتي ميزان العمل شجاعة رسول الله أو أمير المؤمنين و دفاعهما عن حقوقهما و عن حقوق المسلمين، و توضع في الكفّة الاخرى شجاعة من يراد قياس شجاعته. فتتّضح بذلك حدود تلك الشجاعة و مشخّصاتها تبعاً لاختلافها أو اقترابها من معيار الشجاعة و شاخصها. لذا قال الإمام الصادق عليه السلام في هذه الرواية إنّ: المِيزَانُ هُوَ العَدْلُ.
و جاء في الآية القرآنيّة أنّ الميزان هو الحقّ، و ذلك قوله تعالى:
وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ.
و ميزان العدل -كما سنذكر- هو نفسه ميزان الحقّ. إذ الحقّ و العدل متّحدان في المصداق، إلّا أنّ مفهومهما متفاوت بلحاظ الاعتبار.
و ستُقاس صلوات كلّ امّة من الامم إلى صلاة الحقّ و العدل. أي أنّ العدل سيوضع في كفّة، و توضع الصلاة المراد قياسها في الكفّة الاخرى.
و كلّما اقتربت هذه الصلوات إلى تلك الصلاة بلحاظ طهارة السرّ و حضور
القلب و قوّة الخِطاب و شدّة الفناء و نزاهة النيّة و سائر الآداب و الجوانب
الظاهريّة و الباطنيّة، اقترب مؤشّر ميزان الصلاة من تلك الصلاة الواقعيّة الحقيقيّة، و بالعكس فكلّما ابتعدت عن تلك الامور، ابتعد في المقابل مؤشّر ميزان الصلاة و أشار إلى زيادة الفاصلة بين الصلاتينِ.
و إذا ما شئنا أن نفهم ميزان العدل الإلهيّ جيّداً و ندرك كيفيّة قياسه، فعلينا تشبيهه بالحاسبات الإلكترونيّة في عالمنا المعاصر. منتهى الأمر أنّ هذه الأجهزة أجهزة مادّيّة، بينما ذلك الميزان معنويّ روحانيّ.
و كما تشخّص الحاسبات الإلكترونيّة الشبيهة بالرادار الحدّ و القياس المطلوب على الفور، فإنّ أجهزة ميزان الصلاة و ميزان الصيام و ميزان الزكاة و ميزان الجهاد و ميزان الولاية و ميزان معرفة الله تعالى و غيرها من الامور الحسنة تشخّص على الفور ميزان خلوص النيّة و نزاهتها في هذه الأعمال.
و كلّما وضعت هذه الأعمال في إحدى الكفّتين و وضع عدل تلك الصفة أو الفعل في الكفّة الاخرى فاقترب مؤشّر الميزان من الوسط، كلّما اقترب ذلك العمل من الصحّة و المطلوبيّة. و كلّما ابتعد مؤشّر الميزان عن الوسط، كان ذلك العمل مُداناً و مذموماً.
و لو فرضنا -مثلًا- أن صفحة الميزان التي يتحرّك عليها مؤشّر الميزان مدرّجة إلى ألف درجة، فإنّ المؤشّر سيتحرّك عند وضع صلاةٍ ما في كفّة الميزان فيشير إلى درجة ما ضمن هذه التدريجات. فإن قيست كلّ صلاة على حدة، ثمّ فوضل بين تلك الصلوات فشُخّص مقام المصلّي تبعاً لقياس عدل صلاة المصلّي، لكان ذلك أمراً شيّقاً، و لأثارت هذه الأجهزة المعنويّة العجب، و كانت جديرة بالتأمّل و التفكّر و المشاهدة.
و حين يثقل ميزان عمل المقرّبين و المخلَصين و الأبرار و الأخيار
و الصالحين، فيقترب من درجة العدل الحقيقيّ أو يعادلها وزناً، فعند ذلك
ينبغي أن يُنادى بنداء: وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ.
و الأمر على هذا المنوال في باب الإنفاق، إذ يؤتى بالإنفاق الذي فعله الإنسان في الدنيا بنوايا و مقاصد مختلفة، فأنفق على قومه و جيرانه -و قد يكون بطبيعة الحال قد أنفق ما أنفق في سبيل الله تعالى، إلّا أنّه قد ينفق لهدف آخر- و سيؤتى يوم القيامة بإنفاقه بجميع مواصفاته، سواء قلّ أم كثر، سرّاً كان أم علانية، فيوضع ذلك الإنفاق في كفّة و يوضع في الكفّة الاخرى روح الإنفاق و حقيقته الخالصة و المحضة في سبيل الله تعالى دونما شائبة من انتظار جزاء دنيويّ أو اخرويّ، كإنفاق أمير المؤمنين عليه السلام في كلّ حال مع عدم امتلاكه مالًا آخر، و مع عدم ادّخاره شيئاً لنفسه و أهل بيته.
فقد كان له عليه السلام أربعة دراهم، فأنفقها بأجمعها في سبيل الله تعالى سرّاً و علانية و في الليل و النهار، فنزلت في حقّه الآية الشريفة:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ.۱
وَ قد روى في «مجمع البيان» و «الجوامع» عن ابن عبّاس في تفسير هذه الآية أنّها نزلت في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، كان له أربعة دراهم، فأنفق درهماً ليلًا و درهماً نهاراً، و أنفق درهماً سرّاً و درهماً علانيةً. كما وردت هذه الرواية عن الصادقينِ عليهما السلام، و رواها كذلك العيّاشيّ عن أبي إسحاق.٢
و لأنّ عليّاً عليه السلام كان أميراً للمؤمنين، فقد كان إنفاقه أمير
الإنفاق و سيوضع يوم القيامة إنفاقه الخالص المحض لوجه الله الكريم في كفّة عدل الإنفاق و حقّ الإنفاق، ثمّ يوضع إنفاق الآخرين في الكفّة الاخرى فيُقاس إلى ذلك المثل و الانموذج و الاسوة الحسنة. فمن كان إنفاقه أفضل و أنزه و أشدّ خلوصاً، اقترب مؤشّر ميزان إنفاقه من إنفاق الإمام، و من ساء إنفاقه و شابته الشوائب، ابتعد مؤشّر ميزان إنفاقه عن إنفاقه عليه السلام.
و قد يقول قائل: لقد عشتُ في آخر الزمان، و كنت أعزباً، و كانت البيئة و العصر فاسِدَيْنِ فتلوّثت بالذنب و الخطيئة. فيؤتى على الفور بميزان العفّة و يُقال له: لقد كان النبيّ يوسف شابّاً وسيماً، و كانت الظروف لابتلائه بالذنب أكثر مساعدةً و مواتاة، حيث واجه امرأة عزيز مصر التي ينبغي أن تكون من أجمل نساء عصرها، و ذلك في مصر التي يشتهر أهلها بالملاحة، و في حجرة مغلقة الأبواب، و تعرّض للضغط و الأمر بارتكاب الذنب، و هُدِّد -إن لم يُساير المرأة- أن يُتّهم و يُلقى في السجن بتلك التهمة سنين طوالًا.
فانظر كيف أو كل نفسه إلى ربّه و أعرض عن الذنب!
ثمّ يقيسون عفّته فيشير مؤشّر ميزان العفّة إلى درجة عفّته. نعوذ بالله من شرور النفس الأمّارة بالسوء إلّا ما رحم الله.
و هكذا الأمر حين تواجه المرء ضائقة ماليّة يتعسّر عليه معها إعاشة عائلته عن طريق كسب المال الحلال، فيمدّ يده إلى المال الحرام، و يسعي لاكتساب المال المشتبه. حيث يؤتى على الفور بميزان الحلال و يُقال له:
أ ضائقتك أعسر أم ضائقة فلان و فلان؟ و يُقال لزوجته: أ مشكلاتكِ في الالتزام بالدين أشدّ و أكثر أم مشكلات آسية امرأة فرعون؟
و حين تشكو النساء من المشاكل الاقتصاديّة و مسائل الحمل و الرضاع و تربية الأطفال، فيؤتى على الفور بمثال النساء و انموذجهنّ:
فاطمة الزهراء بنت نبيّ آخر الزمان، و يقال لهنّ: لقد تزوّجتْ في التاسعة
من عمرها و توفيّت و دفنت في الثامنة عشر، و أنجبت خلال ذلك خمسة أولاد، و كانت مثالًا للعلم و التقوى و الولاية و الصبر و الاحتمال و اليقين و المعرفة و التوحيد أنجبت الحسن و الحسين و محسناً و زينب و أم كلثوم و ليس معلوماً -لو قدّرت الحياة لجنينها السقط محسن- أن يكون أقلّ شأناً من إخوته و أخواته.
و لقد كانت فاطمة الزهراء تحيك الصوف، و تحصد الحنطة بيديها، و تخبز الخبز و تهزّ المهد. و كانت تُطعم صغارها خبز الشعير بينما تتصدّق بعائداتها من فدك على الفقراء. و كانت تقوم للصلاة و العبادة حتّى تتورم قدميها، و قد ثابرت على محبّة زوجها عليّ بن أبي طالب و حامت عن دين الله و دافعت عن الوصاية و الولاية إلى أن استُشهدت في سبيل ذلك.
جاء في كتابي «الكافي» و «معاني الأخبار» عن الصادق عليه السلام:
أنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ»؛ قَالَ: هُمُ الأنبِيَاءُ وَ الأوصِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.۱
و في رواية اخرى: نَحْنُ المَوَازِينُ القِسْطُ.
و قال المرحوم الفيض بعد نقله هاتين الروايتين و الرواية السابقة التي نقلها عن «الاحتجاج»: و قد حقّقنا معنى الميزان و كيفيّة وزن الأعمال و وقفنا بين الأخبار المتعارضة في ذلك و الأقوال بما لا مزيد عليه في كتابنا الموسوم بـ «ميزان القيامة» و هو كتاب جيّد لم يُسبق بمثله فيما أظنّ، يوفّق لمطالعته و فهمه مَن كان مِن أهله إن شاء الله.٢
لا ميزان لطائفتين من الناس
و يتّضح بضمّ ما ذكرناه إلى المطالب السابقة أنّ هناك طائفتينِ من
الناس ليس لهما ميزان.
الطائفة الاولى: الأفراد الذين بلغوا في الإساءة و القبح حدّاً حبطت معه أعمالهم و خلت من أيّة حسنة -و لو في الجملة- لتُقاس في الميزان.
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً.۱
الطائفة الثانية: الذين تخطّوا الإخلاص و مجاهدة النفس الأمّارة، فبلغوا درجة الخلوص و الطهارة المطلقة، و صاروا من الفانين في ذات الله تعالى، و أضحوا -وفقاً للآية القرآنيّة- من المقرّبين و المخلَصين.
فلقد بلغ هؤلاء مرحلة في عالم التوحيد أسقطوا فيها جميع أقسام الغيريّة، و أحرقوا و استأصلوا في كيانهم و صقع أنفسهم بنيان الكثرة القائم على الأوهام و الأفكار الباطلة المتخيّلة، و بلغوا مقام مشاهدة الوحدة في الكثرة، و الكثرة في الوحدة، و أضحوا فانين في أحديّة الذات المقدّسة في نفس الوقت الذي فنوا فيه في وحدانيّته عزّ و جلّ. فلم يبقَ لهم عند ذاك بقايا من وجود و عمل و صفة لتوزن في الميزان. إذ أوكلوا كلّ ذلك إلى ربّهم و عدوّه مِلْكاً مطلقاً له تعالى. و لم يبق لهم من شيء ينسبونه إلى أنفسهم، ليكون -من ثمّ- قابلًا لأن يُوزن.
فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ.٢
هناك حقيقة: يَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَكَ فَنَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً؛ أي المعيّة الصرفة لأولياء الله و المعصومين الذين تمثّل نفوسهم و وجودهم و سيرتهم عين
ميزان القسط و العدل و الحقّ. فمن فني و أزاح عن نفسه كلّ شائبة وجوديّة
نفسانيّة، و اتّخذ لنفسه صِبْغَةَ اللهِ التي لَا صِبْغَةَ مَعَهَا، فتحقّق مقام الإثنينيّة و وجدت المعيّة. و إذ يُفني الحبُّ الشديد المحبَّ في المحبوب، فلن يقام للفانين في الولاية ثمّة ميزان.
عَلِيّ حُبُّهُ جُنَّة | *** | قَسِيمُ النَّارِ وَ الجَنَّة |
وَصِيّ المُصْطَفَى حَقَّاً | *** | إمَامُ الإنسِ وَ الجِنَّة۱ |
المَجْلِسُ الخَامِسُ وَ الخَمْسُونَ: الأنْبِياءُ وَ الأئِمَّةُ هُمْ مِيزَانُ الأعْمالِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ، وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ، وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ ، نارٌ حامِيَةٌ.۱
لا يعترض الشكُّ في أنّ الله تعالى قد خلق كلّ شيء وفق معيار و ميزان خاصّينِ، و أنّه قد أرسل الأنبياء بالميزان و أنّ على البشر -من ثمّ- أن يسيروا على سنّة التشريع وفق هدى نظام الميزان.
وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ، وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ.٢
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ.٣
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ.۱
يستفاد من هذه الآيات أنّ عالم التكوين قد ارسي على أساس حسابات متقنة، و وفق معايير و موازين دقيقة، و أنّ إرسال الرسل و إنزال الكتب السماويّة قد تحقّق -بدوره- على أساس من الميزان، و أنّ عالم البشريّة لم يُترك سدى، بل يمتلك ميزاناً. كما يستفاد منها بأنّ عالَم التشريع ليس خالياً من الحساب، و أنّ على جميع أفراد البشر أن يجعلوا موازينهم وفق محور الحقّ و نظام القسط. فمن ثقلت موازينه منهم، عاش في الدنيا مطمئناً و في الآخرة مكرّماً، و من خفّت موازينه عاش في الدنيا منكوباً و في الآخرة ذليلًا يلاحقه العار إلى قعر جهنّم.
و قد أوردنا في البحث السابق مطالب عامّة عن معنى الميزان، ثمّ بحثنا في خصوص معناه في القيامة بالنسبة إلى أفعال الإنسان. و قد اتّضح بحمد الله و منّه أنّ المراد بالميزان بالنسبة إلى أي امّة: نبيّ تلك الامّة و وصيّ ذلك النبيّ و الكتاب الذي ينبغي على تلك الامّة العمل به؛ و بالنسبة إلى امّة آخر الزمان فالميزان هو الوجود المقدس لرسول الله و أمير المؤمنين صلوات الله عليهما و آلهما و القرآن الكريم الذي: إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.٢
و قد نشب بين المفسّرين و المتكلّمين اختلاف في كيفيّة نصب الميزان يوم القيامة، حيث يذكر المرحوم الشيخ الطبرسيّ أقوالًا في تفسير «مجمع البيان» ذيل الآية الشريفة: وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ: ذُكر فيه أقوال،
أحدها إنّ الوزن عبارة عن العدل في الآخرة، و إنّه لا ظلم فيها على أحد.
و ثانيها: إنّ الله ينصب ميزاناً له لسان و كفّتان يوم القيامة، فتوزن به أعمال العباد الحسنات و السيّئات؛ عن ابن عباس و الحسن (البصريّ)، و به قال الجبائيّ. ثمّ اختلفوا في كيفيّة الوزن، لأنّ الأعمال أعراض لا يجوز عليها الإعادة و لا يكون لها وزن و لا تقوم بأنفسها، فقيل توزن صحائف الأعمال، عن عبد الله بن عمر و جماعة. و قيل: يظهر علامات للحسنات و علامات للسيّئات في الكفّتينِ فيراها الناس، عن الجبائيّ. و قيل: يظهر للحسنات صورة حسنة و للسيّئات صورة سيّئة، عن ابن عبّاس. و قيل: توزن نفس المؤمن و الكافر، عن عُبيد بن عُمير، قال: يؤتى بالرجل العظيم الجثّة فلا يزن جناح بعوضة. و ثالثها: إنّ المراد بالوزن ظهور مقدار المؤمن في العِظَم و مقدار الكافر في الذلّة، كما قال سُبحانه: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً.۱
كلام المفيد و المجلسيّ في الميزان
و قد نقل المجلسيّ رضوان الله عليه في كتابه «البحار» هذه المطالب عن «مجمع البيان»، ثمّ أورد بيان الفخر الرازيّ، و نقل الروايات الواردة في المقام، ثمّ عقّب على ذلك بقوله:
قال الشيخ المفيد رحمه الله، الحساب هو المقابلة بين الأعمال و الجزاء عليها، و المواقفة للعبد على ما فرط منه، و التوبيخ على سيّئاته، و الحمد على حسناته، و معاملته في ذلك باستحقاقه؛ و ليس هو كما ذهبت
العامّة إليه من مقابلة الحسنات بالسيّئات و الموازنة بينهما على حسب استحقاق الثواب و العقاب عليهما، إذ كان التحابط بين الأعمال غير صحيح، و مذهب المعتزلة فيه باطل غير ثابت. و ما يعتمد الحشويّة في معناه غير معقول، و الموازين هي التعديل بين الأعمال و الجزاء عليها، و وضع كلّ جزاء في موضعه، و إيصال كلّ ذي حقٍّ إلى حقّه؛ فليس الأمر في معنى ذلك على ما ذهب إليه أهل الحشو من أنّ في القيامة موازين كموازين الدنيا لكلّ ميزان كفّتان توضع الأعمال فيها، إذ الأعمال أعراض، و الأعراض لا يصحّ وزنها، و إنّما توصف بالثقل و الخفّة على وجه المجاز، و المراد بذلك أنّ ما ثقل منها هو ما كثر و استحقّ عليه عظيم الثواب، و ما خفّ منها ما قلّ قدره و لم يستحقّ عليه جزيل الثواب. و الخبر الوارد أنّ أمير المؤمنين و الأئمّة من ذرّيّته عليهم السلام هم الموازين فالمراد أنّهم المعدّلون بين الأعمال فيما يستحقّ عليها، و الحاكمون فيها بالواجب و العدل. و يُقال: فلان عندي في ميزان فلان، و يُراد به نظيره. و يُقال: كلام فلان عندي أوزن من كلام فلان، و المراد به أنّ كلامه أعظم و أفضل قدراً.
و الذي ذكره الله تعالى في الحساب و الخوف منه إنّما هو المواقفة على الأعمال، لأنّ من وقف على أعماله لم يتخلّص من تبعاتها، و من عفى الله تعالى عنه في ذلك فاز بالنجاة. و من ثقلت موازينه بكثرة استحقاقه الثواب فاولئك هم المفلحون، و من خفّت موازينه بقلّة أعمال الطاعات، فاولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنّم خالدون. و القرآن إنّما أنزل بلغة العرب و حقيقة كلامها و مجازه، و لم ينزل على ألفاظ العامّة و ما سبق إلى قلوبها من الأباطيل -انتهى كلام المفيد قدّس سرّه.
ثمّ يقول المجلسيّ: قد سبق الكلام منّا في الإحباط، و أمّا إنكار الميزان بهذه الوجوه فليس بمرضيّ لما عرفتَ من وجوه التوجيه فيه.
نعم، قد سبق بعض الأخبار الدالّة على أن ليس المراد الميزان الحقيقيّ، فبتلك العلّة يمكن القول بذلك. و إن أمكن تأويل بعض الأخبار بأنّ الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام هم الحاضرون عند الميزان الحاكمون عليها، لكنّ بعض الأخبار لا يمكن تأويلها إلّا بتكلّف تامّ. فنحن نؤمن بالميزان و نردّ علمه إلى حملة القرآن و لا نتكلّف علم ما لم يوضَّح لنا بصريح البيان، و الله الموفّق و عليه التكلان.۱
رأي المؤلّف في أمر الميزان
يقول الحقير: لا يمكن إنكار الميزان، و نحن نؤمن به و نقرّه، و إذا ضممنا ما ذكرنا سابقاً من أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني العامّة الكلّيّة إلى الروايات الواردة في أنّ الأنبياء و الأوصياء هم الميزان، و أنّ نهجهم و سيرتهم هما الميزان، لا ستخلصنا أنّ ذلك الميزان متناسب مع وزن الأعمال و العقائد و الملَكات، و أنّه ينبغي أن يوضع في إحدى كفّتيه المعيار الصحيح و الأساس الثابت، بينما توضع أعمالنا في كفّته الاخرى. و بطبيعة الحال، ينبغي أن تتناسب كفّتي الميزان و طريقة الوزن مع تلك الأعمال ليمكننا القول- من ثمّ- بأنّ الميزان قد استعمل في معناه الحقيقيّ لا المجازيّ. لكنّ هذا الالتزام لا يستدعي منّا القول بأنّ الحسنات توضع في إحدى كفّتي الميزان بينما توضع السيّئات في الكفّة الاخرى. كما لا يلزمنا اعتبار أنّ الأنبياء و الأوصياء يحضرون عند الميزان، لأنّهم هم الميزان. إلّا أنّهم ميزان يتناسب مع ذلك العالم و يتناسب مع وزن الأعمال و تقديرها.
يُضاف إلى ذلك أنّنا لا نعتبر أنّ الميزان هو نفس المقابلة و الموازنة بين الأعمال و جزائها، إذ إنّنا لا نستعمل الميزان مجازاً في مجرّد معنى
العظمة و الأهمّيّة، بل نقول بالميزان الذي يُنصب في القيامة و يمثّل أحد مواقفها. إلّا أنّه -كما سبق أن ذكرنا- ليس شبيهاً بهذه الموازين الدنيويّة التي تُقاس بها الأشياء ذات الوزن، فتكون النتيجة أنّ كلامَي «المفيد» و «المجلسيّ» رحمة الله عليهما سيحتفظان بأهمّيّتهما و أصالتهما كلًّا بدوره، كما أنّهما لن يكونا خاليينِ من النقص كلًّا بدوره، و الحمد للّه أوّلًا و آخراً.
إنّ ميزان العدل سيُقام يوم القيامة، حيث تقول الآية الكريمة: وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ.۱
كما يقول القرآن من جهة اخرى: وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ.٢
الأمر الذي يشير إلى أنّ ميزان الحقّ هو بذاته ميزان العدل. و قد جاء في بعض الروايات أنّ المراد بالميزان يوم القيامة هو ميزان العدل. و بطبيعة الحال فإنّ هناك اختلافاً بين معنى العدل و معنى الحقّ، إذ يعني العدل الشيء الذي يجعله الإنسان مقابل شيء آخر فيساويه من جميع الجهات دونما زيادة و لا نقصان و دونما إفراط و لا تفريط؛ أمّا الحقّ فيمثّل عين التحقّق و الواقعيّة. و ربّما كان الحقّ أدقّ و ألطف من العدل في مفهومه، لأنّ الحقّ هو عين التحقّق، أمّا العدل فيتلوه في الدرجة، إذ ينبغي على الإنسان أن يقارن مع الحقّ شيئاً آخر فينظر أيّهما يرجح بصاحبه، ليصدق من ثَمَّ معنى العدل. إنَّ القُرآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضاً.٣
الحسنات ثقيلة و ترتفع إلى الاعلى، و السيّئات خفيفة و تهبط إلى
إنّ الميزان الذي يقام يوم القيامة هو الحقّ و هو العدل، فالوزن هنالك الحقّ. أي أنّ الحقّ هو الذي يمتلك وزناً و ثقلًا، أمّا الباطل فلا وزن له و لا ثقل. و قد ورد مفهوم الثقل و الخفّة في بعض الآيات، مثل: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ.
و المراد بهما ثقل الميزان و خفّته. فالمؤمنون ميزانهم ثقيل راجح، أمّا الكافرون فميزانهم خفيف طفيف. و كلّما زادت السيّئات و تراكمت خفّ بسببها الميزان. و في المقابل كلّما زادت الحسنات ثقل الميزان و رجح، لأنّ الميزان هو الحقّ لا سواه، و لأنّه يُقاس بالحقّ. فكلّما زاد فيه ما له عنوان الحقّ و التحقّق ثقل الميزان، و كلما قلّ ذلك فيه خفّ.
و من الجليّ أنّ الحسنات لها عنوان الحقّ، و أنّ السيّئات هي الباطل، و الباطل جفاء و هباء، لا قيمة له و لا وزن.
و خلافاً لعالم المادّة و الطبع الذي يزداد فيه الشيء الثقيل الكثيف انجذاباً إلى الأرض و جاذبيّتها، فإنّ موجودات عالم التجرّد و المعنى تزداد ارتفاعاً كلّما زادت أصالة و وزناً. و قد جاء في شأن النبيّ إدريس على نبيّنا و آله و عليه السلام: وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا.۱
و جاء في شأن إبراهيم عليه السلام: وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ.٢
كما جاء في شأن أهل البيت عليهم السلام: في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ
تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ.۱
أمّا بشأن بَلْعَم بن بَاعُورَاء فنظراً لتوجّهه إلى الدنيا فلم يرفعه الله، بل خلّده على الأرض و جعل إقامته فيها سرمديّة:
وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.٢
و بصفة أنّ قيمة الأعمال تقاس يوم القيامة بحسب ميزان قربها من الحقّ تعالى: و لأنّ العمل الأكثر تقرّباً أكثر وزناً و قيمة، و أنّ العمل الأبعد أخفّ وزناً و قيمة، و لأنّ الحسنات و السيّئات إنّما تكتسب عنوان الحسنات و عنوان السيّئات وفقاً لهذا الأساس و المعيار، فسيكون مناط الثقل و الوزن بمدى تجسيد الحقّ و الواقعيّة. فكلّما انطوى العمل على قدر أكبر من ذلك، كان أكثر أصالة و أرجح مقبوليّة. أمّا العمل الذي لا ينطوي على شيء ذي بال منها، فسيكون بلا قيمة و بلا قدر.
إنّ ذلك العالم هو عالم الحياة و القدرة و العلم، و عالم النور و التجرّد الذي لا سبيل للظُلمة إليه. و من هنا فإنّ الأفراد الذين يُبتلون بالسيّئات فتستحيل نفوسهم نفوساً شيطانيّة، سيعجزون عن بلوغ ذلك العالم و سيضيعون و يفنون في مراكز البُعد و مظاهر الجهل و الشقاء (أي في جهنّم)؛ و سيكون ميزانهم خفيفاً، و قد لا يكون لهم ميزان أساساً و لا عمل يرفعهم إلى الأعلى.
الضالّون يفنون و ينعدمون قبل بلوغ عالم الانوار
و قد تحدّثت آيات القرآن كثيراً عن أمر الضلال و الإضلال، مشيرةً
إلى أنّ اولئكم الأفراد سيضلّون و يضيعون قبل بلوغهم مقام الحقيقة و عالم النور و الواقعيّة، و سيعجزون عن المقاومة في عالم النور، و عن تحمّل تلك الأنوار القاهرة و الجذبات السبحانيّة.
وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.۱
وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً.٢
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.٣
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.٤
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.٥
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا.٦
أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ.۷
إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا.۸
و على أيّة حال فإنّ هذه الآيات و كثير غيرها ممّا ورد في القرآن الكريم تدلّل بأجمعها على أنّ المشركين و الكافرين و الطاغين و المتمرّدين و أتباعهم يفتقدون الأصالة و الوزن، و أنّهم سيحترقون و يفنون و يضيعون
قبل الوصول إلى مقام عزّ الأنوار الربوبيّة.
و بصفة أنّ السيّئات عديمة الوزن و الثقل و أنّ المشركين و الكافرين لا وزن لهم؛ و لأنّ أعمال المشركين و الكفار ستُقاس في الميزان على أساس ما تمتلك من أصالة و حقيقة، فإنّها ستكون خفيفة. أمّا الحسنات فهي ثقيلة لأنّها ذات أصالة. و هناك لكلّ عمل ميزان خاصّ، لذا وردت الموازين في الآية الشريفة بصيغة الجمع. كما جاء في الرواية: الصَّلَاةُ مِيزَانٌ، مَن وَفَى اسْتَوْفَى.۱
الصلاة ميزان للتكامل و الرقيّ و بلوغ درجات القرب و كمال الإنسانيّة فمن رعاها حقّ رعايتها و حافظ عليها، استوفى حقّه بكماله و تمامه و نال قصده في درجات القرب. لذا ورد في الرواية الصحيحة عن الإمام الباقر عليه السلام عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: مَا بَيْنَ المُسْلِمِ وَ بَيْنَ أنْ يَكْفُرَ إلَّا أن يَتْرُكَ الصَّلَاةَ الفَرِيضَةَ مُتَعَمِّدَاً أوْ يَتَهَاوَنَ بِهَا فَلَا يُصَلِّيهَا.٢
مودّة رسول الله و أهل بيته عليهم السلام هي التي تثقل الميزان
و روى الصدوق في كتابه «فضائل الشيعة» بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: حُبِّي وَ حُبُّ أهْلِ بَيْتِي نَافِعٌ في سَبْعَةِ مَوَاطِنٍ أهْوَالُهُنَّ عَظِيمَةٌ: عِنْدَ الوَفَاةِ، وَ عِنْدَ القَبْرِ، وَ عِنْدَ النُّشُورِ، وَ عِنْدَ الكِتَابِ، وَ عِنْدَ الحِسَابِ وَ عِنْدَ المِيزَانِ، وَ عِنْدَ الصِّرَاطِ.٣
و يتّضح أنّ حبّ رسول الله و أهل بيته ممّا ينفع المرء و يُثقل أعماله و يرجّحها في الميزان.
روى الصدوق في «التوحيد» بسنده عن أبي معمّر السعدانيّ، عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ضمن حديثٍ ردّ فيه على من ادّعى أنّ في آيات القرآن تناقضاً؛ قال عليه السلام:
وَ أمَّا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى: «وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» فَهُوَ مِيزَانُ العَدْلِ يُؤْخَذُ بِهِ الخَلائِقُ يَوْمَ القِيَامَةِ يَدِينُ اللهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى الخَلْقَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالمَوَازِينِ.
(و هنا يقول المرحوم الصدوق استطراداً: و في غير هذا الحديث:
المَوَازِينُ هُمُ الأنبِيَاءُ وَ الأوصِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
ثمّ يتابع ذكر الحديث):
وَ أمَّا قَوْلُهُ عزَّ وَ جَلَّ: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً» فَإنَّ ذَلِكَ خَاصَّةٌ. (و لا منافاة له مع ذلك الحكم العامّ الكلّيّ).
وَ أمَّا قَوْلُهُ: «فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ» فَإنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: لَقَدْ حَقَّتْ كَرَامَتِي -أوْ قَالَ: مَوَدَّتِي- لِمَنْ يُرَاقِبُنِي وَ يَتَحَابَّ بِجَلالِي. إنَّ وُجُوهَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ نُورٍ، عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ خُضْرٌ.
قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟!
قَالَ: قَوْمٌ لَيْسُوا بِأنْبِيَاءَ وَ لَا شُهَدَاءَ وَ لَكِنَّهُمْ تَحَابُّوا بِجَلَالِ اللهِ وَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
نَسْألُ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ أنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ بِرَحْمَتِهِ.
وَ أمَّا قَوْلُهُ: «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ و خَفَّتْ مَوازِينُهُ»؛ فَإنَّمَا يَعْنِي الحِسَابَ. تُوزَنُ الحَسَنَاتُ وَ السَّيِّئَاتُ؛ وَ الحَسَنَاتُ ثِقْلُ المِيزَانِ وَ السَّيِّئَاتُ
خِفَّةُ المِيزَانِ.۱
و على أيّة حال فيستفاد ممّا جاء في هذه الرواية -إضافة إلى ما ذكرنا من أنّ السيّئات طفيفة لا وزن لها- العلّة في عدم وجود ميزان للذين يدخلون الجنّة بغير حساب. لأنّ التحابب في الله و في جلال الله يعني المودّة و الاخوّة و العلاقة الحميمة و قضاء البعض حوائج البعض الآخر للّه فقط و في سبيله و ذكراً له و وصولًا إلى لقائه و معرفته عزّ و جلّ.
و مثل هؤلاء الأفراد الذين ليس لهم في أعمالهم الشخصيّة من قصد إلّا الله تعالى، و الذين لا ثمن لمعاملاتهم إلّا الله عزّ و جلّ، فإنّ ديتهم -في المقابل- ليست إلّا الله سبحانه. و جملة أنَا دِيَتُهُ توضّح هذا المعنى بجلاء.
و اولئك الذين يدخلون في جنّة لقاء الله و ذات الحضرة الأحديّة، و يمّحون في أنواره عزّ و جلّ.
كما سبقت الإشارة إلى أنّ هناك -في المقابل- أفراداً من أصحاب النار يدخلونها بغير حساب و لا ميزان.
جاء في «الكافي» عن الإمام السجّاد عليه السلام ضمن كلامٍ له في الزهد قال:
وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أنَّ أهْلَ الشِّرْكِ لَا يُنْصَبُ لَهُمُ المَوَازِينُ وَ لَا يُنْشَرُ لَهُمُ الدَّوَاوِينُ وَ إنَّمَا يُحْشَرُونَ إلَى جَهَنَّمَ زُمَرَاً؛ وَ إنَّمَا نَصْبُ المَوَازِينِ وَ نَشْرُ الدَّوَاوِين لإهْلِ الإسْلَامِ. وَ اتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ -)الخبر(.٢
و بناءً على ذلك فلا منافاةَ بين آية فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً و بين
آية وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ؛ لأنّ الاولى تتعلّق بالمشركين و منكري لقاء الله تعالى، أمّا الثانية فتتعلّق بالمؤمنين من ذوي الأعمال الضعيفة الخفيفة في الميزان.
و بعبارة اخرى فإنّ الآية الثانية عامّة، أمّا الآية الاولى ففي حكم المخصّص لها.
و من بين الامور التي توجب ثقل الميزان و رجحانه حُسن الخلق؛ روى الكلينيّ في «الكافي» عن الحسين بن أحمد، عن المعلى، عن الوشّاء، عن عبد الله بن سنان، عن رجل من أهل المدينة، عن عليّ بن الحسين عليه السلام؛ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: مَا يُوضَعُ فِي مِيزَانِ امْرِئٍ يَوْمَ القِيَامَةِ أفْضَلُ مِنْ حُسْنِ الخُلْقِ.۱
الجزاء و الثواب يوم القيامة قائمان على أساس الميزان
يستفاد من مجموع ما ذُكر أنّ جزاء الناس في يوم القيامة يقوم على أساس ميزان عملهم، و أنّ أيّة فرقة أو طائفة لا تُثاب و لا تُعاقب إلّا بلحاظ موازين حسناتها و سيّئاتها، و أنّ الحسب و النسب سيفقدان أثرهما يومذاك، و أنّ العلاقات المادّيّة و الطبيعيّة ستُلغى، فيُثاب الناس على اسس نظام الأصالة و الواقعيّة و التحقّق؛ و ذلك التحقّق في الميزان هو الذي يحدّد درجة كلٍّ منهم في عالم الأنوار و الحقائق.
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ ، تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ.٢
الأنبياء و الأوصياء هم المعيار و الميزان؛ و كلّ امّة تقاس مقارنة إلى الموازين الروحيّة و العمليّة و السلوكيّة لإمامها، فيكون المعيار في ذلك الحجج الإلهيّة الذين يمثّلون واسطة الفيض و واسطة التربية و التعليم التشريعيّ للناس. و سيحتجّ الله تعالى على الناس بسنّة اولئكم الحجج و منهاجهم، و سيحاسب الناس فيثيبهم أو يعاقبهم بناءً على تلكما السنّة و المنهاج:
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ.۱
على أنّ للبعض أعمالًا تفوق في سطوعها و إشراقها و نورها دائرة الأفكار و حدود التصوّر، و تبهر الأنظار بتلألؤها و ضيائها. كما أنّها من الصفاء و الطهارة بحيث تتعدى السعة الوجوديّة للملائكة فلا يستطيعون بلوغها و نيلها، لأنّ تلك الأعمال مختصّة بعشّاق لقاء الله و متيّمي جماله الخالد، و السعاة المجاهدين في طريقه، الذين ينسون كلّ ما سواه. فأيّ ثواب و جزاء يمكن أن يقدّر لهم يومئذٍ؟
و حين نعلم أنّهم قد تخطّوا عالم الوجود بأسرارهم و أرجاء وجودهم، ناهيك عن أفكارهم و تصوّراتهم الذهنيّة و قلوبهم و مدركاتهم الباطنيّة؛ و حين يكونون قد عبروا عالم الوجود و دفنوا -إلى الأبد- وجوداتهم المعارة المجازيّة في مقبرة النسيان، و نصبوا خيامهم و سرادقاتهم في عالم أزليّة الحقّ من خلال الاندكاك في ذات الحضرة الأبديّة و الفناء فيها، فلن يكون لهم -و الحال هذه- من أجر و لا جزاء إلّا الله سبحانه.
إنّ تلك الطهارة و الخلوص، و تلك الدرجة من النيّة الحميدة و الاستغراق في مشاهدة المحبوب الخالد هي التي منحت عمل مولانا
و مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المحبّين جوهرة و أصالة جعلتا أوّل ما خلق الله و صاحب المقام المحمود على الإطلاق:
محمّد المصطفى صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول، في ضربة سيفٍ واحدة انهال بها عليّ عليه السلام على فرق عمرو بن عبد ودّ:
ضَرْبَةُ عَلِيّ يَوْمَ الخَنْدَقِ أفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ.
و لم يكن هذا التعبير تعبيراً عن القوّة الفائقة و التفوّق الظاهريّ، أو عن عزّ الإسلام من جانب الحكم الاجتماعيّ؛ إذ كيف يمكن لهذه المعاني أن تجعل ضربةً واحدة أفضل من عبادة جميع الجنّ و الإنس؟! بل إنّه تعبير عن حالة الخلوص و الاستغراق و الاندكاك المحض، إذ لم يكن عليّ ليرى في ذلك الوقت و لا ليسمع إلّا الله تعالى، و لم يكن ليتحدّث إلّا إليه عزّ و جلّ.
أمير المؤمنين عليه السلام هو ميزان الاعمال
و بطبيعة الحال فإنّ مثل هذا العمل أفضل من عبادة الجنّ و الإنس من ذي الوجودات اللاهثة وراء الثواب و الدرجات و المقامات. و لهذا السبب فإنّ أمير المؤمنين ليس لديه ثمّة ميزان للعمل، و سيدخل الجنّة بغير حساب، بل إنّه بذاته ميزان الأعمال: السَّلَامُ عَلَى مِيزَانِ الأعْمَالِ.۱
الإمام عليّ هو ميزان الأعمال، و قسيم الجنّة و النار، و الصراط المستقيم و هو المعيار و المحكّ، و هو المركز و المحور، و هو صاحب العرفان الإلهيّ و صاحب الولاية و ذو التحابب في الله تعالى، و ممّن ترسّخ فيهم حبّ الله تعالى، إذ كان محبّاً لعظمة الله و جلاله، و لأنّ سيرته و صفاته
و نواياه و وجوده كانت للّه تعالى، فهو -إذاً- الميزان.
لاحظوا أنّ جميع علائق الحبّ في عصرنا الحاضر تدور حول محور الدنيا، و أنّ المؤتمرات و الجلسات و الأحزاب و الامم و الجامعات و الكتب و المكتبات تدور بأجمعها على أساس المادّة و الطبيعة، و تتحرّك على ضوء علم الاجتماع و الاقتصاد و أشباه ذلك.
فأين هي -يا ترى- المدرسة التي تتحرّك بجناحَي العلم و العمل في تربية أفراد يحبّون الله و يدركون بصفاء السرّ المعانيّ الحقّة الحقيقيّة؟! فلو شاء إنسان في عصرنا الحاضر تهذيبَ نفسه و إصلاحها، لكيل له من التُّهم ما يجعله ينكّس رأسه خجلًا.
أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
افٍّ لكم و لأفكاركم و نواياكم القبيحة و للآلهة الخياليّة التي اختلقتموها في قلوبكم و أذهانكم إفكاً و بُهتاناً، فابتعدتم -عمداً أو جهلًا- عن هذا الإله الرحيم الرءوف و اتّبعتم سواه.
إنّ أمثال هؤلاء لمّا عجزوا عن فهم معنى «و يتحابّ بجلالى» (بالجيم المعجمة)، فقد حرّفوها و طبعوها «و يتحابّ بحلالى» (بالحاء المهملة)، ثمّ عدّوا الرواية في تعليقهم في هامش الكتاب من الآحاد و من الروايات الغريبة، ليوجدوا بذلك سدّاً منيعاً أمام إرادة من يحاول فهم هذه الرواية و يسعى إلى محبّة الله تعالى،۱ و ليقفوا بنهجهم و سلوكهم في عبادة الدنيا
حائلًا أمام سير مجتمع العلم و الأدب في طريق لقاء الله تعالى:
نعم، إنّ المتحابّين في جلال الله سبحانه ليس لهم من مقصد و هدف و غاية و معبود إلّا الله عزّ و جلّ.
هر سو كه دويديم همه سوى تو ديديم | *** | هر جا كه رسيديم سر كوى تو ديديم |
هر قبله كه بگزيد دل از بهر عبادت | *** | آن قبلهء دل را خم أبروى تو ديديم |
هر سَروِ روان را كه در اين گلشن دهر است | *** | بر رسته به بُستان و لب جوى تو ديديم |
از باد صبا بوى خوشت دوش شنيديم | *** | با باد صبا قافلة بوى تو ديديم |
روى همه خوبان جهان بهر تماشا | *** | ديديم ولى آينه روى تو ديديم |
در ديده شهلاى بتانِ همه عالم | *** | كرديم نظر نرگس جادوى تو ديديم۱ |
تا مِهرِ رخت بر همه ذرّات بتابيد | *** | ذرّات جهان را به تك و پوى تو ديديم |
در ظاهر و باطن به مجاز و به حقيقت | *** | خلق دو جهان را همه رو سوى تو ديديم |
هر عاشق ديوانه كه در جملگى تست | *** | بر پاى دلش سلسلهء موى تو ديديم |
سر حلقة رندان خرابات مغان را | *** | دل در شكن حلقهء گيسوى تو ديديم |
از مغربى أحوال مپرسيد كه او را | *** | سودا زده طرّهء هندوى تو ديديم۱ |
صفات الإنسان الكامل هي الميزان
و قد أجاد ابن الفارض و أبدع حين أنشد يقول:
نَسَخْتُ بِحُبِّي آيَةَ العِشْقِ مِنْ قَبْلِي | *** | فَأهْلُ الهَوَى جُنْدِي وَ حُكْمِي عَلَى الكُلِ |
وَ كُلُّ فَتَى يَهْوَى فَإنِّي إمَامُهُ | *** | وَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْ فَتى سَامِعِ العَدْلِ |
وَ لِي في الهَوَى عِلْمٌ تَجِلُّ صِفَاتُهُ | *** | وَ مَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ الهَوَى فَهوَ في جَهْلِ |
وَ مَنْ لَمْ يَكُنْ في عِزَّةِ الحُبِّ تَائِهاً | *** | بِحُبِّ الذي يَهْوَي فَبَشِّرْهُ بِالذُّلِ |
إذَا جَادَ أقْوَامٌ بِمَالٍ رَأيْتَهُمْ | *** | يَجُودُونَ بِالأرْوَاحِ مِنْهُمْ بِلَا بُخْلِ |
وَ إنْ اودِعُوا سِرّاً رَأيْتَ صُدُورَهُمْ | *** | قُبُوراً لأسْرَارٍ تَنَزَّهُ عَنْ نَقْلِ |
وَ إنْ هَدِّدُوا بِالهَجْرِ مَاتُوا مَخَافَةً | *** | وَ إنْ اوعِدُوا بِالقَتْلِ حَنُّوا إلَى القَتْلِ |
لَعَمْرِي هُمُ العُشَّاقُ عِنْدِي حَقِيقَةً | *** | عَلَى الجِدِّ وَ البَاقُونَ مِنْهُمْ عَلَى الهَزْلِ۱ |
و أمثال هؤلاء الأفراد قد فنوا في الله تعالى، ثمّ بقوا ببقاءه عزّ و جلّ؛ لذا فإنّهم لمّا بلغوا الكمال صاروا ميزاناً للإنسانيّة. فأيّ ميزان وُجد للرجال و النساء في جميع عالم البشريّة و تحت قبّة السماء الزرقاء أفضل و أشرف من عليّ بن أبي طالب و أولاده الطاهرين و فاطمة الزهراء بنت رسول الله و ابنتها الجليلة موضع سرّ أمير المؤمنين -زينب الكبرى- في تلك الدرجة من طهارة السرّ و نزاهة الفطرة و القلب و النفس و الخيال و الحِسّ، و بتلك الفتوّة، و بذلك الإيثار و العفو، و بذلك الحبّ في جلال الله تعالى، و بتلك العبوديّة و المعرفة و العلم الغزير الفيّاض.
ينبغي على المرء أن يقف أمام قبره الشريف بأدب و خضوع و يقول:
السَّلَامُ عَلَى مِيزَانِ الأعْمَالِ وَ مُقَلِّبِ الأحْوَالِ. السَّلَامُ عَلَى الصِّرَاطِ
الوَاضِحِ وَ النَّجْمِ اللَائِحِ وَ الإمَامِ النَّاصِحِ وَ الزِّنَادِ القَادِحِ وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكَاتُهُ.
و من الجليّ أنّهم ليسوا شهداء على هذه الامّة فحسب، بل إنّهم كذلك شهداء على جميع الأنبياء.
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً.۱
القصيدة العينيّة لابن أبي الحديد في وصف أمير المؤمنين عليه السلام
و في هذا المجال ينساب القلم المقتدر لابن أبي الحديد الشافعيّ شارح «نهج البلاغة» ذي المذهب المعتزليّ فيقول:
يَا بَرْقُ إنْ جِئْتَ الغَرِيّ فَقُلْ لَهُ | *** | أ تَرَاكَ تَعْلَمُ مَنْ بَأرْضِكَ مُودَعُ |
فِيكَ ابْنُ عِمْرَانِ الكَلِيمَ وَ بَعْدَهُ | *** | عِيسَى يُقَفِّيهِ وَ أحْمَدُ يَتْبَعُ |
بَلْ فِيكَ جِبْرِيلٌ وَ مِيكَالٌ وَ إسْرَا | *** | فِيلُ وَ المَلُا المُقَدَّسُ أجْمَعُ |
بَلْ فِيكَ نُورُ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ | *** | لِذَوِي البَصَائِرِ يَسْتَشِفُّ وَ يَلْمَعُ |
فِيكَ الإمَامُ المُرْتَضَى فِيكَ الوَصِيّ | *** | المُجْتَبَى فِيكَ البَطِينُ الأنْزَعُ |
هَذِي الأمَانَةُ لَا يَقُومُ بِحَمْلِهَا | *** | خَلْقَاءُ هَابِطَةٌ وَ أطْلَسُ أرْفَعُ |
هَذَا هُوَ النُّورَ الذي عَذَبَاتُهُ | *** | كَانَتْ بِجَبْهَةِ آدَمَ تَتَطَلَّعُ |
وَ شِهَابُ مُوسَى حَيْثُ أظْلَمَ لَيْلُهُ | *** | رَفَعَتْ لَهُ لألَاؤُهُ تَتَشَعْشَعُ |
لَوْ لَا حُدُوثُكَ قُلْتُ إنَّكَ جَاعِلُ | *** | الأرْوَاحِ في الأشْبَاحِ وَ المُتَنَزِّعُ |
لَوْ لَا مَمَاتُكَ قُلْتُ إنَّكَ بَاسِطُ | *** | الأرْزَاقِ تَقْدِرُ في العَطَاءِ وَ تُوسِعُ |
مَا العَالَمُ العِلْوِيّ إلَّا تُرْبَةٌ | *** | فِيهَا لِجُثَّتِكَ الشَّرِيفَةِ مَضْجَعُ |
مَا الدَّهْرُ إلَّا عَبْدُكَ القِنُّ الذي | *** | بِنُفُوذِ أمْرِكَ في البَرِيَّةِ مُولِعُ |
وَ لَقَدْ عَلِمْتُ بِأنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ | *** | مَهْدِيِّكُمْ وَ لِيَوْمِهِ أتَوَقَّعُ |
وَ لَقَدْ بَكَيْتُ لِقَتْلِ آلِ مُحَمَّدٍ | *** | بِالطَّفِّ حَتَّى كُلُّ عُضْوٍ مُدْمَعُ٢ |
و كان ابن سينا فخر فلاسفة الشرق يقول فيه: وَ كَانَ عَلِيّ في أصْحَابِ مُحَمَّدٍ كَالمَعْقُولِ بَيْنَ المَحْسُوسِ.۱
صَلَواتُ اللهِ وَ سَلَامُهُ عَلَيْهِ وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكَاتُهُ، وَ عَلَى حَلِيلَتِهِ وَ زَوْجَتِهِ وَ أبْنَائِهِ المَعْصُومِينَ وَ أوْلَادِهِ الطَّاهِرِينَ لَا سِيَّمَا مَهْدِيِّهِمْ عَجَّلَ اللهُ تَعَالَى فَرَجَهُ وَ سَهَّلَ مَنْهَجَهُ.
المَجْلِسُ السَّادِسُ وَ الخَمْسُونَ: في كَيْفِيَّةِ الحِسابِ يَوْم القِيامَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.۱
مرحلة الحساب هي إحدى المراحل التي نواجهها يوم القيامة، و هي أحد مواقف القيامة و منازلها التي يُحاسب فيها الإنسان على ما بدر منه في حياته الدنيا من أعمال و سلوك.
وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.٢
و قد ورد في القرآن الكريم في شأن الحساب آيات كثيرة مختلفة في اللحن و المضمون، منها:
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ
الْحِسابِ.۱
إشارةً إلى أنّ سلوك الكافرين بلا أصالة و لا حقيقة، فهو لا يروي الظمآن كما يفعل الماء، و لا يثمر نتيجة و لا ثمراً، بل شأنه كالسراب الذي يخاله الناظرون ماءً، ثمّ يبحثون في تلك الأرض القاحلة فلا يجدون شيئاً.
ثمّ تتصرّم أعمارهم دونما هدى يأخذ بأيديهم إلى السبيل، و يرحلون عن هذا العالم بأكباد حرّى غرثى قد أحرقها الظمأ، و قد خسروا أعمارهم و ثروات حياتهم، فيجدون الله حاضراً يوفّيهم حسابهم و يُساءلهم عمّا عملوا و يسألهم عن علّة انسياقهم وراء الباطل و عدم ارتوائهم من معين الحقيقة الغزير!
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ.٢
الحساب قريب جدّاً؛ فليس من حدّ يفصل بين الناس و بين حسابهم، و لا من فاصل يحجز الإنسان عن الموت. و لو فرضتم أنّ هناك فاصلًا ما، فإنّ ذلك الفاصل -مهما كان- سيكون قريباً، لأنّنا نتحرّك باتّجاه الحساب. و مهما كان ذلك الحساب نائياً، فإنّنا نقترب منه في كلّ لحظة تمرّ. فهو -إذاً- قريب.
أمّا الشيء البعيد فهو الذي انقضى و مضى و ليس للإنسان من سبيل للوصول إليه.
و بهذا اللحاظ تعدّ سنوات عمرنا المنقرضة في منتهى البعد، لأنّها قد انطوت و مضت و ليست قابلة للعودة. فهي قضيّة نائية بعيدة، بل إنّ هذه الساعة التي انقضت علينا الآن صارت بعيدة عنّا، مع أنّها لم تبعد عنّا إلّا
بقدر ساعة واحدة. و ذلك لأنّها مرّت و انقضت و لن ترجع من جديد.
أ يمكن لأحدٍ ما أن يعثر على تلك الساعة الماضية؟ أ يمكنه إعادة عجلة الزمن إلى الوراء لمشاهدة تلك الساعة؟!
ذلك أمر محال، لما ذا؟ لأنّ تلك الساعة إن عادت، فإنّ على العالم أن يعود إلى الوراء، فلقد انقضت تلك الساعة على جميع الموجودات الطبيعيّة المادّيّة. و لو شاءت العودة لتوجّب أن تعود إلى الوراء جميع سلسلة العلل و المعلولات التي تضافرت و تعاضدت من أجل أن تمرّ هذه الساعة في وقتها المعيّن؛ و لتوجّب أن تتغيّر المشيئة الإلهيّة بشأنها، و هو محال.
فمن المحال إذاً أن يعيد أحد الأفراد دقيقة واحدة إلى الخلف، على الرغم من عدم تجاوز الفاصلة الزمنيّة دقيقة واحدة فقط، و ذلك لانتفاء سبيل وصولنا إليها.
أمّا الحساب فهو في منتهى القُرب، لأنّنا نتحرّك باتّجاهه باستمرار، حتّى لو ماثل عمرنا عمر نوح النبيّ الذي عاش بين قومه تسعمائة و خمسين عاماً، لأنّ الموت -في نهاية المطاف- أمر لا بدّ من تحقّقه. لقد عاش النبيّ نوح هذا المقدار بين قومه، و كان يدنو من نقطة أجله كلّ لحظة، حتّى وافاه الأجل في النهاية. و لن يضيرنا شيئاً لو زاد عمرنا على هذا المقدار -فرضاً- لأنّ جباهنا قد خُتم عليها بطابع الموت و الحساب.
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ.۱
الفناء -إذاً- مقدّر علينا بدورنا، و علينا أن نسير باتّجاه الله تعالى و باتّجاه الحساب. و هو مقصد قريب و لو بدا بعيداً. اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ،
إلّا أنّهم غافلون و مُعرضون باستمرار. و مع أنّهم لا ينفكّون يقولون: «ماتَ فلان»؛ و لا يبرحون يتساءلون: «ما ذا دهى فلاناً؟» لكنّهم -مع ذلك كلّه- لا يتأمّلون أبداً في حقيقة أنّ الحساب سيأتيهم بدورهم، و أنّ الموت قد يأتيهم فجأة، و أنّ حسابهم -لو دهمهم الموت- سيكون كحساب الماضين الذين سبقوهم.
ما هي حقيقة الحساب؟
تمثّل حقيقة الحساب كشف المجهول العدديّ. و لو فرضتم أنّ هناك بائعاً يريد معرفة مقدار النفع الذي اكتسبه أو الضرر الذي تحمّله خلال يومٍ معيّن، باعتبار أنّ هذا الأمر مجهول لديه، فإنّه يقارن مجموعة من المعلومات مع بعضها، فيصل إلى كشف ذلك المجهول من خلال ضمّ تلك المعلومات إلى بعضها، و من خلال تطبيق قواعد خاصّة عليها. و يدعى عمل هذا البائع حساباً.
و لو أردنا -على سبيل المثال- أن نعطي لكلّ واحد من الأفراد الثلاثة الجالسين هنا أربعةَ تفّاحات، فإنّنا نحسب كم سيلزمنا من التفّاح، فنصل إلى عدد اثنتي عشرة تفّاحة. بَيدَ أنّ الحساب ليس دائماً بمثل هذه السهولة، فقد يكون عدد الذين نريد إعطاءهم تفّاحاً ثلاثمائة ألف و خمسمائة و سبعة و ستّين شخصاً، نريد أن نعطي كلًّا منهم اثنتي عشر ألفاً و خمسمائة و إحدى عشرة تفّاحة. و هو رقم لن نستطيع حسابه على أصابع اليد، و لن تتضّح لنا نتيجته على الفور، و سينبغي علينا أن نمسك بالقلم و الورقة و نستعين بجدول ضرب فيثاغورس.
و قد يكون الحساب أدقّ من هذا و أكثر تعقيداً، فقد تريدون أن تعطوا تفّاحاً لجميع سكّان العالم. و هو ما يتطلب حساباً أعسر و أشقّ.
و سيتحتّم عليكم أن تحسبوا الأطفال الصغار أيضاً، و أن تعلموا كم تبلغ حصّة الأفراد الذين رحلوا عن الدنيا، ليس خلال لحظة واحدة فحسب، بل على امتداد العمر و اللحظات. فأيّ جهاز للحساب سيكون هذا الجهاز؟
و أي مسطرة حسابيّة هي التي يمكنها أن تعطي الجواب للإنسان بسرعة، و أن تبيّن له ما الذي عمله في اليوم الفلانيّ و الساعة الفلانيّة، و ما الذي عمله في اللحظة التي تلتها؟
سيُحاسب الناس على الأعمال و الخواطر و الأخلاق و العقائد و الملكات، و يقدّمون الإجابة عن ذلك. و هو حقّاً جهاز حساب في منتهى الإثارة للعجب، لأنّه لا يحاسب الإنسان على أعماله فقط، بل يؤاخذه -كذلك- على أخلاقه و سيرته. فمن سيستطيع إنجاز مثل هذا الحساب؟!
فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ.۱
الحساب واقع في ظرف العلم و الجهل، لا في ظرف التحقّق و الواقع
فكم سيحاسب الله تعالى، و بأيّ سرعة سيُحاسب؟ إنّ الحساب ليس عملًا سهلًا، بل هو عمل عسير. و ذلك الجهاز من الغرابة بمكان حين يضع أمام أنظار الإنسان و في لحظة واحدة الإجابة على جميع هذه المجهولات، ليس لفردٍ واحد فحسب، بل لجميع أفراد البشر من الأوّلين و الآخرين، الموتى و الأحياء، منذ زمن آدم إلى زمننا هذا، و من زمننا هذا إلى يوم القيامة.
و ينبغي أن يكون ذلك الحاسوب الإلكترونيّ (الكومبيوتر) في منتهى الاقتدار، و أن يكون المكلّفون بالعمل عليه مَهَرة و خبراء و ممّن اجتازوا مراحل دراسيّة متقدّمة تؤهّلهم للعمل على ذلك الجهاز.
هذا هو تقريب المطلب و قد أضحى سهلًا و يسيراً لفهم العامّة. أمّا
بالنسبة إلى الخواصّ فإنّنا نقول إيضاحاً للمطلب:
إنّ الحساب -باعتباره كشفاً للمجهول العدديّ- يقع في ظرف الجهل، أمّا لو تخطّينا ظرف الجهل فإنّ الحساب سيفقد معناه. إذ إنّنا نُعمل قانون الحساب حين يكون ناتج الحساب مجهولًا لدينا، فنقول -مثلًا- إنّ حاصل ضرب ثمانية في أربعة، مطروحاً منه خمسة، مضروباً في ثلاثة سيكون واحداً و ثمانين.
[ (۸ × ٤) - ٥] × =۸۱.
حيث يرتفع جهلنا بذلك و نصبح عالمين بهذا الأمر.
أمّا حين ينتفي ظرف العلم و الجهل، و يكون الحساب في حقيقة الأمر و واقعه، فإنّ الحساب سيفقد معنى كشف المجهول العدديّ.
إنّ كلّ شيء مترتّب في عالم الخارج على شيء آخر هو عين الواقع.
و لكلّ عمل أثر و نتيجة تترتّب عليه في الخارج. فالغذاء الذي يتناوله الإنسان يتبدّل في المعدة إلى موادّ معيّنة، ثمّ يستحيل في الكبد إلى دم، يمثّل سلسلة امور مترتّبة و لا يمثّل حساباً.
ثمّ إنّ كلّ عمل يلد شيئاً و أثراً معيّناً، و كلّ شجرة تمنح ثمرة معيّنة، و كلّ ثمرة ذات أثر معيّن، و الأمر سائر على هذه الشاكلة. فقد جعل الله سبحانه لكلّ شيء في عالم التكوين أثراً معيّناً، و لكلّ علّة معلولًا معيّناً.
فالصلاة التي يصلّيها المرء لها أثر معيّن، و الصوم الذي يصومه له أثر معيّن آخر، و الكذب و الزنا و الغيبة لها آثار اخرى. و كلّ عمل قبيح أو حسن له أثر معيّن خاصّ، و هي آثار رتّبها الله عزّ و جلّ على تلك الأعمال في عالم التكوين، فصار الأثر الناجم عن صلة الرحم هو طول العمر، و صار الإنفاق في سبيل الله باعثاً على زيادة الخير و البركة، و صار تركه سبباً لضيق المعيشة و عسرها. و هي آثار رتّبها تعالى على نفس الأعمال.
و كما أنّنا حين نغرس شجرة ما في الأرض و نتعاهدها بالسقي، فإنّ الله سبحانه يرتّب على تلك الشجرة آثاراً و نتائج معيّنة، بحيث إذا وصلتها أشعة الشمس و الماء و المواد الغذائيّة المساعدة، فسوف تكبر هذه الشجرة و تورق و تثمر.
علم الله حضوريّ، و حسابه سريع
ثمّ إنّنا سنجهل مقدار ثمار هذه الشجرة و لا نعلم -مثلًا- كم تفّاحة تحمل. و علينا -إذا ما شئنا أن نعلم ذلك- أن نرسل من يعدّ ثمار التفّاح على الشجرة واحدةً فواحدة.
و لكن هل يجهل الله عزّ و جلّ عدد تفّاح هذه الشجرة؟ كلّا بطبيعة الحال، لأنّ علم البارئ بالموجودات ليس علماً حصوليّاً، بل هو علم حضوريّ.
و لدينا نوعان من العلم: العلم الحصوليّ الذي نفتقر معه إلى المعلوم الذي يوجد خارج وجودنا، ثمّ تتّضح صورة ذلك المعلوم في ذهننا فيحصل لنا العلم به. و على سبيل المثال فإنّنا لا نعلم بهويّة الجالسين في هذا المجلس و لا بعددهم. و ذاتنا و مخّنا يفتقران إلى هذا العلم، كما أنّنا لا نعلم به علماً حضوريّاً، فلو أغلقنا أعيننا فإنّنا لن نعلم به أصلًا، أمّا لو فتحنا أعيننا و أمعنّا النظر فإنّ صورة ذلك المعلوم ستحصل في أذهاننا. لذا يُدعى هذا العلم بالعلم الحصوليّ.
أمّا النوع الآخر من العلم فيدعى بالعلم الحضوريّ. و مثاله علمنا بذاتنا، و علمنا بمشاعرنا و قوانا، لأنّ علمنا بقوانا الحافظة و قوانا المفكّرة هو علم حضوريّ لا ينفك عنّا، و لأنّنا -حيثما كنّا- واجدون لذواتنا. و من ثمّ فإنّ علم النفس بالنفس هو علم الحضوريّ. فهل يكون علم الله بموجوداته و مخلوقاته علم حصوليّ؟ و هل كان يفتقد العلم بها ثمّ حصل له العلم بها، و حصلت لديه صورة عن تلك الموجودات؟
لا ريب أنّ ذلك ممّا يستلزم الجهل و الإمكان و ألف عيب آخر، و لا شكّ في أنّ علمه تعالى بالموجودات علم حضوريّ. أي أنّ الموجودات الخارجيّة تمثّل بذاتها علم الله تعالى.
و بعبارة اخرى، فإنّني -أنا الجالس في هذا المكان- لو شئت مشاهدة هذا المسجد، فإنّ عَلَيّ أن أفتح عيني لُاشاهده، حيث ستقع صورة منه في ذهني، أو أن يقوم أحد ببيان خصوصيّات المسجد لي، أو أنّ عَلَيّ أن أنظر إلى صورة المسجد و هيئته في كتابٍ ما فيحصل لي العلم به من خلال ذلك.
أمّا علم الله تعالى بهذا المسجد فليس إلّا حقيقة المسجد و واقعيّته، بل هو نفس المسجد. أي أنّ المسجد بذاته و وجوده الخارجيّ يمثّل علم الله عزّ و جلّ، و ليس هناك -و الحال هذه- ثمّة انفصال بين هذا المسجد و بين علم الله تعالى به. و علم الله سبحانه بكلّ موجود من الموجودات من نوع العلم الحضوريّ، أي أنّ نفس وجود ذلك الموجود و تحقّقه هو علم الله تعالى. عالم التكوين هو علم الله سبحانه. و مهما فعل الإنسان من عمل، فإنّ ذلك الشخص و عمله هما عين علم الخالق الحضوريّ.
و إذ اتّضح هذا المطلب، فقد علمنا أنّ أي موجود ليس خافياً عن الله عزّ و جلّ. و كما أنّ أنفسنا ليست بغائبة عنّا؛ و كما أنّ قوانا النفسيّة ليست غائبة عنّا، و كما أنّنا نعلم بها علماً حضوريّاً، فإنّ علم الله بالله و بصفاته و أسمائه و علمه تعالى بأفعاله (و هي جميع الموجودات و شئونها) هو علم حضوريّ بدوره.
وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.۱
كما أنّ علم الخالق بالكتاب المبين علم حضوريّ. و من هنا فإنّ جميع الموجودات حاضرة أمام الله سبحانه بالعلم الحضوريّ. فلما ذا يحاسب الله تعالى الخلائق؟ و على أي شيء سيحاسبهم؟ أي شيء لا يعلمه الله حتّى يشاء بحسابه له كشف ذلك المجهول؟! إنّ إعمال القوانين و القواعد الحسابيّة من قِبل الله تعالى أمر لا معنى له أساساً، إذ ليس من معنى لكشف المجهول من قبل ذاته القدسيّة. كما أنّ أعمال الإنسان -شأنه في ذلك شأن سائر الموجودات- هي موجودات معيّنة و واضحة في مواضعها، و قد رتّب الله تعالى على كلّ موجود أثراً، بحيث إنّ نفس ذلك الموجود و الأثر المترتّب عليه حاضران في علم الله سبحانه.
فلمن سيحاسب الله تعالى؟ الحساب للناس الجاهلين من أجل أن يعلموا ما هي النتيجة، و من أجل أن يعلموا أنّ الثواب و العقاب قائمان على أساس من العدل و الرحمة و ليسا قائمين جزافاً على أساس من اللهو و اللعب و العبث.
مثال: يحاول المعلّم في المدرسة في بادئ الأمر أن يعلّم الأطفال الجدد مبادئ الحساب، فتراه يبذل جهداً في إيصال معلومة بسيطة لأذهانهم باسلوب جذّاب، فمثلًا يقول لهم: لو فُرض أنّ هناك ثلاثة طيور واقفة على الأرض، و أنّ كلّ واحد منها سيحمل في منقاره أربعة ورود ثمّ يطير.
فما هو عدد الورود التي حملتها الطيور الثلاثة؟
و يتحمّل المعلّم المشاقّ في إيصال إدراك هذا المجهول لهذه البراعم المتفتّحة حديثاً، و التي قدمت إلى المدرسة توّاً. و الحقّ أنّ إفهامهم هذا الأمر صعب، لأنّ أذهانهم لا تمتلك من السعة ذلك القدر الذي يمكنهم من خلاله تصوّر تكرار أربعة ثلاثَ مرّات.
و لكنّ الأمر بالنسبة إلى المعلّم لا ينطوي على صعوبة تذكر، كما أنّه
لا يحتاج في إدراكه لهذا المجهول إلى استعمال قواعد رياضيّة، إذ ليس الأمر جذراً و لا تكعيباً، و لا رسماً لمنحنيات معادلات الدرجة الثانية، و لا معادلة من الدرجة الثالثة، بل إنّ (ثلاثة في أربعة يساوي اثنتا عشرة) ما برح موجوداً و مشهوداً و حاضراً في ذهنه. و باعتبار الشهود و الحضور في هذا الأمر، فإنّ الحساب سيكون سريعاً.
و لأن جميع الموجودات حاضرة عند الله تعالى و مشهودة و معلومة عنده عزّ و جلّ، فإنّه سبحانه سريع الحساب: وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.۱
و من هنا فإنّ أساس الحساب إنّما يرجع إلينا نحن الرازحين في ظرف العلم و الجهل. و ذلك أشبه بالآية القرآنيّة الشريفة: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ؛٢ التي لا تعني أنّ الله تعالى لا يملك غير يوم الدين. فهو عزّ و جلّ مالك جميع الأيّام، و مالك جميع العوالم، و هو ما برح مالكاً ليوم الجزاء و غير يوم الجزاء. إلّا أنّ هذا الأمر سيصبح مشهوداً للإنسان في يوم الجزاء فيقرّ و يعترف بالملكيّة المطلقة الحقّة الحقيقيّة للّه تعالى.
إنّنا لا نعترف في هذا العالم حقّ الاعتراف و الإقرار بأنّ الله هو المالك؛ أمّا هناك فسنعترف بذلك و نقرّ به. و لهذا فقد ذكر القرآن الكريم بلسان اعترافنا، و نطق بياناً لحالنا بأنّه تعالى مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، يوم سيمثّل الحساب كشفاً للمجهول بالنسبة إلى الإنسان.
نتائج الاعمال مترتّبة على نفس الاعمال
و خلاصة المطلب أنّ كلّ عمل له نتيجة معيّنة، سواءً كان ذلك العمل في جانب السعادة أم في جانب الشقاء. فكلّ فعل يصدر من الإنسان، حسناً كان أم سيّئاً، له أثر يترتّب عليه و يلازمه. و قد وردت بهذا الشأن آيات
قرآنيّة كثيرة ذكرت إحداها أنّ النبيّ يوسف على نبيّنا و آله و عليه السلام لمّا جاءه إخوته نادمين على ما فرط منهم عرّفهم بنفسه:
قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.۱
أي أنّ أجر المحسنين مترتّب و متوقف على أعمالهم.
و قال تعالى: نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.٢
وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ.٣
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ.٤
وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً ، فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً.٥
وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.٦
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.۷
و الخلاصة فإنّ هذه الآيات تفيد بجلاء أنّ كلّ فعل للإنسان له جزاء
يتبعه، و أنّ على الإنسان ألّا يغفل عن عواقب تصرّفاته.
و قد كان للكثير من علماء الأخلاق و العرفان الأعلام مراقبات شديدة في هذا الشأن، و كانوا يقولون: إذا ما زلّت بنا القدم يوماً فسقطنا على الأرض، فإنّ علينا التأمّل في أحوالنا و أعمالنا لنرى أي خطأ و غفلة صدرا منّا فتبعهما ذلك الزلل و السقوط!
و هذه هي النتيجة الدنيويّة للعمل، و الوليد الصادر منه؛ أمّا النتيجة الاخرويّة فمحفوظة في موضعها.
و لقد كان الفقيه النبيه و عالم الأخلاق و المربّي الروحانيّ السيّد ابن طاووس: عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن طاووس، و لقبه الشريف: رضيّ الدين، أحد مفاخر عالم الإسلام و التشيّع؛ و يقال: إنّ هذا السيّد الجليل كان سيّد أهل المراقبة، فقد كان دقيقاً في مراقبة الأعمال و السلوك و الجزاء و الآثار المترتّبة على تلك الأعمال و ذلك السلوك، بحيث لم يُعرف له مثيل في هذا الشأن و المضمار.
و حين يطالع المرء كتابه الشريف النفيس «الإقبال» في الأدعية و الأعمال العباديّة، فإنّه سيدرك المدى الذي كان عليه هذا العالم العامل في دقّة تفحّصه عن الآثار المترتّبة على الأعمال، و يشاهد النكات الدقيقة و اللطيفة التي أودعها في ذلك الكتاب.
قصّتان في أمر سرعة الحساب الدنيويّ
و نذكر في هذا المجال قصّتين لنتائج ترتّب الآثار على الأعمال، حصلتا في أزمنة قريبة و لا شكّ و لا شبهة في أمر و قوعهما و تحقّقهما، لأنّ عدد هذه القضايا التي عهدها عامّة الناس و شاهد كلّ منهم عدداً منها في حياته اليوميّة من الكثرة بحيث إنّها تفوق الحصر.
القصّة الاولى: يحكي رجل عجوز صادق اللهجة: «شاهدتُ يوماً بامّ عينيّ -بعد أن دخل طهران جنودُ «محمّد ولى خان سبهسالار» بعد
النهضة الدستوريّة- جنديين من اولئك الجنود يسيران على فرسيهما في نواحي «قناتآباد» و هما شاكيا السلاح و قد صفّا على صدريهما أحزمة الطلقات الناريّة. و كان الجنديان يسيران في وسط الطريق متّجهين إلى الغرب باتّجاه «إمام زاده حسن» و في يد أحدهما غليون طويل قد حشّاه بالتبغ و هو منهمك في تدخينه.
و كان يجلس على حافّة الطريق درويش فقير قد حلق رأسه بالموسى حديثاً، و كان يجلس متّكئاً على الجدار واضعاً رأسه على ركبتيه و قد غرق في التفكير.
و لمّا مرّ ذلك الجنديان المسلّحان بالبنادق و لمحا الرجل ذا الرأس الحليق، اقترب منه الجندي صاحب الغليون و انحنى من فوق فرسه و أفرغ جمر غليونه على رأس الدرويش و مرّ منصرفاً. فرفع الرجل رأسه من على ركبتيه و نظر ثمّ قال: «إنّ لهذه اليقطينة۱ صاحباً»!
و كنت آنذاك أسير باتّجاه «إمام زاده حسن»، فلمّا بلغتُ ذلك الموضع شاهدتُ من بعيد جماعة محتشدة تتفرّج على الجنديين المسلّحين، و كانا لم يبلغا بعدُ ساحة الطريق التالية، و كان فرس الجنديّ صاحب الغليون قد جمح به فجأة فألقاه على الأرض، ثمّ وضع إحدى أقدامه على صدر الجندي و أخذ يرفسه على رأسه و صدره و بدنه حتّى هشّمه تهشيماً».
و قد ذكرنا هذه القصّة بشأن سرعة الحساب في الدنيا جزاءً على العمل السيّئ، أمّا القصّة الثانية فتتعلّق بسرعة الحساب في الدنيا جزاءً على العمل الحسن.
قصّة ولادة آية الله الحائريّ إليزديّ
القصّة الثانية: يقول سماحة الاستاذ الثقة المعتمد، المجاهد للنفس
و المراقب لدرجة التزكية و الطهارة: آية الله الحاجّ الشيخ مرتضى الحائريّ دام ظلّه العالى، النجل الأكبر للمرحوم شيخ الفقهاء و المجتهدين الحاجّ الشيخ عبد الكريم الحائريّ اليزديّ رضوان الله عليه:
لقد كان والدي المرحوم الحاجّ الشيخ عبد الكريم هو الابن الوحيد لوالديه، إذ لم يرزق جدّي و جدّتي ولداً سواه. و لم يكن لي -و الحال هذه- ثمّة عمّ أو عمّة.
و بيان ذلك أنّ جدّي المرحوم «محمّد جعفر» لم يكن من أهل العلم، بل إنّ أحداً في طائفتنا -باستثناء أبي- لم يكن من أهل العلم، و لم يكن جدّي قد رُزق أولاداً من جدّتي على الرغم من مرور أعوام طويلة على زواجهما. و كان جدّي يتزوّج بزواج المتعة باستمرار عسى أن يرزقه الله من إحداهنّ ولداً. فلم يقدّر الله تعالى ذلك. و مرّت مدّة دون أن يحصل على شيء من اولئكم الزوجات. حتّى جاء يوم من أيّام الشتاء القارس، و كان جدّي قد ذهب إلى بيت إحدى زوجاته بالمتعة لأداء الصلاة، فحاولت المرأة -و قد تصوّرت أنّه جاء للاستمتاع- أن ترسل ابنتها الصغيرة من زوجها الأسبق إلى خارج البيت بذريعةٍ ما، إلّا أنّ الفتاة الصغيرة كانت تمتنع عن الخروج لبرودة الجوّ. حتّى أنهى جدّي صلاته و كان في حال عصبيّة و انزعاج شديد، فزجر المرأة على محاولتها إرسال الفتاة خارج البيت، ثمّ دفع إليها حقّها و أعفاها من باقي مدّة المتعة و غادر البيت و دفع حقوق سائر أزواجه الاخريات و وهبهنّ باقي مددهنّ، و قد صمّم في نفسه على الامتناع عن التمتّع و عن الاقتراب من تلك الامور. ثمّ يتساءل:
يا إلهي! إلى متى أمدّ إلى سواك يدي من أجل أن ارزق ولداً، فيكون ذلك مدعاة لأذى لطفلة يتيمة في مثل هذا الشتاء البارد؟!
ثمّ إنّ الله سبحانه منّ عليه بعد هذه الواقعة بولد واحد من زوجته
الدائميّة العاقر بعد سنوات طوال من الحرمان، فسمّاه عبد الكريم.
و كان المرحوم أبي ذا ذكاء و قابليّة ثرّة، و كان بإمكانه قراءة الرسائل و فهمها و هو لا يزال طفلًا يافعاً. ثمّ إنّهم أرسلوه من القرية إلى المدينة للدراسة، ثمّ شدّ الرحال إلى كربلاء فدرس في ذلك المكان المقدّس على المرحوم الفاضل الأردكانيّ المعاصر للمرحوم الميرزا الشيرازيّ الكبير:
الحاجّ الميرزا محمّد حسن -و كان البعض يقدّمه على المرحوم الشيخ الأنصاريّ في العلم و الفضل- و لمّا شاهد المرحوم الأردكانيّ قابليّة أبي الكبيرة، أرسله إلى سامرّاء و كتب إلى المرحوم الميرزا الكبير يوصيه به.
و هكذا قدم أبي إلى سامرّاء و لم يكن له من العمر آنذاك إلّا عشرون عاماً، فمثل في محضر الميرزا الكبير و سلّمه رسالة الفاضل الأردكانيّ، و تتلمذ على الاستاذ الميرزا، إلّا أنّه كان قد حضر أغلب دروسه عند المرحوم السيّد محمّد الفشاركيّ الأصبهانيّ» -انتهى كلام الشيخ الحائريّ.
و كان المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ عبد الكريم رضوان الله عليه من رجال العلم و التقوى حقّاً، و لم يتجاوز في مقام العلماء عبوديّة الربّ الكريم، و كان هبة الله و عطاء الله. و قد تحمّل بثبات و صبر مشكلات زمان اقتدار الطاغوت، حتّى اصيب بمرض الدقّ و ارتحل عن الدار الفانية ملتحقاً بفناء الدار الأبديّة الباقية، و كان يُعدّ من مفاخر الشيعة خلال العصر الأخير في الأمانة و الاستقامة و الإعراض عن الدنيا و الاهتمام بتربية الطلّاب. و كان من إنجازاته تأسيس الحوزة العلميّة و دار العلم الجعفريّ في بلدة قم الطيّبة.
و الشاهد في هذه القصّة هو سرعة الأجر و الجزاء لنيّة أبيه الصالح، بحيث إنّه بمجرّد أن مدّ يده إلى الله وحده، و قَطَع أمله عن الوسائل و الأسباب، و صَرَف -رحمةً بطفلةٍ يتيمة- نظره عن إنجاب ولد يكون
ثمرة لفؤاده، فإنّ الله سبحانه مَنّ عليه من زوجته اليائسة من الإنجاب بولد مثل عبد الكريم شاخص بين الأقران. ثمّ يأتي ذلك الولد من القرية إلى المدينة، و يبرز في دار العلم (كربلاء)، ثمّ في سامرّاء، ثمّ يحصل على جميع المواهب الظاهريّة و الباطنيّة و يتصدّر زعامة المسلمين.
و الآيات و الروايات الواردة في آثار أعمال الإنسان و انعكاسها كثيرة، و نورد في هذا المجال آية و رواية على سبيل المثال؛ أمّا الآية فقوله تعالى:
وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.۱
و أمّا الرواية فقد ورد في «الكافي» عن العبّاس بن هلال الشاميّ مولى (خادم) الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام، قال:
كُلَّمَا أحْدَثَ العِبَادُ مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ، أحْدَثَ اللهُ لَهُمْ مِنَ البَلَاءِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ.٢
حساب الله تعالى في الدنيا أمر حتميّ
و على أيّة حال، فليس القصد من هذا البيان أنّ جزاء العمل ينبغي حتماً أن يكون في دار الدنيا، ليلزم منه إشكال أنّ كثيراً من الناس يموتون على خيانتهم و جنايتهم، و أنّ مجال الجزاء سينتفي لأمثال اولئكم؛ لأنّ جزاء العمل من لوازم العمل، و سيوفّى ذلك الجزاء على أكمل وجه يوم القيامة الذي هو محلّ ظهور بواطن النفس، و ستظهر الآثار الأعمال الحسنة أو السيّئة للبعض، من يقدّر لهم العيش في الدنيا مدّة بعد قيامهم بتلك الأعمال، كما سيظهر للبعض الآخر عند سكرات الموت، ثمّ سيعقب الدنيا
عالم المثال، ثمّ تعقب القيامة عالم المثال. و هذه العوالم الثلاثة تمثّل عالماً واحداً ممتدّاً يتجسّد فيه السير التكامليّ للبشر؛ فإن جُوزِيَ الإنسان في الدنيا، خفّف ذلك عنه حسابَه في الآخرة، و إن لم يُجزَ في الدنيا، عسر حسابه في الآخرة.
و لدينا -تبعاً لهذا الأساس- روايات تتضمّن أنّ الله تعالى يجزي المؤمنين في الدنيا على ما يبدر منهم من أخطاء بالمرض و الفقر و الحمّى و غيرها، وصولًا إلى تطهيرهم من خلال ذلك، ثمّ إنّهم يدخلون الجنّة بعد موتهم. أمّا الكافرون فلا يُجازيهم في الدنيا، بل يبتليهم بادّخار الأموال و العيش الرغيد المرفّه ليوفّيهم جزاءهم و عقابهم في الآخرة غير منقوص.
و قد ورد في الحديث:
لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا عِنْدَ اللهِ قَدْرَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ لَمَا سَقَى الكَافِرَ مِنْهَا شَرْبَةً.۱
كما جاء في القرآن الكريم: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ.٢
و في قوله تعالى: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً.٣
و ينبغي العلم بأن الامور و الأعمال ليست مؤثّرة بذاتها في حصول النتيجة تأثيراً مستقلّا، و لا يمكن حصول تلك النتائج تلقائيّاً، بل إنّ الله عزّ و جلّ لمّا يوجد الموجودات على نحو الإفاضة، و يقدّر في تلك الموجودات على نحو الاستلزام آثاراً و خصائص و ثمرات، فيكون ترتّب نتائج الموجودات و ثمرات الأعمال على تلك الموجودات و الأعمال هو عبارة عن استفاضة تلك الموجودات من الله تعالى الآثار التي قدّرها لها.
و من هنا فإنّ كلّ موجود يطلبُ بوجوده الأثرَ من الله تعالى. كما أنّ ارتزاق المخلوقات -بدوره- هو من هذا القبيل، فكلّ موجود خلقه الله سبحانه يطلب بوجوده و هويّته الرزقَ من الله تعالى و يستجلب ذلك الرزق و يستفيضه منه، بحيث إنّه يُديم وجوده بذلك الرزق.
أمّا الحساب و الجزاء فيما ثلان الرزق تمام المماثلة، بل هما و الرزق -بالنظر الدقيق و العقليّ- شيء واحد، حيث تستمدّ سحائب فيض و رحمة وجود الحضرة الأحديّة مياهها و عطاءها من البحر الخضمّ لرحمة الحقّ الواسعة، ثمّ تهطل بالفيض على عالم الإمكان فترويه.
و تبعاً لذلك فكلّ قطرةٍ نازلة تكون امتداداً للقطرة السابقة و استمراراً لها، هي رزق القطرة السابقة. و كذلك فإنّها لمّا تسبّبت في إيفاء الحاجة التي تقتضيها القطرة السابقة عليها، فإنّها ستكون في حكم جزاء تلك القطرة.
و في المقابل، فكما أنّ إفاضة الرزق من قبل ذات الحقّ القيّوم على جميع الممكنات ضروريّة و مستمرّة و دائمة، حيث يقول:
وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ، فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ
لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ.۱
فكذلك أنّ الحساب و الجزاء مستمرّان للموجودات و دائمان و ضروريّان.
ورد في «نهج البلاغة»:
سُئِلَ عَلَيهِ السَّلَامُ: كَيْفَ يُحِاسِبُ اللهُ الخَلْقَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ؟
فَقَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ.
فَقِيلَ: كَيْفَ يُحَاسِبُهُمْ وَ لَا يَرَوْنَهُ؟ فَقَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ وَ لَا يَرْوَنَهُ.٢
و هذا المطلب جدير بالتأمّل، حيث اعتبر الإمام عليه السلام الحساب و الرزق أمرين متماثلين في جميع الآثار و الشؤون. و تنطوي هذه العبارة -على إيجازها و اختصارها- على كثير من المطالب النفيسة العرفانيّة.
فالرزق و الجزاء -إذاً- شيء واحد في حقيقة الأمر؛ لكنّه يُدعى رزقاً بلحاظ معيّن، و يدعى حساباً و جزاءً بلحاظ آخر. و مهما سمّيتم أثر العمل الذي تفعلونه، و سواءً دعوتموه رزقاً أم جزاءً، فإنّكم لو صلّيتم صلاةً معيّنة عن حضور قلبيّ و حصلت لكم حال حسنة و انقطاع، فإنّ تلك الحال الحسنة هي نتيجة هذه الصلاة التي ينفتح فيها القلب فيرده من النفحات الإلهيّة، و يزداد خلالها ارتباط العبد مع خالقه عزّ و جلّ. و هذا هو الرزق الذي منّ الله عليه به.
و لقد قال عزّ و جلّ بأنّه سيرزق الناس حسب أعمالهم و حسبما يشاؤون، فلو باع امرؤ خمراً و حصل على مالٍ صرفه في معيشته، فإنّه
سيكون قد حصل على رزقه من ذلك السبيل، و لو باع بدلًا من الخمر شراباً حلواً و مرطّبات، فإنّه سيكون قد حصل على رزقه عن طريق الحلال.
و سيكون الرزق الحرام هو ثمرة العمل الحرام، و الرزق الحلال ثمرة العمل الحلال.
إنّنا نجلس الآن في هذا المسجد و ننعم برزق الله الذي يصلنا من خلال المذاكرة المستمرّة بهذه المعارف الإلهيّة و بيان آيات القرآن الكريم و الروايات الواردة عن الأئمّة الطاهرين. و هو رزق معنويّ روحانيّ حيث إنّ ورود هذه المطالب على ذهني يمثّل رزقي، و وروده على أسماعكم و قواكم المفكّرة يمثّل رزقكم. و لا اختصاص للرزق بالرزق المادّيّ، و لا انحصار له بالخبز و الماء. بل إنّ جميع أنواع المعاني التي ترد على ذهن الإنسان تدعى برزقه الذهنيّ و غذائه النفسيّ.
و لو خضنا في هذا المجلس في الغيبة و الكذب و الحيلة و المكر لإهدار حقّ إنسان ما؛ و لو انشغلنا بالإفساد في الأرض، لكان ذلك هو رزقنا، و لتمثّل رزقنا بالأغذية النفسيّة العفنة الفاسدة و الخواطر الشيطانيّة.
و لو زرعنا بذر البطّيخ الحلو، لأثمر بطّيخاً حلواً، أمّا لو زرعنا بذر الحنظل فسوف لن يثمر إلّا الحنظل.
سُنّة الله تعالى في الجزاء ليست جزافاً
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ، وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً.۱
أي أنّنا نعطي مَن يشاء ما يشاء بقدر معيّن، و لا نبخل في عطائنا،
و دأبُنا هو أن نفيض الرحمة و الوجود على أساس نوايا الناس و طلباتهم و ظرفيّاتهم، فمن شاء الآخرة أعطيناها له، و من شاء الدنيا منحناها له، إلّا
أنّ لكلٍّ من هذه الرغبات و هذه النعم العاجلة و الآجلة جزاءً سيلحق الناس تبعاً لتلك الرغبات و الطلبات.
و لو بذرتم في الأرض بذرة تفّاح، لأنتجت شجرة تفّاح، و لأثمرت تلك الشجرة تفّاحاً، على أنّ لكلّ نوع من التفّاح بذر خاصّ، فهناك التفّاح الأحمر، و التفّاح الأصفر، و اللبنانيّ، و الخراسانيّ، و غير ذلك من أنواع التفّاح. و من المحال أن نبذر بذر التفّاح الأصفر، فيعطي تفّاحاً أحمراً؛ أو أن نبذر بذر التفّاح المدعو بتفّاح «گلاب» فيثمر تفّاحاً خراسانيّاً.
كما أنّ من المحال أن يبذر المرء بذر تفّاح، فيعطي شجرة كمّثري أو شجرة قرّاصيا أو شجرة مشمش. و من المحال كذلك أن يبذر المرء بذر اليقطين، فيعطي باذنجاناً. أو أن يبذر بذر البطّيخ الأحمر فيثمر بطّيخاً أصفراً. و هي سُنّة من سنن الله الثابتة التي لا تتغيّر.
نعم، يمكن أن ينمو برعم ما على إثر التطعيم بالبراعم، فينتج من تطعيم برعم شجرة لوز حلو على شجرة لوز مرّ، لوزٌ حلو ذو مذاق جيّد مقبول. كما يمكن تطعيم برعم شجرة التوت المعروف بـ «كَن» أو «وَنك»۱ على شجرة التوت «نَرَك» فتثمر توتاً كبيراً حلواً ذا عصارة.
يقول الشاعر المولويّ:
گر تو اين انبان ز نان خالى كنى | *** | پر ز گوهرهاى اجلالى كنى |
طفل جان از شير شيطان باز كن | *** | بعد از آنش با مَلك انباز كن |
تا تو تاريك و ملول و تيرهاى | *** | دانكه با ديوِ لعين همشيرهاى٢ |
لقمهاى كان نور افزود و كمال | *** | آن بود آورده از كسب حلال |
روغنى كايد چراغ ما كُشد | *** | آب خوانش چون چراغى را كشد |
علم و حكمت زايد از لقمه حلال | *** | عشق و رقّت زايد از لقمه حلال |
تو ز لقمه چون حسد بينى و دام | *** | جهل و غفلت زايد آن را دان حرام |
هيچ گندم كارى و جو بَر دهد | *** | ديدهاى اسبى كه كرّه خر دهد |
لقمه تخم است و بَرش انديشهها | *** | لقمه بحر و گوهرش انديشهها |
زايد از لقمه حلال اندر دهان | *** | ميل خدمت عزم رفتن آن جهان |
زايد از لقمه حلال أي مه حضور | *** | در دل پاك تو در ديده نور۱ |
و بطبيعة الحال فإنّ الماهيّات قابلة للترقّي و التكامل، و يمكن للإنسان أن يوصل بالتعليم و التربية جواهر قابليّاته المكنونة إلى منصّة الظهور، و إيصالها إلى مقام الفعليّة، إلى أن تصبح بأجمعها فعليّة محضة.
هيچكس از پيش خود چيزى نشد | *** | هيچ آهن خنجر تيزى نشد |
هيچ حلوائيّ نشد استاد كار | *** | تا كه شاگرد شكر ريزى نشد۱ |
لا بخل في إفاضة الفيض من قِبل الحقّ تعالى
إنّ الله سبحانه يمنح القوابل الإمكانيّة قوّة و قدرة، و يهب الوجود و الرحمة، و يمنّ بالفيض و العطاء. فالله عزّ و جلّ يقوّي نيّة كلّ شخص و ينمّيها، و هو الممدّ و المقوّي. فإن أنت توجّهت إلى المعصية و جعلتَ قلبك مظلماً مدلهمّاً، أمدّ الله ذلك و قوّاه. و إن سعيتَ إلى الطاعة و أنرت قلبك، أمدّ الله ذلك و قوّاه. فهو سبحانه يعطي الشخص كلّ ما يسعى إليه و يطلبه.
كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ.
نحن نمدّ الجميع بالقوّة و القدرة و العلم و الحياة من جانبنا فحسب، و نفيض بعطائنا بلا بُخل على عالم الوجود و الماهيّات بالإمكانيّة، و نرسل أمطار الرحمة التي لا حدّ لها، فتستمدّ كلّ أرض من ذلك المطر بقدر سعتها و ظرفيّتها، و تسيل الوديان بالماء كلّا بحسب سعته. و لو أمسكنا إناءً بلّوريّاً نظيفاً تحت ذلك الماء، لا نصبّ فيه الماء الطاهر الزلال. أمّا لو أمسكنا إناءً ملوّثاً متّسخاً متعفّناً تحت ذلك الماء، لاتّسخ ذلك الماء الطاهر و تعفّن في ذلك الإناء. و ليس الذنب ذنب الماء، بل ذنب الإناء. الذنب ذنب النيّة، و ذنب النفس الأمّارة الطاغية.
باران كه در لطافت طبعش خلاف نيست | *** | در باغ لاله رويد و در شوره زار خس۱ |
وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً.
إنّ نور الشمس الوضّاء يصل إلى البلّور الشفّاف المتلألئ و إلى المصابيح البلّوريّة الوضّاءة، فيكون مضيئاً نورانيّاً. أمّا حين يعبر خلال الأواني السوداء المظلمة فإنّه يبدو أسوداً داكناً مظلماً. و إذا سقط على الزجاج الأسود المعتم بدا أسوداً معتماً. فلجج النور تأتي من السماء طاهرة، لكنّها تبدو في الأوعية المختلفة بجلوات مختلفة. و الاختيار لدى البشر أشبه بالأواني النظيفة و الملوّثة، يحتوي على أمطار فيض رحمة الحقّ فيحتفظ بها طاهرة أو يجعلها ملوّثة. و لهذه الجهة تلتقي الطاعات و المعاصي في عالم البشريّة مع بعضها في الظهور، و ينشأ الإحسان و الإساءة و الحُسن و القبح، إذ يعيش الإنسان في الدنيا مختاراً إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
و هذا الاختيار الذي لا شكّ فيه هو الذي يجعل الإنسان من أصحاب الجنّة أو من أصحاب النار. و لو لا الاختيار لما كان من حسن و قبح، و لا من جنّة و نار، و لا من ثواب و عقاب.
لقد كان سيّد الشهداء مختاراً، و كان الشمر مختاراً بدوره، و الفعل في كلا الصورتين فعلٌ من جانب الحقّ تعالى، إلّا أنّ له في ظرفي النيّتينِ و الاختيارينِ و الإرادتين المختلفتين جلوتين متباينتينِ.
وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ.۱
أي أنّ إضلال الله تعالى يكون بعد إتمام الحجّة، اذ ستكون البيّنة و البرهان قد اقيما على الناس في تلك الحال، و سيكون سبيل السعادة قد اتّضح لهم، إلّا أنّهم نكصوا عن السبيل بسوء اختيارهم و بنواياهم الملوّثة، فاختاروا سبيل الانحراف. و في الحقيقة فإنّ رغباتهم النفسيّة هي التي
تحقّقت و تجسّدت و ارتدت رداء العمل.
يُضِلُّ بِهِ (أي بالأمثلة التي يضربها في القرآن) كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ.٢
قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ.٣
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ.٤
فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.٥
و يتّضح -بناءً على ما ذكرنا- أنّ كلّا من الهداية و الإضلال بِيَدِ الله تعالى، إلّا أنّه لا يضلّ أحداً جبراً بلا سبب، و لا يُضلّ أحداً دون لحاظ لاختياره و نيّته السيّئينِ. بل إنّ إضلال الله هو عبارة عن النمو و الرشد الذي يمنحه لنواياهم و إراداتهم، فيُلبِس تلك الإرادات و الاختيارات أردية الوجود و التحقّق.
كما يتضّح من خلال تقييد هذه الآيات المذكورة، أنّ الآية الواردة في سورة إبراهيم آية مقيّدة بإرادة الذنب و الخيانة، و أنّه ينبغي تقييد إطلاق
هذه الآية و الآيات المطلقة المشابهة.
فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.۱
إنّ الله تعالى ينمّي العمل الذي يقوم به الإنسان أو النيّة على القيام بذلك العمل:
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ
لِمَنْ يَشاءُ.٢
و على أثر إنماء الحنطة، فإنّ سنابلها ستعطي حبوباً وافرة و كبيرة من الحنطة، إلّا أنّها لا تعطي عدساً و لا أرزّاً أبداً.
الرزق و الثواب كلاهما مترتّب على العمل
و كذلك -إذاً- تترتّب هذه النتائج و الآثار على الأعمال، و يمكننا أن نعبّر عنها بالرزق، كما يمكننا أن نعبّر عنها بالحساب و الجزاء. و هذه الآثار هي رزق و هي حساب، و كلاهما شيء واحد. فالعمل الأوّل يدعى حساباً بلحاظ استحقاقه ذلك و بلحاظ اقتضائه ذلك، كما أنّه يدعى رزقاً بلحاظ استعانته به في إدامة وجوده.
إنّ غيوم فيض رحمة الله تعالى تستمدّ الماء من البحار الواسعة و من محيط الوجود المنبسط على الكائنات، فتهطل على عالم الإمكان بقطرات المطر المتلاحقة التي لا تتوقف لحظة. و كلّ قطرة تهطل تتبعها اخرى تمدّها و تحفظ حياتها و تديم وجودها. فالقطرة الثانية -إذاً- هي كالرزق بالنسبة إلى القطرة الاولى. كما أنّها كالحساب بلحاظ استحقاقها و اقتضائها.
إنّ النتائج المترتّبة على جميع ما نفعله -نحن الجالسون في هذا المكان- تمثّل رزقنا باعتبار أنّها تسبب بقاء وجودنا و ثباته، كما أنّها
تمثّل حسابنا بلحاظ كونها نتائج أعمالنا. فتأملوا مدى الارتباط الدقيق بين الرزق و الحساب، إلى الحدّ الذي يمكن القول معه بأنّ حقيقتيّ الرزق و الحساب ليستا إلّا شيئاً واحداً يدعى رزقاً و حساباً باعتبارين مختلفينِ.
الحساب و الرزق شيء واحد في حقيقة الامر
و بذكر هذه المطالب يتّضح جيّداً معنى مقولة «إنّ الله سريع الحساب»، لأنّ جميع الامور -و من بينها أعمال الإنسان- ليست منفكّة و لا منفصلة عن الحساب، بحيث إنّ آثار الأعمال تترتّب عليها بمجرّد
تحقّق تلك الأعمال في الخارج دون أدنى انفكاك. فالحساب -إذاً- ملازم للعمل و تابع له دون أدنى انفكاك أو انفصال. و قد جاء في القرآن الكريم:
وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ.۱
كما جاء: أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ.٢
و على الرغم من أنّ الحكم مختصّ بذات الحقّ تعالى، و أن ليس مِن حكم في العالم مضادّ لحكمه عزّ و جلّ بحيث يُبطل حكم الله أو يُعيقه أو يُوهنه على نحوٍ من الأنحاء، فإنّه ليس من معنى للتعويق و التأخير في حكم الله سبحانه، كما ليس في حكمه صعوبة و لا سهولة.
فإن لوحظ في موضع من المواضع استخدام هذه المعاني، و استعمال هذه الألفاظ لأداء هذه المعاني، فإنّ المراد بذلك حصول هذه المعاني في ظرف إدراك و فهم المحاسَبين من المخلوقات و ليس في دائرة علم الله.
فقد ورد في القرآن الكريم على سبيل المثال: وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ.٣
و جاء: فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً.۱
و السرّ و العلّة في جميع هذه المطالب أنّ علم الحقّ تعالى بجميع الموجودات هو علم حضوريّ يستتبع أن تكون جميع سلسلة الموجودات من العلل و المعلولات حاضرة عند الله عزّ و جلّ:
وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ.٢
و جميع سلسلة الأسباب و المسبّبات مرتبطة بمسبب الأسباب، و الأسباب بأجمعها كائنة بتسبيب الذات القدسيّة للحقّ تعالى، و جميع الموجودات مع آثارها من الرزق و الحساب ماثلة في مُلكه و حاضرة عنده، سواءً في ذلك الكبير و الصغير، لأنّ الكبير و الصغير و القويّ و الضعيف إنّما هي اعتبارات تخصّنا نحن ذوي القدرة المحدودة. القدرة التي تجعل نهوضنا بحمل من عدّة كيلو غرامات أمراً يسيراً، و تجعل نهوضنا بحمل ثقيل أمراً عسيراً. و تجعل حلّ مسألة حسابيّة للعمليّات الحسابيّة الأربع أمراً يسيراً، في الوقت الذي تجعل حلّ مسائل الرياضيّات العميقة و المعادلات الجبريّة المعقّدة أمراً عسيراً؛ و تجعل أمر عدّ الأفراد الموجودين في المسجد أمراً ميسوراً، و عدّ سكّان الكرة الأرضيّة أمراً شاقّاً متعسّراً. فهذه الصعوبة و هذا اليسر من مختصّاتنا نحن ذوي العلم المحدود. و أنّى لنا العلم؟ و كم لنا من العلم؟ إنّنا غارقون في الجهل و مغمورون فيه، و من المخجل حقّاً أن ننسب إلى أنفسنا علماً، أو أن ندعو أنفسنا بالعلماء بعد ما بيّن الله تعالى أمرنا، حيث قال:
وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.۱
و لقد أورد لفظ «القليل» لإسعادنا بأن نقول: إنّ لدينا علماً قليلًا. و أي قليل يا ترى؟ إنّنا لو جمعنا كلّ علومنا و كدّسناها على بعضها لكانت مقابل علم الحقّ تعالى أقلّ من القطرة إلى المحيط، و أقلّ من الذرّة إلى الشمس المتحرّكة في عنان السماء؛ أقلّ بما لا يتناهي. فكيف يصدق علينا عنوان العلم القليل؟
و من هنا فإنّ القلّة و الكثرة، و الشدّة و الضعف، و الكبر و الصغر
بشكل عامّ هي عناوين نسبيّة و اعتباريّة لنا نحن الموجودات المحدودة المقيّدة و المتعيّنة بالماهيّات الإمكانيّة، و ليس للّه تعالى الذي ماهيّته عين وجوده و إنّيّته؛ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ.
إنّنا موجودات مادّيّة و طبعيّة ننام و نصحو، أمّا الله سبحانه فليس له نوم، كما لا يصدق عليه لفظ اليقظة. لأنّه عزّ و جلّ ليس له يقظة مقابل النوم و السِّنة، بل هو يقظ بمعنى عالم، لا اليقظ مقابل النائم.
و بناء على هذا الأساس فليس من أسماء الحقّ تعالى اسم اليقظ، و لم يرد أنّ أحد أسمائه عزّ و جلّ اسم اليقظان أو المستيقظ.
إنّ الله تعالى لا تأخذه سِنة ليكون من ثَمّ مستيقظاً، لأنّ اليَقِظ و المستيقظ هو الصاحي مقابل النائم. و الله تعالى له يقظة تلازم وجوده، لا كمثل يقظتنا.
و إذا كان الأمر على هذه الشاكلة، فكيف سيحاسب عباده إذاً؟
سيُحاسبهم حساباً سريعاً.
الله تعالى سريع الحساب
إنّ من أسماء الله عزّ و جلّ أسرع الحاسبين، فهو يحاسب الإنسان
و يضع حسابه نصب عينيه على الفور. و أحد أسمائه تعالى سريع الحساب.
كما ورد في عدّة مواضع من القرآن الكريم تعبير: وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ، تماماً كسرعته في الرزق، و كالكيفيّة التي يوصل بها الحقّ رزق كلّ موجود إليه.
الرزق هو إفاضة الحياة الضروريّة لدوام وجود كلّ موجود.
و لا اختصاص له بالرزق المادّيّ، فكلّ ما يصل الإنسان لإدامة وجوده هو رزق لذلك الإنسان. فالحياة و العقل و الإدراك و المعاني الكلّيّة النفسانيّة و الإعانات الصوريّة للقوى الذهنيّة، و الإعانات للقوى الحسيّة الخارجيّة هي بأجمعها الرزق الذي يأتي من قبل الحقّ تعالى.
و لو انقطع عنّا لحظة واحدة الرزق المادّيّ من التنفس و النور و الحرارة لا نعدم وجودنا، كحال ظلمة المصباح الكهربائيّ فيما لو انقطع عنه التيّار الكهربائيّ لحظة واحدة، الذي تستمرّ إضاءته باستمرار جريان الكهرباء التي تمثّل رزقه و مادّة حياته.
و الأمر على هذا النحو بالنسبة إلينا، إذ لو انقطع الفيض في لحظةٍ ما من جانب الله تعالى إلينا أو إلى أي موجود في العالم، لفنى ذلك الموجود و انعدم.
إنّ المصباح الكهربائيّ المضيء لا يمتلك مادّة نورانيّة ثابتة في داخله، بل إنّ الإلكترونات تعبر باستمرار من السلك الكهربائيّ فتجعل الشعيرات الموجودة في المصباح متوهّجة. و هذا هو رزق المصباح.
و الطفل الرضيع الذي يطبق فمه على ثدي امّه فيرضعه، تتدفّق في فمه قطرات الحليب باستمرار من فتحات الثدي الصغيرة فيصله رزقه عن هذا الطريق.
و هذا غير جهات الرزق الاخرى من تنفّس للُاوكسجين و وصول
للحرارة و نور الشمس. و بهذا الرزق ينمو الطفل و يكبر، و يصل الرزق إلى فكره و عقله و حياته و عظامه و مخّه و شرايينه و أوردته و أعصابه و لحمه و شحمه و جلده، فتقوى و تشتدّ و تستمرّ في الحياة. كما أنّ هذا النفس الذي نتنفّسه هو رزقنا الذي يصلنا باستمرار؛ و حسب قول الشيخ سعدي الشيرازيّ: «فإنّ كلّ شهيق للمرء يمثّل إدامةً لحياته، و كلّ زفيرٍ له يمثّل بهجةً لذاته. فهناك -إذاً- نعمتان في كلّ نَفَس، و لكلّ نعمة منهما شكر واجب».
أمّا الإمام الصادق عليه السلام فيقول إنّ في كلّ نفس يتنفّس آلاف النعم. و لو انقطع تنفّس الإنسان لمات. فَنَفَسُهُ هو رزقه. و لو لا ضوء
الشمس لمات الإنسان. و الأمر كذلك بالنسبة إلى حرارة الجوّ التي تمثّل في اعتدالها رزقاً لنا، و لو زادت قليلًا أو قلّت قليلًا لا نعدم وجود الإنسان.
و كذلك بالنسبة إلى عقلنا الذي هو بمثابة رزقنا، و لو زال عنّا دقيقة واحدة لاعترانا الجنون و صرنا لا نميّز رؤوسنا عن أقدامنا، و لا أقدامنا عن رؤوسنا. و مع استمرار العقل صرنا نُدعى عقلاء، أمّا مع انقطاعه فسندعي مجانين و سيسقط عنّا -كالحيوانات- شرف التكليف.
إنّ الحياة و القدرة رزق؛ و إدراك المعارف الإلهيّة رزق؛ و هي بأجمعها من الرزق المعنويّ. فنفس العالم الذهنيّ الذي منحنا الله تعالى إيّاه هو رزق، و لو سلب منّا لحظة واحدة لفقدنا جميع المعلومات الحصوليّة التي نشأت لدينا بواسطة المشاهدات الخارجيّة أو بالكلام أو بالكتابة و القراءة منذ طفولتنا إلى سنّنا الحاليّ، و لضاعت منّا قوانا الحافظة و المفكّرة و الواهمة. و لو قُدِّر لي ذلك -أنا المنهمك في الحديث الآن- لفقدت القدرة على معرفة الأصدقاء، و لا نعدم الكلام من الجانب الآخر، إذ لن يكون ثمّة شيء ليقال، و لن نميّز آنذاك مسجداً و لا جداراً، و لن نميّز اليد اليمنى عن
اليسرى، و لن نفرّق بين الصديق و العدوّ، و لا بين الطعام و الدواء. و سنبقى وحيدين غُرباء في هذا العالم لا ارتباط لنا بأحد، أي أنّنا لن نمتلك القدرة على الارتباط بأحد.
فَلَكَ الحَمْدُ أبَداً دَائِماً سَرْمَداً عَلَى نِعَمِكَ وَ آلَائِكَ مَا بَقِى اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ، حَمْداً لَا يَبِيدُ وَ لَا يَفْنَى، وَ صَلِّ عَلَى رَسُولِكَ الأمِينِ عَلَى وَحْيِكَ وَ عَلَى أمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَ الأئِمَةِ مِنْ وُلْدِهِ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَ الأرَضِينَ.
المَجْلِسُ السابع وَ الخَمْسُونَ: اخْتِلَافُ طَبَقات النّاسِ في يُسْرِ الحِسَابِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، (كنايةً عن جانب السعادة و الرحمة) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ، وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ، (كنايةً عن جانب الشقاء) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ، وَ يَصْلى سَعِيراً ، إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً ، إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ، بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً.۱
وردت في القرآن الكريم آيات لها دلالة على أنّ الناس ليسوا على حدٍّ سواء في يُسر الحساب أو عُسره، و أنّ حساب البعض سهل يسير، بينما حساب البعض الآخر صعب عسير.
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ، فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ.٢
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ
عَسِيراً.۱
وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً.٢
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ (مخاطباً أهل المحشر بسعادة و سرور) هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ، قُطُوفُها دانِيَةٌ، (ثمّ تخاطبهم الملائكة) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ، وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ، وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ، يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ، ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ.٣
وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً ، فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً.٤
معنى سرعة الحساب في يوم القيامة
قال الطبرسيّ في «مجمع البيان» ذيل الآية: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.٥
ذُكر فيه وجوه، أحدها: أنّ معناه سريع المجازاة للعباد على أعمالهم، و أنّ وقت الجزاء قريب، و يجري مجراه قوله: وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ؛٦ و عبّر عن الجزاء بالحساب، لأنّ الجزاء كفاء للعمل و بمقداره، فهو حساب له، يقال: أحْسَبَنِي الشَّيءُ: كَفَانِي.
و ثانيها: أن يكون المراد به أنّه يحاسب أهل الموقف في أوقات يسيرة، لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره، كما لا يشغله شأن عن شأن، و ورد في الخبر أنّه تعالى يحاسب جميع الخلائق في مقدار لمح البصر، و روى بقدر حلب شاة، و هذا ممّا يدلّ على أنّه ليس بجسم و أنّه لا يحتاج في فعل الكلام إلى آلة، لأنّه لو كان كذلك لما جاز أن يخاطب اثنين في وقت واحد بمخاطبتين مختلفتين، و لكان يشغله خطاب بعض الخلق عن خطاب غيره، و لكانت مدّة محاسبته للخلق على أعمالهم طويلة.
و روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: معناه أنّه يحاسب الخلق دفعةً كما يرزقهم دفعة.
و ثالثها: أنّ معناه أنّه تعالى سريع القبول لدعاء هؤلاء و الإجابة لهم من غير احتباس فيه و بحث عن المقدار الذي يستحقّه كلّ داعٍ، كما يحتبس المخلوقون للإحصاء و الاحتساب. و يقرب منه ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال: يريد أنّه لا حساب على هؤلاء، إنّما يعطَون كتبهم بأيمانهم فيقال لهم هذه سيّئاتكم قد تجاوزت بها عنكم، و هذه حسناتكم قد ضعّفتها لكم.۱
و يروي المرحوم الصدوق في كتابه «الأمالى» عن سعد، عن ابن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن عليّ بن الحكم، عن داود بن النعمان، عن إسحاق، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان للحساب كلاهما من أهل الجنّة: فقير في الدنيا، و غنيّ في الدنيا، فيقول الفقير: يا ربِّ على ما اوقف؟ فو عزّتك إنّك لتعلم أنّك لم تولّني ولايةً فأعدل فيها أو أجور، و لم ترزقني مالًا فأؤدّي منه حقّاً أو أمنع، و لا كان رزقي يأتيني منها إلّا كفافاً على ما علمتَ و قدّرتَ لي.
فيقول الله جلّ جلاله: صدقَ عبدي خلّوا عنه يدخل الجنّة. و يبقى الآخر حتّى يسيل منه من العرق ما لو شربه أربعون بعيراً لكفاها، ثمّ يدخل الجنّة. فيقول له الفقير: ما حبسك؟ فيقول: طول الحساب؛ ما زال الشيء يجيئني بعد الشيء يغفر لي، ثمّ اسأل عن شيء آخر حتّى تغمّدني الله منه برحمة و ألحقني بالتائبين. فمن أنت؟ فيقول: أنا الفقير الذي كنتُ معك آنفاً، فيقول: لقد غيّرك النعيم بعدي.۱
الروايات الواردة في يُسر الحساب و عُسره
و في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ في رواية أبي الجارود عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام في تفسير الآية الشريفة: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ:٢
فأمّا الحسنى فالجنّة، و أمّا الزيادة فالدنيا، ما أعطاهم الله في الدنيا لم يحاسبهم به في الآخرة، و يجمع لهم ثواب الدنيا و الآخرة و يثيبهم بأحسن أعمالهم في الدنيا و الآخرة. يقول الله: وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.٣
قال عليّ بن إبراهيم: القَتَر الجوع و الفقر؛ و الذلّة الخوف.٤
و روى المجلسيّ رضوان الله عليه عن كتابَي الحسين بن سعيد، عن محمّد بن عيسى، عن عمر بن إبراهيم بيّاع السابريّ، عن حجر بن زائدة، عن رجل، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال، قلت له: يا بن رسول الله إنّ لي حاجةً. فقال: تلقاني بمكّة. فقلتُ: يا بن رسول الله إنّ لي حاجة.
فقال: تلقاني بمنى. فقلت: يا بن رسول الله إنّ لي حاجة. فقال: هاتِ حاجتك! فقلت: يا بن رسول الله إنّي أذنبتُ ذنباً بيني و بين الله لم يطّلع عليه أحد فعظم عَلَيّ و أجلّك أن استقبلك به. فقال: إنّه إذا كان يوم القيامة و حاسب الله عبده المؤمن أوقفه على ذنوبه ذنباً ذنباً، ثمّ غفرها له لا يطّلع على ذلك ملكاً مقرّباً و لا نبيّاً مرسلًا.
قال عمر بن إبراهيم (راوي هذه الرواية): و أخبرني عن غير واحد أنّه قال: و يستر عليه من ذنوبه ما يكره أن يوقفه عليها. قال: و يقول لسيّئاته: كوني حسنات. قال: و ذلك قول الله تبارك و تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.۱
مناقشة الحساب بالنسبة إلى المعاندين
و يروي المرحوم الصدوق في كتاب «معاني الأخبار» عن أبيه، عن سعد بن عبد الله البرقيّ، عن أبيه، عن عبد الله بن سنان، عن أبي الجارود، عن الإمام أبي جعفر: باقر العلوم عليه السلام، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: كُلُّ مَحَاسَبٍ مُعَذَّبٌ؛ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! فَأيْنَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيرًا».٢
قَالَ: ذَاكَ العَرْضُ؛ يَعْنِي التَّصَفُّحَ.٣
و يقول المجلسيّ رضوان الله عليه في بيان هذا الحديث: يعني أنّ الحساب اليسير هو تصفّح أعماله و عرضها على الله أو على صاحبه، من غير أن يناقش عليها و يؤخذ بكلّ حقير و جليل من غير عفو، فإنّ مَن فعل الله تعالى ذلك به هلك، إذ لا يقوم فعل أحد من الخلق بحقِّ نعم الله عليه، لا سيّما إذا انضمّ إليها فعل الخطايا و الآثام؛ فالمراد بالحساب في أوّل الخبر المحاسبة على هذا الوجه، كما هو دأب المحاسبين في الدنيا. و لذا ورد في بعض الأخبار مكانه: نوقش في الحساب. فقد روى الحسين بن مسعود في «شرح السنّة» بإسناده عن البخاريّ، عن سفيان بن أبي مريم، عن نافع، عن ابن عمر، عن ابن أبي مليكة:
أنّ عائشة زوج النبيّ صلّى الله عليه و آله كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلّا راجعت فيه حتّى تعرفه، و أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله قال:
مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ؛ قالت عائشة، فقلت: أو ليس يقول الله تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً؟ قالت، فقال: إنّما ذلك العرض: وَ لَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ يَهْلِكُ.۱
ثمّ يقول الحسين بن مسعود في شرحه: هذا حديث متّفق على صحّته أخرجه مسلم بن أبي بكر بن أبي شيبة و عليّ بن حجر، عن إسماعيل ابن عليّة، عن أيّوب، عن عبد الله بن أبي مليكة.
قوله صلّى الله عليه و آله «من نوقش الحساب يهلك»؛ المناقشة:
الاستقصاء في الحساب حتّى لا يترك منه شيء. يقال: انتقشت منه حقّي أجمع، و منه نقش الشوك من الرِّجل و هو استخراجه منها -انتهى كلام
«شرح السنّة».
ثمّ قال المجلسيّ: و روى مسلم في صحيحه عن النبيّ صلّى الله عليه و آله أنّه قال: مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ عُذِّبَ. و قال بعض شرّاحه:
قال القاضي: قوله: عُذِّبَ له معنيان، أحدهما أنّ نفس المناقشة و عرض الذنوب و التوقيف عليها هو التعذيب لما فيه من التوبيخ. و الثاني أنّه يفضي إلى العذاب بالنار. و يؤيّده قوله في الرواية الاخرى هَلَكَ مكان عُذِّبَ. هذا كلام القاضي، و هذا الثاني هو الصحيح، و معناه أنّ التقصير غالب في العباد، فمن استقصي عليه و لم يُسامَح هلك و دخل النار، و لكنّ الله تعالى يعفو و يغفر ما دون الشرك لمن يشاء -انتهى كلام شارح «صحيح مسلم».
ثمّ يقول المجلسيّ:
يحتمل الخبر الذي رويناه وجهاً آخر و إن كان قريباً ممّا ذُكر، و هو أنّ هذا النوع من المحاسبة إنّما يكون لمن يستحقّ العذاب الدائم و لا يستوجب الرحمة، كالمخالفين و النواصب،۱ فأمّا مَن علم الله أنّه يستحقّ الرحمة فلا يحاسبه على هذا الوجه، بل على وجه العفو و الصفح.
ثمّ اعلم أنّ التصفّح هو البحث عن الأمر و النظر فيه، و لم يأتِ بمعنى الصفح و العفو كما توهّم هاهنا.٢
و في تفسير سوء الحساب الذي يخشاه المؤمنون الملتزمون العاملون بالأوامر الإلهيّة، الذي ورد في الآية الكريمة:
وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ
سُوءُ الْحِسابِ.۱
وردت في «تفسير العيّاشيّ» و هو من نفائس كتب الشيعة، روايات خمس لها دلالة على أنّ المراد بسوء الحساب المداقّة و الاستقصاء. لذا يخشى المؤمنون أن تُحتسب سيّئاتُهم بأجمعها و لا تُحتسب حسناتهم بسبب عدم قبولها، فتكون جميع أعمالهم سيّئات.
الرواية الاولى: عن أبي إسحاق قال: سمعتُ الصادق عليه السلام يَقُولُ في سُوءِ الحِسَابِ: لَا يُقْبَلُ حَسَنَاتُهُمْ وَ يُؤْخَذُونَ بِسَيّئَاتِهِم.٢
الثانية: عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام في قوله تعالى: «يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ»؛ قَالَ: يُحْسَبُ عَلَيْهِمُ السَّيِّئَاتُ؛ وَ لَا يُحْسَبُ لَهُمُ الحَسَنَاتُ؛ وَ هُوَ الاسْتِقْصَاءُ.٣
الثالثة: عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام في قوله تعالى: «وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ»؛ قَالَ: الاسْتِقْصَاءُ وَ المُدَاقَّةُ.
وَ قَالَ: يُحْسَبُ عَلَيْهِمُ السَّيِّئَاتُ وَ لَا يُحْسَبُ لَهُمُ الحَسَنَاتُ.٤
الرابعة: عن حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، أنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا فُلَانُ! مَا لَكَ وَ لإخِيكَ؟! قَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، كَانَ لي عَلَيْهِ حَقٌّ، فَاسْتَقْصَيْتُ مِنْهُ حَقِّي!
قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ: «وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ»، أ تَرَاهُمْ خَافُوا أنْ يَجُورَ عَلَيْهِمْ أوْ يَظْلِمَهُمْ؟! لَا وَ اللهِ؛ خَافُوا الاسْتِقْصَاءَ وَ المُدَاقَّةَ.٥
الخامسة: عن محمّد بن عيسى؛ و بهذا الإسناد أنّ أبا عبد الله
(الصادق) عليه السلام قَالَ لِرَجُلٍ شَكَاهُ بَعْضُ إخْوَانِهِ: مَا لإخِيكَ فُلَانٍ يَشْكُوكَ؟
فَقَالَ: أ يَشْكُونِي أنِ اسْتَقْصَيْتُ حَقِّي؟!
قَالَ: فَجَلَسَ مُغْضِباً، ثُمَّ قَالَ: كَأنَّكَ إذَا اسْتَقْصَيْتَ لَمْ تُسِيءْ؟!
أ رَأيْتَ مَا حَكَى اللهُ تَبَاركَ وَ تَعَالَى: «وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ»، أخَافُوا أنْ يَجُورَ عَلَيْهِمُ اللهُ! لَا وَ اللهِ، مَا خَافُوا إلَّا الاسْتِقْصَاءَ، فَسَمَّاهُ اللهُ سُوءَ الحِسَابِ؛ فَمَنِ اسْتَقْصَى فَقَدْ أسَاءَ.۱
و روى المجلسيّ رضوان الله عليه عن كتابَي الحسين بن سعيد، عن القاسم، عن عبد الصمد بن بشير، عن معاوية: قَالَ:
قَالَ لي أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تُهَوِّنُ الحِسَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ. ثُمَّ قَرَأ: «يَصِلُونَ مَا أمَرَ اللهُ بِهِ أن يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ».٢
استقصاء الحساب على أساس العدل، و الإغماض فيه على أساس العفو.
و يتّضح ممّا ذكر أن ليس هناك من ظلم و لا حيف في حساب الناس يوم القيامة، و أن أحداً لن يُحاسَب بعمل غيره.
وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.٣
و أنّ أحداً لا يُحاسَب عبثاً، و لا يُجازى بأكثر ممّا ارتكب؛ إلّا أنّ من الممكن أن تكون هناك مداقّة في الحساب فيعامل المرء على أساس العدل.
و هذا -بطبيعة الحال- فيما يتعلّق بالمجرمين و الظالمين الذين ينكرون حقوق الفقراء و المستضعفين. كما أنّ من الممكن أن لا يداقّ في الحساب
على أساس من العفو و الإغماض، فيُشمل المؤمن بالرحمة بعد حسابٍ يسير، و يُصان من طول الوقوف و عواقبه. و هو ما يتعلّق بالمؤمنين الذين بدرت منهم أخطاء عن جهل، دون أن ينطووا على الاستكبار و العُجب.
إنّ عفو الله لجميع العباد ليس قانوناً حتميّاً و عقليّاً، بل إنّ قاعدة العفو بإرادة الله و مشيئته، فهو يعفو عمّن يشاء و يغفر لمن يستحقّ العفو و المغفرة على أساس الحكمة. كما أنّه يمنع عفوه عمّن يشاء. و يحصل ذلك بالطبع على أساس المصلحة بالنسبة إلى المعتدين و المتجرّئين الذين نفخوا بوق الأنانيّة و الاستكبار، و الذين اعترضوا و تمرّدوا على الله سبحانه عن علم و عمد باستكبارهم و أنانيّتهم و تفرعنهم.
و بطبيعة الحال فإنّ العدل يمثّل قانوناً عامّاً قد يعمل الله به، إلّا أنّه تعالى ليس ملزماً بالعدل في مجازاة عبده و في عدم شموله برحمته.
فالقاعدة و القانون العامّ -إذاً- هو العدل. أمّا العفو و التسامح فيمثّلان أمراً ثانويّاً يخضع لإرادة الحاكم و مشيئته. و من هنا فإنّ عدم احتساب الحسنات هو ممّا يخالف العدل، أمّا عدم احتساب السيّئات فأمر يوافق العفو.
خُلف الوعد هو المذموم لا خُلف الوعيد.
و إخلاف الوعد ممّا يخالف العدل، أمّا إخلاف الوعيد فليس خلافاً للعدل، بل هو أمر ينسجم مع العفو، و يتعلّق بمشيئة الحاكم و اختياره.
و من هنا فإنّ الله لا يُخلف وعده:
إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.۱
و ما أكثر الوعود التي قطعها عزّ و جلّ للمؤمنين و المحسنين، مثل قوله تعالى:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الْأَرْضِ.۱
و كالآية: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً.٢
و إذا تقرّر أن يكون هناك مبرّر عقليّ لخُلف الوعد، لافتقدت جميع و عود الله تعالى ضمانَ تحقّقها، و لن يكون بإمكان أحد الاعتماد عليها.
و سيكون الوعد بالجنّة إثر الأعمال الصالحة لغواً بلا فائدة!
إنّ الوفاء بالعهد من جملة الصفات الحسنة، و نعلم أنّ الصفات الحسنى و الأسماء الحسنى هي للّه تعالى. أمّا خلاف ذلك -أي نقض العهد- فأمر قبيح من عمل الشيطان و ليس من فعل الله عزّ و جلّ، و الشيطان ذاته يعترف بهذين الأمرين في خطابه للمستكبرين و المستضعفين المقصّرين يوم القيامة قائلًا:
إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ.٣
و يتبيّن ممّا قيل أنّ المراد بسوء الحساب الوارد في الآية الكريمة ليس عدم احتساب الله تعالى للحسنات، إذ إنّه عزّ و جلّ وعد المحسنين بالجنّة، و خُلف الوعد ظلم يجلّ الله تعالى عنه.
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ.٤
بل المراد به الاستقصاء، أي المُساءلة عن الصغائر و المداقّة في الحساب. و هو معنى ما جاء في الأحاديث الأخيرة في تفسير آية: وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ؛ من أنّ تفسيرها أنّ الحسنات لا تُقبل و لا تحتسب بينما
تحتسب السيّئات، لأنّه حين صارت هناك مداقّة و استقصاء في الحسنات، فقد اتّضح أنّها لم تكن حسنات.
إنّ الحسنة هي العمل الذي يفعله المرء قربةً إلى الله تعالى، خالصاً لوجهه الكريم من غير أن يكون في نيّة المرء غير الله سبحانه، و دون أن يجعل له شريكاً، و أن لا يفعل المرء شيئاً تبعاً للنوايا النفسانيّة و على أساس الآراء الدنيويّة و المقاصد الاعتباريّة الشهويّة.
و حين تقاس بهذا المعيار حسنات الإنسان التي تبدو في الظاهر حسنات، كالصلاة و الصيام و الجهاد و الإنفاق و بناء مسجد أو مدرسة أو مستشفى أو جسر و أمثال ذلك، فقد يكون أكثرها غير خالص للّه تعالى في حقيقة المعنى.
و لهذا فإنّ تلك الحسنات لن تكون حسنات في ميزان القياس الواقعيّ، مهما كانت عظيمة في الظاهر، و مهما رفعت اسم صاحبها في هذه الدنيا بالإحسان و جعلته في عداد المُنفقين و أصحاب الخدمات. إلّا أنّ تلك الأعمال لا تمتلك قيمة في حقيقة الحال، لأنّها لا تُختم بالقُربة؛ فإذا استقصاها الله و أعمل المداقّة فيها، ختمها بختم البطلان و أسقطها من درجة الاعتبار.
و حين يتّضح بالاستقصاء أنّ الحسنات لم تكن حسنات، فإنّها سوف لن تحتسب؛ أمّا سيّئات الإنسان فمن الجليّ أنّها كانت قبائح و ستحتسب عليه بأجمعها.
أمّا خُلف الوعيد فلا ينطوي على إشكال ما. لأنّ الوعيد هو التخويف بالعواقب الوخيمة للأعمال السيّئة، و التهديد عليها بالعقاب الأليم.
بَيدَ أنّه لا إشكال في أن يعفو الحاكم عن المحكوم و يغفر له جرمه و جنايته و يتغمّده بعفوه، و هو أمر في يد الحاكم، كما أنّه ليس مُجبراً في
عفوه هذا، ليكون وعيده و تهديده -من ثمّ- لغواً، و ليعتمد المجرمون و الخاطئون على عفوه فيتمادون في غيّهم و يصرّون في جناياتهم.
و على هذا الأساس فإنّ الحاكم الحقّ -مثل الله تبارك و تعالى- يمكنه إذا أوعد المجرمين أن يعذّبهم و يعاقبهم، كما يمكنه أن يعفو عنهم و يرحمهم، إلّا أنّ هذا العفو ليس أمراً ملزماً يمكن للمجرمين الركون إليه و الاطمئنان إلى ركنه، ليستمرّوا في جناياتهم و إجرامهم. فقد يعمل الحاكم في خصوص هذا المورد وفقاً للعدل لا العفو، فيعاقب بالعذاب الأليم.
و يكفي الإنسان هذا الخوف و عدم الركون و احتمال العذاب و العقاب لردعه عمّا نُهي عنه من السيّئات.
فنفس احتمال العذاب و إمكان تحقّقه -إذاً- كافٍ لردع العباد عن المنكرات. أمّا القطع بالعذاب و الإيقان به فهما أمران غير متحقّقين، لأنّ العذاب بِيَدِ الله تعالى و ليس بإرادة العبد. ناهيك عن أنّهما يستدعيان اليأس و القنوط من رحمة الله. و اليأس من رحمة الله كبائر الذنوب.
و يمثّل هذا البحث الذي سقناه هنا قاعدة و قانوناً عقليّاً يتعارف عليه العقلاء. فإنّ عدم احتساب الحسنات و خُلف الوعد من قبل أي حاكم في محاكم الدنيا أمر غير صحيح يعدّ مخالفاً لشؤون الحقّ و الكرامة. أمّا التغاضي عن السيّئات و خُلف الوعيد فأمر صحيح يوجب في أكثر الأحيان كرامة السلطان و الحاكم المقتدر. و يكفي احتمال الابتلاء بوعيد المحاكم و القوانين رادعاً للناس عن المخالفات.
إطالة موقف الحساب للمجرمين
و ينبغي أن نرى الآن السبب الذي يجعل الموقف طويلًا ممتدّاً بالنسبة إلى بعض الناس، بينما لا يجعله كذلك بالنسبة إلى البعض، و الذي
يجعل البعض الآخر لا يحسّون أبداً بطول الموقف!
إنّ عروج الملائكة و الروح إلى الله تعالى يستغرق خمسين ألف سنة: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.۱
و هو ما يعادل خمسين سنة ربوبيّة: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.٢
و عموماً، فهل يتفاوت إدراك طيّ هذه الحقائق أم لا؟
يلزمنا -إيضاحاً لهذا المطلب- أن نعلم أوّلًا ما هو الزمان، ثمّ نبحث في أمر امتداد الزمان و عدم امتداده.
أقوال الحكماء في أمر حقيقة الزمان
لقد وضع الفلاسفة و الحكماء معانٍ مختلفة للزمان. و نقل الشيخ الرئيس ابن سينا في الطبيعيّات من «الشفاء» أقوالًا مختلفة للفلاسفة في حقيقة الزمان. فقد افترض بعضهم الزمان مجرّداً، و أنّه ينشأ من حركة الحوادث في عالم الطبيعة. بينما أظهر بعض الحكماء عجزهم عن فهم حقيقة الزمان. و قال بعضهم بوجودٍ حقيقيّ له. و هؤلاء -بدورهم- ذو و نظريّات متفاوتة، فبعضهم عدّ الزمان مبدءاً واجباً للعالم؛ و تصوّر البعض أنّ الزمان يمثّل جوهراً جسمانيّاً؛ و اعتبر أفلاطون أنّ الزمان جوهر مستقلّ منفصل عن الجسم؛ و اعتبر أرسطو أنّ الزمان هو مقدار الحركة. و على هذا الأساس فإنّ الكثير يعتبر الحركة الدوريّة السنويّة و اليوميّة الحاصلة في هذا العالم منشأ للزمان.
ثمّ أعقب ابن سينا أبو البركات البغداديّ المتوفّى سنة ٥٤۷ هجريّة، فاعتبر الزمان مقداراً للوجود، و عدّ زمن كلّ حادث معادلًا لمقدار وجود
ذلك الحادث.
بَيدَ أنّ بعض الفلاسفة تصوّروا أنّ الزمان يمثّل أمراً نسبيّاً، و عدّوه نسبةً تحصل من قياس شيئين إلى بعضهما. و على هذا الأساس فإنّ الزمن سيختلف تبعاً للأشياء المختلفة التي تُقارن ببعضها.
و قد اعتبر فخر الفلاسفة صدر المتألّهين الزمن مقدار الحركة في جوهر الموجودات و يقصد بالموجودات موجودات عالم الطبيعة؛ فيقول بأنّ الزمان عبارة عن أمرٍ واحد ممتدّ متّصل متدرّج طوليّاً، يتقدّم بعضه على البعض الآخر. و لأنّ الزمان يمثّل كمّيّة متّصلة تدريجيّة، فلا بدّ أن يكون منشأ انتزاع الزمان حركة دائمة متّصلة.
و لأنّنا نشاهد بالوجدان أنّ الحركة تقع في مقولات أربع، هي الكم و الكيف و الأين و الوضع، و أنّ هذه المقولات عرضيّة و غير مستقلّة، بل تابعة للجوهر، فلا بدّ -إذاً- أن يكون للجوهر حركة في ذاته، و أن تكون الحركة في هذه المقولات ناشئة تبعاً للحركة الجوهريّة.
لقد كان القدماء يعتقدون بأنّ الحركة عبارة عن تغيير تدريجيّ يحصل في شيء ما، و لم يكونوا يعمّمون هذه الحركة على جميع عالم الطبع الذي كانوا يعتقدون بعدم وجود حركة في جوهره. فكان أرسطو يعتقد في نظريّته بأنّ الحركة الدوريّة التي تسبب نشوء الليل و النهار هي التي تسبب نشوء الزمان. فالعامل المؤثّر في الزمان في نظره هو وجود الأفلاك، و على الأخصّ فَلَك الأطلس أو فَلَك الأفلاك.
و كان القدماء يعتقدون أنّ الفلك في حال حركة دائمة، و كانوا ينتزعون الزمان من دوران الفَلَك حول الأرض. أمّا اليوم فقد صار بطلان أساس وجود الفلك و دورانه أمراً من البديهيّات. فكيف يمكن أن تكون حركة الفلك الدوريّة منشأ لانتزاع الزمان يا ترى؟
و لو فرضنا -إضافة إلى ذلك- أنّ الفلك توقّف عن الحركة، أ فهل سينعدم التقدّم و التأخّر بين الحوادث و الموجودات في هذا العالم؟
أي أنّه لو فُرض أنّ شخصاً ما كان في حال كتابة أو ركض، ثمّ توقّف الفَلَك، فهل ستقع الكلمات التي يكتبها الكاتب تدريجيّاً بأجمعها دفعةً واحدة؟ و هل ستجتمع خطوات الراكض العديدة المتلاحقة، فتقع بأجمعها دفعةً واحدة؟
من البديهيّ أنّ هذا الاحتمال بعيد عن الصواب. بَيدَ أنّنا لو قلنا بأنّ هذه الامور ستقع متلاحقة الواحد تلو الآخر، و إنّ هناك تقدّماً و تأخّراً بينها، فإنّ ذلك سيستدعي أن يكون نفس الامتداد الطوليّ التدريجيّ الذي يسبّب تقدّم الكلمات و الخطوات أو تأخّرها هو الزمان، مع افتراضنا أنّ الفلك قد توقف عن حركته.
و بطبيعة الحال فقد كان القدماء يقولون -تهرّباً من هذا الإشكال- بأنّ ما هو موجود في عالم الطبيعة إنّما هو معلول لحركة الفلك. و لو توقفت حركة الفلك لتوقّف معها عن الحركة شريان قلب عالم الطبيعة النابض، و لُاصيب بدن عالم الطبيعة بالشلل، و لتوقّف كلّ شيء و سكن، و سيموت العالم بسكونه و توقّفه، لأنّ الحياة مرهونة بالحركة.
و إذا افترضنا بأنّ الفلك سكن و توقّف، فإنّ العالَم سينتفي و ينعدم، و لن يمكن -بعد فناء العالم- افتراض تقدّم أو تأخّر للحوادث و الموجودات أو حدوثها في نفس الزمان.
و ينبغي العلم بأنّ مقولة العلماء بأنّ حياة عالَم الطبيعة مرهونة بحركته مقولة صائبة و متينة. إلّا أنّهم سلكوا سبيلًا مخطئاً في تعليل هذه الحركة بدوران فَلَك الأفلاك حول الأرض.
و لقد قام الفيلسوف الإسلاميّ صدر المتألّهين الشيرازيّ من خلال
التحقيق في جوهر عالم الطبيعة و أعراضه، و عن طريق استحالة الحركة في الأعراض بدون الحركة في الجوهر، باثبات أنّ الحركة هي جوهر العالم، و أنّ جميع التغييرات و الحركة في الأعراض نابعة من الحركة في جوهر الأشياء. و أنّ هناك أمراً واحداً مستمرّاً سيّالًا في عالم الطبيعة. و من هنا فإنّ الزمان يُنتزع من هذه الحركة الجوهريّة. و بناءً على ما قيل. فإنّ الزمان لدى صدر المتألّهين هو مقدار الحركة في الجوهر.
كانت هذه خلاصة نظريّة صدر المتألّهين في الحركة الجوهريّة و انتزاع الزمان. و يمكن تلخيص أساس نظريّته كالتالى:
إنّ جوهر عالم الطبيعة في حالة حركة و تغيّر و تجدّد مستمرّ؛ و إنّ الزمان هو المشخّص لمقدار هذا التغيّر؛ و أنّ حركة العرض تابعة لحركة الجوهر.
نتائج «الحركة الجوهريّة» لدى صدر المتألّهين
ثمّ إنّ المرحوم صدر المتألّهين بعد إثبات نظريّته قد استنتج منها عدّة نتائج تتفرّع بأجمعها عن الحركة الجوهريّة:
النتيجة الاولى: الحدوث الزمنيّ للعالم. فقد كان الفلاسفة يقولون إنّ للزمان حدوث ذاتيّ لا يتنافى مع القِدَم الزمنيّ. أمّا على أساس الحركة الجوهريّة، فإنّ عالم الطبيعة في حدوث و تجدّد مستمرّين في ذاته و كينونيّته. و إنّ افتراض جوهر لهذا العالم دونما حركة أمر محال. لذا فمن المحال افتراض جوهر لهذا العالم بلا زمان يمثّل الوجود بعد العدم. فجوهر هذا العالم -إذاً- مقترن مع الحركة و مع مشخِّص الحركة (و هو الزمان).
و على هذا الأساس، و باعتبار أنّ الحركة هي الوجود بعد العدم، فإنّ جوهر الطبيعة مقترن مع الزمان الذي هو الوجود بعد العدم؛ و ليس الحدوث شيئاً غير الوجود بعد العدم.
الثانية: جسمانيّة أساس النفس. أي أنّ النفوس الإنسانيّة الناطقة
كانت بأجمعها جسمانيّة في الوهلة الاولى، ثمّ طوت مراتب الكمال الواحدة بعد الاخرى بواسطة الحركة في جوهرها. ثمّ إنّها -على افتراض ثبوت الماهيّة و عدم تغيّرها- تحرّكت في المراحل الوجوديّة حتّى بلغت مرحلة التجرّد الروحيّ و أثبتت أنّ:
النَّفْسَ جِسْمَانِيَّةُ الحُدُوثِ رُوحَانِيَّةُ البَقَاءِ.
و قد أوردنا في بعض الأبحاث السابقة أنّ هذا المطلب مؤيّد بالآيات القرآنيّة الصريحة: و أنّ تركيب الإنسان من شيئين مختلفين (أي من عالَمَي النفس و البدن) أمر يخالف وجدان الإنسان و وحدته و تشخّصه، و يخالف -من جهة اخرى- صريح الآيات الإلهيّة و سير الإنسان التكامليّ في مراحلة الوجوديّة.
الثالثة: مسألة المعاد الجسمانيّ؛ فقد كان الفلاسفة القدماء يقولون بالمعاد الروحيّ فقط باعتبار أنّهم أثبتوا ببراهينهم أمر تجرّد النفس فقط، بينما عجزوا عن إثبات المعاد الجسمانيّ بالدليل العقليّ. أمّا المرحوم صدر المتألّهين فقد كان يعتبر الجسم و النفس و الروح مراتب مختلفة من حقيقة واحدة للإنسان، و استنتج -تبعاً لذلك- أمر المعاد الجسمانيّ من خلال إثبات الحركة في جوهر الإنسان.
الرابعة: تعريف الزمان و تعيينه و موقعه: نظراً لأنّ أصل جوهر العالم في حركة، فإنّ الزمان هو مقدار حركة جوهر الطبيعة و معيار قياسه.
الخامسة: ربط المتغيّر بالحادث.
فقد كان الفلاسفة القدماء مجبرين على افتراض فرضيّات معيّنة لربط موجودات عالم الطبع بالحضرة الأحديّة، و وصف كيفيّة الارتباط بعلّة العلل و العلّة الاولى التي تمثّل مصدر جميع الموجودات. و أشهر تلك الفرضيّات فرضيّة النفوس الفلكيّة و العقول العشرة، فكانوا يشخّصون طريق نشوء
الكثرات في هذا العالم، و يجيبون على إشكال عدم إمكان صدور الكثرة من الواحد من جميع الجهات متوسّلين بنزول علّة العلل إلى العقل الأوّل، و من هناك إلى سائر العقول و إلى نفوس الأفلاك وصولًا إلى العقل العاشر و نفس فلك القمر و نفس عالم الطبع.
أمّا صدر المتألّهين فكان -بإثباته الحركة الجوهريّة- يرى نفسه في غني عن هذه الفرضيّة، لأنّ جميع الكائنات تمتلك في نظره جانبين: جانب سيّال و متجدّد و متغيّر يمثّل الوجود المادّيّ و الطبعيّ لتلك الكائنات؛ و جانب ثابت مستقرّ يمثّل وجودها الملكوتيّ الذي يربط جميع الموجودات بالحقّ الأوّل على نحو المُثل الأفلاطونيّة.
و ليس في الجانب الملكوتيّ ثمّة حركة أو تغيّر؛ فما يحفظ الوجود المتغيّر لعالم الطبيعة وجوده الثابت الملكوتيّ الذي له نسبة إلى عالم الطبيعة كنسبة الروح إلى البدن.
و لجوهر الأشياء جانبان و صورتان؛ فهو متغيّر من جهة، و ثابت من الجهة الاخرى. و المرتبة الثابتة التي تمثّل الدرجة الشديدة لوجودها صادرة من المبدأ الإلهيّ، أمّا المرتبة المتغيّرة المتجدّدة -و هي الدرجة الضعيفة لوجودها- فهي مبدأ جميع الحركات و التغيّرات المادّيّة. و الجانب الضعيف المتغيّر خاضع للجانب القويّ الثابت.
هذا و قد شكّلت الجهة المتغيّرة الضعيفة عالم الكثرة و المادّة و الجسم و المُلك و العيان. أمّا الجهة الثابتة الراسخة فشكّلت عالم الوحدة و النفس و المعنى و الملكوت و الباطن، ذلك العالم المرتبط باستمرار بالله تعالى، بل إنّه ليس إلّا الارتباط المحض الخالص.
هذه خلاصة كلام هذا الحكيم المتألّه، الذي أورده مفصّلًا في مبحثَي الحركة و النفس في طبيعيّات «الأسفار»، كما ذكره في بعض كتبه الاخرى.
و تبعاً لهذه المقولة فإنّ الزمان مختصّ بعالم الطبع و الصورة، و يمثّل التغيّر و الحركة و التجدّد. أمّا في عالم الثوابت فليس هناك ثمّة زمان، أي أنّ الزمان -بعبارة اخرى- مختصّ بالجهة المُلكيّة المتغيّرة لهذا العالم، أمّا الجهة الملكوتيّة (الملكوت الأعلى) حيث تنعدم الحركة، فليس للزمان من معنى فيها، لأنّ الزمان هو المشخّص لمقدار الحركة، و حيث تنعدم الحركة ينعدم الزمان.
إدراك تدرّج الزمان و عدم إدراكه تبعاً لتجرّد النفس
و إذ اتّضحت هذه المقدّمة فنقول بأنّ نفس الإنسان الناطقة ترتقي إثر الحركة الجوهريّة من عالم الجسم و الطبع و الزمان. و حين تبلغ مرحلة التجرّد فإنّ التدرّج و التجدّد و التغيّر ستفقد مفهومها آنذاك، و ستحيط نفس الإنسان بالجسم و الحركة و الزمان و عالم المُلك.
و يمكن -بناءً على هذا- أن تمرّ السنوات العديدة، بل آلاف السنين و ملايينها دون أن تدرك النفس تغيّراً ما. و ستشاهد نفسها على الدوام ثابتة في عالم الثوابت. خلافاً للأفراد الذين لم يبلغوا مرحلة التجرّد النفسيّ؛ و الذين يعيشون في عالم الحركة و التدرّج و يجدون ذواتهم -من خلال الحركة الجوهريّة لهذا العالم- و هي متحرّكة باعتبارها جزءاً من جوهر هذا العالم، كما أنّهم يدركون جيّداً مقدار الزمان الذي يمثّل المشخّص لهذه الحركة.
إلّا أنّ هناك مسألة جديرة بالالتفات في هذا المجال، و هي أنّ حصول التجرّد هو أمر نسبيّ يحصل للإنسان تدريجيّاً. و يمكن -و الحال هذه- أن يبلغ امرؤ ما بنفسه إلى الكمال الصوريّ و البرزخيّ إثر الحركة الجوهريّة في ذاته، إلّا أنّه -مع ذلك كلّه- لم يبلغ بعدُ مرحلة التجرّد النفسيّ و الروحيّ، بل إنّه قد بلغ مرحلة الكمال النسبيّ لا التجرّد المطلق. و مثل هذا الشخص سيدرك الزمان ليس على نحو إدراك الناس العاديّين، بل على نحوٍ
أسرع زوالًا و انقضاءً.
و الكثير ممّن هم على و شك العبور من عالم المثال و البرزخ إلى عالم النفس يدركون مرور الزمان بصورة إجماليّة، إلّا أنّه مرور سريع.
و نشاهد لهذا المطلب أمثلة كثيرة في عالمنا الحاضر:
۱- أنّ الإنسان ينام فيحسّ بحركة الزمان و تدرّجه و كأنّها أسرع من السابق. و الغالبيّة من الناس لا يحسّون خلال نومهم بقدر الساعات التي تمرّ عليهم في نومهم. و كثيراً ما يحصل أن يتطلّعون إلى الساعة أو إلى ظلّ الشمس ليشخّصوا مدّة نومهم.
٢- أنّ الإنسان يُغمى عليه فيتوقّف تبعاً لذلك إدراك حواسّه لا نقضاء الزمان، فيعجز في النتيجة عن معرفة المدّة التي فقد خلالها وعيه. و قد تمرّ الأيّام أو الشهور و هو فاقد وعيه. و قد حصل للبعض أن مرّت عليه سنوات دون أن يعود إلى وعيه. و مثل هذا الشخص المغمى عليه لا يحسّ بمرور الزمان و لو بقدر دقيقة واحدة.
٣- أنّ الأطفال الذين يولدون حديثاً يبقون مدّة دونما إحساس بمرور الزمان، لأنّ مشاعرهم بالنسبة إلى إدراكات عالم الكثرة لا تزال في حالة سبات.
٤- و كثيراً ما يحصل أن ينغمر بعض الأفراد في سرور و بهجة شديدين، و ينغمسون في عالم من اللذة و السعادة بحيث يفقدون الإحساس بمرور الزمان. كما يحصل كثيراً أن تتنزّل مشاعر أفراد آخرين من شدّة الألم و الحزن عن إدراك كثرات هذا العالم، فينعدم -أو يضعف- إحساسهم بمرور الزمان.
٥- أنّ هناك أفراداً مثل أنبياء الله تعالى الذين يُوحى إليهم لا يدركون مرور الزمان في حالات الوحي الخاصّة.
٦- أنّ النفس إذا التفتت إلى شيء تمام الالتفات بحيث إنّها تغفل عمّا سوى ذلك الشيء، فإنّها لن تدرك مرور الزمان و انقضاءه. فأولياء الله تعالى الذين ينهمكون بمناجاة الله تعالى و التضرّع إليه؛ و الأشخاص الذين ينشغلون باكتشافٍ ما، يتوغّلون في ذلك المطلب بحيث يحصل لهم انصراف عن عالم الطبيعة.
و من الامور التي يمكن عدّها من هذا القبيل الموت الإراديّ و التنويم المغناطيسيّ -و لو كان أمراً غير مشروع- و طيّ الزمان -و إنّ صحّت حقيقته- لأنّ أمر الطيّ في زمن قصير هو أمر مشهور و معروف عند أولياء الله و الأئمّة الطاهرين عليهم السلام. و مثاله ما حصل لأمير المؤمنين عليه السلام حين حضر من المدينة إلى المدائن قرب بغداد ليلةَ ارتحال سلمان الفارسيّ، فجهّزة و دفنه ثمّ عاد إلى المدينة. و ما حصل لجواد الأئمّة الإمام محمّد التقيّ عليه السلام عند شهادة أبيه الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، حيث حضر من المدينة إلى طوس و دخل إلى المنزل و الأبواب مغلقة، ثمّ عاد إلى المدينة بعد تجهيز أبيه و تكفينه و غسله و الصلاة عليه ثمّ دفنه.
و كما حصل للإمام زين العابدين السجّاد عليه السلام حين حضر من الكوفة إلى كربلاء في مراسم دفن الأبدان المطهرة لشهداء الطفّ و مراسم دفن أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فصلّى بنفسه على جسد أبيه الطاهر ثمّ دفنه، و قام بتعيين مواضع قبور سائر الشهداء.
أمّا طيّ الزمان، أي قيام الإنسان بطيّ فترة زمنيّة طويلة خلال لحظات قصيرة. كأن يطوي شهر محرّم الحرام من أوّله إلى آخره في عدّة لحظات، فيدخل في أول شهر صفر المظفّر، و هو أمر لم اشاهد له ذكراً في كتابٍ ما، كما أنّه غير معروف بين العلماء و الأعلام من أهل الكمال؛ إلّا
أنّني سمعت في النجف الأشرف من رجل عربيّ، كان -حقّاً- سالكاً لطريق الله تعالى و من المنزّهين المتحمّسين الصادقين، أنّه قال: لقد مرّت عَلَيّ أوقات كنتُ أنغمر خلالها في عوالم الحيرة، فينقضي عَلَيّ شهر أو أكثر من شهر دون أن يكون لي و لعيالى أدنى قوت (أدنى ما يلزم من الطعام لإدامة الحياة)، و لم نكن نحسّ بانقضاء الزمان أبداً، و كنت أنا و عيالى و أطفالى في حالٍ عاديّة من البهجة و السرور. و لم يكن لعائلتي اطّلاع على انقضاء الزمان أبداً، كما أنّني لم أبُحْ لهم بذلك حتّى الآن.
و هناك أمثلة اخرى على هذا الأمر، إلّا أنّنا نكتفي بهذا القدر كشاهد على المطلب.
و على العكس من ذلك، فكلّما زاد التفات الإنسان إلى عالم الكثرة، زاد إدراكه لحركة الزمان و تدرّجه. و كلّما زادت درجة التفاته، كان إحساسه بمرور الزمان إلى الدقائق أكثر من الساعات، و إلى الثواني أكثر من الدقائق، و كثيراً ما يحصل أن يكون الأمر أدنى من ذلك، فقد يكون مرور ثانية واحدة واضحاً لذلك الفرد و مشهوداً لديه.
إنّ الأفراد الذين يعيشون حالة انتظار و ترقّب لأمرٍ ما، يدركون امتداد الزمان بشكل جيّد، و يبدو لهم الزمان طويلًا. فالشخص المعتقل الذي يراد تقديمه إلى المحاكمة تشتدّ عليه ساعات الزمان و الشخص المحكوم الذي يُراد إجراء الحدّ بحقّه و إنزال القصاص به أو إعدامه، يبدو الزمان في نظره طويلًا. فكلّ دقيقة تبدو له بقدر ساعة؛ و كلّ ساعة تبدو بقدر يوم، أو بقدر شهر أو سنة. و كثيراً ما يكون الزمان ثقيلًا طويلًا في نظر المحكوم حتّى كأنّه قضى في انتظاره عمراً.
و الأمر على هذا النحو بالنسبة للعاشق الذي يحترق في فراق حبيبه، فإنّ الدقائق و الساعات تمرّ في نظره بطيئة ثقيلة، كأنّ كلّ دقيقة تعادل زمناً
مديداً. فيتلظّى بنار الفراق، و يحسّ بالزمان عليه طويلًا.
إنّ الامّ التي تنتظر عودة ولدها الضائع تعيش حالة ترقّب مستمرّ، و تتسمّر أنظارها على باب البيت في انتظار لحظة إعادة طفلها إليها، فيبدو انقضاء الزمان في نظرها بطيئاً، فهي لا تلبث تتطّلع إلى الساعة و تقول:
عجباً! إنّهم حتّى الآن لم يرجعوا بطفلي إليّ! لقد قالوا إنّهم سيأتون به بعد ساعة، أ فلم تمرّ ساعة، بل و أكثر من ساعة؟!
تقول ذلك مع أنّ خمس دقائق لم تنقضِ بعد. ثمّ تقول: انظروا لعلّ الساعة معطّلة لا تعمل!
و الأمر كذلك بالنسبة إلى الشخص الذي يُراد تفتيشه في الجمرك أو في مكان آخر، أو الذي يُراد حبسه في سجن؛ فإنّ الزمان سيبدو في نظره طويلًا. و هذا الأمر من الوضوح و الجلاء بحيث ورد في آداب كلّ اللغات في أشعار الغزل قصص عن فراق المحبوب و عن طول زمان الهجر، و شُبّه الهجران بـ «شب يلدا»،۱ و بحيث جاء هذا المعنى في قوالب النظم و النثر بأنواع مختلفة من التشبيهات و الكنايات و الاستعارات، كما وردت شواهد في القرآن الكريم على هذه الحقيقة الكلّيّة التي ذكرناها:
الأوّل: قصّة إرميا، و كان من الأنبياء فقد أماته الله و أمات حماره معه ثمّ أحياه بعد مائة عام، ثمّ سأله: كم لبثتَ؟ قال: يوماً أو بعض يوم.
فخاطبه تعالى: بل لبثتَ مائة عام:
فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ.٢
الثاني: قصّة أصحاب الكهف الذين أنامهم الله ثلاثمائة سنة شمسيّة (تعادل ثلاثمائة و تسع سنين من السنين القمريّة) ثمّ أيقظهم، فقال بعضهم لبعض: كم لبثنا هنا؟ قالوا: يوماً أو بعض يوم. و كان الله تعالى يعلم كم استغرق نومهم.
وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ.۱
وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً ، قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا.٢
الثالث: عدم إدراك الأفراد في عالم البرزخ مقدار طول الزمان فيه، و هو أمر ناتج عن التجرّد الروحيّ و تخطّي عالم الطبع، حتّى بالنسبة إلى المجرمين. و قد ذُكر هذا المعنى في سبعة مواضع من القرآن الكريم:
۱- يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا.٣
٢- يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً.٤
٣- إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ ، قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ، قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ ، قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.٥
٤- وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ، وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ
اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.۱
٥- وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ.٢
٦- كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ.٣
۷- كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها.٤
نسبيّة إدراك زمان الموقف من قبل الصالحين و الطالحين
و قد وردت -تبعاً لهذا الأساس- روايات في اختلاف شعور أهل البرزخ لطول البرزخ، و قد ذكرنا تلك الروايات في بحث عالم البرزخ.
أمّا في موقف القيامة و وقوف الإنسان للحساب، فهناك أيضاً روايات ذات دلالة على أنّ ذلك الموقف ليس واحداً بالنسبة إلى الجميع، و أنّه سريع الانقضاء بالنسبة إلى الأنبياء و المؤمنين و الصالحين، و متثاقل طويل بطيء الانقضاء بالنسبة إلى الكفّار و الفجّار و الأشقياء.
و نحن نعلم -بطبيعة الحال- أنّ ذلك الزمان ليس أمراً موهوماً، بل هو أمر حقيقيّ. و قد ذكرنا في بحث المعاد الجسمانيّ أنّ موقف الحساب و السؤال و الكتاب و الميزان و الصراط يحصل بعد الفناء في الله تعالى، و في عالم البقاء بالله بعد طيّ الفناء. حيث يُحفظ في عالم البقاء كلّ شيء في موضعه: الزمان، المكان، الجسم و البدن، السؤال و المؤاخذة، اللذّة و البهجة، الحزن و الغمّ، البكاء و الضحك، السرور و الحزن، و الجنّة و النار.
و من هنا ينبغي حتماً أن يكون إدراك اختلاف كمّيّة امتداد الزمان بحسب اختلاف درجات أعمال الناس و إدراكهم، و أن يكون أمر نسبيّة الزمان تبعاً إلى المراحل المختلفة للسائرين تجاه الحرم الإلهيّ، إذ إنّ
الجميع في حركة باتّجاهه عزّ و جلّ، و الكلّ يبحث عنه سبحانه.
همه كس طالب يارست چه هشيار چه مست | *** | همه جا خانة عشق است چه مسجد چه كنشت۱ |
فالإنسان -بما هو إنسان- في حركة إلى الله، و ممّن يلتقون بطلعته و يشاهدون جماله.
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ.٢
منتهى الأمر أنّ هناك فارقاً بين سير المؤمنين و سير الكافرين؛ و بين سير الصالحين و سير الطالحين؛ و بين سير المقرّبين و سير غيرهم: و بين سير أصحاب اليمين و سير أصحاب الشمال؛ و في النهاية فإنّ هناك فارقاً بين سير مَن انكشفت لهم الأسرار الإلهيّة و سير المحجوبين.
فعشّاق جماله، و طالبو لقائه، و المشتاقون إلى طلعته الجميلة و سيماء جلاله، و المتلهفون في ميدان الحيرة، و المتحرّرون من هوى النفس و مكائد إبليس و مصائده، و مَن تشرّف بعزّ حريم الحضور يصبح غارقاً باستمرار في أنوار تجلّياته و نفحاته السبحانيّة بحيث يفقد المجال و الحال للنزول.
چه التفات به لذّات كائنات كند | *** | كسى كه يافت دمى لذّت وصال حبيب |
درون من نه چنان از حبيب مملوّ شد | *** | كه گر حبيب درآيد، بود مجال حبيب٣ |
قال المرحوم آية الله الحاجّ الميرزا جواد آقا الملكيّ التبريزيّ:
بل قد يكون مستغرق الهمّ و القلب في حضرته، حتّى يتعطّل قلبُه عن ذكر ما سواه، و عن الالتفات إلى غيره؛ و عقله عن التدبير في اموره، و يحصل له شبه الهيمان، كما روي ذلك في بعض حالات أمير المؤمنين عليه السلام، و اشير إليه في حديث المعراج بقوله:
وَ أسْتَغْرِقَنَّ عَقْلَهُ بِمَعْرِفَتِي، ثُمَّ لأقُومَنَّ لَهُ مَقَامَ عَقْلِهِ.۱
أمّا المحجوبون عن لقاء الله، المحرومون من حبّه عزّ و جلّ، و المتهرّبون عن القيام بوظائف الإيمان و العمل الصالح، و المبتلون بالأفكار النفسانيّة الشيطانيّة، المحبوسون في عوالم البُعد، الذين تمثّل الامور الاعتباريّة و الكثرات الوهميّة و الشؤون السرابيّة لعالم الغرور المحور الذي تدور عليه أفكارهم، فيصدق في حقّهم:
أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.٢
و سيدرك هؤلاء يوم القيامة مرور الزمان جيّداً، و يُحاسبون مفصّلًا على ما عملوا، و سيطول ذلك الموقف عليهم؛ و قد قرأنا في هذا المجلس الرواية القائلة بأنّهم سيتصبّبون عرقاً فيكفي عرقهم لريّ أربعين بعير ظمآن.
و هناك آخرون يتوزّعون في درجات مختلفة من العبوديّة بين هاتين الطائفتين، أي بين طائفة المقرّبين و طائفة المنكرين؛ و هؤلاء كلّما زاد خلوصهم و إخلاصهم، زاد قربهم من مقام التجرّد المطلق و صاروا يحسّون
بمرور الزمان إحساساً أضعف. و على العكس من ذلك، فكلّما زادت درجة استكبارهم زاد بعدهم عن مقام التجرّد و زاد إحساسهم بمرور الزمان.
فالناس -إذاً- يقفون في موقف القيامة في درجات مختلفة، فيحاسبون بنحوٍ خاصّ بحسب عقائدهم و مَلكاتهم و صفاتهم المكتسبة و أخلاقهم و سيرتهم، فيحسّون بمرور الزمان إحساساً خاصّاً.
و يتّضح هذا المعنى جيّداً بما ذكره صدر المتألّهين في شأن جانبَي الإنسان المُلكيّ و الملكوتيّ، فكلّما اقتربنا أكثر من الجانب الملكوتيّ، زاد ظهور تجرّد نفوسنا الناطقة، و زادت مصونيّتنا من آلام حوادث عالم الكثرة و سراب الاعتباريّات الوهميّة و أذاها. و كلّما اقتربنا من الجانب المُلكيّ الظاهريّ، قلّ تجرّد نفوسنا الناطقة، و طال بنا الموقف في يوم القيامة، و كان انقضاء زمان السؤال و الحساب بطيئاً في نظرنا.
و قد ورد في تفسير «مجمع البيان» عن أبي سعيد الخدريّ في قوله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال: قيل: يا رسول الله ما أطول هذا إليوم؟
فقال: و الذي نفسُ محمّدٍ بيده إنّه لَيخفّف على المؤمن، حتّى يكون أخفّ عليه من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلّيها في الدنيا.
و روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: لَوْ ولى الحسابَ غيرُ الله لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا، و الله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة.۱
و يتّضح من خلال هاتين الروايتين معنى فقرة «خمسين ألف سنة»، و يتجلّى أن طول الزمن أمر يتعلّق بحالات العباد المختلفة، و أنّه في نظر
المؤمنين سريع الانقضاء، خفيف يبعث على الارتياح، لأنّ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، فهم يشاهدون ذلك بحسب حقائقهم و واقعيّاتهم.
و من الجليّ أنّ الحقيقة أمر واحد: وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.۱
و جاء أيضاً في القرآن الكريم: وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ.٢
و هذا الأمر القليل كلمح البصر يطول بالنسبة إلى الكافرين و الفاسقين لأنّهم عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ.
فالاختلاف -إذاً- من قِبل الناس؛ أمّا من قِبل الله تعالى فإنّ الأمر سينقضي في لحظة واحدة، بل إنّ التعبير باللحظة الواحدة في هذا المجال مُجانب للصواب؛ وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ.
و هذا هو معنى نسبيّة زمان الوقوف للسؤال و الحساب في موقف القيامة.
معنى نسبيّة الزمان لدى أينشتَين
أمّا ما قاله العالم الغربيّ أينشتَين بشأن نسبيّة الزمان فلا علاقة له بهذا المطلب أبداً. فقد وافق «أينشتين» على مبدأ عدم إمكان عدّ جسمٍ ما في هذا العالم ساكناً، أمّا تنوّع الحركات يوجب نشوء الأجسام المختلفة، فليس قولًا مختصّاً به، فقد ذكر ذلك آخرون قبل «أينشتين».
يقول أينشتَين: إنّ الامتداد الزمنيّ لا ينفك عن الامتداد المكانيّ.
و قد نشأ حجم عالم الطبيعة من أبعاد أربعة: الأبعاد الثلاثة المعروفة (الطول و العرض و الارتفاع) و البُعد الرابع هو الزمان.
و كان «نيوتن» قد شبّه الزمان بسائل متجانس الجريان دون أن
يكون له ارتباط مع الأشياء الخارجيّة. و في نظر «أينشتين» أنّ لحظات هذا الزمن المطلق أشبه بنسيج يشكّل ما يشبه نقاط خطّ مستقيم. و الأساس الذي تتتابع فيه هذه اللحظات هو أساس مستقلّ عن جميع الحوادث. أمّا الحوادث فيمثّل كلّ منها بعضاً من هذه اللحظات.
و قد تعرّضت عقيدة «نيوتن» بأنّ الزمن المطلق موجود بصورة مستقلّة عمّا يدور في العالم إلى انتقاد؛ حتّى معاصريه، و من جملتهم «لايب نيتس» الذي كان يعتقد أنّ الحوادث أكثر تأصّلًا، و أنّ اللحظات هي مفاهيم انتزاعيّة، أي أنّها مجموعات من الحوادث المتزامنة.
فنحن ننتزع الزمان من الحوادث. و الزمان -في الحقيقة- هو الذي يعرّف تسلسل الحوادث.
ثمّ جاء أينشتين فرفض فرض وجود الزمن المطلق، و كان بدء تحقيقاته محاولته للمجانسة بين نظريّة مَاكْسْوِيل الإلكترو مغناطيسيّة مع باقي القضايا الفيزيائيّة المبتنية على ميكانيك «نيوتن».
و كان «نيوتن» قد قال في كتابه «الاصول» بأنّ حركات الأجسام في فضاء معيّن واحدة، سواءً كان ذلك الفضاء ساكناً أم متحرّكاً حركة متجانسة.
أي ينبغي للتجارب الميكانيكيّة المحضة أن تعطي نتيجة واحدة على الدوام، سواء اجريت في أماكن تجارب ساكنة على الأرض، أم في زورق يسير في حركة متجانسة. فالحجر الذي تتركه اليد ليسقط، يمتلك في كلا الموضعين تعجيلًا واحداً.
و لم يكن هذا المطلب (الذي كان أحد اسس النسبيّة) لينسجم مع نظريّة «ماكسويل»؛ فطبقاً لنظريّة الأخير فقد كان يمكن التفريق بين هذين النوعين من خلال تجربة كهربائيّة أو ضوئيّة.
لذا فقد قال «أينشتين» بأنّ القوانين الإلكترو مغناطيسيّة (الحاكمة
على الظواهر الضوئيّة و الكهربائيّة) -فضلًا عن قوانين الميكانيك- يجب أن تبدو واحدة للناظرين الذين يتحرّكون حركة متماثلة مع بعضهم، و إنّ سرعة الضوء ينبغي أن تكون متماثلة لجميع هؤلاء الناظرين.
و قد وصل «أينشتين» خلال تحليله للحركة إلى نتيجة أنّ قياس الزمان مرتبط بمفهوم التزامن. و في نظره أنّ جميع القضايا التي يحتلّ الزمان فيها نصيباً، هي على الدوام قضايا تدور حول حوادث متزامنة. فحين نقول -مثلًا- بأنّ القطار سيصل إلى المحطّة في الساعة السادسة، فإنّنا نقصد أنّ وصول عقرب الساعة الصغير مقابل الرقم «٦» متزامن مع وصول القطار إلى المحطّة. و لهذا فإنّ التزامن هو أمر نسبيّ.
و قد توصّل «أينشتين» إلى نتيجة أنّه إذا كانت الفاصلة بين شيء خارجيّ و بين الناظر معلومة، و كانت سرعة العلامة التي تربط ذلك الشيء بالناظر معلومة بدورها (الصوت، الضوء أو الأمواج الإلكترو مغناطيسيّة)، فإنّ زمن وقوع حادثةٍ ما سيمكن حسابه في تلك الحال. لكنّ ذلك الحساب سيكون واحداً للناظر الواحد و مختلفاً للناظرين المختلفين.
و كان يظنّ قبلًا أنّ زمان وقوع حادثة ما لو احتُسب وفقاً لزمن مشاهدتها، لأمكن ترتيب جميع الحوادث في سلسلة زمنيّة واحدة، و سيحصل جميع المشاهدين -في العاقبة- على نتيجة عدديّة واحدة لزمان وقوع أي حادثة.
ثمّ إنّه رفض هذا المطلب و قال: إذا لم يكن بين الحوادث الخارجيّة و الناظر أي ارتباط آنيّ، فإنّ سرعة الأمواج الإلكترو مغناطيسيّة (الضوئيّة) التي تمثّل أسرع وسيلة للارتباط، ستكون واحدة لدى جميع الناظرين الذين لهم حركة متماثلة. أمّا بالنسبة إلى الناظرين الذين يتحرّكون حركات مختلفة بالنسبة إلى بعضهم البعض، فإنّهم ينسبون أعداداً مختلفة لزمان
وقوع الحوادث، و استنتج من ذلك جملة قضايا:
الاولى: أنّ الساعة التي ينظر إليها ناظر متحرّك ستبدو أبطأ حركة من ساعة مماثلة ينظر إليها ناظر ساكن (و هذه القضية موسومة باتّساع الزمان).
و اتّساع الزمان في نظر «أينشتين» يمثّل ظاهرة ناشئة من عمل القياس.
الثانية: يجب تغيير قوانين «نيوتن» في الحركة، التي كانت تعدّ في السابق اسس الفيزياء، يجب أن تغيّر؛ و من جملتها أنّ كتلة الجسم التي كانت تبدو في السابق مستقلّة عن حركته ينبغى أن تزداد تبعاً لحركة الجسم. و في النتيجة فإنّ تأثير قوّة معيّنة في تغيير سرعة الجسم سيتناقص مع ازدياد سرعة ذلك الجسم. و في النتيجة فلا يمكن لأيّة ذرّة كانت أن تحصل على سرعة النور، و لو قُدّر لساعةٍ ما أن تتحرّك بسرعة النور، لأشارت باستمرار إلى نفس الزمان.
الثالثة: أنّ الأطوال تصبح أقصر في اتّجاه الحركة. أي أنّنا لو كنّا في حركة قياساً إلى مسطرة ما، فإنّ طول تلك المسطرة الذي نحصل عليه بالقياس سيكون أقصر من الطول الذي سنحصل عليه عند سكون المسطرة.
و هذا القصر في الأطوال ناشئ من عمل القياس. و هناك شواهد تجريبيّة موجودة في الوقت الحاضر لظواهر اتّساع الزمان و قصر الأطوال.
و النسبيّة الخاصّة تقول لكلّ ناظر بزمان خاصّ، و ذلك الزمان الخاصّ بكلّ ناظر هو الزمن الذي تشير إليه ساعته. و ضمناً فإنّ كلّ ناظر إلى أيّة حادثة تقع في موضع آخر ينسب إليها زمناً خاصّاً يمكن احتسابه على أساس المعلومات التي يمتلكها عن محلّ وقوع تلك الحادثة و سرعة العلامة التي تربط بينه و بين تلك الحادثة. و الزمن المختصّ بالحوادث الواقعة في موضعٍ واحد مساوٍ إلى الزمن المختصّ بالناظر.
و في نظر ناظر معيّن فإنّ جميع الحوادث التي لها زمن خاصّ
تشخّص حالة لحظيّة (آنيّة) للعالم؛ و بينما كان الزمان لدي «نيوتن» مستقلًّا عن العالم، فإنّه لدي «أينشتين» جانب من الرابط بين هذا العالم و بين الناظر.
و في نظر النسبيّة الخاصّة فإنّ الفاصلة الزمنيّة بين حادثتينِ هي أمر يتعلّق بالناظر، بل إنّ الترتيب الزمانيّ لهما -بلحاظ التقدّم و التأخّر- يتعلّق بالناظر بدوره. لكنّها تشير هنا إلى عدم تغيّر ترتيب وقوع الحوادث التي ترتبط فيما بينها برابطة العلّة و المعلول.
و قد أجري «مينكوسكي» في سنة ۱٩۰۸ م أبحاثاً رياضيّة على نظريّة النسبيّة الخاصّة بعد تقديمها من قبل «أينشتين» في سنة ۱٩۰٥ م.
و يمكن تلخيص كلام «مينكوسكي» بأنّه لا يمكن لأيّ إنسان أن يلحظ أيّ مكان خاصّ إلّا في زمن معيّن، و بالعكس. و بهذا اللحاظ فقد استخدم مفهوم الفضاء و الزمان و الاصطلاح المعروف «الموقع» بدلًا من اصطلاح الزمان و المكان.
و قبل النظريّة النسبيّة، فقد كانت الفاصلة الزمنيّة بين حادثتينِ واحدة بالنسبة إلى جميع الناظرين، و كذلك الأمر بالنسبة إلى الفاصلة المكانيّة بين الحادثتينِ. أمّا في نظر النسبيّة فإنّ كلّ واحد من الأمرين السابقينِ مرتبط بالناظر، و لكن يمكن اتّخاذ تركيب منهما بحيث يبدو واحداً بالنسبة إلى جميع الناظرين.
و لهذا قال «مينكوسكي»: إنّ الزمن لوحده و المكان لوحده سوف يمّحيان، و سيبقي نوع من تركيبهما بعنوان حقيقة مستقلّة.
و قد توصّل «أينشتين» بعد عمل «مينكوسكي» إلى نتيجة أنّ العالم الخارجيّ الفيزيائيّ هو عالم ذو أربعة أبعاد، و أنّ تفكيكه إلى فضاء ذي ثلاثة أبعاد و إلى زمن يمثّل البُعد الرابع، ليس أمراً واحداً لجميع الناظرين.
و قال من ثمّ: يبدو أنّ اعتبارنا الحقيقة الفيزيائيّة في هيئة وجود ذي أربعة
أبعاد أقرب إلى الطبيعة من اعتبارنا لها في هيئة تغيّر ذي وجود ثلاثيّ الأبعاد.
و يعدّ فضاء «مينكوسكي» باللحاظ الرياضيّ فضاءً خاصّاً؛ و لا نقصد بذلك أنّ الفضاء بمعناه المتعارف هو فضاء ذو أربعة أبعاد، أو أنّ الزمان هو شكل من أشكال الفضاء. و خلاصة النظريّة النسبيّة هي أنّ خواصّ الزمان و الفضاء مندمجة و مرتبطة مع بعضها، و أنّه لا يمكن إعطاء أشكال منفصلة لكلّ واحد منها.
و الخلاصة فإن «أينشتين» قد قدّم نظريّة النسبيّة الخاصّة و العامّة:
النسبيّة الخاصّة التي تتعلّق بالحركات المتماثلة بما يشمل الحركات ذات الخطّ المستقيم و ذات الخطّ المنحني. و التي تربط بين الناظرين الذين لهم حركة متماثلة بالنسبة إلى بعضهم.
أمّا النسبيّة العامّة فتربط كلا الناظرينِ إلى بعضهما، سواءً كان لهم تعجيل بالنسبة إلى بعضهما أم لم يكن لهما تعجيل.
و قد ارسيت النسبيّة الخاصّة على فرضيّتينِ:
الاولى: أنّ قوانين الفيزياء لها شكل واحد بالنسبة إلى جميع الناظرين الذين يتماثلون مع بعضهم في حركتهم (أي في سرعتهم الثابتة).
و الثانية: أنّ سرعة النور في الفراغ واحدة بالنسبة إلى جميع الناظرين الذين لهم تماثل في الحركة بالنسبة إلى بعضهم.
و قد ارسيت النسبيّة العامّة على أساس عدّة قواعد لا يزال بعضها في دور الفرضيّة و لم تثبت علميّاً بعدُ. مثل عموميّة الحركة، قانون الجاذبيّة العامّة للأجسام، ثبات سرعة النور؛ و بطبيعة الحال فإنّ قانون الجاذبيّة العامّة للأجسام لا يناقش في النسبيّة العامّة في نفس الصورة التي يُناقش بها
في ميكانيك «نيوتن». بل إنّ الوزن (الجاذبيّة) يمثّل في هذه الحالة مظهراً من
الهندسة الفضائيّة (أي آثار الوزن الناشئة من خواصّ الفضاء -الزمان).
و لا يختصّ أمر اكتساب الجسم المستند على جسم آخر سرعة ذلك الجسم بالنسبيّة الخاصّة؛ إذ إنّه موجود أيضاً في ميكانيك «نيوتن». منتهى الأمر أنّ تفصيله متفاوت في الموردينِ.
و قد قام بعض العلماء قبل «أينشتين» بطرح أساس النسبيّة، فقد كان «لورنتز» قد حصل على بعض النتائج الرياضيّة للنظريّة النسبيّة قبل «أينشتين»، لكنّ تعبيره عن تلك النتائج جاء مغايراً للتعبير الذي قدّمه لها «أينشتين» لاحقاً.
و كان «بوانكاره» قد طرح اساس النسبيّة (و هو الفرض الأوّل للنسبيّة الخاصّة) قبل «أينشتين»، لكنّ هذا الفرض لم يكن كافياً بمفرده، و كان امتياز تقديم نظريّة النسبيّة الخاصّة منحصراً بـ «أينشتين» الذي قدّم النظريّة في الحركات المتماثلة، بما فيها الحركة المستقيمة و المتكرّرة.
و بطبيعة الحال فإنّ الحركات ذات الخطّ المستقيم (المتماثلة منها و غير المتماثلة) مطروحة بدورها في النسبيّة العامّة.
على أنّ «مينكوسكي» لم يكن قد سبق «أينشتين» في الحديث عن النسبيّة، لكنّه قام -بعد أن قدّم «أينشتين» نظريّته النسبيّة- بتقديم قالب رياضيّ بديع لبيان النسبيّة الخاصّة.
و أساس النسبيّة قائم على الحركة؛ و لو كان الفضاء و عالم الطبع ساكنينِ دونما حركة، لما كان للنظريّة النسبيّة من موضوع. و تعدّ المادّة و أفعال المادّة في نظر «أينشتين» و سائر العلماء القائلين بالنسبيّة متحرّكة بأجمعها، كما أنّها بأجمعها من قبيل ميدان الوزن (الجاذبيّة) و الميدان الإلكترومغناطيسيّ.
و باعتبار أنّ النور و الصوت هما اللذان ينقلان لنا أخبار الحوادث
و أماكنها و حيّزها (مواقعها)، و أنّ ذلك بذاته يستغرق زمناً معيّناً (سرعة النور تعادل ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية، و سرعة الصوت تعادل ثلاثمائة و واحد و ثلاثين متر في الثانية)، و لأنّ نفس تلك الأجسام متحرّكة بدورها، فإنّنا سنعجز عن معرفة زمن وقوع الحادثة بشكل عامّ و كلّيّ.
و وفقاً لنظريّة النسبيّة الخاصّة، فإنّ الزمن الحاصل عن هذا الطريق مختلف للناظرين المختلفين الذين هم في حركة بالنسبة إلى بعضهم البعض، و يمكننا فقط أن نحصل -و بشكل دقيق- على زمن وقوع الحادثة بالنسبة إلى ناظر خاصّ.
فنحن نرى -مثلًا- أنّ الشمس قد أشرقت، فنقول: لقد أشرقت الشمس الآن. بينما لم تكن الشمس قد أشرقت بعدُ حين شاهدنا إشراقها.
و لم يكن موضعها في الافق هو المحلّ الذي نراه، لأنّ بُعدها عن الأرض يقارب ۱٥۰ مليون كيلومتر؛ و يستغرق نورها ثمان دقائق و ثلاث عشرة ثانية ليصل إلى الأرض. و نحن إنّما نرى منظر إشراق الشمس بعد هذه المدّة التي أشرقت فيها الشمس فعلًا، و نشاهد مكانها بهذا المقدار الذي ارتفعت به عن الافق. كما أنّنا نشاهد منظر غروبها بعد هذه المدّة التي غربت فيها الشمس فعلًا و اختفت وراء الافق. أي أنّ الشمس قد غربت فعلًا، لكنّنا نشاهدها في الافق بعد ثمان دقائق و ثلاث عشرة ثانية و هي على و شك الغروب مقتربة من الافق.
و باعتبار أنّ نور القمر يستغرق ثانية واحدة و خُمس الثانية ليصل إلى الأرض، فإنّنا نشاهد طلوع القمر بعد طلوعه الفعليّ بهذه المدّة، كما نشاهد غروبه بعد غروبه الفعليّ بهذه المدّة.
و نحن نشاهد باستمرار خلال النهار موضع الشمس بما يسبق موضعها الحقيقيّ في الافق، و نشاهد محلّ القمر خلال الليل بما يسبق
موضعه الحقيقيّ أيضاً. و نشاهد أنواع النجوم الاخرى التي يستغرق نور بعضها أربعاً و عشرين ساعة ليصل إلى الأرض؛ و نحن نشاهدها بعد دوران الأرض دورة كاملة. و هناك من النجوم ما يستغرق نورهُ سنةً كاملة ليصل إلى الأرض؛ و نحن نرى تلك النجوم بعد ثلاثمائة و خمس و ستّين دورة للأرض حول محورها في حركتها الوضعيّة.
و ما أكثر النجوم التي يبدأ طلوعها في النهار، فيصل نورها إلى الأرض خلال الليل.
و بالإضافة إلى الزمان الذي يستغرقه نور النجوم للوصول إلى الأرض، فإنّ هذه النجوم هي بذاتها في حركة خلال هذه المدّة، فهي إمّا أن تقترب من الأرض أو تبتعد عنها. كما أنّ للأرض حركة خلال هذه المدّة سواء اقتربت من هذه النجوم في حركتها أم ابتعدت عنها.
و ينبغي -وصولًا إلى رصد النجوم على نحو التحقيق- أن نجعل أساس حساباتنا على خصوص ما ننظر إليه. فهذه الأرصاد إنّما هي أرصاد لنا، و نسبة لنا -نحن الذين نرصد من على الأرض- أمّا بالنسبة إلى الذين يريدون أن يرصدوا من على الكرات السماويّة الاخرى -مثلًا- أو إلى الذين يريدون رصد الأرض من على إحدى النجوم فإنّها تعدّ مختلفة، بل إنّها مختلفة أيضاً حتّى للناظرين المختلفين على الأرض، و الذين هم في حال حركة بالنسبة إلى بعضهم البعض.
و مع جميع هذه الأحوال، فإنّ هذه الفواصل متفاوتة بلحاظ مسألة النسبيّة. فبُعد الشمس عن الأرض -كما قيل- يقابل ثمان دقائق و ثلاث عشرة ثانية، لكنّ هذا الزمن هو غير الزمن المستغرق بين غروب الشمس الحقيقيّ و بين الغروب الظاهريّ؛ أو بين طلوعها الحقيقيّ و طلوعها
الظاهريّ. و هذا الاختلاف ناشئ من نسبيّة الزمان الخاصّة. و يصدق هذا
الأمر أيضاً على القمر و النجوم. و بناء على ما قيل، و باعتبار أنّ جميع الموجودات في حالة حركة يتدخّل فيها الزمان في تعيين موضعها و موقفها -لأنّ مسافة الجسم المتحرّك في الحركات المتماثلة يساوي سرعته مضروبة في الزمن- و باعتبار أنّ الزمان هو عبارة عن حاصل قسمة المسافة على سرعة الحركة، فيمكن من ثمّ أن يكون للزمن دخلًا في تعيين أبعاد الأجسام و أن يعدّ الزمن بُعداً رابعاً.
و ثانياً: أنّ الزمان -شأنه شأن المكان- يمكن أن يكون نسبيّاً، و أن يختلف تبعاً لاختلاف الأشخاص و الأمكنة.
يقول «أينشتين»: ليس الزمان و المكان ظرفينِ مستقلّينِ للموجودات المادّيّة، بل هما صفتان نسبيّتان من صفاتها. و بينما يُعدّ الزمان و المكان في ميكانيك «نيوتن» مستقلّين عن العالم، فإنّهما في النسبيّة الخاصّة من جهات الارتباط بين الأشياء و الناظر. و لأنّ جميع قوانين الفيزياء لها شكل واحد في نظر النسبيّة بالنسبة إلى جميع الناظرين، فإنّ حركة الإلكترونات في الشمس و في الأرض تخضع إلى قانون واحد، منتهى الأمر أنّ الزمن الذي ننسبه إلى حركة إلكترون شمسيّ يختلف عن الزمن الذي ينسبه إليه ناظر شمسيّ.
و بالتدقيق في المطالب التي ذكرناها في حقيقة الزمان في نظر الفلاسفة و العلماء، تُستنتج أربعة تفاسير مختلفة للزمان، اثنان منها تفسيران فلسفيّان، و الآخران تفسيران مرتبطان بالعلوم التجريبيّة.
خلاصة نظريّات الحكماء و العلماء التجربيّين في أمر حقيقة الزمان
۱- النظريّة المشهورة للحكماء المشّائين التي نُسبت إلى «أرسطو»؛ و يعدّ الزمان بموجبها أمراً عينيّاً يمثّل أساس حوادث عالم الطبيعة، و ينشأ من دوران الأفلاك. و باعتبار أنّ هؤلاء الفلاسفة كانوا يعتبرون الحركة
جارية فقط في أعراض عالم الطبيعة، فإنّهم -في النتيجة- لم يكونوا
يقولون بزمان خاصّ لجوهر الأشياء.
٢- أثبت الحكيم الجليل في العصر الإسلاميّ: المرحوم «صدر المتألّهين» بدلائل متقنة أنّ الحركة في جوهر عالم الطبيعة حركة راسخة، و أنّ أرجاء عالم الطبع -أساساً- وجود سيّال. و أنّ الزمان هو مقدار هذا السيلان الوجوديّ للأشياء الذي يتفاوت بحسب كلّ شيء.
و بطبيعة الحال فإنّ الزمان الشائع في عرف الناس ليس هو الزمان الحقيقيّ للأشياء، بل هو المقارنة بين الأشياء المختلفة الزمنيّة.
و وفقاً لنظريّة «صدر المتألّهين» فإنّ الحركة -و الزمان في النتيجة- ليست جزءاً ماهويّاً لأيّ شيء من الأشياء بخصوصه، بل تمثّل نوعاً من الوجود لجميع أشياء عالم الطبيعة. لذا فبيان الأبعاد الثلاثة المتعامدة على بعضها (الطول و العرض و العمق) ليس كافياً لمعرفة الجوهر الجسمانيّ، بل ينبغي الالتفات إلى بُعد آخر لهذا الجوهر يرتبط بنحو وجود ذلك الجوهر، -و هو الامتداد الزمنيّ- بعنوان بُعد رابع.
٣- التفسير العلميّ للزمان من قبل «نيوتن»، الذي يفترض الزمان و المكان بُعدين مستقلّينِ عن أشياء العالم. و مع أنّ حقيقة الزمان لم تكن ملحوظة في هذا التفسير -و لو بلحاظ ماهيّتها التجريبيّة، حيث لوحظ الزمان بعنوان عامل و معيار لقياس الحوادث و الأشياء الملحوظة- إلّا أنّ تعميم هذه الصفة لجميع الأشياء بلحاظٍ مطلق يمكن أن يجعل هذا التفسير متطابقاً مع التفسير الفلسفيّ الأوّل.
٤- التفسير العلميّ التجريبيّ للزمان، الذي قدّمه «أينشتين» و فقد على أساسه الزمان المطلق مفهومه و استبدل بمفهوم تزامن الأشياء مع بعضها.
و على الرغم من أنّ الزمان فقد في هذا التفسير اعتباره المطلق
العينيّ، إلّا أنّه -في المقابل- رسخ في الماهيّة العلميّة لكلّ ظاهرة، بحيث صارت أيّة معرفة تجريبيّة عن موقف شيء من شيء آخر منوطة بإدراك رابطة التزامن بين تلك الأشياء.
و يتّضح، من خلال الالتفات إلى التفسيرات المذكورة، أن ليس ثمّة من تناقض فيما بين نظريّات الفلاسفة و التصريحات العلميّة لأمثال «أينشتين» و «مينكوسكي». و لا نقصد بذلك أنّ هذين التفسيرين و النظرين متّحدان مع بعضهما، لأنّ الفلاسفة ينظرون إلى العالم باللحاظ الفلسفيّ و مناقشة حقائق الأشياء.
أمّا علماء الفيزياء فينظرون إليه بلحاظ العلوم التجريبيّة و قوانين الميكانيك و الفيزياء. و مع أنّ وجهتي نظر هذين الاسلوبين و الخطّين تختلفان في سيرهما إلى النتيجة، فإنّ هذين الاسلوبين لا يتعارضان و لا يتزاحمان مع بعضهما فحسب، بل إنّهما -بناء على الاسس المسلّمة الثابتة- يعضدان بعضهما، تبعاً للمقدّمات الموجودة لدى الطرف الآخر لتحصيل النتيجة و القياس. و هذا هو الفرق بين الفلسفة و العلم، حيث يتّضح أحد مصاديقه في هذا المجال بين مفهوم الزمان في نظر الفيلسوف و في نظر الفيزيائيّ.
فبالنسبة إلى «أينشتين» و أمثاله، فإنّ هناك زمناً واحداً هو الزمن المستخدم في القياسات الفيزيائيّة، و هو -بطبيعة الحال- نوع نسبيّ من الزمان.۱
...۱
و يتّضح -بالالتفات إلى ما قيل- أنّ كيفيّة البحث في أمر الزمان يختلف أساساً بين الحكماء و بين العلماء التجريبيّين، فبحث الحكماء يرجع إلى حقيقة الزمن التي يُنتزع الزمان منها. و تنشأ نسبيّة الزمان -بناء على ما ذكرناه- من شدّة أو ضعف تجرّد الموجودات. بَيدَ أنّ بحث هؤلاء العلماء لا يرجع في الأساس إلى حقيقة الزمان، بل إلى كيفيّة قياس الزمان و نسبيّته، إذ إنّ هدفهم هو الحساب تبعاً لاختلاف العوامل الدخيلة في القياس. و بطبيعة الحال فحين تقوم القيامة و تبدّل الأرض غير الأرض، فإنّ الحركات يمكن أن تتبدّل و تتغيّر بدورها، فيدرك الناس الزمان في موقف يوم الجزاء في صورة اخرى، أي أنّهم يدركونه حسب إحساس التدرّج الموجود في ذلك العالم، إلّا أنّ هذا الأمر لا يرتبط بالآيات و الروايات الدالّة على أنّ الناس يدركون موقف الحساب يوم القيامة بصورة مختلفة، إذ إنّ أمر تبدّل الأرض و تغيّر كيفيّة الحركة الجوهريّة محفوظ في موضعه، أمّا هذا الاختلاف في إدراك زمان الموقف فيتعلّق بالحالات النفسانيّة للناس، و يختلف بحسب التجرّد أو عدمه، و بحسب مدى الانغمار في عالم الطبع.
المستغرقون في أنوار الله في الدنيا لا يحسّون بطول الموقف يوم
إنّ المواقف القيامة و إطالتها بالنسبة إلى بعض الناس و عدم طولها بالنسبة إلى البعض الآخر الذين لا يحسّون بالزمان و التأخير، عائد إلى اختلاف انغمار النفس في الآيات الإلهيّة و في الأسماء السبحانيّة، و في الفناء في ذات الحقّ المتعال.
و بصورة عامّة فإنّ الذين ينسون أنفسهم في الدنيا و يلتحقون بالحقّ، سوف لن يمكثوا يوم القيامة طويلًا، و لن يدركوا الوقوف و زمان الموقف، لأنّ القيامة هي ظهور عالم الدنيا، و لأنّ الباطن هو تجلّي عالم الظاهر.
عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَ عَلِيّ بْنُ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ كَأنَّهُ سَاقُ شَجَرَةٍ لَا يَتَحَرَّكُ مِنْهُ إلَّا مَا حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ؛ و عَنْهُ: كَانَ عَلِيّ بْنُ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَ إذَا سَجَدَ لَمْ يَرْفَعْ رَأسَهُ حَتَّى يَرْفِض عَرَقاً.۱
و بالجملة قد يتأثّر بعض الأنبياء و الأولياء بعظمة الله و هيبة، بحيث ينسى غير الله تعالى و يغفل عن جميع ما سواه، حتّى عن بدنه، و من ذلك إخراج السهم عن رجله٢ عليه السلام في الصلاة و عدم تأثّره منه، و من ذلك غشواته حتّى يظنّ له الموت.٣
و قد ورد في الرواية أنّ وليّ الله يؤتى به إلى الموقف فيهيّئ الله عزّ و جلّ لاستقباله عدداً من الحوريّات اللواتي خلقهنّ له، فتبتهج الحوريّات اللاتي انتظرن وليّ الله السنوات المتمادية في شوق و محبّة، و يفرحن بدنوّ وصال محبوبهنّ، ثمّ إنّ وليّ الله يغرق فجأة في أنوار الحقّ جلّ و عزّ بحيث
ينسى سواه تماماً. و يُخيّل للحوريّات أنّ وليّ الله قد استغرق في النوم، فيطفن ببدنه و يأنسن به علّه ينهض من نومه، و يدعون ربّهنّ أن يوقظه
لأنّهن محزونات بفراقه، فيأمر الله تعالى وليّه بالنزول، فيعود هذا المؤمن إلى وعيه بعد ثمانين سنة قضاها غارقاً في أنوار الله، و تبتهج حوريّات الجنّة و ينغمرنّ في عالم المسرّة لأنّهن سيأنسنَّ بمحبوبهنّ، لكنّ وليّ الله يضرع فجأة إلى ساحة الحضرة الأحديّة: يا إلهي! ما أسرع ما أهبطتني من حريمك و حرمك؟!
فيعود وليّ الله بمجرّد هذا الكلام إلى حرم الله ثانية و يستغرق في أنوار جماله و جلاله.
گر افتد آن دو زلف چليپا به چنگ من | *** | چندين هزار سلسله در پا كنم ترا |
طُوبَى و سِدرِه گر به قيامت به من دهند | *** | يك جا فداى قامت رعنا كنم ترا |
خواهم شبى نقاب ز رويت بر افكنم | *** | خورشيد كعبه، ماهِ كليسا كنم ترا۱ |
المَجْلِسُ الثَّامِنُ وَ الخَمْسونَ: عُمُومِيَّةُ الحِسابِ وَ السُّؤَال يَوْم القِيامَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.۱
يأتي عالم السؤال بعد عالم الحساب و يعد من توابعه و لواحقه.
و السؤال بمعنى الاستجواب و الاستيضاح من المسئول عن حقيقة ما عنده.
و ينبغي أن تُحاسب نفوس الناس يوم القيامة عمّا اكتسبت في الدنيا، سواءً بما يتعلّق بجانب الشقاء أم بجانب السعادة، و سيتّضح آنذاك تبعات آثار النفس و لواحقها و لوازمها، فتُحاسب عليها حساباً يحدّد مصيرها. ذلك أنّ يوم القيامة هو يوم الظهور و البروز، و يوم تحمّل المسئوليّات و الالتزامات الدنيويّة: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ.٢
و باعتبار أنّ السريرة هي الموضع الخاصّ من النفوس الناطقة الذي يمثّل النيّة و الفكر و الأسرار، فإنّه يقال للسرّ الخفيّ بهذه المناسبة سريرةً.
و اليوم الذي تبلى فيه السرائر هو اليوم الذي تظهر فيه مواضع أسرار
الإنسان و تتجلّى خارج ستار الخفاء.
بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ.۱
إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ.٢
و يُلاحظ في الآية الأخيرة عموميّتها و شمولها لكلّ سريرة و نيّة. و مع أنّ ما جاء في الرواية من أنّ هذه الآية قد نُسخت بالآية الشريفة: إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ،٣ هو كلام متين و صائب، إلّا أنّه ينبغي العلم بأنّ النسخ قد جاء هنا بمعنى التفسير و البيان، و أنّه ليس بياناً لغاية الحكم و انتهائه و انقضاء مدّته. فالنسخ بهذا المعنى مختصّ بالامور التشريعيّة و الأحكام، و ليس هناك من معنى للنسخ في الحقائق.٤
أجل، و سنبيّن بعض الآيات الواردة في السؤال:
وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.٥
تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ.٦
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ.۷
وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ.۸
وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا.۱
وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا.٢
الروايات الواردة في عموميّة السؤال و الحساب
أمّا الروايات الواردة في هذا الباب فكثيرة و ذات مضامين مختلفة، و يمكن تقسيمها بلحاظ المضمون إلى عدّة طوائف:
الاولى: الروايات الدالّة على شمول الحساب و السؤال لجميع الناس.
يروي الشيخ الطوسيّ في كتابه «الأمالى» عن جماعة، عن أبي المفضّل عن محمّد بن الحسن بن حفص، عن هشام النهشليّ، عن عمر بن هاشم عن معروف بن خرّبوذ، عن عامر بن واثلة، عن أبي بردة الأسلميّ قال:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ: لَا يَزُولُ قَدَمُ عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْألَ عَنْ أرْبَعٍ: عَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أبْلَاهُ؟ وَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أفْنَاهُ؟ وَ عَنْ مَالِهِ مِمَّا اكْتَسَبَهُ وَ فِيمَا أنْفَقَهُ؟ وَ عَنْ حُبِّنَا أهْلَ البَيْتِ.٣
و قد أورد الصدوق رواية بهذا المضمون في كتابيه «الخصال» و «الأمالى» عن محمّد بن أحمد الأسديّ البردعيّ، عن رقيّة بنت إسحاق بن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن رسول الله. كما وردت رواية مشابهة لها في «تفسير عليّ بن إبراهيم» عن ابن محبوب، عن الثماليّ، عن الإمام الباقر عليه السلام، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله.
و روي في «الأمالى» للطوسيّ عن الشيخ المفيد، عن أحمد بن محمّد ابن الوليد، عن أبيه، عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن عليّ بن محمّد القاسانيّ، عن القاسم بن محمّد الأصفهانيّ، عن سليمان بن داود المنقريّ، عن سُفيان بن عُيَينة، قال:
سَمِعْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ إلَّا وَ لِلَّهِ عَلَيْهِ حُجَّةٌ إمَّا في ذَنْبٍ اقْتَرَفَهُ وَ إمَّا في نِعْمَةٍ قَصَّرَ عَنْ شُكْرِها.۱
و روى الطوسيّ في «الأمالي» بنفس السند السابق عن ابن عُيينة، عن حميد بن زياد، عن عطاء بن يسار:
عَنْ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يُوقَفُ العَبْدُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ؛ فَيَقُولُ: قِيسُوا بَيْنَ نِعَمِي عَلَيْهِ وَ بَيْنَ عَمَلِهِ!
فَتَسْتَغْرِقُ النِّعَمُ العَمَلَ. فَيَقُولُونَ: قَدِ اسْتَغْرَقَ النِّعَمُ العَمَلَ؛ فَيَقُولُ:
هَبُوا لَهُ نِعَمِي وَ قِيسُوا بَيْنَ الخَيْرِ وَ الشَّرِّ مِنْهُ!
فَإن اسْتَوَى العَمَلَانِ أذْهَبَ اللهُ الشَّرَّ بِالخَيْرِ وَ أدْخَلَهُ الجَنَّةَ؛ وَ إنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ أعْطَاهُ اللهُ بِفَضْلِهِ؛ وَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ فَضْلٌ وَ هُوَ مِنْ أهْلِ التَّقْوَى
لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ تَعَالى وَ اتَّقَى الشِّرْكَ بِهِ فَهُوَ مِنْ أهْلِ المَغْفِرَةِ، يَغْفِرُ اللهُ لَهُ بِرَحْمَتِهِ إنْ شَاءَ وَ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ.۱
و في «عدّة الداعي»: و في الخبر النبويّ: أنّه يُفتح للعبد يوم القيامة على كلّ يومٍ من أيّام عمره أربع و عشرين خزانة عدد ساعات الليل و النهار؛ فخزانة تجدها مملوّةً نوراً و سروراً، فيناله عند مشاهدتها من الفرح و السرور ما لو وزّع على أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار، و هي الساعة التي أطاع فيها ربّه؛ ثمّ يفتح له خزانة اخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة، فيناله منها عند مشاهدتها من الفزع و الجزع ما لو قسّم على أهل الجنّة لنغّص عليهم نعيمها، و هي الساعة التي عصى فيها ربّه؛ ثمّ يفتح له خزانة اخرى فيراها خالية ليس فيها ما يسرّه و لا يسوؤُه، و هي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشيءٍ من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن و الأسف على فواتها حيث كان متمكّناً من أن يملأها حسنات ما لا يوصف، و من هذا قوله تعالى: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ.٢
و روى أيضاً في «عدّة الداعي»: إنّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى يَجْمَعُ الخَلائِقَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حُقُوقٌ، وَ لَهُ تَعَالَى قِبَلَهُمْ تَبِعَاتٌ. فَيَقُولُ: عِبَادِي! مَا كَانَ لي قِبَلَكُمْ فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَكُمْ، فَهَبُوا بَعْضَكُمْ تَبِعَاتِ بَعْضٍ، وَ ادْخُلُوا الجَنَّةَ جَمِيعاً بِرَحْمَتِي.٣
و روى الصدوق في «التوحيد» عن ابن الوليد، عن الصفّار، عن ابن هاشم، عن ابن معبد، عن دُرُست، عن ابن اذَيْنة، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! مَا تَقُولُ في القَضَاءِ وَ القَدَرِ؟
قَالَ: أقُولُ: إنَّ اللهَ تَعَالَى إذَا جَمَعَ العِبَادَ يَوْمَ القِيَامَةِ سَألَهُمْ عَمَّا عَهِدَ إلَيْهِمْ وَ لَمْ يَسْألْهُمْ عَمَّا قَضَى عَلَيْهِمْ.۱
و روى العيّاشيّ في تفسيره، ذيل الآية الكريمة: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا.٢ عن الحسين بن هارون عن الإمام الصادق عليه السلام قال: يُسْألُ السَّمْعُ عَمَّا يَسْمَعُ! وَ البَصَرُ عَمَّا يَطْرِفُ! وَ الفُؤَادُ عَمَّا يَعْقِدُ عَلَيْهِ.٣
و روى أيضاً في «تفسير العيّاشيّ» عن الحسن، قَالَ:
كُنْتُ اطِيلُ القُعُودَ في المَخْرَجِ لأسْمَعَ غِنَاءَ بَعْضِ الجِيرَانِ؛ قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى أبي عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ لي: يَا حَسَنُ! «إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا». السَّمْعُ وَ مَا وَعَى، وَ البَصَرُ وَ مَا رَأى، وَ الفُؤَادُ وَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ.٤
و روى أيضاً في «تفسير العيّاشيّ» عن أبي جعفر،٥ قال:
كُنْتُ عِنْدَ أبي عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: بِأبِي أنْتَ وَ امِّي! أدْخُلُ كَنِيفاً لي، وَ لِي جِيرَانٌ وَ عِنْدَهُمْ جَوَارِي يَتَغَنَّيْنَ وَ يَضْرِبْنَ بِالعُودِ؛ فَرُبَّمَا أطَلْتُ الجُلُوسَ اسْتِمَاعاً مِنِّي لَهُنَّ.
فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ!
فَقَالَ الرَّجُلُ: وَ اللهِ مَا أتَيْتُهُنَّ؛ إنَّمَا هُوَ اسْتِمَاعٌ أسْمَعُهُ بِاذُنِي.
فَقَالَ لَهُ: أ مَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: «إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا»؟!
قَالَ: بَلَى وَ اللهِ فَكَأنِّي لَمْ أسْمَعْ هَذِهِ الآيَةَ قَطُّ مِنْ كِتَابِ اللهِ مِنْ عَجَمَيّ وَ لَا مِنْ عَرَبِيّ؛ لَا جَرَمَ أنِّي لَا أعُودُ إنْ شَاءَ اللهُ؛ وَ إنِّي أسْتَغْفِرُ اللهَ.
فَقَالَ لَهُ: قُمْ فَاغْتَسِلْ وَ صَلِّ مَا بَدَا لَكَ! فَإنَّكَ كُنْتَ مُقِيماً عَلَى أمْرٍ عَظِيمٍ. مَا كَانَ أسْوَأ حَالَكَ لَوْ مِتَّ عَلَى ذَلِكَ! احْمَدِ اللهَ وَ اسْألْهُ التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُ، فَإنَّهُ لَا يَكْرَهُ إلَّا كُلَّ القَبِيحِ؛ وَ القَبِيحَ دَعْهُ لأهْلِهِ، فَإنَّ لِكُلٍّ أهْلًا.۱
و قد روى العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه العالي هذه الرواية عن «تفسير
العيّاشيّ» بإسناده عن أبي جعفر ضمن حديث مفصّل.۱
و روى كذلك في «تفسير العيّاشيّ» عن أبي عمرو الزبيريّ، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال:
إنّ الله تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح بني آدم، و قسّمه عليها، فليس من جوارحه جارحة إلّا و قد وكّلت به من الإيمان بغير ما وكّلت به اختها؛ و منها عيناه اللتان ينظر بهما، و رجلاه اللتان يمشي [بهما]؛ ففرض على العين أن لا تنظر إلى ما حرّم الله عليه، و أن تغضّ عمّا نهاه الله عنه ممّا لا يحلّ له، و هو عمله، و هو من الإيمان، قال الله تبارك و تعالى:
وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا.٢
فهذا ما فرض الله من غضّ البصر عمّا حرّم الله و هو عملها و هو من الإيمان؛ و فرض الله على الرِّجلينِ أن لا يمشي بها إلى شيء من معاصي الله، و فرض عليهما المشي فيما فرض الله، فقال:
وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا.٣
و قال: وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.٤
و روى المرحوم الكلينيّ في «الكافي» عن عدّة من الأصحاب، عن البرقيّ، عن الحسن بن عليّ بن يقطين، عن محمّد بن سنان، عن أبي الجارود، عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، قَالَ:
إنَّمَا يُدَاقُّ اللهُ العِبَادَ في الحِسَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مَا آتَاهُمْ مِنَ العُقُولِ في الدُّنْيَا.۱
كما روى الكلينيّ في «الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، و العدّة، عن أحمد بن محمّد و سهل جميعاً، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن يونس بن عمّار، قال: قال أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام:
إنّ الدواوين يوم القيامة ثلاثة، ديوان فيه النعم، و ديوان فيه الحسنات، و ديوان فيه السيّئات، فيقابل بين ديوان النعم و ديوان الحسنات، فتستغرق النعمُ ديوانَ الحسنات، و يبقى ديوانُ السيّئات، فيُدعى ابن آدم المؤمن للحساب، فيتقدّم القرآنُ أمامه في أحسن صورةٍ فيقول: يا ربِّ! أنا القرآنُ، و هذا عبدُك المؤمن، قد كان يُتعب نفسَه بتلاوتي، و يُطيل ليلَه بترتيلي، و تفيض عيناه إذا تهجّد، فأرْضِهِ كما أرضاني.
قال: فيقول العزيزُ الجبّار: ابسطْ يَمينَك، فيملأها من رضوان الله العزيز الجبّار، و يملأ شماله من رحمة الله، ثُمّ يُقال: هذه الجنّة مُباحة لك فاقرأ و اصعد؛ فإذا قرأ أيةً صعدَ درجةً.٢
و قد أورد الحسين بن سعيد في كتابَيْهِ صدر هذه الرواية فقط الذي يتعلّق بالدواوين الثلاثة و استغراق النعم ديوانَ الحسنات.٣
و جاء في «نهج البلاغة»:
ألَا وَ إنَّ الظُّلْمَ ثَلَاثَةٌ فَظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ، وَ ظُلْمٌ لَا يُتْرَكُ، وَ ظُلْمٌ مَغْفُورٌ لَا يُطْلَبُ؛ فَأمَّا الظُّلْمُ الذي لَا يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِاللهِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ»؛ وَ أمَّا الظُّلْمُ الذي يُغْفَرُ فَظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ الهَنَاتِ؛ وَ أمَّا الظُّلْمُ الذي لَا يُتْرَكُ، فَظُلْمُ العِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً. القِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ؛ لَيْسَ هُوَ جَرْحَاً بِالمُدِى وَ لَا ضَرْبَاً بِالسِّيَاطِ؛ وَ لَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ.۱
القصاص و السؤال و الحساب في عقبة المحشر
و روى الكلينيّ في «روضة الكافي» عن عدّة من أصحابنا، عن سهل ابن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن عليّ بن رئاب، عن أبي عُبيدة الحذّاء، عن ثوير بن أبي فاختة، قال:
سمعتُ عليّ بن الحسين عليه السلام يحدّث في مسجد رسول الله صلّى الله عليه و آله، فقال: حدّثني أبي أنّه سمع أباه عليّ بن أبي طالب عليه السلام يحدّث الناس، قال: إذا كان يومُ القيامة بعثَ الله تبارك و تعالى الناسَ من حفرهم عُزلًا بهماً جُرداً مُرداً (أي ليس لهم من اللباس الدنيويّ ما يسترهم) في صعيد واحد، يسوقهم النور و تجمعهم الظلمة، حتّى يقفوا على عقبة المحشر، فيركب بعضُهم بعضاً و يزدحمون دونها، فيُمنعون من المضيّ، فتشتدّ أنفاسُهم و يكثر عرقُهم، و تضيقُ بهم امورهم، و يشتدّ ضجيجهم، و ترتفعُ أصواتهم. قال: و هو أوّلُ هوْلٍ من أهوال يومِ القيامةِ.
قالَ: فيُشرف الجبّارُ تبارك و تعالى عليهم مِن فوقِ عَرْشه في ظلال من الملائكة، فيأمر مَلَكاً من الملائكة فيُنادي فيهم: يا معشر الخلق أنصتوا و استمعوا منادي الجبّار!
قال: فيسمع آخرُهم كما يسمع أوّلهم. قال: فتنكسر أصواتُهم عند ذلك، و تخشع أبصارهم، و تضطرب فرائصهم، و تفزع قلوبهم، و يرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصوت مهطعين إلى الداعي.
قال: فعند ذلك يقول الكافر: هذا يَوْمٌ عَسِرٌ.۱
قال: فيُشرف الجبّارُ عَزّ و جلّ الحَكَمُ العدل عليهم فيقول: أنا الله لا إله إلّا أنا الحَكَمُ العدلُ الذي لا يَجور؛ اليوم أحكمُ بَينكم بعَدْلي و قسطي، لا يُظلَم اليومَ عندي أحدٌ؛ اليوم آخذ للضعيفِ من القويّ حقَّه، و لصاحبِ المظلَمةِ بالمظلمةِ بالقصاص من الحسنات و السيّئات،٢ و اثيب على الهبات، و لا يجوز هذه العقبة اليوم عندي ظالم و لا أحد عنده مظلَمة، إلّا مظلمة يهبها صاحبها و اثيبه عليها و آخذ له بها عند الحساب، فتلازموا أيّها الخلائق و اطلبوا مظالمكم عند مَن ظلمكم بها في الدنيا، و أنا شاهدٌ لكم عليهم و كفى بي شهيداً.
قال: فيتعارفون و يتلازمون، فلا يبقى أحدٌ له عند أحد مظلمة أو حقّ إلّا لزمه بها. قال: فيمكثون ما شاء الله، فيشتدّ حالُهم و يكثر عرقُهم و يشتدّ غمُّهم و ترتفع أصواتُهم بضجيج شديد، فيتمنّون المخلص منه بترك مظالمهم لأهلها.
قال: و يطّلع الله عزّ و جلّ على جهدهم، فينادي منادٍ من عند الله تبارك و تعالى -يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم-:
يا معشر الخلائق! أنصتوا لداعي الله تبارك و تعالى و اسمعوا. إنّ الله تبارك و تعالى يقول [لكم]: أنا الوهّاب، إن أجبتُم أن تواهبوا فتواهبوا، و إن
لم تواهبوا أخذتُ لكم بمظالمكم.
قال: فيفرحون بذلك لشدّة جهدهم و ضيق مسلكهم و تزاحمهم.
قال: فيهب بعضُهم مظالمهم رجاء أن يتخلّصوا ممّا هم فيه و يبقي بعضُهم فيقول: يا ربِّ! مظالمنا أعظم من أن نهبها. قال: فيُنادي منادٍ من تلقاء العرش: أين رضوان خازن الجنان، جنان الفردوس؟
قال: فيأمره الله عزّ و جلّ أن يطلع من الفردوس قصراً من فضّة بما فيه من الأبنية و الخدم. قال: فيطلعه عليهم في حفافة القصر الوصائف و الخدم. قال: فينادي مناد من عند الله تبارك و تعالى: يا معشر الخلائق! ارفعوا رؤوسكم فانظروا إلى هذا القصر! قال: فيرفعون رؤوسهم فكلّهم يتمنّاه.
قال: فينادي منادٍ من عند الله تعالى: يا معشر الخلائق! هذا لكلِّ مَن عفى عن مؤمن قال: فيعفون كلّهم إلّا القليل.
قال: فيقول الله عزّ و جلّ: لا يجوز إلى جنّتي اليوم ظالم، و لا يجوز إلى ناري اليوم ظالم و لأحدٍ من المسلمين عنده مظلمة حتّى يأخذها منه عند الحساب؛ أيّها الخلائق! استعدّوا للحساب. قال: ثمّ يخلّي سبيلهم فينطلقون إلى العقبة يكرد۱ بعضهم بعضاً، حتّى ينتهوا إلى العرصة و الجبّار تبارك و تعالى على العرش، قد نُشرت الدواوين و نُصبت الموازين و احضر النبيّون و الشهداء و هم الأئمّة، يشهد كلُّ إمامٍ على أهل عالمه بأنّه قد قام فيهم بأمر الله عزّ و جلّ، و دعاهم إلى سبيل الله.
قال (ثوير بن فاختة راوي الرواية): فقال له رجلٌ من قُريش: يا بن رسول الله! إذا كان للرجل المؤمن عند الرجل الكافر مظلمة، أي شيء
يأخذ من الكافر و هو من أهل النار؟! قال: فقال له عليّ بن الحسين عليه السلام: يُطرح عن المسلم من سيّئاته بقدر ما له على الكافر فيعذّب الكافر بها مع عذابه بكفره عذاباً بقدر ما للمسلم قِبلَه من مظلمة.
قال: فقال له القرشيّ: فإذَا كانت المظلمة للمسلم عند مسلم، كيف تؤخذ مظلمته من المسلم؟ قال: يؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر حقّ المظلوم، فتزاد على حسنات المظلوم.
قال: فقال له القرشيّ: فإن لم يكن للظالم حسنات؟ قال: إن لم يكن للظالم حسنات، فإنّ للمظلوم سيّئات؛ يؤخذ من سيّئات المظلوم فتزاد على سيّئات الظالم.۱
و روى الصدوق في «علل الشرائع» عن ابن إدريس، عن أبيه، عن يعقوب بن يزيد مرفوعاً عن أحدهم عليهم السلام، قال:
يُؤْتَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَاحِبِ الدَّيْنِ يَشْكُو الوَحْشَةَ؛ فَإن كَانَتْ لَهُ حَسَناتٌ اخِذَتْ مِنْهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ. قَالَ: وَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ الْقِيَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِ الدَّيْنِ- (الحديث).٢
و قد وردت هذه الرواية في «العلل» بهذه الألفاظ التي ذكرناها، و نقلها المجلسيّ رضوان الله عليه بهذا اللفظ، إلّا أنّه قال عن لفظ «الوحشة» الذي لم يكن له معنى مناسب: و لعلّه كان مكانه غريمه أو نحوه.٣
أجل، فلهذه الطائفة من الروايات دلالة على شمول السؤال و الحساب لجميع الخلائق.
و أمّا عن عموميّة الحساب و السؤال، بلحاظ الجمع بين طائفتين من الآيات القرآنيّة، فيطرأ سؤال في البَيْن؛ ذلك أنّ طائفة من الآيات تقول:
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ ما كُنَّا غائِبِينَ.۱
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.٢
وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ.٣
أمّا الطائفة الاخرى فتقول: وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ.٤
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ.٥
و بينما تقول الطائفة الاولى بأنّ الجميع سيُسألون يوم القيامة، تصرّح الطائفة الثانية بأنهم لن يُسألوا. فكيف يمكن الجمع بين مضمون هاتين الطائفتين من الآيات؟
سؤال الله تعالى ليس استفهاماً
قال الشيخ الطبرسيّ: و الجواب عنه من وجوه؛ أحدها أنّه سبحانه نفى أن يسألهم سؤال استرشاد و استعلام، و إنّما يسألهم سؤال تبكيت و تقريع، و لذلك قال عقيبه: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ.٦
و ثانيها: أنّهم إنّما يُسألون يوم القيامة، كما قال: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ؛۷ ثمّ تنقطع مساءلتهم بعد حصول العقوبة و دخولهم النار.
و ثالثها: أنّ في القيامة مواقف، ففي بعضها يُسأل، و في بعضها لا يُسأل. فلا تضادّ بين الآيات.
و أمّا الجمع بين قوله: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ،۱
و قوله: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ،٢ فمعنى الأوّل أن لا يسأل بعضهم بعضاً سؤال استخبار عن الحال التي جهلها بعضهم لتشاغلهم عن ذلك. و الثاني: أن يسأل بعضهم بعضاً سؤال لوم و توبيخ كما قال في موضع آخر: يتلاومون.٣
و قال استاذنا العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه في ذيل الآية الواقعة في سورة القصص: وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ، باعتبار وقوع هذه الآية عقب الآيات النازلة في شأن فرعون و عذابه:
ظاهر السياق أنّ المراد به بيان السنّة الإلهيّة في تعذيب المجرمين و إهلاكهم بذنوبهم، فيكون كناية عن عدم إمهالهم و الإصغاء إلى ما لفّقوه من المعاذير أو هيّؤوه من التذلل و الإنابة ليرجوا بذلك النجاة، كما أنّ اولي الطول و القوّة من البشر إذا أرادوا تعذيب من يتحكّمون عليه سألوه عن ذنبه ليقضوا عليه بالجرم ثمّ العذاب، و ربّما صرف المجرم عذابهم عن نفسه بما لفّقه من المعاذير؛ لكنّ الله سبحانه لا يسأل المجرمين عن ذنوبهم لعلمه بحقيقة الحال، و إنّما يقضي عليهم قضاءً فيأتيهم عذاب غير مردود.٤
و قال في ذيل الآية الواقعة في سورة الرحمن: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ:
و السؤال المنفي هو النحو المألوف من السؤال؛ و لا ينافي نفي السؤال في هذه الآية إثباته في قوله:
وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ، و قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ؛ لأنّ اليوم ذو مواقف مختلفة يُسأل في بعضها، و يختم على الأفواه في بعضها فتكلّم الأعضاء، و يعرف بالسيماء في بعضها.۱
سؤال الانبياء و الائمّة عليهم السلام
و ينبغي أن يُعلم بأنّ عموميّة السؤال لجميع الخلائق تشمل الأنبياء و الأئمّة بدورهم؛ منتهى الأمر أنّ الامم تُسأل عن كيفيّة طاعتها للأنبياء و الأئمّة، بينما يُسأل الأنبياء و الأئمّة عن كيفيّة إبلاغهم اممهم، و عن مدى طاعة اممهم لهم.
روى الكلينيّ في «الكافي» عن أبي عليّ الأشعريّ، عن ابن عبد الجبّار، عن ابن أبي نجران، عن أبي جميلة، عن جابر، عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: يَا مَعَاشِرَ قُرَّاءِ القُرْآنِ! اتَّقُوا اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ فِيمَا حَمَلَكُمْ مِن كِتَابِهِ، فَإنِّي مَسْؤُولٌ وَ إنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ! إنِّي مَسْؤُولٌ عَنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَ أمَّا أنتُمْ فَتُسْألُونَ عَمَّا حُمِّلْتُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَ سُنَّتِي.٢
سؤال النبيّ نوح و إجابته في موقف القيامة
كما يروي الكلينيّ في «الكافي» عن محمّد بن يحيي، عن أحمد بن
محمّد، عن محمّد بن خالد، عن القاسم بن محمّد، عن جميل بن صالح، عن يوسف بن أبي سعيد، قال:
كنتُ عند أبي عبد الله عليه السلام ذات يوم، فقال لي: إذا كان يوم القيامة و جمع الله تبارك و تعالى الخلائق، كان نوح صلّى الله عليه أوّل مَن يدعى به فيقال له: هل بلّغتَ؟ فيقول: نعم. فيقال له: مَن يشهد لك؟
فيقول: محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و آله.
قال: فيخرج نوح صلّى الله عليه فيتخطّى الناس حتّى يجيء إلى محمّد صلّى الله عليه و آله و هو على كثيب المسك و معه عليّ عليه السلام، و هو قول الله عزّ و جلّ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا؛۱ فيقول نوح لِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه و آله: يا محمّد! إنّ الله تبارك و تعالى سألني:
هل بلّغت؟ فقلتُ: نعم، فقال: مَن يشهد لك؟ فقلتُ: محمّد. فيقول: يا جعفر و يا حمزة! اذهبا و اشهدا له أنّه قد بلّغ. فقال أبو عبد الله عليه السلام:
فَجَعْفَر و حَمْزَة هما الشاهدان للأنبياء عليهم السلام بما بلّغوا. فقلت: جُعلت فداك فعليّ عليه السلام أين هو؟ فقال: هو أعظم منزلةً من ذلك.٢
كما روى في «الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن رجل، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، قَالَ:
قَالَ الخِضْرُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مُوسَى! إنَّ أصْلَحَ يَوْمَيْكَ الذي هُوَ أمَامَكَ! فَانْظُرْ أي يَوْمٍ هُوَ، وَ أعِدَّ لَهُ الجَوَابَ، فَإنَّكَ مَوْقُوفٌ وَ مَسْؤُولٌ! وَ خُذْ مَوْعِظَتَكَ مِنَ الدَّهْرِ، فَإنَّ الدَّهْرَ طَوِيلٌ قَصِيرٌ.٣
فَاعْمَلْ كَأنَّكَ تَرَى ثَوَابَ عَمَلِكَ لِيَكُونَ أطْمَعَ لَكَ في الآخِرَةِ، فَإنَّ مَا هُوَ آتٍ مِنَ الدُّنْيَا كَمَا قَدْ وَلَّى مِنْهَا.۱
و يتّضح ممّا قيل أنّ الأنبياء يُحاسبون و يُسألون بدورهم، منتهى الأمر أنّ حساب كلّ امرئ و سؤاله يتناسبان معه و مع شئونه. فحساب الأنبياء في منتهى الدقّة و العمق و الخطورة، إذ كلّما ارتفعت الدرجة و المقام و المنزلة، زادت معها أهمّيّة التكاليف و خطورتها.
إنّ جميع الكائنات -عدا الذات القدسيّة للحضرة الأحديّة سبحانه و تعالى- ممكنة الوجود، و الأنبياء هم بشر كالآخرين، إلّا أنّهم نالوا هذه المقامات تبعاً للتكليف و مجاهدة النفس. و حيثما كان هناك تكليف، تبعه السؤال و الحساب. و عصمتهم لا تنافي تكليفهم، لأنّ العصمة لا تسلب منهم إرادتهم و اختيارهم. و ما دامت الإرادة و الاختيار لدى المرء، فسيوجد معهما التكليف و المجاهدة، و السؤال و الحساب.
و قد بحثنا بحمد الله و منّه في هذا الموضوع بما تيسّر في الجزء الأوّل من كتاب «معرفة الإمام» و أوضحنا أنّ العصمة لا تستدعي سلب الإرادة من المعصومين، و لا تجعل أفعالهم إجباريّة و اضطراريّة، بل إنّ قدرهم و منزلتهم مستمدّان من أنّهم -في عين اختيارهم- لا يرتكبون الذنوب و الأخطاء، و لو لا ذلك لما كان للعمل الاضطراريّ من فضيلة. قال استاذنا العلّامة الطباطبائيّ في أمر عدم منافاة عصمة الأنبياء للتكاليف الإلهيّة:
و أما كون الأنبياء معصومين بعصمة إلهيّة يمتنع معها صدور المعصية
عنهم، فلا يوجب ذلك سقوط التكليف عنهم و عدم صحّة توجّهه إليهم؛ و لو كان ذلك لم يُتصوّر في حقّهم معصية كسائر من لا تكليف عليه، و لم يكن معنى لعصمتهم.۱
سؤال عيسى ابن مريم و إجابته في موقف القيامة
و قد وردت آيات في القرآن الكريم تتحدّث عن السؤال من عيسى ابن مريم على نبيّنا و آله و عليه السلام و إجابته:
وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.٢
حضور رسول الله و الائمّة عليهم السلام عند السؤال في عرصات القيامة
روى عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره ذيل الآية الأخيرة، عن أبيه إبراهيم، عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن النعمان، عن ضريس، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قوله تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ
صِدْقُهُمْ، قال:
إذا كان يوم القيامة و حُشر الناس للحساب، فيمرّون بأهوال يوم القيامة، فلا ينتهون إلى العرصة۱ حتّى يجهدوا جهداً شديداً. قال: فيقفون بفناء العرصة و يشرف الجبّار عليهم و هو على عرشه؛ فأوّل من يُدعى بنداءٍ يسمع الخلائق أجمعون أن يهتف باسم مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ النَّبِيّ القُرَشيّ العَرَبِيّ. قال: فيتقدّم حتّى يقف على يمين العرش. قال: ثمّ يُدعى بصاحبكم عليّ عليه السلام، فيتقدّم حتّى يقف على يسار رسول الله صلّى الله عليه و آله. ثمّ يدعى بامّة محمّد فيقفون على يسار عليّ عليه السلام، ثمّ يدعى بنبيّ نبيّ و امّته معه من أوّل النبيّين إلى آخرهم و امتهم معهم، فيقفون على يسار العرش.
حضور القلم و اللوح و الملائكة و الانبياء و الامم في عرصات القيامة
قال: ثمّ أوّل من يُدعى للمساءلة القلم.
قال: فيتقدّم فيقف بين يدي الله في صورة الآدميّين، فيقول الله: هل سطّرتَ في اللوح ما ألهمتُك و أمرتُك به من الوحي؟ فيقول القلم: نعم يا ربّ؛ قد علمتَ أنّي قد سطّرتُ في اللوح ما أمرتني و ألهمتني به من وحيك.
فيقول الله: فمن يشهد لك بذلك! فيقول: يا ربّ؛ و هل اطّلع على مكنون سرّك خلقٌ غيرك؟ قال: فيقول له الله: أفلحت حجّتك.
قال: ثمّ يُدعى باللوح فيتقدّم في صورة الآدميّين حتّى يقف مع القلم، فيقول له: هل سطّر فيك القلم ما ألهمتُه و أمرتُه به من وحيي؟ فيقول اللوح: نعم يا ربّ، و بلّغتُه إسرافيل. فيتقدّم مع القلم و اللوح في صورة
الآدميّين. فيقول الله: هل بلّغك اللوح ما سطّر فيه القلم من وحيي؟ فيقول:
نعم يا ربّ، و بلّغتُه جبرائيل.
فيُدعى بجبرائيل فيتقدّم حتّى يقف مع إسرافيل، فيقول الله: هل بلّغك إسرافيل ما بلّغ؟
فيقول: نعم يا ربّ، و بلّغتُه جميع أنبيائك، و أنفذتُ إليهم جميع ما انتهى إليّ من أمرك، و أدّيت رسالتك إلى نبيّ نبيّ و رسولٍ رسول، و بلّغتهُم كلّ وحيك و حكمتك و كتبك، و إنّ آخر من بلّغتُه رسالاتك و وحيك و حكمتك و علمك و كتابك و كلامك مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ العَرَبِيّ القَرَشيّ الحَرَمِيّ حبيبك.
قال أبو جعفر عليه السلام: فإنّ أوّل مَن يُدعى من ولد آدم للمساءلة محُمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ صلّى الله عليه و آله، فيُدنيه الله حتّى لا يكون خلقٌ أقرب إلى الله يومئذٍ منه، فيقول الله: يا محمّد! هل بلّغك جبرائيل ما أوحيتُ إليك و أرسلتُه به إليك من كتابي و حكمتي و علمي، و هل أوحى ذلك إليك؟ فيقول رسول الله صلّى الله عليه و آله: نعم يا ربّ، قد بلّغني جبرائيل جميع ما أوحيتَه إليه و أرسلته من كتابك و حكمتك و علمك و أوحاه إليّ.
فيقول الله لمحمّد: هل بلّغتَ امّتك ما بلّغك جبرائيل من كتابي و حكمتي و علمي؟ فيقول رسول الله صلّى الله عليه و آله: نعم يا ربّ، قد بلّغتُ امّتي ما اوحي إليّ من كتابك و حكمتك و علمك، و جاهدتُ في سبيلك.
فيقول الله لمحمّد: فمن يشهد لك بذلك؟ فيقول محمّد صلّى الله عليه و آله: أنت الشاهد لي بتبليغ الرسالة و ملائكتك و الأبرار من امّتي، و كفى بك شهيداً؛ فيُدعى الملائكة فيشهدون لمحمّد بتبليغ الرسالة.
ثمّ يدعى بامّة محمّد فيُسألون: هل بلّغكم محمّد رسالتي و كتابي و حكمتي و علمي و علّمكم ذلك؟ فيشهدون لمحمّد بتبليغ الرسالة و الحكمة و العلم.
فيقول الله لمحمّد: فهل استخلفتَ في امّتك مِن بعدك مَن يقوم فيهم بحكمتي و علمي، و يفسّر لهم كتابي، و يبيّن لهم ما يختلفون فيه من بعدك حجّة لي و خليفة في الأرض؟
فيقول محمّد: نعم يا ربّ، قد خلّفت فيهم عليّ بن أبي طالب أخي و وزيري و خير امّتي، و نصبتُه لهم علماً في حياتي و دعوتُهم إلى طاعته، و جعلته خليفتي في امّتي و إماماً يقتدي به الأئمة من بعدي إلى يوم القيامة.
فيُدعى بعليّ بن أبي طالب عليه السلام فيُقال له: هل أوصى إليك محمّد و استخلفك في امّته و نصبك علماً لُامّته في حياته، و هل قمتَ فيهم من بعده مقامه؟
فيقول له عليّ: نعم يا ربّ، قد أوصى إليّ محمّد و خلّفني في امّته، و نصبني لهم علماً في حياته، فلمّا قبضتَ محمّداً إليك جحدتني امّته و مكروا بي و استضعفوني و كادوا يقتلونني و قدّموا قدّامي من أخّرتَ، و أخّروا من قدّمت، و لم يسمعوا منّي، و لم يطيعوا أمري، فقاتلتُهم في سبيلك حتّى قتلوني.
فيقال لعليّ: فهل خلّفتَ مِن بعدك في امّة محمّد حجّة و خليفة في الأرض يدعو عبادي إلى ديني و إلى سبيلي؟ فيقول عليّ: نعم يا ربِّ، قد خلّفتُ فيهم الحسن ابني و ابن بنت نبيّك.
فيُدعى بالحسن بن عليّ عليهما السلام فيسأل عمّا سُئل عنه عليّ بن أبي طالب عليه السلام. قال: ثمّ يُدعى بإمامٍ إمام و أهل عالمه فيحتجّون بحجّتهم فيقبل الله عذرهم و يُجيز حجّتهم.
قال: ثمّ يقول الله: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ. قال (ضريس راوي الحديث): ثمّ انقطع حديث أبي جعفر عليه و على آبائه السلام.۱
احتجاج الله على الامم في موقف العرصات
يروي المجلسيّ رضوان الله عليه عن كتابَي الحسين بن سعيد، عن أبي الحسن بن عبد الله، عن ابن أبي يعفور قال:
دخلتُ على أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام و عنده نفر من أصحابه، فقال: يا بن أبي يعفور هل قرأتَ القرآن؟
قال، قلت: نعم هذه القراءة٢.
قال: عنها سألتُك ليس عن غيرها.
قال، فقلتُ: نعم جُعِلتُ فداك و لِمَ؟
قال: لأنّ موسى عليه السلام حدّث قومه بحديث لم يحتملوه عنه، فخرجوا عليه بمصر فقاتلوه، فقاتلهم فقتلهم؛ و لأنّ عيسى عليه السلام حدّث قومه بحديث فلم يحتملوه عنه فخرجوا عليه بـ تكريت٣ فقاتلوه، فقاتلهم فقتلهم. و هو قول الله عزّ و جلّ: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ.٤ و أنّه أوّل قائم يقوم منّا أهل البيت يحدّثكم بحديث لا تحتملونه فتخرجون عليه
برميلة الدسكرة۱ فتقاتلونه فيقتلكم، و هي آخر خارجة تكون؛ ثمّ يجمع الله -يا بن أبي يعفور- الأوّلين و الآخرين، ثمّ يُجاء بمحمّد صلّى الله عليه و آله في أهل زمانه، فيقال له: يا محمّد! بلّغت رسالتي و احتججت على القوم بما أمرتُك أن تحدّثهم به؟ فيقول: نعم يا ربّ -و قد عَلِمَ اللهُ تبارك و تعالى أنّه قد فعل ذلك- يُعيد ثلاث مرّات فيصدّق محمّداً و يكذّب القوم، ثمّ يُساقون إلى نار جهنّم، ثُمّ يُجاء بعليّ في أهل زمانه فيقال له كما قيل لمحمّد صلّى الله عليه و آله و يكذّبه قومه، و يصدّقه الله و يكذّبهم، يعيد ذلك ثلاث مرّات، ثمّ الحسن ثمّ الحسين ثمّ عليّ بن الحسين -و هو أقلّهم أصحاباً، كان أصحابه أبو خالد الكابليّ، و يحيى بن امّ الطويل، و سعيد بن المسيِّب، و عامر بن واثلة، و جابر بن عبد الله الأنصاريّ، و هؤلاء شهود له على ما احتجّ به- ثمّ يؤتى بأبي -يعني محمّد بن عليّ- على مثل ذلك، ثمّ يؤتى بي و بكم فاسأل و تُسألون، فانظروا ما أنتم صانعون.
يا بن أبي يعفور! إنّ الله عزّ و جلّ هو الآمر بطاعته و طاعة رسوله و طاعة اولي الأمر الذين هم أوصياء رسوله.
يا بن أبي يعفور! فنحن حجج الله في عباده، و شهداؤه على خلقه، و أمناؤه في أرضه، و خزّانه على علمه، و الداعون إلى سبيله، و العاملون بذلك، فمن أطاعنا أطاع الله، و من عصانا فقد عصى الله.٢
أجل، كانت هذه نماذج من الروايات الدالّة على أنّ السؤال يوم
القيامة شامل لجميع العباد.
المقرّبون و المخلَصُون لا يُسألون
الطائفة الثانية: الروايات التي لها دلالة على أنّ مَن مُحض الإيمان (الذين يُدعون بالمقرّبين) يدخلون الجنّة بغير حساب، و أنّ المشركين الذين محضوا الشقاوة و الإنكار و الجحود يدخلون جهنّم بلا حساب و بلا سؤال. و كما ذُكر سابقاً، فالذين خرج تدبير امورهم من أيديهم و اوكل إلى الله تعالى، سوف لن يكون لهم من وليّ و لا مهيمن متصرّف إلّا الله تعالى، لأنّهم خرجوا من الإرادة و الاختيار. و لكون عدم إسناد أعمالهم إليهم، فلن يتعرّضوا إلى حساب أو سؤال. و اولئكم هم المقرّبون و المخلَصون (بفتح اللام) الذين اختاروا الإقامة في مقام الفناء في الله عزّ و جلّ.
يقول تعالى: فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.۱
و في المقابل، فإنّ هناك أفراداً انغمروا في الكفر و الشرك و الإنكار و الاستكبار، و أخمدوا في قلوبهم تلك اللطيفة الإلهيّة و أفسدوها و أضاعوها بالمرّة؛ فليس لهم -بعدُ- من وليّ إلّا الطاغوت، لأنّ الله لا يتولّاهم.
وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ.٢
و ستحبط أعمال أمثال هؤلاء، و لن يُنصب لهم يوم القيامة ميزان، و لن يُعطوا كتاباً، و لن يتعرّضوا للسؤال.
و قد تكلّمنا بحول الله و قوّته عنهم و عن خصائصهم مفصّلًا في بحث صحيفة الأعمال و ميزان الأعمال (في الجزء السابع، المجلس الثاني
و الأربعين؛ و في الجزء الثامن، المجلس الرابع و الخمسين).
يروي الشيخ الطوسيّ في «الأمالى» عن الشيخ المفيد، عن أبي غالب أحمد بن محمّد الزراريّ، عن عمّه عليّ بن سليمان، عن الطيالسيّ، عن علاء، عن محمّد، قال:
سألتُ أبا جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام عن قول الله عزّ و جلّ:
فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.۱ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يُؤْتَى بِالمُؤْمِنِ المُذْنِبِ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُقَامَ بِمَوْقِفِ الحِسَابِ، فَيَكُونُ اللهُ تَعَالَى هُوَ الذي يَتَوَلَّى حِسَابَهَ، لَا يُطْلِعُ عَلَى حِسَابِهِ أحَداً مِنَ النَّاسِ، فَيُعَرِّفُهُ ذُنُوبَهُ، حَتَّى إذَا أقَرَّ بِسَيِّئَاتِهِ قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ:
بَدِّلُوهَا حَسَنَاتٍ! وَ أظْهِرُوهَا لِلنَّاسِ.
فَيَقُولُ النَّاسُ حِينَئذٍ: مَا كَانَ لِهَذَا العَبْدِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ يَأمُرُ اللهُ بِهِ إلَى الجَنَّةِ؛ فَهَذَا تَأوِيلُ الآيَةِ، وَ هِيَ في المُذْنِبِينَ مِنْ شِيعَتِنَا خَاصَّةً.٢
و حين يكون الأمر بالنسبة إلى المؤمن المذنب بهذه الكيفيّة، فكيف به بالنسبة إلى المقرّبين و المخلَصين الذين وهبوا أرجاء وجودهم إلى الله عزّ و جلّ، و الذين أخلصوا سلوكهم و أفكارهم و وجودهم للّه و في الله؟
المشركون يدخلون النار بلا حساب
يروي الصدوق في «الأمالى» في خبر سعيد بن المسيِّب ضمن رواية طويلة عن الإمام السجّاد عليه السلام، قَالَ:
ثُمَّ رَجَعَ القَوْلُ مِنَ اللهِ في الكِتَابِ عَلَى أهْلِ المَعَاصِي وَ الذُّنُوبِ؛ فَقَالَ عَزَّ وَ جَلَّ: «وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا
الظَّالِمِينَ».۱
فَإنْ قُلْتُمْ -أيُّهَا النَّاسُ- إنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ إنَّمَا عَنَي بِهَذَا أهْلَ الشِّرْكِ، فَكَيْفَ ذَلِكَ وَ هُوَ يَقُولُ: «وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ».٢
اعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أنَّ أهْلَ الشِّرْكِ لَا تُنْصَبُ لَهُمُ المَوَازِينُ وَ لَا تُنْشَرُ لَهُمُ الدَّوَاوِينُ؛ وَ إنَّمَا تُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ لأهْلِ الإسْلَامِ- (الحديث).٣
كما روى في «عيون أخبار الرضا» بأسانيده الثلاثة عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ يُحَاسِبُ كُلَّ خَلْقٍ إلَّا مَنْ أشْرَكَ بِاللهِ، فَإنَّهُ لَا يَحُاسَبُ وَ يُؤْمَرُ بِهِ إلَى النَّارِ.٤
في معنى حساب الانبياء و الائمّة عليهم السلام
في معنى محاسبة الأنبياء
إنّ البحث الذي أوردناه مؤخّراً عن المقرّبين و المخلَصين، و قولنا بعدم وجود حساب و سؤال و ميزان و صحائف أعمال لهم، لا يتنافى مع ما ذكرنا في هذا المجلس من أنّ الحساب و السؤال يشملان جميع العباد، حتّى الأنبياء الكرام و النبيّ العظيم الشأن و أئمّة الهدى عليهم الصلاة و السلام، لأنّ المخلَصين و المقرّبين (الذين هم في حال الفناء) قد تخطّوا أمر الحضور في القيامة و أمر السؤال و الجواب. أمّا الذين فازوا بعد فنائهم في الله بمقام البقاء في الله تعالى، و الذين يمسكون بأزمّة امور تربية الخلق و تكاملهم
تكويناً و تشريعاً، كالأنبياء و الأئمّة، فإنّهم يمتلكون مقام الجامعيّة، و يستوفون حظّ كلّ عالم على أكمل وجه، و يحفظون شأن كلّ عالم على أتمّ نحو، و يتأثّرون بآثار و خواصّ كلّ نشأة من النشآت. لذا فإنّهم سيتعرّضون للسؤال و الحساب، إلّا أنّ هناك بوناً شاسعاً بين حسابهم و حساب من سواهم.
فحساب الذين لم يبلغوا مقام الفناء في الله هو التوبيخ و المؤاخذة و التقريع و التبكيت، أو اللوم و العتاب على أقلّ تقدير. كما أنّهم سيتعرّضون للحساب على التكليف تبعاً لشائبة الاثنينيّة التي تشوبهم.
أمّا حساب الأولياء، و الأنبياء و المقرّبين و المخلَصين الذين بلغوا مقام البقاء بعد الفناء، فهو من باب المحادثة و المحاورة بين الحبيب و المحبوب، و من باب كشف أسرار الحرم الداخليّة بين صاحب الحرم و بين القريب الحميم. و تتّضح هذه الحقيقة بجلاء من خلال التأمّل في الأخبار الواردة التي تتحدّث عن السؤال من رسول الله و أئمّة الهدى و الأنبياء العظام. و الروايات الواردة بالمضامين المختلفة من قبيل: لي مَعَ اللهِ وَقْتٌ لَا يَسَعَنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ۱ تكشف هذه الحقيقة. كما يُعبّر عنها بالسَّفَر الرابع عند العرفاء بالله و أهل اليقين، و هو السفر من الخلق بالحقّ، و يُشار إليها في الغزليّات بتعبير المُسامرات الليليّة.
وَ خَاطَبَنِي مِنِّي بِكَشْفِ سَرَائِرِي | *** | فَقَالَ: أ تَدْرِي مَنْ أنَا قُلْتُ مُنْيَتِي |
فَصِرْتُ فَنَاءً في بَقَاءٍ مُؤَبَّدٍ | *** | لِذَاتٍ بِدَيْمُومَةٍ سَرْمَدِيَّةِ |
فَأغْدُو وَ أمْرِي بَيْنَ أمْرَيْنِ وَ اقِفٌ | *** | عُلُومِيَ تَمْحُونِي وَ وَهْمِيَ مُثْبِتِي |
وَ مَا شَهِدَتْ عَيْنِي سِوَى عَيْنَ ذَاتِهَا | *** | وَ إنَّ سِوَاهَا لَا يَلُمُّ بِفِكْرَتِي |
نَعَمْ نَشْأتِي في الحُبِّ مِنْ قَبْلِ آدَم | *** | وَ سِرِّيَ في الأكْوَانِ مِنْ قَبْلِ نَشْأتِي۱ |
و قد ذكر المرحوم صدر المتألّهين في «الأسفار» في كيفيّة علم الله بما سواه، و في فصل آخر في علم الله السابق على الأشياء في موضوع «بسيط الحقيقة كلّ الأشياء» مطالب قيّمة جدّاً حول هذه المطالب و في كيفيّة توحيد الحضرة الأحديّة تبارك و تقدّس و في كيفيّة عالم الخلقة، بحيث يتّضح من خلال تلك المطالب كيفيّة سؤال الله تبارك و تعالى المحبّين و المقرّبين و الأنبياء العظام و كلامه معهم، إلّا أنّ تلك المطالب خارجة عن عهدة هذا الكتاب.
مشكل عشق نه در حوصلة دانش ماست | *** | حلّ اين نكته بدين فكر خطا نتوان كرد٢ |
إلّا أنّ كلام رسول الله صلّى الله عليه و آله هو الذي يكشف هذه الحقيقة: نحن معاشر الأنبياء امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم.٣
الحبط و التكفير في بعض الاعمال السيّئة و الحسنة
موارد حبط الأعمال و التكفير
و تبقى في بحث عموميّة السؤال و الحساب مسألة لا بدّ من التعرّض إليها، و هي: هل يحصل حَبْط و تكفير في الأعمال أم لا؟
و الحبط يعني إبطال العمل السيّئ آثار العمل الحسن؛ أمّا التكفير فيعني تغطية آثار العمل الحسن آثار العمل السيّئ.
و مرجع هذا البحث -عموماً- إلى التساؤل عن التأثير المتبادل بين الأعمال الحسنة و الأعمال السيّئة التي يجترحها الإنسان في حياته اليوميّة.
فهل -يا ترى- يمحو أقواهُما أضعفهما؟ و هل إذا تساوى العملان في القوّة، ضاع أثرَي الخير و الشرّ بسبب تأثير العملينِ في بعضهما؟
أم أنّ كلًّا من أعمال الخير و أعمال الشرّ سيُحفظ في موضعه دون أن يمحو أحدهما تأثير الآخر، فتكون أعمال الخير و أعمال الشرّ التي فعلها الإنسان مشهودة له بأجمعها يوم القيامة، بحيث يحصل على الثواب و العقاب في إزاء كلٍّ من تلك الأعمال؟
يقول البعض بأنّ أعمال الخير و أعمال الشرّ محفوظة في مواضعها دون أن يؤثّر أحدها في الآخر أدنى تأثير، و لا يمكن أن يكون لها فعل و انفعال مع بعضها.
و يقف آخرون في الجهة المقابلة لهذه العقيدة، فيقولون بأنّ لجميع الأعمال تأثيراً على بعضها البعض، و إنّ هناك تأثيراً و تأثّراً و حبطاً و تكفيراً بصورة مستمرّة. فإن بقيت آثار الأعمال الإيجابيّة في نهاية المطاف، كان الإنسان من أصحاب الجنّة؛ و إن تخلّفت آثار الأعمال السلبيّة في العاقبة صار من أصحاب الجحيم.
إلّا أنّ من الحقّ أن نقول بأنّ الحبط يحصل في بعض الموارد فقط، أمّا في باقي الموارد فليس هناك ثمّة حبط و لا تكفير.
القاعدة الأساسيّة تقضي بانتفاء الحبط و التكفير
و لتوضيح هذه الحقيقة نقول: أوّلًا: إنّ القاعدة الأساسيّة تقضي بعدم حصول الحبط و التكفير. فلقد بدرت من الإنسان أعمال صار لكلّ منها وجود و أثر في عالم التكوين و في النفس الإنسانيّة. و القاعدة الأساسيّة تقضي ببقاء تلك الأعمال و ثبوتها، و بأنّ أي عمل لا يمكنه -دونما دليل- إحباط العمل الآخر أو تكفيره تحت آثاره الجميلة.
و ثانياً: إنّ الآيات القرآنيّة الكريمة و الروايات الواردة عن المعصومين سلام الله عليهم أجمعين تشير إلى هذه الحقيقة؛ فالآيتان:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.۱
والآية: وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ.٢
و الآية: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً.٣
و الآيات الاخرى الواردة في هذا الشأن صريحة في انتفاء الحبط و التكفير. كما أنّ الروايات -بدورها- لها نفس المنحى. و قد تحدّثنا بالقدر الوافي في هذا المجال في بحث صحيفة الأعمال و ميزان الأعمال و ذكرنا هناك الروايات الصريحة فيه.
بَيدَ أنّه قد صُرِّح في بعض الموارد بإحباط أعمال خاصّة، و ينبغي علينا بطبيعة الحال، أن نرفع اليد في تلك الموارد عن تلك القاعدة الكلّيّة بموجب قاعدة التخصيص.
و قد جرى بيان هذه الموارد في القرآن الكريم؛ فأوّلها: الشرك بالله المتعال.
و ثانيها: الكفر.
و ثالثها: الارتداد.
و رابعها: التكذيب بآيات الله و لقائه.
و خامسها: التجاسر على مقام النبيّ الأكرم و الأئمّة الطاهرين و على مقام الولاية. و قد بحثنا في هذا الأمر بحثاً مستفيضاً في المجلس الثالث و الأربعين في الجزء السابع من كتاب «معرفة المعاد». و نكتفي بهذا المقدار هنا فلا نتوسّع.
هذا و قد عدّت بعض الروايات طائفةً من الأعمال القبيحة مدعاةً للحبط، و من بينها عقوق الوالدين، و الحسد، و عدم اتّباع حاكم الشرع الإسلاميّ و عدم طاعته، و ظلم المستضعفين. إلّا أنّ من المسلّم أنّ هذه الأعمال لا تستدعي الإحباط الكلّيّ للأعمال و لا توجب الكفر و الارتداد.
و سيكون الحبط -في حال تحقّقه- حبطاً ضمنيّاً. و ينبغي خلال التحقيق في هذه الموارد عدم نسيان درجات الحبط المختلفة تبعاً لدرجات قبح هذه الأعمال و لحاظ النسبيّة فيها جميعاً.
كما ورد في كثير من الآيات في شأن التكفير، أنّ التوبة تسبّب غفران الذنوب و تكفيرها، لأنّ الغفران و التكفير بمعنى الستر و التغطية، أي ستر شيء ما بغطاء و ساتر يخفيه. و بطبيعة الحال فإنّ التوبة بمثابة الستار الذي يخفي الذنوب و يغطّيها.
الدرجات المختلفة لحبط الاعمال و تكفيرها
و قد وردت في القرآن الكريم مطالب عامّة في تكفير الأعمال السيّئة أو محوها أو تبديلها حسنات، و في مضاعفة أعمال الخير و الحسنات.
الأوّل: تكفير الذنب و تغطيته بستر يلقيه الله عزّ و جلّ عليه في عالم المعنى و الحقيقة. و قد نُصّ على هذا الأمر في عدّة موارد، منها في التوبة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ.۱
و منها: اجتناب الكبائر، حيث يعفو الله تعالى عندئذٍ عن الصغائر.
أي أنّ نفس اجتناب الكبائر يوجب غفران الصغائر و تكفيرها:
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ.٢
و منها: الإيمان بالله تعالى و العمل الصالح، حيث يوجب ذلك غفران الذنوب السابقة:
وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ.٣
و منها: التقوى.
وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ.۱
و بصورة عامّة فإنّ كلّ عمل صالح يفعله الإنسان في سبيل الله تعالى يجعله في معرض غفران الله عزّ و جلّ، فلو شاء تعالى عفى عن ذنوبه.
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.٢
الثاني: أنّ الأعمال الصالحة توجب محو السيّئات. أي أنّ الله تعالى سيمحو السيّئة و يعدمها:
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ.٣
و تشير الآيات الواردة في موارد الحبط و ما شابهها إلى محو الله تعالى للثواب و الحسنات الموجودة:
وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً.٤
حيث إنّ الآية السابقة في معرض الحديث عن المستكبرين الذين لا يرجون لقاء الله تعالى.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ.٥
و من هذا القبيل التعبير بالإضلال:
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ.٦
الثالث: أنّ الحسنات توجب تبديل السيّئات بالحسنات، أي أنّها تبدّل جميع الذنوب و الأعمال الطالحة أعمالًا حسنة صالحة:
إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.۱
الرابع: أنّ الله تعالى يُضاعف العمل الحسن القليل:
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا.٢
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها.٣
الخامس: أنّ الله تعالى يوجد العمل المعدوم الذي لا وجود له:
وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ.٤
و يلاحظ هنا أنّ الذرّيّة التي تتبع الآباء تُلحق بهم في الأجر و العمل، من دون أن يقسّم الله من عمل اولئك الآباء على ذرّيّتهم. فالأبناء يتبعون آباءهم و يلحقون بهم، فيَشركونهم في جميع الأعمال الحسنة و الخيرات التي كانت للآباء دون أن ينقص من اولئكم شيء. و هذا هو معنى اللحوق و الإلحاق. و هذه الآية في غاية الغرابة، و باعثة على إبهاجنا نحن المؤمنين المقصّرين في العمل. حيث يلحقنا الله تعالى بلطفه و منّه و عطفه -من خلال اتّباعنا للآباء الكرام و الأجداد العظام- باولئك الآباء و الأجداد، و يشركنا في خيراتهم و برّهم و مجاهداتهم و سائر حسناتهم خطوةً فخطوة، و شعرة فشعرة، دون أن ينقص من نصيبهم قدر ذرّة، و الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ.٥ و سنتحدّث إن شاء الله
تعالى في أمر اللحوق و الإلحاق مفصّلًا في بحث الجنّة و النار الذي سنتعرّض له مستقبلًا.۱
معنى النعيم، و تفسير آية: «لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ»
الثالثة: الروايات الدالة على أنّ الإنسان سيُسأل عن النعيم. و قد وردت هذه الروايات بأجمعها في تفسير الآية الكريمة في سورة التكاثر:
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.٢
قال المرحوم الشيخ الطبرسيّ في تفسير هذه الآية: قال مقاتل: يعني كفّار مكّة، كانوا في الدنيا في الخير و النعمة، فيُسألون يوم القيامة شكر ما كانوا فيه إذ لم يشكروا ربّ النعيم حيث عبدوا غيره و أشركوا به، ثمّ يعذَّبون على ترك الشكر و هذا قول الحسن، قال: لا يُسأل عن النعيم إلّا أهل النار. و قال الأكثرون: إنّ المعنى: ثمّ لتسألنّ يا معاشر المكلّفين عن النعيم. قال قتادة: إنّ الله سائل كلّ ذي نعمةٍ عمّا أنعم عليه.
و قيل: عن النعيم في المأكل و المشرب و غيرهما من الملاذّ، عن سعيد بن جبير؛ و قيل: النعيم: الصحّة و الفراغ، عن عكرمة؛ و يؤيّد هذا القول رواية ابن عبّاس، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال:
نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَ الفَرَاغُ.
و قيل: هو الأمن و الصحّة، عن ابن مسعود و مجاهد. و روى ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما السلام؛ و قيل: يُسأل عن كلّ نعيم إلّا ما خصّه الحديث. و هو قوله صلّى الله عليه و آله:
ثَلَاثَةٌ لَا يُسْألُ عَنْهَا العَبْدُ: خِرْقَةٌ يُوَارِي بِهَا عَوْرَتَهُ، أوْ كِسْرَةٌ يَسُدُّ بِهَا جَوعَتَهُ، أوْ بَيْتٌ يَكُنُّهُ مِنَ الحَرِّ وَ البَرْدِ.
و روي أن بعض الصحابة أضاف النبيّ صلّى الله عليه و آله مع جماعة من أصحابه، فوجدوا عنده تمراً و ماءً بارداً، فأكلوا فلمّا خرجوا قال: هذا من النعيم الذي تُسألون عنه.
و روى العيّاشيّ بإسناده في حديث طويل قال: سأل أبو عبد الله عليه السلام أبا حنيفة عن هذه الآية، فقال له: ما النعيم عندك يا نعمان؟
قال: القُوت من الطعام و الماء البارد. فقال: لئن أوقفك الله بين يديه يوم القيامة حتّى يسألك عن كلّ أكلةٍ أكلتَها أو شربةٍ شربتَها ليطولنّ وقوفُك بين يديه.
قال: فما النعيم جُعلت فداك؟ قال: نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد، و بنا ائتلفوا بعد ما كانوا مختلفين، و بنا ألّف الله بين قلوبهم فجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداءً، و بنا هداهم الله للإسلام، و هو النعمة التي لا تنقطع، و الله سائلُهم عن حقّ النعيم الذي أنعم به عليهم و هو النبيّ صلّى الله عليه و آله و عترته عليهم السلام.۱
و من المؤسف أنّ النصف الأخير من «تفسير العيّاشيّ» قد فقدت نسخته و تعذّر العثور عليها في أي من مكتبات الدنيا، و لو لا ذلك لكنّا نقلنا هذه الرواية النفيسة من «تفسير العيّاشيّ» الذي يعدّ من أتقن كتب الشيعة، و صاحبه مقدّم على الكلينيّ. و ينبغي حقّاً أن يُعدّ فقدان هذا التفسير من خسارات المذهب الشيعيّ، أشبه بخسارة فقدان كتاب «مدينة العلم» للشيخ الصدوق.
يروي الراونديّ في «النوادر» بإسناده عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلّى الله عليه و آله قال:
كُلُّ نَعِيمٍ مَسْؤولٌ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ إلَّا مَا كَانَ في سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى.۱
و يروي البرقيّ في «المحاسن» عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن الحلبيّ، عن الإمام الصادق عليه السلام، قَالَ:
ثَلَاثَةُ أشْيَاءَ لَا يُحَاسَبُ العَبْدُ المُؤْمِنُ عَلَيْهِنَّ: طَعَامٌ يَأكُلُهُ، وَ ثَوْبٌ يَلْبَسُهُ، وَ زَوْجَةٌ صَالِحَةٌ تُعَاوِنُهُ وَ يُحْصِنُ بِهَا فَرْجَهُ.٢
كما يروي في «المحاسن» عن أبيه، عن القاسم بن محمّد، عن الحارث بن حريزة، عن سدير الصيرفيّ، عن أبي خالد الكابليّ، قال:
دَخَلْتُ عَلَى أبي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَعَا بِالغَدَاءِ فَأكَلْتُ مَعَهُ طَعَاماً مَا أكَلْتُ طَعَاماً قَطُّ أنْظَفَ مِنْهُ، وَ لَا أطْيَبَ مِنْهُ. فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الطَّعَامِ قَالَ:
يَا أبَا خَالِدٍ! كَيْفَ رَأيْتَ طَعَامَنَا؟ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا رَأيْتُ أنْظَفَ مِنْهُ قَطُّ وَ لَكِنِّي ذَكَرْتُ الآيَةَ التي في كِتَابِ اللهِ: «لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ».
فَقَالَ: أبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا؛ إنَّمَا تُسْألُونَ عَمَّا أنتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ.٣
و في «بشارة المصطفى» بإسناده عن أبي الطفيل، عن أبي بردة قال:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: لَا تَزُولُ قَدَمُ عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْألَ عَنْ حُبِّنَا أهْلَ البَيْتِ.
قِيل: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا عَلَامَةُ حُبِّكُمْ؟
قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِ عَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.۱
و روى الصدوق في «عيون أخبار الرضا» بأسانيده الثلاثة عن الإمام الرضا، عن آبائه عليهم السلام، قَالَ:
قَالَ عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ في قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ»، قَالَ: الرُّطَبُ وَ المَاءُ البَارِدُ.٢
و روى عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره عن أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمّد، عن سلمة بن عطاء، عن جميل، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال:
قُلْتُ: قَوْلُ اللهِ: «لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ»؟
قَالَ: تُسْألُ هَذِهِ الامَّةُ عَمَّا أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ثُمَّ بِأهْلِ بَيْتِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ.٣
و يروي البرقيّ في «المحاسن» عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختريّ، عن الإمام الصادق عليه السلام في قَوْلِهِ: «لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ»؛ قَالَ:
إنّ اللهَ أكْرَمُ مِنْ أنْ يَسْألَ مُؤْمِناً عَنْ أكْلِهِ وَ شُرْبِهِ.٤
رواية الإمام الرضا عليه السلام في معنى النعيم
كما يروي المرحوم الصدوق في «عيون أخبار الرضا» بإسناده عن إبراهيم بن العبّاس الصوليّ قال: كنّا يوماً بين يدي عليّ بن موسى عليهما السلام فقال لي: ليس في الدنيا نعيم حقيقيّ. فقال له بعض الفقهاء ممّن
يحضره: فيقول الله عزّ و جلّ: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ، أمّا هذا النعيم في الدنيا و هو الماء البارد. فقال له الرضا عليه السلام و علا صوته: كذا فسّرتموه أنتم و جعلتموه على ضروب، فقالت طائفة: هو الماء البارد، و قال غيرهم: هو الطعام الطيّب، و قال آخرون: هو النوم الطيّب.
قال الرضا عليه السلام: و لقد حدّثني أبي عن أبيه أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّ أقوالكم هذه ذُكرت عنده في قول الله تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ، فغضب عليه السلام و قال: إنّ الله عزّ و جلّ لا يسأل عبادَه عمّا تفضّل عليهم به، و لا يمنّ بذلك عليهم، و الامتنان بالإنعام مُستقبح من المخلوقين، فكيف يُضاف إلى الخالق عزّ و جلّ ما لا يرضى المخلوق به؟! و لكنّ النعيم حبّنا أهل البيت و موالاتنا، يسأل الله عبادَه عنه بعد التوحيد و النبوّة، لأنّ العبد إذا و في بذلك أدّاه إلى نعيم الجنّة الذي لا يزول. و لقد حدّثني بذلك أبي، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: يَا عَلِيّ! إنَّ أوَّلَ مَا يُسْألُ عَنْهُ العَبْدُ بَعْدَ مَوْتِهِ شَهَادَةُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ أنَّكَ وَلِيّ المُؤْمِنِينَ بِمَا جَعَلَهُ اللهُ وَ جَعَلْتُهُ لَكَ؛ فَمَنْ أقَرَّ بِذَلِكَ وَ كَانَ يَعْتَقِدُهُ صَارَ إلَى النَّعِيمِ الذي لَا زَوَالَ لَهُ.
فقال لي أبو ذكوان بعد أن حدّثني بهذا الحديث مبتدياً من غير سؤال: أحدّثك بهذا من جهات، منها لقصدك لي من البصرة، و منها أنّ عمّك أفادنيه، و منها أنّي كنتُ مشغولًا باللغة و الأشعار و لا أعول على غيرهما، فرأيتُ النبيّ صلّى الله عليه و آله في النوم و الناس يسلّمون عليه و يُجيبهم، فسلّمت فما ردّ عَلَيّ. فقلتُ: أمَا أنا من امّتك يا رسول الله؟! قال لي: بلى، و لكن حدِّث الناسَ بحديث النعيم الذي سمعتَه من إبراهيم.
قال الصَّوْليّ: و هذا حديث قد رواه الناس عن النبيّ صلّى الله عليه و آله إلّا أنّه ليس فيه ذكر النعيم و الآية و تفسيرها، إنّما رووا أنّ:
أوَّلُ مَا يُسْألُ عَنْهُ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ الشَّهَادَةُ وَ النُّبُوَّةُ وَ مُوَالاةُ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.۱
و يروي الفيض الكاشانيّ في «تفسير الصافي» عن «المجالس» للصدوق، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
مَنْ ذَكَرَ اسْمَ اللهِ عَلَى طَعَامٍ لَمْ يُسْألْ عَنْ نَعِيمِ ذَلِكَ الطَّعَامِ.٢
كما يروي في «تفسير الصافي» عن «الاحتجاج» للطبرسيّ، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال:
إنّ النَّعِيمَ الذي يُسْألُ عَنْهُ، رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ مَنْ حَلَ
مَحَلَّهُ مِنْ أصْفِيَاءِ اللهِ؛ فَإنَّ اللهَ أنْعَمَ بِهِمْ عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُم مِنْ أوْلِيَائِهِمْ.۱
و يروي الكاشانيّ في «تفسير الصافي» عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لأبي حنيفة:
بَلَغَنِي أنَّكَ تُفَسِّرُ النَّعِيمَ في هَذِهِ الآيَةِ بِالطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَ المَاءِ البَارِدِ فِي اليَوْمِ الصَّائِفِ!
قَالَ: نَعَمْ!
قَالَ: لَوْ دَعَاكَ رَجُلٌ وَ أطْعَمَكَ طَعَاماً طَيِّباً وَ سَقَاكَ مَاءً بَارِداً ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْكَ بِهِ، إلَى مَا كُنْتَ تَنْسِبُهُ؟
قَالَ: إلَى البُخْلِ!
قَالَ: أ فبَخِلَ اللهُ تَعَالَى؟!
قَالَ: فَمَا هُوَ؟!
قَالَ: حُبُّنَا أهْلَ البَيْتِ.٢
و على أيّة حال، فالروايات التي أوردناها في هذا المجال تعدّ كافية بحمد الله و منّه في تفسير النعيم بمعانيه المختلفة، و مُغنية عن إيراد باقي الروايات المماثلة لها في الموضوع و السياق. و على الراغبين في الاطّلاع على تفصيل أقوال الشيعة و العامّة في هذا المجال فليراجعوا «تفسير أبي الفتوح الرازي» رحمة الله عليه؛ و على الراغبين بالاطّلاع على باقي الروايات أن يراجعوا «تفسير البرهان» و «بحار الأنوار».٣
و ينبغي الآن أن نرى المعنى الحقيقيّ للنعيم، و الكيفيّة التي ينبغي
علينا أن نجمع خلالها بين هذه الروايات المختلفة.
لقد ذكر سماحة استاذنا العلّامة الطباطبائيّ في «رسالة المعاد» في هذا المجال بحثاً مختصراً و مفيداً ضمن عدّة أسطر، إذ إنّه سلك في تلك الرسالة سبيل الإيجاز و الاختصار.۱ بَيدَ أنّ الحقير لمّا وجد تفصيل كلماته في «تفسير بيان السعادة»، فقد ارتأيت أن أنقل بحول الله و قوّته تلك المطالب إلى طلّاب الحقّ و الحقيقة، و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم:
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.
قد ذكر في أخبار كثيرة من جملة النعيم المسئول عنه ملائمات القوى الحيوانيّة و الملاذ الدنيويّة، كالطعام و اللباس و الرُّطب و الماء البارد؛ و في أخبار اخر إنكار أن يكون النعيم المسئول عنه ذلك، و أنّ السؤال و الامتنان بالنعمة من وصف الجاهل اللئيم، و أنّ الله قد نهى عن ذلك، و أنّه سبحانه و تعالى الله لا يوصَف بما لا يرضاه لعباده، و أنّ النعيم المسئول عنه محمّد صلّى الله عليه و آله و عليّ عليه السلام، أو حبّنا أهل البيت، أو ولايتنا أهل البيت.
بحث عامّ في حقيقة معنى النعيم
و التحقيق في هذا المقام و التوفيق بين الأخبار أنّ النعمة كما مرّ مراراً ليست إلّا الولاية و كلّ ما اتّصل بالولاية، سواءً كان من ملائمات الحيوانيّة، أم من مؤذيات القوى الحيوانيّة.
و بعبارةٍ اخرى، سواءً عُدّ من النعم الدنيويّة أم من النقم الدنيويّة كان نعمة؛ و كلّ ما انقطع عن الولاية كان نقمة و إن كان بصورة النعمة. و كلّ من اتّصل بالولاية كان ضعيفاً للّه، و كان جميع نعمه الصوريّة و المعنويّة مباحةً له، و كان مأموراً بالتصرّف فيها بمنطوق قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ؛۱ و لا يسأل اللهُ عن شيء منها، و لو سأل كان سؤاله مثل السؤال من الضيف و أنّه كيف أكل و لِمَ أكل و على أي مقدارٍ أكل، و لِمَ لَمْ يعمل لي على قدر ما أكل، و كان قبيحاً على البشر فكيف بخالق البشر؟!
و من انقطع عن الولاية كان جميع نعمه الصوريّة مغصوبة في يده، و للحاكم و المالك أن يسأل الغاصب عن تصرّفاته في العين المغصوبة، و لا قُبح في ذلك السؤال.
و لمّا كان الخطاب للمحجوبين المنقطعين عن الولاية، فالمراد بالنعيم الولاية، ثمّ جميع الملائمات الحيوانيّة و الإنسانيّة، و كان السؤال عن أداء شكرها و صرفها في مصرفها أو غير مصرفها.
أو المعنى: إذا رفع حجاب الخيال و الوهم من بصائركم و وصلتم إلى دار العلم و شاهدتم الجحيم و آلامها و الجنّات و لذّاتها، و عاينتم أنّ النعيم الصوريّ صار سبباً لدخول الجحيم، و أيقنتم أنّ النعيم الصوريّ كان نقمة في الحقيقة، و أنّ النعيم كان الولاية و لوازمها التي هي الجنّة و نعيمها، تُسألون أ كان ما كنتم فيه من الملاذ الحيوانيّة نعيماً؟ أم ما عليه المؤمنون، توبيخاً لكم.
أو المعنى: أنّكم إذا وصلتم إلى مقام المعاينة تُسألون عن مقام حقّ اليقين ما هو؛ لأنّكم بالمعاينة تجدون ذوق الحقيقة و جاز لكم السؤال و الجواب عنها.
و ما روي عن الرسول صلّى الله عليه و آله يؤيّد ما وَفَّقْنا به من الأخبار، فإنّه قال: كُلُّ نَعِيمٍ مَسْؤُولٌ عَنْهُ صَاحِبُهُ إلَّا مَا كَانَ في غَزْوٍ أوْ حَجٍّ.
فإنّ السالك القابل للولاية في غزوٍ و حجّ، شَعَرَ بِه أم لا.
و كذلك ما روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال: مَنْ ذَكَرَ بِسْمِ اللهِ عَلَى الطَّعَامِ لَمْ يُسْألْ عَنْ نَعِيمِ ذَلِكَ؛ فإنّ الذاكر لاسم الله ليس إلّا من قبيل الولاية بالبيعة الخاصّة المولويّة، فإن غيره بمضمون: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْخٌ تَمَكَّنَ الشَّيْطَانُ مِنْ عُنُقِهِ، قد تمكنّ الشيطان منه، و تكون كلّ أفعاله و أقواله و أحواله بتصرّف الشيطان، فإذا قال بِسْمِ اللهِ يتصرّف الشيطان فيه و يخلو اللفظ من معناه و يجعل نفسه في لفظ اللهِ، فيصير بِسْمِ اللهِ في الحقيقة بِسْمِ الشَّيْطَانِ۱ انتهى كلام «تفسير بيان السعادة» في معنى النعيم.
و يستفاد ممّا ذكر أنّ الإنسان لن يؤاخذ على كلّ نعمة يصرفها في سبيل الله تعالى، و أنّ فعله سيكون مندوباً و مطلوباً. أمّا ما يصرفه في غير سبيله عزّ و جلّ، سواءً كان المصروف عمراً أم قدرة أم علماً أم نعمة من النعم الدنيويّة و الملاذّ الشهويّة، كالولد و الزوجة و العشيرة و الأطعمة و الأشربة و التفرّج على المناظر الخلّابة لجبال العالم و سهوله و غير ذلك، فإنّه سيؤاخذ عليها، لأنّ تلك الأعمال ليست مندوبةً من قبل خالق عالم الوجود و مالك منزل التكامل. ذلك لأنّ خلقة الإنسان هي لأجل الولاية، و الولاية تعني الحجاب الأقرب و الاندكاك في عالم الفناء في الذات القدسيّة للحضرة الأحديّة، و بلوغ مقام العبوديّة المحضة.
و تبعاً لهذه الحقيقة فإنّ النعيم هو الولاية: و كلّما يفعله الإنسان كمقدّمة في سبيل بلوغ هذا المقصد الأعظم ينصبّ بأعظمه في طريق الولاية و يعدّ كلّه نعيماً. كما أنّ ما يفعله في اتّجاهٍ معاكس للولاية، كسبيل الشيطان و طريق البُعد و متابعة النفس الأمّارة، يُعدّ بأجمعه نقمةً.
فحقيقة النعمة -إذَاً- تتمثّل في بلوغ درجة شرف الإنسانيّة و بلوغ المقام الأصليّ و الوطن المألوف الإلهيّ. و هذه هي الولاية، لأنّ حبّ محمّد و آل محمّد هو السلّم الوحيد للارتقاء إلى هذه الذروة السامقة و المقصد الأسنى.
و تبعاً لهذا الأساس فإنّ من يعتقد بهذا المقام و يجتهد في البحث عنه سيكون في جنّة النعيم؛ أمّا من يتمرّد فسينتمي إلى دار البوار و جهنّم النقمة و محلّ الشياطين؛ و تبعاً لقوله تعالى:
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ،۱ فإنّ صرف القوى الإنسانيّة و الإحساسات و العواطف و الأفكار يمثّل الصراط المستقيم و يمثّل النعمة.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.٢
و هذا الصراط هو صراط الأنبياء و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين.
فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً.٣
و الآن و قد انتهى بحثنا في أمر السؤال عن النعيم، نصل إلى الجزء الرابع و الأخير من البحث، و الذي يدور حول موضوع السؤال و الحساب.
الحساب و السؤال من الحيوانات
الرابع: هل تتعرّض الحيوانات -شأنها شأن الإنسان- للحساب و السؤال؟
ذكرنا -في المجلس الأربعين من الجزء السادس لهذه السلسلة من
بحوث «معرفة المعاد» -أنّ الحيوانات تُحشر كما يُحشر الإنسان، حيث تدل الآية المباركة ٣۸، من السورة ٦: الأنعام على هذا المطلب:
وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ.
و قال الشيخ الطبرسيّ في تفسير هذه الآية: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ: معناه يحشرون إلى الله بعد موتهم يوم القيامة كما يُحشر العباد، فيعوّض الله تعالى ما يستحقّ العوض منها، و ينتصف لبعضها من بعض.
و فيما رووه عن أبي هريرة أنّه قال: يحشر اللهُ الخلق يوم القيامة البهائم و الدوابّ و الطير و كلّ شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذٍ أن يأخذ للجمّاء من القرناء، ثمّ يقول كوني تراباً، فلذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً.
و عن أبي ذرّ قال: بينا أنا عند رسول الله صلّى الله عليه و آله إذ انتطح عنزان، فقال النبيّ صلّى الله عليه و آله: أ تدرون فيما انتطحا؟ فقالوا:
لا ندري! قال: لكنّ الله يدري و سيقضي بينهما. و على هذا فإنّما جعلت أمثالنا في الحشر و الاقتصاص، و اختاره الزجّاج، فقال: يعني أمثالكم في أنّهم يبعثون؛ و يؤيّده قوله:
وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ.۱
و استدلّت جماعة من أهل التناسخ بهذه الآية على أنّ البهائم و الطيور مكلّفة لقوله: امَمٌ أمْثَالُكُمْ؛ و هذا باطل، لأنّا قد بيّنّا أنّها من أي وجهٍ تكون أمثالنا، و لو وجب حمل ذلك على العموم لوجب أن تكون أمثالنا في كونها على مثل صورنا و هيآتنا و خلقتنا و أخلاقنا، و كيف يصحّ تكليف البهائم
و هي غير عاقلة، و التكليف لا يصحّ إلّا مع كمال العقل!۱
يروي البرقيّ في «المحاسن» عن أبيه مرفوعاً، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام صعد المنبر بالكوفة فحمد الله و أثنى عليه، ثمّ قال:
أيّها الناس! إنّ الذنوب ثلاثة؛ ثمّ أمسك. فقال له حَبَّةُ العُرَنِيّ:
يا أمير المؤمنين! قلتَ الذنوب ثلاثة ثمّ أمسكتَ!
فقال له: ما ذكرتُها إلّا و أنا أريد أن أفسّرها، و لكنّه عرض لي بهرٌ حال بيني و بين الكلام. نعم؛ الذنوب ثلاثة، فذنب مغفور، و ذنب غير مغفور، و ذنب نرجو لصاحبه و نخاف عليه.
قيل: يا أمير المؤمنين، فبيّنها لنا!
قال: نعم؛ أمّا الذنب المغفور فعبدٌ عاقبه الله على ذنبه في الدنيا، فالله أحكم و أكرم أن يعاقب عبده مرّتين. و أمّا الذنب الذي لا يُغفَر فظُلم العباد بعضهم لبعض. إنّ الله تبارك و تعالى إذا برز لخلقه أقسم قسماً على نفسه فقال:
وَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي لَا يَجُوزُنِي ظُلْمُ ظَالِمٍ وَ لَوْ كَفٌّ بِكَفٍّ، وَ لَوْ مَسْحَةٌ بِكَفٍّ،٢ وَ نَطْحَةُ مَا بَيْنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ إلَى الشَّاةِ الجَمَّاءِ. فَيَقْتَصُّ اللهُ لِلْعِبَادِ
بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى لَا يَبْقَى لأحَدٍ عِنْدَ أحَدٍ مَظْلِمَةٌ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمُ اللهُ إلَى الحِسَابِ.
و أمّا الذنب الثالث فذنبٌ ستره الله على عبده و رزقه التوبة، فأصبح خاشعاً من ذنبه، راجياً لربّه، فنحنُ له كما هو لنفسه، نرجو له الرحمة و نخاف عليه العقاب.۱
و قال المجلسيّ رضوان الله عليه: قال الرازيّ في تفسير قوله تعالى:
وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ: قال قتادة: يحشر كلّ شيء حتّى الذباب للقصاص. و قالت المعتزلة: إنّ الله تعالى يحشر الحيوانات كلّها في ذلك اليوم ليعوّضها على آلامها التي وصلت إليها في الدنيا بالموت و القتل و غير ذلك، فإذا عُوّضت عن تلك الآلام فإن شاء الله أن يبقى بعضها في الجنّة إذا كان مستحسناً فعل، و إن شاء أن يفنيه أفناه على ما جاء به الخبر.
و أمّا أصحابنا (الأشاعرة) فعندهم أنّه لا يجب على الله شيء بحكم الاستحقاق، و لكنّ الله تعالى يحشر الوحوش كلّها فيقتصّ للجمّاء من القرناء، ثمّ يُقال لها: موتي! فتموت -انتهى كلام الفخر الرازيّ.
ثمّ يقول المجلسيّ: الأخبار الدالّة على حشرها عموماً و خصوصاً و كون بعضها ممّا يكون في الجنّة كثيرة سيأتي بعضها في باب الجنّة، و قد مرّ بعضها في باب الرُّكْبَان يَوْمَ القِيَامَةِ و غيره. كقولهم عليهم السلام في مانع الزكاة:
تَنْهَشُهُ كُلُّ ذَاتِ نَابٍ بِنَابِهَا، وَ يَطَأهُ كُلُّ ذَاتِ ظِلْفٍ بِظِلْفِهَا.
و روى الصدوق في «الفقيه» بإسناده عن السكونيّ، بإسناده أنّ النبيّ
صلّى الله عليه و آله أبصر ناقةً معقولة و عليها جهازها، فقال:
أيْنَ صَاحِبُهَا؟ مُرُوهُ فَلْيَسْتَعِدَّ غَداً لِلْخُصُومَةِ!
و روي فيه أيضاً، عن الصادق عليه السلام، أنّه قال: أي بَعِيرٍ حُجَّ عَلَيْهِ ثَلَاثَ سِنِينَ يُجْعَلُ مِنْ نَعَمِ الجَنَّةِ. و روي سَبْعِ سِنِينَ.
و قد روي عن النبيّ صلّى الله عليه و آله: اسْتَفْرِهُوا ضَحَايَاكُمْ، فَإنَّهَا مَطَايَاكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ.
و روي: إن خيول الغزاة في الدنيا خيولهم في الجنة.۱
و ينبغي العلم أنّ الحيوانات ليست مكلّفة باعتبار عدم امتلاكها عقلًا، إلّا أنّها -بقدر شعورها و سعة ماهيّة وجودها- تشخّص الخطأ من الصواب، و الخيانة من الأمانة، و هذا القدر كافٍ للسؤال و الحساب. و قد شاهدنا في أيّام حياتنا تفاوت كثير من الحيوانات كالكلاب و الخيول و القطط في هذه المعاني تفاوتاً ملحوظاً.
قال ابن طاووس في كتاب «مهج الدعوات»: وجدتُ ما هذا لفظه:
قال الفضل بن الربيع: اصطبح الرشيدُ يوماً ثمّ استدعى حاجبه فقال: امضِ إلى عليّ بن موسى العلويّ و أخرجه من الحبس و ألقه في بركة السباع! ثمّ ذكر أنّه أخذه حتّى انتهى إلى البركة، ففتح بابها و أدخله فيها، و فيها أربعون سبعاً، ثمّ ذكر أنّ الخليفة رأى رؤيا هائلة، و أنّه دعاه نصف الليل فأمره أن يذهب و ينظر إليه، فنظر إليه فإذا هو قائم يصلّي و السباع حوله، ثمّ إنّ الرشيد نهض حتّى نظر إليه كذلك، فأمر بإخراجه ثمّ أكرمه و أمر له بصلة و كسوة.٢
و على أيّة حال، فليس عجباً أن تمتلك الوحوش شعوراً يجعلها تعرف الإمام؛ بل العجب -كلّ العجب- من بني آدم الذين يعدّون أنفسهم أشرف المخلوقات، ثمّ يأمرون بإلقاء ابن فاطمة في بركة السِّباع!!