المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة المعاد
التوضيح
تشمل 75 مجلساً في كيفية سير الإنسان وحركته في الدنيا وعالم الغرور، وكيفية تبدل نشأة الغرور إلى عالم الحقائق والواقعيّات وارتحال الإنسان إلى الله وغاية الغايات.
وتقع هذه المجموعة في عشر مجلّدات طبعت بأجمعها بالفارسيّة؛ وقد جرى فيها على نحوٍ وافٍ ومستفيض طرح مباحث من قبيل: عالم الصورة والبرزخ وكيفيّة ارتباط الأرواح هناك مع هذه العوالم، كيفيّة خلقة الملائكة ووظائفهم، النفخ في الصور وموت جميع الموجودات ثم إحياؤها وقيام الإنسان في ساحة الحضرة الأحديّة، عالم الحشر والنشر والحساب والكتاب والجزاء والعرض والسؤال والميزان والصراط والشفاعة والأعراف والجنة والنار؛ وذلك بالاستفادة من الآيات القرآنية وأخبار المعصومين ومن الأدلّة العقليّة والفلسفيّة والمطالب الذوقيّة والعرفانية.
المَجْلِسُ الثَّانِي وَ الأرْبَعُونَ: صَحِيفَةُ الأعْمَالِ، وَ مَعْنَى وُصُولهَا مِنْ جِهَةِ اليَمِينِ أوْ مِنْ جِهَةِ الشِّمَالِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ.۱
تقول الآية الكريمة: بالإضافة إلى أنّا سنُحيي الموتى و نبعثهم يوم القيامة، ندوّن ما قدّموا من أعمال و آثار، و نُحصي في إمامٍ مبين كلّ ما يمكن تسميته شيئاً، فهو أيضاً محسوب و محفوظ عندنا بخصائصه العدديّة و الكمّيّة و الكيفيّة.
وصول صحيفة الأعمال من جهة اليمين أو من جهة الشمال
و لدينا في القرآن الكريم آيات ذات دلالة على أنّ فرقة من الناس تُعطى كتابها بيمينها، و اخرى تعطى كتابها بشمالها.
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ، قُطُوفُها دانِيَةٌ ، كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ
فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ.۱
لقد خُيّل لكم أيّها المتمرّدون و المنكرون أنّه يمكن الركون و الإخلاد إلى هذه الدنيا التي مرّت و انقضت أيّامها؛ فإذا هي جوفاء خالية منكم و من كلّ شيء كان فيها. إذ لم تكن إلّا وعاء لتربيتكم و تكاملكم، و ها هي قد تركتكم و أوصلتكم إلى هذا المقام و الموقف. أمّا أنتم -أيّها الواعون- فهنيئاً لكم إذ لم تركنوا إليها، و لم تخلدوا إلى ذلك الوعاء، بل تجهّزتم و أعددتم زاد السفر إلى هذا المنزل الركين الأمين.
وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ، وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ، يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ، ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ.٢
و أمّا الأشقياء الذين يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم، فيتمنّون أن لم يكونوا يؤتون كتابهم و لا يدرون ما حسابهم، فيقولون: يا ليت الموتة الاولى كانت القاضية علينا و لم يبق أيّ أثر منّا لنقف هذا الموقف و نشاهد ما نشاهد، و يتحسّرون لخيبة سعيهم في الدنيا، حيث بذلوا كلّ جهدهم لتحصيل المال و السلطان، فلا المال الذي جمعوه و لا السلطان يدفعان عنهم العذاب الآن. لقد شاهدوا عدم نفع المال و بطلان السلطان.
فيأتي أمره سبحانه لملائكة العوالم العلويّة و الأرواح القدسيّة بالنسبة إلى اولئك الأشقياء العصاة، الذين اتّخذوا المال و السلطان وسيلة للفساد و البغي و الظلم، و تجاوز صراط العدالة السويّ بالتعدّي على حقوق الضعفاء و الفقراء ... فيخاطبون ملائكة العذاب قائلين:
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ، إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ، وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ ، وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ، لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ.۱
إنّهم الذين أهدروا ثرواتهم الوجوديّة في الحياة، بانشغالهم بالذنوب و المعاصي و استنادهم على الغرور و الاستكبار، و لمّا كانوا لا يؤمنون بالله العظيم و لا يخضعون لأوامره و أحكامه إذ يعتدون على الضعفاء و المحتاجين و ينهبون حقوقهم، و لمّا كانوا لا يحرضون على طعام المساكين و لا يشركونهم في مآدبهم و لا يهتمّون برعايتهم و تفقّد أحوالهم المادّيّة و المعنويّة، فليس لهم اليوم هاهنا طعام إلّا الغسلين من القيح و الدم، و هو طعام الخاطئين المتلبّسين بالشهوة و الغضب.
إنّ الذين لا يؤمنون و يرتكبون المفاسد يبتلون بأمرين: باطنيّ يتمثّل في فساد قلبهم، و ظاهريّ يتجسّد في فقدان العدالة بين المستضعفين و الفقراء.
و هذا الغصب لحقوق المحرومين و الاعتداء على الفقراء و المساكين، و التمتّع -أمام أنظارهم- بالعيش المرفّه سيظهر بعينه في الآخرة بمثابة الغِسْلين و الأكل من الصديد و الدم.
و صفوة القول إنّ هذه الآيات المباركة قد قسّمت الناس إلى طائفتين، طائفة يُعطون كتابهم بيمينهم، و طائفة يُعطون كتابهم بشمالهم. و علينا أن نرى ما معنى اليمين و الشمال؟
كتاب أصحاب الجنّة يُعطى لهم من جانب السعادة
يُطلق تعبير اليمين و الشمال في اللغة على طرفَي الإنسان القويّ
منهما و الضعيف؛ أو على اليدين بلحاظ القوّة و الضعف؛ أو على جهة الخير و السعادة و جهة الشقاء و التعاسة، إلّا أنّ من المسلّم في هذه الآيات أنّ المراد باليمين و الشمال جهة السعادة و الخير و جهة الشقاء و الخسران و الحرمان على الترتيب.
و باعتبار أنّ اليمين تعني في العربيّة التفاؤل بامور الخير و السعادة و العافية و الرحمة و البركة، و أنّ الشمال تعني التشاؤم بالمصائب و الذلّ و الهوان، فقد كُنّي عن اليمين و الشمال بجهتَي السعادة و الشقاء، فصارت كتبهم تصلهم من جهة السعادة و الرحمة و العافية و السلامة، أو من جهة الشقاء و الذلّ و النكبة.
و قد اعتبرت طائفة كبيرة من المحدّثين و المفسّرين اليمين و الشمال في هذه الآيات بمعنى اليد اليمنى و اليد اليسرى، و قالوا بأنّ المراد هو أنّ أهل الجنّة يُعطون كتبهم في أيمانهم، و أهل النار يعطون كتبهم في شمائلهم؛ و هو تفسير غير صحيح لعدّة أسباب:
أوّلًا: و كما اتّضح خلال الأبحاث و الفصول السابقة، فالكتاب ليس بصحيفة و رقيّة ليُعطى في يد الإنسان، و ليس صحيفة مكتوبة مطويّة ليمكن للإنسان تسلّمها بيده، بل إنّه يمثّل حقائق الأعمال التي قام بها الإنسان في دنياه، كما أنّ استلام الكتاب بمثابة سيطرة الإنسان الروحيّة التي تحصل له خلال مرحلة البقاء بالله بعد تخطّيه مرحلة الفناء في الله تعالى، إذ يجد المرء في مرحلة البقاء سيطرة و إحاطة بعالم الكثرة تجعله يُهيمن على جميع وجوده في الدنيا بتمام أخلاقه و ملكاته و سيرته الظاهريّة و الباطنيّة، فتصبح بأجمعها محسوسة لديه و ملموسة و مشهودة، بل إنّه يجد نفسه و يدركها بالوجدان في حال انشغالها بفعل تلك الأعمال.
و على هذا الأساس فليس هناك ثمّة كتاب يُعطى للمرء في يده،
يُضاف إلى ذلك أنّ الآيات القرآنيّة تعبّر عن إعطاء الكتاب بتوفية الأعمال: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ؛ و هو توفية كلّ نفس أعمالها التي فعلتها في الدنيا بجميع جهاتها الواقعيّة، فتردّ إليها نفس تلك الأعمال بفعليّتها.
فلا علاقة -إذاً- للأمر باليد. كما أنّ هناك أعمالًا فعلها الإنسان بعينه، و عمل العين لا يُعطى باليد، و عمل الاذن و اللسان لا يُعطى باليد؛ و كذلك الأمر في عمل الرِّجْل.
ثانياً: أنّ الآية تقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ؛ و الباء في الآية باء السببيّة. أي من يُعطى كتابه بجهة اليمين، و لو كان تعبير الآية القرآنيّة: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ لكان معناه أنّه سيُعطى كتابه بيده اليمنى.
و باء السببيّة تستخدم للتوسّط و الجهة، أي الذين يُؤتون كتابهم من جهة اليمين و بسبب اليمين، كنايةً عن السعادة؛ الذين يؤتون كتابهم من جهة اليسار، إشارة إلى جهة الشقاء التي تلحقهم، و لا علاقة للأمر باليد اليمنى أو اليسرى.
ثالثاً: ما جاء في الآيات القرآنيّة:
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ، وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ، وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ، وَ يَصْلى سَعِيراً.۱
التي تشبه مفاداً و مضموناً الآيات التي أوردناها من سورة الحاقّة؛ كلّ ما في الأمر أنّ جملة وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ قد جاءت هنا بدلًا من جملة وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ.
و نظرا لمقابلة لفظ بشماله للفظ بِيَمِينِهِ في الآية السابقة، و لمجيء
لفظ وَراءَ ظَهْرِهِ مقابل لفظ بِيَمِينِهِ في الآية اللاحقة؛ فإنّ معنى بِشِمالِهِ سيكون وَراءَ ظَهْرِهِ. أي أنّه سيُعطى كتابه وراء ظهره و ليس بيده اليسرى، و إعطاء الكتاب من الخلف كناية عن الشقاء و التعاسة، و هو بعينه معنى إعطاء الكتاب بشماله.
و لدينا -من جهة اخرى- أنّ الأفراد يحشرون يوم القيامة مع إمامهم الذي اتّبعوه في الدنيا و جعلوه قدوةً لهم، سواءً كان من أئمّة العدل أو من أئمّة الظلم. و سيحشر اولئك الأئمّة إلى الجنّة أو النار، فيُحشر معهم أتباعهم و رعاياهم و يلحقون بهم إلى الجنّة أو إلى النار.
و سنبحث في هذا الأمر إن شاء الله تعالى مفصّلًا في بحث الشفاعة، استناداً على الآيات القرآنيّة، و نبيّن كيفيّة اللحقوق بالأئمّة و القادة يوم القيامة و دخول الجنّة أو النار، علماً بأنّ الروايات الواردة في هذا المجال روايات شيّقة و متضمّنة للكثير من المعارف. أمّا في هذا المجال فسنتطرّق لذكر بعض المطالب في بيان كيفيّة الكتاب؛ فقد ورد في القرآن الكريم:
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ، وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا.۱
أي أنّ من لم يفتحوا أعين بصائرهم في الدنيا، فقضوها عُمْياً لا يبصرون شيئاً من الامور المعنويّة، أسرى شهواتهم و هواجسهم النفسانيّة، سيكونون في الآخرة عُمْياً، لا يهتدون سبيلًا.
و قد وردت في هذه الآيات عبارة وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا بدلًا من عبارة مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ، أي أنّ
الشمال المقابل لليمين ليس إلّا الشقاء و عمى الباطن الضلال. تقول الآيات: إنّا ندعو كلّ جماعة بواسطة إمامهم، و إنّ كتاب من يُعطون كتابهم من جهة أيمانهم كذا و كذا ... فالإمام -إذاً- غير اليمين و جهة السعادة، و غير الكتاب و صحيفة الأعمال. و سيُدعى السعداء بواسطة إمامهم، فيصلهم كتابهم من جهة سعادتهم؛ و مثل الإمام مثل المغناطيس الذي يجذب -ضمن مجاله المغناطيسيّ- جميع الأشياء المماثلة لطبيعته، و كما يجتذب المغناطيس ذرّات الحديد و لا يجتذب ذرّات النحاس و النيكل و الخارصين، فإنّ أئمّة الحقّ و العدل يجتذبون أتباع الحقّ و العدل، أمّا أئمّة الباطل فيجتذبون المنحرفين المعتدين أتباع الباطل.
ذرّه ذرّه كاندرين ارض و سماست | *** | جنس خود را همچو كاه و كهرباست |
معده نان را مىكشد تا مستقرّ | *** | مىكشد مر آب را تفّ جگر |
چشم جذّاب بتان زين كويهاست | *** | مغزجويان از گلستان بويهاست |
ز انكه حسّ چشم آمد رنگ كش | *** | مغز و بيني مىكشد بوهاي خش۱ |
زين كششها أي خداى راز دان | *** | تو به جذب لطف خودمان ده امان۱ |
و بينما يختلط الجميع في عالم الكثرة و الاعتبار في الهيئة الظاهريّة، فإنّهم يفترقون -بلحاظ النزعات الباطنيّة- إلى طوائف و فرق و ملل متفاوتة، فتتبع كلّ طائفة إماماً معيّناً. و سيدعو الله تعالى يوم القيامة -الذي تبرز فيه الحقائق و تتجلّى- كلّ طائفة بإمامهم، فيصل كتاب السعداء إليهم من جهة السعادة، و يُدعَون بواسطة إمام الحقّ و السعادة. أمّا الأشقياء فيصلهم كتابهم من جهة الشقاء، و يدعون بواسطة إمام الباطل و الشقاء.
و من هنا فإنّ إمام الحقّ السعيد له صفة السعةادة و هي اليمين، و هذا اليمين (أي السعادة) هو نعت الإمام و صفته. لذا فإن تفريع فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ هو تفسير لـ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ.
تقول الآية: إنّ الإمام باعتباره يمثل مركز اجتذاب مَن يشاكلونه و يماثلونه في السنخيّة، فإنّ مَن لهم سنخيّة مشهودة في الرحمة و العافية سيدعون بواسطة إمام الحقّ. أمّا إمام الباطل الجائر الشقيّ، فإنّه سيدعو بصفة الشقاء من يشاكله و يجانسه فيجمعهم حوله.
تقول الآية: بِإِمامِهِمْ و لا تقول إلى إمامهم. كما تقول في شأن الكتاب: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا٢ و لا تستخدم تعتبر بكتابها. فهي -إذاً- قد استعملت باء السببيّة بالنسبة إلى الإمام، بينما استعملت لفظ إلى بالنسبة إلى الكتاب. فتكون الدعوة بالإمام غير الدعوة إلى الكتاب.
و يستفاد من ورود جملة وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الآية الواردة في سورة الإسراء بدلًا من جملة وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ أنّ أصحاب الشمال لا نور لهم في الآخرة، و أنّهم و إمامهم عُمْي لا يبصرون، التابع و المتبوع من أهل الشقاء عُمْيٌ بأجمعهم. التابع و المتبوع كلّهم يذهبون إلى جهنّم. العالم هناك بالنسبة إلى الأشقياء عالم العمى و فقدان البصيرة و الضلال و انعدام النور، و عالم الحرمان من التطلّع إلى آيات الله و جماله. و قد تكرّر في القرآن الكريم تعبير «ضلّ» بالنسبة إلى أهل الشقاء؛ أي أنّهم سيضيعون و يفنون و يعجزون عن المقاومة في عالم الأنوار.
و قد جعل العُمْيَ في هذه الآية مقابل أصحاب اليمين ليُفهم أنّ أصحاب اليمين هم أصحاب النور و البصيرة في عالم المعنى و التجرّد، إذ إنّهم امتلكوا البصيرة في الدنيا، و ستتجلّى هذه البصيرة فيهم يوم القيامة في هيئة إبصار ملكوتيّ. و حين تشرع في التفصيل فتذكر أنّ السعداء يُساقون إلى السعادة بواسطة إمامهم، و تجعل -في المقابل- على الأشقياء يوم القيامة إمام الباطل و كتاب عماهم، كتاب الشقاء، فيتّضح بجلاء أنّ أئمّة الباطل لا نور لهم.
السعداء ذوو نور يوم القيامة
السعداء ذوو نور، و الأشقياء و الضالّون ذوو عَمَى و ظُلمة، سواءً في ذلك إمامهم و مأمومهم.
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ،۱ إلى أن يصل إلى الآية الشريفة:
وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ
رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ.۱
و المراد بالنور الذي يسعى بين أيدي المؤمنين و يصلهم من جهة أيمانهم (أي من جهة السعادة): أئمّتهم الذين يحصلون بواسطتهم على النور الذي يهتدون به في طريقهم، و يقومون -على ضوء هُداه- بجميع أعمالهم الصالحة في الدنيا.
فأئمّة اليمين -إذاً- هم أئمّة الرحمة و الكرامة و الفضل السعادة و النور؛ أمّا أئمّة الشمال فأهل الظُّلمة و النكبة و الذلّ و العمى و المحنة. و الناس طائفتان، طائفة تتّجه نحو السعادة فتصبح أصحاب اليمين، و اخرى تتّجه نحو الشقاء فتصبح أصحاب الشمال العميَ الذين يُعطَون كتابهم من وراء ظهورهم، فتتصاعد صرخاتهم بالويل و الثبور، ثمّ يقدمون إلى جهنّم فيصْلَوْنها داخرين.
في تلك الجهة اناس تسعى بين أيديهم أشِعّة النور فتضيء طريقهم إلى الجنّة؛ و في هذه الجهة ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ،٢ و اناس غارقون في الظلمات المتراكمة الثقيلة؛ و كلُّ يقتفي أثر إمامه و يلحق به.
و قد ورد التعبير في سورة الواقعة (٥٦) بـ أَصْحابُ الشِّمالِ مقابل أَصْحابُ الْيَمِينِ السعداء:
وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ... وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ، كما ورد التعبير عنهم أحياناً بأصحاب المشأمة و النكبة:
وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ.
و أحياناً اخرى بأهل الكذب و الضَّلال:
وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ، وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ.۱
فالمكذّب هو الذي يعقل و يكذّب، أمّا الضالّ فهو غير المهتدي، الذي لا حظّ له من عالم الحقائق، و لا سبيل له إلى نشأة الأنوار.
في تفسير آية: مَا أغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلطَانِيَهْ
المكذّبون الضالّون و أصحاب الشمال و أصحاب المشأمة هم -إذاً- طائفة واحدة، و هم الذين عجزوا عن السير قدماً في عالم الحقائق، و الذين انغمروا في عالم الآراء و الأفكار الشيطانيّة، و انصرفوا إلى مِتَعهم منساقين بالهوس النفسانيّ و الغفلة. و سيضيع أمثال هؤلاء في غمرتهم و يموتون و يدفنون هناك. أ لم نقرأ عنهم في سورة الحاقّة:
ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ؟
فهؤلاء هم أصحاب الشمال و أصحاب المشأمة الذين اعتمدوا في الدنيا على ثرواتهم و قومهم و عشيرتهم، و اتّكلوا على المقام و السلطة و الرعيّة و الجيش و الدرهم و الدينار، خُيّل لهم أنّ عالم الاعتبار موصول بذلك العالم، و أنّ ما يعتمدون عليه هنا سينفعهم هناك، و أنّى لذلك أن يتحقّق، لأنّ هذا العالم عالم الاعتبار، أما ذلك العالم فعالم الحقيقة؛ و هما عالمان متعاكسان متضادّان.
هذا العالم عالم المجاز، أمّا ذاك فعالم الواقعيّة؛ و من هنا فإنّ الموقع الذي كسبه الإنسان هنا سيضيع، و الدرجة التي اتّخذها لنفسه ستضلّ، لأنّها لا تمتلك سبيلًا إلى تلك النشأة الاخرى. كما أنّ الملايين التي حصل عليها هنا سوف لن يحمل منها -و لن يقدر أن يحمل منها- ذرّة واحدة، كما أنّه
لن يستطيع أن يصطحب معه ناصراً واحداً عند مجيء عزرائيل، أو أن يستعين به على أقلّ تقدير، و لو نَاصَرَه في هذه النشأة جميع أهل العالم.
و ستراهم يعترفون آنذاك: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ.
ثمّ إنّ هذه الطوائف ستلحق بأئمّتها مع جميع خصوصيّاتها، فيلحق المؤمنون بأئمّتهم الذين يسيرون في عالم النور بأعين قريرة، متّجهين إلى عالم الحقيقة.
فالمؤمن حين يتحرّك في الدنيا، فإنّما يتحرك و باطنه متّجه إلى الله تعالى، و حين يقوم بعمل ما، فإنّه يفعله و قلبه متّجه إلى الله سبحانه. فهو يصوم و يتاجر و يجاهد متّجهاً إليه تعالى، حتّى أنّه يذهب إلى بيت الخلاء و باطنه متّجه إليه سبحانه.
أ لم ترد أدعية خاصّة يقرأها الإنسان عند دخوله بيت الخلاء و عند مكثه فيه و عند خروجه منه، و أنّ عليه ذكر الله سبحانه في ذلك الموضع أيضاً؟
أي أنّ على الإنسان أن لا يغفل عن الله لحظة و لا آناً واحداً، حتّى في ذلك الموضع. المؤمن يتّجه إلى ربّه باستمرار سائراً نحو الأمام، ملتفتاً إلى المسير الذي يطويه لحظةً بعد اخرى. فالمؤمنون يُلحقون بأئمّتهم الذين يتقدّمونهم في مسيرتهم إلى الأمام.
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ.
فهناك عالم النور، حيث النور يسطع من وجود الإمام و كيانه. فهو نور، و نفسه القدسيّة نور محض، و المؤمنون يتحرّ كون خلفه فَيَصِلون و يُلحقون.
و يمكن الآن فهم الروايات و الأخبار الواردة بأنّ مَن عمل العمل
الفلانيّ كان معنا، و مَن عمل العمل الفلانيّ كان في جوار رسول الله و الأئمّة و برفقتهم، ساكناً في جنان الخُلد؛ لأنّ في عالم اللحوق معيّة صرفة.
أمّا الذين يتبعون القادة الظالمين الجائرين و فراعنة العصر الداعين الناس إلى عبادتهم و طاعتهم، فيجعلونهم أصناماً يعكفون على عبادتها، فإنّهم سيجدون المعيّة مع أئمّة الجور يوم القيامة و يلحقون بهم، فيُحشرون جميعاً إلى جهنّم و بئس المصير:
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.۱
فكيف -يا ترى- ستتحرّك يوم القيامة هذه الطائفة المسيئة ذات السيرة الرديئة؟ لقد ذكرنا بأنّهم سيُدعون بواسطة إمامهم: نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ.
أمّا كيفيّة سيرهم و التحاقهم بأئمّة الجور، فقد جاء في القرآن الكريم: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ.٢
هيئة وجوه أئمّة أهل النار و مأموميهم
يسير الإمام الجائر في المقدّمة فيتبعه قومه، و بواسطته يصل إلى أتباعه كتابُهم، فما ذا يعني قولنا بأنّهم يُعطون كتابهم من وراء ظهورهم؟ و أيّ جهة هي «وراء ظهورهم»؟
جاء في سورة النساء:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها.٣
و المطموس يعني الممحي و المندرس؛ أي أنّنا سنمسح وجوه أصحاب النار، الأئمّة منهم و الأتباع، بحيث تختلط أعينهم و انوفهم و شفاههم و تمَّحي، فتستحيل وجوههم صفحات ممحيّة مندرسة، ثمّ نقلب وجوههم إلى أقفيتهم، فتمسي أبدانهم إلى الأمام و وجوههم إلى الخلف. و لأنّ الأئمّة من أصحاب جهنّم، فإنّ أتباعهم سيتوجّهون نحو أئمّتهم بوجوه مقلوبة إلى القفا، و من ثمّ فإنّ كتابهم الذي يُعطى لهم من قبل أئمّتهم، سيُعطى لهم من ورائهم. و من الجليّ أنّه لو شاء أحد أن يعطى كتاباً لشخص ذي وجه مقلوب إلى قفاه، فإنّه سيُعطيه إيّاه من وراء ظهره.
إنّ عالم الحقائق و الأنوار متّجه إلى الإمام نحو عالم التجرّد و الإطلاق، و نحو عالم النعمة و الرحمة، و عالم القُرب و المنزلة، و العوالم اللامتناهية و غير المقيّدة.
أمّا عالم الشهوة و الغضب و الوهم الذي هو من لوازم عالم المادّة و الطبع أظلم العوالم، فيقع -بطبيعة الحال- في المؤخّرة باعتبار كثافته و ثقله. فأهل الدنيا مشغوفون بها، فيتحرّ كون إلى الامام في مسيرهم إلّا أنّ قلوبهم متّجهة نحو المادّة و آثارها، فتكون النتيجة انقلاب وجوههم إلى الخلف.
يخلد أهل الدنيا إليها، و يتعاملون مع الأموال تعاملًا مجازيّاً، و يولعون باللهو و اللعب، إلّا أنّ السير باتّجاه الله و الموت و عوالم التجرّد التي تعقب هذا العالم، هو سير حتميّ و ليس اختياريّاً، فانقضاء الزمن و مجيء الأجل يحرّك المرء كلّ لحظة نحو الله سبحانه، شاء المرء أم أبي، بَيدَ أنّ باطنه سيبقى ملتفتاً إلى الدنيا. تتحرّك النفس باتّجاه الله سبحانه، أمّا وجه الإنسان فمتوجّه نحو الدنيا. و حين يحين يوم الجزاء يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ، و تتجلّى حقيقة الحوادث الواقعة في هذا العالم، فإنّ هذه الصورة
تمثّل ظهور الإمام و المأموم المشغوفينِ بالدنيا و المغمورينِ في الغفلة. و مع أنّ المسير تجاه الله تعالى، إلّا أنّ الباطن متوجّه نحو الأرض: وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ،۱ متوجّه إلى الأرض و شهواتها.
فالتوجّه القلبيّ و الحقيقيّ هو إلى الأرض، أمّا السير الجبريّ الحتميّ فإلى الله تعالى. و هو سير اضطراريّ عامّ لجميع الأفراد. فالوجهة اللااختياريّة للإنسان تريد الاتّجاه إلى الله و اللحوق بالمؤمنين و السير قُدماً إلى عالم النور و الوصول إلى الجنّة بالرغم من أنّ الالتفات إلى الدنيا، و أمثال هؤلاء يُعطَون كتابهم من وراء ظهورهم.
و بما تقدّم يتبيّن أنّ المكذّبين و الضالّين يلحقون بأئمّتهم و يذهبون معهم إلى جهنّم، و يُعطَوْن كتابهم من جانب الشمال، جانب الشقاء، فيدركون بوضوح و بالوجدان ذلّ و نكبة أعمالهم و فقدان بصيرتهم.
حقيقة الإمام المبين و الكتاب المبين
بينما يلحق المؤمنون ذوو العمل الصالح بأئمّتهم في عالم النور و يُعطَون كتابهم من جانب اليمين بسبب الإمام الحقّ، حيث يُستنسخ لهم نسخة من عالم الوجود و كتاب التكوين تدلّ على حقيقة العمل و جلوته الملكوتيّة، فيحيطون بكلّ أعمالهم، و يُوفّى كلّ امرئ ما عمل من أعماله الموجودة بأجمعها في الكتاب المبين و الإمام المبين، سواءً في ذلك أعمال الصالحين أم أعمال الطالحين.
وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ.٢
و لإيضاح هذا المطلب نقول: إنّ لدينا جسداً و روحاً، و هذا الجسد و هذه الروح ليسا في معزل عن بعضهما، بل هما أمران مرتبطان يُقال
لمجموعهما «أنا».
و حين نقول: «هيّئ فراشاً للنوم لأنّ السيّد حسن يريد النوم!» فإنّ هذا الفراش إنّما يبسط لجسده، و هو -من ثمّ- فراشه المبسوط لأجل استراحة جسده و سلامته.
ثمّ نقول: «اقرأ القرآن ليستفيد السيّد حسن منه» و نقصد بطبيعة الحال روحه التي ترتاح لذلك. فنحن ندعوها «السيّد حسن» بلحاظ العلاقة بين الروح و الجسد. أي أنّ لفظ «الإنسان» يُطلق على كلّ واحد من مراتب النفس و درجاتها النازلة من الجسد و القوى.
إنّ الكتاب المبين يمثل نقلًا من عالم الوجود، و نسخة حقيقيّة و واقعيّة منه، لكنّ هذه النسخة تشير إلى حقيقة عالم الوجود. أي أنّ هذه الموجودات الخارجيّة تمثّل قالب هذا الكتاب، أمّا روحه فهي الإمام المبين (أي مقام الولاية) الذي يجسّد روح و حقيقة جميع الموجودات على نحو التجرّد و الانبساط.
و لو مثّلنا لذلك، فإنّ لنا روحاً و لهذا العالم روح، فحقيقتنا هي روح بدننا، أمّا حقيقة جميع العوالم التي أوجدها الله تعالى فليست إلّا الإمام، و هو معنى الأسماء الحسنى الكلّيّة الإلهيّة.
فعالم الوجود -إذاً- له روح و نفس هي الولاية و الإمام، و هي معنى وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ.
أي أنّ الإمام المبين هو روح جميع الموجودات. و مهما عملتم من عمل فإنّ الأرض ستستلمه و تسجّله، لأنّ روحها تحت سيطرة الإمام المبين و الكتاب المبين.
و بصورة عامّة فإنّ الإنسان لم يُستثنَ من سلسلة الموجودات الكائنة التي تشكّل هذا الكتاب، فهو و أفعاله جزء من هذا الكتاب. و عليه أن
لا يرتكب حتّى الذنب الصغير، إذ سيأتي يوم و يرى هذه الذنوب و المعاصي الصغيرة التي لم يأبه لها و لم يعبأ بها، و قد تراكمت في ذلك الكتاب المبين فصارت أشبه بالتلّ: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.۱
روى الكلينيّ في «الكافي» بسنده عن ثعلبة، عن زياد قال:
قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ (الصَّادِقُ) عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ نَزَلَ بِأرْضٍ قَرْعَاءَ فَقَالَ لأصْحَابِهِ: إئتُوا بِحَطَبٍ! فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللهِ نَحْنُ بِأرْضٍ قَرْعَاءَ مَا بِهَا مِنْ حَطَبٍ! فَقَالَ: فَلْيَأتِ كُلُّ إنْسَانٍ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ. فَجَاءُوا بِهِ حَتَّى رَمُوْا بِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: هَكَذَا تَجْتَمِعُ الذُّنُوبُ. ثُمَّ قَالَ: و إيَّاكُمْ وَ المُحَقَّرَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ فَإنَّ لِكُلِّ شَيءٍ طَالِبَاً، ألَا و إنَّ طَالِبَهَا يَكْتُبُ «مَا قَدَّمُوا ءَاثَارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ».٢
في الروايات الواردة في علم الإمام
هذا بشأن تسجيل الأعمال و تدوينها؛ أمّا في مقام الولاية (الإمام المبين و روح العالم) فقد نقل البحرانيّ في «تفسير البرهان» عن الشيخ في كتاب «مصابيح الأنوار» رواية جديرة بالتأمّل:
رَوَاهُ عَنْ أبي ذَرٍّ قَالَ: كُنْتُ سَائِرَاً في أغْرَاضِ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذْ مَرَرْنَا بِوَادٍ، و نَمْلُهُ كَالسَّيْلِ سَارٍ. فَذَهَلْتُ مِمَّا رَأيْتُ، فَقُلْتُ:
اللهُ أكْبَرُ جَلَّ مُحْصِيهِ! فَقَالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ و لَكِنْ قُلْ جَلَّ بَارِيهِ! فَوَ الذي صَوَّرَكَ إنِّي احْصِي عَدَدَهُمْ و أعْلَمُ الذَّكَرَ مِنْهُمْ وَ الانْثَى بِإذْنِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ.٣
كما روى في «تفسير البرهان» عن الشيخ في «مصابيح الأنوار» عن عمّار بن ياسر قَالَ: كُنْتُ مَعَ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ في بَعْضِ غَزَواتِهِ فَمَرَرْنَا بِوادٍ مَمْلُوٍّ نَمْلًا، فَقُلْتُ: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! تَرَى يَكُونُ أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَعْلَمُ كَمْ عَدَدُ هَذَا النَّمْلِ؟!
قَالَ: نَعَمْ يَا عَمَّارُ؛ أنَا أعْرِفُ رَجُلًا يَعْلَمُ كَمْ عَدَدَهُ و كَمْ فِيهِ ذَكَرٌ و كَمْ فِيهِ انْثَى!
فَقُلْتُ: مَنْ ذَلِكَ -يَا مَوْلَايَ- الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: يَا عَمَّارُ! مَا قَرَأتَ سُورَةَ يَس «وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ»؟!
فَقُلْتُ: بَلَى يَا مَوْلَايَ. قَالَ: أنَا ذَلِكَ الإمَامُ.
و ينقل في «تفسير البرهان» في هذا الموضع، في تفسيرالآية وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ. روايات عديدة دالّة على أنّ المراد بالإمام المبين هو أمير المؤمنين عليه السلام، كما ذُكر في حديث المفضّل أنّهم الخمسة الطيّبة. و على كلّ تقدير فإنّ المراد بذلك هم جميع الأئمّة الطيّبين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين. و قد اتّضح في مباحثنا السابقة في هذا الكتاب «معرفة المعاد»، و في مباحثاتنا المفصّلة في كتاب «معرفة الإمام» أنّ من يطّلع على مقام الولاية يعلم أنّ الإمام فوق الزمان و المكان، و أنّ له هيمنة على جميع الموجودات الزمنيّة و المكانيّة، و علماً بكلّ ما وُجد و يوجد، لأنّ نفسه الناطقة فوق الزمان، و لأنّ وجوده عقل محض.
و قد جاء في كثير من الروايات أنّ الأئمّة الأطهار عليهم السلام مطّلعون على جميع عوالم الدنيا، السابقة منها و الحاليّة و المستقبليّة؛ أي أنّ الولاية (التي هي مقام العبوديّة المحضة) هي من القُرب بحيث لا يفصل بينها و بين حضرة الحقّ تعالى أيّ فاصل، و حين يختصّ أحدٌ بذلك المقام فإنّه يحصل على إحاطة علميّة و حقيقيّة بجميع موجودات العالم.
عسى أن يأتي اليوم الذي نعرف فيه الإمام إن شاء الله تعالى و ندرك فيه حقيقة هذه المسألة، و ندرك أنّ العالم جسم يمثل الإمام روحه، و أنّ هذه الروح شاعرة عالمة مدركة، بحيث تكون جميع أعمال الإنسان في محضرٍ من الإمام و مشهده، لأنّه الكتاب المبين و الكلمة الإلهيّة التي يُحصي الله تعالى فيها كلّ شيء.
و لقد أنشد ابن الفارض في ذلك إنشاداً لا أبدع منه و لا أروع:
۱- فَسِرْتُ إلَى مَا دُونَهُ وَقَفَ الالَى | *** | وَ ضَلَّتْ عُقُولٌ بِالعَوَائِدِ ضَلَّتِ |
٢- فَلَا وَصْفَ لِي وَ الوَصْفُ رَسْمٌ كَذَاك الا | *** | سْمُ وَسْمٌ فَإنْ تَكْنِي فَكَنِّ أوِ انْعَتِ |
٣- و مِنْ أنَا إيَّاهَا إلَى حَيْثُ لَا إلَى | *** | عَرَجْتُ و عَطَّرْتُ الوُجُودَ بِرَجْعَتِي |
٤- و عَنْ أنَا إيَّايَ لِبَاطِنِ حِكْمَةٍ | *** | وَ ظَاهِرِ أحْكَامٍ اقِيمَتْ لِدَعْوَتِي۱ |
٥- و مِنِّي أوْجُ السَّابِقِينَ بِزَعْمِهِمْ | *** | حَضِيضُ ثَرَى آثَارِ مَوْضِعِ وَطْأتِي |
٦- و آخِرُ مَا بَعْدَ الإشَارَةِ حَيْثُ لَا | *** | تَرَقِّي ارْتِفَاعٍ وَضْعُ أوَّلِ خُطْوَتِي |
۷- فَمَا عَالِمٌ إلَّا بِفَضْلِيَ عَالِمٌ | *** | وَ لَا نَاطِقٌ في الكَوْنِ إلَّا بِمِدْحَتِي |
۸- و لَا غَرْوَ أنْ سُدْتُ الالَى سَبَقُوا وَ قَد | *** | تَمَسَّكْتُ مِنْ طَهَ بِأوْثَقِ عُرْوَةِ |
المَجْلِسُ الثَّالِثُ وَ الأرْبَعُونَ: الإمَامُ المُبِينُ، وَ كِتَابُ التَّكْوِينِ، وَ نُسْخَةُ صَحِيفَةِ الأعْمَالِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ.۱
سبق أن ذكرنا أنّ للعالم الكلّيّ بدناً و جسداً و نفساً كما للإنسان بدن و نفس، و أنّ بدن الإنسان و نفسه انموذج من بدن ذلك العالم الكلّيّ و نفسه. و كما تحصل في بدننا تدابير معيّنة، و تقوم أعضاؤنا و جوارحنا بأعمال معيّنة تبعاً لحياة نفسنا و تدابيرها و إرادتها و اختيارها؛ فإنّ تغييرات و حوادث تحصل في العالم الكلّيّ و عالم الخلقة بواسطة حياة تلك النفس الكلّيّة الحاكمة على ذلك الجسد. و تُدعى تلك النفس الكلّيّة المسيطرة على العالم بالإمام، أي الإمام المبين، كما يُدعى عالم الخلقة و بناؤه الشامخ -العلويّ منه و السفليّ- بالكتاب المبين.
و قد دُعي بالكتاب باعتباره مجموعة كلمات لكلّ منها دلالة على ما
جبله الخالق في ذلك الموجود و ما أودعه من أسرار، فجعله مظهراً لذاته و صفاته و كاشفاً عنها، بنفس الطريقة الذي يُقرأ فيه الكتاب الخارجيّ المتضمّن لمجموعة كلمات حاكية عن المعاني الموجودة في ذهن كاتبه و كاشفة عنها.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الموجودات الخارجيّة التي يحكي كلّ منها بدوره عن تلك الذات المقدّسة الخالدة التي أوجدته. و بهذا اللحاظ فإنّ كلّ واحد من الموجودات هو كلمة الله، و مجموع هذه الموجودات يُشكّل كتاب الله تعالى.
لذا فإنّ الإمام -و هو مقام الولاية الكلّيّة الأعلى من الزمان و المكان- يمثّل روح كتاب الخلقة و الوجود و حقيقتهما. من هذا المنطلق فإنّ للإمام سيطرة على جميع الأفراد بما فيهم أهل الجنّة و النار، لأنّ جميع الموجودات منطوية في تلك الحقيقة الكلّيّة للولاية. فليس الأشقياء و الجهنّميّون معزولين عن ذلك الكتاب، و لا سيطرة الإمام و ولايته قاصرة عن أن تشملهم و تعمّهم، لكنّ الاختلاف يتجسّد في أنّ أصحاب اليمين و السعداء يصلون إلى أئمّتهم و يلحقون بهم و يرافقونهم إلى الجنّة. إلّا أنّ جميع هذه الامور -من حيث المجموع- تخضع لسيطرة و علم و حياة و إرادة تلك الولاية الكلّيّة التي ترسل أهل الجنّة إلى الجنّة، و أهل النار إلى جهنّم.
و تتّضح هذه الحقيقة بجلاء من الروايات المستفيضة من العامّة و الشيعة: عَلِيّ قَسِيمُ الجَنَّةِ وَ النَّارِ.۱ و شرح هذه الجملة ذات المعاني الراقية يحتاج إلى كتب مطوّلة.
معنى كتاب التكوين، و الاستنساخ منه يوم المعاد
إنّ ذلك الكتاب الأصليّ هو تلك الموجودات -من مُلكيّة و ملكوتيّة- التي تجسّد ظهور حقائق أعمال الإنسان. أمّا خصوص نتائج الأعمال التي يشاهدها الناس يوم القيامة (أي كتابهم و صحيفة أعمالهم) فتُستنسخ من ذلك الكتاب الأساس:
إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.۱
و على هذا الأساس يجري استنساخ نسخة من الكتاب المبين الواقع تحت سيطرة روح الولاية الكلّيّة فيما يتعلّق بأصحاب اليمين، فتتشخّص الأعمال المرتبطة بهم في ذلك الكتاب المبين، كما يجري استنساخ نسخة لأصحاب الشمال و الأشقياء، و يعني ذلك أنَّه سيتشخّص القدر المتعلّق بكلٍّ منهما من الكتاب المبين، فُيدعى الأشقياء إلى كتابهم، و السعداء أيضاً إلى كتابهم. و هذه الدعوة تحصل بواسطة إمامهم الذي ينبغي أن يلحقوا به و يرافقونه إلى الجنّة أو إلى النار، سواءً كان إمام الحقّ أم إمام الباطل. و جميع أئمّة الحقّ و أئمّة الباطل الذين كانوا السبب في دعوة أصحاب الجنّة و أصحاب النار مندكّون و منطوون في ذلك الكتاب المبين و فانون في تلك الولاية الكلّيّة.
و قد تبيّن -إذاً- بجلاء معنى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، كما تبيّن معنى الإمامة و الولاية الكلّيّة و مقامها. أمّا الأئمّة الجزئيّون فينضوون بأجمعهم تحت مقام الولاية و يحتلّ كلّ منهم مقامه فيه. و سنذكر إن شاء الله تعالى في بحث الأعراف منزلة الأفراد القائمين على الأعراف و المشرفين على جهنّم و الجنّة كلتيهما.
و نلحظ أنّ كثيراً من الآيات القرآنيّة قد عدّت الإمامة و الولاية واحدة
في المصداق، أي أنّها عدّت الإمام وليّاً، بَيدَ أنّها لم تعدّ كلّ وليّ إماماً. فقد ورد -مثلًا- في الآية الشريفة الواردة في ولاية رسول الله و أمير المؤمنين عليهما السلام:
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ.۱ التعبير عن إمامتهم بالولاية، إلّا أنّ الله تعالى لم يعبّر في أيّ موضع من القرآن الكريم عن ولايته بالإمامة، كما لم يعبّر عن نفسه بالإمام: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ.٢
و ليس لدينا أيّ تعبير ينسب الإمامة إلى الله عزّ و جلّ، و السرّ في ذلك هو ضرورة وجود سنخيّة بين الإمام و المأموم، لأنّ مفهوم الإمام هو الاسوة و القدوة و القائد، بينما المأموم هو المقتدي و المتأسّي الذي ينبغي له الاقتداء في جميع أفعاله بالإمام. لذا ينبغي في الإمامة و المأموميّة و الائتمام وجود سنخيّة و مشابهة بين الإمام و المأموم، أي أنّ جميع الأفراد الذين يقتدون بالإمام هم من البشر، فتعيّن أن يكون النبيّ و الإمام -بدورهما- من البشر: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.٣
للّه تعالى ولاية لا إمامة
و من ثمّ فلا إشكال في التعبير عن مقاماتهم بالإمامة، و بأنّ له مقام الولاية إضافة إلى مقام الإمامة. أمّا الذات القدسيّة للحقّ المتعال فلا مسانخة لها مع المخلوق، لذا فلا ندعو الله إماماً، كما ليست الإمامة من مقامات الله و لا من صفاته و أسمائه؛ إلّا أنّه تعالى وليّ، لأنّ الولاية تعني كشف الحجاب بين شيئين بحيث لا يفصل بينهما ما ليس منهما و من سنخهما.
و قد عُبَّر عن القُرب بين شيئينِ بهذه العناية بتعبير الولاية.
و من هنا فإنّ إزالة الحجاب بين العبد و بين الله تعالى، بحيث لا يبقى من العبد شيء في البين، و بحيث يندكّ العبد و يفنى و يصل إلى مقام العبوديّة المطلقة، سيوجب صدق معنى الولاية بالنسبة إلى ذلك العبد.
و قد عُبّر عن القُرب بين شيئين بالولاية، كولاية الوليّ و المولّى عليه، و الولاية على الصغير، و الولاية على الأموال و الأعراض، و عُبِّر عن ولاية الله على جميع الموجودات بالولاية التكوينيّة، و على عباده المقرّبين بالولاية التشريعيّة.
و سيلحق المؤمنون يوم القيامة بأئمّتهم و يخضعون لولايتهم؛ كما سيلحق الكفّار بأئمّتهم و يخضعون لولايتهم، دون أن تعني التبعيّة و الخضوع للولاية تصرّف اولئك الأولياء بأوليائهم كما يحلو لهم، أو إدخالهم إيّاهم بإرادتهم الجنّة أو النار؛ بل معناها خضوع الأتباع لولاية أئمّتهم و انقيادهم لأوامرهم و نواهيهم في الدنيا و هي ولاية ستتجلّى يوم القيامة في خضوعهم لولاية أئمّتهم دون أن يمكنهم تجاوزهم و تخطّيها.
و لدينا الكثير من الأخبار التي تبيّن هذا المعنى و تُظهر كيفيّة تصرّف الكفّار مع أئمّتهم يوم الجزاء، حين يتّضح عجز اولئك الأئمّة عن حلّ مشاكل أوليائهم و عن إيصالهم إيّاهم إلى بعض الدرجات و المقامات، لأنّ ولايتهم تعني أنّ هؤلاء الأفراد قد سيقوا في الدنيا إلى جهات معيّنة فهم الآن ضمن تلك الجهات و الحدود، و أنّ ذلك السوْقَ و الانسياق سيتجليّان الآن في هيئة أنواع العذاب البرزخيّ و التبعيّة البرزخيّة.
هنالك حيث يتقدّم فرعون قومه فيتبعونه و يدخلون جهنّم فيُركمون فيها، لقد كان فرعون مقدّم في هذه النشأة، و هو كذلك مقدّم في تلك. و كما تصدّر قومه في دعوتهم لعبادة الأصنام و للفحشاء و المنكرات،
فسيتصدّرهم هناك أيضاً ليصلى النار و يذوق صنوف العذاب.
الدعوة إلى الإمام هي غير الدعوة إلى الكتاب
و عليه، فإنّ بحثنا هذا و قولنا بهيمنة أئمّة الحقّ ذوي مقام الولاية على جميع أئمّة الحقّ و أئمّة الباطل لا يتنافي مع ما ذكرنا سابقاً من أنّ الدعوة إلى الكتاب غير الدعوة للإمام. لأنّنا ذكرنا أنّ كلّ امّة تُدعى إلى كتابها إنّما تُدعى بواسطة أئمّة الحقّ أو أئمّة الباطل، و علّة عدم المنافاة هي أنّ نسخة من أعمال الأفراد سيجرى استنساخها من الإمام المبين الذي يمثّل روح الكتاب المبين:
هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.۱
فأساس ذلك الكتاب الناطق بالحقّ هو اللوح المحفوظ الذي تُستنسخ منه الأعمال، و هو ذلك الأصل المتبوع و الإمام المبين و مقتدى البشر الذي تدور على محوره امور العالم، حيث يتسلّم أهل الجنّة و أهل النار كتبهم بواسطة هذا الإمام هذا الكتاب. بَيدَ أنّ ذلك الكتاب الذي يُدعون إليه ليس هذا الكتاب المعيّن، بل نسخة مستنسخة منه تصبح كالطائر الذي يلازم عنق الإنسان، و تدلّ على ذلك الآية القرآنيّة.
وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.
فالناس -إذاً- يُدعون إلى كتابهم بواسطة الكتاب الأصل الذي يمثّل الإمام المبين روحَه، و هي نكتة جديرة بالتأمّل.
و خلاصة الأمر أنّ الناس صنفان: أصحاب اليمين و أصحاب الشمال؛ و لا تعني تسمية أصحاب اليمين أنّهم يُعطون كتابهم بأيمانهم، كما لا تعني تسمية أصحاب الشمال أنّهم يعطون كتابهم بشمالهم؛ بل المراد بذلك أنّ كتب الصنف الأوّل تصلهم من جانب السعادة و الرحمة
و العافية، بينما كتب الصنف الثاني تصلهم من جانب الشقاء و الشؤم و اللؤم؛ و أنّ صحيفة العمل هي نفس عمل الإنسان الذي جرى استنساخه، ليواجه الإنسان بكلّ ما فعله في دار الدنيا.
و قد عبّرت الآيات القرآنيّة الواردة في أرجاء القرآن الكريم، و التي تحدّثت عن إعطاء الأفراد كتابهم يوم القيامة، عبّرت عن جهة الخير و الرحمة باليمين، و عن جهة الذلّ و النكبة و الشقاء بالشمال و وراء الظهر، مع أنّنا نعلم أنّ بعض آيات القرآن قسّمت الناس إلى ثلاثة أقسام، و أنّ هناك فئةً ثالثة غير الفئتين الاوليين:
وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ، فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ، وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ، وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ.۱
فالمقرّبون هم الذين سبقوا جميع القوافل و فازوا بقصب السبق عليهم، و هم المقرّبون إلى حريم حضرة الحقّ تعالى. فأصحاب اليمين يُعطون كتابهم عن يمينهم، و أصحاب الشمال يُعطون كتابهم عن شمالهم أو من وراء ظهورهم، أمّا السابقون فليس لديهم كتاب أساساً. و مع أنّهم سبقوا أصحاب اليمين و حظوا بمقامات القرب الرفيعة، إلّا أنّهم لا يُعطون كتاباً، و هو ممّا يستدعي العجب، لأنّ أصحاب اليمين يحصدون نتائج أعمالهم، و يُوفّون كلّ ما فعلوا في الدنيا، و يرون أنفسهم في المراحل التي اكتسبوا فيها ملكاتهم و صفاتهم. أمّا بالنسبة إلى المقرّبين فليس هناك شيء، من هذا القبيل، فهم لا يُعطون كتاباً و صحيفة عمل، و لم يرد في القرآن الكريم ما يُشير إلى إعطاء المقرّبين كتاباً.
فما هو -يا ترى- ثواب هؤلاء الشرفاء الذين حظوا بقصب السبق من بين جميع أفراد البشر؟
لدينا آيات قرآنيّة استثنت المقرّبين (أي المخلَصين، بفتح اللام)، و قد ذكرنا بالتفصيل في بعض الأبحاث السابقة أنّهم طائفة مستثناة من كثير من الامور، كما أنّ الحكم العامّ للجزاء و الثواب و الإحسان الذي يُعطى للمحسنين لا يشملهم. و نتطرّق فيما يلي إلى ذكر ذلك بإجمال.
لدينا الآية القرآنيّة الكريمة: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ.۱
و الآية القرآنيّة: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ.٢
و باعتبار أنّ الآية المباركة: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ،٣ قد ذكرت أنّ جميع من على الأرض فانٍ و ميّت إلّا وجه الله، فيتّضح أنّ الآمنين من الفزع و الهلاك المسبّب عن نفخ الصور هم الأفراد الذين يدعون بـ «وجه الله».
كما ورد في موضع آخر: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.٤
أي أنّ العباد الذين أتمّوا دورة الإخلاص و تخطّوا مقام المخلِصين (بكسر اللام) و تجاوزوا المجاهدات النفسانيّة فصاروا مطهّرين منزّهين،
لا سبيل للشيطان للوصول إليهم. يُضاف إلى ذلك أنّ المخلَصين هم الذين يحمدون الحقّ تعالى كما هو أهله:
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.۱
أي أنّ جميع الأفراد -عدا هذه الفئة- لا يحمدون الله و لا يثنون عليه كما هو أهل له من الحمد و الثناء.
و لدينا أيضاً: فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.٢
أي أنّ جميع الناس يُحضرون للحساب و العرض في محضر الحقّ تعالى عدا عباد الله المخلَصين.
و أساساً فإنّ أهوال يوم القيامة و زمن الحساب المتطاول لخمسين ألف سنة، و سائر مواقف القيامة لا تشمل المخلَصين و المقرّبين و لا حضور لهم فيها، و عليه يتّضح أنّه ليس لهم صحيفة أعمال، و حيث لا قيامة لهم، فلا يمين و لا شمال و لا حساب و لا كتاب. لما ذا؟ لأنّ صحيفة الأعمال تتعلّق بالأعمال، و الحساب يتعلّق كذلك بالأعمال.
و غالباً ما يكون المقصد من أعمال الناس هو الحصول على نتيجة و جزاء ذلك العمل -خيراً كان أو شرّاً- لذا تعطى لهم صحيفة أعمالهم ليوفّون حقيقتها الملكوتيّة.
المخلَصون لا يمتلكون صحيفة أعمال
أمّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فلم تكن أعمالهم لتحقيق أيّ قصد و هدف معيّن، بل كانت خالصة لوجه الله الكريم -و كلامنا هنا يخصّ المقرّبين و المخلَصين- و ما فعلوه فلم يفعلوه بأنفسهم، بل كان الله تعالى هو الفاعل لتلك الأعمال. أ فللّه كتاب و صحيفة أعمال؟!
إنّ مَن تخطّى مرحلة الإخلاص و فني في ذات الله و تمحّض وجوده و سرّه من شوائب الاثنينيّة، و انتمى إلى عالم التوحيد المطلق، فقد انتفى تعيّنه و وجوده فليست له بعدُ آثار وجوديّة و صحيفة العمل من جملتها.
المخلَصون و ما أدراك ما المخلَصون، اولئك الذين انتهى قوس صعودهم في معرفة ذات الحقّ و طيّ درجات القُرب، فامّحوا في ذات الحضرة الأحديّة. على أنّ حركتهم لم تكن في حال النزول و طيّ قوس نزول مراتب ما دون الذات، ليعودوا إلى تلك المرتبة و يفنوا فيها، بل كانت بداية حركتهم من الذات، ثمّ إنّهم شرعوا بطيّ قوس الصعود في العالم الأدنى (أي عالم الطبع) ثمّ تخطّوا الأسماء و الصفات الإلهيّة و فنوا فيها وصولًا إلى الفناء في ذات الحقّ تعالى. و هؤلاء المخلَصون يسكنون حرم الله، و يحظون بقُربه و الانس به، و هو وليّهم. فمن أيّ جهة إذاً سيُعطون كتابهم؟ في حرم الله سبحانه لا وجود لزمان و مكان و لا جهة و لا جانب و لا يمين و لا شمال و جنوب و لا أعلى و أسفل، إذاً فكيف ستكون صحيفة الأعمال؟
فإن كانت تفصيلًا للحقيقة الملكوتيّة للأعمال، للزم ظهور حقائق الأعمال في الصقع الربوبي و في جهة الذات الأحديّة، بَيدَ أنّه ليس في محضر الله و فِنائه صورة و شكل و مادّة و معنى، و لا من تفصيل و تجزئة. لذا لا وجود هناك لكتاب و صحيفة عمل، و عموماً لا يوجد للمقرّبين كتاب. و نلحظ أنّ القرآن لم يذكر لهم كتاباً و لا صحيفة عمل.
لقد وصل عباد الحقّ المخلَصين خلال طيّهم لطريق السلوك إلى حيث فنوا في ذات الحقّ تعالى، و فنيت أسماؤهم و آثارهم، فلم يبق منهم عينٌ و لا أثر، فلقد فنيت صفاتهم في صفات الحقّ، و فنيت ذواتهم في ذات الحقّ، فهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً من إرادة و اختيار و فعل، فقد صار الحقّ في وجودهم المريد و المختار و الفاعل. إذ سلّموا كلّ وجودهم
إلى الله تعالى، فصار سبحانه هو الوجود في وجودهم. و لقد تخطّوا وجودهم في مقابل وجود الحقّ سبحانه، و وهبوا أنفسهم له، فأصبح الله تعالى هو جزاؤهم و هو ديتهم.
و لقد جسّدت الأبيات المعدودة التالية في وصف سيّد الشهداء عليه السلام هذه الحقيقة أبدع تجسيد:
شاهان همه به خاك فكندند تاجها | *** | تا زيب نيزه شد سر شاه جهان عشق |
بر پاي دوست سر نتوان سود جز كسى | *** | كو را بلند گشت سر اندر سنان عشق |
از لا مكان گذشت به يك لحظه بي بُراق | *** | اين مصطفى كه رفت سوي آسمان عشق |
شاه جهان عشق كه جانانش از الَسْت، | *** | گفت أي جهان حسن فداى تو جان عشق |
تو كشتى مني و منم خونبهاي تو | *** | بادا فداى تو كون و مكان عشق۱ |
و هذه الامور ممّا يختصّ بها المقرّبون، فهم -إذاً- لا يمتلكون كتاباً.
و عليه: فما هو مصير كدحهم و أعمالهم في الدنيا و صلاتهم و صيامهم و جهادهم، و ما تحمّلوه من مصائب و شدائد و محن؟
لمن خلق الله الحور العين و الجنان و النسائم و الأنهار الجارية، و الأنهار الأربعة: نهر العسل المصفّى، و نهر الخمر الذي جُعل لذّة للشاربين، و نهر اللبن الذي لا يتغيّر طعمه، و نهر الماء الذي لا يأسن؟
و لمن نهر الزنجبيل و الماء الممزوج بالكافور؟
و لمن عين السلسبيل و ماء الكوثر؟
إنّها لهم، و لكن ليس في حال الفناء، بل في حال البقاء بعد الفناء و في مقام جمع الجمع. أي أنّهم سيتمتّعون بهذه النعم في عين الفناء و الاستغراق في الذات الأحديّة، و سيحظون خلالها بالتمتّع بجمال الله. كما خُلقت هذه النعم لأصحاب اليمين المتلذّذون بها بدون الاستغراق في الذات الأحديّة.
و خلاصة القول أنّ هذه النعم هي في الحقيقة جزاء الحركة و السلوك و لا تشمل مَن في الحَرَم، فالعشق و الحماس و الحركة تكون في مرحلة السلوك، أمّا في مرحلة العرفان فليس هناك من عشق و لا حماس. لذا فإنّ من يصبح -بعد طيّ مرحلة السلوك- عارفاً بالله تعالى و من عباد الله المقرّبين المخلَصين، فلا حركة له بعد، إذ ليس في مرحلة العرفان أيّ حزن أو فرح، أو خوف أو أمل، و لا وجود للإحساس بالعلم أو القدرة أو الوجود.
حالات فقر المخلَصين و المقرّبين و فنائهم
و لقد أجاد ابن الفارض في وصف بعض حالات المخلَصين عند الفناء:
۱- أمَمْتُ إمَامِي في الحَقِيقَةِ فَالْوَرى | *** | وَرَائِي وَ كَانَتْ حَيْثُ وَجَّهْتُ وِجْهَتِي |
٢- يَرَاها أمَامِي في صَلَاتِي نَاظِرِي | *** | وَ يَشْهَدُ في قَلْبِي إمَامَ أئِمَّتِي |
٣- وَ لَا غَرْوَ أنْ صَلَّى الإمَامُ إلَيّ أنْ | *** | ثَوَتْ في فُؤَادِي وَ هىَ قِبْلَةُ قِبْلَتِي |
٤- وَ كُلُّ الجهاتِ السِّتِّ نَحْوِي تَوَجَّهَتْ | *** | بِمَا تَمَّ مِنْ نُسْكٍ وَ حَجٍّ وَ عُمْرَةِ |
٥- لَهَا صَلَواتِي بِالمَقَامِ اقِيمُهَا | *** | وَ أشْهَدُ فِيها أنَّها لِيَ صَلَّتِ |
٦- كِلانَا مُصَلٍّ وَاحِدٌ سَاجِدٌ إلَى | *** | حَقِيقَتِهِ بِالجَمْعِ في كُلِّ سَجْدَةِ۱ |
...۱
۷- مُنِحْتُ وَلَاهَا يَوْمَ لَا يَوْمَ قَبْلَ أنْس | *** | بَدَتْ عِنْدَ أخْذِ العَهْدِ في أوَّلِيَّتِي |
۸- وَهِمْتُ بِهَا في عَالَمِ الأمْرِ حَيْثُ لَا | *** | ظُهُورٌ وَ كَانَتْ نَشْوَتِي قَبْلَ نَشْأتِي |
٩- فَأفْنَى الهَوَى مَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ بَاقِياً | *** | هُنَا مِنْ صِفَاتٍ بَيْنَنَا فَاضْمَحَلَّت |
۱۰- فَألْفَيْتُ مَا ألْقَيْتُ عَنِّيَ صَادِراً | *** | إلَيّ وَ مِنِّي وَارِداً بِمَزِيدَةِ |
۱۱- وَ شَاهَدْتُ نَفْسِي بِالصِّفَاتِ التي بِهَا | *** | تَحَجَّبَتْ عَنِّي في شُهُودِي وَ حَجبَتِي |
۱٢- وَ أنَّي التي أحْبَبْتُهَا لَا مَحَالَةً | *** | وَ كَانَتْ لَهَا نَفْسِي عَلَيّ مُحِيلَتِي |
۱٣- فَهَامَتْ بِهَا مِنْ حَيْثُ لَمْ تَدْرِ وَ هي في | *** | شُهُودِي بِنَفْسِ الأمْرِ غَيْرُ جَهُولَةِ |
۱٤- جَلَتْ في تَجَلِّيهَا الوُجُودَ لِنَاظِرِي | *** | فَفِي كُلِّ مَرْئِيّ أرَاهَا بِرُؤْيَةِ |
المخلصون و المقرّبون مدهوشون في ذات الحقّ تعالي
و أنّى للمقرّبين و المخلَصين الغارقين في بحار أنوار الذات الأحديّة، و المدهوشين بكلّ وجودهم في التجلّيات الذاتيّة، أن ينشغلوا بالآثار و التجلّيات الصفاتيّة عن ذواتهم؟ إذ الانشغال بذواتهم -بعد بقائهم بالله تعالى- هو عين الانشغال بالذات، إلّا أنّه قبل البقاء موجب للمحجوبيّة عن الذات، فهو لا يمثّل إلّا سدّاً لطريق الوصول بالنسبة إلى السالك الذي يلتهب عشق الله في كلّ كيانه و وجوده و يذيبه كالشمع و يجعله يصرخ: وَ اجْعَلْ قَلْبِي بِحُبِّكَ مُتَيَّمَاً.۱ و ما الذي يفهمه عاشق الله -يا ترى- من الحوريّة؟ و ما الذي يدركه منجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ؟
فهو يركل كلّ نيّة و قصد -غير لقاء الله تعالى- بنداء:
إلَهِي! مَا عَبَدْتُكَ خَوْفَاً مِنْ نَارِكَ وَ لَا طَمَعَاً في جَنَّتِكَ بَلْ وَجَدْتُكَ أهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُكَ.۱
و يدرك أنّ المضمار الوحيد للعمل و الطاعة و العبادة هي في وجوديّة ذات الحقّ تعالى، فيحظى -في هذا الميدان- بقصب السبق على أهل العالم. و حين يُنهى امرؤ ما تحصيلاته الدراسيّة، فما الذي سيعنيه -بعدُ- وقوفه في مصافّ أطفال الصفّ الأوّل الابتدائيّ؟
إنّ عبادة الحقّ و طاعته على أساس من الخوف من النار و الطمع في الجنة ليست عبادةً للحقّ، بل عبادة للنفس و قواها النفسانيّة. و عليه فإذا عَبَدَ أحد ما الله سبحانه بهذه النيّة، فسيُعطى كتابه من تلك الجهات، أمّا مَن عَبَدَ الله تعالى لذاته القدسيّة العديمة الجهة و التعيّن، فمن أين سيُعطى كتابه؟ إنّ كتابه و صحيفة عمله يجسّدان نفس واقع الأمر و حقيقته، أي الذات القدسيّة للحقّ تبارك و تعالى. لقد بادل السالك العاشق نفسه بالله تعالى لا بالآثار و النعم، و لم يعبد إلّا ذاته المقدّسة، فكانت جنّته هي اندكاكه في الذات القدسيّة و المحو و الفناء في الأنوار القدسيّة و التجلّيات الذاتيّة.
و وفقاً للآية الشريفة: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ،۱ فإنّ الذات القدسيّة للحقّ تعالى ستكون جنّته العليا.
من كه امروزم بهشت نقد حاصل مىشود | *** | وعده فرداى زاهد را چرا باور كنم٢ |
و لا تعني مقولة «إنّني بادلتُ نفسي بالله تعالى» اكتسابي شيئاً من صفاته و أسمائه، و إدّعائي لنفسي الوهيّته، فذاك ادّعاء باطل، بل تعني تصديقي و إذعاني و اعترافي بأنّي لا شيء مقابل نور الله، و أنّ أسماءك -يا إلهي- هي الأسماء العظمى، و صفاتك كذلك. و لقد كان يخيّل لي حتّى الآن أنّي ذو أثر و صفة، و أنّي سرقتُ قدراً من صفاتك و أسمائك فنسبتُها لنفسي. و كان يخيّل لي حقيقة أنّ لي وجوداً و أصالة و اسماً و صفةً، لكني -و قد طويت المسير بحبّك و من أجل لقائك فقبلتني و أعززتني- قد أدركتُ أنّي لا شيء و أنّي لا أملك شيئاً، و أدركتُ أنّ ذلك القدر من الوجود الذي كنت أعدّه لنفسي كان نابعاً من الفرعونيّة، لأنّك أنت إلهي في عالم الوجود و لا غيرك.
نيست جز فقر در طَيلسانم | *** | نيست جز عجز طيّ لسانم |
سفلهتر از همه ناكسانم | *** | راست گويم خسى از خسانم |
پرده زين سو بدان سو هوايم٣
من ز خود هست و بودي ندارم | *** | من ز خود ربح و سودى ندارم |
من ز خود تار و پودي ندارم | *** | من كه از خود نمودى ندارم |
بيخودانه چسان خود نمايم
بنده را پادشاهي نيايد | *** | از عدم كبريائي نيايد |
بندگى را خدائي نيايد | *** | از گدا جز گدائى نيايد |
من گدا من گدا من گدايم
بندهام گر بخويشم بخواند | *** | راندهام گر ز پيشم براند |
آستانم چو بر در نشاند | *** | پاسبانم چو بر ره بماند |
هر چه گويد جز او را نشايم۱
گر بخواند بخويشم فقيرم | *** | ور براند ز پيشم حقيرم |
گر بگويد اميرم اميرم | *** | ور بگويد بميرم بميرم |
بندة حكم و تسخير رأيم
از عدم حرف هستي نشايد | *** | دعوى كبر و مستي نشايد |
خاك را جز كه پستى نشايد | *** | از فنا خودپرستى نشايد |
من فنا من فنا من فنايم
بندهام ره به جائي ندارم | *** | عقل و تدبير و رائي ندارم |
در سر از خود هوائي ندارم | *** | ره به دولت سرائي ندارم |
در گه دوست دولت سرايم
بندهام با دو صد عيب و علّت | *** | عجز و خواري و زاري و ذلت |
با همه شرمسارى و خجل | *** | أي خداوند اقبال و دولت۱ |
نيست جز بر درت التجايم
من اگر با تو همراه باشم | *** | از دل خويش آگاه باشم |
در ره بندگى شاه باشم | *** | در صف كَانَ لِلّه باشم |
تو مرائي اگر من ترايم
أي غمت مايه شادمانى | *** | ياد روي تو روز جواني |
وصل تو دولت جاوداني | *** | تار زلف تو سبعُ المثاني |
لعل دلجويت آب بقايم۱
الأشقياء الذين لا يُعطون كتاباً
و هناك طائفة اخرى ليس لهم صحيفة أعمال- عدا المقرّبين و المخلَصين فمن هم؟
ذكرنا أنّ المقرّبين هم الذين ارتقوا إلى الذروة فتخطّوا المراتب و اجتازوا الاسم و الأثر، و ارتفعوا إلى ما فوق مستوى العمل، و في المقابل،
هناك طائفة اخرى انحطّت إلى درجة أن أصبح أفرادها أدنى من البهائم،
حيث أضاعوا من وجودهم جميع صفات الله و أسمائه، و انغمروا في الشهوات، مصرّين على غفلتهم و إعراضهم عن الله تعالى، فتخطّوا بذلك مرتبة العمل و ترسّخت القبائح و المنكرات في وجودهم و أصبحت جزءاً من ذواتهم.
لقد أفسد هؤلاء سرائرهم و بواطنهم من خلال إصرارهم على إنكار الله و رسوله و عدائهم للصالحين من عباد الله، و نصب العداوة لهم، فتسبّب ذلك في سريان القبائح من ظواهرهم إلى بواطنهم، و صار وجودهم منبعاً للشرور و مصدراً ترشح عنه المنكرات و الجنايات الظاهريّة و الباطنيّة.
و أمثال هؤلاء لا كتاب لهم، لأنّ الكتاب و صحيفة الأعمال لمن قبائحه ضمن حدود الأعمال، لا في مرتبة ذاته و في درجة كينونة ماهيّته و حقيقته. و قد عبّرت الآيات القرآنيّة عن هؤلاء الأفراد بالذين حبطت أعمالهم، أي الذين ابطلت أعمالهم: فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ.
و أصحاب هذه الطائفة جهنّميّون بحيث إنّهم يجسّدون حقيقة جهنّم و صُلبها، إذ ليست جهنّم إلّا ظهوراً لذواتهم. كما أنّ دركاتهم و مراتبهم أسفل و أكثر عمقاً من دركات جهنّم و أهلها العاديّين، فإذا بدرت -مثلًا- خيانة من عقيد في الجيش، فإنّه لا يُسجن مع الجنود العاديّين الخائنين، بل يُساق إلى سجنٍ يتناسب مع درجة جرمه و جنايته.
و عليه فليس لهؤلاء كتاب، و لا يعطون كتابهم من جهة الشقاء.
أمّا أصحاب اليمين فهم من المحسنين، إلّا أنّ إحسانهم لم يسرِ إلى ذواتهم و بواطنهم، لأنّهم لم يبيعوا أنفسهم للّه بيعاً تامّاً، و إلّا لكانوا من المقرّبين. لو كان التفاتهم إلى الحقّ قد بلغ درجة كبيرة، و غفلتهم كانت قليلة يسيرة، فهم إذاً من السعداء.
و أمّا أصحاب الشمال فهم الذين غالباً ما اتّبعوا سبيل المعاصي
و الجرائم في دنياهم، إلّا أنّهم كانوا يعملون أعمالًا حسنة أحياناً، و ربّما كانوا من أهل الخير، غير أنّ حبّهم للّه تعالى لم يبلغ درجة كبيرة، فاستحقّوا العقاب على أعمالهم السيّئة، و صار عليهم أن يصْلوا النار -و لو إلى مدّة- جزاءً وفاقاً.
و أمّا من أنكروا الحقّ و جحدوه من الأساس، فلن يُؤاخَذوا على أعمالهم، بل على حقيقتهم.
موارد حبط الأعمال و انتفاء صحيفة الأعمال
و لدينا في الروايات أنّ الحبط ليس سارياً بشكل دائم، فما الذي يعنيه ذلك يا ترى؟ إنّه يعني أنّ كلّ عمل من الأعمال الذميمة لا يمحو الأثر الحسن للأعمال الصالحة. فلو صلّينا اليوم صلاةً -مثلًا- و حصلنا على ثوابٍ ما، ثمّ أذنبنا بعد ذلك ذنباً، فإنّ ذلك الذنب لن يمحو أثر تلك الصلاة، و ستبقى تلك الصلاة محفوظة مع ذلك الأثر في موضعهما، كما سيبقى الذنب و أثره محفوظين في موضعها.
و من ثمّ فإنّ الأعمال الحسنة و الأعمال السيّئة لا تُحبط بعضها، و ستُحفظ الأعمال الصالحة في موضعها إلى يوم القيامة، كما ستُحفظ الأعمال الطالحة في مواضعها، إذ ينبغي مجازاة الإحسان بالإحسان، و الإساءة بالعقاب.
و سيتعرّض المذنبون لأهوال المحشر و شدائده، و للوقوف في ساحة العرض، و للمكث في جهنّم في خاتمة المطاف مقابل الأعمال السيّئة التي اجترحوها، وصولًا إلى تطهيرهم و تزكيتهم، ثمّ يدخلون الجنّة بعد ذلك جزاءً على ما فعلوا من الأعمال الحسنة.
فالحقّ -إذاً- أن لا يُفْسَدَ عمل معيّن يقوم به المرء إثر عمل آخر، و على الإنسان أن لا يقنط أبداً من رحمة الله، فإن أذنب و هاله ذنبُه،
فلا يقولنّ إنّ جميع أعماله الحسنة التي قام بها قد حبطت و ذهبت أدراج الرياح.
بَيدَ أنّ هنالك بعض الموارد يسري فيها قانون الحبط و هي مستثناة من هذه القاعدة العامّة بحيث إذا ما فعل الإنسان عملًا معيّناً فإنّ جميع أعماله ستضيع و تحبط بلا استثناء.
و أحد هذه الموارد: الشرك بالله تعالى و اعتبار غيره مؤثّراً في الذات أو الصفة أو الفعل.
وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ.۱
و علّة الحبط في هذا المورد أنّ الأعمال الصالحة لها وجود حسن في عالم التوحيد؛ و حين ينظر امرؤ ما إلى الحقّ المتعال بغير نظرة التوحيد، حيث يعدّ له شريكاً في عمله و ينسب أفعالَ الحقّ و آثاره الأصليّة الأصيلة إلى الغير الذي ليس في حقيقة الأمر سوى ظلًّا للّه و فقيراً إليه، و ليس له وجود حقيقيّ، له بل اعتباريّ فانٍ، فمهما بدا في الظاهر عظيماً و كبيراً إلّا أنّه سيفقد قيمته في عالم الواقع و الحقيقة.
مَثَل هذا الشخص مَثَل غلام يسعى بجدّ في خدمة مولاه، فيكنس البيت، و يسقي الأشجار و الورود، و يرشّ فناء الدار بالماء، و يُشعل أعواد البخور في أرجاء البيت، و ينثر العطر و ماء الورد هنا و هناك؛ لكنّه بالرغم من كلّ هذه الخدمات يضمر لمولاه صاحب الدار حقداً و عداوة، و ينتظر الفرصة لقتله و اغتياله. فهل تكون لهذه الخدمات قيمة عند مولاه؟
لقد كان كنس السجّاد و تعطير الغرف من أجل الراحة؛ أمّا إذا قرّر
ذبح صاحب البيت على هذه السجاجيد و ضمن هذه الغرف، فهل سيكون
لعمله هذا من قيمة عند مولاه؟
و النتيجة الحاصلة فإنّ كلّ عمل خير سيكون محكوماً بالبطلان إذا اقترن بالشرك الذي هو بمثابة إعلان الحرب على المالك الأصليّ للعالم.
الثاني: الكفر؛ أي أنّ من يكفر بالله و رسوله، و ينكر حقّانيّة رسول الله و رسالته، فإنّ أعماله ستحبط، لأنّ إنكار الرسول المُرسَل من قِبَلِ الله تعالى بمثابة إنكار المُرسِل سبحانه: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.۱
و لهذه الآية نظائر اخرى في القرآن الكريم تتحدّث عن موارد الكفر.
الثالث: الارتداد؛ أي العودة عن الإسلام، و الكفر بعد الإيمان.
وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.٢
أحكام المرتدّين و ذوي الأعمال الحابطة
و من الجدير هنا أن نذكر معنى الارتداد و آثاره بإجمال؛ فالمرتدّ هو الذي يرجع عن الإسلام، و فيه حالتان، إمّا أن يعود المرتدّ إلى الإسلام من جديد، أو يبقى مصرّاً على ارتداده.
أمّا في الحالة الاولى، و هي عودته إلى الإسلام من جديد بحقيقة التوبة، فإنّ توبته ستكون مقبولة، و مصيره إلى الجنّة، سواءً اجري في حقّه حكم الإسلام أم لم يُجْرَ، لأنّ إجراء حكم الارتداد لا علاقة له بقبول التوبة الصادقة. فالتائب فيما بينه و بين الله تعالى ستكون توبته مقبولة بلحاظ
الواقع، سواءً في ذلك كان المرتدّ رجلًا أم امرأة، فطريّاً أم ملّيّاً.
أمّا بلحاظ الظاهر، أي بلحاظ إجراء حكم الإسلام الظاهريّ، فإنّ المرتدّ على صنفين:
الأوّل: المرتدّ الفطريّ.
و الثاني: المرتدّ الملّيّ.
فالمرتدّ الفطريّ هو الذي انعقدت نطفته من أبوين كلاهما أو أحدهما مسلم، فيكون انعقاد نطفته على فطرة الإسلام و جبلّته، لأنّ الطفل يتبع أشرف الأبوين، أي المسلم من الأبوين -سواءً الأب أمْ الامّ- فيكون الطفل تابعاً له في إسلامه و غير تابع للآخر الكافر، حتّى لو كان الكافر أباه.
و من هنا فإنّ من تنعقد نطفته من أبوين مسلمين، أو من أب مسلم أو امّ مسلمة، فإنّ نطفته ستنعقد في الإسلام. فإن ولد الطفل في هذه الحالة ثمّ أدرك سنّ البلوغ و صار مسلماً ثمّ ارتدّ عن الإسلام، فسيكون قد ارتدّ عن فطرة الإسلام، أي عن الفطرة و الجبلّة التي طُبع عليها. فإن ثبت ارتداده في محكمة شرعيّة عند حاكمٍ مسلم، كان جزاؤه القتل. هذا إن كان المرتدّ رجلًا، أمّا لو كان المرتدّ امرأة، فإنّ الحاكم المسلم لا يأمر بقتلها، بل يأمر بحبسها و ضربها على الصلوات في مواعيدها حتّى تفيء من الكفر إلى الإسلام.
أمّا المرتدّ الملّيّ، فهو المرتدّ الذي انعقدت نطفته من أبوين كافرين، ثمّ نشأ و ترعرع حتّى حان بلوغه فاعتنق الإسلام. سواءً في ذلك أسلم أبواه و هو صغير فتبعهما في إسلامهما، أم بقيا على كفرهما فتبعهما في الكفر ثمّ أسلم بعد بلوغه و تمييزه. فإن ارتدّ كافراً بعد إسلامه دُعي بالمرتدّ الملّيّ، أي المرتدّ بعد بلوغه عن ملّة الإسلام و شريعته، لا عن فطرة
الإسلام و جبلّته.
فإن تاب هذا المرتدّ و عاد بنفسه إلى الإسلام، فلا يُحكم بقتله في المحكمة الشرعيّة، سواء كان المرتدّ رجلًا أم امرأة. أمّا لو لم يَتُب و أصرّ على كفره فإنّه لا يُقتل بل يُستتاب، فإن تاب قُبلت توبته، و إن أصرّ على ارتداده فإن كان رجلًا قُتل، و إن كان امرأة حُبست و اجري بحقّها أحكام المرتدّة الفطرية حتّى تُسلم أو تموت في الحبس. و بطبيعة الحال فإنّ جميع هذه المسائل هي بلحاظ حكم الإسلام الظاهريّ و إجراء الحدّ، و التأديب من زاوية القوانين الجزائيّة الإسلاميّة، أمّا بلحاظ الباطن فإنّ المرتدّ لو تاب و عاد إلى إسلامه، فإن توبته ستكون مقبولة، و مصيره سيكون إلى الجنّة حتّى لو اجري في حقّه الحكم الظاهريّ للإسلام فحُبس أو قُتل.
أمّا لو مات المرتدّ أو قُتل دون أن يتوب، حبطت أعماله و خُلّد في جهنّم مدحوراً.
وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.۱
أي أنّ جميع الأعمال الحسنة التي فعلوها في الدنيا ستحبط آثارها الدنيويّة و الاخرويّة.
حبط الأعمال هو عاقبة التكذيب بآيات الله عزّ و جلّ
الرابع: التكذيب بآيات الله و لقائه.
هناك فئة من الناس يكذّبون بالله و لقائه، و يحبّون أن يكتشفوا خللًا في نواميس الدين و قوانينه، و يسعون جاهدين للعثور على إشكال في القرآن الكريم أو في كلام رسول الله و الأئمّة الطاهرين عليهم السلام، و يقولون في تكذيبهم لآيات الله و لقائه: إنّ طريق الله مسدود، و أن
لا معنى للقاء الله و المعاد.
و إن كانوا يدّعون الإسلام و يتلبّسون بردائه، إلّا أنّهم يقولون مثلًا: «لقد فاه النبيّ بهذا الكلام الذي لا حقيقة له لمصلحةٍ ما. إنّنا نعتقد بالإسلام، لكنّه في وضعه الحالي دين ما قبل ألف و أربعمائة سنة، لا يصلح لهذا العصر، و ينبغي تغيير أحكامه وفق أحكام الغرب المعاصرة المقبولة».
و يقولون: «لقد كان نبيّ الإسلام مفكّراً و نابغة من النوابغ، و قد أراد إصلاح المجتمع لذا تحدّث عن الجنّة و الحور ليكفّ الناس عن الاعتداء و تخطّي العدالة، و لينصرفوا للعبادة على أمل نيل تلك النعم، و حبّاً للفوز بتلك اللذّات. كما أنّه تحدّث عن نار جهنّم ليخافوا فلا ينحرفوا عن صراط العدل في المجتمع، لكنّ كلّ ذلك لا حقيقة له و لا أصالة». و هؤلاء ممّن ستحبط أعمالهم مهما كانت ذات منفعة عامّة.
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ، أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً.۱
و لهذه الآية الشريفة نظائر اخرى في القرآن الكريم.
لقد تحدّث المتأثّرون بالغرب من أصحاب ربطات العنق عند التوقيع على قوانين النهضة الدستوريّة باسم حرّيّة القلم و البيان، و شرعوا بنشر السخافات في الجرائد، فكان أوّل حديثهم السخرية بالنبيّ و الأئمّة و الدين و الإيمان و القرآن. و كانوا يكتبون كلّ يوم فصلًا مشبعاً في هذا المجال.
أوردت جريدة «ناهيد» -و لا أعلم هل صاحبها على قيد الحياة أم لا-
أشعاراً تحطّ من قدر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و تهزأ به، و منها هذا البيت:
جار زد آن جارچي مسخره | *** | الدُّنيا مزرعة الآخرة۱ |
كما صدرت في «كلكتا» جريدة «الحبل المتين» و أوردت كلّ مرّة فصلًا في التهجّم على الدين و النبيّ و الإيمان، و في انتقاد مجالس العزاء و البكاء على سيّد المظلومين: سيّد الشهداء عليه السلام، و في السخرية من حجاب النساء المسلمات و عفّتهن. فتأمّلوا في أشعار «إيرج ميرزا» و كيف اغرم بصور الغرب و ثقافته بحيث صار يعتبر عُري المرأة دليلًا على حرّيّتها و تكاملها و رقيّها.
و لقد سخر هؤلاء بالعلماء و الفقهاء، بحيث وصل الأمر بالمرحوم الآخوند الملّا محمّد كاظم الخراسانيّ رحمة الله عليه -الذي كان من زعماء النهضة الدستوريّة و الموقّعين عليها- إلى العزم على السفر من النجف إلى إيران، فأرسل برقيّة من مائتي كلمة تفيض بالتهديد يقول فيها: فليذهب عشّاق مدينة العشق إلى باريس و ليبعدوا عن البلاد! و المقصود من مدينة العشق مدينة «عشقآباد» التي كانت مقرّاً لهذه الفرق الضالّة. و إثر هذه البرقيّة جرى إبعاد دعاة التحرر و إخراجهم بأجمعهم من إيران من أجل تهدئة الأوضاع، و الحديث في ذلك طويل.
ثمّ عزم رحمه الله على السفر إلى إيران، فقيل إنّه في الليلة التي قرّر السفر فيها دُسّ له السمّ ففارق الحياة صبيحتها، لما ذا؟ لحرف الأفكار عن مجراها الأصيل. الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ.٢
و لقد ارتكبوا ما ارتكبوا فحرموا الجميع طوال سبعين سنة -باسم الحرّيّة- من حقوقهم البديهيّة، و انهالوا بالهراوات على رؤوس الناس ليكفّوا عن الأصالة و الحقيقة، و سعوا إلى إشغالهم و خداعهم بألفاظ الحرّيّة الجوفاء التي لا محتوى لها. فهؤلاء أعمالهم حابطة، و ليس لهم يوم القيامة كتاب.
مَثَل فعلهم كمثل عود ثقاب تشعلونه في مخزن للكتب، فهو كافٍ لإحراق الجميع. و لو كان المرء عالماً مثقّفاً مجدّاً قد دوّن عدّة كتب، فإنّ عود ثقاب واحد كافٍ لجعل ذلك طعمة للحريق في لحظة واحدة. و لو حزم المرء كتبه الخطّيّة في صرّة ثمّ ألقاها في النهر، فإنّ تلك الكتب التي دوّنت خلال فترة مائتي سنة -مثلًا- ستكفيها لحظة واحدة لتغرق و تضيع. و هذا هو معنى الحَبْط و كيفيّته.
فلا عجب -إذاً- من أنّ عملًا صغيراً له القدرة على إتلاف عمل مائتي سنة، إذ إنّ كلمة كفر واحدة يتفوّه بها المرء، تجعله كافراً جهنّميّاً، و زلّةً واحدة من على قمّة جبل أو إهمالًا و عبثاً بسيطاً يمكن أن يهوي به إلى قعر وادٍ مخوف تنسحق فيه عظامه، فيُقبر هناك إلى الأبد. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً۱.
إنّ أخسر الناس و أفرغهم و فاضاً هم الذين تنتهي جميع نشاطاتهم و مساعيهم و آمالهم الشخصيّة في الحياة الدنيويّة الوضيعة، فيُخيّل لهؤلاء المساكين أنّهم كانوا منشغلين بأعمال الخير، مع أنّهم سيخرجون صفر اليدين لأنّهم لم يفعلوا شيئاً في سبيل الله تعالى لينفعهم في عاقبة الأمر، و لأنّهم لم يتنازلوا عن شخصيّاتهم و غرورهم و عُجبهم، و لم يعملوا من أجل نيل رضا الله عزّ و جلّ، و طيّ طريق لقائه و التقرّب لساحته.
فكانت العاقبة أن صارت أعمالهم لا تساوي في عالم الحقائق و معيار
الواقع شروى نقير، و لو كانت أعمالًا ضخمة مقبولة عند عامّة الناس، لأنّها صدرت من نفوس مستكبرة، و لأنّها استهدفت كسب الوجاهة لدى الناس. و ستضيع أعمال أمثال هؤلاء و تفنى في العاقبة، و لن يكون لهم ثمّة عمل ليُذكر في كتابهم.
و سنذكر في بحث الميزان إن شاء الله تعالى أنّ ميزان بعض الناس ثقيل، و ميزان البعض الآخر خفيف، أمّا هذه الفئة فلا ميزان لها مطلقاً: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً.۱
و العلّة في ذلك أنّهم كانوا يعترضون على الله و رسوله، و لأنّ السعي و اللهاث خلف الشهرة و الجاه منعهم من الاستسلام لأمر الحقّ تعالى، و أعمى أبصارهم عن مشاهدة الحقيقة، فصارت تلوح خلال كلامهم مطالب تُفصح عن إنكارهم و عنادهم.
يقولون: نحن نعتقد بالقرآن، بَيدَ أنّنا لا نفهم هذه الآية:
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.٢
و يكذبون، لأنّهم يدركون معناها و يفهمونها حقّ الفهم، إذ ليست هذه الآية بمعزل عن سائر الآيات القرآنيّة، كما أنّها لم تنزل بلغةٍ اخرى مختلفة.
و قد نشرت قبل أيّام مقالة في جريدة «اطّلاعات» اليوميّة،٣ طُبعت في أربعة أو خمسة أعداد تضمّنت ترجمة لوصيّة الإمام أمير المؤمنين عليه
السلام لولده الإمام الحسن عليه السلام كتبها في «حاضِرَيْن»، و كانت الترجمة جيّدة و سلسة، إلّا أنّ المترجم قد ارتكب سرقة خلال الترجمة، فحذف فقراتها الأخيرة التي تتحدّث عن حجاب النساء و لم يذكر اسمه:
وَ اكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أبْصَارِهِنَّ فَإنَّ شِدَّةَ الحِجَابِ أبْقَى عَلَيْهِنَّ، وَ إنِ اسْتَطَعْتَ أنْ لَا يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ.۱ و هي سرقة صريحة في وضح النهار.
و نتساءل: لو أردتم ترجمة كلام أمير المؤمنين لقيل إنّكم تقومون بترجمة كلامه، إلّا أنّكم لا تعتقدون بهذه الفقرات، و أنّ مفاد هذه الفقرات هي على عاتق أمير المؤمنين و ليس في عاتقكم. أمّا حين تقومون بترجمة هذه الوصيّة من بدايتها إلى نهايتها ثمّ تُسقطون منها الفقرة التي لا تنسجم مع ذوقكم، فإنّ ذلك يُعدّ سرقة و تصرّفاً في كلام الآخرين.
هذا هو التأثّر بالغرب الذي تفوح روائحه العفنة من مسيرة خمسمائة فرسخ. يقولون: إنّنا لا نفهم آية: وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.٢
و نجيب: لا شكّ أنّكم لا تفهمون، ليست هذه الآية فقط، بل و كثيراً من الآيات القرآنيّة الاخرى، و لو كنتم تفهمونها حقّ الفهم لاعتقدتم بها و لعملتم بمضمونها. إنّكم لم تمسّوا القرآن و لم تشمّوا عبقاً من عبيره، و لا تفهمون ما يتعارض مع طبعكم.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ.٣
و نظير هذه الآية، الآية رقم ۸، من نفس السورة: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا
ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ.۱
و خامساً: من الامور التي تسبّب إحباط الأعمال، التجاسر على النبيّ و الأئمّة و مقام الولاية و ما شابه ذلك:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ.٢
فلو قال رسول الله -مثلًا- افعلْ هذا الأمر و لا تفعل ذاك! فلا تصرخ قائلًا: ليس هذا بالصواب! و حين يجلس رجلان عند رسول الله فيُصغى إلى كلامهما، فلا تتدخّل و تقول بصوت عالٍ خشن: إنّ هذا صادق في كلامه، و ذاك كاذب. و لا تقل أمام رسول الله: «إنّنا سنفعل هذا الأمر و لا نفعل ذاك»، لأنّ عليك أن تدرك أنّه رسول الله، و أنّ التقدّم عليه في الرأي و القول و الفكرة تقدّم على الحقّ، و أنّ هذا التقدّم هو عين الضلال، و مدعاة لإحباط مثوباتك و أعمالك، مهما كنت غافلًا و تحسب أنّ صراخك و رفعك صوتك و تقديمك رأيك أمر يرتبط بشخصيّتك و مقامك.
سمعتُ أحد الثقات يقول: «ذهب أحد المعمّمين يوماً لعيادة المرحوم العلّامة الأمينيّ رحمه الله في منزله المؤقّت في طهران في منطقة «پيچ شميران»، و كان العلّامة صاحب «الغدير» مريضاً قد رقد على ظهره و ثقل عليه المرض، فتحدّث معه و كان من بين كلامه أن قال له: سماحة الشيخ! إذا لم يكن المرء محبّاً لأبي الفضل العبّاس -مثلًا- فمن أين سيتأثّر
إيمانه سلباً؟
فتغيّر حال العلّامة و نهض جالساً بالرغم من مرضه و قال:
«دع عنك أبا الفضل عليه السلام! فلو لم يكن لديك حبّ لخيطان حذائي، أنا الخادم من خدّام أبي الفضل بسبب خدمتي لأبي الفضل، لأكبّوك -و اللهِ- على وجهك في نار جهنّم!».
و إلى هنا ننهي البحث عن صحيفة الأعمال و تطاير الكتب، و سنتحدّث في المجلس القادم إن شاء الله تعالى عن موضوع الشهادة. هذا و قد بقي من هذا البحث نكتة في آية الطائر نجعلها خاتمة البحث.
نتيجة الأعمال ملازمة للنفس؛ و الكتاب هو عين العمل
و آية الطائر هي الآية الكريمة:
وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً.۱
و هذه الآية الشريفة لا تقول: و نخرجه يوم القيامة كتابا، بل تقول: وَ نُخْرِجُ لَهُ ... كِتاباً؛ و السرّ في ذلك هو أنّ أعمال الإنسان التي يفعلها كلّ ساعة و كلّ يوم لها صورة خارجيّة و لها أثر نفسانيّ، و هذا الأثر و النتيجة و الحاصل النفسانيّ -لا نفس الأعمال- هو الذي يلازم نفس الإنسان.
افرضوا -مثلًا- أنّ نجّاراً يقوم بصناعة سرير و كرسيّ من الخشب، فإنّ ما سيبقى في نفس النجّار، الأثر الذي حصل في نفسه نتيجة هذا العمل، و الأمر على هذا النحو بالنسبة إلى الحائك الذي يحترف حياكة السجّاد، و البنّاء الذي يبني مسجداً، حيث إنّ أفعالهم لن توجد في نفوسهم في صورها الخارجيّة، و ما سيلازم نفوسهم إنّما هو روح تلك الأفعال و حقيقتها. و يتمثّل المراد بتعبير طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ بهذه النتيجة و الأثر
النفسيّ للعمل.
على أنّ الإنسان يشاهد يوم القيامة نفس الأعمال التي فعلها في
الدنيا، إذ إنّ طائر الإنسان يلازمه في الدنيا و عند الموت و في البرزخ و في المحشر، و سيُشاهد المرء يوم القيامة بهذه النفس -التي يلازمها هذا الطائر- عين عمله و قد نُشر للعيان؛ و مفاد آية: وَ نُخْرِجُ لَهُ ... كِتاباً هو نفس مفاد آية: وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ.۱ و يستفاد من جملة: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً.
إنّ هذا الكتاب هو غير الكتب و الصحائف العاديّة التي تُعطى للناس فيقرءونها، و لو كانت كذلك لأمكن لجميع الناس قراءتها و محاسبة بعضهم البعض الآخر. و لكن يتّضح من قوله اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً أنّ المراد هو الاطّلاع و الهيمنة و التسلّط الذي يحصل لكلّ نفس على أعمالها. فالمراد -إذاً- من أمر «اقْرَأ» هو قراءة النفس المنسجمة مع ذلك العالم. و هذه الآية في مصافّ الآية الشريفة: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ.٢
فهنيئاً للذين سلّموا قلوبهم إلى الله سبحانه، و جعلوها سجلّ تدوين تجلّيات الحقّ الجماليّة و الجلاليّة، و للذين يخلو كتابهم من غير الله و ذكره. نسأله تعالى بحقّ الأطهار و الواصلين إلى حريم قدسه أن يعبر بنا من الغفلة و الحُجب الظلمانيّة و النورانيّة، و أن يجعل قلوبنا مركزاً للحقّ، فلا يدوّن في صحائفنا غير ذلك المحبوب الأزليّ الأبديّ.
رهي باشد از اين ماتم به آن سور | *** | نميدانم كه نزديك است يا دور۱ |
بود دل منزل حقّ ليك ما را | *** | بود تا دل حجابي سخت مستور |
برو ويرانه كن دل را كه چون دل | *** | شود ويرانه گردد بيت معمور |
طواف و سير گِرد خانة دل | *** | بود حجّي كه مقبول است و مشكور |
گناهى جز خودى نبود چو خود را | *** | رها كردي تو در ذنب تو مغفور |
بخوان از دفترِ دل هر چه خواهى | *** | كه دل را خوانده ايزد لوح مسطور |
بدين دفتر شود اسرار حقّ ثبت | *** | كه خوانندش به مصحف رقّ منشور |
در اين مُصحف كه انسانست نامش | *** | بخوان از سورة دل آية نور٢ |
دل است آن وادي ايمن كه گويد | *** | انَا اللهْ، حقّ در او، از آتش طور۱ |
بمحمّد و آله الطاهرين، و صلّى الله عليهم أجمعين، و ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
المَجْلِسُ الرَّابِعُ وَ الأرْبَعُونَ: الشَّهادَةُ عَلَى الأعْمَالِ؛ وَ مُوَاصَفَاتُ الشُّهُودِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.۱
لقد انتهى بحثنا حول الكتاب و صحيفة العمل، و نتحدّث الآن حول موقف آخر من مواقف القيامة، و هو موقف الشهادة، حيث تدلّ آيات القرآن الكريم و الروايات الواردة من مصادر النبوّة و الإمامة على أنّ من مواقف القيامة موقفاً يُشهد فيه على أعمال الإنسان و ينبغي أن نرى أوّلًا ما معنى الشهادة، و كيفيّتها؛ -و ثانياً- ما هي الامور التي تجري الشهادة في شأنها، -و ثالثاً- مَن هم الشهداء و ما هي الشروط التي يجب أن تتوفّر فيهم.
يستفاد من الآية التي مرّت في مطلع البحث أنّ الكتاب يُوضَع فيؤتى بالأنبياء و الشهداء للشهادة، بينما تكون الأرض قد خرجت من ظُلمتها
و عتمتها فأشرقت. ثمّ يُقضى بين الناس في حضور الأنبياء و الشهداء و مع وجود الكتاب، دون أن يلحق بأحد حيف أو جور.
و كما ذكرنا سابقاً فإنّ ذلك سيحصل: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ،۱ أي يوم تُبدّل الأرض بأرض اخرى فتظهر روحها و حقيقتها مشرقة مضيئة، ثمّ تُنشر مجدّداً الأعمال التي فعلها الإنسان على هذه الأرض فتُطوى الواحد تلو الآخر و يخُيّل للإنسان يومذاك أنّها ضاعت.
فيتبدّل يومئذٍ ذلك الخفاء و العتمة نوراً و إضاءة و إشراقاً. أي أنّ ذلك الكتاب و تلك الأعمال التي فعلها الإنسان على الأرض ستظهر و تشرق و تتجلّى.
ثمّ يؤتى بالأنبياء و الشهداء للشهادة على أعمال الإنسان، فُيقضى بينهم. أي يُقضى على الإنسان بالحكم الذي يجسّد نتيجة أعماله التي ارتكبها، ثمّ يُعرّض للجزاء المنسجم، مع ذلك الحكم.
الشهادة تعني الحضور، و لها مرحلتان
و الشهادة تعني الحضور؛ و الشهيد و الشاهد بمعنى واحد، و يُقال للشهيد في المعركة شهيداً لأنّه يحضر في محضر الحقّ تعالى حين يرحل عن الدنيا، فيصبح حيّاً مخلّداً؛ أو أنّه بمعنى اسم المفعول -لأنّ القتيل بمعنى المقتول- أي أنّ الملائكة تحضره عند موته، فهو مشهود أمام صفوف ملائكة الرحمة، و هذا هو معنى الشهادة.
عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ.٢
و تدعى الشهادة شهادةً لأنّ الشاهد يحضر فيشهد؛ لذا يقال للشاهد شهيداً. و للشهادة مرحلتان: مرحلة التحمّل، و مرحلة الأداء.
شرائط تحمّل الشهادة ثمّ أدائها
فإن أراد المرء الشهادةَ في أمر معيّن، فعليه -أوّلًا- أن يذهب فيرى ذلك الأمر و يشاهد عياناً خصوصيّاته التي يريد الشهادة بشأنها، ثمّ عليه بعد ذلك أداء الشهادة عند القاضي. و يُدعى الذهاب و الرؤية و الاطّلاع على تلك القضيّة تحمّلًا للشهادة، بينما تدعى الشهادة عند القاضي أداءً للشهادة.
و إذا شاء شخص ما الشهادة في الموضوعات المختلفة، فالواجب أن يكون مطّلعاً على حقيقة تلك الموضوعات، فإن شاء -مثلًا- الشهادة عند القاضي أنّه رأى زيداً في الساعة الفلانيّة و في المكان الفلانيّ، فينبغي له أن يكون قد رأى زيداً في تلك الساعة و ذلك المكان. و سيدعي ذهابه إلى ذلك المكان و رؤيته زيداً هناك في تلك الساعة تحمّلًا للشهادة، لأنّه حصل من خلال ذلك على علم و اطّلاع في ذلك الشأن، ثمّ إنّه يأتي إلى القاضي فيشهد بما رأى، لأنّ الرؤية هي موضوع الشهادة.
أمّا لو أراد أداء الشهادة بأنّه رأى زيداً يصلّي، فإنّ قيداً قد اضيف في هذه الحال إلى أساس الرؤية. و ينبغي أن يكون قد تحمّل الشهادة على هذه الكيفيّة. أي ينبغي أن يكون قد ذهب فرأى زيداً يصلّي، ليأتي -من ثمّ- فيشهد بذلك، فإن كان قد رأى زيداً في غير حال الصلاة، عجز عن الشهادة بأنّه رآه يصلّي.
و لو أراد كذلك أداء الشهادة عند القاضي بأنّه رأى زيداً يصلّي مؤدّياً مستحبّات الصلاة؛ كأن يكون قد ارتدى عمامةً و بسط سجّادة يصلّي عليها، و تختّم في يده اليمنى بخاتم من عقيق، و كان نظره في صلاته إلى موضع سجوده، و غير ذلك من المستحبّات، فينبغي أن يكون قد شاهد زيداً يصلّي مع جميع هذه الأوصاف و الخصوصيّات. فيمكنه -بعد ذلك- الشهادة بكلّ واحد من الخصوصيّات التي عاينها، من التعطّر و لبس الخاتم و غير ذلك. فإن لم يكن قد عاين واحداً من تلك الخصوصيّات، تعذّرت
عليه الشهادة في تلك الخصوصيّة.
و لو شاء -مثلًا- أن يشهد عند القاضي بأنّ زيداً كان يصلّي مؤدّياً جميع الآداب المستحبّة و الخصوصيّات المذكورة بحضور قلب و التفات كامل إلى الحقّ تعالى، بحيث إنّ فكره و ذهنه ملتفتان إلى الله تعالى، و أنّه نوى بعمله ذاك القُربة إليه سبحانه، لا رياءً و سمعةً و لا خدعة و تصنّعاً، و أنّه كان يصلّي للّه و في سبيل الله بحضور قلب و التفات ذهن؛ فإنّ عليه أن يرى زيداً حال الصلاة مع تلك المستحبّات، و يرى -كذلك- أنّ لزيد حضور قلب و التفات ذهن إلى الله تعالى و في سبيل الله، ليأتي -في المرحلة اللاحقة- فيشهد عند القاضي، و إلّا تعذّرت عليه الشهادة.
و من الجليّ -بطبيعة الحال- أنّ مثل هذه الشهادة على حضور قلب زيد في الصلاة لا تتيسّر لأيّ كان. فأنّى للمرء أن يعلم أنّ زيداً كان يصلّي بحضور قلب؟! إذ لو كان زيد قد أصلح ظاهره و وقف تجاه القبلة للصلاة، ناظراً إلى محلّ سجوده؛ فإنّ ظاهره الحسن لا يدلّ على التفات ذهنه و حضور قلبه. فقد يخضع البدن و تسكن الحواسّ، إلّا أنّ الذهن يبقى مضطرباً مشوّشاً.
و يجب على من يريد الشهادة على حضور قلب زيد في الصلاة أن يكون مطّلعاً على قلب زيد، عالماً بالخطرات المارّة على ذهنه، و إلّا تعذّرت عليه الشهادة بذلك.
و بعد أن اتّضح هذا الأمر نشرع بالكلام عن شهادة الأنبياء و الشهداء يوم القيامة حين يريدون الشهادة على أعمال الناس. فأيّ شهادة هي يا ترى؟
أ يشهدون بأنّ زيداً وقف للصلاة متّجهاً إلى القبلة؟ أم يشهدون بأنّه صلّى صلاة صحيحة بحضور قلب و التفات ذهن و قصد قربة؟
من الواضح أنّ الأمر الأخير هو المقصود، إذ لا قيمة لنفس الصلاة لو جُرّدت من روحها و شرائطها المعنويّة. فصلاة الرياء صلاة مرفوضة و غير مقبولة. فالصلاة التي يضطرب الذهن خلال جميع حركاتها و سكناتها و أقوالها و أفعالها، حتّى خلال تكبيرة الإحرام فيها، و التي يكون المرء خلالها هدفاً لهجوم الأفكار و الخواطر المشوّشة مرفوضة و باطلة.
و على هذا الأساس فإنّ الخصوصيّات الواقعيّة لهذه الصلاة و لهذا الصيام و الحجّ و الجهاد و لكلّ عمل يفعله الإنسان يجب أن تكون مشهودة للشاهد، و أن يكون الشاهد حاضراً أثناء وقوع الواقعة ليتحمّل الشهادة قبل أدائها. و يتوجّب أن يتحلّى بهذه الخصوصيّة، من يتحمّل الشهادة على أعمال الإنسان يوم القيامة.
و نلحظ -من جهة اخرى- أنّ القرآن الكريم يقول بأنّ الشهداء و النبيّين يشهدون على عمل الإنسان، فيجب -إذاً- أن يكونوا حاضرين معه.
و حين يشهد الأنبياء و الشهداء على كلّ واحد من أفراد الامّة، فيتّضح أنّهم حاضرون مع كلّ فرد في كلّ لحظة من حياته، الحاضر و الغائب، الموجود و المعدوم. و أنّهم حاضرون في الخلوة و الجلوة، و النوم و اليقظة، و الحركة و السكون، و في الكسب و العمل، خارج البيت و داخله، و أنّهم مطّلعون على جميع خصوصيّات أعمال الإنسان. و هذا الأمر لا يختصّ بفرد واحد أو فردين، بل يشمل جميع أفراد الامّة، الغائب منهم و الحاضر.
و إنّنا نرى أنّ الأفراد العاديّين عاجزون عن الشهادة في جميع شئون الحاضرين حولهم و خصوصيّاتهم فضلًا عن الغائبين، و كذلك عاجزون عن بيان خصوصيّات الشهادة على النوايا القلبيّة و الوجه الباطني و الحقيقيّ للأعمال خلال الأزمنة و الأمكنة القريبة، فضلًا عن الأزمنة و الأمكنة
المتباعدة.
إذاً فشهادة الأنبياء و الشهداء على أعمال اممهم، بما فيهم الحاضر و الغائب، القريب و البعيد، شهادةً على حقيقة أعمالهم لا على ظاهرها، و ذلك ممّا لا يتيسّر لكلّ أحد.
الشهداء على الأعمال مطلعون على النوايا
و يجب أن يكون الشهود ممّن يستوي لديهم الغيب و الحضور، و الخفيّ و الظاهر، و القريب و البعيد، و الظاهر و الباطن ليمكنهم تحمّل الشهادة و أداءها في المرحلة اللاحقة. أي أن يكونوا ممّن لهم اطّلاع على الضمائر و السرائر، و على الأسرار و الأفهام، مثل اطّلاع الإنسان على نفسه.
إنّنا مطّلعون على أنفسنا و على نوايانا و أعمالنا، و نعلم ما ذا فعلنا في الساعة الفلانيّة و المحلّ الفلانيّ، و ما ذا كانت نيّتنا، و قصدنا من ذلك العمل، و نعلم مدى حضور قلبنا أثناء الصلاة التي صلّيناها، و هل كان سلامنا على زيد للّه تعالى أو لقصد دنيويّ، و نعلم قصدنا من الاحترام و التبجيل الذي أبديناه لفلان، و لو خفي ذلك على أصحابنا و رفقائنا.
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ.۱
و يجب أن يكون اولئك الشهداء المقتدرون الذين يشهدون يوم القيامة مطّلعين على أعمال كلّ فرد من أفراد الامّة الذين يريدون الشهادة عليه، أكثر من اطّلاع ذلك الفرد على نفسه.
و تتّضح أجوبة هذه المسائل تلقائيّاً من المطالب التي أوردناها سابقاً و ذكرنا فيها أحوال المقرّبين و المخلَصين و خروجهم عن حدود الزمان و المكان و بلوغهم مقام التجرّد، و أن لا سبيل للشيطان عليهم، و أن ليس لهم حساب و لا كتاب و لا عرض و لا حضور، و أنّهم يجدون سيطرة
علميّة و حقيقيّة على عالم الإمكان و عالم الخلقة.
أي أنّ الذين يمكنهم الشهادة هم الذين تخطّوا مضيق الجهات و عالم الطبع و النزعة المادّيّة و حبّ الدنيا، و الذين تجاوزوا الامور التي تحجب النفس و تحصر مدركاتها بالامور التي تربط الإنسان بالخارج عن طريق الحواسّ الظاهريّة، حيث لا تنحصر حواسّهم بالحواسّ الخمس الظاهرة، فقد صارت حاسّتهم السادسة يقظة فعّالة، و تفتّحت بصائرهم و أصبحت أرواحهم ذات سيطرة و هيمنة.
و بعبارة اخرى فإنّهم يمثّلون موجودات تعيش في هذا العالم أو ارتحلت عنه، إلّا أنّها تمتلك إحاطة علميّة بجميع الموجودات؛ و لو لم تكن كذلك لتعذّرت عليها الشهادة بهذه الكيفيّة. و ينبغي أن يكون الأمر كذلك، لأنّ الأفراد الذين يشهدون يوم القيامة، إنّما يشهدون بإذن الله تعالى، إذ لا حقّ لأحد في الكلام ذلك اليوم إلّا بإذن الحقّ تعالى و تقدّس:
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ ، خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ، وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ.۱
و من هنا فمن المسلّم أنّ اولئك الشهداء الذين يريدون الشهادة، إنّما يشهدون بإذن الله تعالى، و هذا الإذن ليس إذناً شكليّاً. بل ينبغي -إضافة إلى الشرف الحاصل للمأذون بالكلام بإذن الله سبحانه- أن يكون له قدرة على الكلام بصورة صحيحة في عالم التكوين و الحقيقة، و ينبغي له -إذ
يريد الشهادة- أن يكون قد سبق له تحمّل الشهادة. أمّا من لم يتحمّل الشهادة و لم يتحمّل أعمال العباد بالكيفيّة التي ذُكرت بجميع وقائعها و خصوصيّاتها و سرائرها و بواطنها، فكيف سيمكنه أداء الشهادة؟ لأنّ الشهادة في ذلك العالم هي الشهادة بالحقّ.
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً.۱
وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ.٢
الشهداء يجب أن يكونوا صادقين في شهادتهم
و سيأتي إن شاء الله تعالى في بحث الشفاعة اللاحق، أنّ أصحاب حقّ الشفاعة هم الذين يشهدون بالحقّ. و من هنا ينبغي أن تكون هذه الشهادة بالحقّ و عن علم، و كون الشهادة عن علم يلزم أن تتبعها الشفاعة.
و على هذا الأساس فإنّ الذين يشفعون عند الله تعالى هم أصحاب الشهادة أي الذين يشهدون بالحقّ، و الذين لهم علم و اطّلاع على حقيقة ما يشهدون به. و ربّما يعسر بداية الأمر تصوّر كيفيّة مجيء شخص واحد و شهادته على أعمال ملايين البشر؟ أيّ ذهن هذا؟ أ يصبح ذهن الإنسان ماكنة حساب إلكترونيّة (الحاسوب) ليمكنه يوم القيامة الشهادة على أعمال جميع البشر من زمن آدم إلى يوم القيامة في كلّ لحظة و كلّ مكان و بهذه الخصوصيّات.
إنّ أجهزة الحاسوب تعجز عن إنجاز هذا العمل، لأنّها قادرة على حلّ بعض المسائل الرياضيّة، أمّا الإخبار عن البواطن و الضمائر فأمرٌ خارج
عن عهدتها إذ لا شأن لها إطلاقاً بالبواطن، لأنّها آلات مادّيّة و ستتّضح هذه المسألة بمثال واحد إن شاء الله تعالى.
عند ما يذهب الطفل إلى المدرسة فتعطونه كتاباً و تقولون له: اقرأ هذا الكتاب! فإن كان يعرف القراءة، فإنّه سيقرأه سطراً فسطراً بتأنٍ و تأخير، ينظر إلى السطر الأوّل فيقرأه، ثمّ السطر الثاني و الثالث و الرابع، و ربّما يصل إلى السطر الرابع أو الخامس فينسى مطالب السطر الأوّل، إذ لا يمكن لذهنه احتواء جميع المطالب.
و حين يريد حفظ شعر معيّن -مثلًا- فإنّه يحفظ البيت الأوّل، ثمّ يصل إلى البيت الثاني فينقطع ارتباطه مع البيت الأوّل، ثمّ يحفظ البيت الثالث فيزول ارتباطه مع البيت الثاني. ثمّ يتوجّب عليه أن يتذكّر الشعر من القرائن و الأشباه و بالترتيب، فإن شاء قراءة البيت الخامس -مثلًا- فعليه قراءة البيت الأوّل حتّى يصل إلى البيت الخامس.
و على هذا الأساس فإنّ الأطفال الذين يحفظون قصيدة طويلة لا يمكنهم تلقّي المعنى و المفهوم الموجودان في تلك القصيدة، و لا إدراك خلاصة المطالب و إجمالها. أمّا الكبار فليسوا على هذه الشاكلة. إذ إنّهم لو قرأوا قصيدة من ألف بيت، كتائيّة ابن الفارض، ثمّ سُئلوا بعد ذلك عن مضمون القصيدة، لقالوا إنّ المضمون كذا و كذا، و إنّ القصيدة تدور حول الموضوع الفلانيّ. كما أنّكم لو قرأتم كتاباً خلال ليلة واحدة ثمّ سُئلتم عن محتويات الكتاب لذكرتموها بالتفصيل. و لو وُضعت أمامكم صفحة مكتوبة فنظرتم فيها من أعلاها إلى أسفلها، لذكرتم ما كُتب فيها؛ و لو سُئلتم ما ذا كان في الجريدة المسائيّة لأجبتم عمّا فيها إجمالًا.
و كلّ ذلك بواسطة سعة الذهن و إحاطته التي تمكّنه من ضمّ المطالب المتفرّقة بسرعة، ثمّ الحكم عليها. أمّا الطفل فيفتقر إلى مثل هذه السعة
و الإحاطة.
و هذا الأمر ينطبق كذلك على العلوم الإلهيّة التي يستلزم تحصيلها بذل الجهود، و من ثمّ فإنّ الأفراد الذين لم يضعوا أقدامهم في هذا المضمار ستبقى علومهم محدودة ضمن دائرة إدراكاتهم العاديّة، أمّا حين يتعرّفون على الحكمة العمليّة و يسيرون في ميدان الرياضات الشرعيّة و يخطُون -بحول الله و قوّته- في طريق السير و السلوك إلى الله تعالى بقدم صدق و عزم راسخ متين، فإنّ علومهم ستقترن بالتقوى و النور، و سيوجب ذلك نشأة العلوم الخفيّة و الأسرار الكامنة.
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم.۱
و من هنا فإنّ العمل و التهذيب و تزكية النفس و تنزيه القلب من صدأ حبّ الدنيا و العلائق و العوائق المانعة من إشعاع نور الأحديّة في القلب، و تصفية الباطن و غسل صفحة الضمير و الذهن من غير الله تعالى سيؤدّي إلى تجلّي نور الله سبحانه.
جاء في الرواية: اتَّقُوا فَرَاسَةَ المُؤْمِنِ فَإنَّ المُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ.٢
أ فهل من العسير، إذا ما شاء الله سبحانه، إيجاد علم معرفة أعمال العباد و الاطّلاع على سرائرهم و ضمائرهم؟ كلّا؛ إنّ الله تعالى عالم بخفايا و مكنونات كلّ موجود من الموجودات، كما أنّ من ساروا في طريق رضا الله تعالى و بلغوا مقام القربة إليه، فصاروا من المقرّبين و المخلَصين و المنزَّهين، صاروا يرون بنور الله و بإذنه، و صار علمهم علم الله سبحانه،
لا علماً منفصلًا عن علمه سبحانه.
لقد صقل هؤلاء قلوبهم، و أناروا بنور المجاهدة أرواحهم، فصفت عن الغلّ و الغش و الظلمة. و حين يشرق نور الله فيهم، فإنّ كلّ صفحة من الموجودات و الكائنات الخفيّة و الظاهرة ستتصوّر و تتجلّى فيهم كما تنعكس الشمس في المرآة الصقيلة و في الماء الصافي الساكن بلا موج. لكأنّ فيهم شمساً لا تتفاوت بلحاظ الجمال و التلألؤ و الإشراق مع الشمس الحقيقيّة، شمساً من آثارها بعث الحرارة و النور و الدفء.
و حين ينجلي القلب و ينصقل فسيتجلّى فيه الجلال و الجمال الإلهيّين و الأسماء الملكيّة و الملكوتيّة الإلهيّة. فالمؤمن -إذاً- يرى و ينظر عندها بنوره و يتحمّل الشهادة و يؤدّيها. و كذلك المخلَصون و المقرّبون الذين لهم هذه الصفات، و حتّى البعض ممّن خطى خطوات في طريق معرفة الحقّ تبارك و تعالى و اكتسب صفاءً يتناسب مع مسافة الطريق الذي طواه و الإخلاص الذي اكتسبه، إلّا أنّه لم يصل مقام المخلَصين، فإنّه سيتمكّن من تحمّل الشهادة و أدائها بنفس القدر الذي اكتسب و الحدود التي طوى.
كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ، وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ ، كِتابٌ مَرْقُومٌ ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ.۱
كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ، وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ، كِتابٌ مَرْقُومٌ.٢
و قد ذكرنا أنّ الكتاب ليس ورقة مكتوبة تُعطى للإنسان في يده، بل هو عبارة عن حقيقة أعمال الإنسان التي قام بها في عالم الوجود فدوّنها
عالم الخلقة و كتاب التكوين، حيث يُستنسخ منه ذلك القدر المتعلّق بالإنسان فتصبح تلك الأعمال الخاصّة بكلّ شخص مشهودةً لديه، سواءً كان ذلك الفرد مؤمناً أم كافراً. كتاب المؤمنين يأتيهم من قِبل أئمّة الحقّ، أي أنّ أئمّة الحقّ يدعون المؤمنين بكتبهم، كما أن كتب الفجّار و الكفّار تأتيهم من قِبل أئمّة الباطل، حيث يدعو اولئك الأئمّة مأموميهم إلى كتبهم من جهة الشقاء.
و قد ذُكر أنّ جميع ذلك منطوٍ في الإمام المبين، و أنّ جميع الكتب التي تصل من قِبَلِ أئمّة الحقّ و من قبل أئمّة الباطل تنطوي تحت هيمنة مقام الولاية الكبرى الإلهيّة و إشرافها.
أئمّة الباطل لا قدرة لهم على الشهادة
و ينبغي العلم بأنّ مقام الشهادة مختصّ بأئمّة الحقّ، و أنّ أئمّة الباطل لا قدرة لهم على الشهادة، و يمكنهم فقط دعوة اممهم إلى كتبهم. و العلّة في ذلك أنّ أئمّة الحقّ في جهة النور و الإشراق و العلم و الحياة:
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ.۱
أمّا أئمّة الباطل فليس في جهتهم إلّا الظُّلمة و العمى و الجهل و البلاء و الضيق:
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ.٢
وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا٣
و حين يكون أئمّة الباطل عمياناً، فكيف يشهدون على أعمال
أتباعهم؟ مثلهم كمثل أعمى يقود أعمى آخر، ثمّ يأتي ثالث فيقودهما معاً، و يأتي رابع فيقود الثلاثة و هكذا ...
ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.۱
و مطلع هذه الآية كالتالي: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ.
و شتّان بين من يحلّق بالطائرة في عنان السماء فوق الغيوم، متحرّكاً في هدى ضوء الشمس الساطع، ينظر إلى العالم فيرى مشرقه و مغربه و فضاءه المشرق و أرضه، و بين مَن يغوص تحت الماء في عمق عشرة آلاف متر، قد أطبقت عليه اللجج المتراكمة، و تلاطم فوق رأسه الموج و الطوفان، و حجبت الغيوم السوداء الكثيفة السماء فأظلم منها البحر! و أنّى له أن يرى سبيله في أعماق ذلك البحر الخضمّ المظلم!
إنّ الأسماك التي تعيش في أعماق البحر لا أعين لها، إذ ليس هناك من نور لتحتاج إلى أعين للإبصار. و لو فرضنا أنّ سمكة من أسماك السطح ذهبت إلى أعماق البحر و تمكّنت من مقاومة ضغط الماء مدّة من الزمن، فإنّها ستفقد بصرها في النتيجة. و يُقال إنّ الإنسان لو بقي ستّة أشهر في موضع لا منفذ فيه للنور، فإنّ من المسلّم أنّ عينه ستفقد إبصارها و يصاب بالعمى.
بلى، هذه هي نتيجة الظلمات و ثمرتها. يقول القرآن الكريم: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها.
و إذا كان أئمّة الباطل بلا نور، و كانت اممهم -بدورها- بلا نور، فبأيّ
شيء سيشهدون يا ترى؟ و حين يُغلق في وجوههم سبيل العلم، فلن يكون لهم اطّلاع على باطن أحد و لا معرفة لسرّ أحد، إذ ليس هناك إلّا الظُّلمة فوق الظُّلمة.
و من هنا فإنّ المقرّبين ذوي النور و العلم و الدراية هم الذين يمكنهم تحمّل الشهادة و أداءها. و قد ورد في الآية القرآنيّة الكريمة:
وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.۱
إنّ أعمالنا ليست خافية على الله عزّ و جلّ، إلّا أنّ العجيب أنّها ليست أيضاً خافية على النبيّ و على المؤمنين. فكيف -يا ترى- يرافق النبيّ و المؤمنون عمل الإنسان و يسايرونه في الزمان و المكان بحيث يرون ذلك العمل و يشهدون عليه؟
المؤمنون الحقيقيّون واقفون على أعمال الإنسان
نعم، إنّ المؤمنين الحقيقيّين يتبعون سنّة رسول الله و سيرته، فيرون الإنسان و يطّلعون على أعماله في الغيب و الشهود.
و لم يكن أصحاب رسول الله بأجمعهم ذوي صفاء و وفاء، بل كان فيهم منافقون مردوا على النفاق، و كانوا يحذرون من إثارة الفتن و إفشاء الكثير من الأسرار التي لديهم خوفاً من أن ينزل الوحي في اليوم التالي فيُخبر رسول الله، و كذلك خوفاً من أن يفضحهم رسول الله. و حين كان الوحي ينزل فيكشف لرسول الله بعض أعمالهم، فكانوا يتساءلون: مَن أخبرك بهذا؟ فيقول صلّى الله عليه و آله: أخبرني ربّي، أنبأني ربّي!
و قد جاء في سورة التحريم أنّ بعض نساء رسول الله كنّ يفشين بعض أسراره إلى خارج بيته، مع أن رسول الله أخذ عليهنّ عهداً بأن
لا يَبُحْن بذلك لأحد.
وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ.۱
و لقد تعاونت تلك المرأة مع إحدى أزواج رسول الله على إفشاء سرّه، فنزلت هذه الآية: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ٢ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ.٣
و قد أورد الزمخشريّ في تفسيره «الكشّاف»: «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ» خِطَابٌ لِحَفْصَةَ وَ عَائِشَةَ عَلَى طَرِيقَةِ الالْتِفَاتِ لِيَكُونَ أبْلَغَ في مُعَاتَبَتِهِمَا. وَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ أزَلْ حَرِيصَاً عَلَى أنْ أسْألَ عُمَرَ عَنْهُمَا حَتَّى حَجَّ وَ حَجَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ وَ عَدَلْتُ مَعَهُ بِالإدَاوَةِ فَسَكَبْتُ المَاءَ عَلَى يَدِهِ فَتَوَضَّأ، فَقُلْتُ: «مَنْ هُمَا»؟ فَقَالَ: «عَجَباً يَا ابْنَ عَبَّاسٍ»! كَأنَّهُ كَرِهَ مَا سَألْتُهُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: «هُمَا حَفْصَةُ وَ عَائِشَةُ».٤
قلوب أولياء الله يقظة على الدوام
إنّ الناس يتصوّرون عند ما يذهب رسول الله صلّى الله عليه و آله
و سلّم إلى البيت و يأوي إلى فراشه فإنّه يرقد كمثل أيّ جسم معدنيّ جامد، و أنّ جميع حواسّه و إدراكاته و إحساساته تعتمد على جسمه المادّيّ و تتعامل مع العالم الخارجيّ حين يكون مستيقظاً فقط، بينما الأمر ليس كذلك، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله يقول بأنّ عينه تنام إلّا أنّ قلبه لا ينام. أي لا فرق بالنسبة إليه بين اليقظة و النوم، و بين الغيب و الشهادة، و لا فرق بين وجوده في المنزل أو في المسجد، و لا بين حياته أو موته، لأنّ كلّ ذلك بالنسبة إليه يقظة و شعور و علم و إدراك و حياة.
مَيِّتُنَا لَمْ يَمُتْ وَ مَقْبُورُنَا لَمْ يُقْبَرْ.
أي صاحب وحي و قلب آگاه | *** | داراي مقام لِي مَعَ الله |
أي محرم بارگاه لاهوت | *** | وى در ملكوت حقّ شهنشاه |
أي بر شده از حضيض ناسوت | *** | بر رفرف عزّ و شوكت و جاه |
وانگه ز سُرادقات عزّت | *** | بگذشتي و ماند امين درگاه |
أي پايه قدر چاكرانت | *** | بالاتر از اين بلند خرگاه |
از شرم تو زرد شد چهره مهر | *** | وز بيم تو دل دو نيم شد ماه |
اين بوى بهشت عنبرين است | *** | يا ذكر جميل تو در افواه۱ |
از نيل تو پاي وهم لنگ است | *** | وز ديل تو دست فهم كوتاه |
فرموده به شأنت ايزد پاك | *** | لَوْلَاك لَمَا خَلَقْتُ الأفْلَاك۱ |
و سواء للإمام موته و حياته، لأنّه ليس موجوداً مادّيّاً. و لا نرمي بذلك أنّه مَلَك لا بَشَر، بل الشيء المهمّ أنّه -مع بشريّته- قد نال هذا المقام و هذه الدرجة. و لو كان مَلَكاً لجعل الله تعالى حسابنا حساباً منفصلًا، و لتمّت لنا الحجّة على الله تعالى يوم القيامة. إذ سنحتجّ لديه قائلين: يا إلهنا! لقد خلقتَ أفراداً ملكوتيّين عالمين بالغيب، و خلقتنا عباداً مبتلين بالمادّة و الطعام و الأهل و الولد و العيال، فنحن عاجزون عن متابعة الأنبياء في أفعالهم.
يقول تعالى إنّ هؤلاء الأنبياء بشر مثلكم، لهم أبدان و حواسّ، فهم يحسّون بالابتلاءات، و يعانون من أذى اممهم، و يذوقون أ لم الفقر و الفاقة، كما يدركون طعم اللذائذ، بَيدَ أنّهم تخطّوا جميع هذه الامور بقوّة التوكّل و الصبر و المصابرة، و تحرّكوا في هذه المسيرة الصعبة فبلغوا مقصودهم.
أمّا أنتم فجلستم و تسمّرتم في أماكنكم و تعللتم بـ «ليتَ و لعلّ و لِمَ و بِمَ و سوف و أنّ و أمثالها». و لقد كانوا أهل المجاهدة و المثابرة، و كنتم أهل الكسل و الفشل و التثاقل و التواكل.
و خلاصة القول: وَ قُلِ اعْمَلُوا، أي اعملوا ما شئتم أن تعملوا
فلن يجبركم اليوم أحد على ترك أعمالكم، فأنتم مختارون. و لكن! فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
شهادة رسول الله و المؤمنين هي شهادة الله عزّ و جلّ
انتبهوا فإنّ الله سينبّئكم بأعمالكم، بأيّ لحاظ؟ بلحاظ أنّ الرسول و المؤمنين يطّلعون على أعمالكم. و هذا يعني أنّ من طرق إخبار الله الإنسانَ بعمله، تحمّل الشهادات التي لرسول الله و المؤمنين على أعمال الإنسان. فعلم رسول الله و علم المؤمنين -إذاً- قد اندكّ في علم الله عزّ و جلّ، و هو أمر ينطوي على لطائف تبيّن إعجاز القرآن في بيان المعارف الإلهيّة و كيف يعلمنا -بكلمات قصار معدودة- كتاباً من الحكمة و الحقيقة.
و عند ما تشرّفت في الصيف الماضي بزيارة مشهد المقدّسة، التقيت بأحد علماء الحوزة العلميّة في قم، و كان قد قدم للزيارة، فتلوتُ له آية من القرآن الكريم تتحدّث عن النهي عن ولاية الكفّار و مودّتهم. و كانت فيها نكتة ذكرتها له، فتعجّب كثيراً و قال: ما أعجب إعجاز القرآن! لقد قرأت هذه الآية من قبل مائة مرّة، بل ألف مرّة و مرّة دون أن ألتفتُ إلى هذا المعنى.
و كنتُ -بدوري- لم ألتفت إلى هذه النكتة سابقاً، و صادف أن حللتُ في أحد الفنادق، و كان معي كرّاسة صغيرة اطالع فيها، فلاحت أمامي هذه الآية الكريمة، فأحسست عند رؤيتها بالعجب من معناها. و هي:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً.۱
أي أنّكم إذا تولّيتم الكفّار فإنّهم سيُسلّطون عليكم و يصبحون ذوي
قدرة و مَنَعة فيجعلون أرواحكم و أموالكم و نواميسكم و أعراضكم في معرض الهلاك و البوار، و يسترقّونكم و يستعبدونكم و يذلّونكم و يقضون عليكم.
و الملفت للنظر هنا قوله إنّ قدرتهم و سلطتهم التي وردت عليكم هي قدرة الله تعالى. أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؟ إنّ قدرة الكفّار و تسلّطهم عليكم هي عين قدرة الله و سلطته، فلا تعتبروا حولهم و قوّتهم من قِبل أنفسهم، بل الحول و القوّة و القدرة مختصّة بالله تعالى، فأنتم -بمودّتكم للكفّار و تولّيكم لهم- قد جعلتم قدرة الله و سلطته عليكم، و جعلتم أنفسكم منكوبين مخذولين باختياركم الوقوع تحت ضربات القدرة الجلاليّة الإلهيّة بأيدي الكفّار الذين ليسوا إلّا آلة مسخّرة.
و قد ورد شبيه لهذه النكتة في الآية مورد البحث، و هي أنّ رسول الله و المؤمنين يتحمّلون الشهادة عن الناس، الذين يُساقون إلى ربّهم فيكون إنباؤه إيّاهم بأعمالهم بواسطة شهادة هؤلاء الشهداء كإنبائه هو بنفسه لهم؛ كما أنّ تحمّل الشهادة و أداءها من قِبل رسول الله و المؤمنين هي عين شهادة الله.
يروي عليّ بن إبراهيم القمّيّ (المقدّم على محمّد بن يعقوب الكلينيّ) في تفسيره (و هو من نفائس التفاسير) عن الإمام الصادق عليه السلام:
إنّ أعْمَالَ العِبَادِ تُعْرَضُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كُلَّ صَبَاحٍ وَ مَسَاءٍ أبْرَارِهَا وَ فُجَّارِهَا، فَاحْذَرُوا وَ لْيَسْتَحِي أحَدُكُمْ أنْ يَعْرِضَ عَلَى نَبِيِّهِ العَمَلَ القَبِيحَ.۱
و أورد العيّاشيّ في تفسيره عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه سئل
عن المراد بالمؤمنين في الآية: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ، فقال: هُمُ الأئِمَّةُ.۱
و الأخبار الواردة في هذا المجال تفوق حدّ الاستفاضة، و تغصّ بها كتب الحديث و التفسير.
فلا تتصوّروا أنّ كلّ من فاه بالشهادتينِ، ثمّ انساق وراء الفسق و الفجور سيتمكّن -بانتحال الإيمان- من الإخبار عن بواطن الأعمال، لأنّ المراد بالمؤمنين في الآية هم الذين بلغوا مقام الإيمان الحقيقيّ و نالوا درجة اليقين و ارتقوا سلّم الإنسانيّة و بلغوا مقام الكمال فصاروا من المقرّبين.
و قد جاء في العديد من الروايات أنّ الأعمال تُعرض على إمام العصر عجّل الله تعالى فَرَجه كلّ اسبوع، فيفرح بصالح أعمال الناس، و يحزن على سيّئها و طالحها.
و بطبيعة الحال فقد شوهد بين المؤمنين المتّقين العارفين بالله، مَن له اطّلاع على الغيوب و الضمائر و السرائر، و لكن بالطبع ليس بالدرجة الموجودة لدى الإمام عليه السلام، بل بمراتب أدنى و أقلّ.
قصّة الحاجّ عبد الزهراء الگرعاويّ
و قد كان لي صديق من أهالي النجف الأشرف يُدعي الحاجّ عبد الزهراء الگرعاويّ النجفيّ، و هو ينتمي إلى قبيلة الگرعاويّ بَيدَ أنّه عاش في النجف منذ صباه و ترعرع فيها. و كان رجلًا فطناً سريع الانتقال، حاضر البديهة، و كان -في الوقت نفسه- متديّناً و عاشقاً من عشّاق أبي عبد الله الحسين عليه السلام. و كان كثير البكاء و التضرّع، لذا كانت له مكاشفات صوريّة و مثاليّة.
و كان مقرّ عمله في بغداد، أمّا منزله ففي مدينة الكاظميّة. و كان
يمتلك سيّارة شخصيّة يقودها بنفسه. و قد اعتاد هذا الصديق على الذهاب إلى كربلاء للزيارة كلّ ليلة جمعة، و في كثير من الأوقات يذهب إلى النجف لزيارة القبر المطهّر لأمير المؤمنين عليه السلام و القيام بصلة أرحامه في النجف.
و قد امتدت سوابق معرفتي به إلى ثلاث و عشرين سنة، و قد انتقل إلى رحمة الله تعالى منذ سنة تقريباً، رحمه الله.
و قد حصل في أوائل معرفتي به أن سافرتُ ذات صيف مع جميع العائلة و ولديّ للقيام برحلة نزور فيها المراقد المقدّسة، فتشرّفنا بزيارة سامراء لعدّة أيّام، ثمّ قدمنا إلى الكاظمين عليهما السلام، و قد كان الحاجّ عبد الزهراء مسافراً آنذاك بسيّارته إلى النجف الأشرف، فلم يكن موجوداً في الكاظميّة حين وصلناها.
و في اليوم التالي لوصولنا، تشرّفت حسب العادة بالذهاب إلى الحرم المطهّر للكاظمين عليهما السلام عند طلوع الشمس، و أثناء عودتنا من الزيارة لمح ولدي الأكبر -و كان آنذاك في الرابعة من عمره- بائع خضروات يبيع خياراً في أوّل أوانه، فبكى و طلب منّي أن أشتري له، فامتنعت لأنّه كانت لديه حالة تقيّؤ و إسهال، و كان تناول الخيار مضرّاً له، فبكى و أصرّ على طلبه، فلم ألقِ إلى بكائه بالًا، فضربتُه على يده و انصرفنا.
و عند غروب الشمس جاءني إلى الفندق أحد الأصدقاء الكربلائيّين، فأخبرني أنّ الحاجّ عبد الزهراء قد عاد من النجف الأشرف ذلك اليوم، و سألني إن كنتُ راغباً بمرافقته لزيارة الحاجّ و الصلاة معه في بيته، فقبلتُ و ذهبنا مشياً على الأقدام إلى منزل الحاجّ الذي كان يقع آنذاك خارج الكاظميّة في الضواحي الجديدة الملحقة بالمدينة. فشاهدت في الطريق حشداً من الناس و قد تجّمعوا حول شيءٍ ما، فاستفسرت من صاحبي عن
الأمر، فقال إنّهم يتفرّجون على التلفزيون، و كان قد دخل حديثاً إلى الكاظميّة. نظرت إليه من بعيد، فشاهدتُ صوراً تتحرّك على صفحة مضيئة، فأخذت احدِّث نفسي مندهشاً: من هذا التقدّم الذي بلغه البشر بحيث صار يأتي بصور الأشخاص و أصواتهم من المناطق البعيدة، فيعرضها أمام الأنظار في نفس اللحظة؟!
ثمّ دخلنا إلى منزل الحاجّ فإذا هو قد فرش سجّادته في زاوية حديقة الدار و قد انشغل بالصلاة، فصلّينا بدورنا. و بعد السلام و الاستفسار عن الأحوال، قال الحاجّ بعد أن مكث هنيئة: إنّ الحقّ لا يمتزج بالباطل، و في النهاية سينفصل الحقّ إلى جانب و الباطل إلى جانب آخر.
قلتُ: نعم، هذا صحيح.
قال: الحقّ و الباطل كالماء و الزيت، فلو مزجناهما معاً و خلطناهما لانفصلا من جديد، بحيث يصبح الماء في الأسفل و الزيت في الأعلى.
قلتُ: نعم، هذا صحيح.
قال: أيّها السيّد محمّد الحسين! أنت تعلم أنّ بإمكان الإنسان أن يصل بالتدبير و الحيلة و المكر إلى جميع المناصب و المقامات، فيصبح تاجراً، و يصبح ثريّاً، و يصبح عالماً و مرجعاً، و سلطاناً و رئيس جمهوريّة، إلّا أنّ طريق الله عزّ و جلّ لا مجال فيه للحيلة أبداً.
قلتُ: نعم، هذا صحيح.
فقال: لقد غادرتُ النجف صباح هذا اليوم، و كنت أسير بسيّارتي متّجهاً إلى الكاظميّة، فرأيتُ فجأة أنّ من الممكن أن يكون المرء في الطابق العاشر من عمارةٍ ما، لكنّه قد يسقط -بأدنى غفلة- و يهوي إلى الطابق الأسفل دفعةً واحدة.
فأدركتُ أنّ جميع هذا الكلام و الحوار كان من أجل إبلاغي أنّ
الضرب على يد الطفل الذي أراد الخيار لم يكن أمراً صحيحاً، و أنّه كان ينبغي تهدئة الطفل بصبر و تأنٍّ، و أنّه كان مطّلعاً على أحوالنا و على طلب الطفل و ضربي إيّاه، بينما كان جالساً في سيّارته في الصحراء الممتدّة بين الحلّة و بغداد، إلّا أنّه لم يكن يريد القول لي بصراحة «لقد فعلتَ كذا».
فخاطبتُه في أعماقي دونما اختيار: وَ اللهِ لَقِصَّتُكَ أعْجَبُ!
و الله إنّ رؤيتك ما فعلته -و أنت في صحراء النجف- و أنا في موضع يبعد عنك بأكثر من مائة كيلومتر أعجب عندي من قصّة التلفزيون و أدعى للدهشة و الاستغراب.
وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ* وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ۱
و يستفاد من هذه الآية الكريمة أنّه لمّا يؤتى بالنبيّين و الشهداء يوم القيامة فيشهدون على أعمال الإنسان، فإنّ الله تعالى يجعل نفس العمل جزاءً لذلك العمل.
فشهادة هؤلاء -إذاً- ليست شهادة لسانيّة و لفظيّة، بل إنّ كيفيّة أدائهم لها تتجسّد في جعل عمل الإنسان مشهوداً أمامه. و من هنا فإنّ تحمّل الشهادة ينبغي أن يكون هكذا. أي أنّ النبيّين و الشهداء لا يحملون المطلب في أذهانهم فيتصوّرونه و يصدّقونه بالشكل و الوصف و الكتابة، بل إنّهم يحفظون في وجودهم في مقام التحمّل حقائق الأعمال، ثمّ يعرضون يوم القيامة هذا الأمر المتحمَّل و يخرجونه للأنظار و يُطلعون الإنسان عليه، كما أنّ الجزاء المُعطى للإنسان إنّما هو عين عمله: وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ.
كلّ ما في الأمر أن العمل يكون في صورته الحقيقيّة الملكوتيّة، سواءً كانت صورةً للجنّة: رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ؛ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ؛ بِلِقاءِ اللَّهِ؛ أو كانت صورةً للجحيم و العقارب و الحيّات و المناظر المخوفة المهولة و المنازل المرعبة؛ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ. و خُلاصة المطلب: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.
و ليس هناك في عالم التكوين ذرّة من الظلم، فكلٌ سيُجزى بأعماله فيراها مجبولةً بنفسه و روحه، فيعتنقها لتأخذه إلى الجنّة أو إلى النار.
إنّ الله تعالى ينبّهنا -قبل فوات الأوان- إلى مقامات المقرّبين و الصدّيقين و الواصلين إلى حريمه، لأنّ الإنسان لا يرى عيبه أبداً، بل يعتبر نفسه محوراً للكمال، فيقيس عليها جميع الامور الواقعيّة، و يجعلها محوراً للواقعيّة و الحقيقة، ثمّ يقيس مقدار الحقائق وفق هذا المعيار، و ليس ذلك بالاسلوب الصحيح.
و بالالتجاء إلى الله و الإنابة إليه، و بالبكاء و الابتهال و التضرّع إليه عزّ و جلّ، فإنّه تعالى سيوقف الإنسان على عيوبه و يبصّره بها، و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
المَجْلِسُ الخَامِسُ وَ الأرْبَعُونَ: شَرْطُ الشَّهَادَةِ: الإحَاطَةُ العِلْمِيَّةُ بِالمَخْفِيَّات
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العلى العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ.۱
العُتبى بمعنى الرضا؛ استعتب يستعتب: طلب الرضا؛ لذا فإنّ تعبير وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يعني أنّ الكفّار سيطلبون الرضا فلا يُقبل منهم، و سيعتذرون فلا يُجديهم اعتذارهم، و سيتكلّمون فلا يجد كلامهم اذناً صاغية. و كلامنا يتعلّق بالكفّار الذين لا يؤذن لهم بالكلام.
و هناك -في المقابل- طائفة شاهدة على الأعمال، و ذات مزايا و خصائص تتحمّل من خلالها الشهادة و تؤدّيها.
و الامّة بمعنى الجماعة، فإن لم تُضف إلى شيء آخر، صار معناها عامّاً، أمّا لو اضيفت إلى شخص معروف أو إلى زمان أو مكان معيّنين، فسيصبح المراد بها خصوص ذلك الأمر المضاف. كامّة محمّد الدالّة على
الجماعة المرتبطة بالنبيّ صلّى الله عليه و آله، و كامّة آخر الزمان، و امّة الحجاز الدالّتين على خصوص اولئك الأفراد.
و قوله تعالى: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ يفيد أنّ شاهداً سيُبعث من كلّ طائفة و جماعة، دونما استثناء أو تعيين لزمان أو مكان أو نبيّ.
و ينبغي أن نرى المزايا التي يتحلّى بها ذلك الشاهد المبعوث من كلّ امّة. و قد ذكرنا في المجلس السابق أنّ العلم و الاطّلاع يُعدّان أمراً لازماً في الشهادة، و أنّ شهادة الشخص الذي يشهد على أمرٍ ما دون علم و اطّلاع تُعدّ شهادة باطلة، و أنّه سيُدعى -تبعاً لذلك- شاهد زور، أي شاهداً بالباطل. فلو دُعي امرئ لم يطّلع على واقعة معيّنة إلى الشهادة على تلك الواقعة، فجاء و شهد لدى الحاكم، كانت شهادته شهادة زور و شهادةً بالباطل، و سيكون قد ارتكب معصية كبيرة بأدائه تلك الشهادة.
وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً.۱
و يقال للشهادة شهادةً -أساساً- لأنّها تستلزم الحضور؛ إذ تعني الشهادة: الحضور. و من هنا فإنّ الشهادة على الأعمال في يوم القيامة تتوقّف على كون الشاهد قد تحمّل أعمال الأفراد في الدنيا و اطّلع عليها و علم بها، ثمّ إنّه يؤدّي يوم الجزاء ما تحمّله.
بما أنّ الحكم بكون العمل حسناً أو سيّئاً يحتاج إلى علم و اطّلاع على كيفيّة ذلك العمل بما يتضّمنه من قصدٍ للقُربة أو للخيانة، و من قصدٍ حسن أو سيّئ، و من فعله في سبيل الله أو وصولًا للذّة النفسانيّة، فهو أمر يتعذّر على الأفراد العاديّين الذين يعجزون عن أداء الشهادة في الامور المعلومة المشهودة لديهم، فضلًا عن الأفراد البعيدين و الغائبين.
و بناءً على هذا فينبغي للشاهد -حتماً- أن يستوي لديه أمر الغياب و الحضور، القُرب و البعد، و المكان و الزمان؛ و أن ينظر على حدٍّ سواء إلى الماضي و المستقبل، و إلى الأمكنة المختلفة، و أن يعلم بالبواطن و السرائر، ناهيك عن علمه بظواهر الأعمال، ليمكنه تحمّل الشهادة و أدائها على النحو المطلوب، و إلّا كانت الشهادة خارجة عن دائرة وجوده و إحاطة علمه.
في تفسير الآية الشريفة: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.۱
و المخاطَب في هذه الآية هم المسلمون، حيث يقول لهم الله: إنّنا جعلناكم جماعة معتدلة ذات سيرة معتدلة جميلة لا إفراط فيها و لا تفريط، و جعلنا اموركم على أساس الاعتدال و القسط و العدل، لتكونوا رقباء و شهداء على الناس، ناظرين إلى أعمالهم، شاهدين عليها. و ليكون النبيّ الأكرم -بدوره- ناظراً إلى أعمالكم رقيباً عليكم و شاهداً.
و قد بحثنا مفصّلًا في أنّ هناك مزايا و خصوصيّات لازمة في الشهادة و معدودة من شرائطها. فكيف -إذاً- يتوجّه الخطاب في هذه الآية إلى جميع الامّة الإسلاميّة، امّة رسول الله، مع علمنا أنّ من بين هذه الامّة يوجد القليل فقط ممّن لهم علم و اطّلاع على حقائق الأعمال و وقوف على السرائر و الضمائر، و مع علمنا بأنّ غالبيّة الامّة تفتقر إلى الاطّلاع على مثل هذه الامور؟ يُضاف إلى ذلك أنّ من بين هذه الامّة الفاجر و الفاسق. فكيف يخاطبهم الله تعالى: أنّا جعلناكم امّة وسطاً ذات سيرة معتدلة حسنة و جعلناكم شهداء على الناس؟
لقد كان من هذه الامّة الضالّ و المضلّ و المنافق، و كان يزيد بن
معاوية و أبوه معاوية بن أبي سفيان يعدّان أنفسهما من هذه الامّة. أ فيمكن أن يخاطب الله تعالى امّةً من بين أفرادها نماذج كهؤلاء، فيمتدحها بأنّها امّة وسطاً، و يجعلها شاهدة على أعمال الناس رقيبة عليهم؟ أ يمكن قبول هذا الأمر؟ كلّا بطبيعة الحال.
في الخطابات العامّة ذات الملاك الخاصّ
فعلى الرغم من عموميّة ظاهر الخطاب، إلّا أنّ ملاك الخطاب الذي يتحقّق على أساسه الحكم و الإنشاء هو ملاك خاصّ. و قد تعلّق الخطاب العامّ بذلك الملاك و تلك الخصوصيّة التي يمتلكها اولئك الأفراد المعيّنون الذين هم بين الامّة و المحشورون معها، من الحائزين على مستلزمات الشهادة.
و نظائر هذا الخطاب كثيرة في القرآن الكريم، كما أنّها رائجة و متداولة في العرف الأدبيّ و في المحاورات الاجتماعيّة بين الفصحاء و البلغاء.
لنفرض -على سبيل المثال- أنّ حاكماً معيناً ينزعج و يتأثّر من بعض أفراد رعيّته، فيقول في خطابه: «إنّ رعيّتي لا يلقون إليّ بالًا، و لا يهتمّون بكلامي» مع أنّ بعض أفراد رعيّته -لا جميعهم- قد عصوه و خالفوه، لكنّه أورد الخطاب على نحو العموم، فجعل الجميع في معرض اللوم و العتاب.
أو كما يحصل في حزب أو جمعيّة ذات عنوان خاصّ يقوم بعض أفرادها بتصرّف ما، فيتوجّه الخطاب إلى جميع الأعضاء، سواءً كان مدحاً و ثناءً أم لوماً و عتاباً، مع أنّ ملاك الخطاب خاصّ بأفراد معيّنين.
و هذا المطلب من موضوعات فنّ البلاغة و الفصاحة في الأدب، يستخدمه الفصحاء و البلغاء في خطاباتهم على اختلاف اللغات و الأمكنة.
و قد جاء في القرآن الكريم -على سبيل المثال-:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ
مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً.۱
حيث يلاحظ في هذه الآية الشريفة أنّ القرآن الكريم قد امتدح أصحاب النبيّ كثيراً، و وصفهم بالصدق و الاستقامة و الشدّة، و بأنّهم لا يتخطّون أوامر الله تعالى، فهم أشدّاء مع أعداء الله، رُحماء مع محبّي الله، دائبون على ركوعهم و سجودهم، يقيمون الصلاة في أوقاتها، يبتغون ضالّتهم: لقاء الله و رضوانه و فضله، إلى الحدّ الذي ذكر أوصافهم موسى و عيسى على نبيّنا و آله و عليهما السلام في التوراة و الإنجيل.
أ فكان جميع أصحاب النبيّ على هذه الشاكلة؟ أ كانوا بأجمعهم يستحقّون هذا المدح و الثناء؟
لقد نزلت هذه السورة في المدينة بعد وقعة صلح الحديبيّة، أي بعد السنة السادسة للهجرة، و كان هناك في المدينة من بين أصحاب رسول الله منافقون يشكّلون الصف الأعظم من الصحابة، و قد نزلت في شأنهم آيات كثيرة في القرآن الكريم.
و لقد كان المنافقون يتظاهرون بالإسلام، و كانت خطابات القرآن العامّة للمسلمين تشملهم، إذ كانوا يصلّون و يصومون، إلّا أنّهم كانوا يضعون العصي في عجلة المسيرة، و يحاولون الحدّ من نفوذ الإسلام. و قد ساعدوا الكفّار سرّاً في الحروب، و سعوا إلى إضعاف الإسلام و المسلمين في الداخل، و كذلك إلى بثّ الرعب في صفوف المسلمين عند مواجهة العدوّ.
و لدينا في القرآن الكريم سورة باسم سورة «المنافقون».
و لقد عانى رسول الله من أذى منافقي امّته أكثر من معاناته من أذى الكفّار و المشركين بكثير، مع أنّ الكفّار و المشركين كانوا يوحّدون صفوفهم في أغلب الغزوات -مثل غزوة الأحزاب- للقضاء على رسول الله و المسلمين، و كانوا يُثيرونها حرباً شاملة تتآلف فيها جميع الطوائف لكسر صولة الإسلام، و توحّد مساعيها لقمعه و استئصال جذوره. إلّا أنّ ضرر المنافقين و أذاهم يبقى -مع هذا كلّه- أشدّ و أقسى على الإسلام و نبيّ الإسلام. و الشواهد التأريخيّة و الأخبار و الروايات الواردة في هذا المجال تضيق على الحصر. لذا نشاهد الشدّة و القسوة في لحن الآيات القرآنيّة في خطابها للمنافقين، اولئك المنافقين الذين شكّلت قصّتهم فصلًا كبيراً من تأريخ حياة رسول الله صلّى الله عليه و آله.
و الخلاصة، فقد كان المنافقون يعدّون ضمن الصحابة، أ فكان القرآن الكريم يمتدح المنافقين؟ كلّا بطبيعة الحال. إذ فضلًا عمّا ذُكر، فإنّ لهذه الآية شواهد و قرائن دالّة على أنّ المخاطب بها لا يشمل جميع أصحاب رسول الله.
يقول القرآن: وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.
و من الجليّ أنّ هذه الصفات لم تكن موجودة لدى المنافقين، فقد كانوا على العكس من ذلك أشداء على المؤمنين رحماء مع الكفار!
يقول القرآن: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً؛ بينما لم يكن المنافقون على هذه الكيفيّة، يُضاف إلى ذلك أنّه لم يرد في التوراة و الإنجيل ذكر للمنافقين و صفاتهم، و لم يأت فيهما حديث عن أبي سفيان و عبد الله بن سلام و نظائرهما؛ و الشاهد على ذلك ما جاء في آخر الآية من الوعد بالمغفرة و الأجر الجزيل لمن آمن من أصحاب النبيّ و عمل
صالحاً، و ليس لجميعهم.
و مجمل القول أنّ آية: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ تفيد -وفق هذا البيان- انطباعاً بأنّ المراد بالامّة الوسط في الملاك و المعيار، خصوص الذين امتلكوا تلك الصفات، أي الأشدّاء على الكفّار، الرحماء بينهم، من أمثال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام و عثمان بن مظعون و سلمان و أبي ذرّ الغفاريّ و المقداد، و أصحاب رسول الله الذين استشهدوا في غزوة بدر مثل عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب ابن عمّ رسول الله، أو المستشهدين في غزوة احد مثل حمزة سيّد الشهداء و نظائر هذه الأرواح المقدّسة و طيور سدرة المنتهى المحلّقة إلى الذروة، فهم الذين كانوا أصحاب النبيّ. و قد تعلّق الخطاب العامّ -بلحاظ شرف هؤلاء و مقامهم- بالامّة الإسلاميّة، حيث جرى مدحهم بتعبير وَ الَّذِينَ مَعَهُ.
كان هذا فيما يتعلّق بالآية الواردة في سورة الفتح، فلننظر في الآية التي نبحث في شأنها: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.
لقد جعلناكم امّة وسطاً معتدلة، و شرّفناكم بحيث صار رسول الله شاهداً عليكم بصورة مباشرة و دونما واسطة. فأنتم الشهداء على الناس، و رسول الله الشاهد عليكم. فهو -إذاً- مقام شريف أن يُجعل الإنسان شاهداً على عامّة الناس و يُجعل الرسول شاهداً عليه. و من لا يمتلك هذا المقام فلا يصلح لمسؤوليّة تحمّل الشهادة و أدائها. و من هنا فإنّ المراد بالامّة الوسط. الشاهدة على الناس ليس جميع الامّة، بل أفراداً خاصّين يحملون المزايا و الخصائص المذكورة في معنى الشهادة.
و ينبغي الآن أن نرى مَن هم هؤلاء الأفراد؟
في تفسير الآية الشريفة: هُوَ اجْتَباكُمْ
لدينا آية قرآنيّة اخرى نظير الآية السابقة:
هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ.۱
و ربّما كان مضمون هذه الآية أوضح من سابقتها، لأنّها تقول: هُوَ اجْتَباكُمْ، بينما الآية السابقة تستخدم تعبير: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.
و يعني الاجتباء في العربيّة الأصطفاء و الاختيار، كما يحصل عند اختيار عدّة تفّاحات من شجرة تفّاح أو من صندوق تفّاح، و يدعى كذلك بـ الاستنقاء و هو الاصطفاء و التطهير.
و للفظ الاجتباء دلالة كبيرة على الشرف و المنزلة الرفيعة، لأنّ الله تعالى هو المجتبي و المصطفي، و هؤلاء الأفراد هم المجتبون و المصطفون من قِبَلِهِ عَزّ و جلّ.
كما ورد في هذه الآية: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ.
فَلِمَ فعل ذلك، و لِمَ سمّاكم أبوكم إبراهيم المسلمين؟ فصارت لكم هذه الشخصيّة و الخصائص، ليكون الرسول شاهداً عليكم و تكونوا شهداء على الناس.
و ينبغي الآن أن نرى من هم هؤلاء الشهداء الذين اجتباهم الله و سمّاهم أبوهم إبراهيمُ المسلمين من قبل، فصارت لهم هذه الخصائص لتحمّل الشهادة و أدائها، و أين سمّاهم المسلمين؟
معنى دعاء النبيّ إبراهيم لذرّيّته
لقد دعا إبراهيم عند بنائه الكعبة بيت الله الحرام قائلًا:
رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا
وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.۱
أنت يا إلهنا عزيزٌ ذو استقلال، حكيمٌ فعلُك محكم متقن، ندعوك و نسألك أن تستجيب دعاءنا.
و حين استجاب الله دعاء النبيّ إبراهيم: رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، فجعل من ذرّيّته امّة مسلمة، فإنّ إبراهيم قد حكى عن إسلام الذرّيّة، كما في الآية: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ. أي الذرّيّة التي وُجدت منه و التي رغب إلى الله في دعائه أن يجعلهم مسلمين.
فلمن -يا ترى- يعود دعاء النبيّ إبراهيم في قوله: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ؟ فقد دعى النبيّ إبراهيم بهذا الدعاء حين كان مشغولًا مع ابنه إسماعيل ببناء الكعبة، فكانا يجلبان الصخر فيرصفانه على بعضه، و يبنيان الكعبة التي دُعيت «بيت الله» في الموضع الذي تقع فيه حاليّاً.
و الحقّ أنّ هذا الدعاء كان في شأن ذرّيّة إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام اللذين كانا في مكّة. فقد كان سياق الآيات قبل هذه الآية كالتالي:
وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ.٢
ثمّ يقول: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ.٣
إلى أن يصل إلى هذه الآية: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.۱
و الله وحده يعلم ما ذا كان الأب و الابن يدعوان سويّاً بينما كانا منهمكين في بناء الكعبة و رفع قواعدها، و ما ذا كانت حالات مناجاتهما و ارتباطهما بخالقهما، و أيّ لذّة كانت لهما في حوارهما مع ربّهما. و القرآن الكريم يذكر لنا قدراً من تلك الأدعية في هذه الجملات، حتّى يصل إلى هذه الآية: رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ.٢
و علينا أن نعرف أوّلًا أيّ إسلام هو ذلك الذي طلبه النبيّ إبراهيم في دعائه؟ أ هو هذا الإسلام العاديّ الذي ينتمي إليه الناس، و الذي يتلبّسون به بمجرّد تفوّههم بالشهادتين؟ أ كان إبراهيم -و هو من أنبياء اولي العزم و ذوي الكتاب و الشريعة- يدعو للحصول على مثل هذا الإسلام؟ بالإضافة إلى أنّ النبيّ إبراهيم لم يدعُ بهذا الدعاء يوم كان صبيّاً غرّاً أوّل بلوغه و لا دعا به في مطلع رسالته، بل حين صار شيخاً كبيراً قد تجاوز عمره مائة سنة أو مائة و سبع عشرة سنة، مرّ خلاله بأربعة و عشرين ابتلاءً و اختباراً، و نال درجة الإمامة التي تفوق درجة النبوّة، و كان من بين تلك الابتلاءات ذبح ولده إسماعيل، و ما مرّ به في أرض بابِل حين حطّم الأصنام و رُمي بالمنجنيق في النار ثمّ ابعد إلى أرض الأردن و فلسطين حيث قضى هناك مدّة طويلة يدعو إلى التوحيد، ثمّ إرساله ابن أخيه أو ابن اخته النبيّ لوط برسالته و دعوته. و بعد تحمّله شدائد و محن من زوجته سارة التي لم تُنجب منه. و كانت سارة قد وهبته فتاة جميلة تُدعي هاجر كان ملك بابل قد أهداها لها،
بَيدَ أنّ إبراهيم -احتراماً لها لأنّها ابنة خاله- لم يكن يقرب هاجر لتُنجب له أولاداً مع أنّه كان قد بلغ من العمر عتيّاً دون أن يُولَد له.
إلّا أنّ سارة أذنت له بالزواج من هاجر لتُنجب له بعد أن رأت كبر سنّه و حرمانه من الأولاد، فرزقه الله من هاجر ولداً سمّاه إسماعيل، هو جدّنا الأعلى.
غير أنّ سارة اغتمّت من ولادة إسماعيل، و كانت قد كبرت و شاب شعرها و احدودب ظهرها، فجرى بينها و بين إبراهيم من الامور ما جعل إبراهيم يصطحب هاجر و طفلها من فلسطين إلى أواسط صحراء الحجاز، ثمّ يتركهما هناك و يرجع إلى فلسطين. و كان يأتيهما إلى مكّة مرّة أو مرّتين في السنة فيتفقّدهما و يعود، حتّى ترعرع إسماعيل و كبر فشرعا سويّاً ببناء الكعبة بيت الله.
إلّا أنّ الله أنعم على سارة بولد أنجبته على كبرها و شيخوختها، فجاء جبرائيل تصحبه الملائكة و قد نزلوا بالعذاب على قوم لوط، فعرّجوا على خيمة إبراهيم و بشّروه بولد يولد له من سارة.
و لمّا طرق الخبر أسماع سارة قالت مدهوشة: يَا وَيْلَتَى أَ ألِدُ وَ أنَا عَجُوزٌ قد شاب شعري و احدودب ظهري وَ هَذَا بَعْلِي شَيْخاً قد فات أوان إنجابه؟! فقالت الملائكة: الأمر للّه وحده، و هو الرحيم الكريم.
ثمّ مَنَّ الله على إبراهيم بولد من زوجته سارة سمّاه إسحاق. و لقد مرّ إبراهيم بجميع هذه الابتلاءات و نظائرها حتّى جاء إلى مكّة، و كان أمر الحجّ و قضيّة مِنى و ذبح ولده و بناء بيت الله، فدعا هذا النبيّ الكبير ربّه: رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ.
اصطفاء ذرّيّة إبراهيم للشهادة على أعمال الناس
فأيّ إسلام هو يا ترى؟ إنّه الإسلام الأعظم. أي أنّ إبراهيم دعا ربّه: ربّنا اجعل أرجاء وجودنا و كياننا تسليماً لجلالك و عظمتك و كبريائك، و أن
لا تكون فقط أعمالنا لك وحدك، بل أرواحنا و أخلاقنا و ديننا و إيماننا و عمرنا و وجودنا و مودّتنا و حياتنا كلّها لك وحدك بلا شريك.
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.۱
هذا هو معنى الإسلام الذي رجاه إبراهيم من ربّه، و دعاه أن يشرّف به نبيّنا الذي سيولد من نسله، و يشرّف به ذرّيّته.
و قد اتّضح بذلك، المراد بالذرّيّة و إسلام الذرّيّة في الآية الشريفة: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ.
ودعاء النبيإبراهيم: هُوَ اجْتَباكُمْ؛ أي أنّ الله اصطفاكم و اختاركم.
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ، أي هو الذي دعا لكم بهذه الدرجة و المرتبة من الإسلام، و ختمكم بهذا الخَتمْ، و أعلمكم بصبغة الإسلام، و سمّاكم المسلمين و دعا لكم.
و ينبغي أن نرى مَن هم هؤلاء الأفراد من ذرّيّة إبراهيم الذين يمتلكون هذه الدرجة من الإسلام، و يحوزون هذا القدر من الطهارة الباطنيّة؟ يُضاف إلى ذلك أنّ إبراهيم و إسماعيل دعوا ربّهما -إضافة إلى دعائهما بشأن الإسلام الواقعيّ الأعظم و الطهارة الباطنيّة- فقالا: وَ أَرِنا مَناسِكَنا.
أرنا مواضع عبادتنا و كيفيّة نُسكنا و طريق عبوديّتنا. علّمنا مناسك العبوديّة و الدعاء إضافةً إلى تلك الطهارة الباطنيّة و التسليم الحقيقيّ مقابل ذاتك المتّصفة بالعزّة و الجلال و الجمال و الكبرياء و العظمة، و اهدِ ذرّيّتنا إلى الإسلام الحقيقيّ و طريق العبوديّة، و ابعث فيهم نبيّاً منهم يعلّمهم الكتاب و الحكمة و يتلو عليهم آياتك و يزكّيهم و يهديهم إلى الرقيّ و التكامل إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. و بطبيعة الحال فإنّ مقام عزّة الله و حكمته يقتضي استجابة هذه الأدعية.
و يمكن تلخيص النتيجة الحاصلة من مجمل المطالب التي ذكرناها بعدّة جمل: لأنّ النبيّ إبراهيم دعا أوّلًا لإسلام ذرّيّته، ثمّ دعا لإراءتهم المناسك و لقبول توبتهم، و بعدها دعا لبعث نبيّ منهم يتلو عليهم آيات الله و يعلّمهم الكتاب و الحكمة و يربّيهم و يزكيّهم. فيتّضح أنّ الدعاء اختصّ بجماعة من قريش جمعوا بين طهارتهم الذاتيّة و الإسلام الواقعيّ و التسليم المحض مقابل الله عزّ و جلّ؛ لأنّ الإسلام هنا بمعنى الإسلام الوارد في الآية: رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، و هو دعاء صدر من إبراهيم عند نبوّته و بعد اجتيازه الاختبارات العديدة، و حين كان منشغلًا مع ابنه إسماعيل ببناء الكعبة.
فطلبه للإسلام في هذه الحال يتضمّن معنى راقياً سامياً و دقيقاً، و هو مقام التسليم و الفناء في ذات الله و التوكّل عليه، و تفويض جميع الامور و كلّ الوجود إليه تعالى. فتكون إحدى صفات الذرّيّة المصطفاة الجمع بين الطهارة المكتسبة الصفاتيّة، من إراءة المناسك و قبول التوبة في جميع المراحل و الوفاء بالعهد، إضافة إلى شمولهم بلطف الله عزّ و جلّ ببعثة رسول الله، و تلاوة آيات الله عليهم و تعليمهم الكتاب و الحكمة في حدّها الأعلى وصولًا إلى مقام الكمال الإنسانيّ.
و نعلم أنّ جملة لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ و جملة لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ تعليل لعبارة هُوَ اجْتَباكُمْ. أي أنّ علّة اجتبائكم و اصطفائكم هي: أن تكونوا شهداء على أعمال الناس و الرسول شهيد على أعمالكم.
الأئمّة عليهم السلام هم الشهداء يوم القيامة
و بما تقدّم، فقد اتّضحت هذه النتيجة و عرفنا بصورة عامّة الخصائص التي تتحلّى بها هذه الذرّيّة، و لا بدّ الآن من تبيان مصداقها من خلال السنّة
الصحيحة و الروايات الواردة، ليتّضح أنّ هؤلاء الشهداء من قريش الذين لهم هذه الخصائص لا يمكن أن يكونوا إلّا أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
روي في «الكافي» و «تفسير العيّاشيّ» عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قال: نَحْنُ الامَّةُ الوَسَطُ وَ نَحْنُ شُهَدَاءُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ وَ حُجَجُهُ في أرْضِهِ وَ سَمَائِهِ.۱
أي أنّنا وحدنا فقط الذين نمتلك هذه الخصائص في عالم الظاهر و الباطن، و في عالم الغيب و الشهادة، و في عالم التحمّل و الأداء.
روى الحاكم الحسكانيّ في «شواهد التنزيل» بسلسلة سنده المتّصل عن سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال:
إنّ اللهَ إيَّانَا عَنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ»، فَرَسُولُ اللهِ شَاهِدٌ عَلَيْنَا وَ نَحْنُ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ (عَلَى خَلْقِهِ- خ ل) وَ حُجَّتُهُ عَلَى أرْضِهِ؛ و نَحْنُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ جَلَّ اسْمُهُ (فِيهِمْ): «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً».٢
و روى ابن شهرآشوب في «المناقب» عن الإمام الباقر عليه السلام ضمن حديث طويل قال:
وَ لَا يَكُونُ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ إلَّا الأئِمَّةَ وَ الرُّسُلَ، فَأمَّا الامَّةُ فَإنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أنْ يَسْتَشْهِدَهَا اللهُ وَ فِيهِمْ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ في الدُّنْيَا عَلَى حُزْمَةِ بَقْلٍ.٣
أ ليس بين أفراد الامَّة فاسقون؟ فلو جاء أحدهم إلى قاضي الشرع فشهد أنّه رأى زيداً و هو يسرق حزمة بقل من عمرو، فهل ستُقبل شهادته؟
سوف لن تُقبل شهادته بطبيعة الحال باعتباره فاسقاً. فهي شهادة مرفوضة و لو كانت على حزمة بقل أو حزمة بصل أو حزمة ورق الشمندر فكيف إذاً سيشهد مثل هذا الشخص على أعمال الناس في يوم القيامة؟
ورد في «تفسير العيّاشيّ» عن أبي عمرو الزبيديّ عن الإمام الصادق عليه السلام قَالَ: قَالَ اللهُ: «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً»؛ فَإنْ ظَنَنْتَ أنَّ اللهَ عَنَي بِهَذِهِ الآيَةِ جَمِيعَ أهْلِ القِبْلَةِ مِنَ المُوَحِّدِينَ؛ أ فَتَرَى أنَّ مَنْ لَا يَجُوزُ شَهَادَتُهُ في الدُّنْيَا عَلَى صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ يَطْلُبُ اللهُ شَهَادَتَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَ يَقْبَلُهَا مِنْهُ بِحَضْرَةِ جَمِيعِ الامَمِ المَاضِيَةِ. كَلَّا لَمْ يَعْنِ اللهُ مِثْلَ هَذَا مِنْ خَلْقِهِ. يَعْنِي الامَّةَ التي وَجَبَتْ لَهَا دَعْوَةُ إبْرَاهِيمَ: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»؛ وَ هُمُ الامَّةُ الوُسْطَى وَ هُمْ خَيْرُ امَّةٍ اخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.۱
و حقّاً، فالأمر على ما قال عليه السلام. و كيف يمكن أن يأتي الله عزّ و جلّ يوم القيامة بأفراد فاسقين من هذه الامّة، فيقول أمام الأنبياء كلوط و شعيب و يونس و دانيال، و أمام جميع الامم بأنّ هؤلاء هم شهداء امّة خاتم الأنبياء؟
المراد بالامّة الوسط هنا هم الأئمّة، دون أن يكون لفظ «الامّة» قد استعمل في الأئمّة. فالامَّة بمعنى الامّة، إلّا أنّ مصداقها الواقعيّ منطبق هنا على خصوص الأئمّة، و عليه فقد جاء الخطاب عامّاً بملاك هذا المصداق. إلّا
أنّ حقّ ورود الخطاب بهذه الخصوصيّات مختصّ بالأفراد الذين يمتلكون هذه المزايا، و هم أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين، و الأخبار الواردة في هذا المجال تفوق حدّ الاستفاضة.
رسول الله يشهد على الأنبياء، و الأنبياء يشهدون على اممهم
و بهذا البيان يتّضح معنى الآية الشريفة:
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً.۱
على أنّ الآية التالية أوضح منها دلالة و أكثر جلاء: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ.٢
و هي أكثر صراحة من سابقتها، لأنّها تقول: يَوْمَ نَبْعَثُ ثمّ تقول: مِنْ أَنْفُسِهِمْ. و اولئكَ الأفراد المبعوثون هم الأئمّة المصطفون من قِبَل الله تعالى، بعثهم من بين الناس للشهادة على أعمالهم.
يقول عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره في بيان عبارة «شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ»: يَعْنِي عَلَى الأئِمَّةِ، فَرَسُولُ اللهِ شَهِيدٌ عَلَى الأئِمَّةِ، وَ هُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ.٣
و جاء في «الاحتجاج» للشيخ الطبرسيّ رحمة الله عليه عن أمير المؤمنين عليه السلام ضمن حديث يذكر فيه أحوال أهل الموقف:
قَالَ: فَيُقَامُ الرُّسُلُ فَيُسْألُونَ عَنْ تَأدِيَةِ الرِّسَالَةِ التي حَمَلُوهَا إلَى امَمِهِمْ، و تُسْأَلُ الامَمُ فَتَجْحَدُ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ
إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ»، فَيَقُولُونَ مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَ لَا نَذِيرٍ، فَتُشْهِدُ الرُّسُلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ فَيَشْهَدُ بِصِدْقِ الرُّسُلِ وَ تَكْذِيبِ مَنْ جَحَدَهَا مِنَ الامَمِ فَيَقُولُ- لِكُلِّ امَّةٍ مِنْهُمْ «فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، أي: مُقْتَدِرٌ عَلَى شَهَادَةِ جَوَارِحِكُمْ عَلَيْكُمْ بِتَبْلِيغِ الرُّسُلِ إلَيْكُمْ رِسَالاتِهِمْ، وَ لِذَلِكَ قَالَ اللهُ لِنَبِيِّهِ: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً».۱
و أورد العيّاشيّ في تفسيره عن أبي معمّر السعديّ، قال:
قَالَ عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ في صِفَةِ يَوْمِ القِيَامَةِ: يَجْتَمِعُونَ في مَوْطِنٍ يُسْتَنْطَقُ فِيهِ جَمِيعُ الخَلْقِ فَلَا يَتَكَلَّمُ أحَدٌ إلَّا مَنْ أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً، فَيُقَامُ الرُّسُلُ فَيُسْألُون. فَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً»؛ وَ هُوَ الشَّهِيدُ عَلَى الشُّهَدَاءِ، و الشُّهَداءُ هُمُ الرُّسلُ.٢
و جاء في كتاب «فضائل الشيعة» للشيخ الصدوق رضوان الله عليه رواية رواها بسنده المتّصل عن الثماليّ:
قَالَ: قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَحْنُ الشُّهَدَاءُ عَلَى شِيعَتِنَا، وَ شِيعَتُنَا شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ، وَ بِشَهَادَةِ شِيعَتِنَا يُجْزَوْنَ وَ يُعَاقَبُونَ.٣
شهادة رسول الله و الأئمّة تبعاً لاختلاف المراتب
و خلاصة القول أنّ شهادة رسول الله على الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام تقوم على أساس الدرجات و المقامات التي ينبغي مراعاتها، لأنّ درجة
رسول الله و مقامه في الذروة من السموّ و الرفعة؛ أمّا مقامات الأنبياء و الأئمّة فأدنى منه. فيشفع الأئمّة للُامّة و يشهدون على أعمالهم، لأنّ الناس العاديّين لا قِبَل لهم بمقاومة نور الجلال دون واسطة و حجاب.
و من هنا فإنّ ذلك النور يتنزّل بلحاظ المراتب و الدرجات و المقامات، فيأخذ كلٌّ نصيبه منه. لذا يمكن للإنسان الوصول إلى مقامات الرضا و التسليم أمام ذات الحقّ عن طريق التوسّل بالأئمّة، و بغير ذلك فإنّه سيبقى حائراً ضائعاً تائهاً إلى آخر عمره.
فَيَا رَبِّ بِالخِلِّ الحَبِيبِ نِبِيِّنَا | *** | رَسُولِكَ وَ هُوَ السَّيِّدُ المُتَوَاضِعُ |
أنِلْنَا مَعَ الأحْبَابِ رُؤْيَتُكَ التي | *** | إلَيْهَا قُلُوبُ الأوْلِيَاءِ تُسَارِعُ |
فَبَابُكَ مَقْصُودٌ وَ فَضْلُكَ زَائِدٌ | *** | وَ جُودُكَ مَوْجُودٌ وَ عَفْوُكَ وَاسِعٌ۱ |
خيال روي تو در هر طريق همره ماست | *** | نسيم موى تو پيوند جان آگه ماست |
بِرَغْمِ مدّعياني كه مَنع عشق كنند | *** | جمال چهره تو حجّت موجّه ماست |
ببين كه سيب زنخدان تو چه مىگويد | *** | هزار يوسف مصري فتاده در چه ماست٢ |
اگر به زلف دراز تو دست ما نرسد | *** | گناه بخت پريشان و دست كوته ماست |
به حاجب درِ خلوتْسراى خاصّ بگو | *** | فلان ز گوشهنشينان خاك درگه ماست |
به صورت از نظر ما اگر چه محجوب است | *** | هميشه در نظر خاطر مرفّه ماست |
گر به سائلي حافظ دري زند بگشاي | *** | كه سالهاست كه مشتاق روي چون ماه ماست۱ |
المَجْلِسُ السَّادِسُ وَ الأرْبَعُونَ: شَهَادَةُ المَلَائِكَةِ عَلَى الإنْسَانِ في يَوْمِ القِيَامَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.۱
من بين الطوائف التي تحضر يوم القيامة للشهادة على أعمال الإنسان طائفةُ الملائكة. و قد بحثنا في المجلس السابق في كيفيّة شهادة رسول الله و الأئمّة الطاهرين عليهم السلام، و سيدور بحثنا في هذا المجلس عن كيفيّة شهادة الملائكة.
الأصناف المختلفة لملائكة الشهادة
وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ، وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ، وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ، وَ جاءَتْ كُلُ
نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ ، لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.۱
لقد خلقنا الإنسان و نعلم بجميع الهواجس و الأفكار التي تعتريه و تخطر في ذهنه، و الوساوس التي تعتمل في نفسه، و نحن أقرب إليه من حبل الوريد الحيويّ. و هناك مَلَكان جالسان عن يمينه و عن شماله يتلقّيان الأعمال و الألفاظ و الأفكار التي تصدر منه و يسجّلانها. و المراد عن اليمين و الشمال، جهتي السعادة و الشقاء، و هو عن أعمال الخير و السيرة الحسنة و عن أعمال الشرّ و السيرة السيّئة؛ تلك الأعمال التي تسوق الإنسان في نهاية المطاف إلى أصحاب اليمين أو إلى أصحاب الشمال. فهذان الملكان (عتيد و رقيب) يدوّنان كلّ ما يفعل أو يلفظ، و لو كان كلمةً واحدة.
ثمّ تأتي سكرة الموت بالحقّ، ذلك الموت الذي كنت -أيّها الإنسان- تفرّ منه و تنأى و تحيد؛ و يُنفخ في الصور فهو يوم المعاد الذي تُسرع فيه إلى لقاء الله و زيارة الحقّ تعالى. يؤمئذٍ تجيء جميع النفوس و الأرواح إلى ساحة الله و تقف في موقف عدله عزّ و جلّ.
كلّ نفس معها سائق و شهيد، سائق تتحرّك النفوس إلى ذلك العالم على ضوء حركته و هديه، و شهيد لم يطّلع على جميع أعمالها و أفكارها فحسب، بل دوّن كذلك تلك الأعمال و ذلك السلوك، و حفظ في ذاته و كيانه حقيقة العمل و هيئته بصورة كاملة، من أجل أن يأتي في مثل هذا اليوم فيؤدّي شهادته بشأنها.
و لقد كنتَ -أيّها الإنسان- في غفلة عن هذه الحقيقة، فكشفنا عن بصرك حجاب المعنى، فصار بصرك حادّاً نافذاً. لذا صرت تشاهد حقائق
ماوراء حجاب المادّة و الطبع. و ليس ظواهر الأعمال و السلوك و وقائع الامور و الحوادث فحسب، بل أضحيت تطّلع على حقائقها و بواطنها و نواياها و ملكاتها و أخلاقها بلحاظ الخير و الشرّ، و السعادة و الشقاء، و الحقّ و الباطل.
لهذه الآيات دلالة على أنّ للإنسان مَلَكاً موكّلًا به، و أنّ لكلّ شخص ملائكة خاصّين لتدوين أعماله و تسجيلها. و بطبيعة الحال فإنّ لكلٍّ من هؤلاء الملائكة الذين خلقهم الله تعالى وظائف و مهمّات خاصّة. فبعضهم للعلم، و الآخر للحياة، أمّا هذه الطائفة من الملائكة التي يذكرها عزّ و جلّ في هذه الآيات، فهي طائفة الملائكة الذين يأتون يوم القيامة فيشهدون بما تحمّلوه في هذه الدنيا. أي أنّهم يقومون بتدوين الأعمال، الصالح منها و الطالح:
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ.
فهذان المتلقّيان يلازمان الإنسان على الدوام و لا ينفصلان عنه. و هما معه في نومه و يقظته، و في سكونه و حركته. حتّى إذا لفظ الإنسان جملةً ما، دوّناها على الفور. لا يعتريهما غفلة و لا نسيان، و لا يطرأ عليهما تقاعس و لا فتور في القيام بوظيفتهما.
ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.
و قد ذكر بعض الأعلام، كصاحب «مجمع البيان» و العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه السامي، أنّ رقيب و عتيد ليسا اسمي عَلَم لملكينِ، بل هما صفتان بمعنى الحفيظ و بمعنى المعدّ المهيّأ و الحاضر و الشاهد.
فهؤلاء الملائكة الحفظة المستعدّون يتسلّمون كلّ جملة يلفظها الفم، و كلّ قولٍ يصدر من الإنسان، خيراً كان أم شرّاً، فيسجّلونه و يدوّنونه.
كما ورد لدينا بهذا المضمون: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ،
يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ.۱
بَيدَ أنّنا قد ذكرنا في بعض الأبحاث السابقة أنّ لكلّ صنف من الملائكة مهمّة خاصّة، فهناك ملائكة للعلم، و ملائكة للحياة، و ملائكة للرزق، و للحكمة و للحفظ و القوّة و تسجيل الأعمال و غير ذلك. و قد خُلق كلّ صنف من الملائكة لإنجاز وظيفة معيّنة على نحوٍ لا يمكنهم معه تخطّي مهمّتهم التي هي أصل خلقتهم.
فإن كان رقيب و عتيد صفتين مختلفتين تعنيان الحفيظ و الحاضر المهيّأ، فإنّ هاتين الصفتين تدلّان على ذاتين مختلفتين، و ستكونان منطبقتين على العَلَميّة.
و هذا بديهيّ، إذ نرى اليوم كيف تسجّل هذه الآلات المخترعة -على الرغم من كونها مادّيّة لا معنويّة روحانيّة- كلمات الإنسان و صورته بحيث يمكنها الاحتفاظ بهذا التسجيل قروناً عديدة، فينبغي ألّا نَدَع للشكّ سبيلًا إلى أنفسنا في أمر قيام الملائكة الإلهيّين الأحياء بتسجيل الأعمال و الصور. فهذه الصور و الألفاظ يمكن مشاهدتها في عالم المادّة الخاضع لسيطرة عالم الملكوت و المعنى، فضلًا عن الموجودات الملكوتيّة الروحانيّة المهيمنة و المطّلعة على أعمال الإنسان.
إلّا أنّ هناك نكتة جديرة بالتأمّل، و هي: هل لُاولئك الملائكة درجات و مراتب مختلفة كما للإنسان درجات و مراتب مختلفة؟
و الإجابة: نعم، إنّ لهم درجات مختلفة. إذ إنّ بعضهم من الملائكة المقرّبين مثل جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل، و البعض الآخر من أتباعهم و جندهم، وصولًا إلى الملائكة الفرعيّين الذين يمتلك كلّ إنسان
ملكاً خاصّاً منهم؛ و وصولًا إلى الملكينِ رقيب و عتيد الموكّلين بأعمال الإنسان.
على أنّ أعمال الإنسان و درجاتها و كيفيّاتها متفاوتة بلحاظ الصحّة و مقدار التقرّب و الخلوص في النيّة. فمعاصي الأفراد العاديّين هي الذنوب التي يرتكبونها من زنا و كذب و لعب قمار و شرب خمر و اعتداء على نواميس الناس و حقوقهم و أعراضهم، و هي المعاصي التي يرتكبها عامّة أفراد الناس.
اختلاف الأفراد و درجاتهم بلحاظ الأعمال و درجات الذنوب
لكنَّ الأمر يختلف بالنسبة للمؤمنين، إذ إنّ مَلَكة العدالة التي نشأت لديهم تردعهم عن ارتكاب أمثال هذه الكبائر، فهم من الخواصّ و لهم أعمال خاصّة. أمّا ذنوبهم فلها شكل آخر، و هو الانشغال بغير الله عزّ و جلّ، إذ إنّ التفاتهم إلى غيره سبحانه يُعدّ عليهم ذنباً.
درجات الذنوب و مراتب التوبة تبعاً لاختلاف درجات الأفراد
فالخواصّ في مقام و درجة لو غفلوا فيها عن الله تعالى ساعةً في اليوم، لتوجّب عليهم التوبة من ذلك، لأنّ الالتفات إلى غير الله يعدّ عليهم ذنباً و معصية.
و حين تترسّخ هذه الصفة لدى المؤمنين بحيث تصبح من مَلَكاتهم؛ و يغرقون في أسماء الحقّ و صفاته فلا يغفلون عنه سبحانه، فإنّه تبارك و تعالى سيرفعهم إلى درجات أعلى و يجعلهم من أصفيائه.
إلّا أنّه يبتليهم و يختبرهم في هذه المرحلة ليرتقوا فوق هذه الدرجة. و عليهم أن يجتازوا هذه الاختبارات التي قد يصعب بعضها و يشقّ على النفس. و كثيراً ما يحصل أن يدعوا هؤلاء المؤمنون في خضمّ معاناة الشدائد و المصائب أن: يا إلهي! لقد هدّنا التعب، فارفع عنّا هذه المشكلات.
و يمكن أن يبحثوا في أعماقهم باستمرار عن طريق للفرار من تلك المشاكل، لكنّ حتّى هذا التفكير يعدّ ذنباً، لأنّ واجبهم الفعليّ هو أن
يتحملوا ما يصيبهم بصبر و تحمّل و ثبات و استقامة، لأنّه من قِبَل الحقّ سبحانه. و ينبغي عليهم تخطّي هذه المرحلة دون الالتجاء للدعاء لرفعها فراراً من المحنة و الشدّة. فإن قالوا «خلّصنا يا إلهنا من هذه الفترة فقد تعبنا و اعيينا» عُدّ ذلك معصيةً منهم. لذا يُقال -على هذا الأساس- إنّ الأصفياء يتوبون من التنفيس. أي من قولهم: نَفِّس اللهمّ عنّا هذا الهمّ.
فإن وُفّق الأصفياء في هذه المرحلة و اجتازوها بنجاح و ظفر، نقلهم الله سبحانه إلى درجة الأولياء. و أمثال هؤلاء الفائزين بهذه الدرجة ينعدم لديهم أيّ معنى لذنوب العامّة و الخاصّة و الأصفياء، فلقد اجتازوا هذه المراحل و عبروها، فصار ذنبهم في هذا الموقف و المنزل عبارة عن تلويث الخاطر. فما ذا يعني تلويث الخاطر يا ترى؟
يعني أنّ أذهانهم و خواطرهم و صفحات أفكارهم ينبغي أن تكون على الدوام منزّهة لا يمرّ عليها أيّة خاطرة. بل تبقى تلك الأذهان كالمرآة المشعّة أمام الحقّ و في محضره، لا يضيء فيها غير جمال الحقّ سبحانه، فإن خطر على أذهانهم خاطر ما، عُدّ ذلك ذنباً.
و نحن نعلم أنّ على الإنسان أن يتحلّى بحضور قلب خلال الصلاة، أي أن يسعى ليكون التفاته إلى ذات الخالق بحيث لا تخطر على ذهنه خاطرة ما خلال الصلاة، و أن يسعى ليكون ذهنه منزّهاً غير ملوّث. فإنّ دأب أولياء الله أن لا تخطر لهم أيّة خاطرة، ليس خلال الصلاة فحسب، بل طيلة نهارهم و ليلهم، اللهمّ إلّا التفكير بأمر الله، و الأفكار الصالحة. حيث يكون ورود أمثال هذه الخواطر بإذن من قلوبهم. فإن حصل لبعضهم تشويش في بعض الأحيان سبّب تلوّث الذهن، عُدّ ذلك من الذنوب، و توجّب عليه الاستغفار منه.
و تَوْبَةُ الأوْلِيَاءِ مِنَ التَّلْوِيثِ. ثمّ إنّهم يرتقون من هذه الدرجة،
فيصلون إلى درجة يتعذّر فيها على أيّة خاطرة أن تمرّ على أذهانهم، و يمتنع فيها على طائر الخواطر اقتحام دائرة أذهانهم أو أن يحطّ فيها.
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ.۱
إنّ المتّقين هم الذين حازوا مقاماً و درجةً، بحيث إذا ما شاء الشيطان الطواف حول قلوبهم تمهيداً للهبوط فيها، أو إذا شاء إيجاد خاطرة فيها، استعانوا بحربة ذكر الحقّ جلّ و عزّ و ليطردوه بها.
و حين يتنزّه الذهن، فإنّه سيجد قوّة يمتنع بها على الخواطر الشيطانيّة فلا تنفذ فيه. فإن حصل للمتّقين في بعض الأحيان اضطراب في وجودهم و حقيقتهم، عُدّ ذلك ذنباً لهم. و يُدعى هذا الاضطراب باضطراب السرّ.
بَيدَ أنّه ليس من قبيل الذنوب الخارجيّة، و لا من الذنوب الفكريّة و الذهنيّة، و لا من الذنوب القلبيّة، كما أنّه ليس تنفيساً و انشغالًا بغير الله تعالى. فهو ليس واحداً من هذه الذنوب. و ينبغي على نفوس هؤلاء المتّقين أن تكون في الشدائد و المحن الشاقّة و العجيبة أشبه بماء البحر، صافيةً و لطيفة لا يعكّرها و لا يشوبها أي موج و لا اضطراب.
فإن حصل في هذه النفوس، إثر ابتلاءٍ معيّن أو حادثةٍ ما اضطراب و تشويش، مثل ماء البحر الساكن الذي تهبّ عليه الريح فيتموّج و يضطرب، عُدّ ذلك منهم ذنباً، و توجّب عليهم أن يتوبوا منه، و هذه التوبة هي توبة من اضطراب السرّ.
و قد ورد ضمن رواية في «مصباح الشريعة» المنسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام:
تَوْبَةُ الأنْبِيَاءِ مِنَ اضْطِرَابِ السِّرِّ؛ وَ تَوْبَةُ الأوْلِيَاءِ مِنْ تَلَوُّثِ الخَطَرَاتِ؛ وَ تَوْبَةُ الأصْفِيَاءِ مِنَ التَّنْفِيسِ؛ وَ تَوْبَةُ الخَاصِّ مِنَ الاشْتِغَالِ بِغَيْرِ اللهِ؛ وَ تَوْبَةُ العَامِّ مِنَ الذُّنُوبِ.۱
و الخلاصة فإذا ما تُخطّيت مرحلة اضطراب السرّ، أعقبتها درجة معيّنة خاصّة بالمخلَصين ينعدم فيها اضطراب السرّ، و يسودها الهدوء و السكون المحض.
و يستنتج من هذا الأمر أنّ أولئك الملائكة الموكّلين بالإنسان يمتلكون بدورهم درجات و مقامات مختلفة. فهناك طائفة من الملائكة الفرعيّين بإمكانهم تسجيل الأعمال فقط. و هناك طائفة اخرى ينبغي أن تكون درجتهم أكمل، ليفهموا متى ينشغل الإنسان بالله سبحانه و متى ينشغل بغيره. و هؤلاء يسجّلون في هذه المرحلة خصائص مدركات الإنسان الذهنيّة كما أنّ هناك طائفة اخرى أرفع مقاماً، و هم الموكّلون بالأصفياء، يسجّلون تنفيسهم في مواقع الابتلاء و المحنة، و يسجّلون حالاتهم خلال الامتحانات و الاختبارات و في سائر الشؤون الاخرى.
و هناك طائفة أعلى منهم مقاماً، و هم الملائكة الموكّلون بالأولياء، يسجّلون درجات شئونهم و أحوالهم، و يدوّنون التلوّث الذي قد يحصل لخواطرهم في جميع الأحوال. و بناءً على ما ذكر فليس لجميع الملائكة نفس الدرجة و المقام الواحد.
الذنوب التي لا يمكن الاطّلاع عليها حتّى من قِبَل الملائكة المقرّبين
بَيدَ أنّ للإنسان مقاماً دقيقاً و موقفاً لطيفاً لا يمكن لأيّ ملك من الملائكة أن يسجّله. لما ذا؟ لأنّ الإنسان يصل في مرحلة الصعود و في مقام القرب إلى حيث لا يمكن لأيّ موجود أن يعلو عليه، حتّى لو كان ذلك
الموجود من الملائكة المقرّبين.
يقال: إنّ الإنسان أشرف المخلوقات. أي ذلك الإنسان الذي يصل في مقام التزكية و التهذيب إلى حيث يخرج عن دائرة علم الملائكة المقرّبين و قدرتهم، و إلى حيث لا يفصل بينه و بين الذات القدسيّة للباري تعالى أيّ حجاب أو فاصلة، و إلى حيث لا يمكن لأيّ مَلَك الورود إلى ذلك المقام، إذ يتعذّر على فكر المَلَك و علمه و خواطره و سعة قدرته كَمَلك أن يسجّل دقائق خلوة المؤمن بحضرة الحقّ تعالى.
و قد جاء في الروايات قولٌ للمعصومين عليهم السلام: لِي مَعَ اللهِ حَالات لَا يَسَعُهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ.۱
أي أنّ لكلّ منّا حالات مع الله فوق سعة جميع الملائكة المقرّبين بحيث يعجز الإدراك الرفيع و الفكر المتعالي لأيّ ملك من الوصول إلى تلك الحالات و إدراكها.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في الدعاء الذي علّمه لكميل بن زياد، ضمن تضرّعه إلى الله عزّ و جلّ:
و كل سيئة أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين الذين و كلتهم بحفظ ما يكون مني و جعلتهم شهودا علي مع جوارحي و كنت أنت الرقيب علي من ورائهم و الشاهد لما خفي عنهم.
و كلام الإمام هذا إشارة إلى الذنوب المتعلّقة بالأنبياء و الأولياء. تلك الذنوب التي يتعذّر على الملائكة الاطّلاع عليها، و التي لا يعلم بخصائصها غير الذات القدسيّة للحقّ تعالى. و يتمثّل غفرانها في رفع اضطراب السرّ. أي أنّ الله تعالى يمنّ على عبده المؤمن الذي وصل إلى تلك الدرجة،
فيُبقيه في حرمه و يضيّفه بحيث لا يعتريه اضطراب السرّ طوال مدّة عمره إلى أوان وفاته.
كان هذا كلامنا في شأن الأفراد الذين يرتكبون أمثال هذه الذنوب، فيسجّل الملائكة أعمالهم بهذه الطريقة. أمّا فيما يتعلّق بأهل المعصية فإنّ الملائكة يطّلعون على جميع أعمالهم، لأنّهم يطّلعون على ذنوب الخاصّة و العامّة و على سائر أعمالهم الاخرى. أمّا اضطراب السرّ أو تلوّث الخاطر أو التنفيس المختصّ بالمتّقين، فإنّ الملائكة لا تطّلع على بعض خصوصيّاته.
ملائكة الليل و ملائكة النهار
و لدينا في الروايات أنّ للإنسان ملكينِ في النهار، و ملكينِ في الليل. فملكا النهار يأتيان من أوّل طلوع الفجر الصادق، فيلازمان المرء و يستقرّ أحدهما على كتفه الأيمن بينما يستقرّ الآخر على كتفه الأيسر. و بطبيعة الحال فإنّ المَلَك ليس موجوداً مادّيّاً ليحتاج إلى محلّ، إلّا أنّه إذ يتعلّق بالمادّة فإنّه يكتسب نسبة و إضافة إلى المادّة. شأنه في ذلك شأن أرواحنا غير المادّيّة التي حصلت -بواسطة تعلّقها بالبدن- على إضافة و نسبة خاصّة لذلك البدن.
فمجيء الملكينِ السماويّين و استقرارهما على كتفَي الإنسان هو إذاً نظير تعلّق النفس بالبدن. كما أنّ اليمين و الشمال كناية عن السعادة و الشقاء. أي أنّ أحد ذينك الملكينِ يسجّل الأعمال الحسنة، و يدعو الإنسان إلى الأعمال الصالحة و يلهمه القيام بها؛ أمّا الآخر فيسجّل الأعمال الطالحة و ينهى الإنسان عن ارتكابها. ثمّ يهبط ملكا الليل عند غروب الشمس ليلازما الإنسان إلى طلوع الفجر. فيتبادلان مواقعهما مع ملكَي النهار اللذين ينصرفان. و تدعى هذه الملائكة بملائكة الليل و النهار.
يقول المرحوم آية الله العظمى الحاجّ الميرزا جواد آقا الملكيّ
التبريزيّ أعلى الله تعالى مقامه الشريف -و كان من كبار العلماء الأتقياء و أفاضل الأولياء و الأصفياء ممّن حاز على مقامات و درجات و كرامات- في كتابيه «أسرار الصلاة» و «أعمال السنة» أو «المراقبات»: إنّ الإنسان يرقد في الليل فيوقظه الملائكة الموكّلون به لصلاة الليل، فإن لم يلقِ إلى ذلك بالًا و عاد إلى النوم، فإنّهم يوقظونه من جديد. ثمّ ينام فيوقظونه من جديد. و ليس هذا الاستيقاظ المتكرّر أمراً اتّفاقيّاً، بل هو استيقاظ ملكوتيّ يحصل بواسطة الملائكة. فإن أفاد الإنسان منه و نهض أعانوه و قوّوا روحه، و إلّا أصابهم التأثّر و الفتور.
يقول ذلك المرحوم: إذا قمتَ من النوم فلم تشاهد اولئك الملائكة، فحيّهم و سلّم عليهم على الأقلّ، و ادعُ لهم و اشكرهم.
ثمّ ينقل في كتابه دعاءً بعنوان سلام و تحية لُاولئك الملائكة، يقرأه الإنسان حين ينهض من النوم، و يحمد الله الذي جعل هذه الموجودات الملكوتيّة تلازمه لتؤنسه و تعينه في خلوته و مناجاته لربّه، و تطهّره من تعلّقات عالم المادّة و من الرذائل الأخلاقيّة و الشهوات، و تُلفّته إلى ربّه.
ينقل أحد إخوة الإيمان أنّه عند ما كنت في حرم سيّد الشهداء عليه السلام في إحدى الليالي قرب أذان الصبح، حيث كان الناس منهمكين بالعبادة، و كلٌّ واحد منشغل بنفسه، شاهدتُ أحد أصحاب المكاشفة -ممّن تعرفت عليه سابقاً- و هو يجلس إلى جهة الرأس المطهّر و قد غرق في التفكير العميق و كان الناس ينتظرون حلول الأذان ليصلّوا صلاة الصبح. فتوجّهت إليه و سألته: هل حلّ وقت صلاة الصبح أيّها السيّد؟ فتطلع إليّ و قال: أ فأعمى أنت؟ أ لم تشاهد ملائكة الليل قد رحلوا و ملائكة الصبح قد جاءوا؟!
و كان ذلك الشخص المراقب المتفكّر صادقاً، فقد كان يرى ذلك
عياناً، لأنّ عينه الملكوتيّة كانت مفتوحة مُبصرة. أمّا الآخرون فكانوا لا يرون شيئاً.
إنّ بصر الإنسان لا ينحصر في عينيه الواقعتين في جمجمته فهذه هي أعين عالم المُلك التي يمكن للإنسان بواسطتها الارتباط مع موجودات عالم الطبع و المادّة. إلّا أنّ الإنسان يمتلك كذلك عيناً ملكوتيّة يمكنه من خلالها الارتباط مع موجودات عالم المعنى و مع الملائكة.
و على أيّ تقدير فإنّ علم الملائكة الذين يدوّنون أعمال الإنسان ليس منفصلًا عن علم الله عزّ و جلّ، كما ليست شهادتهم منفصلة عن شهادته تعالى.
و قد ارسيت قواعد الفلسفة التوحيديّة الإلهيّة على أساس أنّ فعل جميع الموجودات التي تصدر منها الأفعال هو عين فعل الله و ليس منفصلًا عن فعله تعالى.
و على سبيل المثال فإنّ عمل الملائكة الذين يسجّلون الأعمال هو عين فعل الله عزّ و جلّ. و ليس الأمر بحيث إنّ للّه اطّلاعاً و علماً، و إنّ لهم اطّلاعاً و علماً آخر منفصلًا عن علمه.
ليس الأمر بحيث إنّ الشاهَد شاهدٌ على أعمال الإنسان، و إنّ الملائكة يشهدون على تلك الأعمال بصورة منفصلة عن حكومة الله و سيطرته. إذ إنّ علمه تعالى بالموجودات علم حضوريّ لا حصوليّ. لذا فإنّ نفس الملائكة حاضرون مع علمهم عند الله المتعال، و هذا الحضور هو علم الله سبحانه.
و على هذا الأساس فإنّ علم الملائكة هو عين علم الله؛ كما أنّ شهادتهم -بلحاظ التحمّل و الأداء- هي عين المثول في محضر الحقّ المتعال، و عين الإحاطة و السيطرة الإلهيّة الوجوديّة و الحضوريّة بهم. و هما
-إذاً- عين علم الحقّ و شهادته.
و بعبارة أبسط بياناً، فإنّ الملائكة لا يمتلكون استقلالًا بأنفسهم، إذ ليسوا إلّا مجرّد آلة محضة، و مرآة و آية محضتان. و لقد تجلّى علم الله تعالى فيهم، فصاروا يرون و يتحمّلون بواسطة علم الحقّ تعالى ثمّ يقومون بأداء الشهادة.
و من هنا فإنّ هذه الامور تنتسب للملائكة بلحاظ مقام الكثرة، و تنتسب إلى الحقّ تبارك و تعالى بلحاظ مقام الوحدة. و هي بلحاظ مقام الوحدة في الكثرة منتسبة إلى الحقّ الذي ظهر و تجلّى في هذه المرايا. كما أنّها بلحاظ مقام الكثرة في الوحدة منتسبة إلى الملائكة؛ قد نشأت بعلّة التحقّق بالحقّ تعالى.
و بتعبير أبسط فإنّ علم الملائكة و شهادتهم هما عين علم الله و شهادته، إذ لا استقلال -عموماً- للوسائط بنفسها، بل هي طلوع و ظهور لعلم الله من خلال مرايا وجود هذه الوسائط، دون أن يكون للوسائط بنفسها أيّ دخل في ذلك، و هذا هو المعنى الحقيقيّ للتوحيد.
عالم التكوين يقظ و مراقب و حفيظ
يقول الله عزّ و جلّ: وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.۱
فما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أنّ كتاب الله المتجلّي (و هو عالم التكوين و الخلقة) هو عين علم الله سبحانه. فعلمه تعالى إذاً ليس منفصلًا عن عالم الخلقة و كتاب التكوين. كما أنّ عالم التكوين و الشهادة -في المقابل- ليس منفصلًا عن علم الله عزّ و جلّ.
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ
يَكْتُبُونَ.۱
و يُلاحظ في هذه الآية الكريمة أنّه تعالى على الرغم من تسميته الملائكة بكتّاب الأعمال، فإنّه يقول: إنّنا نعلم سرّهم و نجواهم.
كما يقول تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ.٢
أي أنّ فعل الملكينِ هو فعلنا؛ و أخذهما و تلقّيهما، هو أخذنا و تلقّينا.
لقد تجلّى علمنا الكلّيّ المحيط في هذه الشبكات و القوالب و الآلات و المرايا، فظهر في كلّ مَلَك بقدر سعته. فصار علمهم -من ثمّ- عين علمه عزّ و جلّ.
و الملفت للنظر هنا أنّ جملة إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ وردت في موضع تعليل. أي أنّها جاءت للإجابة على سؤال: لما ذا نحن أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد؟ و لما ذا نعلم بوساوسه و أفكاره و نواياه و خواطره؟ لأنّ المتلقّيين جالسان عن الشمال و عن اليمين يحفظان جميع أقواله و أفعاله. فنفس حفظهما و حراستهما -إذاً- هي عين علمنا و اطّلاعنا و حفظنا.
و من هذا القبيل جملة: وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ،٣ الواردة بعد قوله: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ.
أي أنّ رؤية رسول الله و المؤمنين هي عين شهادة الحقّ جلّ و عزّ.
و نظير هذه الآيات الكريمة التي ينسب فيها الله إلى نفسه عمل الموجودات و الملائكة كثيرة و جمّة في القرآن الكريم. و ليست حقيقة التوحيد أمراً غير هذا. و على الإنسان أن ينتبه و يتوجّه كلّ ساعة من نهاره و ليله إلى أنّه لم يُخلق مهملًا في عالم التكوين.
يقول القرآن الكريم: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً.۱
إنّ الإنسان لم يترك سدى، فهو موجود من الموجودات التي خلقها الله تبارك و تعالى عن علم و حكمة. و كلّ ذرّة شكّلت بدن الإنسان و اوجدت روحه و سرّه و أكملت ظاهره و باطنه كانت وفق تقدير و حكمة. و بالتالي فإنّ الإنسان مسؤول في محضر الحقّ سبحانه. فإن هو طوى صراط الحقّ و مسيرة العدل و الصراط المستقيم الذي ينبغي عليه طيّه، فسيكون قد اجتاز طريقه وفق نظريّة الخلق التشريعيّة.
و على الإنسان أن لا يتصوّر أنّه كان مهملًا، ليتحرّك ساعة في الطريق المستقيم و اخرى في مسار مُنحرف؛ و ليتوجّه إلى الله في ليلة معيّنة و يغفل عنه في اخرى؛ و ليمتنع عن الكذب في شهر رمضان ثمّ يدنّس نفسه بالمعصية بعد شهر رمضان.
أشعار الشيخ بهاء الدين العامليّ في الابتهال إلى الله تعالى
اي مركز دائره امكان | *** | وى زُبدة عالم كون و مكان |
تو شاهِ جواهرِ ناسوتي | *** | خورشيدِ مظاهرِ لاهوتي |
تا كي ز علايقِ جسماني | *** | در چاه طبيعتِ خود ماني٢ |
تا چند به تربيتِ بدني | *** | قانع به خزف زِ دَرِ عَدَني |
صد مُلْك ز بهر تو چشم به راه | *** | أي يوسف مصر برآ از چاه |
تا والي مصر وجود شوي | *** | سلطان سرير شهود شوي |
در روز ألَست بَلَي گفتى | *** | و امروز به بسترِ «لا» خفتي |
تا كي ز معارف عقلي دور | *** | به زخارف عالمِ حسّ مغرور |
از موطن اصل نيارى ياد | *** | پيوسته به لهو و لعِب دلشاد |
نه اشك روان نه رخ زردي | *** | الله الله تو چه بي دردي |
يكدم به خود آ و ببين چه كسي | *** | به چه بسته دل و به كه هم نفسي |
زين خواب گران بردار سري | *** | مىپرس ز عالمِ دل خبري |
زين رنج عظيم خلاصي جوي | *** | دستي به دعا بردار و بگوي |
يا ربّ يا ربّ به كريميِ تو | *** | به صفات و كمالِ رحيميِ تو |
يا ربّ به نبيّ و وصيّ و بتول | *** | يا ربّ يا ربّ به دو سبطِ رسول۱ |
يا ربّ به عبادت زين العباد | *** | به زهادت باقرِ علم رَشاد |
يا ربّ يا ربّ به حقّ صادق | *** | به حقّ موسى به حقّ ناطق |
يا ربّ يا ربّ به رضا شهِ دين | *** | آن ثامن و ضامن اهل يقين |
يا ربّ به تقيّ و مقاماتش | *** | يا ربّ به نقيّ و كراماتش |
يا ربّ به حسن شهِ بحر و برّ | *** | به هدايت مَهدي دين پرور |
كين بندة مُجرمِ عاصي را | *** | وين غرقة بَحرِ معاصي را |
از قيد علائق جسمانيّ | *** | وز بند وساوس شيطانيّ |
لطفي بنما و خلاصش كن | *** | وز اهل كرامت خاصش كن |
يا ربّ يا ربّ كه بهائي را | *** | آن بيهده گَردِ هوائي را |
كه به لهو و لعب شده عمرش صرف | *** | ناخوانده ز لوح وفا يك حرف |
زين غم برهان كه گرفتار است | *** | در دست هوي و هوس زار است |
در شغل زخارف دنيي دون | *** | مانده به هزار امَل مَفتون۱ |
رحمي بنما به دلِ زارش | *** | بگشا ز كرم گِرِه از كارش |
از پيش مَران ز رَه إحسان | *** | به سعادت ساحتِ قرب رسان |
وارسته ز دنيي دونش كن | *** | سر حلقة اهل جنونش كن۱ |
و حقّاً فإنّ الإنسان لو كان مع الله، و لو عمل عملًا لرضاه تعالى، فإنّه سيجد بوضوح أنّ الله لن يتركه مهملًا، و أنّه يُغيثه في مواقع الضرورة، و أنّ الأرواح الطيّبة الحيّة و جنود الملائكة تتعبّأ من أجل حراسته و حفظه، لأنّ عالم الوجود حيّ يقظ.
وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ.٢
لقاء كريمة آية الله الأراكيّ إمام العصر عليه السلام
و قد وقعت قضيّة جديرة بالتأمّل خلال السنتين الأخيرتين في أيّام الحجّ، و هذه القضيّة متعلّقة بكريمة شيخ طائفة الأعلام آية الله آقا الميرزا محمّد على الأراكيّ دام ظلّه العالي،٣ و هو من علماء الطراز الأوّل البارزين في الحوزة العلميّة المقدّسة في قم، و من الزهّاد و العبّاد العدول و ممّن لا يشكّ في وثاقته العامّة و الخاصّة.
يقول: إنّ كريمتي من النساء الصالحات المتديّنات، و قد تكفّلت بنفسي بامورها الشرعيّة و بأمر تعليمها و تربيتها و تأديبها، و كانت تحت إشرافي في جميع امورها منذ نعومة أظفارها. و لا يعترضني الريب أبداً في صدقها.
و كانت قد سافرتْ إلى بيت الله الحرام في موسم الحجّ بمفردها دون أن يصحبها زوجها. و كانت من العفّة و الحياء و اجتناب الرجال بحيث أقلقها أمر سفرها بمفردها، لذا كان التفكير شغلها الشاغل. فقد كانت تتساءل: «يا إلهي! كيف لي بالسفر وحدي؟ إنّني لم أتشرّف بزيارة بيت الله الحرام حتّى الآن، و لا أعلم شيئاً عن مناسك الحجّ و آدابه، فكيف سأطوف و أسعى؟» حتّى حان موعد السفر، فقلت لها أثناء الحركة: «كرّري هذا الذكر و سافري: يَا عَلِيمُ يَا خَبِيرُ؛ فإنّ الله سيُعينك».
و لأنّ هذا السفر هو سفر واجب فمن الطبيعيّ أنّ الله سبحانه سيرعى ضيوفه الذين لا يهتدون سبيلًا.
و قد أتمّت كريمتنا سفرها بحمد الله و منّه و عادت موفّقة سالمة و حكت لنا ما وقع لها في مكّة المكرّمة عند ورودها إلى بيت الله الحرام للقيام بالطواف فقالت:
«لقد أحرمتُ ثمّ دخلت المسجد الحرام لأطوف، فشاهدت أنّ الناس قد احتشدوا حول الكعبة بشكل يتعذّر عَلَيّ معه أن أطوف؛ فاهتديت إلى الحجر الأسود الذي يمثّل نقطة بداية الطواف، بَيدَ أنّي كلّما حاولت الشروع من هناك و الطواف حول الكعبة عجزتُ. فأحسستُ بالعجز و الحيرة، و قلت ضارعة: يا إلهي! لقد جئتُ للطواف حول بيتك، و أنت ترى أن لا قدرة لى على ذلك مع هذا الأزدحام و هذا الجمع. فما ذا سأفعل يا إلهي، فإنّي عاجزة؟!
فشاهدتُ فجأة أنّ هناك مكاناً فارغاً على شكل اسطوانيّ قد انفتح بمحاذاة الحجر الأسود، و سمعت صوتاً يهمس في اذني قائلًا: أوكلي نفسك إلى إمام عصرك و طوفي معه في هذا المكان! فدخلتُ في ذلك المكان الاسطوانيّ الفارغ، و شاهدت أمامي إمام العصر عليه السلام منهمكاً
بالطواف مع شخص آخر يسير خلفه من جهة اليسار تقريباً، فانشغلتُ بالطواف خلفهما، و بدأتُ من عند الحجر الأسود و أتممتُ سبعة أشواط على هذا المنوال. فلم أحسّ في هذه المدّة باحتشاد الناس، بل و لم يصب بدني و لا يدي إصبع أحد، و كنت في جميع الأشواط السبعة أتوسّل بالإمام و أمسح بيدي على كتفه في ضراعة و رجاء، إلّا أنّني لم أكن اشاهد وجه الإمام، إذ كان منهمكاً بالطواف ناظراً إلى الأمام.
و عند ما انتهت الأشواط السبعة شاهدت نفسي خارج تلك الحلقة و قد اختفى من أمام ناظري الإمام و ذلك الشخص الآخر، فلم أعد أشاهدهما. و أنا آسفة على أمرٍ واحد في هذه الواقعة، و هو أنّني لم اسلّم على الإمام لأسمع جواب سلامه أيضاً».
يقول آية الله الأراكيّ مدّ ظله السامي: «هذه هي نتيجة الانقطاع إلى الله عزّ و جلّ، و نتيجة الإحساس بالعجز و الفاقة إليه، و التبتّل و الابتهال إليه سبحانه. و لقد تشرّفت بالسفر لأداء الحجّ، و كنت في غاية الشوق و اللهفة لاستلام الحجر الأسود، فذهبتُ يوماً للطواف مع جمع من الأصدقاء عسى أن يعينوني خلال الزحام فأستلم الحجر مرّة. حتّى أنّني اقتربتُ من الحجر برفقة الأعوان و المرافقين وكدت استلمه بيدي، و إذا فجأة قد ازداد ضغط ازدحام الناس، بحيث قذف بنا بعيداً فسقط كلّ واحد منّا في جانب. و هذه هي نتيجة عدم الانقطاع إلى الله عزّ و جلّ، و التي تمثّلت -عموماً- في اعتمادنا على اولئك المرافقين».
و لا يزال آية الله الأراكي على قيد الحياة في الوقت الحاضر،۱ و هو شيخ نورانيّ معمّر ربّما جاوز عمره التسعين، و يسكن في قم، و قد سمع
كثير من المشتاقين هذه القصّة منه، كما أنّ الراغبين في سماعها يمكنهم التشرّف بالسفر إلى قم و المثول في محضره لاستماعها مباشرة منه دونما واسطة. كما أنّ كريمته لا تزال على قيد الحياة، و يمكن للمخّدرات الاستماع إليها و الاستفادة منها.
و الخلاصة فإنّ عالم التكوين التحقّق الخارجيّ يقظ، و أنّ وليّ مركز الفعل الإلهيّ حيّ، و على الإنسان أن يتحرّك باستمرار على مسار الصراط المستقيم و سبيل العدالة. أي ينبغي أن يكون أرجاء وجود الإنسان من الأفعال الخارجيّة و الأفكار الذهنيّة و الخواطر القلبيّة في صراط هدى الحقّ. و على الإنسان أن يجسّد الحقّ بتمام معنى الكلمة و أن يجتنب الباطل، و إلّا فسيأتي يوم تلزمه فيه الحسرة و الندم. يوم الجزاء الذي تأتي فيه الملائكة بأعمال الإنسان فتعرضها عليه، فيتعالى صراخه:
وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.۱
ذلك اليوم هو يوم الخزي و الخجل. و ذلك الموقف هو موقف الحياء و الذلّة و المسكنة.
و مثل الإنسان في هذه الدنيا كمثل طائر الحجل الذي يدفن رأسه في الثلج لئلّا يراه الصيّاد. فهو يتخيّل في كلّ قبيح يرتكبه أنّ الله لا يراه، و أنّه إذا تغافل فإنّ عالم الوجود سيغفل عنه. فهو يتصوّر هذا العالم عالماً جاهلًا أعمى، و يظنّ بأنّ عالم المادّة و الطبع عالم بلا شعور. فهو لا يرى الملائكة مهيمنين على هذا العالم، فلذلك يخيّل إليه أنّ ما يراه هو الحقيقة، غافلًا
عن أنّ هذا لا يعدو مجرّد تصوّر و وهم، و أنّ العالم عالم حيّ.
و سنتحدّث في المجلس القادم إن شاء الله تعالى (و موضوعه عن المعاد) عن كيفيّة شهادة الجمادات، فيتّضح أنّ الباب و الجدار مطّلعان على أعمالنا أيضاً، و أنّهما يدوّنان ذلك. و يشكّل هذا الأمر مسألة منفصلة و مستقلّة قائمة على أساس فلسفيّ و نظريّة اخرى.
و على أية حال: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً.۱
لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يقرأ هذه الآية فيكرّرها، لأنّه عليه السلام يرى حقيقة الأمر و يعلمها، إذ كان ينظر بعين البصيرة فيرى أنّ جميع موجودات عالم الملك تخضع لقيموميّة موجودات عالم الملكوت، و أنّ عالم البدن و الطبع محكومٌ لعالم الغيب و خاضع له، و أنّ البدن خاضع للنفس، و أنّ جميع العالم خاضع لتلك الروح الكلّيّة و الولاية العامّة المهيمنة على جميع الموجودات.
و على هذا الأساس، فإذا ما تغافل المرء -مع كلّ هذه الخصوصيّات- فإنّه سيبتلى غداً بالحسرة الشديدة و الندم العميق، و يتعالى صراخه قائلًا: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ.
لقد كنت غافلًا في محضر الله عزّ و جلّ، و لقد كان لي المقام الفلانيّ فلم أبلغ المقصود، فكنت خائناً لربّي الذي أوجدني و رعاني في كلّ جانب و الخالق الذي ربّاني و تعاهدني.
العواقب الوخيمة للغفلة عن صحيفة الأعمال
لقد بلغنا مقام الكمال و العلم و القدرة، فنظرنا إلى الدنيا باستصغار، و ألهينا أنفسنا بالشهوات و الغفلة حتّى انقضى العمر و غادرنا هذا العالم بأيدٍ صفرات خالية، و ذاك هو موقف الندم.
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام إمامنا؛ و معنى الإمام أنّه قدوتنا الذي نتبعه و نقتفي أثره. و من لوازم الإمامة أن يجعل المأموم أعماله وفق حركات الإمام و سكناته، و إلّا لما صدق للائتمام من معنى. و لو أمّ امرؤ جماعة فركع الإمام و وقف المأموم، ثمّ سجد الإمام فقرأ المأموم الحمد و السورة، ثمّ قنت الإمام فسجد المأموم، ثمّ نهض الإمام فجلس المأموم، لما دُعي ذلك ائتماماً. بل الائتمام -بعد حصول النيّة الصادقة و القصد- عبارة عن المتابعة و الاقتداء في جميع الأعمال و الأفعال و الأقوال.
و أمير المؤمنين عليه السلام هو إمامنا بلا ريب، إلّا أنّه ينبغي أن نرى مدى ائتمامنا به. أ نأتمّ به في جميع الحالات و اللحظات؟ أ ينحصر ائتمامنا به في الأفعال الخارجيّة أم في الخواطر الذهنيّة، أم في المعاني و الامور الوجدانيّة القلبيّة؟ أ كنّا مستعدّين لتطهير أنفسنا و تزكيتها كما فعل؟
يَا نَدِيمِي ضَاعَ عُمْرِي وَ انْقَضَى | *** | قُمْ لِاسْتِدْرَاكِ وَقْتٍ قَدْ مَضَى |
وَ اغْسِلِ الأدْنَاسَ عَنِّي بِالمُدَامْ | *** | وَ امْلَا الأقَدَاحَ مِنْهَا يَا غُلَامْ |
أعْطِنِي كَأساً مِنَ الخَمْرِ الطَّهُورْ | *** | إنَّهَا مِفْتَاحُ أبْوَابِ السُّرُورْ |
خَلِّصِ الأرْوَاحَ مِنْ قَيْدِ الهُمُومْ | *** | أطْلِقِ الأشْبَاحَ مِنْ أسْرِ الغُمُومْ |
كاندرين ويرانه پر وسوسه | *** | دل گرفت از خانقاه و مدرسه |
نه ز خلوت كام بردم نه ز سيْر | *** | نه ز مسجد طرف بستم نه ز دير۱ |
عالمي خواهم از اين عالم بِدَر | *** | تا به كام دل كنم سير دگر۱ |
المَجْلِسُ السَّابِعُ وَ الأرْبَعُونَ: شَهادَةُ الأعْضاءِ وَ الجَوَارِحِ يَوْمَ القِيامَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.۱
تذكر هذه الآية أوضاع الأفراد في يوم القيامة بلحاظ الشهادة، فهناك طائفة من الشهداء يوم القيامة هم أعضاء الإنسان و جوارحه، إذ إنّ أيدي أعداء الله و أرجلهم و آذانهم و جلودهم و أبدانهم تشهد مع غيرها على الأعمال التي ارتكبوها في الحياة الدنيا.
و لا يعني ذلك -بطبيعة الحال- أنّ الأيدي و الأرجل سيصبح لها لسان كلساننا فتُحدث صوتاً و نطقاً، بل شهادتها هي إظهارها للوجود و جعلها تمثّل الأعمال التي اجترحتها حين كانت هذه الأعضاء حيّة و متحرّكة.
علّة الختم على الأفواه و تكلّم الأيدي يوم القيامة
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ.
إنّنا سنختم في ذلك اليوم على أفواه المشركين و الكفّار و المنافقين
لئلّا يفوهوا بشيء. وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. فلما ذا -يا ترى- يختم الحقّ تبارك و تعالى على أفواههم، أمّا أيديهم و أرجلهم فتشهد على أعمالهم؟ لأنّ هذا اللسان قد اعتاد الكذب هنا، فصار لصاحبه مَلَكة الكذب. و مع أنّ ذلك العالم هو عالم انكشاف الحقائق و عالم لا يمكن لأحد أن يخفي شيئاً فيه؛ لكنّ ملكة الكذب التي نشأت لديهم، فاصطحبوها معهم عند رحيلهم عن الدنيا، ستظهر هناك و تتجلّى، فيحاولون الكذب هناك أيضاً، مع جلاء الأمر و وضوحه؛ و مع سطوع حقيقته للعيان. تماماً كمثل السارق الذي يمدّ يده في جيب المرء فيسرق نقوداً، ثمّ يمسكه المرء متلبّساً و لا تزال النقود في يده، إلّا أنّه ينكر و يدّعي أنّه لم يفعل شيئاً. و مع أنّ الأمر واضح كوضوح الشمس، إلّا أنّه -مع ذلك- ينكر و لا يعترف.
و بعبارة اخرى: أنّنا لا نشكّ في حقيقة الأمر و واقعه، لكنّ ظهور مَلَكة الكذب و الاختلاق لدى الأفراد الكاذبين سيستدعى كذبهم هناك أيضاً. و عليه فإن تقرّر أن يُكتفى منهم باعترافهم اللسانيّ يوم القيامة، فإنّهم سينكرون هناك أيضاً و يزعمون بأنّهم لم يفعلوا شيئاً أبداً، و أنّ تلك الأفعال لم تصدر منهم قطعاً. و قد يعترضون و يستدلّون على كذبهم و يأتون بشاهد و دليل، فيناقشون ربّهم في الحساب.
و قد جاء في إحدى الروايات الواردة في هذا المقام (ربّما تطرقّنا إلى ذكرها في هذا المجلس) بيانٌ لطيف لأحوال هؤلاء، و ذلك في قولهم: إلهنا! إنّ هؤلاء الملائكة الذين يشهدون علينا هم ملائكتك. فلِمَ جئت بهم ليشهدوا؟ إنّنا لم نرتكب هذا العمل، كما أنّ هؤلاء الشهود لا يصلحون للشهادة؛ فقد جئت بشاهد من عندك لا نقبل بشهادته.
و في هذه الحالة إن تقرّر أن يقول الله عزّ و جلّ للإنسان: اعترف
بنفسك؛ فمن ذا الذي سيعترف يا ترى؟
لذا سيختم على ألسن المجرمين و أفواههم؛ أي أنّ الإنسان سيعجز عن الكلام إذ ستسلب منه القدرة على النطق. وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ أمّا الأيدي فتنطق و تتكلّم.
فكيف -يا ترى- ستتكلّم؟ أ يصبح لليد لسان؟ أ يخرج من اليد صوت يتحدّث؟ كلّا، بل تكلّم اليد عبارة عن قيامها بنفس العمل الذي فعلته في الدنيا.
إنّكم تقولون: لقد شاهدتُ ذلك المريض، و كانت ملامح وجهه تنطق بأنّه ليس بصحّة جيّدة. و لقد شاهدت زيداً و كان وجهه يحكي جذله و فرحه. و قد رأيت عمراً و كانت طلعته حاكية عن بهجته و سروره.
فما الذي يعنيه التحدث و الحكاية هنا؟ أ تعني حقيقةً أنّ الوجه قد اكتسب لساناً؟ كلّا بطبيعة الحال. بل معنى ذلك أنّه كان في هيئة تعبّر عن نفسه و تصوّر فرحه، و تكشف عن الحقيقة في فرحه أو في حزنه و غمّه، أو في مرضه و انحراف صحّته، و تشير إلى ذلك الواقع، و هو ما يُدعى بالحكاية.
حقيقة معنى الكلام هي إبراز ما في الضمير
و أساساً فإنّ المعنى الحقيقيّ للتكلّم وفقاً للمذهب الصحيح في أنّ الألفاظ وضعت للمعاني الكلّيّة، هو عبارة عن إظهار ما في الضمير. فالمعاني الموجودة في ذهن الإنسان إذا ما أراد إلقاءها. و إفهامها للطرف المقابل، توجب عليه -إظهاراً لما في ذهنه- الاستعانة بالإشارة و الكناية أو بالكتابة أو بنصب علامة و غير ذلك، أو توجّب عليه أن يتحدّث بلسانه و يتكلّم.
و نظراً لأنّ الطرق الاخرى -غير الكلام- طرق صعبة و عسيرة؛ فإنّ تلك المعاني تُنقل عن طريق الكلام في قالب الألفاظ المتبادلة بين المتكلّم
و السامع، حيث تحكي تلك الألفاظ عن تلك المعاني.
و على هذا الأساس فإنّنا نقوم بصبّ ذلك المعنى الذهنيّ في قالب هذه الألفاظ الخاصّة، فيستمع السامع لهذا القالب. أي أنّنا نسلّمه هذا القالب ليصرف هذا اللفظ إلى ذلك المعنى باعتبار علمه بالارتباط بين هذا القالب و اللفظ مع ذلك المعنى.
و من هنا فإنّ الكلام هو عبارة عن وسيلة لانتقال المعاني من ذهن المتكلّم إلى ذهن السامع. أشبه بقطبي بطّاريّة كهربائيّة أحدهما موجب و الآخر سالب نريد الربط بينهما و توحيد مستواهما. فنربط هذا القطب بذاك بواسطة سلك توصيل، فيجري التيّار الكهربائيّ من أحد القطبين إلى القطب المخالف من خلال سلك التوصيل، حتّى يصبح طرفا البطّاريّة في مستوى كهربائيّ واحد.
افرضوا الآن أنّ هناك معانٍ معيّنة في ذهني، و أنّها غير موجودة في أذهانكم، و أنّي اريد إيصال هذه المعانيّ إليكم، لتوحيد المستويات الفكريّة بلحاظ هذه المعاني الخاصّة التي تقرّر الحديث عنها. فنربط سلك توصيل بين هذا المخّ و بين مخّ كلّ فرد من السامعين. فما هو هذا السلك يا ترى؟
إنّنا نتّفق مع بعضنا أنّنا متى ما قلنا زيد، فإنّنا نقصد هذا السيّد المعيّن. و إذا ما قلنا ذهب، فإنّنا نقصد: تحرّك و ابتعد. و إذا قلنا الليل، فنعني به الوقت الذي تختفي فيه الشمس وراء الافق فيظلم الجوّ. و لو قلنا النهار، فهو الوقت الذي تطلع فيه الشمس من وراء الافق فتضيء الجوّ. و هذه بأجمعها ألفاظ ذات معان. و جميع الألفاظ المستعملة في اللغة ذات دلالة على معانٍ خاصّة قد تعاقد أهل اللغة عليها.
إنّ الامّ التي تتحدّث بلغتها المحلّيّة تضع على لسان طفلها ألفاظاً على
أساس التعاقد القوميّ و المحلّيّ. و من ثمّ فإنّنا متى شئنا إلقاء هذه المعاني، فإنّنا نربط سلك توصيل، و هذا السلك عبارة عن البيان و إجراء المعاني من الذهن على اللسان و إيصالها إلى السامع، حيث نقول بتحويل ذلك المعنى إلى ألفاظ نقدّمها إلى السامع الذي يعلم مسبقاً بالارتباط بين ذلك المعنى و هذا اللفظ، فيفهم من هذا اللفظ ذلك المعنى، و يدرك ما نرمي إليه بكلامنا.
و جميع الألفاظ التي استعملها و يستعملها سكّان العالم، المتمدّن منهم و غير المتمدّن لا تتعدّى هذا الاسلوب الذي يجسّد الطريق الأفضل و الأسهل لتبادل المعاني و التحاكم بين الحقائق و المعاني، بين أذهان عامّة الناس و نفوسهم. و هذا هو معنى التكلّم.
فالتكلّم -إذاً- هو الإشارة إلى ما في الذهن من المعاني الخفيّة إشارةً تزيل الخفاء و تظهر تلك المعاني. و يقال لمفردها كلمة و لمجموعها كلمات؛ تَكَلَّمَ يَتَكَلَّمُ تَكَلُّمَاً.
و بطبيعة الحال فإنّ أصل الكلام هو الجَرْح، ثمّ استعمل اللفظ في هذا المعنى الذي ذكرناه.
ما الذي تعنيه الآية: وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً.۱
أ تقصد أنّ الله سبحانه تكلّم بلسان؟ كلّا بطبيعة الحال لأنّه عزّ و جلّ ليس جسماً. أ فأوجد صوتاً في الفضاء فقال: يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ؟ لو صحّ ذلك لما كان كلاماً للّه. فإيجاد الصوت من قبل الله لا يُدعى كلاماً للّه تعالى، و لا ينسب إليه عزّ و جلّ.
إنّكم تُدعَون متكلّمون حين تقومون ببيان كلمات معيّنة فتنتسب
إليكم تلك الحال (حال الكلام) آنذاك. أمّا لو صنعتم مسجّلًا للصوت أو جهازاً يتكلّم فإنّ ذلك لن يُدعى كلاماً لكم، كما لا تُدعَون متكلِّمُون.
معنى تكلّم الله مع موسى عليه السلام
إنّكم تدعون متكلّمون حين يقوم التكلّم بكم. لذا فإنّ معنى تكلّم الحقّ المتعال مع النبيّ هو أنّ الحقّ تعالى أفهَم موسى سلسلة معانٍ من التوحيد و المعارف و القوانين و الأحكام كان موسى يجهلها قَبلًا، فأدركها من خلال ذلك الوحي و الإلقاء في القلب. أي أنّه تعالى أزاح الستار أمام أحاسيسه الذهنيّة و إدراكاته القلبيّة و السرّيّة، فلم يعد لعالم الجهات و حصار المادّة لديه حدوداً بلحاظ تجلّي الأسماء الكلّيّة، و صار وجوده وسيعاً منفتحاً بحيث يمكنه استلام إرادة الحضرة الأحديّة في مرآة وجوده، و إدراكها و النظر إليها.
هذا هو معنى تكلّم الله مع النبيّ موسى. كما أنّ تكلّم الشجرة التي قالت: إِنِّي أَنَا اللَّهُ. كذلك فإنّ جميع الموجودات، القائمة في العالم، تكشف الستار عن حقيقة معيّنة و تقوم بإظهارها و بتجليتها من هذا القبيل. أمّا الإنسان فلسانه هو وسيلته للكلام، و أمّا الحيوانات فوسيلتها أصواتها المختلفة، و أمّا الشجر فبكيفيّة اخرى، و كذا الحال في الجمادات. و هذا الاختلاف تستدعيه نفوسها المختلفة. و بالنسبة للملائكة فبكيفيّة اخرى أيضاً.
فقد جاء جبرائيل عليه السلام إلى النبيّ فتحدّث معه. أ فكان لجبرائيل بدن؟ أ كان له لسان؟
إنّ جبرائيل مَلَك مقرّب أحاط بشرق العالم و غربه، و ليس وجوده وجوداً مادّيّاً، بل له وجود من نوع آخر.
و من هذا القبيل يد الإنسان التي تتكلّم و تشهد يوم القيامة على الأعمال التي فعلتها. أي أنّ اليد تحضر أمام الإنسان فتؤدّي نفس العمل
الذي فعلته في الدنيا؛ مهما كان ذلك العمل. سواءً رُفعت للقنوت، أم للدعاء، أم لإطعام الفقير، أم امتدّت للسرقة و الخيانة و لعب القمار. و ستأتي يد الإنسان أمام أنظاره في كيفيّة غير منفصلة عن الإنسان، فتفعل ما سبق لها فعله. بل إنّ الإنسان سيفعل بنفسه تلك الأعمال. و هذا هو معنى التحدّث.
و إذاً فأنّى سيتمكن أحد أن ينكر أعماله و هو يرى هيئتها رأي العين؟ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
و الأرجل -بدورها- ستشهد بنفس الطريقة و الكيفيّة على ما اكتسبت في الدنيا. و قد جاء في آية اخرى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.۱
و قد اضيف اللسان في هذه الآية إلى الأيدي و الأرجل. فقد جاء في الآية السابقة من سورة «يس» أنّ الله تعالى يختم على الألسن و الأفواه لئلّا تتكلّم. أمّا في هذه الآية من سورة النور فقد جاء بأنّ الألسن تتحدّث بدورها. و هذا الاختلاف يرجع إلى اختلاف الموقف.
و بناء على هذه المقدّمة، فقد يدرك الإنسان أيّ موقف يختم فيه على الأفواه، و أيّ موقف تشهد فيه الألسن. فالموقف الذي يُختم فيه على الأفواه هو الموقف الذي يحاول فيه اللسان إظهار خلاف ما ارتكب الإنسان، أي حين يحاول أن يكذب و يتّهم ليبرّئ نفسه؛ فيُختم على الأفواه آنذاك لتخرس.
أمّا الموقف الذي يشهد فيه اللسان، فلا يعني الموقف الذي يمتلك فيه اللسان القدرة على النطق بالاعتراف و الإقرار، بل يعني الموقف الذي
يقوم فيه بنفس الأعمال التي ارتكبها في الدنيا. أي نفس قيامه و انهماكه بالكذب و النميمة و التهمة و الافتراء و خداع الناس و باقي الأعمال التي فعلها في الدنيا.
فاللسان -إذاً- يكرّر العمل الذي فعله في الدنيا؛ منتهى الأمر أنّه يكرّره بصورته الملكوتيّة. شأنه في ذلك شأن اليد و الرجل. و التعبير: تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ لا يعني نطق اللسان هناك كنطقه في هذه الدنيا و اعترافه بأنّه فعل كذا و كذا، إذ لا مجال في ذلك المقام لأمثال هذه الاعترافات أو الاعتراضات اللسانيّة. و حجم شهادة اللسان مشابه لحجم شهادة اليد و الرجل، حيث إنّه يمثّل نفس العمل الذي ارتكبه.
هذا بشأن شهادة اللسان.
شهادة الأعين و الآذان و الجلود يوم القيامة
و قد وردت آيات في سورة السجدة جديرة بالملاحظة و التأمّل:
وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ.۱
لاحظوا قوله هنا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ؛ أي أنّ أعينهم و آذانهم و جلودهم ستشهد عليهم يوم القيامة بكلّ ما فعلوا في الحياة الدنيا.
وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا، فيعترضون على جلودهم: أنّنا لم نكن نتوقع أن تشهدوا علينا. إنّ بشرة الإنسان أقرب إليه من كلّ شيء، و لا ينبغي لها أن تشهد عليه. و بالإضافة إلى حبّ الإنسان لنفسه فإنّه يحبّ في هذه الدنيا أفراداً غرباء فيبادلهم المودّة و الصُّحبة من أجل أن ينفعونه في الشدائد و عند الضرورة. أمّا الآن فقد آن أوان يشهد فيه على الإنسان بشرته و جلده.
قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ: إنّ الذي أنطقنا هو الذي بدأكم ثمّ إليه منتهاكم و معادكم، و الذي خلقكم ثمّ إليه عودتكم في مسيرتكم التكامليّة تجاهه.
وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
ذلكم ظنّكم السيّئ الذي ظننتموه بربّكم، فتخيّلتم أنّه غير مطّلع على أعمالكم، فجُزيتم بالخسران على سوء ظنّكم بالله فصرتم من الخاسرين، و صرتم على شفا هاوية من النار، و على و شك السقوط في اتونها.
و من خلال التأمّل في هذه الآيات نحصل على نتائج مهمّة هي:
شهادة الأعضاء و الجوارح مختصّة بأعداء الله
أوّلًا: أنّ الآيات الدالّة على شهادة الأيدي و الأرجل و الآذان و الأعين و الجلود يوم القيامة متعلّقة بأعداء الله. فلم يرد في آية من القرآن الكريم أنّ جلد المؤمن أو يده أو رجله ستشهد عليه يوم القيامة. فشهادة الجوارح و الجلود -إذاً- أمر منحصر بالكفّار و أعداء الله من غير المؤمنين؛ و الجوارح لا تشهد على المؤمنين من أهل المعصية.
وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ؛ أي أنّ أعداء الله سيحشرون فتصبح حالهم كما ذكرنا.
و يستفاد من هذا الأمر -كما ذكر الفقهاء- أنّ الخطابات القرآنيّة موجّهة إلى الكفّار كما هي موجّهة إلى المؤمنين. إذ إنّ هناك بحثاً في اختصاص الأحكام و التكاليف بالمسلمين، أو شمولها لعامّة الناس بما فيهم المؤمن و الكافر. الحقيقة أنّها موجّهة لجميع الناس، منتهى الأمر أنّ الكفّار لو جاءوا بها ما تُقبّلت عبادتهم منهم، لأنّ الإسلام و قصد القربة هما شرطا القبول. و باعتبار أنّ الإسلام و نيّة القربة في متناول أيديهم؛ فإنّهم يستطيعون أن يُسلموا من خلال التلفّظ بالشهادتين، ليمكنهم قصد القربة ثمّ القيام بتلك الأعمال. وَ الإيجَابُ بِالاخْتِيَارِ لَا يُنَافِي الاخْتِيَارَ، كَمَا أنَّ الامْتِنَاعَ بِالاخْتِيَارِ لَا يُنَافِي الاخْتِيَارَ.۱
و على هذا الأساس فكما يؤاخذ الكفّار يوم القيامة و يعذّبون فيما يتعلّق باصول الدين؛ و كما يسألون عن علّة عدم إيمانهم و عدم توحيدهم و عدم إسلامهم و عدم اعتقادهم بالمعاد، فإنّهم -كذلك- سيُسألون لما ذا لم يصلّوا، و لما ذا لم يزكّوا، و لما ذا لم ينكحوا وفق نكاح الإسلام؟
حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ.
و الظاهر هنا من الجلود، تلك الجلود البدنيّة التي تُذنب، و هي كناية عن الفُروج. إذ لو كانت اليد تُذنب، لما قال شهد عليهم جلود أيديهم، بل لقال: شهدت عليهم أيديهم. و لو كانت الرِّجل تذنب لما قال: شهد عليهم جلود أرجلهم، و لقال: شهدت عليهم أرجلهم. و الأمر كذلك بالنسبة إلى
العين و الاذُن و اللسان. أمّا جلد البدن فهو كناية عن مباشرة الجلد للقبائح كالزنا و أمثالها. و هذا هو أدب القرآن الذي لم يشأ التصريح بآلات الرجولة و الانوثة و تسميتها بأسمائها حين ذكر أنّها تأتي لتشهد، فكنّى عنها من ثمّ بالجلود؛ و قد جاء في بعض الروايات أنّ الأفخاذ تشهد على الذنوب.
و ثانياً: أنّ أعداء الله يقولون لجلودهم: لِمَ شهدتم علينا؟ و هم لا يقولون ذلك لأعينهم و لا لآذانهم، مع أنّ اعتراضهم ينبغي أن يتوجّه أوّلًا إلى الأعين و الآذان ذات الحياة و الإحساس.
و مع أنّ شهادة العين و الاذن أمر يستدعي العجب، إلّا أنّ شهادة الجلد أعجب و أغرب، لأنّ الجلد لا عين له ليرى، و لا اذن له ليسمع، و لا حياة له و لا شعور عقلانيّ، بل هو جلد ليس إلّا.
و ممّا يثير العجب أن يأتي الجلد فيشهد. و من هنا فإنّ أعداء الله سيضطربون، و ينزعجون أشد الانزعاج، لأنّ الأمر بلغ الحدّ الذي صاروا معه يرون الجلد الفاقد لجميع درجات الفهم و الشعور و الإدراك في الدنيا، و هو يشهد ضدّ الإنسان في هذا الظرف الخطير.
وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؛ فتجيبهم جلودهم: ما كان لنا من الأمر شيء. إذ ما الذي يعنيه الجلد يا ترى؟ إنّ الإرادة هي إرادة الله الذي يأمر العين بالإبصار، و يأمر الاذن بالسماع، و اللسان بالنطق. الله الذي أنطق جميع الموجودات كلًّا بدوره. فهو الذي أمرنا أن نحضر فنشهد، و ليس لنا بدون إرادته و اختياره عزّ و جلّ أيّ شيء من أنفسنا. و ليس لنا و لا لأعيننا و لا لآذاننا إرادة ذاتيّة ليمكننا أن نشهد في موضع و نمتنع في آخر.
أمّا مراعاة حالكم و الامتناع عن الشهادة ضدّكم باعتبارنا بشرتكم
و جلودكم، فليس لنا من الأمر شيء. إنّ الله هو الذي أنطقنا؛ و حين يُنطق الله تعالى شيئاً، فما الفرق بين أن يكون ذلك الشيء لساناً أو عيناً أو اذناً أو جلداً. قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ.
الأعضاء و الجوارح ذات حياة و شعور و إدراك
إنّها لا تقول بأن الله أجبرها على الشهادة، لأنّها تمتلك في الأصل مبدأ النطق، و الذي هو إعطاء من الله سُبحانه لها، فهو عزّ و جلّ قد جعل النطق يتجلّى فيها و يظهر، فأنطقها به، ذلك الله الذي أنطق جميع الموجودات و جعل كلًّا منها يتكلّم بدوره. لقد أخطأتم حين تخيّلتمونا جلوداً ميّتة فاسدة لا فهم لها و لا شعور و لا إدراك، فالآن هذا العالم هو عالم الحياة، و جميع الموجودات فيه ذات حياة؛ فهي حيّة بحياة الله تعالى.
وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
و ذلك هو الله القادر الذي نخضع لهيمنته، و تحيط بنا قبضتُه.
وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ.۱
إنّكم لم تكونوا تجتنبوا هذه المعاصي و الذنوب، و لا تستترون عنها؛ لا لأنّكم لم تحذروا عواقبها الوخيمة و تخافوا نتائجها الوبيلة، بل لقلّة اعتنائكم بالله عزّ و جلّ، إذ تخيّلتموه غير مطّلع على أعمالكم، فكنتم إذا أذنبتم ذنباً تصوّرتم أنّ الله تعالى في وادٍ و ذلك العمل في واد، و تخيّلتم أنّه سبحانه لا يدرك كثيراً ممّا تفعلون. غير مدركين بأنّ الله و علمه موجودان في نفس العمل، و أنّ جميع هذه الأعمال التي تفعلونها هي شبكات لعلم الله و إرادته و قدرته. و أنّ صفات الحقّ قد ظهرت فيها. فلا يمكنكم -بعدُ- أن تروا الحقّ معزولًا عن نفس تلك الأعمال. و كيف
لا يكون للحقّ المتعال اطّلاع على أعمالكم هذه مع أنّه أقرب إلى جميع الموجودات من أنفسها؟ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ و تخيّلتم أنّه سبحانه لا يعلم كثيراً ممّا تعملون و ظنّكم هذا هو الذي أوجب شقاءكم و أدخلكم النار. لما ذا؟ لأنّكم ظننتم أنّ الله لا يعلم. و هذا الظنّ الخاطئ، أي الشرك في أفعال الله قد أرداكم في نار جهنّم، و هبط بكم إلى الحضيض.
و قد مرّ في الروايات السابقة أنّ الإمام عليه السلام كان يستدّل بهذه الآية: «وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ»؛ وَ إذا كان الظنّ هو المُردي، فضدّه هو المُنجي.
إذا كان الظنّ الخاطئ بأنّ الله لا يعلم، موجباً للنزول في دركات الجحيم، و مُردياً للإنسان إلى الحضيض، و مؤدّياً إلى إفقاده قيمته و اعتباره؛ فإنّ ضدّه (و هو حسن الظنّ بالله و الاعتقاد بأنّه مطّلع على جميع الأعمال) سيكون مُنجياً للإنسان، و مؤدّياً إلى علوّ درجاته في الجنة، و إلى بلوغه المقامات السامية، لأنّه يمثّل عقيدة التوحيد.
و على هذا الأساس فإن سرّ الأفعال الحسنة التي بفعلها، يدخل الإنسان الجنّة، يتمثّل في علمه بأنّ الله خبير بأعماله. فإذا عمل عملًا حسناً جليلًا و هو غافل عن الله، كان عمله بلا قيمة، أمّا العمل الحسن الذي يفعله و هو ملتفت إلى الله، فإنّه سيكون ذا ثواب و أجر.
لما ذا؟ لأنّ نفس عمل الإنسان عن توجّه و نيّة و قصد القربة، يعني أنّه يرى الله تعالى في عمله، و هذا هو معنى التوحيد، و هذا العمل هو العمل المقبول.
و على هذا الأساس، فإنّ ما أرداكم في نار جهنّم، إنّما هو سوء ظنّكم بالله، إذ تخيّلتم أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ.
جميع الموجودات ذوات حياة و علم و قدرة
و يتّضح ممّا سبق ذكره أنّ الموجودات الكائنة في هذا العالم هي
موجودات حيّة، بينما كنّا نتصوّر أنّ الإنسان وحده يمتلك الحياة. و بغضّ النظر عن الإنسان فإنّ الحيوانات و النباتات بصورة عامّة تمتلك حياة، أمّا هذه الآيات فتبيّن بأنّ الأيدي و الأرجل و الآذان و الأعين و الألسن و سائر الأعضاء، و حتّى الفروج، ذات حياة، و أنّها تشهد. و أنّى لها أن تشهد لو لم تكن حيّة؟
و قد ذكرنا مؤخّراً أنّ الشهادة تتضمّن ركنين أساسيّين، أحدهما أنّ على الشاهد أن يتفحّص و يحقّق في الأمر، و يتحمّل أمانة الشهادة، ليأتي من بعدها فيؤدّي تلك الشهادة. و هذا ما يحتاج إلى حياة. فالميّت لا يمكنه تحمّل الشهادة، كما أنّ الحيّ الأعمى و الأصمّ لا يمكنه أن يُدرك و لا أن يتحمّل الشهادة.
فالعلم و الحياة -إذاً- هما أساسان من اسس مسألة الشهادة، و عليه فإنّ بدن الإنسان -بما يشمل العين و الاذُن و الجلد و اليد و الرجل- يتحمّل الشهادة في الدنيا، فيؤدّيها في الآخرة، هو بدن حيّ له فهم و إدراك. لأنّه إذا قلنا بعدم حياته و إدراكه، و بأنّ الله يوجد فيه صوتاً يوم القيامة، كأن يخرج صوت من جانب يد الإنسان فيقول إنّ هذه اليد قد سرقت. إذاً لتعذّر تسمية ذلك شهادةً لليد. و هل بالفعل يمكننا القول بأنَّ اليد قد شهدت؟
أبداً أبداً، إنّ شهادة اليد ستُعدّ صادقة حين تتكلّم اليد بنفسها، لا أن يكون الصوت الخارج منها مثل ضَمُّ الحَجَرِ في جَنْبِ الإنسَانِ، حيث يخرج صوت من جوار اليد فيقول ما يقول.
و عليه فإن قلنا -و الحال هذه- إنّ هذه اليد لم تمتلك حياةً و لا علماً في الدنيا، و إنّ الله سيُحييها يوم القيامة و يمنحها علماً و شعوراً فيجعلها تشهد، كان قولنا ناقصاً. إذ كيف تحمّلت الشهادة هذه اليدُ الميّتة بلا شعور، لتأتي يوم القيامة فتؤدّي شهادتها؟ و ما الفرق آنذاك بين اليد و بين موجود أجنبيّ
يُنطقه الله عزّ و جلّ، ليُنطق سبحانه اليد و لا يُنطق ذلك الموجود فيشهد؟
و لذلك فإنّ إفاضة العلم و الحياة يوم القيامة فقط ليس كافياً لصدق معنى الشهادة، و ينبغي أن تمتلك هذه الأعضاء فهماً في الحياة الدنيا. و عليه فإنّ هذه الأيدي و الأرجل و الجلود تمتلك فهماً و شعوراً.
و قد ثبت في الفلسفة المتعالية أنّ جميع الموجودات دونما استثناء لها علم و حياة و قدرة، و أنّ الوجود ملازم لهذه الخواصّ الثلاث. أي أنّ كلّ ما يُدعى وجوداً و موجوداً يمتلك حياةً و علماً و قدرة بقدر سعة ماهيّته. لا ينحصر ذلك بالإنسان و الحيوان و النبات، بل و كذلك الجمادات تمتلك أيضاً حياة و قدرة و شعور بقدر ماهيّاتها. فلحجر المطحنة فهم؛ و لورق الشجر فهم، و للهواء و الشمس و القمر و النجوم و الأرض و الفصول الأربعة بأجمعها فهم و شعور.
و قد أجاد الملّا الروميّ في «المثنويّ» في بيان هذه الحقيقة بأروع بيان فقال:
باد و خاك و آب و آتش بندهاند | *** | با من و تو مرده با حقّ زندهاند |
پيش حقّ آتش هميشه در قيام | *** | همچو عاشق روز و شب پيچان مدام۱ |
سنگ بر آهن زني آتش جَهَد | *** | هم به أمر حقّ قدم بيرون نهد |
سنگ و آهن خود سبب آمد وليك | *** | تو به بالاتر نگر أي مرد نيك |
كاين سبب را آن سبب آورد پيش | *** | بي سبب كي شد سبب هرگز به خويش |
گردش چرخ اين رسن را علّت است | *** | چرخ گردان را نديدن ذلّت است |
اين رسنهاى سببها در جهان | *** | هان و هان زين چرخ سرگردان مدان |
تا نماني صِفر و سرگردان چو چرخ | *** | تا نسوزى تو ز بي مغزي چو مَرخْ |
باد و آتش مىشوند از امر حقّ | *** | هر دو سرمست آمدند از خمر حقّ۱ |
گر نبودي واقف از حقّ، جان باد | *** | فرق چون كردي ميان قوم عاد |
هُود گِرد مومنان خطّ مىكشيد | *** | نرم مىشد باد كانجا مىرسيد |
هر كه بيرون بود ز آن خطّ جمله را | *** | پاره پاره مىشكست اندر هوا |
همچنين بادِ اجل با عارفان | *** | نرم و خوش همچون نسيم بوستان |
آتش ابراهيم را دندان نَزَد | *** | چون گزيده حقّ بود چونش گَزَد |
آتش شهوت نسوزد اهل دين | *** | باغيان را برده تا قعر زمين |
موج دريا چون به امر حقّ بتاخت | *** | اهلِ موسى را ز قِبطي واشناخت۱ |
خاك، قارون را چو فرمان در رسيد | *** | با زر و تختش به قعر خود كشيد |
آب و گل چون از دم عيسى چريد | *** | بال و پر بگشاد و مرغي شد پريد |
كوه طور از نور موسى شد به رقص | *** | صوفي كامل شد و رست او ز نقص |
چه عجب گر كوه، صوفي شد عزيز | *** | جسم موسى از كلوخى بود نيز۱ |
علم الإنسان بحقائق الموجودات علمٌ محدود
و خلاصة الأمر فإنّ جميع الموجودات ذات فهم و شعور، إلّا أنّنا لا نستطيع إدراك ذلك. و هي كذلك تقول بأنّ هذا الإنسان لا فهم له و لا شعور، و هي على حقّ إذ إنّها تقول: إنّهم لا يفهمون. و نحن نقول: إنّها لا تفهم.
أ لا توافقون؟ أنّنا نعدّ أنفسنا من ذوي الفهم في هذا العالم، و لكن من أين لنا ذلك! إنّنا لم نذهب إلى عالم الجمادات لنتعرّف عليه، فلربّما كانت الجمادات تقول في عالمها: إنّ الإنسان لا يفهم شيئاً. و هي صادقة في قولها إلى حدٍّ ما. فلو كان الإنسان مُدركاً لما ارتكب كلّ هذه الجنايات و الجرائم. لقد قال الملائكة: يا إلهنا! ما ذا تريد أن تخلق في الدنيا؟ إنّ هذا
الإنسان مُفْسِدٌ في الأرْضِ. و لقد كانت الملائكة أوّل مَن دعى الإنسان مُفسداً في الأرض، إذ كانوا يعلمون أنّ الإنسان لن يَدَعْ على هذه الأرض دماً إلّا سفكه، و لا فساداً إلّا ارتكبه.
و على هذا الأساس، حيث لا سبيل لنا إلى معرفة الموجودات الاخرى، فينبغي ألّا نقول بأنّها عديمة الشعور و الحياة. بل هي موجودة، و الوجود يقتضي الحياة و العلم و القدرة التي هي من لوازمه. و هذه مسألة لا يتطرّق إليها الشكّ. و بناءً على هذه النظريّة فإنّ لعالم الوجود حياة، و لُاسطوانة المسجد حياة، و لهذه السجاجيد التي نجلس عليها حياة و شعور؛ و ستجيء يوم القيامة فتشهد.
إنّ الزمان هو أحد الموجودات التي ستأتي فتشهد، كما أنّ المكان -بدوره- يمثّل أحدها. و سنشير إليهما إن شاء الله تعالى لاحقاً في بحث شهادة الزمان و المكان.
فهذا العالم الذي نعيش فيه -إذاً- عالم طافح بالحياة و القدرة و العلم، و لكن وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
فلننظر إلى أنفسنا و نتأمّل، هل نمتلك علماً بجميع الموجودات و بجميع أسرار الكائنات؟ و ما مقدار علمنا هذا؟
لقد انقضى عمر الفلاسفة الأعلام و هم في بحث دؤوب سواءً المتديّنين منهم أم غير المتديّنين، و لكنّهم جميعاً يعترفون بأنّهم لم يفهموا شيئاً.
يقول ابن سينا:
تا بدانجا رسيد دانش من | *** | كه بدانم همى كه نادانم۱ |
و يقال إنّ ابن سينا كان يكرّر هذا البيت عند احتضاره:
نَمُوتُ وَ لَيْسَ لَنَا حَاصِلٌ | *** | سِوَى عِلْمِنَا أنَّهُ مَا عَلِمَ۱ |
و يقول:
از قعر گل سياه تا اوج زحل | *** | كردم همه مشكلات گيتى را حلّ |
بيرون جستم ز قيد هر مكر و حِيَل | *** | هر بند گشاده شد مگر بند أجَل٢ |
و للفارابيّ شعر يماثل شعر ابن سينا.
كما قال الحكيم الخيّام:
اسرار ازل را نه تو داني و نه من | *** | وين خطّ معمّا نه تو خواني و نه من |
هست از پس پرده گفتگوى من و تو | *** | چون پرده برافتد نه تو ماني و نه من٣ |
و يقول الفخر الرازيّ:
ترسم بروم عالم جان ناديده | *** | بيرون روم از جهان جهان ناديده |
در عالم جان چو روم از عالم تن | *** | در عالم تن عالم جان ناديده٤ |
و يقول:
نهَايَةُ إقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ | *** | وَ غَايَةُ سَعْيِ العَالِمِينَ ضَلَالُ |
وَ لَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ سَعْيِنَا طُولَ عُمْرِنَا | *** | سِوَى أنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَ قَالُوا |
وَ أرْوَاحُنَا مَحْبُوسَةٌ في جُسُومِنَا | *** | وَ حَاصِلُ دُنْيَانَا أذى وَ وَبَالُ۱ |
و للزمخشريّ:
العِلْمُ للرَّحْمَنِ جَلَّ جَلَالُهُ | *** | وَ سِوَاهُ في جَهَلاتِهِ يَتَغَمْغَمُ |
مَا لِلتُّرَابِ وَ لِلْعُلُومِ وَ إنَّمَا | *** | يَسْعَى لِيَعْلَمَ أنَّهُ لَا يَعْلَمُ٢ |
و عليه، فإنّ كلّ كلامنا في أنّ علم الإنسان ضئيل و محدود، بينما علم عالَم التكوين و أسرار الخلقة كثير غير مُتناه. و هناك مع كلّ ذرّة من الموجودات رقيب و حفيظ. فلا يُخيّلنّ للمرء أنّه إذا تعامى و تغافل فإنّ عالم الوجود و الخلقة سيغفل عنه.
قصّة الحاجّ الشيخ إسماعيل الجابلقيّ في طريق مشهد
أنقل قصّة صالحة كونها درساً و عبرة عن سماحة استاذنا المكرّم آية الله الحاجّ الشيخ مرتضى الحائريّ اليزديّ مدّ ظلّه العالي، و هو في الوقت الحاضر من الأساتذة البارزين في الحوزة العلميّة المقدّسة في قم، و من ذوي مكارم الشيم و الفضائل الأخلاقيّة، عن الثقة المعتمد حجّة الإسلام الحاجّ الشيخ إسماعيل الجابلقيّ (من أعاظم علماء طهران و من مدرّسي الأخلاق و مروّجي الشريعة الغرّاء) قال:
نقل لي الشيخ الجابلقيّ دونما واسطة أنّه سافر مع أبيه بصحبة جماعة
في قافلة توزّع مسافروها بين عربات تجرّها الخيول و امتطى البعض الحمير و الجمال التي شُدّت عليها المحامل. و تحرّ كت القافلة من «جابلق» بقصد زيارة التربة المقدّسة للإمام عليّ بن موسى الرضا عليه آلاف التحيّة و الثناء.
و كانت وسيلة السفر في ذلك الوقت منحصرة في تلك القوافل. و كان السفر من جابلق (إحدى قرى أراك) إلى طهران بهذه العربات و على الحمير يستغرق عشرة أيّام، أمّا السفر من طهران إلى مشهد المقدّسة فكان يستغرق شهراً كاملًا.
و كان دأب القوافل التي تتحرّك من طهران إلى مشهد أن تواصل السفر حتّى تصل مدينة «شاهرود» الواقعة في منتصف الطريق فتتوقّف فيها يومين للاستراحة و الاستحمام و غسل الملابس، إذ كان المسافرون يصلون شاهرود بعد خمسة عشر يوماً مرهقين قد اتّسخت أبدانهم و ملابسهم، فيقضون اليوم الأوّل في الاستحمام و غسل ملابسهم، و يجعلون اليوم الثاني لاستراحتهم. و في اليوم الأوّل لوصول القافلة إلى شاهرود كان الجميع مشغول بالاستحمام و غسل الملابس و تطهيرها، و أنا كذلك انشغلت بغسل ملابس والدي ثمّ صحبته للحمّام فغسّلته، حتّى انقضى اليوم دون أن أتمكّن من الاستحمام و لا من غسل ملابسي. و في اليوم التالي تقرّر أن ينام الجميع و يخلدوا للراحة من أجل أن تبدأ القافلة حركتها مع بداية الليل. فأخلد الجميع للنوم و من بينهم أبي، بينما انهمكت في غسل ملابسي و تنظيفها، ثمّ أخذت حمّاماً إلى أن انقضى النهار دون أن أحظى بقسط من الراحة. و كنت في حال من الإعياء و التعب لا يمكن وصفها.
ثمّ حلّ الغروب فصلّى الناس صلاة المغرب و ركبوا و تحرّ كوا و أنا معهم، ثمّ سرنا مسافة فأحسست أن لا طاقة لي على الركوب، و لا أستطيع
حفظ تعادلي فوق الحمار، و أنّ النعاس و الإعياء غلبا عَلَيّ بحيث كدت أهوي إلى الأرض. ففكّرت بالترجّل و النوم ساعة على جانب الطريق، على أن أنهض فأحثّ الخطى لألحق بالقافلة، إذ من الطبيعيّ أنّ سرعة المسافر الراجل تفوق سرعة الحمار و القافلة.
فترجّلت و نمتُ في تلك الصحراء جانب الطريق، ثمّ نهضت و قد زال تعبي فشاهدتُ الشمس و قد ارتفعت في كبد السماء بحيث غمرني العرق، و رأيت أنّي نمت ليلة كاملة و قدراً من النهار. فما الذي سأفعله يا إلهي. و كيف سألحق بالقافلة؟ و أيّ طريق سأسلك في هذه الصحراء؟ خصوصاً أنّه كان هناك آثار كثيرة لأقدام الحيوانات، متشعّبة في هذا الاتّجاه و ذاك. و كيف -يا ترى- سألحق بالقافلة و قد سبقتني بليلة؟
إلى أن شاهدت رجلين يتّجهان نحوي، و كان أحدهما يرتدي لباساً من اللبّاد له أكمام قصيرة فقالا لي: انهض و اسلك هذا الطريق فستلحق بالقافلة! و أشارا إلى إحدى تلك الطرق المتشعّبة التي كانت فيها آثار أقدام الحيوانات. فنهضتُ و سرت، فما انقضت خمس دقائق حتّى بلغتُ مقهى يقع إلى جانب حوض ماء كبير، فدخلت و شربت قدح شاي. و أراد صاحب المقهى أن يجلب لي قدحاً آخراً فلم أوافق. إذ كانت قيمة قدحي الشاي ثلاثة «شاهيات»، بينما لم يكن معي أكثر من مائة دينار (تعادل شاهيّين)، لأنّ المال كان مع أبي في الأمتعة.
فسألني صاحب المقهى: لما ذا لا تشرب قدحاً آخراً من الشاي؟ أجبت: ليس معي أكثر من مائة دينار. قال: سأقبل. فشربت قدح الشاي الآخر و واصلت السير من جديد لمدّة خمسة دقائق فوصلت خاناً كبيراً تنزل فيه القوافل و شاهدت قافلتنا و قد ألقت الرحال في ذلك الخان، و وجدت أبي خارج الخان، جالساً إلى جانب الجدار متّكئ عليه.
فقال لي: لقد وصلنا للتوّ، فأين كنتَ حتّى الآن؟ فقصصتُ عليه الأمر و قلت: لقد سرت عشرة دقائق فقط فلحقت بكم.
قال: يا للعجب! لقد طوينا الطريق من الليل إلى الصباح، فكيف أمكنك أن تطوي هذه المسافة الطويلة في هذا الوقت القصير؟
من المسلّم أنّ ذلك قد حصل إثر تصرّف ذينك الرجلين اللذين كانا من رجال الغيب.
ثمّ أضاف سماحة الشيخ الحائريّ: و لا يزال الشيخ الجابلقيّ حيّاً حتّى الآن، و ليس لديّ أدنى شكّ في عدالته و في صدق هذه الواقعة!
نعم، فإنّ هذه القصّة و نظائرها الكثيرة الوقوع تدلّ بصورة حتميّة على سلسلة من الارتباطات بين الموجودات، أي على وجود اطّلاع لبعض الأرواح الطيّبة، و على أمر طيّ الأرض و بلوغ المقصد في أسرع وقت و الاستراحة على الأرض، و على امور كثيرة اخرى تتضّح من خلال الدقّة و التأمّل.
فلما ذا يغفل الإنسان عن هذه الارتباطات و العلائق؟ و لما ذا يتصوّر هذا العالم مكوّناً من أجزاء متفرّقة مشتّتة، و كما أنّ أجزاء هذا العالم ترتبط فيما بينها من الناحية المادّيّة و الفيزيائيّة بهذا الارتباط العجيب العظيم الذي حيّر الفلاسفة و المفكّرين. كذلك فإنّ أجزاء هذا العالم مرتبطة ببعضها بلحاظ المعنى و العلائق الروحيّة و النفسيّة ارتباطاً عجيباً و عظيماً.
تا نگريد ابر كي خندد چمن | *** | تا نگريد طفل كي نوشد لبن۱ |
تا نگريد كودك حلوا فروش | *** | بحر بخشايش نميآيد بجوش۱ |
و حاصل الأمر أنّ العلوم الإنسانيّة محدودة جدّاً، و أنّ أسرار هذا العالم و غوامضه جمّة. فهناك في كلّ موجود، بل في كلّ ذرّة من الوجود هناك عالم من الأسرار الخاصّة التي لا يعلم عنها الإنسان شيئاً. و لذلك فليست علوم الإنسان مقابل علوم و أسرار و حقائق و أطوار الوجود و عالم الخلقة إلّا ذرّة مقابل أمواج الشمس النورانيّة الساطعة على أرجاء العالم التي طبّقت فضاء عالم الأجرام السماويّة و النجوم و المجرّات؛ أو كقطرة في مقابل المحيطات التي شملت ثلاثة أرباع العالم فجعلتها غير آهلة بالسكّان. بل هي أصغر و أتفه من هذا المقياس، و يمكننا أن نقول بأنّها تمثّل صفراً في مقابل اللانهاية.
إنّ العلوم و الأسرار و الامور الواقعيّة هي من الشمول و السعة بحيث لو سعى الإنسان طوال عمره سعياً دائباً و تحمّل فيه المشاقّ -على فرض امتلاكه فكراً مقتدراً فيّاضاً- فإنّه لن يتمكّن من الاطّلاع على الحقائق و الأسرار الكامنة في خليّة واحدة، فضلًا عن أن تتعدّى علومه هذه الخليّة إلى جميع الموجودات و إلى عوالمها و بواطنها و بداياتها و نهاياتها.
ليس هناك من مطّلع على الحقائق و الأسرار غير علّام الغيوب
فمن ذا الذي يمتلك علماً، غير الذات القدسيّة للحقّ عالم السّر و الخفيّات، علّام الغيوب؟ يُضاف إلى ذلك أنّ علم كلّ موجود محدود بدائرته الخاصّة، فليس للإنسان علم بعالم الحيوان، كما ليس للحيوان علم بالإنسان. و ليس للإنسان علم بالنبات و لا للنبات علم بالإنسان. و الأمر
كذلك بين النباتات و الجمادات، و بين كلّ موجود مع الموجود الآخر. فكلّ موجود له علم بنفسه، على أنّ علمه هذا علم بسيط و مُجمل.
كان سماحة جمال الحقّ و مرآة العارفين المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ الهمدانيّ رضوان الله عليه يقول: «كان النبيّ موسى على نبيّنا و آله و عليه السلام يحفر الأرض ذات يوم، فانهال بفأسه على صخرة في طبقات الأرض فانفلقت، فشاهد فيها دودة صغيرة. فسأل موسى ربّه: إلهي! أريد أن أعلم لأيّ حكمة خلقتَ هذه الدودة الصغيرة وسط هذه الصخرة في ظلمات أعماق الأرض؟
فجاءه الخطاب على الفور: يا موسى! إنّ هذه الدودة تسألني كلّ يوم سبعين مرّة: لأيّ مصلحةٍ خلقتَ موسى؟».
إنّ الإنسان أشرف المخلوقات لأنّه يمتلك مرونة تجعله يرتقي بالقوى و القابليّات التي اعطيت له، فيتقدّم و يوسّع دائرة علومه. إلّا أنّه لا يتمكّن -استناداً إلى كونه أشرف المخلوقات- من إنكار شعور و إدراك باقي الموجودات.
و على هذا الأساس فإنّ جميع الموجودات التي تأتي فتشهد، هي موجودات ذات علم و شعور و إدراك، بَيدَ أنّنا لا ندرك ذلك.
وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.۱
يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ.٢
الحياة و العلم و القدرة موجودة في جميع الموجودات في حدّ واحد
نعم، إنّ الوجود و الحياة و العلم امور سارية في جميع الموجودات، إلّا أنّ وجود النطق لا يُدعى تسبيحاً، كما لا يُدعى شهادةً. لذا فإنّ الله عزّ
و جلّ يعيّر الأفراد الذين يعشقون الموجودات الفاقدة للحياة و يعبدونها:
وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ ، وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ.۱
و على هذا الأساس فإنّ القرآن الكريم يخطّئ عبادة الموجودات التي لا شعور لها و لا روح، و يُنكر إظهار المحبّة لها: فيقول: إنّكم تخطئون إذ تعبدون هذه الأصنام، لأنّ الصنم لا شعور له و لا إدراك. و لو كنتم تعلمون حقيقةً بأنّ هذا الصنم له تسبيح في هذا العالم، و أنّ له شعور و إدراك و فهم، و أنّ هذان الشعور و الفهم هما علم الله و فهمه اللذان تجلّيا فيه، فإنّ سجودكم آنذاك سيكون سجوداً للّه، لأنّكم تسجدون للصنم الذي ما هو إلّا ظلًّا و موجوداً فانياً لا استقلال له، أمّا فهمه و قدرته و علمه فمن قدرة الله و علمه، كما أنّه يُعتبر مخلوقاً من مخلوقات الله، و موجوداً مرتبطاً به عزّ و جلّ، و مركزاً لتجلّيات نور الحقّ و أسمائه و صفاته، عندها يكون سجودكم له غير منفصل عن سجودكم للّه عزّ و جلّ. لأنّ الصنم ظهورٌ للّه سبحانه، و قد كان سجودكم له بهذا العنوان أي معنى هذا الظهور فيه، و كان نظركم إلى الله سبحانه و مشاهدتكم له من خلال هذه الآية و المرآة. فهذا السجود -إذاً- هو سجود للّه تعالى.
و نظير ذلك فيما يتعلّق بالنبيّ و الإمام، حيث إنّ التوجّه إليهما -بلحاظ عنوان المرآتيّة و الآيتيّة- هو عين التوجّه إلى الحقّ سبحانه و الالتفات إليه.
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.٢
أينما وليّت وجهك فاسجد! اسجد للأرض، و اسجد للحجر، و للصنم،
فلا فرق في الأمر. على أنّ علّة عدم جواز السجود للصنم تكمن في ظنّنا بأنّ الصنم موجود بلا روح و لا إدراك. لذا فإنّ سجود الإنسان الحيّ المدرك ذي الروح لموجود يفتقد هذه المعاني يمثّل تعظيماً و تكريماً له، و هو أمر خاطئ. و لذلك نجد أنّ القرآن الكريم يؤاخذ على مثل هذا السجود فيقول (عن تلك الأصنام): أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ.۱
إنّ هذه الأصنام التي تعبدونها و تسجدون أمامها مع ظنّكم أنّها عمياء صمّاء، ستأتي يوم القيامة فتنطق و تكفر بعبادتكم لها، لأنّها ذات حياة و إدراك، و لأنّ سجودكم لها أمر خاطئ و غير صحيح.
إنّها الآن تقول لنا بلسانها: «لا تسجدوا! تنحّوا عنّا! لا تجعلونا أرباباً من دون الله!» لكنّنا لا ندرك فنسجد لها. أمّا يوم القيامة فستُفتح أعيننا و آذاننا الملكوتيّة، فنسمع صوتها و تحذيرها. وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ.
إنّها تقول: إلهنا! إنّنا لم ندعهم إلى عبادتنا، إنّنا كافرون بأعمالهم، إذ نحن نُدين هذه العبادات في الدنيا، بَيدَ أنّ هذا الإنسان البائس قد أخطأ إذ عبدنا، تلك العبادة التي نكرهها و نعاني منها الأمرّين». و ستتكلّم الأصنام يوم القيامة و تشهد على بطلان عبادة الإنسان لها.
يروي الكلينيّ في «الكافي» بسنده المتّصل عن محمّد بن سالم، عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام، ضمن حديث مفصّل يقول فيه:
وَ لَيْسَتْ تَشْهَدُ الجَوَارِحُ عَلَى مُؤْمِنٍ، إنَّمَا تَشْهَدُ عَلَى مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ، فَأمَّا المُؤْمِنُ فَيُعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ.٢
شهادة الأعضاء و الجوارح يوم القيامة مختصّة بأصحاب النار
و كما مرّ في الآية الشريفة: وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ؛ فقد ورد أيضاً في الروايات أنّ شهادة أعضاء البدن أمرٌ يختصّ بأهل المعصية. أمّا المؤمنون فلا تشهد عليهم أعضاؤهم و جوارحهم. و باعتبار أنّ الإمام الباقر عليه السلام قال في الحديث السابق بأن الجوارح تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب، حيث استخدم جملة (حقّت عليه كلمة العذاب) فيحتمل أنّه استنبط ذلك من الآية الكريمة:
وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ (من الشهوات و الغفلة و نسيان الله عزّ و جلّ) وَ ما خَلْفَهُمْ (من الامور الفانية الاعتباريّة، من المقامات و الرئاسات التي يعتمدون عليها) وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ (حقّت عليهم كلمة العذاب من الله) في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ.۱
و قد ورد في «تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ» و في كتاب «من لا يحضره الفقيه» أنّ الإمام الصادق عليه السلام سئل عن قوله تعالى:
شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ ... إلى آخر الآية، فقال عليه السلام: يَعْنِي بِالجُلُودِ الفُرُوجَ وَ الأفْخَاذَ.٢
كما ورد في «تفسير عليّ بن إبراهيم»:
قَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: إذَا جَمَع اللهُ الخَلْقَ يَوْمَ القِيَامَةِ دَفَعَ إلَى كُلِّ إنْسَانٍ كِتَابَهَ، فَيَنْظُرُونَ فِيهِ فَيُنْكِرُونَ أنَّهُمْ عَمِلُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً فَيَشْهَدُ عَلَيْهِمْ المَلَائِكَةُ، فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ مَلَائِكَتُكَ يَشْهَدُونَ لَكَ، ثُمَّ يَحْلِفُونَ أنَّهُمْ
لَمْ يَعْمَلُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً وَ هُوَ قَولُهُ: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ» فَإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَتَمَ اللهُ عَلَى ألْسِنَتِهِمْ وَ يُنطِقُ جَوَارِحَهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.۱
اللهمّ نبّهنا على الدوام بحقّ محمّد و آله الطاهرين، و لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
المَجْلِسُ الثَّامِنُ وَ الأرْبَعُونَ: شَهادَةُ الزَّمانِ وَ المَكَانِ يَوْمَ القِيامَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ.۱
يستفاد من هذه الآية الكريمة أنّ الأيّام تُعدّ من الشهود التي تشهد على أعمال الإنسان. فالأيّام، بما فيها من الدقائق و الساعات و الأيّام و الليالي و الشهور و السنين، و بما تشتمل عليه من الأيّام و الليالي الشريفة و أيّام الجمعة و أيّام الأعياد المباركة تشهد على أعمال الإنسان. و كذلك الأمر بالنسبة للأزمنة و الأمكنة و الجبال و البقاع و المساجد و الأماكن المقدّسة و المشاهد الشريفة التي تعدّ من الشهود على الإنسان.
و لكي لا نبتعد كثيراً، و لتقريب هذا المطلب إلى الأذهان، نذكر مقدّمة مختصرة من الأدلّة العقليّة، ثمّ نستشهد بالأدلّة النقليّة الواردة في
المقام.
ذُكر سابقاً أنّه قد جرت البرهنة في الحكمة المتعالية على أنّ كلّ موجود من الموجودات -و لو كان ذرّة غير مرئيّة- يمتلك حياة و قدرة و علماً. فجميع ما في عالم الوجود يمتلك هذه الخواصّ الثلاث، و لا يمكننا أن نعثر على شيء يمكن إطلاق اسم الوجود و الموجود عليه بحيث يكون عارياً من هذه المزايا.
فهذه الحركات الموجودة في بدن الإنسان، و الفعل و ردود الفعل في بدن الإنسان و في أبدان الحيوانات و في الأشجار و النباتات و الجمادات و في الكرات السماويّة، سواءً كانت حركة جوهريّة أم حركة ذرّيّة أم غير ذلك من الحركات، هي قائمة بأجمعها على أساس قدرة و حياة و إدراك تلك الموجودات بحسب سعة ماهيّتها. و على أساس هذه الفلسفة الكلّيّة لا يمكن العثور على مورد استثنائيّ واحد في عالم الوجود.
كما أنّنا نعلم -من جهة اخرى- أنّ العدم لا يطرأ على الأشياء التي توجد في الخارج بعد تحقّق وجودها، إذ من المحال أن يكون الموجود معدوماً في عين وجوده، لأنّ الوجود و العدم متناقضان.
نعم، قد ترتدي المادّة الموجودة رداء العدم بخصوصيّة اخرى؛ فهذه الشجرة موجودة الآن، ثمّ إنّها تُقطع بعد ساعة فتصبح خشباً، ثمّ تُحرق و تستحيل فحماً، ثمّ تصبح رماداً، بَيدَ أنّ هذه الحالات المختلفة لا تدلّ على العدم. فقد كانت الشجرة في الظرف الأوّل شجرة، و هي في ظرف الوجود و الدهر شجرة إلى الأبد. أمّا في الظروف الاخرى فإنّها ستصبح خشباً و فحماً و رماداً.
و بناءً على هذا فإنّ ما يقوم به الإنسان من أفعال، له ارتباط و نسبة مع الموجودات الخارجيّة، إذ إنّ تلك الأفعال لا تُعدم، لأنّ الموجودات
الخارجيّة مرتبطة بتلك الأفعال و مطّلعة عليها و شاعرة بها.
إنّني أجلس الآن في هذا المكان و أتحدث، و كلامي هذا يمثل فعلًا له نسبة فهو -أوّلًا- قد وقع في هذا الزمان؛ و هو ثانياً قد وقع في هذا المكان، أمّا بلحاظ الوضع و المحاذاة فأنا في مواجهتكم أيّها السادة بينما تجلسون تجاه القبلة و قد أحاطت بكم و بنا الجدران و السقف و الأرض من الأمام و الخلف في إطار خاصّ و وضع معيّن. و الخلاصة فإنّ جميع هذه الامور تمثّل علائق تربط فيما بيننا و بين كلامنا من جهة و بين هذه الموجودات الخارجيّة من جهة اخرى. و لأنّ فعلنا يصدر من ذاتنا، فإنّ النسبة التي يمتلكها فعلنا مع الموجودات الخارجيّة هي نفسها التي تمتلكها ذاتنا معها.
و حين وُجدت ذواتنا و صدرت عنها هذه الأفعال، فقد صار لها تلك النسبة مع الموجودات الخارجيّة. و تبعاً لذلك فإنّ الأفعال التي تصدر عن هذه الذوات سترتبط مع الموجودات الخارجيّة. و يلزم من هذا الارتباط مع تلك الموجودات، أن تتحقّق النسبة بين هذه الأفعال و بين تلك الموجودات الخارجيّة. و النسبة بين الطرفين تستلزم وجود هذا الطرف و ذاك، و إلّا استحال تحقّق تلك النسبة. و من ثمّ فإنّ النسبة و طرفيها تتحقّق بأجمعها بمجرّد تحقّق الذات.
الجمادات ذات شعور، و ستشهد يوم القيامة
و بعد أن أثبتنا أنّ ما تحقّق في عالم الوجود و ارتدي رداء الوجود، باقٍ على الدوام و ذو حياة و علم و قدرة، فإنّنا نستنتج أنّ جميع الموجودات و أفعالنا باقية على الدوام مع جميع خصائصها، و من ضمنها الشعور و الإدراك.
و النتيجة هي أنّنا، نحن الجالسون هنا فعلًا، أناسٌ أحياء، و أنّ جميع النسب و الارتباطات التي نمتلكها حيّة بدورها. الزمان الذي نعيش فيه حيّ ذو شعور، و المكان الذي نوجد فيه حيّ ذو شعور و إدراك. و جدران هذا
المسجد و سقفه و سجاجيده و أعمدته و منبره و أبوابه حيّة بأجمعها و ذات شعور و إدراك. و نحن إذ نراها ساكتة صامتة، فلأنّ سبيل فهمنا و إدراكنا محدود لا يسمح لنا بالنفوذ إلى الموجودات الخارجيّة بما يفوق الحدود المعطاة و المسموحة. بَيدَ أنّ هناك غوغاءً في عالم الوجود من السمع و البصر و الفهم و الشعور التي تتحلّى بها هذه الموجودات. أمّا في الحشر، فإنّ جميع هذه الأشياء ستتجلّى أمام الإنسان حيّة، سميعة، بصيرة.
عالم افسرده است و نام او جماد | *** | جامد افسرده بود أي اوستاد |
باش تا خورشيد حشر آيد عيان | *** | تا ببيني جُنبش جسم جهان |
چون عصاي موسى اينجا مار شد | *** | عقل را از ساكنان إخبار شد |
پارة خاك تو را چون زنده ساخت | *** | خاكها را جملگى بايد شناخت |
مرده زين سويند وز آن سوزندهاند | *** | خامُش اينجا و آن طرف گويندهاند۱ |
چون از آن سوشان فرستد سوي ما | *** | آن عصا گردد سوي ما اژدها |
كوهها هم لحن داودي شود | *** | جوهر آهن به كف مومى شود |
بادْ حمّال سليمان شود | *** | بَحْر با موسى سخندانى شود |
ماه با احمد اشارت بين شود | *** | نار ابراهيم را نسرين شود |
خاك قارون را چو ماري دركشد | *** | اسْتُنِ حَنّانه آيد در رَشَد |
سنگ أحمد را سلامي مىكند | *** | كوه يحيى را پيامي مىكند |
جملة ذرّاتِ عالم در نهان | *** | با تو مىگويند روزان و شبان |
ما سميعيم و بصيريم و خوشيم | *** | با شما نامحرمان ما خامُشيم۱ |
چون شما سوي جمادي مىرويد | *** | مَحرم جان جمادان كي شويد؟ |
از جمادي در جهانِ جان رويد | *** | غُلغل اجزاى عالَم بشنويد |
فاش تسبيح جمادات آيدت | *** | وسوسة تأويلها برْ بايدت |
چون ندارد جان تو قنديلها | *** | بهر بينش كردهاى تأويلها۱ |
هذا بلحاظ البرهان العلميّ الذي اشير إليه فقط، أمّا أساس هذا البرهان فقد جرى بيانه في الحكمة.
و من هنا فنحن نتعامل في حقيقة الأمر مع عالم طافح بالحياة، و مع عالم يفيض بالقدرة و العلم؛ و نحن نواجه كلّ ساعة و كلّ لحظة أينما ذهبنا و مهما فعلنا عالماً من الحياة و العلم، عاجزين عن أن نعثر على مكان واحد يفتقد الشعور و العلم، أو أن نلغي أنفسنا في حدود معزولة عن العلم الإلهيّ في مظاهر ذلك التجلّي المطلق.
و نحن إذ نجد أنفسنا محبوسين في ذلك الصقع و تلك الناحية، غارقين في سجن الجهل، فإنّ ذلك معلول لعدم إدراكنا لهذه الحقيقة. و إلّا فإنّ جميع
ما يحيط بنا من الزمان و المكان و سائر الأعراض لا يخلو من الشعور و القدرة و الحياة.
عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ.۱
و يتّضح -بالتأمّل في هاتين الآيتين- أنّ الله سبحانه يصف نفسه بعالمِ الغيب، و يقول بأن ليس هناك مِن ذرّة خافية عنه، كما يقول بأن جميع هذه الأشياء موجودة في الكتاب المبين. أي في كتاب التكوين و في روح هذا العالم.
فعلم الله عزّ و جلّ -إذاً- هو كتاب التكوين؛ و كلّ موجود من الموجودات يمثّل علم الله الحضوريّ، و وجوده يمثّل علم الله سبحانه.
و من هنا فإنّ أرجاء عالم الوجود و التحقّق في الخارج هو عين العلم الفعليّ للّه تبارك و تعالى.
ثمّ إنّ جزاء المؤمنين عاملي الأعمال الصالحة يترتّب على هذا الأمر، أي باعتبار أنّ الله تعالى عالم، و أنّ علمه هو كتاب التكوين؛ فإنّه يجزي المؤمنين جزاءً حسناً وفقاً لهذا الكتاب المبين. و يُستنتج من ذلك بوضوح أنّ الموجودات الخارجيّة ذات علم و شعور، و أنّها تشهد، فيجزي الله عزّ و جلّ المؤمنين -تبعاً لذلك- أجراً جزيلًا و مغفرة و رزقاً كريماً، و من بين هذه الموجودات الزمان و المكان.
الزمان و المكان يقظان و ذوا فهم و شعور
الزمان و المكان يقظان منتبهان، فهما يقومان بتسجيل الأعمال، و يدوّنان حتّى اللحظات التي تمرّ على الإنسان، و حتى إطباقه عينه و رمشه
بجفنيه؛ حتّى أنّها تنطوي على تفكير الإنسان و تعقّله، و تتحمّل الشهادة
بشأنه، ثمّ تؤدّى تلك الشهادة. فهي إنّما تكتسب اليوم لتؤدّى غداً. اليوم يوم الطيّ و غداً يوم النشر و العرض. و هكذا تنشأ الأعمال متعاقبةً في اتّصالها بالزمان، و يسير الإنسان على هذا الخطّ المتدرّج المتّصل زمنيّاً و يتقدّم في مسيرته و يخلّف أعماله الواحد بعد الآخر، و يُخيّل إليه أنّ تلك الأعمال قد زالت و فنيت. بَيدَ أنّ الأمر ليس كذلك، إذ إنّ الشيء الذي وُجد سوف لن يُعدم. و تلك الأعمال موجودة في الحقيقة و محفوظة في مواضعها، و سيُفتح هذا الشريط المسجّل غداً فتقرأ عجلة الزمان الحقائق المدوّنة. و سيُظهر المكان تلك الحقائق، فيشاهد الإنسان نفسه في مواجهة جميع أعماله بخصائصها و كيفيّاتها.
أي أنّنا سنشاهد غداً ساحة المسجد التي نجلس فيها الآن مع جميع هذه الخصوصيّات، بينما نتصوّر -على ضوء معنى انقضاء الزمان و دورانه- أنّ هذه الساعة ستنقضي، و أنّ وجودنا مرهون بهذه اللحظات التي نوجد فيها. ثم سنشاهد غداً هذا المجلس مسجّلًا بجميع جهاته الظاهريّة و الباطنيّة، ليس كمثل تسجيل مسجّلات الصوت المادّيّة فحسب، بل إنّ جميع الموجودات التي يحتويها ظرف الزمان و المكان، مضافاً إليها نفس الزمان و المكان، ستنضمّ كذلك في داخلها على عالم التكوين بجميع خصوصيّاته، من الأعمال الظاهريّة و الخواطر الذهنيّة و النوايا القلبيّة، ثمّ إنّها ستأتي بعد ذلك لتشهد. فهي الآن تكتسب تلك الامور بصورها المُلكيّة (المتعلّقة بعالم المُلك)، ثمّ تعيدها في ذلك العالم في صورها الملكوتيّة.
على أنّ مشاهدة تلك الصور الملكوتيّة، و ذلك النحو من الشهادات المعنويّة، أمر يستدعي العجب الكثير. و مشاهدة تلك الصور في هذا العالم أمرٌ لا يحتمله إلّا العباد المصطفَون لذات الحقّ تبارك و تعالى.
الروايات الواردة في شهادة الزمان و المكان
ينقل المرحوم عليّ بن طاووس رضوان الله عليه، و هو من علماء
الإسلام الأعلام من ذوي التصنيفات و التأليفات الكثيرة، و يعدّه الكثيرون في درجة تلي درجة الإمام المعصوم بلحاظ البصيرة و مقام اليقين و العلم و التقوى، و قد وصفه العلّامة الحلّيّ رحمة الله عليه في كتاب «إجازات بني زهرة» بأنّه صاحب الكرامات الباهرة و المعجزات القاهرة. ينقل في كتابه «محاسبة النفس» روايتينِ، إحداهما بإسناده إلى محمّد بن عليّ بن محبوب، عن كتابه، بسنده إلى الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام.
قَالَ: مَا مِنْ يَوْمٍ يَأتِي عَلَى ابْنِ آدَمَ إلَّا قَالَ ذَلِكَ اليَوْمُ يَا بْنَ آدَمَ أنَا يَوْمٌ جَدِيدٌ وَ أنَا عَلَيْكَ شَهِيدٌ فَافْعَلْ بِي خَيْراً، وَ اعْمَلْ فِيّ خَيْراً أشْهَدُ لَكَ يَوْمَ القِيَامَةِ فَإنَّكَ لَنْ تَرَانِي بَعْدَهَا أبَداً. (و في نسخة اخرى) فَقُلْ فِيّ خَيْرَاً وَ اعْمَلْ فِيّ خَيْرَاً.۱
و يستفاد من هذه الرواية أنّ أيّام الإنسان ليست سواسية، و أنّ كلّ يوم هو موجود مشخّص، إن عمل الإنسان فيه خيراً فذاك، و إلّا فإنّ ذلك اليوم سينقضي و يأتي يوم جديد آخر و شرائط جديدة و عمل جديد.
كما ينقل الرواية الثانية عن كتاب مسعدة بن زياد الربعيّ، عمّا نقله عن الإمام الصادق، عن أبيه الباقر عليهما السلام قال:
اللَّيْلُ إذَا أقْبَلَ نَادَى مُنَادٍ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ الخَلائِقُ إلَّا الثِّقَلَيْنِ: يَا بْنَ آدَمَ إنِّي عَلَى مَا فِيّ شَهِيدُ فَخُذْ مِنِّي، فَإنِّي لَوْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ لَمْ تَزْدَدْ فِيّ حَسَنَةً وَ لَمْ تَسْتَعْتِبْ فِيّ مِنْ سَيِّئَةٍ. وَ كَذَلِكَ يَقُولُ النَّهَارُ إذَا أدْبَرَ اللَّيْلُ.٢
و يروي الصدوق في «علل الشرايع» بسنده عن عبد الله بن عليّ الزرّاد قال: سَألَ أبُو كَهْمَس أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يُصَلِّي الرّجُلُ نَوَافِلَهُ
في مَوْضِعٍ أوْ يُفَرِّقُهَا؟ قالَ: لَا، بَلْ هَا هُنَا وَ هَا هُنَا فإنَّهَا تَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ.۱
كنتُ جالساً أحد الأيّام في الحرم المطهّر للإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام خلف جهة الرأس الشريف بعد إتمامي الصلاة و أداء ركعتي صلاة الزيارة، حيث كان جالساً إلى جانبي كان سماحة حجّة الإسلام العلّامة اللاهيجانيّ الأنصاريّ دامت بركاته. فتطرّق الحديث في ذلك المكان المقدّس إلى ذكر الفقيه الإسلاميّ و العارف الجليل المرحوم الحاجّ الميرزا على آقا القاضي، و باعتبار أنّ العلّامة اللاهيجانيّ كان يتردّد في النجف الأشرف على محضر سماحته، فقد نقل عنه عدّة أقوال تستحق العناية و التأمّل، من بينها أنّ ذلك المرحوم كان يقول: لا تصلِّ دائماً في مسجد واحد، و اذهب إلى المساجد الاخرى أيضاً. و حيثما وجدتَ فيضاً معنويّاً فصلِّ هناك. أمّا إذا لم يحصل لديك توجّه في مكانٍ ما، فغيّر ذلك المكان و انتقل إلى مسجد آخر. و الخلاصة فإنّ التوقّف في مكان واحد أمرٌ لا داعي له. و ينبغي على المرء أن يبحث باستمرار عن حالة معنويّة أفضل للتوجّه، و عليه الانتقال في طلبها من مكانٍ إلى آخر، وصولًا إلى اختيار الموضع الذي يحصل فيه على توجّه و التفات أفضل. (و كان يقول:) إن لم تحصل على مرادك في مسجد الكوفة فاذهب إلى مسجد السهلة، و إن لم تحصل على مرادك في مسجد السهلة فاذهب إلى مسجد الكوفة و هكذا.
و كان من ضمن أقواله إنّ على الإنسان أن لا ييأس أبداً، و أن لا يكفّ عن السير و السلوك إن تأخّر وصوله إلى النتيجة. فقد يحفر المرء الأرض بظفره، ثمّ ينبع تحت أصابعه فجأة ماء زلال فوّار كمثل عنق
البعير.
و من بينها قوله: مَنْ كَانَ هَمُّهُ اللهُ كَفَاهُ اللهُ في جَمِيعِ هُمُومِهِ.
و من بينها أنّي سألته يوماً (و الكلام للعلّامة اللاهيجانيّ) عن الذكر الذي أردّده في مواقع الاضطرار و الابتلاء و عند تعسّر الامور، سواءً فيما يتعلّق بالامور الدنيويّة أو الامور الاخرويّة، فأجاب: صلِّ على محمّد و آله خمس مرّات ثمّ اقرأ آية الكرسي مرّة، ثمّ أكثِر في قرارة نفسك من قول اللهُمَّ اجْعَلْنِي في دِرْعِكَ الحَصِينَةِ التي تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ تَشَاءُ حتّى يتيسّر الأمر.
أثر التوبة في استتار الذنوب
إلّا أنّ هناك مسألة ستعترض هذا الحديث، و هي مسألة التوبة. فإن تقرّر أنّ الأرض و الزمان يسجّلان كلّ عمل يفعله الإنسان بجميع خصائصه المعنويّة و الروحيّة، و أنّ هذه التسجيلات ستنكشف يوم القيامة؛ فما هي -إذاً- فائدة التوبة؟ و ما هو أثرها بعد أن ثبت أنّ الشيء الذي وجد لن ينعدم، و أنّ العمل الصالح و الطالح لن ينعدم بعد تحقّقه؟
يروي محمّد بن يعقوب الكلينيّ في «الكافي» بسنده عن معاوية بن وهب، قال:
سَمِعْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ يَقُولُ: إذَا تَابَ العَبْدُ تَوْبَةً نَصُوحَاً أحَبَّهُ اللهُ فَسَتَرَ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ. فَقُلْتُ: كَيْفَ يَستُرُ عَلَيْهِ؟
قَالَ: يُنْسِي مَلَكَيْهِ مَا كَتَبَا عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَ يُوحِي إلَى جَوَارِحِهِ اكْتُمِي عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ وَ يُوحِي إلَى بِقَاعِ الأرْضِ اكْتُمِي عَلَيْهِ مَا كَانَ يَعْمَلُ عَلَيْكِ مِنَ الذُّنُوبِ، فَيَلْقَى اللهَ حِينَ يَلْقَاهُ وَ لَيْسَ شَيءٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِشَيءٍ مِنَ الذُّنُوبِ.۱
و بناءً عليه، فإنّ مثل هذا المذنب التائب سيلاقي ربّه عزّ و جلّ في
مقام اللقاء في حالٍ لا يشهد فيها على ذنوبه شيء.
و يستفاد من كلام الإمام أنّ التوبة هي حجاب يغطّي العمل القبيح. فكما يرتكب الإنسان عملًا قبيحاً فيتحقّق عمله في الخارج، فالتوبة كذلك هي عمل يتحقّق في الخارج و يبقى ثابتاً في عالم التكوين؛ و أثره الملكوتيّ أن يشكّل ساتراً و حجاباً يغطّي الذنوب فلا يطّلع عليها أحد.
كما روي الكلينيّ في «الكافي» بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
ثَلَاثَةٌ يَشْكُونَ إلَى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: مَسْجِدٌ خَرَابٌ لَا يُصَلِّي فِيهِ أهْلُهُ، وَ عَالِمٌ بَيْنَ جُهَّالٍ، وَ مُصْحَفٌ مُعَلَّقٌ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الغُبَارُ لَا يُقْرَا فِيهِ.۱
و قد عُدّ المصحف و المسجد في هذه الرواية الشريفة في مصافّ العالِم الذي يشكي إلى ربّه. و من الجليّ أنّ المراد بالمصحف هو هذا القرآن المكتوب على الورق و المحفوظ بين الدفّتين و ليس حقيقة القرآن الموجودة في العوالم العلويّة. لأنّه عبّر عنه بالقرآن المعلّق الذي وقع عليه الغبار.
و لا ريب أنّ المصحف المعلّق هو موجود مادّيّ لا عقلانيّ، إلّا أنّه -مع ذلك- يشكو إلى ربّه. كما أنّ المسجد -بدوره- مكان مادّيّ؛ لكنّه يشكو إلى الله، شأنه في ذلك شأن العالِم.
دعاء أمير المؤمنين حسب نقل ميثم التمّار
يروي المرحوم الشهيد محمّد بن مكّي، و هو من فقهاء الطراز الأوّل في الإسلام و ممّن يُركَن إلى كلامه بين العلماء بلحاظ إتقانه و إحكام مطالبه. يروي عن ميثم التمّار مرسلًا. كما يروي مؤلّف «المزار الكبير» و هو السيّد
فخّار بن معد الموسويّ أو بعض أفاضل معاصريه: حدّثني الشريف أبو المكارم الحمزة بن عليّ بن زهرة العلويّ أدام الله عزّه و أملى عَلَيّ بلفظه في الكوفة سنة سبعمائة و أربع و سبعين، عن أبيه، عن جدّه، عن الشيخ أبي جعفر محمّد بن عليّ ابن بابويه رضي الله عنه، عن الحسن بن عليّ البيهقيّ، عن محمّد بن يحيى الصوليّ، عن عون بن محمّد الكنديّ، عن عليّ بن ميثم رضي الله عنه، عن ميثم التمّار، قال: أصحر بي مولاي أمير المؤمنين عليه السلام ليلة من الليالي قد خرج من الكوفة و انتهى إلى مسجد جعفي، توجّه إلى القبلة و صلّى أربع ركعات فلمّا سلّم و سبّح بسط كفّيه و قال:
إلَهي! كَيْفَ أدْعُوكَ وَ قَدْ عَصَيْتُكَ، وَ كَيْفَ لَا أدْعُوكَ وَ قَدْ عَرَفْتُكَ، وَ حُبُّكَ في قَلْبِي مَكِينٌ، مَدَدْتُ إلَيْكَ يَداً بِالذُّنُوبِ مَمْلُوَّةً، وَ عَيْناً بِالرَّجَاءِ مَمْدُودَةً.
إلَهِي! أنْتَ مَالِكُ العَطَايَا وَ أنَا أسِيرُ الخَطَايَا، وَ مِنْ كَرَمِ العُظَمَاءِ الرِّفْقُ بِالاسَرَاءِ. وَ أنَا أسِيرٌ بِجُرْمِي مُرْتَهَنٌ بِعَمَلِي.
إلَهِي! مَا أضْيَقَ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ لَمْ تَكُنْ دَلِيلَهُ وَ أوْحَشَ المَسْلَكَ عَلَى مَنْ لَمْ تَكُنْ أنِيسَهُ.۱- إلى آخر دعائه.
كلام أمير المؤمنين مع البئر خارج مدينة الكوفة
و أخفتَ دعاءه و سجد و عفّر و قال: العَفْوَ العَفْوَ مائة مرّة، و قام و خرج فاتّبعته حتّى خرج إلى الصحراء، و خطّ لي خطّة و قال: إيّاك أن تجاوز هذه الخطّة، و مضى عنّي. و كانت ليلة مدلهمّة فقلت يا نفسي أسلمت مولاك و له أعداء كثيرة أيّ عذر يكون لك عند الله و عند رسوله،
و الله لأقفنّ أثره و لأعلمنّ خبره و إن كان قد خالفتُ أمره. و جعلت أتبع أثره فوجدته عليه السلام مطلعاً في البئر إلى نصفه يُخاطب البئر و البئر تخاطبه، فحسّ بي و التفت عليه السلام و قال: مَن؟ قلتُ: ميثم. فقال: يا ميثم! أ لم آمرك أن لا تتجاوز الخطّة؟ قلت: يا مولاي! خشيتُ عليك من الأعداءِ فلم يصبر لذلك قلبي. فقال: أ سمعتَ ممّا قلتُ شيئاً؟ قلتُ: لا، مولاي.
فقال: يا ميثم!
وَ في الصَّدْرِ لُبَانَاتٌ | *** | إذَا ضَاقَ لَهَا صَدْرِي |
نَكَتُّ الأرْضَ بِالكَفِ | *** | وَ أبْدَيْتُ لَهَا سِرِّي |
فَمَهْمَا تُنْبِتِ الأرْضُ | *** | فَذَاكَ النَّبْتُ مِنْ بَذْرِي۱ |
و ينبغي العلم أنّ المراد بنكت الأرض بكفّ اليد و إخفاء السرّ فيها، و إنبات الأرض من ذلك السرّ ينطوي على كناية و استعارة لما تدور عليه محاورات عامّة الناس من افتقاد مَن يصلح لأن يبوح له الإنسان بسرّه و يفضي له بمكنون صدره، فيلجأ إلى دفن سرّه في التراب؛ أو أنّ إرادة الإمام تعلّقت حقيقة بأن يقوم بنفسه القدسيّة بإيداع تلك الأسرار في باطن الأرض و روحها و ملكوتها، لينبت من تلك الأرض فيما بعد من أمثال أولياء الله فيكونون أصحاب سرّ الإمام.
و بطبيعة الحال فإنّ هذا الاحتمال الثاني أقرب إلى الحقيقة، لأنّ
خروج الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى الصحراء في الليل البهيم، و تركه ميثم التمّار بعد صلاته و مناجاته الطويلة للّه تعالى و ذهابه بمفرده، أمرٌ يُستبعد أن يكون كناية و استعارة أدبيّة ارتجلها متابعة لُاسلوب محاورات الناس.
و يستفاد من ذلك أنّ للأرض شعوراً و إدراكاً، و أنّها تسجّل سرّ الإمام و تحفظ أمانته ثمّ تخرجها مع النبات عند فصل إنبات الزرع.
يروي الشيخ الكشيّ رواية شائقة عن جبرئيل بن أحمد، عن محمّد ابن عيسى، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي جميلة المفضّل بن صالح، عن جابر بن يزيد الجعفيّ، قال:
حَدَّثَنِي أبُو جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلَامُ بِسَبْعِينَ ألْفِ حَدِيثٍ لَمْ احَدِّثْ بِهَا أحَداً قَطُّ وَ لَا احَدِّثُ بِهَا أحَداً أبَدَاً.
قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ لأبِي جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلَامُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ: إنَّكَ قَدْ حَمَّلْتَنِي وِقْرَاً عَظِيمَاً بِمَا حَدَّثْتَنِي بِهِ مِنْ سِرِّكُمُ الذي لَا احَدِّثُ بِهِ أحَداً، فَرُبَّمَا جَاشَ في صَدْرِي حَتَّى يَأخُذُنِي مِنْهُ شِبْهُ الجُنُونِ!
قَالَ: يَا جَابِرُ! فَإذَا كَانَ ذَلِكَ فَاخْرُجْ إلَى الجَبَّانِ فَاحْفِرْ حَفِيرَةً وَ دَلِّ رَأسَكَ فِيهَا ثُمَّ قُلْ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيّ بِكَذَا وَ كَذَا.۱
و شأن هذه الرواية شأن سابقتها، فلا ينبغي التعجّب من بوح السرّ
للأرض، و من كتمان الأرض لسرّ الإنسان.
الحجر الأسود ذو شعور و إدراك
هذا و قد وردت روايات ذات مضامين مختلفة في شأن الحجر الأسود المنصوب في ركن الكعبة و أمر امتلاكه شعوراً و إدراكاً. و نورد بعض تلك الروايات كأمثلة:
۱- رواية في «علل الشرايع» و «عيون أخبار الرضا» رواها عن أبيه، عن محمّد العطّار، عن محمّد بن أحمد، عن موسى بن عمر، عن ابن سنان، عن أبي سعيد القمّاط، عن بكير بن أعين، قَالَ:
قَالَ لِي أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ: هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ الحَجَرُ؟
قَالَ، قُلْتُ: لَا. قَالَ: كَانَ مَلَكاً عَظِيمَاً مِنْ عُظَمَاءِ المَلَائِكَةِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ، فَلَمَّا أخَذَ اللهُ مِنَ المَلَائِكَةِ المِيثَاقَ كَانَ أوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ أقَرَّ ذَلِكَ المَلَكُ، فَاتَّخَذَهُ اللهُ أمِيناً عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ فَألْقَمَهُ المِيثَاقَ وَ أوْدَعَهُ عِنْدَهُ.
ثمّ ينقل الإمام قصّة مفصّلة يقول في آخرها:
وَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أشَدُّ حُبَّاً لِمُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ اخْتَارَهُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ مِنْ بَيْنِهِمْ وَ ألْقَمَهُ المِيثَاقَ فَهُوَ يَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَ لَهُ لِسَانٌ نَاطِقٌ وَ عَيْنٌ نَاظِرَةٌ يَشْهَدُ لِكُلِّ مَنْ وَافَاهُ إلَى ذَلِكَ المَكَانِ وَ حَفِظَ المِيثَاقَ.۱
٢- و يروي في «منتخب البصائر» بسنده المتّصل عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: لمّا قُتل الحسين بن عليّ عليهما السلام، أرسل محمّد بن الحنفيّة إلى عليّ بن الحسين عليه السلام و خلا به، ثمّ قال: يا بن أخي قد
علمتَ أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان جعل الوصيّة و الإمامة
من بعده لعليّ بن أبي طالب عليه السلام، ثمّ إلى الحسن، ثمّ إلى الحسين، و قد قُتل أبوك رضي الله عنه و صلّى الله عليه و لم يوصِ، و أنا عمّك و صنو أبيك، و أنا في سنّي و قدمتي أحقّ بها منك في حداثتك، فلا تنازعني الوصيّة و الإمامة و لا تخالفني. فقال له عليّ بن الحسين عليه السلام: يا عمّ! اتّقِ الله و لا تدّعِ ما ليس لك بحقّ، إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين. يا عمّ! إنّ أبي صلوات الله عليه أوصى إليّ قبل أن يتوجّه إلى العراق و عهد إليّ في ذلك قبل أن يُستشهد بساعة، و هذا سلاح رسول الله صلّى الله عليه و آله عندي، فلا تعرَّض لهذا فإنّي أخاف عليك نقص العمر و تشتت الحال و إنّ الله تبارك و تعالى إلى أن لا يجعل الوصيّة و الإمامة إلّا في عقب الحسين عليه السلام، فإن أردتَ أن تعلم فانطلق بنا إلى الحجر الأسود حتّى نتحاكم إليه و نسأله عن ذلك.
قال الباقر عليه السلام: و كان الكلام بينهما، و هما يومئذٍ بمكّة، فانطلقا حتّى أتيا الحجر الأسود، فقال عليّ بن الحسين عليهما السلام لمحمّد: ابدأ فابتهل إلى الله و اسأله أن يُنطق لك الحجر ثمّ اسأله. فابتهل محمّد في الدعاء و سأل الله، ثمّ دعا الحجر فلم يُجبه. فقال عليّ بن الحسين عليهما السلام: أما إنّك يا عمّ لو كنتَ وصيّاً و إماماً لأجابك.
فقال له محمّد: فادعُ أنت يا ابن أخي و اسأله. فدعا الله عليّ بن الحسين عليهما السلام بما أراد، ثمّ قال: أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء و ميثاق الأوصياء و ميثاق الناس أجمعين لمّا أخبرتنا بلسانٍ عربيّ مبين مَن الوصيّ و الإمام بعد الحسين بن عليّ؟ فتحرّك الحجر حتّى كاد أن يزول عن موضعه، ثمّ أنطقه الله بلسان عربيّ مبين. فقال: اللهمّ إنّ الوصيّة و الإمامة بعد الحسين بن عليّ إلى عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب
و ابن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه و آله، فانصرف محمّد و هو يتولّى عليّ بن الحسين عليه السلام.۱
يروي ابن أبي الحديد عن أبي سعيد الخدريّ، قَالَ:
حَجَجْنَا مَعَ عُمَرَ أوَّلَ حِجَّةٍ حَجَّهَا في خِلَافَتِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرَامَ دَنَا مِنَ الحَجَرِ الأسْوَدِ فَقَبَّلَهُ وَ اسْتَلَمَهُ فَقَالَ: إنِّي لأعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَوْ لا أنِّي رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَبَّلَكَ وَ اسْتَلَمَكَ لَمَا قَبَّلْتُكَ وَ لَا اسْتَلَمْتُكَ.
فَقَالَ لَهُ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ: بَلَى يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِين! إنَّهُ لَيَضُرُّ وَ يَنْفَعُ، وَ لَوْ عَلِمْتَ تَأوِيلَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللهِ لَعَلِمْتَ أنَّ الذي أقُولُ لَكَ كَمَا أقُولُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى» فَلَمَّا أشْهَدَهُمْ وَ أقَرُّوا لَهُ بِأنَّهُ الرَّبُّ عَزَّ وَ جَلَّ وَ أنَّهُمْ العَبِيدُ، كَتَبَ مِيثَاقَهُمْ في رِقٍّ ثُمَّ ألْقَمَهُ هَذَا الحَجَرَ وَ إنَّ لَهُ لَعَيْنَيْنِ وَ لِسَاناً و شَفَتَيْنِ يَشْهَدُ بِالمُوَافَاةِ فَهُوَ أمِينُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ في هَذَا المَكَانِ.
فَقَالَ عُمَرُ: لَا أبْقَانِيَ اللهُ بِأرْضٍ لَسْتَ بِهَا يَا أبَا الحَسَنِ!٢
ثمّ قال المجلسيّ رضوان الله عليه بعد نقله هذه القصّة: و قد نقل هذه القصّة الغزّاليّ في كتاب «إحياء العلوم» و البخاريّ و مسلم في صحيحيهما إلّا أنّهم لم ينقلوا ردّ أمير المؤمنين على عُمر.
و قد اعتذر ابن تيميّة في «منهاج السنة» عن عمر بأنّ قوله للحجر
الأسود «إنّك حجر لا تضرّ و لا تنفع» لم يكن على سبيل الحقيقة، بل كان على أساس المصلحة و السياسة. فقد ألف الكفّار و المشركون حديثو العهد بالإسلام عبادة الأحجار و تكريمها على أمل نفعها و خوفاً من ضررها، فقال عمر ما قال لئلّا يعتزّ المشركون بأنفسهم و يفخروا بعملهم. بَيدَ أنّ رواية ابن أبي الحديد تُبطل هذا الاعتذار، لأنّ عمر لم يعتذر من فعله بشيء بعد أن بيّن له الإمام سرّ تقبيل الحجر الأسود و استلامه، و بعد تأكيده بأنّ هذا الحجر ينفع و يضرّ. و كان ينبغي له ألّا يقول: لا أبقاني الله بأرضٍ لستَ فيها يا أبا الحسن! لأنّ ظاهر هذا الكلام، كلام من كان جاهلًا و اعترف بخطأه.
و قد حذف ابن تيميّة تتمّة هذه الرواية ليتمكّن من تبرير ذلك.
رواية الإمام الصادق عن الحجر الأسود
٣- يروي محمّد بن يعقوب عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عُمير؛ و محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، و صفوان عن معاوية بن عمّار، عن الإمام أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، قال:
إذا دنوتَ من الحجر الأسود فارفع يديك و احمد الله و أثنِ عليه و صلِّ على النبيّ صلّى الله عليه و آله و اسأله أن يتقبّل منك، ثمّ استلم الحجر و قبّله، فإن لم تستطع أن تقبّله فاستلمه بيدك، فإن لم تستطع أن تستلمه فأشرْ إليه و قل: اللهُمَّ أمَانَتِي أدَّيْتُهَا وَ مِيثَاقِي تَعَاهَدْتُهُ لِتَشْهَدَ لِي بِالمُوَافَاةِ. اللهُمَّ تَصْدِيقَاً بِكِتَابِكَ وَ عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّكَ، أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَ أنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، آمَنْتُ بِاللهِ وَ كَفَرْتُ بِالجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ بِاللَّاتِ وَ العُزَّى وَ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ وَ عِبَادَةِ كُلِّ نِدٍّ يُدْعَى مِنْ دُونِ
اللهِ.۱
كما ورد عن الكلينيّ، عن عدّة من الأصحاب، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أحمد بن موسى، عن عليّ بن جعفر، عن محمّد بن مسلم، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: اسْتَلِمُوا الرُّكْنَ فَإنَّهُ يَمِينُ اللهِ في خَلْقِهِ يُصَافِحْ بِهَا خَلْقَهُ مُصَافَحَةَ العَبْدِ أوِ الدَّخِيلِ وَ يَشْهَدُ لِمَن اسْتَلَمَهُ بِالمُوافَاةِ.٢
و عليه، فإنّ المساجد في حدّ ذاتها و مع اختلافها، لها درجة واحدة من الأهمّيّة، إذ إنّ الاختلاف بلحاظ المكانة و الشرف أمر عارض مُنح لها. فشرف الكعبة و المسجد الحرام يعود إلى الأنوار المعنويّة التي كانت لمن بناهما أي لإبراهيم و إسماعيل اللذين منحا لهذه الأرض و لهذا البناء روحاً و فضلًا، و شرف مسجد الخيف و مسجد النبيّ نابع من شرف العبّاد و النسّاك، فقد تشرّفا و نالا الكرامة برسول الله و بإسماعيل و إسحاق و بسائر الأنبياء كما تشرّف قبر سيّد الشهداء و تربته و أرض كربلاء و نالت الفضيلة ببركة البدن الطاهر و العلقة المثاليّة لذلك الإمام بتلك البقاع، و ليس الأمر عائداً إلى شرف الأرض ذاتها، أو أنّ الله تعالى شاء لذلك الإمام أن يُدفن في تلك الأرض الشريفة فينال فضلًا ببركتها، فهذا خلاف الحقيقة و الواقع.
باده در جوشش گداى جوش ماست | *** | چرخ در گردش اسير هوش ماست۱ |
باده از ما مست شد نى ما ازو | *** | قالب از ما هست شد نِى ما ازو٢ |
نورانيّة الزمان و المكان تابع لنورانيّة أهلهما
يروي الكلينيّ في «الكافي» عن ابن أبي عُمير، عن بعض أصحابه، قَالَ قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
إنِّي لأكْرَهُ الصَّلَاةَ في مَسَاجِدِهِمْ.٣ فَقَالَ: لَا تَكْرَهْ، فَمَا مِنْ مَسْجِدٍ بُنِيَ إلَّا عَلَى قَبْرِ نَبِيّ وَ وَصِيّ نَبِيّ قُتِلَ فَأصَابَ تِلْكَ البُقْعَةَ رَشَّةٌ مِنْ دَمِهِ فَأحَبَّ اللهُ تَعَالَى أنْ يُذْكَرَ فِيهَا؛ فَأدِّ فِيهَا الفَرِيضَةَ وَ النَّوافِلَ وَ اقْضِ فِيهَا مَا فَاتَكَ.٤
قال المرحوم العلّامة السيّد مهدي بحر العلوم في منظومته:
أكْثِرْ مِنَ الصَّلَاةِ في المَشَاهِد | *** | خَيْرِ البِقَاعِ أفْضَلِ المَعَابِد |
لِفَضْلِهَا اخْتِيرَتْ لِمَنْ بِهِنَّ حَلَ | *** | ثُمَّ قَدْ حَلَّهَا سَمَا المَحَلَ |
وَ السِّرُّ في فَضْلِ صَلَاةِ المَسْجِدِ | *** | قَبْرٌ لِمَعْصُومٍ بِهِ مُسْتَشْهَدِ |
بِرَشَّةٍ مِنْ دَمِهِ مُطَهَّرَة | *** | طَهَّرَهُ اللهُ لِعَبْدٍ ذَكَرَه۱ |
و الخلاصة، فإنّ شرف الأمكنة و الأزمنة -عموماً- مرتبط بشرف الحالّ في تلك الأمكنة و الأزمنة حيث قيل: شَرَفُ المَكَانِ بِالمَكِينِ. و أنّ تلك الأرواح الطيّبة لأولياء الله و أنبيائه و أوصيائهم هي التي تجعل تلك المواضع طاهرة منوّرة، و تمنحها جدارة تحمّل أعمال الناس العباديّة.
و هذه النورانيّة تحصل على إثر ذلك الإدراك و الشعور، إذ إنّ العلم في عوالم المعنى نور، و كلّما قويت درجة إدراك المكان و الزمان، زادت نورانيّتها، كما هي الحال في المسجد الحرام و مسجد النبيّ و مسجد قبا و مسجد الخيف و المساجد الواقعة في أطراف قبور المعصومين. كما أنّ شرف يوم الجمعة و ليلتها، و أيّام شهر رمضان و لياليه، و الأيّام المعدودات و الأيّام المعلومات و عيد الفطر و عيد الأضحى و عيد الغدير و النصف من شعبان و أمثالها عائد إلى شرف الأفراد الذين تُنسب إليهم تلك الأيّام و الليالي. فقد سرى شرف الحالّ إلى زمان الحلول و مكانه.
و هناك بعض المساجد ذات نورانيّة جليّة و واضحة، بحيث يحسّ الإنسان فيها بحالة من النشاط و التوجّه الروحيّ، و ذلك منبعث عن خلوص نيّة باني المسجد و معماره و عمّاله و مصلّيه، بحيث أدّى وجداناً إلى جعل فضاء المسجد المعنويّ روحانيّاً، و إلى جعل سقفه و جدرانه و أرضه حيّة ذات شعور، بالرغم من جهل عامّة الناس لهذا الأمر.
يقول المرحوم آية الله جمال العارفين الحاجّ الشيخ جواد الأنصاريّ الهمدانيّ أسكنه الله بحبوحة جنانه:
دخلتُ أحد المساجد يوماً فرأيتُ رجلًا عجوزاً من عامّة الناس
منشغلًا بالصلاة و قد اصطفّ خلفه صفّان من الملائكة يقتدون به دون أن يكون له علم بالأمر. و كنت أعلم أنّ ذلك الرجل العجوز قد أذّن لصلاته و أقام. فقد جاء في الرواية أنّ من يؤدّي الأذان و الإقامة في فرائضه اليوميّة فإنّ صفّين من الملائكة سيقتدون به، أمّا إذا أدّى أحدهما فإنّ صفّاً واحداً من الملائكة سيقتدي به بحيث يمتدّ طول ذلك الصفّ ما بين المشرق و المغرب.
و هذه الآثار هي من الآثار الملكوتيّة القهريّة للأذان و الإقامة، و لو لم يكن المؤذِّن و المقيم على اطّلاع بذلك. كما أنّ من الآثار القهريّة لخلوص نيّة المصلّين و المناجين و درجات قربهم، طهارة المحلّ و نورانيّة المكان و الزمان. فجبل الطور قد تنوّر بسبب تجلّي نور الحقّ في موسى الكليم؛ و جبل ساعير و جبل فاران و بيت إيل و بئر سبع و باقي الأمكنة النورانيّة و معابد أولياء الله قد صارت منوّرة و مطهّرة من تجلّي نور الحقّ في الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و في عيسى و إسحاق و يعقوب و سائر الأنبياء الكرام.
المَجْلِسُ التَّاسِعُ وَ الأرْبَعُونَ: شَهادَةُ القُرْآنِ وَ الأعْمالِ يَوْمَ القِيامَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ، وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ، وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها ، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها.۱
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ.٢
وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها.٣
وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها؛ يتساءل الإنسان: لما ذا أصبحت الأرض هكذا؟ لما ذا أضحت بهذه الصورة و هذه الكيفيّة؟ و ما هي قصّتها و ما هو ماضيها؟ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها؛ يَومذاك تحدّث الأرض ما جرى عليها من وقائع الأنبياء و الأئمّة، و من نزاعات الدول و الجماعات و الأحزاب،
و تقصّ الحوادث العامّة و الخاصّة للأفراد. و ستحكى ما جرى لها من الحوادث منذ أن خُلقت إلى حين أخرجت أثقالها و أمتعتها، و تستحيل أرضاً اخرى نورانيّة طاهرة. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها.
بأنّ الله أوحى لها و ألهمها، و بثّ فيها من علمه. ذلك الوحي الذي أوحاه ربّك -أيّها النبيّ- للأرض فجعلها ذات علم يمكنها به أن تتحدّث عن الوقائع و الحوادث الماضية، و أن تُظهر أسرارها و خفاياها الدفينة و تبديها للعيان.
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ.
يوم يصدر الناس من الأرض، فتكون صادرات الأرض من الناس الذين رقدوا فيها منذ آلاف السنين و ارتدوا رداء الموت و الفناء.
مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى.۱
إنّ جميع أفراد البشر الذين جاءوا إلى الأرض تدريجيّاً منذ عهد آدم إلى يوم القيامة فعُدّوا من واردات الأرض، قد حان الآن موعد صدورهم منها و خروجهم بعنوان صادرات. و لقد دخلوا في باطن الأرض و حلّوا فيها و نزلت فيها أجسادهم و أقامت فيها و عُدّت من أثقالها. أمّا الآن فقد آن الأوان لمناقشة تلك الملفّات و إخراجها من ديوان المحفوظات و تصديرها إلى عالم آخر، إلى عالم الحساب و موقف العرض و الشهادة. لما ذا؟ لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ.
و سيخرج الناس فرقاً، فرقاً أَشْتاتاً؛ المؤمنون مع المؤمنين و الكفّار مع الكفّار، و سيخرج من الأرض أصحاب الاتّجاهات و الأحزاب و المنتمون إلى قبائل خاصّة، في صفوف و مجاميع مختلفة فينضمّون إلى
بعضهم في تجمّعات و تشكيلات خاصّة من أجل إراءتهم أعمالهم و إطلاعهم على سيرتهم و سلوكهم.
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.۱
في تفسير آية: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها
و يُستفاد من هذه الآيات الكريمة عدّة امور:
أحدها: أنّ الأرض ستتحدّث و تخبر بوقائعها: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها»، حدّث يحدّث تحديثاً، أخبر و بيّن و قصَّ. و من الجليّ أنّ الحديث الذي تحدّثه الأرض، لا تحدّثه باللسان المعهود الذي هو عبارة عن قطعة لحمية داخل الفم. كما أنّ الصوت الذي يخرج من الأرض لن يماثل الأصوات التي يحدثها أفراد البشر. إذ لو قلنا بأن الله عزّ و جلّ يُوجد صوتاً في الأرض، فإنّ ذلك الصوت لن يكون صوتها، و لما صحّ أن ننسبه إليها فنقول بأن الأرض تتحدّث و تحكي عن أخبارها و حوادثها.
و لو وُضع في فم إنسانٍ ما مسجّل صغير للصوت لا يُرى، فتحدّثَ ذلك المسجّل لما قيل بأنّ ذلك الشخص قد تحدّث. إذ إنّ نسبة الكلام إلى الإنسان تصحّ حين يصدر الكلام من نفس الإنسان و حين يكون بإنشائه و إرادته أمّا الصوت الذي ينبعث من جوار الإنسان فلا يصدق عليه عنوان صوت الإنسان و حديثه.
و لو تحدّثت الأرض بنفسها لما انحصر حديثها بهذه الأصوات المعهودة، لأنّ حديث كلّ شيء يتناسب مع ذلك الشيء. فالإنسان يتحدّث بكيفيّة معيّنة، و كلّ صنف من أصناف الحيوانات يتحدّث بكيفيّة معيّنة. و للشجرة حديث خاصّ، و للجمادات كذلك حديث خاصّ معيّن. خاصّة إذا رجعنا إلى المطالب التي نوقشت في المجلس السابق و ذكرنا فيها أنّ
الموجودات -بما فيها الجمادات- تمتلك شعوراً و قدرة و حياة. لذا يتّضح أنّ الأرض كذلك ذات شعور و فهم. فيكون حديث الأرض هو إراءتها و عرضها للحوادث. تلك الحوادث التي حفظتها و صارت اليوم تعرضها بطريقة تتناسب مع وجودها.
قد تقولون: لقد جاءت القطّة إلى الغرفة فتحدّثت إليّ و طلبت طعاماً. و بطبيعة الحال فإنّ كلام القطّة و حديثها ليسا بأن تقول بلسانها وفقاً للألفاظ المتداولة «أيّها السيّد! أنا جائعة و أريد طعاماً» فكلام القطّة هو مواؤها، حيث تحدث أصواتاً مختلفة، أحدها بكيفيّة معيّنة حين تطلب شيئاً، و الاخرى بكيفيّة اخرى حين تشعر بالخوف فتنادي أطفالها إليها على نحوٍ خاصّ. كما أنّ لها صوتاً خاصّاً حين تطردهم و تبعدهم عنها، و صوتاً حين تواجه عدوّاً، و صوتاً حين تسترحم الإنسان و تطلب منه طعاماً، فيفهم من لحن صوتها و كيفيّة نظراتها أنّها جائعة تطلب طعاماً.
و على أيّة حال فإنّ تكلّم الأرض و حديثها يتناسب معها، و حديثها هو عرضها للحوادث، مستخدمةً الشعور و الإدراك اللذين تمتلكهما.
و الأمر الآخر قوله: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها.
الوحي بمعنى إيصال بعض المعاني الملكوتيّة عن طريق الباطن إلى عالم المُلك و الظاهر بما يتناسب مع كلّ موجود.
وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا.۱
و لا يعني الوحي الذي يوحيه الله إلى النحل، أنّه سبحانه يرسل جبرائيل الأمين إلى كلّ نحلة، فَيُلْهِم قلبها. بل المراد بالوحي إلى النحل،
الفطرة التي أودعها الباري المتعال في هذا الموجود و الخاصّيّة التي جعلها فيها و القوى الفكريّة و الخلقة و الغرائز التي جهّزها بها بحيث صارت تبني لنفسها بيوتاً و خلايا بين ثغرات الجبال و الأشجار و في فتحات سقوف البيوت. تلك البيوت المجلّلة السداسيّة المشيّدة وفق قواعد هندسيّة بحيث تعدّ من أفضل البيوت، دون أن يطرأ عليها خلل أو نقص. أي أنّه تعالى جعل نظام النحل و قوامها الوجوديّ و حدودها الماهويّة على هذا النحو لتكون على هذه الهيئة و الكيفيّة. و هذا النظام قائم على أساس خلق الله تعالى حدوثاً و بقاءً.
أي أنّ هناك في كلّ لحظة وحياً من الذات القدسيّة للرحمن إلى هذا المخلوق المعصوم المنقاد في أساس خلقته، و في إفاضة الخلقة و الشعور و الإدراك، و في تسديده باستمرار بهذا الفهم و الشعور و في حدود قدرته، و في إرادته و هدفه، في القيام بهذه الوظائف.
معنى إيحاء الله للأرض لأداء الشهادة
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها.
أي أنّ الله عزّ و جلّ يعطي الأرض قوّة يمكنها من خلالها إخراج تلك الوقائع التي قامت بتسجيلها و حفظها في الديوان بعنوان واردات دونما تغيير أو تبديل، و عرض تلك الوقائع حين يحين موعد العرض و المناقشة في محكمة العدل الإلهيّ، و إظهارها على مرأىً و مسمع من أصحابها و ليراها غير أصحابها ممّن يشاء الله سبحانه.
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ.
يخرج الناس جماعات جماعات ليروا أعمالهم و يتّضح بأن حديث الأرض يتمثّل في عرضها و إراءتها. أي أنّ حكاية هذه الأرض ما أوحى لها الله تتمثّل في عرضها الأعمال أمام أنظار أصحابها. فحديثها و كلامها -إذاً- هو عرضها و إراءتها.
و سيُقال للإنسان: تعالَ و انظر أعمالك! فمن عمل صالحاً، شاهد عمله الصالح؛ و من ارتكب عملًا طالحاً شاهده بصفته و نعته، إذ إنّ ما يصدر من الإنسان في عالم الموجود ثابت لا يزول، و من المحال أن يطرأ العدم على شيء تلبّس برداء الوجود. منتهى الأمر أنّ العمل يختفي عن ناظر الإنسان، ثمّ يُفتح ديوان الأرض فتتبدّل الورادات إلى صادرات، و يُعطى كلّ امرئ سجلّه بيده و يقال له: تطلّع و انظر مِنْ كُلِّ خَيْرٍ وَ شَرٍّ.
و يستفاد من هذه الآيات القرآنيّة أن بقاع الأرض تشهد على كلّ عمل يُرتكَب عليها، و على كلّ حادثة تقع فوقها. فكلّ نقطة من الأرض لها مع الإنسان نسبة و علاقة تجعلها تشهد على سلوكه و سيرته.
فجبال الهمالايا -مثلًا- لا تشهد على عملنا، بل ستشهد عليه البقاع و الأماكن التي لنا معها ارتباط و نسبة، و التي وقعت ظرفاً لمكاننا بعنوان «أين». كما أنّ الأزمنة السالفة مثل أيّام موسى و عيسى عليهما السلام لا تشهد على أعمالنا، بل الشاهد عليها هو الزمن الذي نعيش فيه، و الظرف الزمنيّ الذي يحتوي وجودنا.
لذا فإنّ كلّ أرض و زمان ستحكى عن تلك النسب و الارتباطات التي أخذتها و تحمّلتها من جميع الأفراد الموزّعين على ظهرها. و قد ذُكرت هذه المطالب تحت عنوان الفلسفة الكلّيّة لشهادة الأمكنة و البقاع و الزمان و الأرض، أمّا بالعنوان الفرعيّ، فلدينا روايات في هذا المجال جاء فيها أنّ كلّ مكان تصلّي فيه يشهد على صلاتك، و كلّ مكان تزوره يشهد لك، و كلّ مكان تحجّه يشهد لك. فأرض عرفات و المشعر و منى تشهد يوم القيامة على وقوفك و مبيتك و تقديمك القربان و رميك؛ و جبلا الصفا و المروة يشهدان. كما أنّ السعي بين الصفا و المروة، و الطواف حول الكعبة لهما روح و نور و حياة و شعور، و هما شاهدان سيشهدان.
و هذه الروايات من الكثرة بحيث تضيق على الحصر و الإحصاء، بَيدَ أنّها لم تُجمع في باب واحد بل وردت متفرّقة في أبواب الفقه و الزيارات و الأدعية و القرآن.
فلدينا في كتاب الصلاة -مثلًا- أخبار عن البقاع التي تشهد على الصلوات التي صلّاها المرء عليها، سواءً الصلوات المستحبّة كصلاة الغفيلة و صلاة ليلة الرغائب أم سائر الصلوات اليوميّة. و كذلك الأمر بالنسبة إلى الحجّ و الجهاد و المرابطة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و الروايات الواردة في هذا المجال جمّة لا مجال لإحصائها.
شهادة الصلاة و الصيام يوم القيامة
هذا في شأن شهادة الزمان و المكان، أمّا بالنسبة إلى شهادة الأعمال فهناك باب مفصّل أيضاً في أنّ الصلاة التي يصلّيها المرء، و الصوم الذي يصومه، و الحجّ الذي يحجّه، و الجهاد الذي يقوم به في سبيل الله تعالى و كلّ عمل حسن أو سيّئ يفعله سيشهد يوم القيامة على الإنسان.
و تبعاً للمقدّمات التي مرّت في المجالس الأخيرة، فقد اتّضح معنى الشهادة و كيفيّتها، و أصل ثبوت الشهادة وضوحاً ينفي الحاجة للبحث في شأنها مجدّداً. إذ إنّ نفس العمل هو أحد معطيات عالم التكوين.
و تبعاً للقاعدة العامة: وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ، فإنّ كلّ ما يمكن أن يدعوه المرء شيئاً سيكون محفوظاً في عالم التكوين و في كتاب الله المبين و روحه: الإمام المبين، و من جملة تلك الأشياء نفس عمل الإنسان. و كما أنّ وجود الإنسان محفوظ، فإنّ أعماله (التي هي من وقائعه و مُعطياته) محفوظة بدورها. و هذه الوقائع تزول تبعاً للصور المختلفة التي تتّخذها لنفسها مادّة الإنسان و بدنه، إلّا أنّها تزول إذ تزول حين تكون تلك الصورة قد تبدّلت. أمّا في الحال التي بدر فيها ذلك العمل من الإنسان، فإنّ ذلك العمل سيُعدّ من لوازم الصورة التي تلبّس بها الإنسان آنذاك، و هو
-بهذا اللحاظ- غير قابل للزوال و الانعدام. أي أنّ الأعمال ملازمة للصورة الإنسانيّة للإنسان و غير قابلة للانعدام مع قيد أنّ تلك الصورة هي صورة الإنسان يوم أمس مثلًا. فتلك المادّة قد فقدت الصورة التي امتلكتها يوم أمس و اتّخذت لنفسها صورة اليوم الحالي. و كما أنّ الصورة السابقة لم تنعدم، فإنّ الأعمال الموجودة و الملازمة لتلك الصورة لم تنعدم بدورها.
و لقد تقدّمت تلك الصورة إلى الأمام لكنها لم تنعدم بصورة مطلقة. و مع أنّها غير مشهودة في هذا الزمان، إلّا أنّها باقية يوم أمس -مع قيد يوم أمس- و ستبقى باقية فيه على الدوام. و لقد كانت تلك الأعمال صادرات نفس الإنسان و من لوازمه التي لا تنفكّ عنه، و هي محفوظة مع صورة الإنسان مهما شاء الإنسان أن يفعل.
يروي المجلسيّ رضوان الله عليه عن «معاني الأخبار» و «أمالي الصدوق» و «خصال الصدوق» بسند الصدوق المتّصل إلى سهل بن سعد، قال:
جَاءَ جِبْرَئِيلُ عَلَيهِ السَّلَامُ إلَى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! عِشْ مَا شِئْتَ فَإنَّكَ مَيِّتٌ! وَ أحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإنَّكَ مُفَارِقُهُ وَ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإنَّكَ مَجْزِيّ بِهِ، وَ اعْلَمْ أنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ وَ عِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ.۱
و على أيّة حال، فإنّ جميع الأعمال ستوضع أمام الإنسان يوم القيامة من صلاة و صوم و زكاة و زنا و كذب و دغل و غشّ و سرقة و حيلة و أمثال ذلك، و لو كانت بقدر ذرّة واحدة. فما ذا تعادل الذرّة الواحدة يا ترى؟
الذرّة عبارة عن واحدة من النقاط المادّيّة الصغيرة المجهريّة المنتشرة في الفضاء، و التي يتعذّر مشاهدتها إلّا حين يجلس المرء في الظلام و يفتح نافذة صغيرة لدخول النور. فحينذاك فقط ستُشاهد الذرّات السريعة متحرّكة في عمود الضياء، و هي من الصغر بحيث لو جمع منها الملايين لما عادلت غراماً واحداً.
فأيّ ميزان دقيق سيضعه الحقّ عزّ و جلّ هناك، بحيث يقدر على تشخيص الأعمال و إظهارها للإنسان و لو كانت بقدر مثقال ذرّة؟
إنّ بعض الموازين في هذا العالم تتجاوز نسبة الخطأ فيها عدّة كيلو غرامات، و بعضٌ آخر من أجهزة وزن السيّارات تصل نسبة الخطأ فيها إلى مائة كيلو غرام، نعوذ بالله من الميزان الإلهيّ الذي يعيّن الذرّة الواحدة من الخير، و الذرّة الواحدة من الشرّ، فيظهرهما للإنسان.
و سنتحدّث إن شاء الله تعالى في بحث الميزان عن كيفيّة و وضع ميزان الأعمال الإلهيّ يوم القيامة.
تخطّي القرآن صفوف الخلائق يوم القيامة
هذا و قد وردت روايات حول تكلّم القرآن الكريم و شهادته يوم القيامة، إلّا أنّنا سنذكر رواية ذات مضمون رفيع وردت في كتاب «الكافي» الشريف. يروي محمّد بن يعقوب الكلينيّ عن عليّ بن محمّد، عن عليّ بن العبّاس، عن الحسين بن عبد الرحمن، عن سفيان الجريريّ، عن أبيه، عن سعد الخفّاف، عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال:
يَا سَعْدُ! تَعَلَّمُوا القُرْآنَ فَإن القُرْآنَ يَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ في أحْسَنِ صُورَةٍ نَظَرَ إلَيْهَا الخَلْقُ وَ النَّاسُ صَفُوفٌ عِشْرُونَ وَ مِائَةُ ألْفِ صَفٍّ: ثَمَانُونَ ألْفِ صَفٍّ امَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ، وَ أرْبَعُونَ ألْفِ صَفٍّ مِنْ سَائِرِ الامَمِ.
ثمّ قال الإمام: فيأتي على صفّ المسلمين في صورة رجل فيسلّم
فينظرون إليه ثمّ يقولون: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ، إنّ هذا الرجل من المسلمين نعرفه بنعته و صفته غير أنّه كان أشدّ اجتهاداً منّا في القرآن، فمن هناك اعطى من البهاء و الجمال و النور ما لم نُعْطَه، ثمّ يجاوز (يتجاوز- خ ل) حتّى يأتي على صفّ الشهداء فينظر إليه الشهداء ثمّ يقولون: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ الرَّبُّ الرَّحِيمُ، إنّ هذا الرجل من الشهداء نعرفه بسمته و صفته غير أنّه من شهداء البحر، فمِنْ هناك اعطى من البهاء و الفضل ما لم نُعطه.
قال: فيجاوز (فيتجاوز- خ ل) حتّى يأتي على صفّ شهداء البحر في صورة شهيد، فينظر إليه شهداء البحر فيكثر تعجّبهم و يقولون:
إنّ هذا من شهداء البحر نعرفه بسمته و صفته، غير أنّ الجزيرة التي اصيب فيها كانت أعظم هولًا من الجزيرة التي أصبنا فيها، فمِنْ هناك اعطى من البهاء و الجمال و النور ما لم نُعْطَه.
ثمّ يجاوز (يتجاوز- خ ل) حتّى يأتي صفّ النبيّين و المرسلين في صورة نبيّ مُرسَل، فينظر النبيّون و المرسلون إليه فيشتدّ لذلك تعجّبهم و يقولون: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ. إنّ هذا لنبيّ مرسلٌ نعرفه بصفته و سمته غير أنّه اعطى فضلًا كثيراً.
قال: فيجتمعون فيأتون رسولَ الله صلّى الله عليه و آله فيسألونه و يقولون: يا محمّد! مَن هذا؟ فيقول: أ وَ ما تعرفونه؟ فيقولون: ما نعرفه، هذا ممّن لم يغضب الله عليه. فيقول رسول الله صلّى الله عليه و آله: هذا حجّة الله على خلقه. فيسلّم ثمّ يجاوز حتّى يأتي صفّ الملائكة في صورة مَلَك مقرّب فينظر إليه الملائكة فيشتدّ تعجّبهم و يكبر ذلك عليهم لِما رأوا من فضله و يقولون: تَعَالَى رَبُّنَا وَ تَقَدَّسَ. إنّ هذا العبد من الملائكة نعرفه بسمته و صفته، غير أنّه كان أقرب الملائكة من الله عزّ و جلّ مقاماً. من
هناك البس من النور و الجمال ما لم نلبس. ثمّ يجاوز حتّى ينتهي إلى ربّ العزّة تبارك و تعالى فيخرّ تحت العرش، فيناديه تبارك و تعالى: يا حجّتي في الأرض و كلامي الصادق الناطق! ارفعْ رأسك و سَلْ تُعْطَ و اشفعْ تُشَفَّعْ. فيرفع رأسه فيقول الله تبارك و تعالى: كيف رأيتَ عبادي؟ فيقول: يا ربِّ منهم من صانني و حافظ عَلَيّ و لم يضيّع شيئاً، و منهم من ضيّعني و استخفّ بحقّي و كذّب و أنا حجّتك على جميع خلقك. فيقول الله تبارك و تعالى: و عزّتي و جلالي و ارتفاع مكاني لأثيبنّ عليك اليوم أحسن الثواب و لُاعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب.
قال: فيرفع القرآن رأسه في صورة اخرى. قال: فقلتُ له: يا أبا جعفر! في أيّ صورةٍ يرجع؟
قال: في صورة رجل شاحب متغيّر ينكره أهل الجمع. فيأتي الرجل من شيعتنا الذي كان يعرفه و يجادل به أهل الخلاف فيقوم بين يديه فيقول: ما تعرفني؟ فينظر إليه الرجل فيقول: ما أعرفك يا عبد الله.
قال: فيرجع في صورته التي كانت في الخلق الأوّل فيقول: ما تعرفني؟
فيقول: نعم.
فيقول القرآن: أنا الذي أسهرت ليلك و أنصبت عيشك، و سمعتَ الأذى و رُجِمْتَ بالقول فيّ، ألا و إنّ كلّ تاجر قد استوفى تجارته و أنا وراءك اليوم.
قال: فينطلق به إلى ربّ العزّة تبارك و تعالى فيقول: يا ربِّ! عبدك و أنتَ أعلم به قد كان نَصِباً بي مواظباً عَلَيّ، يُعادي بسببي و يحبّ فيّ و يبغض فيّ.
فيقول الله عزّ و جلّ: أدْخِلوا عبدي جنّتي و اكسوه حلّة من حلل الجنّة
و توّجوه بتاج.
فإذا فُعل به ذلك عُرض على القرآن فيُقال له: هل رضيتَ بما صُنع بوليّك؟
فيقول: يا ربِّ! إنّي أستقلّ هذا له، فزده مزيد الخير كلّه.
فيقول: و عزّتي و جلالي و علوّي و ارتفاع مكاني لأنحلنّ له اليوم خمسة أشياء مع المزيد له و لمن كان بمنزلته: ألا إنّهم شباب لا يهرمون و أصحّاء لا يسقمون، و أغنياء لا يفتقرون، و فرحون لا يحزنون، و أحياء لا يموتون. ثمّ تلا هذه الآية: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى.۱
قلتُ: جُعلتُ فداك يا أبا جعفر! و هل يتكلّم القرآن؟
فتبسّم ثمّ قال: رحم الله الضعفاء من شيعتنا، إنّهم أهل تسليم.
ثمّ قال: نعم يا سعد؛ و الصلاة تتكلّم و لها صورة و خلق تأمر و تنهى.
قال سعد: فتغيّر لذلك لوني و قلت: هذا شيءٌ لا أستطيع أن أتكلّم به في الناس.
فقال أبو جعفر عليه السلام: و هل الناس إلّا شيعتنا؟ فمن لم يعرف الصلاة فقد أنكر حقّنا. ثمّ قال: يا سعد! اسمعك كلام القرآن؟
قال سعد، فقلت: بلى صلّى الله عليك.
فقال: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.٢
فالنهي كلام، و الفحشاء و المنكر رجال، و نحن ذكر الله و نحن أكبر.٣
القرآن هو الكتاب الواقعيّ الوحيد لهداية البشريّة
و الخلاصة، فقد هجر كثيرٌ من الناس القرآن الكريم، و تخيّلته طائفة منهم كذباً و اختلاقاً و قالوا بأنّ آية الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ لا تنسجم مع هذا العصر، و بأنّ هذه الآية ينبغي ألّا تُقرأ أساساً، و لا أن تذكر و لا أن تُفسَّر.
لقد شقي أكثر المسلمون. أ تعلمون لما ذا؟ لأنّهم تأثّروا بالحضارة الغربيّة إلى الحدّ الذي صار ينبغي فيه للقرآن أن يُفسَّر وفقاً لرغبات الامم الكافرة و شهواتها. حتّى صار بعض أصحاب الاختصاص يقولون بلا مواربة بأنّ الإسلام قد ساوى بين الرجل و المرأة في الحقوق. أي أنّ الحضارة الغربيّة و ثقافة الكفر ترعرعت في قلوبهم و أفكارهم و تجذّرت و امتدّت باسقة حتّى كأنّهم يخجلون أن يقولوا بأنّ ذلك الكلام كلامٌ خاطئ، و بأن الإسلام لم يساوِ بين المرأة و الرجل. بل أعطى كلًّا منهما حقوقه وفقاً لمعايير الضرورات الفطريّة، و هو معنى يختلف عن التساوي في الحقوق.
إنّ المرأة و الرجل يقفان في درجتين مختلفتين، و ليسا متساويين في أيّ أمر من الامور. و قد جاء في القرآن الكريم:
وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.۱
يقولون: إنّنا لا نفهم معنى هذه الآية.
سلب الله منكم الفهم و الإدراك. إذ من الطبيعيّ أن لا تفهموها.
يقولون: لا تخوضوا في هذا الأمر الآن.
و لِمَ لا نبحث فيه! أ وَ ليست هذه الآية آية قرآنيّة؟ على المسلمين أن يجولوا في أعماق القرآن بهمّة صادقة و بشجاعة لا يعتريها تردّد، فيقرءوا و يبحثوا و يناقشوا و يقدّموا القرآن للعالم، سواءً في الخطب
و الكلمات أم في المؤتمرات و المحافل الدوليّة، و يثبتوا أنّ القرآن قد أعطى للمرأة حقوقها؛ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.
و هو أفضل و أرقى طراز لتقسيم الحقوق على أساس المواهب الإلهيّة الموهوبة؛ و الحقّ أنّه كذلك.
إنّ الشرق و الغرب يطوفان يميناً و شمالًا بائسين خاليي الوفاض، و عليهم في نهاية الأمر أن يأتوا فيركعوا أمام القرآن، و يعتبروا تعاليمه المشعل الوهّاج الذي يضيء طريقهم وصولًا إلى نجاة عالم البشريّة.
لقد جاءت إلى منزلنا اليوم إحدى المخدَّرات و تحدّثت عن زوجها الذي حصلت على الطلاق منه في زمن الطاغوت من خلال التوسّل بالمحكمة الطاغوتيّة، و اعترفت بمدى الشقاء و التعاسة اللذين لحقاها في ذلك الوقت حين أصدرت المحكمة حكم الطلاق دون رضا الزوج و لا وكالة منه. و قالت: «لقد تجرّأتُ و حصلتُ على الطلاق، و تخيّلت أنّني كنت حاذقة، إلّا أنّني أوقعتُ نفسي في الشقاء» و كانت تتمنّى لو لم تكن فعلت ما فعلتْ؛ و لو لم تفعل لعاشت مع زوجها في أتمّ الوئام و الصفاء.
كانت تقول: «لقد ألقيتُ بنفسي في النار».
إنّ طلاق المرأة بِيَدِ الرجل، فهذا هو حكم القرآن، إذ إنّ للنساء مواصفات خاصّة بهنّ، فإن حُمِّلن فوق تلك الطاقات و المواصفات لابتعدن من جرّاء ثقلها، و لتلاشى كيانهنّ و تبدّد.
و قد كتب أمير المؤمنين عليه السلام في حاضرين وصيّة ذات مضمون عميق و رفيع لولده الإمام الحسن عليه السلام، نُقلت في «نهج البلاغة» فاستوعبت ما يقرب من ستّ عشرة صفحة. و قد شاهدت أخيراً خلال الأيّام المعدودة الماضية مقالةً في جريدة «اطلاعات» تحت عنوان «وصايا أمير المؤمنين» ضمّت ترجمة لهذه الوصيّة، و قد طبعت المقالة في
عدّة أعداد من الجريدة. و مع أنّ المترجم لم يصرّح باسمه، إلّا أنّه -أيّاً كان- قد قام بسرقة ماهرة عند ما حرّف في الوصيّة و أسقط منها نكاتاً دقيقة. فقد ترجم جملة وَ لَا تُمَلِّكِ المرْأةَ مِنْ أمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا فَإنَّهَا رَيْحَانَةٌ وَ لَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ. على نحوٍ آخر.
يقول الإمام في هذه الجملة: أي بُني حسن! لا تُحمّل المرأة فوق طاقتها، لأنّ كيان المرأة مقرون باللطافة. و كما أنّ بدنها -بالنسبة إلى بدن الرجل- ألطف، فإن غرائزها و أحاسيسها ذات لطافة و رقّة خاصّتين. فلا تحمّلها فوق هذا المقدار لأنّها ليست قهرمانة و لا محوراً للنزاع و الخصام و المجادلات العنيفة.
إنّ الإنسان يمكنه أن يتعامل بيده مع الأشواك البرّيّة القاسية أو مع الأخشاب الصلبة، فيصنع منها أشياءً، لكنّه ما إن يقتطف الورد الجوريّ و ورود الياس و ورود مريم۱، و يلمسها بيده حتّى تذبل و تفقد نضارتها.
و ما ألطف تشبيه أمير المؤمنين عليه السلام للمرأة بالوردة و الريحانة! و ما أبلغ منطقه و أدقّه حين يقول بأنّ المرأة لو حُمّلت فوق طاقتها، أدّى ذلك إلى فسادها و ضياعها.
فإن أنتَ أشركتَ المرأة في الامور الاجتماعيّة، و لو أقحمتَها في ميدان السياسة و شاورتها في الامور السياسيّة، و لجعلتَها قاضيةً و حاكمة تتصدى للقضاء و الحكومة، و لو أجبرتها على الجهاد، لأضعتَ بذلك وجودَها. فالمرأة لم تُخلق لمثل هذه الأعمال الشاقّة، و كيان المرأة قائم على نحوٍ متفاوت آخر.٢
و قد جاء في الرواية: وَ لَا أنْ تُسْتَشَارَ؛ أي أنّ المرأة لا تستشار في الامور السياسيّة و الاجتماعيّة.
إيَّاكَ وَ مُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ فَإنَّ رَأيَهُنَّ إلَى أفَنٍ وَ عَزْمَهُنَّ إلَى وَهَنٍ.
على الإنسان أن يكون مصارعاً حتّى يصارع بطلًا في ميدان المصارعة، فإن كان غير رياضي لقُتِل و تحطّم. بَيدَ أنّ العالَم المعاصر لا يفهم ما ذا يفعل و لا يدرك أيّ مصيبة يصبّها على رؤوس النساء و أيّ صواعق محرقة يمطرها عليهنّ فتهدّ بيوتهنّ تحت عناوين حقوق النساء البرّاقة المستلفتة للأنظار.
إنّ العالَم الحالي منغمر في الجهل و غارق في الجهل المركّب، فهناك من ينهض باسم حقوق المرأة، لكنّه لا يفعل شيئاً غير إهدار حقوقها البديهيّة، و غير جعل أزهار وجودهنّ تتناثر في الهواء، و السعي إلى تقليل أعمارهنّ من التسعين و الثمانين و المائة سنة التي كنّ يقضينها في عزّة و سعادة إلى الثلاثين سنة و العشرين سنة، فصرنا نرى كيف غدوا يلهون بالمرأة في عالمنا، و كيف أضحت المرأة العوبة في يد الرجال و آلةً مسخّرة لأهوائهم. أمّا الإسلام فيستنكر هذا و يقول بأنّ الناظر إلى المرأة نظرة خيانة يُعدّ مجرماً، و بأنّ للمرأة حقّاً ضمن حدودها، و للرجل حقّ ضمن حدوده.
ثمّ يأتي هذا السيّد فيترجم كلام أمير المؤمنين عليه السلام في الجريدة حتّى يصل إلى قوله: وَ اكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إيَّاهُنَ
فَإنَّ شِدَّةَ الحِجَابِ أبْقَى عَلَيْهِنَ، فيُسقط هذه الفقرة من الترجمة. و ليس ذلك إلّا سرقة.۱
فيا أيّها السيّد! عليك أن تترجم النصّ و لن يؤاخذك أحد أو يعترض عليك في ترجمتك هذه العبارة التي لا تعتقد بها أنت المساير للعصر، صاحب ربطة العنق!
عليك أن تترجم النصّ و تنسب الكلام إلى المولى، فليس الكلام كلامك. نعم، فإنّ هؤلاء السادة مستعدّون للسرقة من الكلام، لكنّهم غير مستعدّين للقيام بالترجمة الصحيحة الدقيقة.
يقول القرآن: إنّ الحجاب واجب على المرأة، و يقول: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ، وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.
فَلِمَ نحاول استباق القرآن؟ و لما ذا نصبح أكثر حماساً ممّن هو أولى منّا بذلك؟ و لِمَ نخالف القرآن صراحة باسم الإسلام؟٢
إنّ القرآن -على أيّة حال- مهجور و مظلوم، شأنه في ذلك شأن نبيّنا الذي عاش مظلوماً مهجوراً اضِيع حقّه.
شكوى القرآن و المسجد و العترة يوم القيامة
و قد وردت في «وسائل الشيعة» رواية عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله:
قَالَ: يَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ يَشْكُونَ: المُصْحَفُ وَ المَسْجِدُ وَ العِتْرَةُ؛ يَقُولُ المُصْحَفُ: يَا رَبِّ! حَرَّقُونِي وَ مَزَّقُونِي؛ وَ يَقُولُ المَسْجِدُ:
يَا رَبِّ! عطَّلُونِي وَ ضَيَّعُونِي؛ وَ تَقُولُ العِتْرَةُ: يَا رَبِّ! قَتَلُونَا وَ طَرَدُونَا وَ شَرَّدُونَا؛ فَأجْثُو لِلرُّكْبَتَيْنِ في الخُصُومَةِ؛ فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ لِي: أنَا أوْلَى بِذَلِكَ مِنْكَ.۱
و قد روي هذه الرواية الشيخ الحرّ العامليّ في «الوسائل» عن محمّد ابن عليّ بن بابويه القمّيّ (الشيخ الصدوق) الذي رواها بدوره في «الخصال» بسنده عن محمّد بن عمر الحافظ البغداديّ المعروف بالجعابيّ، عن عبد الله بن بشير، عن الحسن بن زبرقان المراديّ، عن أبي بكر بن عيّاش، عن الأجلح، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله.
كما روي في «الوسائل» عن المرحوم الشيخ الطوسيّ في «المجالس» بسنده عن زريق:
قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ: شَكَتِ المَسَاجِدُ إلَى اللهِ تَعَالَى الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَهَا مِنْ جِيرَانِهَا، فَأوْحَى اللهُ إلَيْهَا: وَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي لَا قَبِلْتُ لَهُمْ صَلَاةً وَ لَا اظْهِرُ لَهُمْ في النَّاسِ عَدَالَةً وَ لَا نَالَتْهُمْ رَحْمَتِي وَ لَا جَاوَرُونِي في جَنَّتِي.٢
و سيأتي الكلام بالتفصيل في المجلس القادم إن شاء الله تعالى عن معنى مجيء القرآن في صورة رجل مؤمن، و سيره أمام شهداء البرّ و البحر و الأنبياء و الملائكة. كما سنشرح تلك الرواية الشريفة و نذكر تفسيرها.
إنّ القرآن هو كتاب الهداية الأوحد، و قد ورد في الرواية التهديد و الوعيد لمن هجروا القرآن و اتّجهوا صوب العلوم الاخرى. إذ لو انطوى الإنسان على جميع علوم العالم، و من ضمنها العلوم الإسلاميّة كالفقه
و الاصول و المنطق و الفلسفة، إلّا أنّه ترك القرآن، فإنّه سيكون خالي الوفاض. أمّا لو أخذ القرآن فإنّه سيمتلك كلّ شيء، إذ هو كلام الله، و من يتمسّك بالله يمتلك كلّ شيء، أمّا من يُعرض عنه عزّ و جلّ فليس لديه من شيء.
مَا ذَا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ وَ مَا الذي فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ؟ لَقَدَ خَابَ مَنْ رَضِيَ دُونَكَ بَدَلًا، وَ لَقَدْ خَسِرَ مَنْ بَغَى عَنْكَ مُتَحَوَّلًا.
كَيْفَ يُرْجَى سِوَاكَ وَ أنْتَ مَا قَطَعْتَ الإحْسَانَ؟ وَ كَيْفَ يُطْلَبُ مِنْ غَيْرِكَ وَ أنْتَ مَا بَدَّلْتَ عَادَةَ الامْتِنَانِ؟۱
المَجْلِسُ الخَمْسُونَ: مَعْنَى شَهادَةُ القُرْآنِ وَ الأعْمالِ يَوْمَ القِيامَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.۱
دار البحث مفصّلًا في المجالس السابقة في أنّ الإنسان سيجد جميع الأعمال التي قدّمها في الدنيا حاضرةً أمامه يوم القيامة، و أنّ تلك الأعمال ستشهد عليه، كما سيشهد عليه القرآن بدوره. و ذكرنا رواية مفصّلة عن كتاب «الكافي» بسند الكلينيّ المتّصل عن سعد الخفّاف، عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام في شهادة القرآن و كلامه في المحشر و عبوره أمام صفوف المسلمين و شهداء البرّ و البحر و الأنبياء و الملائكة، فتراه كلّ جماعة من هذه الجماعات بأجمل صورة و أبهاها، فيقولون: إنّ هذا الرجل نعرفه بنعته و صفته غير أنّه كان أشدّ اجتهاداً منّا و أرفع منزلة، فمن هناك
اعطي من البهاء و الجمال و النور ما لم نُعْطَ. ثمّ إنّه يخرّ تحت عرش الله عزّ و جلّ، فيُنادي: سَلْ تُعطَ، و اشفعْ تُشَفَّعْ فيرفع القرآن رأسه في صورة رجل شاحب متغيّر اللون و يقف أمام الشيعة، ثمّ إنّه ينطلق إلى الله عزّ و جلّ و يسأله أمُوراً كثيرة، فيمنّ سبحانه على العاملين بالقرآن بخمس مواهب خاصّة.
ثمّ يتساءل سعد في آخر الرواية: و هل يتكلّم القرآن؟ فيجيبه الإمام الباقر عليه السلام: نعم يا سعد، و الصلاة تتكلّم ... إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر و لذكر الله أكبر. فالنهيُ كلام، و الفحشاء و المنكر رجال، و نحن ذكر الله و نحن أكبر.۱
ثمّ يقوم المرحوم المجلسيّ رضوان الله عليه بعد ذكر هذه الرواية ببيان بحث مفصّل في معنى هذا الحديث و يذكر كلاماً في تجسّد القرآن و كلامه، و في كيفيّة حضور القرآن و شهادته و كلامه يوم القيامة فيقول: هذا يحتمل وجوهاً.
الأوّل: أنّ القرآن يلقي معانيه و حقيقته إلى الإنسان على نحوٍ يفهم منه الإنسان تلك المعاني، و لا يُشترط في الكلام أن يصدر من لسان لحميّ، فأيّ موجود يمكنه أن يلقي إلى الإنسان ما يرمي إليه، سيُقال عنه إنّه تكلّم. و الأمر على هذه الشاكلة بالنسبة إلى القرآن الكريم و الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ و سائر الأعمال التي تتكلّم مع الإنسان، حيث إنّها تقوم بإلقاء معانيها و حقائقها إلى الإنسان، فيفهم الإنسان تلك الحقائق، و هذا هو المقصود بتكلّم القرآن.
الثاني: أنّ القرآن يظهر يوم القيامة في صورته المثاليّة، و تلك
الصورة هي مثال حقيقة القرآن. ثمّ إنّ تلك الصورة المثاليّة تتكلّم مع الإنسان. فالمتكلّم -إذاً- هو الصورة المثاليّة المتجسّدة للقرآن في ذلك العالم. كما أنّ الإنسان لو شاء في هذه الدنيا أن يستفيد من القرآن و يكتسب من معانيه و حقائقه، فإنّ الله عزّ و جلّ يمكن أن يخلق من الروحانيّين و الملائكة من حملة القرآن مَن يقوم بتعليم القرآن لذلك الإنسان.
فتكلّم القرآن مع الإنسان في هذه الدنيا يحصل من خلال الملائكة أو الروحانيّين، أمّا يوم القيامة فإنّ تجسّد الصورة الواقعيّة للقرآن يتناسب مع ذلك العالم، كما أنّ تكلّمه -بدوره- يتناسب مع ذلك العالم.
الثالث: ما افيض عَلَيّ ببركة الأئمّة الطاهرين و به ينحلّ كثير من غوامض أخبار المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين. و نذكر لتوضيح ذلك مقدّمتين نستنتج منهما كيفيّة تكلّم القرآن مع الإنسان.
حالة التجرّد التي تحصل من خلال العبادة و التفكّر
المقدّمة الاولى: إنّ الإنسان كما له بدن مادّيّ و جسد يتحرّك بواسطته، و قلب يجري الدم بواسطته في جميع أعضاء الإنسان و شرايينه، فيرى بذلك البدن و يسمع و يحرّك يده، و تشتغل بواسطته أعضاء الإنسان و جوارحه و تقوم بوظائفها الطبيعيّة؛ فإنّ للإنسان -كذلك- معنى و خاصّيّة إن كانت حيّة جعلت إدراكه و معارفه حيّة. أمّا لو لم تكن تلك الخاصّيّة حيّة، لصار الإنسان جماداً. و تلك الخاصّيّة هي روح الإنسان التي إن قُوِّيت بالأغذية المعنويّة من العلم و المعرفة و العبادة و التوجّه و التدبّر و التفكّر، حاز الإنسان درجة اليقين و مرتبة الإيمان و انكشفت له الحقائق، و اطّلع على أسرار العالم، و صارت يده يد الله، و سمعه سمع الله، و عينه عين الله عزّ و جلّ.
و في الرواية: اتَّقُوا فَرَاسَةَ المُؤْمِنِ فَإنَّ المُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ.
إنّ المؤمن يرى بنور الله، و يسمع بنور الله، و يتاجر بيد الله، لأنّه أعطى كلّ ما لديه في سبيل الله تعالى و خرج من حدود الجهات و تخطّى عالم الشهوة، فصار يعلم و يرى بعلم الله سبحانه. و هذه الحال هي التجرّد الذي يحصل للإنسان بواسطة التأمّل و التفكّر و العبادة.
و إذاً، فكما أنّ للإنسان بدناً مادّيّاً و قلباً صنوبريّاً مادّيّاً، بحيث إذا توقف قلبه عن العمل، مات بدنه و تعفّن؛ فإنّ له -من الجهة الاخرى- قلباً معنويّاً و علماً مخزوناً إذا نوّره الله بنوره، انبعثت الحياة في روحه، و إن لم ينوّره، صار ميّتاً مهما كان بدن الإنسان حيّاً يقوم بحركاته و نشاطاته الطبيعيّة.
لذا جاء في الآية القرآنيّة الكريمة: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَ ما يَشْعُرُونَ.۱
إنّ فاقدي الإيمان و الذين لا يمتلكون معرفة بالإيمان و التوحيد هم أموات غير أحياء.
كما جاء: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ.٢
أي أنّ النطفة الإنسانيّة و الخلافة الإلهيّة التي هي مركز الإدراكات فيهم قد استترت لديهم أو ماتت تحت حجاب الرين و دنس الذنوب و الشهوة و الصفات البهيميّة و الشيطانيّة، فصاروا لا يسمعون الحقائق مع أنّ لهم آذاناً، و لا يرون الحقائق مع أنّ لهم أعيناً، و لا ينطقون بالحقائق مع امتلاكهم ألسنة.
المقدّمة الثانية: إنّ القرآن ليس تلك النقوش التي يدوّنها الإنسان على الصفحات، ثمّ يحفظ تلك الصفحات بين الدفّتين، فذلك هو القرآن المكتوب. إذ إنّ حقيقة القرآن هي معناه؛ و معنى القرآن أمر رفيع متعال و من هنا فإنّ الذين يتعاملون مع القرآن باستمرار، سيستفيدون من حقيقته و معناه كما سيستفيدون من ظاهره.
و قد جاء في القرآن الكريم: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.۱
أرجحيّة المؤمن على القرآن و الكعبة
و بناءً على هاتين المقدّمتين، فحين يحتلّ المؤمن مقام الإيمان فيُحيى الإيمانُ؛ و حين تصبح حقيقة المؤمن متمثّلة في معنى القرآن و حقيقته؛ و حين يصبح للمؤمن معرفة بالقرآن بحيث تترسّخ حقيقة القرآن و تتجلّى في روح المؤمن و نفسه، فإنّ ذات المؤمن ستصبح قرآناً، و وجوده سيصبح قرآناً. و قد جاء في الروايات:
المُؤْمِنُ أعْظَمُ حُرْمَةً مِنَ القُرْآنِ وَ الكَعْبَةِ.
لما ذا؟ لأنّ هذا القرآن هو ورق قد خُطّت عليه كلمات، كما أنّ الكعبة هي عبارة عن لَبِنٌ قد بُنِيَ بالطين. فإن تجلّت حقيقة القرآن في روح المؤمن فإنّ وجوده سيحيى بحياة القرآن و يصبح قرآناً حقيقيّاً. و لو وصل المؤمن إلى درجة معرفة الله سبحانه، لصار وجوده مطافاً، أي صار كعبة. و بطبيعة الحال فإنّ حقيقة الكعبة أشرف من هذه الكعبة؛ كما أنّ حقيقة القرآن أشرف من هذا القرآن.
فإن انطوى مؤمن على القرآن بحيث تجلّت جميع جوانب القرآن في ظاهر المؤمن و باطنه و معانيه و أخلاقه و عقائده و ملكاته و معارفه
و توحيده صار وجوده حقيقة القرآن.
و لقد كان الوجود المقدّس لأمير المؤمنين عليه السلام هو القرآن. و هو القائل: أنَا كَلَامُ اللهِ النَّاطِق.
أي ليس هناك للقرآن من مرتبة في أيّ عالم من العوالم إلّا و تجلّت تلك الحقيقة في هذا الوجود، فحاز الإمام على جميع مقامات القرآن و درجاته، و هذا هو القرآن الحقيقيّ و حقيقة القرآن.
ثمّ إنّ القرآن الذي سيتحرّك يوم القيامة هو أمير المؤمنين عليه السلام ذو الحياة القرآنيّة و الوجود القرآنيّ، فيتخطّى يومذاك صفوف المسلمين و الملائكة و الشهداء و الأنبياء فيقولون بأجمعهم: إنّ هذا الرجل نعرفه بنعته و صفته، إلّا أنّ له بهاءً و نوراً لا نمتلكهما. و من المسلّم أنّه كان أكثر منّا اجتهاداً و سعياً في الدنيا من أجل إقرار حقيقة القرآن في وجوده.
و الأمر كذلك بلا ريب. لأنّ كلّ امرئ من المؤمنين و الشهداء كان يريد إيصال نفسه إلى حقيقة القرآن. فنحن المسلمون -مثلًا- نسعى بكلّ جهدنا في الاقتراب من حقيقة القرآن. و كلّما اقتربنا منه أكثر سعينا إلى زيادة اقترابنا منه و الرغبة تعتمل في نفوسنا لإيصال أنفسنا إلى مقام القرآن الكامل. أمّا و نحن لم نبلغ بأنفسنا إلى ذلك المدى بعدُ، فإنّ حالة ترقّب و انتظار و ضعف ستوجد فينا، حتّى إذا ما التقينا بذلك الوجود الحقيقيّ الذي بيَّنه القرآن و أوجده بتمام معناه في كيانه و وجوده، فإننا سنقول من جهة: إنّنا نعرف هذا. كنا سنقول -من جهة اخرى- إنّ هذا أفضل منّا حسناً و جمالًا، و أكثر منّا بهاءً و نوراً، لأنّ اجتهاده في سبيل الله كان أكثر من اجتهادنا. و هذا الكلام صحيح، و هذه المحاورات ستتحقّق، و هي بأجمعها ظهور و تجلٍّ للحقيقة التي يمتلكها القرآن.
أمير المؤمنين هو تجسّد الصلاة و القرآن
و قد جاء في الرواية أنّ الصلاة تتحرّك. فما هي -يا ترى- الصلاة
التي يعرج فيها المصلّي، و التي لا يلتفت فيها البدنُ و الروح و الفكر إلى غير الله تعالى. و كما يقف البدن الطبيعيّ متّجهاً إلى الكعبة، فإنّ الروح تتّجه بدورها إلى كعبة الحبّ و تقيم صلاتها في الحرم الإلهيّ. و مثل هذه الصلاة لو تجسّدت في الخارج و اتّخذت لنفسها هيئة و صورة ما، لتمثّلت في أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين، لأنّه هو الصلاة، و لأنّ صلاته قد اتّخذت هذه الكيفيّة، أي أنّ حقيقة الصلاة قد تجسّدت في وجوده.
لذا ورد في الروايات و في كثير من التفاسير قولهم عليهم السلام: نَحْنُ الصَّلَاةُ، في إشارة إلى هذا المعني، حيث إنّ لهذه الحقائق وجوداً في عوالم معيّنة. كما أنّ وجودها هو في الإنسان الكامل، لأنّ الإنسان الكامل أفضل من الملائكة، و لأنّه ليس هناك -غير ذات الخالق سبحانه- أشرف من روح الإنسان.
و من هنا فإنّ الذين يبلغون بأنفسهم إلى الكمال سوف لن تبقى لديهم حالة انتظار و ترقّب و ضعف. أي اولئك الذين يوصلون جميع قواهم و قابليّاتهم إلى مرحلة الفعليّة و يصبحون فعليّة محضة بحيث تختمر في وجودهم حقيقة الإيمان و حقيقة القرآن و حقيقة الزكاة و سائر الأعمال و الصفات الحميدة، و بحيث ينصهرون معها في بوتقة واحدة.۱
و يذكر المرحوم المجلسيّ رواية في هذا الشأن لسعد الخفّاف جاء فيها أنّ حقيقة أمير المؤمنين تتحرّك يوم القيامة فيرى المرء أنّ حقيقة الصلاة قد جاءت. و يرى أنّها هي -حقّاً- حقيقة الصلاة، و حقيقة الزكاة،
و حقيقة الصوم، و حقيقة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
و لقد كان كلّ أمر بالمعروف في هذه الدنيا ينطوي على نوع من الشبهة و يتلوّن بلون معيّن. و من بين ألف أمر بالمعروف، فإنّ درجة المعروف الذي يكون خالصاً للّه و في الله و من الله و إلى الله مائة في المائة بحيث لا تخالطه شائبة للنفس، و بحيث تكون في روح الإنسان مَلَكة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ستكون درجة تمثّل مقام الإمام، ذلك المقام الذي لا يمكن تصوّر مقام أعلى منه. و ينكشف بهذا الطريق كثير من الغموض في بعض الأخبار. و حقّاً فإنّ بيان جدّنا المرحوم العلّامة المجلسيّ في هذا المجال بيانٌ مقبول و جدير بالتقدير.
و كما أنّ الأئمّة عليهم السلام هم الزكاة، و هم الصلاة و الحج و الصوم و الجهاد و القرآن، فإنّ معنى الروايات الدالّة على أنّ أعداءنا هم الفحشاء و المنكر و الفساد و الظلمات سيتّضح بهذا القياس و المقارنة التكوينيّة مع هذه الآيات القرآنيّة المباركة. لأنّ الفحشاء يمثّل -في نهاية الأمر- حقيقة قد انتشرت بين الناس بحيث صار بعض الأفراد مركزاً للفحشاء، قد سرت منهم الفحشاء إلى الخارج. لذا فإنّهم يُدعون بتعبير القرآن حطب جهنّم، فهي تستمدّ ظهورها من وجودهم، فهم مركز الفحشاء و مصدر المنكر و الظُلمة و الفناء و سيتّضح في المجالس القادمة التي سنبحث فيها بمشيئة الحقّ المتعال عن موضوع الصراط و الميزان و عن درجات القيامة، و كيف أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الميزان و الصراط.
السَّلَامُ عَلَى مِيزَانِ الأعْمَالِ وَ مُقَلِّبِ الأحْوَالِ ... السَّلَامُ عَلَى الصِّرَاطِ الوَاضِحَ وَ النَّجْمِ اللَائِحِ.۱
هو الإمام و نحن المأمومون. و الإمام يعني الشخص الذي ينبغي أن يكون قدوةً و مثلًا و اسوةً في جميع الجوانب ليمكن للإنسان الاقتداء به، و إلّا لما كان إماماً مطلقاً، إذ ليس الإمام إماماً من جهة دون اخرى.
الإمام هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الإمام هو التوحيد، و هو القرآن أي أنّه هو الإمام في جميع هذه الجوانب. و تبعاً لهذا الأساس فقد صار أمير المؤمنين أميراً للمؤمنين، فهو لقب منحه الله تعالى إيّاه.
أمير المؤمنين يعني قدوة المؤمنين و آمرهم و قائدهم، و ليس أميراً للكافرين، و لا أميراً لعبيد الدنيا، و لا أميراً للتجّار، و لا للزرّاع؛ بل هو أمير المؤمنين. و يعني ذلك أنّ الإمام هو أمير كلّ مؤمن يوجد في كلّ زمان و في أيّ نقطة من نقاط العالم بلحاظ الإيمان و الآثار و لوازم الإيمان و خصائصه. فهو الإمام و الأمير مطلقاً، و ليس في وجوده -بأيّ وجه من الوجوه- غير تلك الحقيقة الطاهرة، كما ليس لديه أيّة شبهة أو شكّ في جميع ملكاته و عقائده و أخلاقه و أعماله. و ليس لديه أيّ نقص. و لم يتّخذ صبغة غير الصبغة الإلهيّة. صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً.۱
و قد نزلت في حقّه آية التطهير، لأنّه الموجود الطاهر المطهّر الذي يصحّ لمثله أن يكون إماماً و أميراً.
روى العامّة و الخاصّة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله أنّه قال: مَا أنْزَلَ اللهُ آيَةً فِيهَا «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلَّا وَ عَلِيّ رَأسُهَا وَ أمِيرُهَا.٢
و على هذا الأساس يتّضح معنى كثير من الأخبار التي ورد فيها عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام بأنّهم قالوا عن كذا و كذا، و نحن الشفعاء، و باب النجاة، و باب حطّة بني إسرائيل، و الحبل المتّصل بين الأرض و السماء و غير ذلك.
و بطبيعة الحال فإنّنا ندرك -على النحو الذي ذكرناه هنا- قدراً منها في هذا العالم، أمّا في العالم الآخر فإنّ الإنسان سيشاهد هذه المعاني على نحوٍ كامل و سيلمسها على حقيقتها، حيث ستكتسب وجوداً خارجيّاً. أي أنّ الإنسان سيرى أيّ عوالم للقرآن قد طبّقت شرق العالم و غربه، و تلك هي حقيقة أمير المؤمنين التي لا تُحدّ بحدٍّ معيّن و بدن خاصّ.
و باعتبار أنّ القرآن كلام الله تعالى، و كلام الله مجرّد لا حدّ له؛ فإنّ الإنسان سيرى أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك العالم بلا حدّ و لا قياس.
المقام اللامتناهي لأمير المؤمنين عليه السلام
و لقد أجاد المرحوم آية الله الحاجّ الميرزا حبيب الله الخراسانيّ في بيان هذا الأمر في عدّة أبيات له:
مرا پير طريقت جز عليّ نيست | *** | كه هستي را حقيقت جز عليّ نيست |
مبين غير از عليّ پيدا و پنهان | *** | كه در غيب و شهادت جز عليّ نيست۱ |
مجو غير از عليّ در كعبه و دير | *** | كه هفتاد و دو ملّت جز عليّ نيست |
چه باك از آتشِ دوزخ كه در حشر | *** | قسيم نار و جنّت جز عليّ نيست |
اگر كفر است اگر ايمان بگو فاش | *** | كه در روز قيامت جز عليّ نيست |
اساس هر دو عالم بر محبّت | *** | بود قائم محبّت جز عليّ نيست |
در آن حضرت كه دم از «لي مع الله» | *** | زند احمد معيّت جز عليّ نيست |
شنيدم عاشقي مستانه مىگفت | *** | خدا را حول و قوّت جز عليّ نيست |
وجود جملة اشياء از مشيّت | *** | پديد آمد مشيّت جز عليّ نيست۱ |
شهنشاهى كه بر درگه ملائك | *** | زنندش پنج نوبت جز عليّ نيست |
عليّ آدم عليّ شيث عليّ نوح | *** | كه در دور نبوّت جز عليّ نيست |
ترا پير طريقت گو عُمَر باش | *** | مرا پير طريقت جز عليّ نيست |
اگر گوئى عليّ عين خدا نيست | *** | بگو نيز از خدا هرگز جدا نيست۱ |
و ما أروع بيانه في الأبيات التي سبقت هذه لحقيقة ظهور العوالم و بطونها و لحقيقة الولاية التي تمثّل سرّ العالم:
ز جَم بر جامِ مِيْ خَطّي عيان است | *** | جهان مردم بود، مردم جهان است |
بجوي اين راز جاني از دَساتير | *** | كه اين قول از حديث باستان است٢ |
بگير از باستان اين راست گفتار | *** | كه گفت نغز گفت راستان است |
سخنهاي بزرگان از پى و پيش | *** | چو نيكو بنگري از يك زبان است |
در اين ره از روانها كاروانهاست | *** | كه از دنبال يكديگر روان است |
سخنها نيز كز دل بر زبانهاست | *** | به معنى چون دَراي كاروان است |
دو گيتى در تن و جان تو مُضْمَرْ | *** | يكى پيدا و آن ديگر نهان است |
اگر پاى تو در هفتم زمين است | *** | سرت بيرون ز هفتم آسمان است |
تنت را ديبهاى از چرخ اطلس | *** | كه بر دوشش حمايل كهكشان است۱ |
فروزان اين گهرها از بَر و دوش | *** | ز سر تيپى و سرهنگى نشان است |
نژادت از كيان آمد و ليكن | *** | دلت را رُخ ندانم زى كيان است |
عيان گردد چو در آب افتد اين مرغ | *** | كه مرغابى بود يا ماكيان است |
نهان از چشم نادان رازِ گيتى | *** | و ليكن بر دل دانا عيان است |
جهان انسانْ، پيمبر عينِ انسان | *** | عليّ انسانِ عينِ اين جهان است |
پيمبر شهرِ علم است و عليّ دَر | *** | خوش آن سر كو به دين در آستان است |
دَرى بگشوده بر دلهاي روشن | *** | ولى جبريل بر در پاسبان است |
پيمبر سنگ حكمت را ترازوست | *** | عليّ نيز اين ترازو را زبان است۱ |
عليّ دان آن لسان الله ناطق | *** | كزو شد كشف اسرار و حقايق۱ |
أشعار الشيخ كاظم الازريّ في أمير المؤمنين عليه السلام
كما أجاد مفخرة شعراء العرب في القرن السابق: الشيخ كاظم الازريّ حين أنشد
يَا بْنَ عَمِّ النَّبِيّ أنْتَ يَدُ اللهِ | *** | الَّتِي عَمَّ كُلَّ شَيءٍ نَدَاهَا |
أنْتَ قُرْآنُهُ القَدِيمُ وَ أوْصَا | *** | فُكَ آيَاتُهُ الَّتِي أوْحَاهَا |
حَسْبُكَ اللهُ في مآثِرَ شَتَّى | *** | هي مِثْلُ الأعْدَادِ لَا تَتَنَاهَى |
حتّى يصل إلى قوله:
يَا عَلِيّ المِقْدَارُ حَسْبُكَ لَا | *** | هُوِيَّتَهُ لَا يُحَاطُ في عُلْيَاهَا |
أيّ قُدْسٍ إلَيْهِ طَبْعُكَ يَنْمِي | *** | وَ المَرَاقِي المُقَدَّسَاتُ ارْتَقَاهَا |
لَكَ نَفْسٌ مِنْ جَوْهَرِ اللُّطْفِ صِيغَتْ | *** | جَعَلَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ فِدَاهَا |
هِيَ قُطْبُ المُكَوِّنَاتِ وَ لَوْ لا | *** | هَا لَمَا دَارَتِ الرَّحَى لَوْلَاهَا |
لَكَ كَفٌّ مِنْ أبْحُرِ اللهِ تَجْرِي | *** | أنْهُرُ الأنْبِيَاءِ مِنْ جَدْوَاهَا |
حُزْتَ مُلْكاً مِنَ المَعَالِي مُحِيطَاً | *** | بِأقَالِيمَ يَسْتَحِيلُ انْتِهَاهَا۱ |
و النتيجة الحاصلة، فإنّ القرآن سيترسّخ في أرواح المؤمنين و المسلمين بقدر عملهم به و اقترابهم الحقيقيّ منه، كما أنّ وجودهم سيستفيد من القرآن بنفس تلك الدرجة. و من جهة اخرى فإنّهم سيبتعدون عن حقيقة القرآن و سيصبحون موضع لعنه بقدر تعلّمهم له لنيل النوايا الدنيويّة و كسب الجاه و المقام و الرئاسة الباطلة و المراءاة و التقرّب إلى الناس. فليس الدين الإسلاميّ المقدّس دين السمعة و المراءاة و إصلاح الظواهر و الخداع بالظواهر.
فإن شاء امرؤ -و الحال هذه- أن يستغلّ القرآن، المعجزة الوحيدة
الباقية لرسول الله، و كتاب الهداية البشريّة، و أن يجعله وسيلةً للوصول إلى الباطل، فإن القرآن سيهجره و سيشهد عليه يوم القيامة.
يروي محمّد بن يعقوب الكلينيّ في «الكافي» بسنده المتّصل عن يعقوب الأحمر، قال:
قُلْتُ لأبِي عِبْدِاللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إنِّي كُنْتُ قَرَأتُ القُرْآنَ فَفَلتَ مِنِّي فَادْعُ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ أن يُعَلِّمْنِيهِ.
قَالَ: فَكَأنَّهُ فَزِعَ لِذَلِكَ؛ فَقَالَ: عَلَّمَكَ اللهُ هُوَ وَ إيَّانَا جَمِيعَاً.
قَالَ: وَ نَحْنُ نَحْوٌ مِنْ عَشْرَةٍ- ثُمَّ قَالَ: السُّورَةُ تَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ قَدْ قَرَأهَا ثُمَّ تَرَكَهَا، فَتَأتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ في أحْسَنِ صُورَةٍ وَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: مَنْ أنْتَ؟ فَتَقُولُ: أنَا سُورَةُ كَذَا وَ كَذَا فَلَوْ أنَّكَ تَمَسَّكْتَ بِي وَ أخَذْتَ بِي لأنْزَلْتُكَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ. ثُمّ أشار بيده و قال:
عَلَيْكُمْ بِالقُرْآنِ فَتَعَلَّمُوهُ فَإنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَعَلَّمُ القُرْآنَ لِيُقَالَ: فُلَانٌ قَارِئٌ، وَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَعَلَّمُهُ فَيَطْلُبُ بِهِ الصَّوْتَ فَيُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنُ الصَّوْتِ، وَ لَيْسَ في ذَلِكَ خَيْرٌ. وَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَعَلَّمَهُ فَيَقُومُ بِهِ في لَيْلِهِ وَ نَهَارِهِ لَا يُبَالِي مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ وَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ.۱
مَن هم أصحاب القرآن؟ و مَن هو المؤمن الحقيقيّ؟
كما روي في «الكافي» بسنده عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قال:
قُرَّاءُ القُرْآنِ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ قَرَأ القُرْآنَ فَاتَّخَذَهُ بِضَاعَةً وَ اسْتَدَرَّ بِهِ المُلُوكَ وَ اسْتَطَالَ بِهِ عَلَى النَّاسِ. وَ رَجُلٌ قَرَأ القُرْآنَ فَحَفِظَ حُرُوفَهُ وَ ضَيَّعَ حُدُودَهُ وَ أقَامَهُ إقَامَةَ القِدْحِ، فَلَا كَثَّرَ اللهُ هَؤُلَاءِ مِنْ حَمَلَةِ القُرْآنِ.
وَ رَجُلٌ قَرَأ القُرْآنَ فَوَضَعَ دَوَاءَ القُرْآنِ عَلَى دَاءِ قَلْبِهِ فَأسْهَرَ بِهِ لَيْلَهُ وَ أظْمَأ بِهِ نَهَارَهُ وَ قَامَ بِهِ في مَسَاجِدِهِ، وَ تَجَافَى بِهِ عَنْ فِرَاشِهِ، فَبِاولَئِكَ يَدْفَعُ اللهُ العَزِيزُ الجَبَّارُ البَلَاءَ، وَ بِاولَئِكَ يُدِيلُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ مِنَ الأعْدَاءِ. وَ بِاولَئِكَ يُنَزِّلُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ الغَيْثَ مِنَ السماءِ، فَوَ اللهِ لَهَؤُلَاءِ في قُرَّاءِ القُرْآنِ أعَزُّ مِنَ الكِبْرِيتِ الأحْمَرِ.۱
و ينبغي العلم أنّه ما دام سرّ الإنسان لم يتطهّر في مقابل القرآن؛ أي ما دام الإنسان لا يتعلّم القرآن للعمل، و ما دام لا يتعامل معه لتحقيق معانيه في وجوده، فإنّ الإنسان لن يستفيد من حقيقة القرآن شيئاً.
و ما أكثر ما شوهد أفراد لهم اطّلاع على القرآن و العلوم القرآنيّة، و لهم مطالعات و دراسات في التفسير و التفاسير، لكنّ قلوبهم سوداء مظلمة. و العلّة في ذلك أنّهم جعلوا القرآن وسيلة للدنيا و للجاه و المقام و العزّة و المكاسب. و روح القرآن تتأذّى و تعاني من أمثال هؤلاء الأفراد. و يندر أن يوجد أمثال هذه النماذج من قرّاء القرآن في المنهج الشيعيّ، لأنّ تعاليم الشيعة تربّي العلماء و القرّاء على أساس اتّباع الحقّ و عدم التردّد على أبواب الظَّلَمة و حكّام الجور، و عدم صرف العمر سعياً وراء الرئاسات الباطلة.
و حصل في زمن سابق عند ما كنت قد تشرّفت خلاله بالذهاب إلى النجف الأشرف لتحصيل العلوم الدينيّة أن دار الحديث عن الشيعة و منهجهم الفكريّ، فقال أحد العلماء المراجع، و كان حاضراً في المجلس:
عُقد قبل عدّة سنوات مؤتمر للمذاهب الإسلاميّة في «الجامع الأزهر» حضره علماء المذاهب الإسلاميّة من جميع الدول، و قد شاركتُ في
المؤتمر كممثّل لعلماء النجف، فألقيتُ كلمةً تطرّقت فيها إلى تعريف مذهب الشيعة نقلتُ فيها الرواية التالية عن الإمام السجّاد عليه السلام و شرحتُها. فنالت الكلمة إعجاب الحاضرين و حظيت بثنائهم، للدقّة البالغة في مدرسة الشيعة التي تبذل كلّ هذه الجهود في تربية أتباعها، و للتحقيق و التمعّن العميق المبذول من قِبَل أئمّة الشيعة في تزكية هؤلاء الأتباع و تطهيرهم. الرواية كالتالي:
الأصناف المختلفة لمدّعي الهُدى؛ و علامة معرفة وليّ الله
أورد الشيخ الطبرسيّ في «الاحتجاج» بسنده عن «التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكريّ عليه السلام» عن الرضا عليه السلام، أنّه قال:
قَالَ عَلِيّ بْنُ الحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلَامُ: إذَا رَأيْتُمُ الرَّجُلُ قَدْ حَسُنَ سَمْتُهُ وَ هَدْيُهُ وَ تَمَاوَتَ في مَنْطِقِهِ وَ تَخَاضَعَ في حَرَكَاتِهِ فَرُوَيْدَاً لَا يَغُرَّنَّكُمْ.
فَمَا أكْثَرَ مَنْ يُعْجِزُهُ تَنَاوُلُ الدُّنْيَا وَ رُكُوبُ الحَرَامِ مِنْهَا لِضَعْفِ نِيَّتِهِ وَ مَهَانَتِهِ وَ جُبْنِ قَلْبِهِ، فَنَصَبَ الدِّينَ فَخّاً لَهَا فَهُوَ لَا يَزَالُ يَخْتُلُ النَّاسَ بِظَاهِرِهِ، فَإنْ تَمَكَّنَ مِنْ حَرَامٍ اقْتَحَمَهُ.
وَ إذَا وَجَدْتُمُوهُ يَعِفُّ عَنِ المَالِ الحَرَامِ فَرُوَيْدَاً لَا يَغُرَّنَّكُمْ، فَإنَّ شَهَوَاتِ الخَلْقِ مُخْتَلِفَةٌ. فَمَا أكْثَرَ مَنْ يَنْبُو عَنِ المَالِ الحَرَامِ وَ إنْ كَثُرَ، وَ يَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى شَوْهَاءَ قَبِيحَةٍ فَيَأتِي مِنْهَا مُحَرَّمَاً.
فَإذَا وَجَدْتُمُوهُ يَعِفُّ عَنْ ذَلِكَ فَرُوَيْدَاً لَا يَغُرَّنَّكُمْ حَتَّى تَنْظُرُوا مَا عُقْدَةُ قَلْبِهِ. فَمَا أكْثَرَ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ أجْمَعَ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ إلَى عَقْلٍ مَتِينٍ، فَيَكُونُ مَا يُفْسِدُهُ بِجَهْلِهِ أكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ بِعَقْلِهِ.
فَإذَا وَجَدْتُمْ عَقْلَهُ مَتِينَاً فَرُوَيْدَاً لَا يَغُرَّنَّكُمْ حَتَّى تَنْظُرُوا أ مَعَ هَوَاهُ يَكُونُ عَلَى عَقْلِهِ، أمْ يَكُونُ مَعَ عَقْلِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَ كَيْفَ مَحَبَّتُهُ لِلرِّيَاسَاتِ البَاطِلَةِ وَ زُهْدِهِ فِيهَا، فَإنَّ في النَّاسِ مَنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَ الآخِرَةَ يَتْرُكُ الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا وَ يَرَى أنَّ لَذَّةَ الرِّئَاسَةِ البَاطِلَةِ أفْضَلُ مِنْ لَذَّةِ الأمْوَالِ وَ النِّعَمِ المُبَاحَةِ
المُحَلَّلَةِ، فَيَتْرُكُ ذَلِكَ أجْمَعَ طَلَبَاً لِلرِّيَاسَةِ. حَتَّى إذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمَ وَ لِبِئْسِ المِهَادُ.
فَهُوَ يَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ يَقُودُهُ أوَّلُ بَاطِلٍ إلَى أبْعَدِ غَايَاتِ الخَسَارَةِ، وَ يَمُدُّهُ رَبُّهُ بَعْدَ طَلَبِهِ لِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ في طُغْيَانِهِ. فَهُوَ يُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللهُ وَ يُحَرِّمُ مَا أحَلَّ اللهُ لَا يُبَالِي مَا فَاتَ مِنْ دِينِهِ إذَا سَلِمَتْ لَهُ رِيَاسَتُهُ التي قَدْ شَقِيَ مِنْ أجْلِهَا.
فَاولَئِكَ الَّذِينَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أعَدَّ لَهُمْ عَذَابَاً مُهِينَاً. وَ لَكِنَّ الرَّجُلُ كُلَّ الرَّجُلِ نِعْمَ الرَّجُلُ هُوَ الذي جَعَلَ هَوَاهُ تَبَعَاً لأمْرِ اللهِ وَ قُوَاهُ مَبْذُولَةً في رِضَى اللهِ يَرَى الذُّلَّ مَعَ الحَقِّ أقْرَبَ إلَى عَزِّ الأبَدِ مِنَ العِزِّ في البَاطِلِ، وَ يَعْلَمُ أنَّ قَلِيلَ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ ضَرَّائِهَا يُؤَدِّيهِ إلَى دَوَامِ النَّعِيمِ في دَارٍ لَا تَبِيدُ وَ لَا تَنْفَدُ، وَ أنَّ كَثِيرَ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ سَرَّائِهَا إنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ يُؤَدِّيهِ إلَى عَذَابٍ لَا انْقِطَاعَ لَهُ وَ لَا يَزُولُ.
فَذَلِكُمُ الرَّجُلُ نِعْمَ الرَّجُلُ، فَبِهِ فَتَمَسَّكُوا وَ بِسُنَّتِهِ فَاقْتَدُوا، وَ إلَى رَبِّكُمْ فَبِهِ فَتَوَسَّلُوا فَإنَّهُ لَا تُرَدُّ لَهُ دَعْوَةٌ وَ لَا يُخَيَّبُ لَهُ طَلِبَةُ.۱